المعاصرة القرآنيَّة رؤية على ضوء المدرسة الوجوديَّة
أ. جواد علي كسار (*)
صَبَغت قضية المُعاصرة فكر المسلمين باسمها، أو بمضمونها ومحتواها، خلال ما يزيد على مئة عام ولا تزال تفعل ذلك، ولم تستثن في تفاعلاتها النَّص القرآني، بل كان القرآن الكريم الحاضر دائماً في القراءات العصرية وأطروحات المعاصرة.
في هذا السِّياق، تبدو أمام ناظرنا إمكانات بناء موقف نظري خصب من المعاصرة القرآنية، يستمدّ مُحتواه من الفكر القرآني للعرفاء، أو على نحو أدقّ من مرتكزات الفهم ومبادى الرؤية الوجودية التي ينتمون إليها، على أن يكون الإمام الخميني هو الأنموذج التطبيقي الذي تركِّز عليه الدراسة.
وهذا ما مثّل لنا حافزاً لدراسة الفكرة عبر هذا البحث، من خلال المحاور الآتية:
1 ـ دواعي القول بالمعاصرة، أو المداخل التي تُملي التَّعامل مع القرآن الكريم من خلال فضاءاتها.
2 ـ بعض التَّحديدات المنهجية في معنى المعاصرة وغير ذلك.
3 ـ بعض أبرز النَّظريات والرُّؤى التي أفرزتها حركة الفكر عن المعاصرة القرآنية.
________________________________________
(*)کاتب وباحث من العراق
[الصفحة - 210]
4 ـ الموقف الذي يلتزم به الفكر القرآني للإمام الخميني إزاء المعاصرة، موصولًا بانتمائه العرفاني وخلفيَّاته في المدرسة الوجودية.
1 ـ مداخل المعاصرة
يمكن تلمّس ثلاث مجموعات من المنطلقات الرئيسية التي تؤلّف ضرورات المعاصرة القرآنية، هي:
أ ـ المنطلقات الكلاميَّة: وهي التي صاغها علم الكلام، وانتهى فيها إلى أنّ القرآن معجزة دائمة، وحجّة قائمة أبد الدهر، وهو كتاب آخر الأديان ومعجزة خاتم النبيّين، ومن ثمّ وجب أن يكون خالداً على مرّ الدهور والعصور، وصالحاً لكل مكان وزمان وإنسان.
ب ـ المنطلقات النَّصِّيَّة: بين أيدينا ثروة نصّية هائلة تُفيد، في مدلولها الأخير، أنَّ القرآن الكريم حيّ أبد الدهر، له رسالته التي يؤدّيها في كل عصر، منها ما في القرآن نفسه، ما يدلّ على أنَّ هذا الكتاب تبيان لكل شيء، وما في الحديث الشريف من قبيل: «إنَّ الله تبارك وتعالى أنزل في القرآن تبيان كل شيء حتى والله ما ترك شيئاً يحتاج إليه العباد، لا يستطيع عبد يقول: لو كان هذا أنزل في القرآن، إلا وقد أنزله الله فيه» (1)، وكذلك: «كتاب الله، وفيه بدء الخلق، وما هو كائن إلى يوم القيامة، وفيه خبر السماء وخبر الأرض» (2)، وكذلك: «بل كل شيء في كتاب الله وسنّة نبيه»(3)، وأيضاً: «كتاب الله فيه نبأ ما قبلكم وخبر ما بعدكم» (4).
نضيف إلى ما سبق ذكره تلك الأحاديث التي تحثّ على قراءة القرآن والتدبّر فيه والتماس عجائبه وما تطويه أعماقه، من قبيل: «القرآن ظاهره أنيق وباطنه عميق، لا يفنى عجائبه ولا ينقضي غرائبه». وكذلك المأثور الذي يُفيد بأنَّ من رام علم الأوّلين والآخرين، فليثوّر القرآن. تنضم إلى هذه الحصيلة في الدلالة أحاديث الجري التي تفيد أن آيات القرآن حيّة لا تموت: «والآية حيّة لا تموت، فلو كانت الآية إذا نزلت في الأقوام وماتوا ماتت الآية لمات القرآن، ولكن هي جارية في الباقين كما جَرَت في الماضين» (5). وكذلك: «إنّ القرآن حيّ لم يمُت، وإنّه يجري
________________________________________
(1)البرهان في تفسير القرآن، طبعة مؤسسة الوفاء، ج1، باب 4، ح1، ص 14.
(2)المصدر نفسه، ح16، ص 15.
(3)المصدر نفسه، ح18، ص 15.
(4)المصدر نفسه، ح17، ص 15.
(5)المصدر نفسه، ج2، تفسير سورة الرعد، ح15، ص 281.
[الصفحة - 211]
كما يجري الليل والنهار، وكما تجري الشمس والقمر، ويجري على آخرنا كما يجري على أوّلنا»(6).
ممّا يلتقي على الدلالة نفسها أحاديث الظهر والبطن وأن لكلّ آية حدّاً ومطّلعاً، ومن ثمَّ فإنّ معانيها في تجدّد وانبثاق دائمين، حتّى ذكروا أنّ لكل آية ستّين ألف فهم. وكذلك أحاديث التأويل؛ حيث تحدّثت صراحة أنَّ منه ما مضى ومنه ما لم يكن بعد. وأيضاً الأحاديث التي تُفيد أنّ آيات الله خزائن، فهي إذن دائمة العطاء، لكلّ قارى منها في كلّ عصر نصيب. وهذا هو المعنى الذي يمكن أن نستشفّه أيضاً في المأثور الشريف الذي يفيد أن كتاب الله على أربعة أشياء، على العبارة والإشارة واللطائف والحقائق. فكتابٌ آياته بهذه المثابة، وهو بهذا الوصف، حريّ أن يكون كتاباً دائماً لا ينضَب عطاؤه على مرّ الدهور وكرّ العصور.
أخيراً، إذا كانت روح المعاصرة وقوامها هي المُواكبة الحثيثة للزمن والقدرة على الديمومة والعطاء في كل عصر، فإنَّ هذه هي صفة القرآن الكريم وخصيصة من أبرز خصائصه، على ما تنطق به النُّصوص الكريمة، وأدلّها ما يصف كتاب الله بأنه: «لا يخلق على الأزمنة، ولا يعنت على الألسنة» لماذا؟ لأنّه: «لم يجعل لزمان دون زمان، بل جُعل دليل البرهان وحجّة على كل إنسان» (7). وأيضاً: «إنَّ رجلًا سأل أبا عبد الله (عليه السلام) : ما بال القرآن لا يزداد عند النشر والدرس إلا غضاضة؟ فقال: إن الله تعالى لم يجعل (8) لزمان دون زمان، ولا لناس دون ناس، فهو في كل زمان جديد وعند كل قوم غضٌّ إلى يوم القيامة» (9).
أستبعد أن يبقى لإنسان شكّ في المعاصرة القرآنية، بعد دلالة هذه النصوص عليها مفردة ومجتمعة.
ج ـ منطلقات الثَّقافة الحديثة وتحدِّياتها: تلك التي مرّت بنا في المجموعتين الأولى والثانية، تُمثّل بواعث ذاتية أو داخلية للمعاصرة القرآنية. بيد أنَّ اللوحة لا تكتمل من دون أن نضيف إليها مكوّناً آخر يتمثّل هذه المرّة بما بات يُعرف بصدمة الوعي الأوروبي، وما راح يبلوره الفكر الآخر وما تفرزه تياراته ومن تأثّر بها، من أبناء المسلمين، من تنظيرات وأفكار ونظريات حيال عصرية القرآن ومعاصرته،
________________________________________
(6)المصدر نفسه.
(7)المصدر نفسه، ج1، باب 13، ح2، ص 28.
(8)هكذا في المصدر، وربما كان الصحيح هو: يجعله.
(9)البرهان في تفسير القرآن، ج1، باب 13، ح3، ص 28.
[الصفحة - 212]
يختلط فيها الغثّ بالسمين والخطأ بالصحيح والسطحي بالعميق والدخيل بالأصيل، ما يستدعي بأجمعه الجواب عليها بتحديد موقف نقدي من تلك النتاجات يقوم على معرفة واعية وتحليل عميق، ومن ثمّ صياغة نظرية أو نظريات في مفهوم المعاصرة القرآنية تلبّي حاجة الساحة إلى ذلك، بخاصّة مع عدم احتمالها لأيّ تأخير أو إهمال.
2 ـ تحديدات منهجيَّة
لا بدّ، في البدء، من ثلاث إشارات يصحّ أن نسمّيها تحديدات منهجية، هي:
الأولى: تعدّ قضية المُعاصرة قضية إشكالية اجتهادية تتحمّل غير صيغة والعديد من الأفكار والاجتهادات في آن واحد، من دون أن تكون ثمَّة ضرورة لإسقاط بقية الاجتهادات أو النظريات في حال تبنّي إحداها. فما دامت الاجتهادات والنظريات تستند إلى أصول موضوعة ثابتة في مظانّها، أو تُؤسّس لنفسها أصولها الخاصّة التي يقوم عليها اجتهادها، فهي مشروعة بأجمعها.
بناءً على هذا، لا مجال للكلمة الفصل والخطاب الأخير والرأي القطعي الذي يغلق المسألة ويستنفدها تماماً، بل تبقى المعاصرة القرآنية قضية كل عصر، ويبقى ملفّها مفتوحاً على عدد من الاجتهادات والرؤى في كل وقت.
