البحث في...
إسم البحث
الباحث
اسم المجلة
السنة
نص البحث
 أسلوب البحث
البحث عن اي من هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على كل هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على هذه الجملة

آليَّات قراءة النَّص الدِّيني

الباحث :  د. يحيى محمد
اسم المجلة :  مجلة المنهاج
العدد :  30
السنة :  السنة الثامنة صيف 1424هجـ 2003 م
تاريخ إضافة البحث :  February / 23 / 2015
عدد زيارات البحث :  1456

آليَّات قراءة النَّص الدِّيني

د. يحيى محمد (*)

مــدخـــــــل
لا بدَّ من التَّمييز بين عدد من المفاهيم التي لها علاقة بقراءة النَّص «الدِّيني» وفهمه، فلدينا ما يُطلق عليه: النَّص؛ والظَّاهر؛ والباطن؛ والتَّأويل؛ والتَّفسير، وما إلى ذلك. وقد اعتاد علماء التَّفسير والشَّريعة أن يتعاملوا مع نوعين من قراءة النَّص: أحدهما يعبِّر عن حمل النَّص على معناه البيّن أو الظَّاهر (1)، والآخر يطلقون عليه التَّأويل، وهو حمل النَّص على غير ظاهره، كما هو اصطلاح المتأخِّرين. وبالتالي لا توجد هناك آليَّة اءُخرى للقراءة غير هاتين الآليَّتين، وكذلك لا يوجد غير مستوىً واحدٍ من القراءة، وإنَّ هذه القراءة بوسعها أن تكون مستقلَّة ومفصولة مبدئياً عن التحديدات المعرفية القبلية.
والحال أن العلاقة بين المفاهيم السابقة تختلف، عندنا، إذ إنَّ هناك أكثر من آليَّتين، بل وأكثر من مستوىً للقراءة، وإن هذه القراءة لا يمكن فصلها عن التحديدات القبلية، وإن للنص ظهوراً آخر غير الظهور اللفظي المتعارف عليه، وإنه اعتماداً على الموقف من هذين الظهورين يتحدَّد نوع الآلية التي تُستخدم في القراءة.
ولأجل الكشف عن هذه الاءُمور نبدأ بتقسيم مستوى القراءة إلى مرحلتين، أو نوعين من الآليات كالآتي:
آليَّات المرحلة الأولى (الإشارة)
عندما يكون للنَّص ظاهر يفهم معناه، فهذا يعني ـ من وجهة نظرنا ـ أن هناك
________________________________________
(*)باحث في الفکر الإسلامي من العراق
(1)لدى علماء الأصول أن اللفظ إذا أتى بمعنى لا يُحتمل معه الخلاف فإنه يعبَّر عنه بالنص، وإذا أتى بمعنى يُحتمل معه الخلاف فإنه يُطلق عليه الظَّاهر، لكنا لا نفرق بين هذين النوعين من حيث كونهما يعودان إلى الظاهر، وذلك لاعتبارات معرفية سنذكرها في ما بعد.

[الصفحة - 91]


ثلاثة عناصر ضمنيَّة، بعضها يتقوَّم ويتأثر ببعضها الآخر، وتكون لها علاقة بصياغة هذا الظاهر وتحديده، ونطلق عليها التَّسميات الآتية: الظهور اللفظي؛ والسياق؛ والمجال. كذلك هناك عنصر رابع خارجي يخصّ المحدَّدات القبلية، أو ما نطلق عليه «القبلية المعرفية»، ويكون له دوره الفاعل في تحديد معنى ذلك الظاهر، وهو ما سنتعرف إليه في ما بعد. ونقصد بالقبليَّة المعرفية ما هو أعم من مفهوم «المعرفة القبلية»، ذلك أن المفهوم الأخير يراد به عادة: كلّ معرفة عقلية سابقة للحس والتجربة، أمَّا ما نقصده من المصطلح الآخر فهو كلّ معرفة تسبق قراءة النص، سواء كانت معرفة حسية أم عقلية أم غيرهما.
ولدى البيانيِّين والاءُصوليِّين أن الظُّهور اللفظي عبارة عن حمل اللفظ على الحقيقة، وعلامتها التبادر. والمقصود بالتبادر هو انسياب المعنى إلى الذهن مباشرة عند قراءة اللفظ أو سماعه. ولا شك في أن التبادر، في حمل اللفظ على الحقيقة، له أسباب قد تكون مختلفة بين شخص وآخر، وبعضها قد يكون أسباباً شخصية ذاتية وبعضها الآخر قد يكون أسباباً عامَّة، كما أن هذه الأخيرة قد تختلف رقعتها ودائرتها بين جماعة واءُخرى، وذلك تبعاً لما تكون عليه القبلية المعرفية، إضافة إلى أن من الأسباب ما له علاقة بالوضع الشرعي، لكن غالب الأمر هو أن التبادر يأتي بسبب كثرة استعمال اللفظ على المعنى المخصوص، والذي يتخذ إطاراً عرفياً، كما يرى ذلك البيانيون والاءُصوليون، وهم بذلك يقسمون الحقيقة اللفظية إلى: لغويَّة، وعرفيَّة، وشرعيَّة.
وهنا لا بدَّ من ملاحظة جملة اءُمور، في هذا الصدد، كالآتي:
أوَّلًا: إن ما يقال من أن الظُّهور اللفظي لا يكون إلّا عند حمل اللفظ على الحقيقة، وعلامتها التبادر؛ هو أمر غير صحيح. فهو لا يصدق إلّا على اللفظ المفرد أو المنعزل عن النص، أي ذلك الذي ليست له علاقة بسائر الألفاظ والعلاقات القائمة بينها. فلو اءُخذ اللفظ ضمن دائرة الألفاظ وسياقها، فإن كلًّا من الظهور وتبادر المعنى سوف لا يتوقَّف على ما للفظ من حقيقة، وبعبارة اءُخرى: إنَّه لا يوجد تلازم بين الحقيقة اللفظية وبين الظهور، وكذلك لا يوجد تلازم بينها وبين التبادر، حيث لا مانع من أن يعبِّر الظهور اللفظي عن المعنى المجازي بالتبادر. ذلك أنه قد تتدخل
________________________________________

[الصفحة - 92]


بعض القرائن القبلية المنفصلة بالعمل على صياغة المعنى اللفظي وتحديده، تبعاً لمنبِّهات القرائن اللفظية والسياقية. فبفعل التنبيه الذي يثيره مجرى سياق النص مع ما للألفاظ الاءُخرى من دلالات؛ قد ينساق الذِّهن مباشرة إلى حمل اللفظ على المجاز، فيصبح الظهور معبِّراً عن المعنى المجازي لا الحقيقي، وبالتالي فالحقيقة لا تساوق الظهور، أو أن أحدهما لا يدلّ على الآخر، فقد لا تعبِّر الحقيقة عن الظهور، وقد لا يعبِّر الظهور عن الحقيقة، مع أخذ اعتبار ما للقرائن المنفصلة ـ سواء كانت نقلية أم خارجية أم عقلية ـ من دور في تحديد الظهور اللفظي.
فمثلًا، في الآيتين القرآنيتين: {وَاسْألِ القَريَة التي كُنَّا فيها وَالعيرَ التي أقبلنا فيها} [يوسف/82]، {وَكَمْ قَصَمنا من قَريَةٍ كَانَتْ ظالِمَةً} [الأنبياء/11]، نجد للفظة «القرية» ظهوراً للمجاز كما ينبِّه عليه مجرى السياق، إذ لو حملناها على الحقيقة لكان من الصَّعب فهم ما تعنيه الآيتان، إذ كيف يمكن أن نسأل القرية، وهي ليست من الكائنات الحيَّة والعاقلة؟
لكن بفعل المخزون الذِّهني، من القبلية المعرفية المتمثلة بالضرورة الحسية، فإن ما يتبادر من المعنى مباشرة هو أهل القرية وليس القرية نفسها.
وعلى هذه الشاكلة يمكن أن نلاحظ الأمر نفسه في قوله تعالى: {فَوَجَدا فِيهَا جِدَاراً يُرِيدُ أن ينقضَّ فأقامَهُ} [الكهف/77]، إذ إن ظهور الآية لم يأت بحسب حمل جميع الألفاظ على الحقيقة والتي منها لفظ «يريد»، ذلك أن السِّياق، أو علاقات الألفاظ، تُظهر أن للجدار إرادة، وهو أمر لا يُعقل، كما تدل على ذلك الضرورة الحسية، لذلك فإن أوَّل ما يتبادر للذهن هو حمل معنى الإرادة في هذا السياق على المجاز. أو قل: إن تبادر الظهور في الآية، كما ينبه عليه السياق، هو حمل اللفظ على المعنى المجازي تبعاً للمخزون الذهني من الضرورة الحسِّية.
هكذا، فسواء في هذه الآية أم في ما قبلها، هناك تبادر للظهور في المعنى المجازي وليس الحقيقي.
ثانياً: إذا كان للسِّياق دور منبِّه في تبادر المعنى والظهور اللفظي، سواء بالنسبة للحقيقة أم للمجاز؛ فإنَّ له دوراً مماثلًا في تحديد المعنى الذي يخص الحقيقة
________________________________________

[الصفحة - 93]


