البحث في...
إسم البحث
الباحث
اسم المجلة
السنة
نص البحث
 أسلوب البحث
البحث عن اي من هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على كل هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على هذه الجملة

ما يُعِدُ به مشروع الحوار بين الثقافات والحضارات

الباحث :  أ محمد دكير
اسم المجلة :  مجلة المنهاج
العدد :  21
السنة :  السنة السادسة ربيع 1422 هجـ 2001 م
تاريخ إضافة البحث :  February / 8 / 2015
عدد زيارات البحث :  1581

ما يُعِدُ به مشروع الحوار بين الثقافات والحضارات

أ. محمد دكير (*)

«إقامة نظام عالمي جديد، في الألفيَّة القادمة، على أساس من الإيمان والقيم المعنوية والأخلاقية المشتركة بين الحضارات المعاصرة..»
السيد محمد خاتمي
الحضارة الغربية وتهافت وهم العالميَّة
«أتقدَّم، هنا، باسم الجمهورية الإسلامية الإيرانية باقتراح كأول خطوة للأمم المتَّحدة في القرن القادم بأن يُسمَّى عام 2001م عام الحوار بين الحضارات، على أمل أن يكون هذا الحوار خطوة أولى لتحقيق العدالة والحرِّية في العالم...».
بهذه الكلمات، ومن على منبر الجمعية العامَّة للأمم المتحدة، سنة 1998م، أعلن الرئيس السَّيد محمد خاتمي مبادرته لإطلاق الحوار العالمي بين الثقافات والحضارات، من أجل إعادة النَّظر في طبيعة العلاقات الدَّولية لتخفيف التَّوترات الناجمة عن اتساع الهوَّة بين العالم الغربي المتقدِّم صناعياً وبين دول العالم الثالث التي تفاقمت فيها المشكلات السياسية والاقتصادية، ولم يعد أمامها من حلٍّ سوى إعادة النظر في علاقات الاستتباع للمركزية الغربية التي نهبت ثرواتها الاقتصادية، وهي الآن في طريقها للقضاء على آخر حصون ممانعتها الاقتصادية والثقافية عبر عولمة غربيَّة جشعة لا يهمُّها سوى تراكم رأس المال بين يدي الشركات الغربية (الأمريكية الأوروبية) العابرة للقارات والقوميات، ما يزيد الغرب قوَّة وتطوُّراً، ويعمِّق الهوَّة بينه وبين دول الهامش الغارقة في بحور التخلُّف والأزمات الاقتصادية والسياسية والفكرية والحضارية بشكل عام.
________________________________________
(*) باحث من المغرب

[الصفحة - 323]


هذه المفارقات المجحفة بحقِّ دول الجنوب، أو العالم الثالث، تسبَّبت في تأزُّم الوضع الدَّولي على جميع المستويات، وقد انعكس هذا الوضع المأزوم على العلاقات بين دول المحور المتقدِّم والمهيمن ودول الأطراف المتخلِّفة، ما ساعد على ظهور ردود فعل متباينة، منها ما ينحو باتجاه رفض الهيمنة والاستتباع الغربي ويدعو إلى علاقات سياسية واقتصادية أكثر توازناً وعدلًا تضمن لشعوب العالم الثالث قدراً محترماً من التنمية للاستفادة من ثرواتها الطبيعية ولمعالجة مشكلاتها المزمنة، وأخرى ترى أن الخروج من مأزق التخلُّف الذي تتخبط فيه دول العالم الثالث لا مخرج منه إلا بإحداث قطيعة مع الأنموذج الحضاري الغربي برمَّته والبحث عن بديل حضاري يكون أكثر انسجاماً مع القيم المحلِّية ويحقِّق التنمية المنشودة، كما يحرِّر هذه الدول من علاقات الاستتباع التي ليست سوى مظهرٍ جديد من مظاهر الإمبريالية الغربية.
من هنا فالتَّرحيب العالمي الذي لقيه مقترح الرئيس السيِّد خاتمي إنما يدلِّل كما يقول: «على مواكبته لمقتضيات التَّطوُّرات الحاصلة على الصعيد الدَّولي والمتعارضة، أساساً، مع النظام الدولي التقليدي المتصلِّب بانتهاء الحرب الباردة، والتطوُّر الحاصل في مجالات الاتصال والدور الدَّولي للمؤسَّسات المستقلة غير الحكومية ومجيء أجيال جديدة متطلِّعة لعالم أكثر إنسانية بعد الحربين العالميتين والحرب الباردة...».
هذه المعطيات الجديدة على الصَّعيد الدَّولي سارت في اتجاهين متعاكسين، فالوضع المتأزِّم للعالم الثالث دفع بدوله إلى المطالبة بإيجاد حلول جذرية ستكون بالضرورة على حساب تقليص حجم الهيمنة الغربية، وهذا ما جعل نواقيس الخطر تدق أجراسها في العواصم الغربية، خصوصاً وأن هذه المطالبة بإيجاد الحلول واكبتها دعوات لرفض قيم الحضارة الغربية وضرورة بعث القيم الحضارية المحلية الأكثر التصاقاً باللُّغة والدِّين.
وهذا تطوُّر خطير في مسيرة العلاقة بين الغرب (المحور) وباقي دول العالم خلال هذا القرن، انطلقت من الكفاح من أجل الاستقلال والتحرُّر السياسي لتخوض
________________________________________