الثانية: تأسيساً على ما مرَّ، ليس للمعاصرة القرآنية صيغة واحدة تنتظم محتواها على الدَّوام، كما ليس لها شكل ثابت يعبّر عنها في كل وقت؛ فهي تطرح تارة من خلال إشكالية الثابت والمتغيّر، ليقال: إن النَّص القرآني ثابت والحياة متغيِّرة، فكيف له أن يُجاري الحياة المتغيّرة؟
وتُثار قضيَّة أخرى عبر إشكالية فهم النصّ، لتكتسب صِيَغاً متعدّدة منها ما هو كلامي يتمركز في السؤال الآتي: كيف نقرأ القرآن بوصفه نصَّاً مقدَّساً؟ ومنها ما هو منهجي يعبّر عن نفسه بأشكال متعدّدة، منها: كيف نقرأ النصّ؟ هل نقرأه بفصله عن واقعه مطلقاً أو بوصله مع واقعه تماماً؟
لقد تعاطى السَّابقون مع النص القرآني من خلال مركّباتهم الذهنيّة ومكوّناتهم الثقافية وميراث عصرهم، فلماذا لا يجوز لنا أن نفعل الأمر نفسه؟ ما يريد بعضهم أن
________________________________________
[الصفحة - 213]
يخلص إليه، عبر هذا المدخل للمعاصرة، أنّ القرآن وإن كان بذاته نصّاً ثابتاً إلا أن فهمه سيّال متغيّر يتجدّد على الدوام، ومن ثمّ فإن من حق كل عصر أن يُنتج فهمه القرآني الخاص بعيداً عن إلزامات بقيَّة العصور، بما في ذلك عصر الصحابة والتابعين وميراث السلف، من دون أن يعني ذلك بالضرورة تجاوز الدلالات الوضعية المباشرة لعصر النص ذات الصلة بقواعد اللغة وقيود النُّزول والقطعي الثابت من السنّة، وغيره ممّا نقّحته علوم القرآن على مرّ العصور.
على مستوى آخر، قد تُطرح مقولة المعاصرة، ويُراد منها ضرورة التوفّر على أسلوب تفسيري جديد يُراعي الذهنية الموجودة ومستوى الثقافة العامّة في مجتمعاتنا، ويأخذ قضايا الواقع بنظر الاعتبار.
كما يلقي الفكر الآخر بظلاله على المسألة حين يجعل المعاصرة ضدّاً للنص القرآني بوصفه نصَّاً تأريخياً، لينتهي إلى القول: صحيح أنّ القرآن لبّى حاجات عصره واستجاب لها في نزوله، لكن لماذا ننتظر منه الاستجابة لحاجات عصرنا؟ بمعنى أنّ القرآن نص تأريخي يرتبط ببنيات عصره الاجتماعية والثقافية والاقتصادية وحالة الناس الحضارية في ذلك الوقت.
ثمّ إلى جوار ذلك صِيَغ كثيرة أخرى تُعيد إنتاج مفهوم المعاصرة على الدَّوام، وهي تخرج به من أحشاء بواعث كلامية وتأريخية ومنهجية، فضلًا عن إسقاطات الثقافة الحديثة، ما يسمح بتعدّد معاني المعاصرة لا فرق بين ما ينبثق من داخل فضاءات الفكر القرآني أو الإسلامي عامَّةً، وبين ما ينطلق من فضاءات الفكر الآخر.
الثالثة: لا تدّعي الأسطر التي ستوافينا، في المحور الثالث الذي ينهض باستعراض بعض الأفكار في المعاصرة القرآنية، أنّها تمارس استقراءً تامّاً لما أفرزته حركة الفكر المعاصر حيال هذا المفهوم، إنّما هي إشارات عاجلة حسبُها أنَّها تمنحنا تصوّراً عامّاً للإشكالية وبعض ما اجتهدت به العقول من نظريات وأفكار على هذا الصَّعيد، لكي يتُمّ لنا على أساس هذا التصوّر الانتقال إلى المحور الرَّابع والأخير، لنلمس عن قرب إمكانات الفكر القرآني للمدرسة العرفانية على نحو عام في مواجهة هذه الإشكالية وتقديم نظريات في هذا المضمار، داخل نطاق يسمح بالمقارنة بينها
________________________________________
[الصفحة - 214]
وبين بقية النظريات، مع تركيز خاص على الفكر القرآني للإمام الخميني بوصفه أحد ممثلي هذه المدرسة حاضراً.
3 ـ بعض أبرز النّظريات
لأجل أن يكتسب الطَّرح، في هذه الدِّراسة، طابعاً تطبيقياً يُعين على الفهم والمقارنة، نعرض، في ما يأتي، لعدد من النظريات والأفكار التي أفرزتها حركة الفكر خلال العقود الأخيرة:
1 ـ عكفت شريحة من المفسِّرين والباحثين على تحقيق القراءة العصرية للقرآن الكريم من خلال الحث على المنحى الاجتماعي الذي يركّز على استقصاء المدلولات الاجتماعية للنصّ، وربط ذلك مع أسئلة الواقع المعيش واحتياجات المسلمين فيه.
لا يكاد يخلو من هذه النزعة تفسير خلال القرن الأخير. فهي واضحة في تفسير «المنار» للثنائي محمد عبده (ت: 1323هـ) ورشيد رضا (ت: 1354هـ)، وتفسير المراغي (ت: 1364هـ) والطاهر بن عاشور (ت: 1970م) وسيد قطب (ت: 1966م) ومحمد جواد مغنية (ت: 1979م)، والتفسير «الأمثل» لمكارم شيرازي (معاصر)، كما لا تخلو منها بحوث واسعة من تفسير «الميزان» للطباطبائي (ت: 1403هـ)، و «قبس من القرآن» للطالقاني (ت: 1979م) وغير ذلك كثير.
2 ـ كما مال بعضهم لاستيفاء المدلول العصري للقرآن من خلال التَّركيز على الأبعاد العلمية. وربما كان أبرز هؤلاء طنطاوي جوهري (ت: 1358هـ) وأحمد خان (ت: 1316هـ)، والأعمال القرآنية لعبد الرزاق نوفل ومهدي بازركان (ت: 1997م) ومصطفى محمود وغير هؤلاء كثير.
لقد واجهت هذه النَّزعة نقداً شديداً يرجع، في جوهره، إلى أنّ القرآن كتاب هداية وليس كتاباً للعلوم الطبيعية. بالإضافة إلى ما في إقحام العلوم الطبيعية وتحميلها على القرآن من مضار ناتجة عن الطابع المتغيّر الذي تتَّصف به هذه العلوم.
وما يلحظ هو أنّ نزعة التفسير العلمي تدخل ركناً مهماً في تكوين ما يطلق عليه بـ «التفسير العصري»، بل هناك من يرادف بين العلمي والعصري، ويجمعهما
________________________________________
[الصفحة - 215]
في معنىً واحد، مع أن ذلك ليس صحيحاً (10)، لأنّ العصري أعمّ من العلمي وأشمل منه.
3 ـ يلاحظ، من منظور تجربةٍ خاصَّة، أنّ هناك عدداً من العناصر المنهجية والمضمونيّة التي يمكن رصدها في تفسير «الميزان» تنهض بتحقيق عصرية القرآن. منها الفصل بين التفسير والتطبيق، فعلى قَدَر ما يكون الأوّل محدوداً، فإن الثاني موسّع بمقدوره أن يستوعب كثيراً ممّا يدخل في تكوين المعاصرة بمختلف أبعادها.
من العناصر المنهجية الأخرى في استكناه هذا البُعد، قاعدة الجري، ومبدأ تفسير القرآن بالقرآن، واستيلاد معان جديدة بالطريقة التي يستخدمها المؤلف، وتوظيف مبدأ بطون القرآن في مدّ النص القرآنيّ على طبقة من المعاني العمودية التي يترتّب بعضها على بعض سعة وعمقاً، والركون إلى مبدأ وحدة المفهوم وتعدّد المصاديق مع توسيع دائرة المصاديق لتشمل ما هو غيبيّ بالإضافة إلى ما هو مادّي، وهكذا إلى بقية العناصر.
4 ـ ممّن دخل على الخط المفكّر الإيراني عبد الكريم سروش الذي أولى المسألة اهتماماً نظرياً واسعاً، بحيث أضحى العمل على المعاصرة في الفهم الديني بعامَّة من العلامات الفارقة لشخصيته الفكرية والثقافية، عبر ما بات يُعرف بنظرية تكامل المعرفة الدينية.
جوهر ما ذهب إليه سروش هو التمييز بين النص الدِّيني المقدّس الثابت والفهم الدِّيني السيَّال المتغيّر المتجدّد دائماً، عبر علاقة تبادليّة مفتوحة بين المعرفة الدينية والمعارف التي تنتجها البشرية في كل عصر. فبمقتضى هذه الرؤية انحلّت لديه مشكلة المعاصرة ليس في مضمار المعرفة القرآنية وحدها، بل في مجال الفهم الديني برمته (11).
5 ـ من الرُّؤى في هذا الاتجاه ما عرض له المفسِّر المعاصر الشيخ جوادي آملي من تفاعل بين عالَم التَّكوين وعالَم التَّدوين؛ أي بين الوجود والقرآن. فإذا ما كان الإنسان واعياً للتناسق القائم بين الاثنين فسيُدرك جيّداً بأن كل كلمة (واقعة، حدث، فكرة) جديدة في عالَم التكوين، ستكون حافزاً لتجلِّي معنىً جديد للنص
________________________________________
(10)ينظر: القرآن والتفسير العصري، محمد علي أيازي، مؤسسة نشر ثقافة الإسلامية، طهران 1996، بالفارسية.
(11)ينظر: قبض وبسط تئوريك شريعت (القبض والبسط في نظرية الشريعة)، عبد الكريم سروش، طهران، 1991، بالفارسية. لقد أثارت النظرية مناقشات واسعة في الأجواء الفكرية الإيرانية وردود فعل نقدية كثيرة لسنا بصددها، منها ما كتبه الشيخ جوادي آملي مقرّاً بصحّة أصل نظرية تكامل المعرفة، ومسجّلًا ما يكتنفها من مزالق كثيرة بحسب تعبيره، مُقترحاً ترميمها بتلافي تلك المزالق. يُنظر: شريعت در آينه معرفت (الشريعة في مرآة المعرفة)، عبد الله جوادي آملي، مؤسسة رجاء للنشر الثقافي، طهران 1993، ص 89، بالفارسية.
[الصفحة - 216]
القرآني. هكذا تمضي متغيّرات الوجود ومستجدّات العصر باتجاه تحقّق المعاصرة القرآنية، من خلال حركة مستمرّة تتجلّى بها معان جديدة لكتاب الله.
بيد أنّ هذه الرؤية لا تتحقّق بحسب صاحبها، إلا بوجود فاعل حيوي يمثّله المفسِّر العارف بالقرآن وبزمانه معاً؛ بالنص وبالوجود، أو بالوجودين: التدويني والتكويني (12).