بتجلِّياتها المختلفة. فالحقيقة اللَّفظية، التي يمكن الإشارة إليها بنحو حسي، مثلًا، يمكن الإشارة إليها بروح المعنى العام، الذي يشمل ما هو حسي وغير حسي. فقد يُحمل اللفظ ضمن سياق ما على اعتبارات الجانب الحسي لحقيقة اللفظ، كما قد يُحمل ضمن سياق آخر على جانب معنوي لتلك الحقيقة نفسها.
فمثلًا قد يتبادر لنا، في الكلام العادي، معنى الميزان بأنه هذا الميزان المحسوس، لكنَّا عندما نقرأ قوله تعالى: {وَنَضَعُ الموَازِينَ القسْطَ ليومِ القيامةِ فَلَا تُظلمُ نفسٌ شيئاً} [الأنبياء/47]، أو قوله: {وَأنْزَلنا مَعَهُمُ الكتابَ وَالمِيزَانَ ليقومَ الناسُ بالقسْطِ} [الحديد/25]، فإنه لا يتبادر لنا هذا الميزان ذو الكفَّتين، وإنَّما يتبادر شيء آخر، وذلك استناداً إلى السياق والألفاظ الاءُخرى، واعتماداً على ما هي عليه القبلية المعرفية. وبالتالي ليس للفظ حقيقة مشخَّصة واحدة، فحيث إن له علاقات وارتباطات بسائر الألفاظ؛ فإن ذلك يؤثر على جعله يكتسب المعنى المناسب، تبعاً لما تفضي إليه القبلية المعرفية، ما يعني أنه بفعل السياق والقبلية المعرفية يمكن تخصيص الظهور من المعنى المشترك العام للفظ. ففي مثالنا السابق يبدو أن الميزان المحسوس لا يختلف عن ذلك الميزان الذي تحدَّثت عنه الآيتان تمام الاختلاف، بل توجد بينهما وحدة معنوية مشتركة تجمع ما بين الطرفين، كالذي تحدثت عنه «نظرية المشاكلة» التي تعود إلى بعض العرفاء والإشراقيين من الفلاسفة (2). وهذا ما يجعلنا نتعامل مع الظهور اللفظي للحقيقة على مستويين، أو قل: إن ذلك يفرض علينا أن نتعامل مع الحقيقة اللفظية تبعاً لمعنيين: أحدهما عام لما يحمله من روح المعنى بلا خصوص، والآخر خاص لما يحمله من المعنى المشخِّص لذلك العموم.
ومن حيث التَّرتيب المنطقي لا بد من أن يستبق المعنى الأوَّل الثاني، ومن أن يتضمَّن الثاني الأوَّل، أي أن الحقيقة بالمعنى الخاص لا تكون كما هي عليه بهذا الوصف ما لم تكن في الوقت نفسه، بل وقبل ذلك، عبارة عن حقيقة عامة مشتركة، ففي البدء يُفترض ـ بحسب التجوّز المنطقي ـ أنها كانت حقيقة مشتركة ثم تشخَّصت بمعنىً محدَّد، وهي عند تشخُّصها تكون قد هيَّأت المجال باتجاه تفسير النص، وذلك على خلاف ما هي عليه قبل التَّشخيص.
________________________________________
(2)فصّلنا الحديث عن هذه النظرية غير المعروفة في الأوساط الحديثة، وذلك في كتاب لنا معد للطبع.

[الصفحة - 94]


فمثلًا، عندما نريد أن نعرف معنى اليد ضمن أحد النصوص المقروءة، ونشخِّصها بهذه اليد الجارحة؛ فإن ذلك يعني أنَّنا، من حيث الترتيب المنطقي، نفهم أن اليد عبارة عن عضو حيّ يُستخدم في المسك والصنع والتكوين، ولا يُستخدم في السمع والإبصار مثلًا، وفي حدود هذا المعنى الأخير، فإن فهمنا لليد إنما هو بمعناها العام المشترك، أي ذلك الذي لا يفيد في حد ذاته المعنى الخاص كهذه اليد الجارحة، لكن عندما نخطو خطوة اءُخرى فنشخّص معناها بهذه الجارحة أو بغيرها، وفاقاً لذلك المعنى المشترك؛ فإننا نكون، في واقع الأمر، قد هيَّأنا الأمر باتجاه تفسير النص الذي يكون أحد مضامينه اللفظية هذه اللفظة المبينة، علماً أنه قد يتّحد المعنيان من الناحية العملية، بحيث أن المتبادر لدينا يظهر بصورة المعنى الخاص من غير مرور بالمعنى العام، وذلك عندما يعبِّر التبادر عن الدرجة القوية من الوضوح تبعاً للسياق والقبلية المعرفية، مثلما يظهر ذلك نتيجة كثرة الاستعمال على المعنى. لكن في أحيان اءُخرى قد يتضح المعنى العام من دون الخاص، ويحتاج الوصول إلى هذا الأخير الكثير من الجهد في الاجتهاد والتحديد تبعاً لاعتبارات مضافة من القبلية المعرفية، ومن ذلك القبلية التي تتصف بالرؤى المنظومية، مثلما هي الحال مع التحديدات الوجودية في النظام الوجودي، كالذي تعرضه «نظرية المشاكلة».
ثالثاً: يمكن المقارنة بين الألفاظ والسياق، من حيث العلاقة بينهما على الصعيدين المعرفي والثبوتي؛ فمن الناحية الثبوتية نرى أن السياق ليس له أي ثبوت من غير الألفاظ، والعكس ليس صحيحاً، حيث قد تكون الألفاظ موجودة مستقلة ومنعزلة بلا أي سياق أو علاقات، لكنها لا تشكل نصَّاً، حيث إن ميزة النص بسياقه، وإن السياق هو تلك العلاقة القائمة بين الألفاظ، وبالتالي فإن تحديد وضع السياق يعتمد على ما هي عليه الألفاظ، فأيّ تغيُّر في هذه الألفاظ يبعث على تغيُّر السياق أو العلاقات. أما من الناحية المعرفية فإن المتكلِّم يضع ألفاظه في سياق خاص ليدلّ بها على ما يريد من مقصد، وبالتالي فإنَّه بالسِّياق يمكننا فهم ما يراد من الألفاظ إن كانت تُحمل على الحقيقة أو المجاز أو الرمز، وكذلك فإنَّ به يمكن حمل اللفظ بحسب ما هو مألوف من المعاني الحسية والوجدانية أو بحسب أبعاد اءُخرى معنوية مجردة، ولو أنَّه تغيَّر السِّياق لأفضى ذلك إلى تغيير المعنى، كأن يبدل اللفظ من
________________________________________

[الصفحة - 95]


محل إلى آخر، فحتى في الحالات التي يكون التغير في السياق، فيها، تغيُّراً طفيفاً فإنه قد يغيِّر شيئاً ما من المعنى؛ كالذي لاحظه علماء البلاغة، ومن ذلك الفارق بين القولين: «زيد كالأسد» و «كأن زيد الأسد»، فرغم أن كلا القولين دالٌّ على التشبيه، لكن في القول الثاني زيادة في المعنى على القول الأول، وهي أنه دال على فرط الشجاعة والقوة، وكأنه أسد في صورة إنسان.
رابعاً: قلنا: إن للسِّياق دوراً في تحديد المعنى الذي ينبغي اختياره للفظ إن كان بحسب المجاز أو الحقيقة. ويمكن تمثيل هذا الدور بمثابة العلة المادية أو الشرطية التي تهيى للعلة الفاعلية أن تقوم بدورها في التَّحديد والتعيين. وهنا نرى أنَّ ما يتمثَّل بهذه العلة الأخيرة هو القبلية المعرفية المتمثلة بالقرائن المنفصلة، حيث يتم بها انتقاء المعنى الذي يناسب السياق ويتَّسق معه، سواء كان هذا المعنى مأخوذاً بحسب الحقيقة أم مأخوذاً بحسب المجاز، بل إن مجرى السياق والألفاظ الاءُخرى قد تُبدي من الإيحاءات ما هو أكثر من ذلك في بعض الأحيان، وهو أنها قد تفتح باب الإشارة للمعنى الرمزي للفظ، وذلك بحمل المجال على المجاز وإغفال المجال بمعناه الحقيقي، كالذي يمارس في القصص الرمزية، مثل تلك التي يتداولها العرفاء.
لكن ما معنى المجال؟ وما علاقته باللفظ والنص؟
المقصود بالمجال «الظاهر» هو أن هناك نوعاً من الموضوعات المحدَّدة في الطرح يدركها كلّ من أراد قراءة النص، سواء استطاع تحديد القراءة أم لم يستطع، وسواء عمل وفاقاً للظّهور اللفظي للنص أم لم يعمل، وكذلك سواء احتمل نوعاً من القراءة أم توقَّف كلياً من دون إدراك ما هو المقصود من النص. فكل ذلك لا يخل بفعل إدراك المجال العام له، وهو أنه يتحدَّث عن موضوع ما بدلالاته المجملة اللفظية والسياقية. فمثلما تكون للنص دلالته اللفظية ضمن علاقاته السياقية، فإن له كذلك دلالته المجالية غير اللفظية. فهذه الدلالة غير اللفظية لها من الظهور ما هو غير الظهور اللفظي، بمعنى أن للنص ظهورين: لفظي ومجالي.
فمثلًا قد نتوقَّف إزاء ما يعنيه قوله تعالى: {الرَّحمنُ عَلَى العَرْشِ استَوَى}
________________________________________

[الصفحة - 96]


[طه/5]، فمع أنه قد لا نعلم بالضبط ما يُراد من هذا النص القرآني، لكنَّنا مع ذلك ندرك المجال الذي يتحدَّث عنه النص، فهو لا يتحدَّث عن الخبز والشعير، ولا عن الإنسان والحيوان، ولا عن طبيعة العلم والحياة، ولا عن القضايا المطروحة حالياً كالأصالة والمعاصرة وحقوق المرأة وشؤون السياسية والأوطان وغير ذلك.. إنَّه يتحدَّث عن نوع من العلاقة التي تربط الله، سبحانه وتعالى، بشيء اءُطلق عليه العرش، فهل هذه العلاقة هي كعلاقة الملوك بعروشهم؟ وهل أن العرش هنا هو الشيء نفسه الذي نتصوره من مفهوم جسمي؟ وهل معنى الاستواء هو ما نفهمه من الظاهر المتبادر في الذهن أو هو شيء آخر؟ وسواءً حدَّدنا نوع القراءة أم لم نحدد أي شيء من ذلك وتوقَّفنا كتوقف الإمام مالك أو أشد منه؛ فإن مجال النص والقراءة هو مجال حاضر لا يغيب، ولو لم يكن حاضراً لكُنّا قد استعنّا بمجالات اءُخرى كتلك التي افترضناها، وهي أبعد ما تكون عن أن يعنيها النص، كمجالات الخبز والشعير!
إذن إنَّ إدراك المجال لا يتوقَّف على فعل تحديد القراءة، فحتَّى لو كان هناك نوع من التحفُّظ عن إبداء أي نوع من القراءة المحتملة، فإن ذلك لا يشكل عقبة في إدراك المجال، طالما أمكن معرفة ما تدور عليه الأحداث اللغوية بالإجمال والعنوان العام، ما يعني أن شرط إدراك المجال هو معرفة مثل هذا العنوان، فلو لم يُدرك لكان النَّص معبِّراً عن الخفاء والغموض التام، مثلما هي الحال بخصوص قراءة الحروف المقطعة في أوائل سور النص القرآني، حيث إنها مبهمة المعنى إجمالًا وتفصيلًا، عنواناً وأحداثاً، وبالتالي فإن المجال فيها مبهم غير ظاهر.
من جانب آخر، سبق أن لاحظنا أن تحديد الظهور اللفظي يعتمد على السياق والقبلية المعرفية، لكن ماذا بشأن المجال؟ فهل هو الآخر يعتمد على ما ذكرنا أو أنَّ الأمر فيه مختلف؟
الجواب هو: إنَّ المجال، لمّا كان يستمد ظهوره ممَّا هي عليه الألفاظ وسياقها، أو أنه منتزع من ذلك كلّه على نحو الإجمال، فإنّه لا بد من أن يكون هو الآخر مستنداً إلى ما تبديه القبلية المعرفية تبعاً للممارسة اللغوية المألوفة أو المتعارف عليها. فالمجال يعبِّر عن المعنى المجمل للموضوع الذي يتم طرحه على بساط البحث من النص اللغوي، أو أنه عبارة عن ذلك الظهور في المعنى العام
________________________________________

[الصفحة - 97]


للموضوع الذي تناوله النص، وأن هذا الظهور العام يتشكل مما نفهمه من الإجمال الكلّي للألفاظ وسياقها، بحيث تتميز لدينا طبيعة الموضوع الذي يطرحه النص، وإن لم نتمكن من قراءته قراءة تفسيرية ولا إشارية، بل تكفينا في ذلك معرفة العنوان العام الذي تدور حوله الأحداث اللغوية للنص، وذلك شبيه بما يحصل من تبادر للمعنى المجالي عند النظر إلى عناوين الكتب والمقالات، حيث تنبئنا ـ غالباً ـ عن طبيعة الأحداث التي تتضمنها هذه الدراسات وإن لم نقرأها ونطلع عليها بعد.
ليس هذا فحسب، بل علينا ملاحظة أن الظهور المجالي هو ظهور يعبِّر عن الإدراك المجمل للكل، وهو الإدراك الذي يستبق إدراك الأجزاء، فمنه يبدأ تحديد مفاصل الأجزاء المتمثِّلة بالدَّلالات اللفظية. وهو بذلك أشبه بالصيغة «الجشطالتية»، التي يقوم فيها الكلّ على الأجزاء، والتي لا يساوي الكل فيها مجموع أجزاء وتختلف قوانينه عن قوانينها. وكذلك بخصوص المجال، فإنَّه لا يعبِّر عن مجموع الدلالات اللفظية، والظهور فيه ليس من الظهور اللفظي، وإدراكه يحصل بالتبادر المباشر، وهو سابق في ظهوره لظهور الدلالات اللفظية، بل إن حضوره شرط في تحديد هذه الدلالات.
خامساً: من ناحية اءُخرى، يمكن القول: كما أنَّ للفظ ظهوراً بحسب الحقيقة أو المجاز، فإن للمجال أيضاً ظهوراً بحسب الحقيقة أو المجاز، وإن علامة هذا الظهور هي التبادر في كلا الأمرين، فسواء كان التبادر يشير إلى المعنى المجالي الحقيقي كما تبديه ألفاظ النَّص وسياقها، أم كان يشير إلى المجال المجازي والرمزية الظاهرة على النص، ففي كلا الحالين نكون أمام ما نطلق عليه الظهور المجالي أو المجال الظاهر. فمثلًا، إنَّ للقصص الرمزية للعرفاء دلالات بادية للفظ والمجال، لكنَّها ليست مرادة بذاتها، وإنما ترمز إلى ما وراءها من المعاني الباطنية بحسب القبلية الوجودية، لذلك لها من هذه الناحية ظهور هو خلاف تلك الدلالات البادية، وهو ما نطلق عليه الظهور الرمزي والمجالي؛ فالرمزي، من حيث اعتبار اللفظ رمزاً لمعنى باطني، هو غير الدلالة البادية سواء كانت حقيقة أم مجازاً، والمجالي من حيث اعتبار المجال ليس ذلك المأخوذ من المعاني البادية للألفاظ، وإنما من ذلك المرموز إليه. ولا شك في أن لهذا النوع من المجال الظاهر هو على الضد من
________________________________________

[الصفحة - 98]


المجال الآخر الذي نطلق عليه المجال التأويلي أو الباطني، حيث إنه يقطع الصلة بين الدال والمدلول، ولا يجد ما يدلّ عليه بحسب القرائن الدلالية للنص وإيحاءاتها. وفيه يكون القارى متوجِّهاً نحو ربط كلّ شيء بأي شيء، وكلّ نص بأي نحو من الأنحاء من غير ظهور ولا ملازمة، فالدلالة النصّية في وادٍ، والمعنى الآخر في وادٍ آخر، وذلك كالذي لا يفهم من النصوص جميعاً سوى أنها ترمز إلى الخبز والشعير، فيرى في لفظة الدائرة ـ مثلًا ـ بأن لها معنى الخبز لكونه دائري الشكل، ويرى في لفظة الرمل أنها ترمز إلى الشعير باعتباره مكوَّناً من الحبيبات المنفصلة.. وذلك كلّه عبارة عن تحويل المجال واستبداله بمجال آخر باطني، وهو أمر شائع لدى الباطنية والعرفاء عند قراءتهم للنَّص الديني.
سادساً: لو عدنا إلى النَّص القرآني: {واسْألِ القَريةَ} ؛ يلاحظ أن القارى عادة ما يحمل المفردة الاءُولى، من المفردتين في هذا النص، على الحقيقة، وهي مفردة «واسأل»، في حين يحمل مفردة «القرية» على المجاز. لكن لماذا لا يكون العكس، أو حتى حمل الأمرين معاً على المجاز؟
والجواب هو: إنَّ تحديد هذه المعاني، بحسب المجاز أو الحقيقة والعلاقات الدائرة بين معاني المفردات؛ يتوقَّف كله على ما يتم اختياره للمعنى المناسب من قبل المركوز الذهني للقبلية المعرفية، وهو المعنى الذي تتوافر فيه صفات المعقولية وعدم التعقيد، وكذلك الاتساق الذي يخلو من التناقض والغموض، وذلك ضمن المجال نفسه الذي يبديه النص. فمثلًا لو أن إمكانات حمل مفردة «القرية» تتحدد بثلاثة، ومثلها حمل مفردة «واسأل»، وأن المزاوجة بين الأمرين تتخذ أصنافاً شتى هي تسعة، بحسب هذه الإمكانات، فإن من بين هذه الأصناف يمكن أن نجد بعضاً منها غير متَّسق ولا معقول، كما قد نجد منها ما يخرج عن المجال الذي يبديه النص، وقد نجد من المزاوجات الممكنة ما هو معقول ومتسق ويدخل ضمن المجال الظاهر العام. ولا شك في أن المعنى الأخير هو الذي سيتبادر إلى الذهن عادة، اتساقاً مع ما تشهده الضرورة الحسية.
ونقدِّم مثالًا آخر على ذلك ما جاء في قوله تعالى: {وَجَعَلْنا مِنَ المَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ} [الأنبياء/30]، حيث إنه لا يمكننا، في هذه الحالة، أن نحمل ما ورد في الآية
________________________________________

[الصفحة - 99]