6 ـ من النَّزعات ما يذهب إلى تحقيق المعاصرة القرآنية عبر التَّجديد اللغوي. هذه النَّزعة تكاد تنبسط على عدد من المحاولات المعاصرة في فهم القرآن والتعاطي مع نصِّه الكريم، بل هي ترمي بظلالها على أبرزها وإن ضمّت إليها عناصر أخرى.
للّغة دورها ولا ريب، لكن الاكتفاء بها وحدها، أو التركيز المبالغ عليها بذريعة أنّ القرآن هو نصّ لغوي في نهاية المطاف، يؤدِّي إلى مزالق خطيرة. فدور اللغة أنها حامل للعصرية ووسيط ينهض بالمعنى العصري، لا أنها بذاتها مستودع العصرية، كما تذهب إلى ذلك النّزعات اللغوية ونظريات النظم والدلالة والألسنية والاتجاهات الأدبية. وحتّى لو أخذنا بأبرز حجة لهؤلاء، أي الحجَّة المتمثِّلة في أن القرآن نص لغوي، فهي غير تامّة لأنّ لهذه اللغة بنية خاصّة هي التي تسوّغ القول بالإعجاز اللغوي.
تكفي نظرة سريعة، في هذا الاتجاه، للوصول إلى بعض الاستنتاجات التي خرجت بها إحدى القراءات المعاصرة، وهي تستند ـ في ما تستند إليه ـ إلى النزعة اللغوية (13).
7 ـ ثمَّة تيار يذهب إلى إقحام المنهجيات الحديثة على النص القرآني لتحقيق القراءة العصرية. وربما كان خير مثال على ذلك أعمال محمّد أركون وسعيه الدائم إلى توظيف العلوم الإنسانية في هذا المجال (14).
تلتقي مع هذه النزعة، ولو بالعنوان، تلك الاتجاهات التي تسعى إلى قراءة النص القرآنيّ عبر منهجيات تفسيرية جديدة، مثل المنهج الموضوعي، والمنهج السُنَني، والمنهج الترابطي، والمنهج البياني، والمنهج الوُجُودي وغير ذلك، وإن اختلفت معها بالمضمون والدوافع في الغالب.
8 ـ توظيف الهرمنيوطيقا في فهم النص، مع ما يُصاحب ذلك من تنويعات
________________________________________
(12)ينظر: رسالت قرآن (رسالة القرآن)، جوادي آملي، مؤسسة رجاء الثقافية، 1991، ص 16، بالفارسية.
(13)يُنظر: الكتاب والقرآن، قراءة معاصرة، د. محمد شحرور، ط6، شركة المطبوعات للتوزيع والنشر، بيروت 2000م. يلحظ أن بعض مناشى هذا الاتجاه تعود إلى أمين الخولي، تابعه عليه محمّد أحمد خلف الله ومحمّد النويهي ونصر حامد أبو زيد.
(14)من العسير أن يفهم المرء ـ أو هكذا يبدو الأمر لكاتب هذه السطور ـ ما يريده أركون تحديداً. وفي شأن أعماله القرآنية يمكن مراجعة: ـ قراءات للقرآن، بالفرنسية، باريس 1982. وينظر مراجعةً بالعربية لمشروعه الذي يقترحه في هذا الكتاب: مجلة 15 ـ 21، العدد 5، شعبان 1403هـ، ص 26 ـ 29. ـ الإسلام بين الأمس واليوم: رؤية جديدة للقرآن، محمد أركون، طهران 1990، الترجمة الفارسية. ـ نافذة على الإسلام، ترجمة صيّاح الجهيّم، ط2، دار عطية، بيروت 1997.
[الصفحة - 217]
واختلافات ناشئة من الاختلاف في تحديد الهرمنيوطيقا، وتعيين دلالات هذه النزعة ومكوّناتها. لقد ساوى بعضهم بين الهرمنيوطيقا والتفسير، أو نظرية التفسير، فيما ذهبت شريحة واسعة من الباحثين إلى مقاربة معنى المصطلح بالتأويل أو عدّه نظرية التأويل، مع الأخذ بنظر الاعتبار المسافة الفاصلة بين دلالة المصطلح على التفسير أو التأويل، وبين حمل معناه على نظرية التفسير أو نظرية التأويل.
كما ذهب بعض الدارسين إلى تحديد مسارَين رئيسيّين للهرمنيوطيقا: أحدهما برز مع شلير ماخر (ت: 1843هـ) وديلثي (ت: 1911م)، ويتعاطى مع هذا العلم بوصفه نظاماً عامّاً لمعرفة المنهج الثاوي وراء التأويل، والثاني مع مارتن هيدغر الذي يرى فيه بحثاً فلسفياً يدور حيال حالة الفهم وشروطها الضَّرورية (15).
ذكروا، أيضاً، أن هذا المصطلح يتضمن تطبيقياً ثلاث مراحل، هي: النص، التفسير، المفسّر، في حين أرجعه بعضهم إلى ثُلاثيَّة: القصد، النَّص، التفسير. كما أشار بعضهم الآخر إلى أنّ الهرمنيوطيقا تنفكّ عقلياً إلى ثلاثة أسئلة، هي: 1 ـ ما هي ماهية النص؟ 2 ـ ما معنى فهم النص؟ 3 ـ كيفية فهم النص؟
لكن، على الرُّغم من هذه التَّنويعات والاختلافات في المصطلح ودلالته ومعناه (16)، فإنّ من يقحمه في مضمار التعامل مع النص القرآني، إنما يعني به مجموعة القواعد والمعايير التي ينبغي للمفسّر (مفسّر النص) أن يتّبعها لفهم النص الديني، وهو القرآن الكريم هنا (17).
بديهي أنّ فهم النص، أو قراءته وتأويله في نطاق الظاهرة الهرمنيوطيقية، هو غير إدراك معناه اللغوي. وبذلك فإنّ كل نص يتضمّن عدداً من القراءات، وإن شئت قلت من الفُهوم والتأويلات، التي ستتحوّل إلى قراءات مفتوحة بلحاظ وصلها بقصد صاحب النص أو فصلها عنه، ولجهة ما يسقطه قارى النَّص على النَّص ممّا تفيض به خلفيته الذهنية من مسبقات ومصادرات، وأخيراً بلحاظ ما يرتقبه المخاطب بالنصّ من النصّ.
هذا الحشد من العوامل يمنح النص جاهزية دائمة، بحيث يكون مفتوحاً على قراءات متجدّدة باستمرار، هي التي تحقّق عصريته (18).
________________________________________
(15)ينظر: علم الهرمنيوطيقا، ريجارد. أ. بالمر، الترجمة الفارسية، ترجمة محمد سعيد حنائي، منشورات هرمس، طهران 1998، ص 55. أيضاً وعلى نحو أوضح: إشكاليات القراءة وآليات التأويل، نصر حامد أبو زيد، ط5، بيروت ـ الدار البيضاء، 1999، ص 13 ـ 49.
(16) يُنظر في هذه التنويعات: كتاب نقد (الكتاب النقدي) العدد المزدوج ج5 و6، محور: التفسير بالرأي.. النسبية والهرمنيوطيقا، المؤسسة الثقافية للفكر المعاصر، طهران 1997. أيضاً وبالعربية: الهرمنيوطيقا وعلم التفسير، مجلة الحياة الطيبة، العدد8، شتاء 2002م، ص 33 ـ 68.
(17)ينظر: إشكاليات القراءة وآليات النص، ص 13.
(18)خير تطبيق لهذه النزعة، هو كتاب: هرمنوتيك كتاب وسنت (هرمنيوطيقا الكتاب والسنة)، محمد مجتهد شبستري، طهران 1996، بالفارسية. كما تظهر لها تطبيقات في بعض أعمال أبو زيد وحسن حنفي.
[الصفحة - 218]
الطَّريف أن نعرف أنّ بعض الدارسين بلغت به الحماسة لهذه النزعة حدّاً دفعه إلى تطبيق قواعدها ومفاهيمها ورُؤاها على الفكر القرآني للإمام الخميني (19).
9 ـ النَّزعة التأويلية التي تستند إلى إعمال العقل واجتهاد الرأي في تقديم فهم متجدّد للقرآن. لا بدّ من أن نُشير بدءاً إلى اختلاف الرُّؤى حيال معنى التأويل وتعدّد الأقوال فيه. والذين يأخذون منه مركَباً لإنجاز القراءة العصرية يرون فيه ممارسة ذهنية وحركة نظر عقلي لإدراك ما وراء الظواهر التي يضطلع بها التفسير. وبذلك يعدّ التأويل لدى هؤلاء مرحلة تلي التفسير، في حين ثمَّة من المفسِّرين من يرفض هذا المعنى بضرس قاطع، ويراه متعارضاً مع المعنَيين: اللغوي والقرآني(20).
ثمَّة عدد وافر من الباحثين المُعاصرين ولجوا قراءة النص القرآني انطلاقاً من ذلك المعنى للتأويل، منهم علي حرب الذي صار عنده النَّص: «دلالة لا تُحصر ومعنى لا يُضبط، وإذن فمن الصَّعب القرار على تفسير واحد أو تأويل وحيد الجانب» (21). بيد أنّ الأهم في هؤلاء جميعاً هو نصر حامد أبو زيد الذي غابت الدراسة الموضوعية عن تقييم أعماله وكُتبه وسط التداخل بين البُعدين العلمي والسياسي، فضلًا عن المزايدات الإعلامية والدينية التي اكتنفت قضيته، حتّى آل الأمر إلى تكفير بعضهم له (22).