على الحقيقة المشخّصة، بل نضطر إلى ترجيح أحد خيارات ثلاثة معقولة، منها خيار أن يقبل كلّ منها الحمل على المجاز أو التأويل، حيث إما أن يكون المجاز والتأويل يتعلق بالماء، فيكون المعنى أن الماء الذي خلق الله كلّ شيء حيّ منه، هو عنصر آخر غير هذا الماء الطبيعي، كأن يكون المقصود منه الوجود أو مرتبة عليا من المراتب الوجودية، حيث من المستبعد أن يكون الجن وكذلك الملائكة مخلوقين من هذا الماء الطبيعي. أو يكون المجاز والتأويل يتعلق بلفظة «كل شيء حيّ»، حيث تُحمل على جميع الأشياء الحية الطبيعية من دون غيرها من الكائنات الاءُخرى، كالجن والملائكة وما إليهما. كذلك هناك خيار ثالث، وهو حمل الماء على روح المعنى العام، ثم تشخيصه بغير المعنى الحسي، فهو ليس هذا الماء الطبيعي الذي به تقوم حياتنا، بل يمكن أن يُحمل على الماء الصوري الذي يسري في كلّ شيء سريان الماء أو الروح في الأجسام كالذي ذهب إليه بعض العرفاء (3)، ولا شك في أن هذه الخيارات جميعها مسوَّغة تبعاً للقبلية المعرفية كما هو واضح.
وفي الأحوال جميعها هناك عدد من العوامل المختلفة التي ترجِّح خيارنا لمعنى النص، مثل طبيعة السياق؛ ونوع الألفاظ؛ وما هي عليه القبليات المعرفية ومنها الضرورات الوجدانية، والتنمية الاحتمالية. وذلك كلّه يجري العمل به وفاقاً للمنطق اللاشعوري. فالآلية التي يعمل بها الذهن البشري هي آلية تعتمد ـ بحسب اللاشعور ـ على التصفية والانتقاء من الإمكانات الكثيرة المتعددة. وهي بهذا الفعل تميل في الغالب إلى الخيارات التي تتّصف بالمعقولية والاتساق، وذلك وفاقاً للضغوط اللاشعورية التي تمارسها خزائن القبلية المعرفية، وبخاصَّة تلك التي تتصف بالتنمية الاحتمالية. أو لنقل: إنَّ الآلية الذهنية تعتمد على النشاط الباطني التلقائي من هذه التنمية، وذلك عندما تجد نفسها أمام عدد مختلف من القرائن التي تلتف حول معنىً محدد من دون غيره من المعاني الاءُخرى.
ومن حيث أن هذا النشاط اللاشعوري هو نشاط مولِّد ومنطقي، لذلك نطلق على هذا النوع من النظام نظام التوليد المنطقي اللاشعوري، وصفة النِّظام فيه واضحة باعتبار ما يمتاز به من العمل الآلي المخطط والمنظم تبعاً للاءُصول المقرَّرة.
وإذا كان الكثير يتصوَّر أن النشاط اللاشعوري تغلب عليه الممارسات غير
________________________________________
(3)حيدر الآملي: جامع الأسرار ومنبع الأنوار، مع تصحيح ومقدمة كلّ من هنري كوربان وعثمان إسماعيل يحيى، طبع شركة انتشارات علمي وفرهنكي، إيران، طبعة ثانية 1368هـ، ص 59.

[الصفحة - 100]


المنطقية؛ فإن واقع الأمر هو العكس تماماً، ذلك أن أغلب نشاطه هو من النوع المنطقي، وإليه يعود الفضل في كون تفكيرنا وسلوكنا يتميَّزان عادة بطابع الاتساق (4).
وطبقاً لما سبق؛ لو أن القبلية المعرفية تتضمن قرائن عديدة تدل على أن النصوص الموضوعة لا يراد منها ما يراد من الألفاظ المستخدمة في المحاورات العادية، بل تدل على اءُمور أخرى لا تُستكشف بحسب التفاهم العرفي، فإن الذِّهن البشري سيلجأ حينها إلى حمل الألفاظ على دلالات اءُخرى لها من المجال المجاز ما هو غير المجال الحقيقي، أي أن ما يتبادر إلى الذهن بالظهور هو ذلك المجال المجازي، في حين يُستبعد المجال الحقيقي عن المعنى الظاهر، فتكون الألفاظ دالة بذلك على الطبيعة الرمزية.
وقد لجأ الفلاسفة والعرفاء إلى مثل هذا الفعل في قراءتهم للنَّص الديني، وذلك تبعاً للقرائن التي اعتمدوها ضمن قبلياتهم الوجودية، لكن الفارق ـ هنا ـ هو أن القرائن التي اعتمدوها هي قرائن خاصة بهم من دون غيرهم، أي أنه ليس لها ذلك العموم الذي يمكن أن يُعتمد عليه لدى كلّ من أراد قراءة النص خارج نطاق الخلفيات والمنظومات الفكرية المحدَّدة.
ولا شك في أن هذا الأمر نفسه سيحدث فيما لو كانت إيحاءات النص تلوح بقرائن عديدة إلى الرمزية والباطنية من دون المعاني المألوفة. إذ في هذه الحالة سيتبادر إلى الذهن المعنى الدال على الظهور الرمزي والمجال المجازي. وكذلك لو كانت القرائن المنفصلة المنقولة دالة على حمل الألفاظ على الرمز، والمجال على المجاز، فإن ذلك سيؤثر على قراءتنا للنص، حيث يمكن حمله على الرمز والمجال المجاز وفاقاً للقياس والتمثيل.
هكذا فإنَّ الذهن البشري يختزن من التجارب السابقة، ويستجمع القرائن القبلية مع ما يضاف إلى القرائن الحالية والمقامية؛ ليصبها جميعاً في إطار فهم النص، فهذه هي ملكة الذِّهن التي تستجمع ما أمكنها من الآليات المعرفية المناسبة في فهم ما يُراد من النص بحسب ألفاظه وسياقه، وعلى هذه الشاكلة يكون تعامل الذهن مع القضايا الكونيَّة.
________________________________________
(4)انظر، في هذا الصدد، كتابنا: دور اللاشعور في الحياة، مطبعة نمونة، قم 1985م.

[الصفحة - 101]


سابعاً: نخلص ممَّا سبق إلى أن هناك، إضافة إلى السياق، أربعة أنماط من الظهور اللفظي، مع نوعين من الظهور المجالي.
فالأنماط الأربعة للظُّهور اللفظي هي:
1 ـ نمط المعنى المشترك العام للحقيقة اللفظية، ونطلق عليه الظهور الحقيقي العام.
2 ـ نمط المعنى الخاص للحقيقة اللفظية، ونطلق عليه الظهور الحقيقي الخاص.
3 ـ نمط المجاز الظاهر، أو الظهور المجازي.
4 ـ نمط الرمز الظاهر، أو الظهور الرَّمزي.
أمَّا بغير ذلك، فإن اللَّفظ يؤخذ على نحو لا يفيد الظهور، بل إما أنه يفيد المجاز البعيد أو ما نطلق عليه التأويل، أو أنه يفيد الرمز البعيد أو ما نطلق عليه الباطن. أمَّا الظُّهور المجالي فهو عبارة عن كلّ من النوعين الحقيقي والمجازي، وما يخالف هذين النوعين نطلق عليه المجال الباطني.
أو لنقل: في النص لفظ، وسياق، ومجال. وإن اللفظ ينقسم في المعنى إلى ثلاثة أنواع هي: المعنى الظاهري، والتأويلي، والرمزي. وإن للمعنى الظاهري أربعة أنماط سبق عرضها. كما أن المجال ينقسم إلى ما هو مجال ظاهر، ومجال باطن، وإن الأول يتشعَّب إلى صنفين هما المجال الحقيقي، والمجال المجازي.
فهذه هي آليات المرحلة الاءُولى من قراءة النص، والتي نطلق عليها «الإشارة»، وهي تنقسم إلى ثلاث حالات، هي الإشارة الاستظهارية والتأويلية والاستبطانية أو الرمزية. وعلى هذه المرحلة تتأسس مرحلة اءُخرى نطلق عليها «التفسير»، ولتبيان ما هي عليه هذه المرحلة ومقارنتها بالإشارة لا بد من اتباع ما سيأتي من خطوات.
آليَّات المرحلة الثَّانية (التفسير)
قد نتساءل ونقول: ما هي شروط التفسير؟ أو متى يكون النَّص مفسَّراً؟ فمثلًا، هل يمكن أن نعدّ ما نحظى به من ظاهر النص هو نفسه التَّفسير، أو أن هذا الأخير
________________________________________

[الصفحة - 102]