يطرح أبو زيد العديد من الأفكار منها المعنى والمغزى. وهذه أطروحة تجمع بين توفّر النص على دلالة محدّدة هي معناه التأريخي في عصر النزول، وامتلائه في الآن نفسه بدلالات مفتوحة على عصور تالية من خلال المغزى. بتعبيرات الكاتب نفسه: «المعنى يُمثّل المفهوم المباشر لمنطوق النُّصوص... وهو المفهُوم الذي يستنبطه المعاصرون للنص من منطُوقه». بهذه المثابة فإن «المعنى يُمثّل الدلالة التاريخية للنُّصوص في سياق تكوّنها وتشكّلها»، بيد أنَّ: «الوقوف عند دلالة المعنى وحدها يعني تجميد النَّص في مرحلة محدّدة وتحويله إلى أثر وشاهد تاريخي». وهذا ما يتنافى مع المكانة المعرفية الخاصّة التي تتمتّع بها النصوص الدينية من حيث أنّ «دلالتها لا تتوقّف عن الحركة» (23)، وبذلك صار من الضروري اللوذ بأسلوب خاص يحفظ للنص الديني حيويته واستمراريته وتدفّقه بالمعاني في كل وقت، وهذا ما ينهض به المغزى، فـ «المغزى ذو طابع متحرّك مع تغيّر آفاق القراءة» (24).
________________________________________
(19)ينظر: إمام خميني تفسير وهرمنوتيك (الإمام الخميني: التفسير والهرمنيوطيقا)، مجلة بحوث قرآنية، المزدوج 19 و20، خريف 1999، ص 106 ـ 123.
(20)الميزان في تفسير القرآن، ج3، ص 44 ـ 49.
(21)ينظر: التأويل والحقيقة، علي حرب، دار التنوير، بيروت 1985، ص 45.
(22)أشهر أعمال أبو زيد: الاتجاه العقلي في التفسير (1982)، فلسفة التأويل (1983)، مفهوم النص (1990)، إشكاليات القراءة وآليات التأويل (1992)، النص ـ السلطة ـ الحقيقة (1995)، الخطاب والتأويل (2000م).
(23)ينظر: الخطاب الديني، رؤية نقدية، د. نصر حامد أبو زيد، دار المنتخب العربي، بيروت 1992م، ص 151.
(24)المصدر نفسه، ص 152.
[الصفحة - 219]
ما يُلحظ، في هذه الأطروحة، أنّ الكاتب ينظر إلى المغزى بوصفه أمراً ملامساً للمعنى مُنطلقاً منه من دون انفكاك، في عين كونه متحرّكاً «بحكم مُلابسته لآفاق الحاضر والواقع» (25). ثُمَّ إن المغزى يُصاب بتوسّط مبدأ التأويل العقلي، والتأويل هنا أشمل من التفسير، التأويل في هذا الاتجاه هو بمنزلة الآلة المولّدة التي لا تتوقّف عن إنتاج المعاني والدلالات: «في حالة القرآن فإنّ أي دراسة لتاريخ التفسير تكشف عن قيام «التأويل» دائماً بدور الرافعة الدلالية» (26). كما ينضبط عنده التأويل، ويبتعد عن أن يكون محض «تلوينات» يُسقطها قارى النصّ على النصّ القرآني، لتتحقق المعاصرة القرآنية عن هذا السبيل. يكتب: «إنّ المعنى ذو طابع تاريخي... والمغزى ـ وإن كان لا ينفكّ عن المعنى بل يُلامسه وينطلق منه ـ ذو طابع مُعاصر، بمعنى أنه محصّلة لقراءة عصر غير عصر النص» (27).
في نطاق الظَّاهرة التأويلية نفسها، يذهب حسن حنفي إلى معنى غريب يُجافي كثيراً من مسلّمات العلوم، بل يتهافت مع رؤاه الأخرى. فهو يرى النَّص القرآني في مرحلة النُزول واقعة محدّدة الثُّغور معروفة المعنى. لكن تبدأ المشكلة في العصور التالية حينما يُقحم النَّص في لعبة الأهواء، فيُستخدم استخداماً غير مشروع طبقاً للأهواء والمصالح. وفي كلا الحالين فالنص فارغ من المضمون، طائر في الهواء بلا محل، وبتعبيره: «إنّ النَّص بطبيعته مجرد صورة عامة تحتاج إلى مضمون يملؤها. وهذا المضمون بطبيعته قالب فارغ يمكن ملؤه من حاجات العصر ومقتضياته». كيف يتمّ ذلك في النسق المشروع؟ يتمّ من خلال التأويل: «فالتأويل ضرورة للنص»، والتأويل يُحقّق القراءة العصرية، لأنّه ما هو إلا: «وضع مضمون معاصر للنص» (28).
10 ـ من الاتجاهات البارزة الاتجاه الذي يسعى إلى تحقيق المعاصرة القرآنية عبر التفاعل ما بين الواقع والنص، إيماناً منه بأنّ القراءة المعاصرة لا تتحقّق من خلال النص وحده بوصفه كياناً مغلقاً، ولا من خلال التجديد اللغوي، ولا أيضاً عبر الممارسة العقلية الاجتهادية النظرية المفصولة عن الواقع، التي تكتسب أحياناً عنوان التأويل العقلي، وهي تتحرّك بين مفهوم ومفهوم، أو بين منطوق ودلالات ومعان متعدّدة، أو بين مفهوم ومصاديق متعدّدة، أو بين ظهور بسيط وآخر مركّب، أو بين
________________________________________
(25)المصدر نفسه، ص 153.
(26)الخطاب والتأويل، د. نصر حامد أبو زيد، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء ـ بيروت، 2000م، ص 264.
(27)الخطاب الديني: رؤية نقدية، ص 152.
(28)من العقيدة إلى الثورة، د. حسن حنفي، طبعة بيروت 1988، ج1، المقدمات النظرية، ص 374 و375.
[الصفحة - 220]
معنى ولوازم معنى، أو بين لفظ ثابت ومعنىً متغيّر، أو بين معنىً ومغزى، إلى آخر الصيغ المغلقة في إطار الألفاظ والكلمات والمفاهيم والاجتهادات النظرية.
لا ريب في أن إحدى أبرز المشكلات التي وقعت فيها محاولات القراءة العصرية للقرآن، أنّها فهمت المعاصرة في اللغة والمدلولات اللغوية، وفي المفاهيم ومدلولاتها، أو في النظريات بعامَّة، فراحت تركّز على النص وما يتّصل به، مهملة من جهة الواقع المعيش أشدّ الإهمال، والحقائق الوجودية الكامنة وراء الألفاظ من جهة أخرى (29). ورفض المعاصرة والتجديد من خلال اللغة، والانفتاح على الواقع المعيش وإدراجه في متن المهمة التفسيرية، هما حدّا الرؤية التي اعتمدها أصحاب هذا الاتجاه في تحقّق المعاصرة القرآنية.
يكتب السيد محمد باقر الصدر (ت: 1980) الذي يعدّ، عبر منهجه المُقترح للتفسير الموضوعي، أحد أبرز روَّاد هذا الاتجاه في العقدين الأخيرين؛ يكتب عن الحدّ الأوّل: «التفسير اللغوي ينفد لأن اللغة لها طاقة محدودة، وليس هناك تجدّد في المدلول اللغوي، ولو وُجد تجدّد في المدلول اللغوي فلا معنى لتحكيمه على القرآن، ولو وُجدت لغة أخرى بعد القرآن لا معنى لأن يُفهم القرآن من خلال لغة جديدة، أو مصطلحات جديدة أو ألفاظ جديدة تَحمل مدلولات وضعية استهدفت بعد القرآن» (30).
في إطار الفهم الذي أسّس له الصدر للتفسير الموضوعي، سجّل أن المفسّر الموضوعي لا يبدأ عمله من النَّص بل من واقع الحياة، فيركّز نظره على موضوع من موضوعات الحياة، ويستوعب ما أثارته تجارب الفكر الإنساني حيال ذلك الموضوع من مشاكل، وما قدّمه الفكر الإنساني من حلول، وما طرحه التطبيق التاريخي من أسئلة ومن نقاط فراغ، ثمّ ينتقل إلى النصّ القرآني ليبدأ حواراً معه، هو يسأل والقرآن يجيب.
ما تريد هذه الرؤية تأكيده هو عصرية القرآن، وتجدّد المعرفة القرآنية وقدرتها الدَّائمة على المواكبة، لما يوفّر لكتاب الله القيمومة على الحياة. فالمفسِّر فيها ينطلق من الواقع إلى القرآن، لا أنّه يبقى يدور في حركة مغلقة تبدأ من النصّ وتنتهي
________________________________________
(29)هذه الحقائق هي التي يذهب للإيمان بها العرفاء والمدرسة الوجودية، ويعدّون الألفاظ القرآنية، استناداً إلى ذلك، بتبع ذلك الصورة الكتبية لتلك الحقائق والوجود الأدنى لها.
(30)المدرسة القرآنية، محاضرات سماحة الإمام محمد باقر الصدر، التعارف، بيروت 1980، ص 23.
[الصفحة - 221]
بالنصّ، فتنفصل قراءته عن نبض الواقع وحركة الحياة، بما تحفل به من تيارات ورؤى ومشكلات، وما يثيره الواقع من أسئلة وقضايا: «هنا يلتحم القرآن مع الواقع، يلتحم القرآن مع الحياة، لأنَّ التفسير يبدأ من الواقع وينتهي إلى القرآن». ومهمّة «التفسير الموضوعي دائماً ـ في كل مرحلة وفي كل عصر ـ أن يحمل كل تُراث البشرية الذي عاشه، يحملُ أفكار عصره، يحمل المقولات التي تعلَّمها في تجربته البشرية، ثمَّ يضعها بين يدي القرآن».
على هذا النَّحو، تتحقّق المعاصرة القرآنية، و «تبقى للقرآن حينئذ قدرته على القيمومة دائماً، قدرته على العطاء المستجدّ دائماً، قدرته على الإبداع» (31).
لا مانع عندئذ من أن تستعين هذه القراءة بلغة تفسيرية تُناسب روح العصر، بوصف اللغة أداة تحمل التجديد وتعبّر عنه، لا أن تكون بنفسها منبع التجديد ومصدر القراءة العصرية.
وفي الوقت الذي تحرص فيه هذه المنهجية على الواقع، فهي لا تُضحّي بالنص القرآني، ولا تحمل معطيات الواقع وتفرضها عليه فرضاً، فتفرغه من معناه، وتجعله يكتسب في كل قراءة لوناً. عند هذه النقطة تتقاطع قراءة الصدر مع قراءة أخرى للمعاصرة القرآنية عبر الواقع، بلغ بها تطرّف الانحياز إلى الواقع مستوى النظر إلى النص على أنّه «قالب من دون مضمون» (32).
هذه جملة من الأفكار والآراء في هاجس القراءة العصرية للقرآن لم نسقها أقساماً متباينة غير متداخلة، ومن ثمَّ لا ندّعي أنها جاءت جامعة مانعة تنطبق عليها قواعد القسمة بالمعنى المنطقي، بل هي إشارات سريعة دورها أن تعدّ الذهن للدخول إلى المحور التالي والأخير من محاور هذه الدراسة، لكي تسهل عملية المقارنة بينها وبين النظرية الأخيرة التي سنعرض لها على هذا الصعيد.
4 ـ نظريَّة الإمام في المعاصرة
لا نستطيع أن نزعم بأن فكر الإمام الخميني ونصوصه القرآنية قدّما معالجة للمعاصرة القرآنية تنطلق من تعامل مباشر مع الإشكالية؛ فمسائل، من قبيل حقيقة القرآن، ومراتب الفهم وموانعه، والتفسير والمفسّر، والتَّفسير بالرأي، والظاهر
________________________________________
(31)المصدر نفسه، ص 7 ـ 38.
(32)من العقيدة إلى الثورة، ج1، ص 375.
[الصفحة - 222]
والباطن، والتأويل، والمحكم والمتشابه، وحجّية الظهور، والإعجاز ومعنى الوحي وكيفية نزول القرآن، والحروف المقطعة ونفي التحريف، وما إلى ذلك، توفّر النص الخمينيّ على عنونتها بوصفها مسائل قائمة بذاتها في علوم القرآن، ومبادى التفسير، وتعامل معها مباشرة بأسمائها وعناوينها فضلًا عن مضامينها.
أمّا في قضية المعاصرة القرآنية فما خلا بضع إشارات إلى مضمونها، لا ندّعي أن الإمام خصّص لها عنواناً مستقلًا، بحيث عمد من خلال ذلك إلى تحليل المشكلة وتفكيك عناصرها من خلال الموروث الفكري والنظري المتراكم من حولها، بُغية إعادة تركيبها في تشييد نظري جديد يعبّر عن موقفه منها. وإنما بين أيدينا موروث مهم من النصوص والأفكار والنظريات التي تعود إلى الإمام مباشرة أو تنتمي إلى مدرسته العرفانية، تسمح لنا باستنباط رؤية تُعالج إشكالية المعاصرة على ضوء ما تقتضيه المنظومة العرفانية التي يتبنّاها ومذهبها الوجودي الذي ينتمي إليه.
على هذا ستكون المحاولة، في هذا المحور، أقرب إلى الاجتهاد في استنباط النَّظرية وبناء مكوّناتها، لكن على ضوء ما تسمح به نصوص الإمام بخاصَّة وفكر المدرسة العرفانية بعامَّة، وفي إطار ما تقتضيه المنظومة نفسها.
الحقيقة، بمقدورنا ردم عدد من الثغرات وسدّ ما نواجهه من نقاط فراغ في الرؤية القرآنية للإمام، عبر اللجوء إلى هذا الأسلوب، فليست قضية المعاصرة القرآنية وحدها هي ما يمكن تغطيته على هذا النحو، بل المجال مفتوح لممارسة الاجتهاد واستنباط الرُّؤى وبنائها وتشييدها إزاء غير قضيَّة من القضايا الأخرى الشبيهة بهذه القضية، والخروج بصياغة نظرية تتجاوب مع ما يقتضيه مذهب الإمام الفكري وانتمائه المدرسي.
لنأخذ، مثلًا، قضية ديمومة القرآن واستمراره في أداء رسالته على مرّ العصور من دون انقطاع، وكيف يمكن أن نخرج بهذه النتيجة من أحشاء الرؤية الوجودية التي تجعل القرآن الكريم مظهراً لاسم الله الأعظم، أي الذات مأخوذاً فيها الأسماء والصفات. فالإمام هنا لا يلجأ إلى علم الكلام وحُججه المعروفة في إثبات دوام القرآن وخلوده، انطلاقاً من مقولة أنّ الإسلام هو الدين الخاتم، ومن ثمَّ فهو بحاجة
________________________________________
[الصفحة - 223]
إلى معجزة دائمة، والقرآن هو هذه المعجزة، بل يؤسّس لذلك من خلال النظرية «الأسمائيَّة» نفسها لتكون هي بمنزلة الأساس أو المقدّمة، ودوام القرآن وخلوده بمنزلة النتيجة أو لازمة من لوازم النظرية. يكتب مدلِّلًا على ذلك: «لا يعدّ هذا الكتاب قابلًا للنسخ والانقطاع، لأنّ الاسم الأعظم ومظاهره أزليان وأبديان» (33). فما دام القرآن مظهراً للأزليّ؛ للاسم الأعظم وتجلِّياً تاماً له، فلا معنى لبلائه أو انقطاعه أو اقتصاره على عصر من دون آخر، بل هو حضور دائم متدفّق من دون انقطاع تبعاً لديمومة الاسم الأعظم نفسه وأزليته.
هكذا الحال في المعاصرة القرآنية، فنحن إزاء عملية استنباط لتكوين الرؤية وبنائها، على أنَّه من المفيد أن نكرّر القول: إنَّ فكر الإمام ونصوصه لا يخلوان تماماً من إشارات مُباشرة إلى المُعاصرة القرآنية في بعض وجوهها، على ما سنلحظ ذلك لاحقاً.
على ضوء ذلك كله، ستبدو الآفاق أمامنا مُشرعة لاستخلاص رؤية الإمام في المُعاصرة القرآنية، من خلال المستويات الثلاثة الآتية:
أ ـ الرؤية الوجودية وما تقتضيه حصيلتها المعرفية.
ب ـ نظرية المقاصد القرآنية وما يترتَّب عليها من لوازم.
ج ـ مداخل متفرّقة أخرى، وبخاصَّة مدخل تجدّد المعاني بتعدّد التلاوات.
أ ـ المعاصرة على ضوء الرؤية الوجودية
لن نستحضر النصوص بكثافة في هذه الفقرة، بل سنسوق مبادى الرؤية العرفانية للوجود والإنسان والقرآن بوصفها أصولًا موضوعة، صحيحة وثابتة في مضمارها، وبالنسبة إلى أهلها على الأقل.
نعرف أن التصوّر العرفانيّ عن نشأة الوجود يستند إلى شبكة من الروابط الوجودية والسنن التكوينية الحقيقيّة. وللواقع في هذا التصوّر مراتب، إذ لكل شيء مراتب: {وَإنْ مِنْ شَيْءٍ إلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُوم} [الحجر/21]. فكل ما يصحّ عليه شيء حقيقة له مراتب، والمقصود بالشيء هو الشيء التكويني
________________________________________
(33)آداب الصلاة، الإمام الخميني، ط9، مؤسسة نشر آثار الإمام الخميني، طهران، 1999م، ص 321.
[الصفحة - 224]
كالإنسان والحيوان والأنهار والأشجار مثلًا، وليس الصناعي كالطَّائرة والدرّاجة. فلو أخذنا القرآن الكريم ـ حيث يتمّ عليه الكلام ـ فإنّ له نشأة وجودية قبل هذا العالَم أسوة بغيره من موجودات عالم الإمكان، كما له مراتب تنَزّل عبرها إلى أن بلغ صورته التي بين أيدينا، وكل مرتبة هي قرآن. كذلك الإنسان وأيّة حقيقة وجودية أخرى. يقول الإمام الخميني مثلًا: «للقرآن مراتب» (34)، كما يكتب في موضع آخر: «اعلم أنّه كما أنَّ للكتاب التدويني الإلهي [القرآن] بطوناً سبعة وسبعين بطناً بوجه... كذلك الكتب التكوينية الإلهية الأنفسية [الإنسان] والآفاقية [العالم] حذواً بالحذو ونعلًا بالنعل» (35).
عندما نرجع خطوة إلى الوراء، وبالتحديد إلى صدر الدين الشيرازي (ت: 1050هـ) الذي لا يوفّر الإمام فرصة إلا ويغتنمها لكيل المديح له، نجد نصوصه تفيض بهذه المعاني، كما في قوله: «وبالجملة، إنَّ للقرآن درجات ومنازل كما للإنسان» (36). ولا ريب في أنَّ الشيرازي والإمام الخميني ينهلان من معين ابن عربي (ت: 638هـ) الذي أرسى الأسس النظرية للمدرسة الوجودية، وأقام منظومته على تواز مدهش بين القرآن والإنسان والعالم، من حيث إنَّ هذه جميعاً كلمات الله وجودياً: «اعلم أنَّ الممكنات هي كلمات الله التي لا تنفد» (37)، وأنها جميعاً تنطوي على مراتب: «ثمَّ اعلم أنَّ الله تعالى لما أظهر من كلماته ما أظهر قدّر لهم من المراتب ما قدّر»(38).
هكذا يخلص هذا التصوّر إلى أنّ لكلّ مُفردة من مفردات الوجود الإمكاني مراتب طولية متعدّدة، وباللغة العلميّة فالواقع ليس مُتواطئاً وإنما مُشكّك له مراتب.
والسرّ من وراء هذا التصوّر، أو المرتكز الذي يقوم عليه، هو إدخال العرفاء للأسماء والصفات في هذه المنظومة، فعندما تدخل الأسماء والصفات على الخط تقود إلى تعدّد مراتب الواقع، بعكس ما لو أغضينا عن هذه النظرية، إذ لن يكون ثمَّة معنى لتعدّد المراتب. فأيّما حقيقة تدخل عليها مقولة تعدّد مراتب الواقع، فإنما يكون ذلك بسبب فاعلية نظرية الأسماء والصفات، وأثراً لها.
________________________________________
(34)تفسير سورة الحمد (تفسير سورة الفاتحة)، الإمام الخميني، ط5، مؤسسة تنظيم ونشر آثار الإمام الخميني، طهران، 1999م، ص 136، بالفارسية.
(35)دعاء السحر، الإمام الخميني، طهران، 1980م، ص 94.
(36)الحكمة المتعالية في الأسفار العقلية الأربعة، صدر الدين الشيرازي، دار إحياء التراث العربي، بيروت، 1981م، ج7، ص 39.