أمر يختلف عن الظاهر؟ وماذا لو حملنا النَّص على التأويل أو الباطن والرمز؟ فهل ذلك من التفسير أو لا؟
للإجابة عن هذه الأسئلة وغيرها علينا متابعة النقاط الآتية:
أوَّلًا: سبق أن عرفنا أنَّ ظاهر النَّص يتضمَّن ظهورين: أحدهما الظهور اللفظي، والآخر الظهور المجالي، وقلنا: إن هناك أربعة أنماط للظهور اللفظي، أحدها يعبِّر عن روح المعنى العام للحقيقة اللفظية، وثانيها يعبِّر عن الحقيقية الخاصة، أما الثالث فهو عبارة عن الظهور المجازي، والرابع عبارة عن الظهور الرمزي. ولا شك في أن النَّمط الأوَّل لا يعطي تفسيراً بالمعنى الذي يوضح الكيفية التي يوجد عليها اللفظ وسط علاقته الخاصة ضمن السِّياق. فالظُّهور اللفظي، عندما يعبِّر عن روح المعنى العام، يخلو من التوضيح، فعلى الأقل هو يفتقر إلى تحديد المعنى المشخّص الذي من دونه لا تتوضح الكيفية التي يريد النص تبيانها عبر ما نطلق عليه التفسير؛ رغم كون المعنى في هذه المرحلة يعبِّر عن الحقيقة المفهومة تبعاً للسياق، وهي الحقيقة التي تدفع عنها الحمل على المجاز والرمز.
فمثلًا حينما نقول: إن لله يداً، ونزولًا، ومجيئاً، وغير ذلك من الصِّفات والأحوال الظاهرة في النص، لكن من غير تحديد لكيفية هذه الصفات المثبتة؛ فإن قولنا هذا يشير إلى ظاهر النص من دون تفسير، ومثل ذلك ما ورد عن الإمام مالك حول استواء العرش، حيث إنه حمل ألفاظ النص القرآني على حقيقتها الظاهرة، ولكن من غير إيضاح للكيفية أو التَّفسير، إذ إنه قال: «الاستواء معلوم، والكيف مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة». ومثله ما قاله أحمد ابن حنبل: «استوى كما أخبر لا كما يخطر للبشر».
والأمر كذلك عندما يكون الظُّهور اللفظي معبِّراً عن أحد الأنماط الأخرى، وهي حمل اللفظ على الحقيقة بمعناها الخاص، أو حمله على المجاز الظاهر، وكذلك الرمز الظاهر، فإنَّه لا يفضي بالضَّرورة إلى إيضاح الكيفية التفسيرية للنص، لكنَّه بلا شك يعدّ خطوة أساسية في هذا الاتجاه، وقد تتمثل فيه شروط التفسير التي تُستعلم بها الكيفية الاستبيانية للنَّص.
________________________________________

[الصفحة - 103]


فمثلًا، لو أننا قمنا بإثبات الصفات الإلهية المذكورة، وحملناها على معانيها الحقيقة الخاصة، كأن نعد لله اليد والعين والوجه وغيرها من الصفات، ونحملها على معنى ما لدينا من الأعضاء والجوارح، فإننا نكون قد خطونا بذلك خطوة التفسير للنصوص المتعلقة بهذه الصفات، وكذلك لو قلنا: إن معانيها مجردة، وحددنا هذه المعاني، كالذي لجأت إليه نظرية المشاكلة أو المعاينة أو غيرها، فإننا نكون قد مارسنا آلية التفسير بإيضاح الكيفية التي تكون عليها معاني ألفاظ النَّص.
فالتَّفسير يختصُّ بإيضاح هذه الكيفية من العلاقات اللفظية التي يتضمَّنها النَّص، فإن لم تكن الكيفية متخيَّلة لدى الإرادة التصويرية للذهن، فإن الأمر يخرج عن حدِّ التفسير، وإن دلّ على حمل اللفظ الظاهر على حقيقته أو على غير ذلك.
على أنَّ تبيان الكيفية التفسيرية يستند إلى حضور نوعين من العلاقات المتخيَّلة للارتباط اللفظي، نطلق على أحدهما العلاقة المفهومية، وعلى الآخر العلاقة المصداقية. فالعلاقة المفهومية هي تلك التي تعبِّر عن مفاهيم الألفاظ ومعانيها بالشكل الذي تكون فيه واضحة المعالم وبيِّنة المقاصد، وذلك بغض النَّظر عن طبيعة كيفيتها على الصعيد الخارجي، وقد تتمثل هذه العلاقة في الدلالات اللفظية الظاهرة، كما قد تتمايز عنها بأشكال مختلفة، إما لكونها تعبر عن حالات من المعاني المجازية أو الرمزية، أو لكونها لا تعبر عن ذلك، وإنما تعطي مزيداً من المعنى المضاف الذي يثيره ظاهر النص، كالذي سيمر بنا في بعض الأمثلة البلاغية. أما العلاقة المصداقية فتعبِّر عن طبيعة ما تدل عليه المعاني اللفظية من حيث الوجود الخارجي.
وعليه، فالتَّفسير لا غنى له عن إيضاح هاتين العلاقتين، فالحاجة التفسيرية إن هي إلّا حاجة لإيضاح طبيعة هاتين العلاقتين معاً. بل إن الحاجة الجوهرية في العملية التفسيرية تتمثل في إيضاح العلاقة المصداقية، ذلك لأن الغرض من قراءة النَّص هو الكشف عن الموضوع الخارجي، وما ضرورة العلاقة المفهومية إلا لكونها شرطاً لا غنى عنه في تلك العملية من الكشف، حيث لا تتوضح العلاقة المصداقية ما لم تنكشف قبلها العلاقة الاءُخرى، فهذه هي طبيعة التلازم بين العلاقتين في العملية التفسيرية، وهذه هي حاجتها.
________________________________________

[الصفحة - 104]


ومن الناحية العملية نصادف أشكالًا مختلفة لهذه الحاجة، فتارة تكون الحاجة إليهما معاً، وتارة اءُخرى تكون الحاجة لتفسير العلاقة المفهومية بما تعبِّر عن منطوق النص، وذلك لوضوح العلاقة الاءُخرى، وثالثة يحدث العكس، حيث تكون الحاجة لتفسير العلاقة المصداقية من دون المفهومية لبيانيتها، ورابعة قد تنتفي هذه الحاجة نظراً لوضوح النص في كشفه عن عناصره تبعاً لكلا العلاقتين، حيث تتحدان وتندمجان في المتخيَّل الذهني لظاهر النَّص من غير تمايز، وذلك للوضوح الناتج عما تمدنا به بعض القبليات المعرفية، وعلى رأسها الضرورات الحسية والوجدانية. لكن في أغلب الأحيان نجد أنفسنا في حاجة لإيضاح الكيفية وشرح ما يراد تبيانه من النص؛ سواء على صعيد المفهوم أم المصداق أم كليهما، وتبيان هذه الأنماط الأربعة يأتي كما يلي:
الحالة الاءُولى: في كثير من الأحيان، تتبادر إلى النفس كيفية العلاقتين: المفهومية والمصداقية وفاقاً للمتخيَّل الذهني من غير جهد مضاف إلى ما هو منطوق النص بعلاقاته اللفظية، وذلك نظراً للمخزون الذهني من القبلية المعرفية التي تعمل على تشكيل الصورة المتخيَّلة لطبيعة العلاقتين آنفتي الذكر، وبخاصَّة في ما يتعلق بالقبليات الحسية والوجدانية باعتبارها واضحة غير مجهولة المعالم، وفيها يبدو اتحاد بين العلاقتين: المفهومية والمصداقية، أو الظاهر والتفسير، كالذي يتبادر لدينا من متخيل للعلاقتين عندما نقرأ قوله تعالى: {فَجَاءتْهُ إحدَاهُمَا تَمشِي عَلَى استحياء}[القصص/25]، أو قوله تعالى: {وَإذْ قَالَ مُوسَى لقومِهِ إنّ الله يأمُرُكُم أنْ تَذْبَحُوا بَقَرةً} [البقرة/67]، أو قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الذينَ آمَنُوا اصبِرُوا وَصَابِرُوا} [آل عمران/200]. ففي مثل هذه الآيات تبدو العلاقتان: المفهومية والمصداقية متحدتان في المتخيَّل الذهني، وذلك على خلاف ما سنرى من أنَّهما تفترقان أحياناً، حيث قد تتبادر إلى الذهن إحداهما من دون الاءُخرى، أو أن إحداهما تفترق عن الاءُخرى ولا تتحد معها عند التبادر، الأمر الذي يستدعي الكشف عما تحتاجه أيٌّ منهما من الشَّرح والتَّفسير.
الحالة الثانية: في حالات معيَّنة، قد يكون ظاهر الدَّلالات اللفظية للنَّص منكشفاً لذهن القارى أو السامع، لكن هذا الظاهر لا يفي بسداد ما تتطلَّبه العلاقة
________________________________________

[الصفحة - 105]


المفهومية لدى المتخيَّل الذهني، بحيث يكون هناك شعور بأن الظاهر من تلك الدلالات يظل ناقصاً ما لم يدرك الغرض المضاف منها بحسب ذلك المتخيل. لذا يصبح من المعلوم، لدى الإرادة التصويرية أو الذهن، أن الدلالة النصيّة ترمي إلى شيء آخر غير الظاهر المحصل، وذلك استناداً إلى كلّ من الكناية والاستعارة والتمثيل. فمثلًا جاء في قوله تعالى: {قَالَ: رَبِّ إنِّي وَهَن العَظمُ مَنّي واشتَعَلَ الرَّأسُ شَيباً} [مريم/4]، إذ إنَّ الدَّلالة الظاهرة للمقطع الأخير من النص تعبر عن كثرة ما أصاب الرأس من الشيب، لكن غرض النص ليس هذا الظاهر، وإنما التعبير عن حالة كبر السن والشيخوخة، حيث إن من يصل إلى هذه المرحلة من العمر يبْيضّ رأسه شيباً. ويمثِّل البلاغيون على ذلك بأمثالٍ كقولهم عن الفتاة بأنها «نؤوم الضحى»، فالظاهر منكشف وهو وصف الفتاة بأنها تنام في وقت الضحى، لكن ما يريد المتكلم أن يوصله للسامع هو شيء آخر، أو أن السامع يفهم منه شيئاً آخر غير هذا الظاهر، وهو كون الفتاة مترفة مخدومة. وكذلك قولهم: «هو كثير الرماد» والمعنى أنه مضياف أو كثير الضيافة؛ إذ إنَّه لكثرة الضيافة يقوم بتجهيز الطَّعام، فيحرق الحطب، وتشتعل النَّار، وينصب القدور، فيكثر الرماد بذلك.
ومعلوم أن التفسير، هنا، ليس ظاهر الألفاظ نفسه، فلو توقف الأمر على هذا الظاهر من غير أن يكون هناك متخيل ذهني للعلاقة بين مضامين النص على صعيد المفهوم، أو ما يريد المتكلم توصيله من معنى وراء ذلك الظاهر، فإنه لا يعد تفسيراً بل مجرد فهم أو ظاهر وإشارة، بحيث لو قلت: هذا هو الظاهر، وهذه هي حقيقة اللفظ، لما قدَّم المعنى شيئاً بخصوص العلاقة المفهومية وتوضيحها كما يريد أن يبلغها المتكلم، ولا شك في أن ما يساعد على إيضاح هذه العلاقة هو القبلية المعرفية، وبخاصَّة تلك التي تتمثل بقرائن الواقع الحسي. أي كأننا، من خلال العلاقة المصداقية نتمكَّن من أن نكشف عن العلاقة المفهومية. إذن، إن حاجتنا العملية للتفسير هي الكشف عن هذه الأخيرة، فبعد هذا التشخيص تصبح العلاقة الاءُولى واضحة بفضل الضرورة الحسية، وذلك على خلاف ما سنراه في الحالة القادمة.
الحالة الثالثة: في بعض الأحيان، قد يكون النَّص واضحاً من حيث العلاقة
________________________________________