(37)الفتوحات المكية، ابن عربي، طبعة دار صادر البيروتية التي نشرت من قبل دار إحياء التراث العربي، المجلد الثاني، ص 124.
(38)المصدر نفسه، المجلد الرابع، ص 65.
[الصفحة - 225]
المدلول المعرفي وإنتاج المعاصرة
هذا التصوّر الوجودي الذي يفتح كل شيء على تعدّد مستويات الواقع ومراتبه، يفتح باباً عميقاً للعصرية حين ننطلق به من القرآن، ونأخذ بنظر الاعتبار دلالته المعرفية. فالنصّ القرآني الذي يُعدّ التعبير اللفظي للوجود الواقعي التكوينيّ للقرآن، يغدو قادراً معرفياً على استيعاب مُعطيات العصور في كل اتجاه، بدءاً من الإنسان نفسه وما يحرزه من عمق وانتهاء بالواقع المعيش وما يفرزه من معطيات. لكن ينبغي أن ننتبه إلى أنّ القرآن لا يحقّق المعاصرة هنا من زاوية كونه نصّاً ذا بُنية لغوية متميّزة، وإن كان هذا أمر لا يُنكر أنّ له مدخليته الخاصة في توليد المزيد من المعاني، والسماح باستيعاب المعاصرة في أحد أوجهها، وإنّما المعني به هنا، هو: عدُّ هذا النص تعبيراً عن واقع ذي مراتب.
معرفياً، تعدّ كل رؤية، بافتراض صحّة منطلقاتها وسلامة قواعدها، تعبيراً عن الواقع، أو على نحو أدقّ تعبيراً عن درجة من درجات الواقع، ومن ثمَّ فهي حقّ وواقع، ولكن بحسب تلك الدرجة التي انكشفت للعارف أو بلغها ذلك الإنسان وأصابها بنظره. وبذلك فالخطّ مفتوح لإنتاج صِيَغ عصرية ومعانٍ جديدة للنص القرآنيّ باستمرار، تأخذ بحُسبانها جميع أبعاد النموّ في قابليات الإنسان العقلية والكشفية، وما تُنتجه تحوّلات الحياة من حوله وما تُحرزه من ازدهار وتقدّم.
المرتكز الملحوظ، هنا، في تعدّد القراءات وتوالدها هو الواقع وليس الفهم. فالواقع هو الذي ينطوي على مراتب لا أنَّ للفهم مراتب، فالفهم مرتبط بالواقع، وعلى نحو أدقّ بمرتبة من مراتب الواقع. وهذا الفهم صحيح من هذه الزاوية، مُطابق للواقع ولا إشكال. والطريق مفتوح إلى ما هو أرقى منه وأكمل، مُرتبط بقدرة الإنسان نفسه على تجاوز المرتبة التي بلغها إلى ما هو أعلى منها وهكذا. فعلى قدر ما يعمّق الإنسان مرتكزاته العقلية أو الكشفية، بأيّ طريق كان، بالرياضة العقلية أم بالتهذيب والتزكية أم بالالتحام مع الواقع الحياتي المعيش من حوله والإفادة من مُعطياته، بمقدوره أن يُصيب درجة أعلى من الواقع ويحقّق فهماً جديداً وأرقى للنَّص القرآني.
________________________________________
[الصفحة - 226]
مثال توضيحي
تفترض النظرية السائدة، في تفسير تعدّد الأفهام والقراءات، وحدة الواقع وتعدّد الفهم، ومن ثمَّ لا خيار للإنسان إلا أن يُصيب ذلك الواقع الأوحد ويتطابق معه، ليكون قد أصاب الحقيقة نفسها، أو أن يُخطئه ويزيغ عنه ليكون قد أخطأ الحقيقة. أمّا في النظرية العرفانية فالأمر مختلف، إذ إنَّ الأفهام والقراءات تُصيب الواقع بأجمعها ـ بافتراض صحّة الضوابط الأخرى ـ ولكن غاية ما هناك أن كلّ فهم أو قراءة تُصيبه في درجة أو في مرتبة من مراتبه.
فلو افترضنا وجود لوحة متعدّدة الألوان من عشرة أمتار ممتدّة من أسفل نحو الأعلى، وهي موزّعة على عدّة ألوان، لنفترض أنها ثلاثة، هي من تحت إلى أعلى: الأبيض والأحمر ثُمَّ الأخضر. ولنفترض أيضاً أنّه وقف أمام هذه اللوحة ثلاثة أشخاص بطريقة بحيث لا يستطيع كل واحد منهم أن يرى إلا لوناً واحداً من ألوانها، فعندما يُسأل الشخص الأوّل عن لون اللوحة ويجيب: إنَّه أبيض بلحاظ ما هو موجود أمامه، فإنَّ جوابه صحيح، وكذلك الثاني حين يقول: إن لونها أحمر، وأيضاً الثالث الذي يقول: إنّه أخضر. فكل إجابة من هذه الإجابات الثلاث صحيحة في نفسها، وهي تعبّر عن الواقع نفسه وليست هي قراءة عنه. فمن أجاب بأنّ لون اللوحة أبيض لم يكن يرى سوى البياض، والبياض هو الواقع بالنسبة إليه، وهكذا بالنسبة إلى اللونين الباقيين.
طبيعي أنّ القول: إنَّ للقرآن مراتب، لا يعني أن كل فهم هو تعبير عن مرتبة من مراتب القرآن هكذا مطلقاً، بل قد تكون بعض الفُهوم مُخطئة غير مصيبة للواقع بأية مرتبة من مراتبه، إنما القصد هو إثبات أنه ليس ثمَّة ضرورة في أن يكون فهماً ما هو وحده المُصيب للواقع، وبقية الفُهوم خطأ.
المُراد إثباته، هو: بعد أن ثبُتَ أن الواقع متعدّد، إذن يُمكن أن يكون فهمنا عن الواقع متعدّداً أيضاً، وأن جميع الفُهوم صحيحة ومُصيبة للواقع، شريطة رعاية بقية الجوانب، لا أن واحداً منها مُصيب للواقع والبقية مُخطئة.
عندما نُقبل على ما بين أيدينا من اتجاهات ومدارس، فالعرفاء هم الّذين
________________________________________
[الصفحة - 227]
يقولون بتعدّد الواقع. وهذا ما يدفعهم لعدم تخطئة الآخرين من ذوي النِّحَل النقلية والكلامية والفلسفية، بعكس بقية الفرقاء. فالفيلسوف المشّائي مثلًا، بحكم انتظامه داخل الإطار الأرسطي الذي يقول بوحدة الواقع، تراه من المُستحيل أن ينبلج أمامه خيار ثالث يُضاف إلى خياري إصابة الواقع الواحد أو عدمه، فإمّا إنّك تُصيب ذلك الواقع فنظرك صحيح، وإمّا إنّك تُخطئه فنظرك خاطى بالنِّسبة له.
لذلك حين يُسجّل المشّائي أنّه أصاب الواقع، بحسب مقاييسه الخاصّة، ستكون الحصيلة هي إلغاء الآخرين عرفاء وفقهاء ومتكلّمين.
لقد عشنا هذه النظرة الرحيبة في نصوص الإمام الخميني، وهي تُسجّل أن القرآن الكريم مائدة ممتدّة للجميع ومفتوحة على قراءات وفُهوم لا تنتهي، يأخذ منها كل إنسان على قدر سعته الوجودية وقابليَّاته الفكرية، كما في قوله الشهير: «القرآن، الكتاب الإلهي هو مائدة ممتدّة يستفيد منه الجميع» (39)، كما في قوله أيضاً: «هذا الكتاب [القرآن] بمتناول الجميع، يستفيد منه الجميع، كلّ بحسب سعته الوجودية والفكرية» (40). وعندما مرّ سماحته ببعض الآيات الكريمة ممّا له دلالة على توحيد الذات والصفات (41)، نراه قد سجّل نصاً بأنّ «علماء الظاهر والمحدّثين والفقهاء، رضوان الله عليهم، فسروا ـ هذه الآيات ـ على نحو مخالف بل مُباين بالكامل لما فسّرها به أهل المعرفة وعلماء الباطن» (42) ليخلص من وراء ذلك إلى أنّ رأيه يقوم على تصحيح تفسير الفريقين كليهما، وبنص تعبيره: «ما يذهب إليه الكاتب أن المنحيَين التفسيريَين صحيحان، كلٌّ منهما في محله». هذا التصحيح لنمطَين من التفسير، يسجّل الكاتب أنّهما متباينان بالكامل، لا يُمكن توجيهه على ضوء دواع أخلاقية أو اجتماعية تحرص على الألفة ووحدة الصف على الرغم من سلامة مثل هذه الدواعي، وإنّما يجد تعليله المنطقي في نظرية تعدّد مراتب الواقع التي يؤمن بها الإمام.
وهذا بالضبط ما ينقُلنا إلى مشروع الإمام في التوحيد بين العارف والفيلسوف والفقيه (43). فمثل هذا المشروع التوفيقي لا يمكن تفسيره على أساس دواع أخلاقية أو ضرورات اجتماعية للأمّة أو للمجتمع المسلم، وإنّما يحتاج إلى أساس منطقي يُسوّغه. ونظرية تعدّد مراتب الواقع هي التي تقدّم الأساس المنطقي المنشود والبناء المعرفي التحتي المطلوب لمثل هذا المشروع.
________________________________________
(39)صحيفة النور، الإمام الخميني، ج18، ص 84، بالفارسية.
(40)ينظر: صحيفة الإمام، ج14، ص 251 و252.
(41)مثل قوله سبحانه: هُوَ الأوَّلُ وَالآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالبَاطِنُ [الحديد/3]، وقوله: الُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالاءَرْضِ [النور/35]، وقوله: وَهُوَ مَعَكُمْ [الحديد/4]، وقوله: فَاءَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ الِ [البقرة/115]في توحيد الذات. وقوله سبحانه: الحَمْدُ لِ رَبِّ العَالَمِينَ [الفاتحة/2]، وقوله: يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاواتِ وَمَا فِي الاءَرْضِ [الجمعة/1]، وقوله: وَمَا رَمَيْتَ إذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ الَ رَمَى [الأنفال/17] في توحيد الأفعال. يُنظر: آداب الصلاة، ص 185 و186.