[الصفحة - 106]


المفهومية تبعاً للظهور اللفظي، فلا تكون هناك حاجة إلى الكشف عن بيان طبيعة العلاقة بين الألفاظ بما هي هي في مرحلتها المفهومية، لوضوحها، وإن كان المتخيل الذهني للعلاقة المصداقية للنص يحتاج إلى الكشف والإيضاح. وأقرب مثال على ذلك ما يتعلق بقوله تعالى: {وَمَا رَمَيتَ إذْ رَمَيتَ وَلكنّ الله رَمَى} [الأنفال/17]، فظاهر النَّص دال على أن الرمية التي كانت للنبي هي في الوقت نفسه منفيَّة عنه ومنسوبة لله، وهذا هو توضيح ما هي عليه العلاقة بين الألفاظ من حيث المفهوم الذي ينطق به النص، لكنه لا يكفي بشأن إيضاح الكيفية الخارجية أو المصداق، إذ ما معنى أن تكون الرمية المنسوبة إلى النبي هي في حقيقتها رمية لله لا للنبي؟ فالمعنى، بحسب المصداق، ليس واضحاً أو مفسراً، الأمر الذي يستدعي أن تكون هناك إضافة تفسيرية تشرح بها الكيفية التي عليها طبيعة المصداق الخارجي، ومن دون ذلك لا يكون النص نصاً مفسراً، إنما هو واقع تحت طي الإشارة والفهم الظاهر فحسب. ونحن، هنا، في تفسيرنا لهذه الإشارة والفهم الظاهر، لا غنى لنا عن الاستناد إلى القبلية المعرفية، ومن ذلك القبلية المؤسسة تبعاً للرؤى المنظومية، كتلك التي تتكى على نظرية وحدة الوجود، مثل الذي قام به ابن عربي في تفسيره لهذا النص، بأن عدَّ الصُّورة المحمدية نفسها عبارة عن صورة إلهية في أحد تعيُّنات الذَّات المقدَّسة الإلهية (5).
ومن الأمثلة الاءُخرى على هذه الحالة قوله تعالى: {وَتَرَى الجِبَالَ تَحسَبُها جَامدَةً وَهِيَ تمرُّ مَرَّ السَّحَابِ}[النمل/88]، فالعلاقة المفهومية واضحة تبعاً للظهور اللفظي، لكن العلاقة المصداقية تحتاج إلى الإيضاح، إذ كيف يمكن أن نتصور حركة الجبال التي شُبّهت بمرّ السحاب؟ فهل نتصوَّر ذلك بحسب القبلية العلمية التي تؤكد على حركة كلّ شيء طبيعي؟ وهل أن الحركة المقصودة داخلية بحسب الجزيئات والذرَّات والجسيمات البسيطة؟ أو أنَّ حركتها خارجية بحركة الأرض في الفضاء؟
ولا شك في أن هناك عدداً كبيراً من النُّصوص القرآنية التي يمكن اعتبارها واضحة المعنى من الناحية المفهومية، لكنها غير واضحة من الناحية المصداقية.
الحالة الرابعة: في حالات معيَّنة، قد لا يكون النص واضحاً من الناحيتين:
________________________________________
(5)الجندي: شرح الفصوص، ص 602. وأبو العلا عفيفي: فصوص الحكم والتعليقات عليه، دار إحياء الكتب العربية، 1365هـ/ 1946م، ج1، الفص الثاني والعشرون، ج1، ص 185. كما لاحظ: كشف الغايات في شرح ما اكتنفت عليه التجليات، لم يُعرف مؤلفه، تحقيق عثمان إسماعيل يحيى، مركز نشر دانشكاهي، طهران 1367هـ، ص 354.

[الصفحة - 107]


المفهومية والمصداقية، ما يجعل الحاجة إلى التفسير رهينة إيضاح كلا هاتين العلاقتين معاً، ومن ذلك ما جاء في قوله تعالى: {الُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالاءَرْضِ} [النور/35]، فما معنى وصف الله بالنُّور؟ وما هي كيفيته المصداقية؟ ومثل ذلك ما وصف الله نفسه به من الصفات كالمكر والغضب والحب والرضا والمجيء والاستواء.. الخ. فبعض العلماء لم يفسر العلاقة الأخيرة للنص، واكتفى بإيضاح العلاقة المفهومية، وذلك بأخذ هذه الصفات على حقيقتها الظاهرة ولكن من غير تكييف، أي من غير إيضاح للعلاقة المصداقية. وبعض آخر زاد على ذلك بتحقيق ما يتطلَّبه التفسير، فرأى أنها مأخوذة على حقيقتها الظاهرة وأن لها الكيفية الخاصة، كالكيفية الجسمية مثل الذي ذهب إليه الحشوية، أو الكيفية التجريدية «التشاكلية» كالذي ذهب إليه صدر المتألهين، أو الكيفية «العينية» كالذي ذهب إليه ابن عربي (6).
إذن يمكن القول: إن مستوى التفسير، بحسب الظاهر، له علاقة بمستويين للظهور اللفظي، ويمكن إدراج هذه المستويات الثلاثة كالآتي:
الأوَّل: مستوى الظُّهور اللفظي بمعناه الدال على الحقيقة العامة المشتركة، وهو لا يعد من التفسير بشيء، وإن كان يعبر عن حمل اللفظ على الحقيقة.
الثاني: مستوى الظهور اللفظي بمعناه الدال على المعنى الخاص، وهو مستوى يتجلى بنواح ثلاث: إحداها حمل اللفظ على الحقيقة الخاصة المشخصة، وذلك تعبيراً عن خصوص الحقيقة العامة المشتركة. وثانيتها حمل اللفظ على الظهور المجازي. وأخيراً حمل اللفظ على الظهور الرمزي. ويظل هذا المستوى هو الآخر لا يعبر عن المرحلة التفسيرية.
الثالث: مستوى تفسير النص، إذ إنه يعتمد على المستوى الثاني، وخاصيته تتمثَّل في أنه يعمل على إيضاح العلاقتين: المفهومية والمصداقية معاً، ومن حيث أنه قائم على المستوى الثاني وموضح له تبعاً لهاتين العلاقتين، فإنه يعبر بذلك عن فهم الفهم ومعنى المعنى.
ثانياً: يتبيَّن لنا أنَّ الأخذ بالظاهر لا يعني بالضَّرورة تفسيراً، وكذلك نقول: إن التفسير لا يقتضي الأخذ بالظاهر، فهناك ظاهر بلا تفسير، وكذلك تفسير بلا ظاهر،
________________________________________
(6)لقد فصّلنا الحديث عن النظريتين الوجوديتين: المشاكلة والعينية، إضافةً إلى نظرية التمثيل، في دراسة عن النظام الوجودي وفهمه للإسلام؛ وذلك في كتابنا المعد للطبع كما أشرنا من قبل.