(42)المصدر نفسه، ص 185.
(43)تنظر خطوطه العريضة: تفسير سورة الحمد، الجلسة الخامسة، ص 175 ـ 193. على أن بذور هذا المشروع في التوفيق بين المشهود والمعقول والمنقول، أو بين العرفان والفلسفة والبيان (القرآن)، كانت واضحة في كتاب الإمام «شرح دعاء السحر».
[الصفحة - 228]
هكذا نخلص إلى أن مشكلة المعاصرة تنحلّ على ضوء تعدّد مراتب الفهم، وتبعاً لتعدُّد مراتب الواقع، إذ سيفرز كل عصر فهمه، وهذا الفهم معاصر لعصره وهكذا.
بكـــرٌ أبــداً
على الرُّغم من الآفاق الممتدّة التي تشقّها هذه الرؤية، على النحو الذي يجعل القرآن قادراً على امتصاص عناصر المعاصرة في كل زمن وتحقيق عصريته في كل وقت بل في كل لحظة، فإنها مع ذلك تُومى إلى معنًى كبير يُفيد أن القرآن يأتي بكراً يوم القيامة لم تستنفده النظريات والرؤى والأفكار والمناهج والتفاسير، ولم تُبلِه العصور ولم تخلقه الأزمنة، بل تراه يعلو فوق الأزمنة والعصور ويسمو عليها، لكن لا على نحو القطيعة والانفصال، وإنما من خلال الاستنفاد والتجاوز. فكتاب الله يستوعب في كلّ عصر متغيّرات عصره وما يبلغه مستوى الإدراك العقلي للإنسانية من نموّ وما تحقّقه أطر الحياة من ازدهار، عبر التفاعل مع الإنسان والالتحام مع الحياة، ثمَّ يتخطّى ذلك ويتجاوزه لما بعده ليبقى متدفّقاً بالمعاني مُنتجاً ما لا ينتهي من الفُهوم والقراءات، ثمَّ يأتي يوم القيامة بكراً.
وبقاؤه جديداً أبداً هو ممّا ينسجم مع الدليل، ويتجاوب مع رؤية هذه المدرسة، التي ترى في كتاب الله تجلِّياً للاسم الأعظم وما تحته من أسماء وصفات، وبتعبير الإمام نفسه: «هذا الكتاب الشريف هو صورة أحدية، جمع جميع الأسماء والصفات، ومعرّفاً لمقام الحقّ المقدّس بتمام الشؤون والتجلِّيات. بعبارة أخرى: إن هذه الصحيفة النورية صورة «الاسم الأعظم» (44)، فحين يكون القرآن الكريم بهذه المثابة وهو تعبير عن علم الله سبحانه بل إنّ الحق تعالى بجميع شؤون الأسمائية والصفاتية هو مبدأ هذا الكتاب الشريف» (45)، فلا معنى موضوعياً لتجاوزه وتخطّيه، وهو تعبير عن المطلق. فمهما أوتي الإنسان من قوّة في الكشف والعُمق الإدراكي، ومن سعة في الفكر ودقّة في الاستدلال، ومهما بلغت بالحياة أشواط التقدّم والرقيّ، فلن يكون بمقدور ذلك كله استنفاد المطلق فضلًا عن تخطّيه وتجاوزه.
________________________________________
(44)آداب الصلاة، ص 321.
(45)المصدر نفسه.
[الصفحة - 229]
ب ـ المعاصرة على ضوء نظريَّة المقاصد القرآنيَّة
المقصد الأساس للقرآن، في نظرية الإمام أو المدرسة العرفانية بعامَّة، هو فتح باب معرفة الله، ودعوة العباد إلى معرفة الله، وبيان «المعارف الإلهية من الشؤون الذاتية والأسمائية والصفاتيّة والأفعاليّة، والأهمّ من ذلك كلّه في هذا المقصد، هو الدعوة إلى توحيد الذات والأسماء والأفعال»(46)، حين يكون هذا هو المقصد الرئيسي للقرآن، فإنّ هذه الرؤية في التعاطي مع القرآن عبر هذا الأفق تسمح لنا بمدخل آخر لوُلوج قضية المُعاصرة.
على أساس هذه الرؤية لمقاصد القرآن، تنحسر الجوانب العملية، وتضيق المتغيّرات حتّى تتحوّل إلى ما يشبه الهامش بالقياس مع هذه المقاصد الأساسية. وعندئذ يحقّ لنا السؤال عن معنى المُعاصرة بمفهوميها: الزمني والاجتماعي ومدى فاعليتها في المعارف الأساسية والأصول العقديَّة؟ لا أظنّ أنّ هناك متّسعاً كبيراً يبقى للمعاصرة بمفهومها الحياتي المتغيّر، إذا انتبهنا إلى أنّ القرآن هو كتاب معرفة لأصول المعتقد في ظلّ نظريَّة المقاصد التي يتبنّاها الإمام والمدرسة العرفانية، وتجعل توحيد الله (جل جلاله) هو المقصد الأعلى.
أجل، هذه الرؤية المقاصدية التي تركّز على المعرفة ومعرفة الحق، سبحانه، في الطليعة، لا تتصادم مع المُعاصرة بمفهومها المعرفي الذي يسمح بتعدّد القراءات أو مراتب فهم أصول المعتقد، وبخاصَّة مع التزام التمييز بين التكوينيات والاعتباريات. توضيح ذلك أنّ المعتقدات هي أمور وحقائق مرتبطة بنظام التكوين، ومن ثمَّ فهي ليست من سنخ الاعتباريات بحيث تتأثّر أو تزول بزوال المسوِّغات التي أملت اعتبارها. وحيث تعدّ المعتقدات من الحقائق الوجودية، فهي لا تتأثّر بالبعد التأريخيّ والبيئيّ الثقافي واللغوي تماماً كالمعادلات الرياضية.
من المعقول جدّاً أن يؤثّر البعد البيئي والثقافي واللغوي والاجتماعي في تكوين الاءُطُر الاجتهادية التي نفهم من خلالها هذه المعتقدات وصياغتها، لكن لا على النحو الذي ينقلها من دائرة الإثبات إلى النفي أو بالعكس. وهذه هي المساحة التي تتحرّك
________________________________________
(46)المصدر نفسه، ص 185.
[الصفحة - 230]
فيها المعاصرة بمفهوميها: الزمني والاجتماعي المتحرِّكين، حيث يمكن أن تؤثّر في الاءُطُر من دون المضمون.
لكن هل يعني ذلك أنّ مضمون المعتقدات التي عرض لها القرآن الكريم، هو مضمون واحد جامد لم يتغيّر؟ كلا، فلا واقع المسلمين وتاريخهم يؤيِّدان ذلك ولا منطق القرآن. ما تذهب إليه المدرسة الوجودية، أو العرفانية، أن للتوحيد والنبوة والمعاد وبقية أصول المعتقد الإسلامي وما يرتبط بها من فروع (أقصد فروع المعتقد لا الفروع العملية) مراتب متعدّدة في الواقع والأمر نفسه، وليس مرتبة واحدة. هذا التعدّد هو الذي يسمح بدور فاعل للمعاصرة المعرفية إذا صحّ المصطلح، بحيث يكون للناس في كل عصر، بل في العصر الواحد، غير تصوّر للمعتقد، وهذه المعتقدات جميعها صحيحة ـ إذا توافر لها التأسيس السليم وصحّت قواعدها ومنطلقاتها ـ تبعاً لتعدّد مراتب الواقع نفسه.
مرّة أخرى، هذا لا يعني أنّ كل قراءة صحيحة لمجرّد أنّها شيّدت لنفسها مجموعة قواعد واءُطُر، بل لا بدّ من أن تستند إلى أصول وأسس ومرتكزات يذعن لصحتها الجميع، وهذه الأسس لا يمكن إلا أن تكون عقلية ما دام الحديث يدور في المعتقدات، وإن كان للنقل دوره في إثارة التفاصيل وإشباعها.
استناداً إلى ما مرّ يُمكن أن نخلص إلى ما يأتي:
1 ـ المقصد الأساسي للقرآن، في نظرية الإمام لمقاصد القرآن، هو أصول الاعتقاد وبالأخصّ التوحيد.
2 ـ حين يكون القرآن كتاب معرفة أصول المعتقد، وحين تكون المعتقدات حقائق وجودية في متن التكوين، فإنّ ذلك كلّه يضيّق من دائرة المعاصرة بمعناها الاجتماعي والثقافي أو الزمني بتعبير أدقّ، لأنّ تغيُّر العصور وتوالي الأزمنة واطّراد التقدّم، ذلك كله لا أثر له في التأثير على هذه الحقائق الوجودية التكوينية فضلًا عن تغييرها.
3 ـ هناك دور فاعل للمعاصرة المعرفية وإنتاج المزيد من الفهوم تترتّب معرفياً على التصوّر الوجودي الذي يقول بتعدّد مراتب الواقع، بما في ذلك أصول المعتقد.
________________________________________
[الصفحة - 231]
ومن ثمَّ تفتح هذه الرؤية نافذة واسعة لقراءات أو فُهوم مستجدّة لأصول المعتقد القرآني، من دون أن يكون ثمَّ أمد لتصوّر نهاية لسعي الإنسان على هذا الخطّ. فمع كل عمق يحرزه الإنسان، يحقّق في مقابله فهماً أرقى للمعتقدات يتجاوب مع مرتبة أعلى لها على خطّ الواقع متعدِّد المراتب، من دون أن يعني ذلك تصحيح جميع الفُهوم والقراءات أو غياب الضوابط المؤسّسة لها.
4 ـ يتّجه دور المعاصرة الزمنية إلى أطُر الفهم وقواعد الاجتهاد في التعاطي مع النص القرآني، كما سيكون لها مداها على صعيد المتغيّرات التي ترتبط بالأمور العملية وبالنُّظم الحياتية.
ج ـ مداخل متفرّقة
تتضمّن نصوص الإمام الخميني عدداً آخر من المداخل إلى قضية المعاصرة القرآنية، سواء باسمها وعلى نحو مباشر، أم بشكل غير مباشر. وفي ما يأتي إشارة إلى بعضها:
1 ـ يلجأ الإمام إلى المنهج الكلامي في إثبات عصرية القرآن، حينما يصوغ دليل الإحاطة، على النحو الآتي:
(1) «الله هو مصدر القانون الإسلامي.