[الصفحة - 108]


ما يعني أن العلاقة بينهما ليست لزومية، بل إن هذا الحكم يجري على ما تبقى من أنواع الإشارة؛ حيث أنَّه هناك علاقة لزومية تربط بين التفسير والتأويل، أو بينه وبين الباطن أو الرمز؛ إذ يمكن أن تتحقق لدينا الإشارة التأويلية أو الباطنية، وإن لم يثبت التفسير.
والتفسير، بهذا المعنى، له أنماط مختلفة، فعندما يتأسس على الظاهر نطلق عليه «التفسير الاستظهاري»، لكن عندما لا يرتبط بأي علاقة مع الظاهر، فإنه لا يخرج عن نمطين من العلاقة، فهو إما أن يكون متأسساً على التأويل، فنطلق عليه «التفسير التأويلي»، أو يكون متأسساً على الرمز، فنسميه «التفسير الاستبطاني».
وعلى العموم، لدينا مجموعتان: إحداهما تترتب على الاءُخرى من غير لزوم، حيث نطلق على الاءُولى «الإشارة»، وعلى ما يترتب عليها «التفسير»، والفارق بينهما هو أن الإشارة تتحدد بالكشف عن المعنى، لكن التفسير يبحث عن شرح المعنى، أو أنه عبارة عن معنى المعنى.
ومن حيث الإشارة، لدينا كلّ من استظهار النَّص وتأويله واستبطانه، فاستظهار النَّص هو ذلك الذي يحافظ على الظهور المجالي، وتكون فيه الدلالات اللفظية معلومة بالتبادر. وتأويل النص هو ذلك الذي يبتعد عن هذه الدلالات الظاهرة، وإن التزم بالظهور المجالي. أما استبطان النص فإنه على خلاف كلّ من الاستظهار والتأويل، إذ إنَّه يتَّصف بعدم الالتزام بكل من الظهورين: اللفظي والمجالي.
ومن حيث التَّفسير لدينا كلّ من التفسير الاستظهاري والتأويلي والاستبطاني. وخاصية الأول هي أنه يعتمد على الإشارة الظاهرية ليكشف عن الكيفية التي عليها العلاقتان: المفهومية والمصداقية، كالذي مرَّ بنا تباينه. وكذلك أن خاصية التفسير التأويلي هي أنَّها تعتمد على الإشارة التأويلية بالكشف عن طبيعة العلاقتين: المفهومية والمصداقية للمعنى، فقد يكون التأويل محض إشارة من غير تفسير، وذلك عندما يكون هناك نفي للظهور اللفظي وحمله على التأويل من غير أن تُتاح فيه كلّ من العلاقتين: المفهومية والمصداقية. فمثلًا إن إبعاد المعنى الظاهر للألفاظ الخاصة بالصِّفات الإلهية وتأويلها، ولو من غير تعيين، أو بتعيين المعنى، ولكن من
________________________________________

[الصفحة - 109]


غير إيضاح كلّ من العلاقتين: المفهومية والمصداقية، فإن ذلك لا يعد من التفسير المكتمل للنص. فنحن هنا نواجه الحال نفسها التي سبقت مواجهتها مع حالات الحاجة التفسيرية عند الاستظهار. ومن ذلك أن العلماء حينما حملوا آية استواء الرحمن على العرش، على خلاف الظاهر، وهو قولهم بأن ذلك يعني استيلاء الرحمن وغلبته على العرش، مثلًا، فإنهم على الأقل لم يكشفوا عن كيفية العلاقتين: المفهومية والمصداقية لهذا المعنى. فمن حيث العلاقة المفهومية يتبيَّن أن الله له الغلبة والاستيلاء على كلّ شيء، فما جدوى هذا التخصيص بالعرش؟ وكذا لو قيل: إن معنى الاستيلاء جاء ليدلّ على الملكية، وهو أن العرب يقولون: استوى فلان على البلد بمعنى أنه قد استملكه، فإن ذلك أيضاً لا يكفي تعبيراً عن الدلالة المفهومية من حيث تصورنا القبلي عن مالك الوجود الذي يملك كلّ شيء أوَّلًا وآخراً. أما من حيث العلاقة المصداقية، فيمكن القول: ما معنى هذه العملية الاستيلائية أو التَّملُّكية للعرش؟ وبذلك نرى أنَّ المفسرين الذين ذهبوا إلى هذا المعنى أنَّهم إنَّما حملوا النص على التأويل، ولكن من غير تفسير مكتمل (7).
أما خاصيَّة التفسير الاستبطاني فتعتمد على الإشارة الرمزية، لتوضح من خلالها طبيعة العلاقتين: المفهومية والمصداقية للمرموز إليه. فلو توقَّفت الحال على الإشارة الرمزية من دون إيضاح الكيفية التي تخص هاتين العلاقتين؛ فإن ذلك لا يعد من التفسير، رغم تأديتها للفعل الاستبطاني، وذلك بالاستبعاد الحاصل لكلّ من الظهورين اللفظي والمجالي. فمثلًا، ليس من التفسير في شيء إذا توقَّفت الحال على اعتبار شجرة آدم وقصته ترمزان إلى اءُمور ليس لنا من العلم بها سوى أنها خلاف ظاهر ألفاظ القصة ومجالها. وكذلك ليس من التفسير في شيء لو حددنا معنى الشجرة كرمز يشير إلى قضية اءُخرى أجنبية، لكن من غير توضيح للعلاقة المفهومية لهذا المعنى بسائر المعاني الرمزية المستخلصة من القصة، ومثل ذلك فيما لو كشف عن هذه المعاني، ولكن من دون إيضاح الكيفية المصداقية لها. ففي هذه الأحوال جميعها لا يمكن أن نعدّ ذلك من التفسير المكتمل. فالتفسير الاستبطاني للنص يشترط أن يكشف عن العلاقة المفهومية للمعاني التي يستخلصها من خلال الرموز اللفظية مع تبيان ما عليه حقيقتها المصداقية.
________________________________________
(7)انظر مثلًا: الزمخشري، تفسير الكشاف، مكتب الإعلام الإسلامي، قم، الطبعة الأولى 1416هـ، ج3، ص 52. والفخر الرازي: التفسير الكبير، دار إحياء التراث العربي، بيروت، الطبعة الثالثة، ج22، ص 7.

[الصفحة - 110]


فمثلًا، إنّ لابن عربي تصوُّراً رمزياً لقصَّة يوسف، يرى أن المقصود بيوسف من حيث الباطن هو النفس المؤمنة، وأنَّ أباه يعقوب هو العقل، وإخوته هم النفس الأمّارة واللوامة، وأن امرأة العزيز هي النفس الكلية وهكذا.. فهو تبعاً لهذه الإشارات المفهومية يذكر أن الله تعالى، لما أراد من النفس المؤمنة أن تسافر إليه، اشتراها من إخوتها الأمّارة واللوامة بثمن بخس، وحال بينها وبين أبيها العقل، فبقي هذا العقل حزيناً لا تفتر له دمعة، وذلك بعد أن كان يتنزّه في الحضرة الإلهية بوجود هذه النفس، فلما حصلت الحيلولة بينهما أصابته الظلمة في بصره من الحزن، وهكذا (8).. فهذه التصورات الرمزية تدل على إبراز جملة من العلاقات المفهومية، أمّا العلاقة المصداقية فهي عبارة عن مصاديق الرؤية العرفانية التي تشرح طبيعة العلاقة التراتبية بين العقول والنفوس وتسخير بعضها لبعضها الآخر.
ثالثاً: وللتَّمثيل على المقارنة بين الآليَّات الست المختلفة للإشارة والتفسير، نرى أنَّه لو قلنا: إن لله يداً، لكنها غير معلومة الكيفية، فكلامنا هذا يعبر عن حقيقة اللفظ وظاهر النص، وإن لم نعيّن تفسيره بالتَّحديد إن كانت هذه اليد جارحة كأيدينا مثلًا، أو غير ذلك. فهو بالتالي عبارة عن مجرد إشارة ظاهرية فحسب. ولو قلنا: إن هذه اليد معلومة وموضحة، كأن ندَّعي أنها كأيدينا أو هي عين هذه الأيدي، أو أنها أيدٍ بالمعنى المجرد، فإن ذلك يدخل في التفسير، ولا يقتصر على مجرد الأخذ بالظاهر، وهو ما نطلق عليه التفسير الاستظهاري. ولو قلنا: إن يد الله ليست مرادة على ظاهر اللفظ، لكن لا نعلم تفسيرها ضمن سياق النص، أو أننا نعيّن معناها، ولكن مفهوم النص الذي يتضمنها غير مكتمل المعنى والتوضيح، أو لاعتبارات تتعلق بعدم وضوح ما هو النص عليه من الناحية المصداقية..، فإن ذلك كلّه يكون تأويلًا من حيث الإشارة لا التفسير. ولو قلنا: إننا نعلم المراد كمفهوم، ونتخيَّل المصداق عبر المعنى المؤوّل، كأن يكون المراد عبارة عن القدرة أو النعمة أو غير ذلك تبعاً لما هو عليه مجال النص، فإن الأمر يصبح تفسيراً بحسب التأويل. ولو قلنا: إن يد الله ليست مرادة بحسب الظاهر، وأنها ترمز إلى أمر آخر غير مرتبط بالمجال الذي وردت فيه الكلمة، وإن كنّا لا نعلم تحديد معنى هذه الكلمة ومجالها، أو كنّا نعلم ذلك، لكن من غير إيضاح لكلا العلاقتين: المفهومية والمصداقية، فإن الأمر يكون عبارة
________________________________________
(8)ابن عربي، كتاب الأسفار، ضمن رسائل ابن عربي، ج1، جمعية دائرة المعارف العثمانية بحيدر آباد الدكن، الطبعة الأولى 1948، ص 42.