(2) الله محيط بجميع العصور.
(3) ومن ثمَّ فإن القرآن هو كتاب جميع العصور» (47). وبذا فهو في كل عصر جديد، له كلمته إلى البشرية ورسالته التي ينهض بها في الحياة.
2 ـ في مقاربة أخرى، يستند الإمام إلى عدم تناهي القرآن، بحكم صدوره عن المطلق، ليجعل من ذلك مرتكزاً لتلبيته حاجات البشر في كل وقت. يقول سماحته: «القرآن غير محدود» (48)، و «القرآن يشتمل على جميع المعارف، وكل ما يحتاج إليه البشر» (49) وبالتالي فإنّ لديه ما يُعطيه للإنسانية في كل عصر وزمان.
________________________________________
(47)صحيفة النور، ج7، ص 121.
(48)صحيفة الإمام، ج12، ص 420.
(49)المصدر نفسه، ج20، ص 249.
[الصفحة - 232]
تجدّد المعاني بتعدّد التلاوات
3 ـ ثمَّة مدخل للمعاصرة غالباً ما يستند إليه العرفاء في التدليل على طراوة كتاب الله وتفجّره بالعطاء في كل وقت وعصر، وقد رأيتُ إعجاباً به من قبل الدَّارسين المعاصرين من مختلف الاتجاهات.
يتحدّث هذا المدخل صراحة عن تجدّد المعاني وتواليها بتعدّد القراءات، فمع أن المتلوّ واحد إلا أن المعاني تتجدّد على الدوام تبعاً لاختلاف الأشخاص بل تبعاً للتعدّد الذي يعرفه الشخص الواحد نفسه، وتبدّل الأوضاع والأزمان والحالات، ما يسمح بإدخال المعاصرة الزمنية ذات البُعد الاجتماعيّ والثقافي والحياتيّ بجميع عناصرها. فجميع العناصر الذاتية التي يعيشها الإنسان، والعوامل الموضوعية التي يُلامسها في واقع الحياة تؤثّر في خلق حالة للتلاوة تختلف من إنسان لإنسان، بل تختلف عند الإنسان نفسه بين حال وحال، وكذلك تختلف من زمن لآخر ومن عصر لعصر، بما يُفضي إلى تجدّد المعاني. وبتعبير الإمام الخميني فإنّ التلاوات والمعاني المترتّبة عليها «تختلف باختلاف الأشخاص وفي شخص واحد، باختلاف الحالات والواردات والمقامات، وتختلف باختلاف المتعلّقات» (50). وهذا يحصل مع كل آية، حتّى لآية تتكرّر مع كل سورة هي آية البسملة، فضلًا عن بقية الآيات والسُّور، وعن القرآن برمّته.
بيد أن هذه الفكرة في تجدّد المعاني وتنوّعها، تبعاً لمكوّنات الإنسان وحالاته وعلاقته مع الواقع الذي يعيش، بحيث يترك ذلك كله أثره على النص وعلاقة القارى بالنص؛ هذه الفكرة تعود بذورها إلى الشيخ الأكبر محيي الدين بن عربي تماماً كما في بقية أفكار الإمام العرفانية وبقية العرفاء. فابن عربي هو الذي وضع بذار هذه الفكرة وتابعه عليه الإمام كما غيره، حيث يكتب في «الفتوحات المكية»: إنَّ الإنسان الفهم المراقِب أحواله يتلو «القرآن فيجد في كل تلاوة معنى لم يجده في التلاوة الأولى، والحروف المتلوّة هي بعينها ما زاد فيها شيء ولا نقُص، وإنما الموطن والحال تجدّد، ولا بدّ من تجدّده فإنّ زمان التلاوة الأولى ما هو زمان التلاوة الثانية» (51).
________________________________________
(50)شرح دعاء السحر، ص 135.
(51)الفتوحات المكية، ج4، ص 258.
[الصفحة - 233]
علاقة الإنسان مع القرآن علاقة مفتوحة على قراءات متدفّقة متنوّعة تتجدّد باستمرار بتجدّد الزمن نفسه، فلكلّ آن تلاوته، ومن ثمَّ للنص معناه الذي يختلف عن معنى التلاوة الأولى، شريطة أن نلحظ القيود التي ذكرها ابن عربي للقارى من كونه فَهماً، أي متّصفاً بالفَهم، مراقِباً لأحواله، وإلا فإنّ تلاوة الغفلة التي يغيب عنها التوجّه والتدبّر لا تُورث هذا التجدّد الخصب في المعاني.
ربما استطعنا أن نضيف إلى هذا المدخل مفهوم العرفاء بمن فيهم الإمام الخميني عن التنَزّل، وقيمة هذا المفهوم في استيلاد معانٍ لكتاب الله لا تنتهي. للقوم كما يذكُر الإمام مفهُوم واسع لتنزّل القرآن، إذ للقرآن تنَزّلات وليس تنَزّلًا واحداً، منها تنَزّله على القلوب. وفي تنزّل القلوب نحن في الحقيقة في مواجهة تنَزّلات لا تنتهي، فمنذ التنزّل الأول على قلب النبي (صلي الله عليه و آله و سلم) والقرآن «لا يزال ينزل على قلوب أمّته إلى يوم القيامة»، ومن ثمَّ «فنُزوله في القلوب جديد لا يبلى»، وله مع كل نزول مع كلّ إنسان معنًى، والمعاني مُتوالية دائمة إلى أن ينتهي شوط الإنسان على الأرض وفي الحياة، عندئذ فقط تتوقّف عملية التلاوة لتوقّف النُزول، ويُرفع كلام الله «من الصُّدور ويُمحى من المصحف»، لأنّه لا يبقى «مُترجم [أي إنسان] يقبل نزول القرآن عليه»(52).
هكذا يبقى القرآن مع الإنسان يؤدّي دوره في الهداية على الدوام، إلى أن تقف الحياة بالإنسان وينتهي شوطه على الأرض، فيرتفع القرآن. ومع ذلك يأتي كتاب الله يوم القيامة غضّاً جديداً، والحمد لله ربّ العالمين.
الخلاصــــة
يمكن تلخيص حصيلة الرؤية، بما يأتي:
1 ـ تؤسّس المدرسة العرفانية للمعاصرة استناداً لتصوّرها الوجودي الذي يقول بتعدّد مراتب الواقع، وما يترتّب على ذلك من مدلول معرفي يتمثّل بتعدّد الأفهام والقراءات، حيث تتعامل مع القرآن بوصفه حقيقة ذات مراتب.
2 ـ ترفض المدرسة، في مقام الإثبات، مبدأ القراءة استناداً إلى الوجدان
________________________________________
(52)المصدر نفسه، ج3، ص 108.
[الصفحة - 234]
الشخصي أو الكشف أو التجربة الذاتية وما شابه، بل لا بدّ لكل قراءة من أن تؤسّس لمشروعيتها على أصول ومبادى وأسس ومرتكزات، وتتواصل مع الذخيرة العقلية المشتركة عند البشر ولا تتعارض مع ثوابت الدين، أي أنّ الناظم العقلي هو المعيار في أصول المعارف والمعتقدات، والديني لا سيّما التشريعي هو المعيار في العمليّات.
3 ـ تعدّ كل قراءة صحيحة بشرط المحمول، أي هي صحيحة لمن هو في مرتبة خاصّة من المراتب، أمّا إذا تجاوزها إلى ما هو أرقى منها، فالأدنى، لن تعود صحيحة بالنسبة إليه.
4 ـ يتعانق العصر والواقع المعيش مع هذه الرؤية، ويدخلان في تكوين بنيانها. فمعطيات كل عصر تسند خلفية الإنسان ووعيه وعقله في إثراء قدراته على التعامل مع القرآن، بحيث لو لم تكن هذه الوقائع مُنكشفة له لما اتّجه ذهنه صوب أغوار القرآن ومعانيه.
العالَم، في هذه الرؤية، يفتح الآفاق ويُثير العقول، والدَّعوة العرفانية تحثّ على التفاعل مع الواقع ولا تدعو إلى الانعزال والانفصال، بل تُصرّ على الجدية وبذل الجهد في اكتشاف علاقات الواقع وقوانينه، لأنّ مع كل كشف في الواقع وتعمّق فيه، يتحوّل ذلك إلى منشأ لاكتشاف حقائق من نظام التكوين، وبالتفاعل بين عالمي التكوين والتدوين (القرآن) تتفجّر معاني القرآن وتتوالد باستمرار.
على هذا، لا تعدّ النظرية العرفانية، في وجهها المعرفي هذا، حائلًا يصدّ عن الواقع، بل هي تدفع إلى اكتشاف أنظمته واستبدال القطيعة بالمُعايشة الدائبة الفاعلة، ذلك أنّ العارف بزمانه لا تهجُم عليه اللوابس.
5 ـ تتَّصف نظرية العرفاء بالرحابة الخصبة ليس في التعامل المعرفي مع القرآن وحده، بل ومع الآخر أيضاً. فالعارف لا يرفض الآخر بل يُصحّح له، لأنّ الواقع عنده متعدّد، على عكس الفقيه والمتكلّم والفيلسوف؛ إذ تختفي الرحابة بحكم الارتكاز إلى نظرية وحدة الواقع، وإن كان ابتناء الاجتهاد الفقهي على الحكم الظنّي وليس إصابة الحكم الواقعي يسمح بالتعدّد أيضاً، لكن في مضماره وحسب.
________________________________________
[الصفحة - 235]
6 ـ تعدّ هذه الرؤية التي تستند إلى حق الإنسان، في كل عصر، بإنتاج قراءاته وفاقاً للضوابط والأصول، أكثر صلة بفلسفة الدين الخاتم، وأقدر على تفسير ديمومة القرآن والتجاوب مع هاجس المعاصرة، وبخاصَّة أنّه لا دليل على أن المطلوب هو اجتماع الجميع على نظرية، أو قراءة، واحدة في فهم القرآن والتعاطي معه.
________________________________________