[الصفحة - 111]


عن مجرد إشارة رمزية من غير تفسير. ولو قلنا: إننا نعلم بتحديد المعنى مفهوماً ومصداقاً، كأن نفسِّر اليد بمعنى العقل الأول وما شاكل هذا المعنى، ونوضح ما يرتبط بذلك من العلاقات، فإن الأمر يصبح تفسيراً بحسب الباطن.
رابعاً: تبعاً للتَّقسيم آنف الذكر بين المجموعتين، فإنه لا تلازم بينهما من حيث الرد والقبول، فقد يكون المعنى المحدَّد بحسب الإشارة متفقاً عليه من حيث القبول، أما التفسير فهو موضع الخلاف، أي ليس كلّ ما يقبل من حيث الإشارة يُقبل تفسيره، وذلك كلّه يعود إلى اختلاف ما هي عليه القبليات، خصوصاً تلك التي تعود إلى الأنظمة المعرفية كالذي سيأتينا بيانه.
خامساً: إنَّ مصاديق كلّ من آليات الإشارة والتفسير الثلاثة، تتفاوت في ما بينها قوة وضعفاً تبعاً لاعتبارات كل من الظهور اللفظي، والحالة التي تكون عليها سيكولوجية القارى واعتباراته القبلية. فقد تتفاوت حالات الاستظهار من نص إلى آخر لدى القارى، كما قد يتفاوت استظهار النص الواحد من قارى إلى آخر، بحيث يكون هناك ما هو أكثر أو أقل استظهاراً مقارنة مع الآخر. وتنطبق الحال نفسها بخصوص الآليتين الاءُخريين؛ حيث قد يكون هناك من التَّأويل، وكذلك الاستبطان، ما هو أكثر تأويلًا واستبطاناً بالنسبة إلى الآخر، سواء كان هذا الآخر عبارة عن النظير من النصوص أم النظير من القرَّاء. بل قد تكون هناك حدود وسطى بين الآليات الثلاث، ومن ذلك ما أطلقنا عليه المجاز الظاهر، حيث إنه لا يخلو من التأويل القريب، لكنه يعبِّر في الوقت نفسه عن حالة من حالات الظاهر بدلالة ما يحصل من التبادر، وذلك بفعل القرائن المنفصلة المركوزة في الذهن. وبالتالي فنحن هنا أمام حالة مزدوجة تجمع بين التأويل والاستظهار، حيث يمكن عدها من الاستظهار بفعل القرائن المركوزة في الذهن، كما يمكن عدها من التأويل بفعل ما فيها من المجاز اللفظي.
ومن الأمثلة على ذلك قوله تعالى: {إنَّكَ مَيِّتٌ وإنَّهُمْ مَيِّتونَ} [الزمر/30]، فإننا لو عزلنا هذا النص عن أي قرينة منفصلة، كالقرينة الخارجية الحسية؛ لكُنّا قد استظهرنا من النص بأنه دالّ على موت النبي والآخرين موتاً حقيقياً وقت نزول
________________________________________

[الصفحة - 112]


الخطاب. فالظاهر دالّ على أنهم ميّتون حقيقة، لكن بفعل القرينة والضرورة الحسية يتبين أن الأمر ليس كما يبدو في حالة عزل النص عن الحس والواقع، حيث يظهر تبادر المعنى بحسب ما يتم توجيهه من قبل تلك القبلية المعرفية، ومنه نعلم أن ظاهر النص دالّ على معنى كون النبي والآخرون سيموتون لا محالة، لا أنهم ميّتون فعلًا. ومثل هذا التوجيه، أو التأويل القريب، ليس كالتأويل البعيد الذي يبتعد عن سياق النص وحقيقة ألفاظه ابتعاداً كبيراً.
ولا شك في أن هذه الحال تنطبق أيضاً على قوله تعالى: {واسْاءَلِ القَريَةَ} ، حيث يفهم القارى مباشرة، وبحسب ما لديه من المخزون الذهني للقبلية الحسية، أن المقصود بذلك هو أهل القرية. وكذا قوله تعالى: {فَوَجَدا فيهَا جِدَاراً يُريدُ أن ينقضَّ فَأقامَهُ} ، حيث يتبادر إلى فهم القارى، تبعاً للقرائن القبلية المتمثلة بالحس، أن المقصود من الإرادة في النص هو الميل، وليس تلك الصفة الحيوية التي تطلق على الإنسان وغيره من الأحياء.
وهناك عدد كبير من النُّصوص مشابهة وتقترب فيها مجازية النص من فعل الظهور العائد إلى الحقيقة. لكن هناك ما هو أقل من ذلك ظهوراً وإن لم يبتعد كثيراً عنه. ومن ذلك ما جاء في تأويل قوله تعالى: {يُخرِجُ الحَيَّ مِنَ الميِّتِ وَيُخرِجُ الميِّتَ منَ الحَيِّ} [الروم/19]، حيث قيل فيه: إن معناه هو إخراج المؤمن من الكافر، والكافر من المؤمن، وكذا العالم الفطن من الجاهل البليد، وهذا الجاهل من العالم (9).
كذلك هناك ما هو بعيد عن الظهور اللفظي، مثل الكثير من معاني الفهم التي وضعها كلّ من المعتزلة والأشاعرة إزاء النصوص الدينية، كما يتبيَّن ذلك في الموقف من النُّصوص القرآنية الخاصة بمسألة القضاء والقدر؛ إذ قامت المعتزلة، ومن على شاكلتها، بتأويل ظواهر الآيات الدالة على التدخل الإلهي في إضلال العباد، والختم على قلوبهم (10)، وعلى الضد لجأ الأشاعرة إلى تأويل ظواهر الآيات الدالة على نسبة الأعمال إلى العباد (11).
وأخيراً، فإن هناك ما هو أكثر بعداً وإيغالًا في التأويل، بحيث يصل إلى درجة
________________________________________
(9)الماوردي: النكت والعيون، دار الكتب العلمية ومؤسسة الكتب الثقافية، بيروت، ج4، ص 304 و305. كما لاحظ: التفسير الكبير، ج5، ص 107. القرطبي: الجامع لأحكام القرآن، مؤسسة التاريخ العربي، بيروت 1405هـ/ 1985م، ج4، ص 56.
(10)انظر مثلًا: عبد الجبار الهمداني: تنزيه القرآن عن المطاعن. ومتشابه القرآن، ورسائل الشريف المرتضى، ج2.
(11)انظر مثلًا: الباقلاني، التمهيد.

[الصفحة - 113]


التحريف، كما تدلّ على ذلك الكثير من الممارسات التي قام بها الفلاسفة والعرفاء تبعاً لقبلياتهم الوجودية. فمثلًا على ذلك، ما قام به ابن عربي في تأويله للنصوص التي تخص المصير الذي صار إليه فرعون، حيث أظهره من الناجين من العذاب والنار (12). وكذلك ما قام به صدر المتألهين في تأويله للآية: {ذَلكِ بأنَّهُ كَانَتْ تأتيهِمْ رُسُلُهُم بالبيِّناتِ فَقَالُوا أبَشَرٌ يَهدُونَنَا فَكَفَرُوا وَتَوَلَّوا}[التغابن/6]، حيث قلب حقيقة الظاهر فيها، ورأى أنَّها تعني أنَّ الله قد حكم بكفر من عدَّ النبي ذا حقيقة بشرية، وذلك على خلاف الظهور اللفظي للآية وسائر الآيات (13). ومثل ذلك ما قام به حيدر الآملي، والقيصري من تأويل آية الأمانة: {إنَّا عَرَضْنا الأمانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَالجِبَالِ فَأبْينَ أن يَحمِلنَهَا وَأشفَقْنَ مِنها وَحَمَلَها الإنسانُ إنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولًا} [الأحزاب/72]، ذلك أن الآملي رأى أن ما ورد في الآية من وصف الإنسان بالظلم والجهل لا يعدّ ذمّاً، بل هو مدح لا يفوقه مدح آخر (14). وقبله كان القيصري يرى أن معنى الآية هو أن الإنسان ظلوم لنفسه، مميت إياها بإفناء ذاته في ذات الله تعالى، وأنه جهول لغيره بحيث أنه ينسى كلّ ما سوى الحق، وينفي ما عداه بقوله: «لا إله إلا الله» (15).
إذن هناك تفاوت في الظهور والتأويل، وهناك حالات وسطى للآليتين السابقتين. وكذلك يمكن أن ينطبق الأمر على الآلية الرمزية، كما يدلّ عليه ما سبق إيراده في خصوص المجال المجازي.
سادساً: ننتهي ممَّا سبق إلى أن الآليات الثلاث: «الاستظهارية، والتأويلية، والاستبطانية» لا تتحقق إلّا بحسب عدد من الشروط، وهي تنحصر في الموقف من عاملين هما: الظهور اللفظي والمجال. فبهذين العاملين يتحقق التمايز بين تلك الآليات الثلاث، حيث تتحدد ماهية كلّ منها وفق شكل العلاقة مع العاملين، كالذي نبيِّنه في ما يأتي:
1 ـ الآلية الاستظهارية: يشترط، في هذه الآلية، أنها تحقِّق العمل تبعاً لمحورين أساسيَّين: أحدهما أنها لا تخرج في قراءتها عن الظهور المجالي للنص، وبالتالي يفترض أنها لا تحوله من هذا المجال إلى مجال آخر مختلف. أما المحور الآخر فهو أنها تقيم قراءتها وفاقاً للظُّهور اللفظي للنص، وذلك بغض النظر عن ماهية
________________________________________
(12)أوردنا ذلك مع الكثير من النصوص التي قام بتأويلها ابن عربي وغيره من الفلاسفة والعرفاء في كتابنا المشار إليه: النظام الوجودي وفهم الإسلام.
(13)صدر المتألهين، أسرار الآيات، مقدمة وتصحيح محمد خواجوي، انتشارات أنجمن إسلامي حكمت وفلسفة إيران، 1402هـ، ص 143 و144.
(14)جامع الأسرار ومنبع الأنوار، ص 21.
(15)داود بن محمود القيصري، مطلع خصوص الكلم في معاني فصوص الحكم، منشورات أنوار الهدى، الطبعة الأولى 1416هـ، ج1، ص 165.

[الصفحة - 114]

 
فروع المركز

فروع المركز

للمركز الإسلامي للدراسات الإستراتيجية ثلاثة فروع في ثلاثة بلدان
  • العنوان

  • البريد الإلكتروني

  • الهاتف