[الصفحة - 324]


كفاحاً مريراً من أجل الاستقلال الاقتصادي، لكنها وفجأة مع ظاهرة العولمة الغربية وجدت نفسها تفقد جميع المكاسب التي كافحت من أجلها خلال نصف قرن أو أكثر، عولمة تعمل على «تسليع ثروات الشعوب الثقافية والمادية» كما يقول غريغوار مرشد (1)، لقد تحوَّل العالم الثالث، أو عالم الجنوب، بعد قرون من النَّهب والسلب والاستعمار ومحاولات الاستتباع السياسي والاقتصادي «إلى دول مرتهنة علمياً وفكرياً واقتصادياً وثقافياً وسياسياً للمركزية الرأسمالية الغربية» (2).
وهاهي العولمة، أو الإمبريالية الجديدة، تخترق ما تبقَّى من حدود الخصوصيات الثقافية والمحلِّية لتبدأ بالتهام ما تبقَّى من عناصر الممانعة لدى دول العالم الثالث. كما ضاعفت مشكلاته وعمَّقتها، ودفعت بها إلى أقصى درجات التأزُّم والانفجار، وهذا ما جعل الغرب في الوقت نفسه لا يهنأ طويلًا بابتهاجه بعالميته؛ حيث انتهى التاريخ كما يقول منظِّروه ورست سفينة الإنسانية على شواطىء الليبرالية الديمقراطية، لأنَّ العالم الثالث بدأ يكتشف على نطاق واسع أن المصالح الغربية (السياسية والاقتصادية) تحول دون تمثل قيم الحضارة الغربية التي يراد لها أن تكون عالمية. بالإضافة إلى النتائج الكارثية للتغريب الذي خلق مجتمعات وكيانات اجتماعية وثقافية ممزقة ومشوَّهة الهوية، وهي أزمة خطيرة تضاف إلى جملة الأزمات، التي يتخبَّط فيها هذا العالم.
إذن هناك ثلاثة مظاهر عامّة للأزمة في العالم الثالث: مشكلات اقتصادية زادتها وصفات المؤسَّسات المالية الغربية وخططها وبرامجها عمقاً واستفحالًا، وهناك أزمة سياسية متشعبة الأبعاد تختزن طاقة مدمِّرة إن هي انفجرت، بالإضافة إلى مشكلات الهوية.
أمَّا ردود الفعل فقد عزَّزت الدَّعوة للرجوع إلى الجذور وإلى الثقافات المحلية والوطنية، إلى الدين والتراث. وتحاول الصَّحوة الدينية في العالم الإسلامي ترسيخ القناعة لدى المسلمين بأن قيم الإسلام أفضل من قيم الغرب التفسُّخية والانحلالية، والتي لا تقود في نهاية الأمر إلّا إلى الضياع والتمزُّق النفسي والعقدي. كما ربطت هذه العودة بالعمل على إيجاد وصفات وخطط اقتصادية تستطيع أن تحقق التنمية المطلوبة بعدما تبيَّن أن الخطط المقدَّمة من طرف المؤسَّسات الاقتصادية الغربية لا
________________________________________
(1) تعقيب على بحث د. عبد النبي اصطيف، مؤتمر: «كيف ندخل سنة حوار الحضارات 2001»، دمشق، 22/11/2000م.
(2) غريفوار مرشد، م.ن.

[الصفحة - 325]


تخدم إلا المصالح الغربية وتعمِّق الأزمات والاستتباع. وبدأ الحديث كذلك عن التمييز بين التحديث والتغريب.
هذه العودة إلى الجذور والموجة الإحيائية لعناصر الممانعة العامة عدّها الغرب شكلًا من أشكال المعاداة أو إعلان حرب، وخصوصاً من طرف العالم الإسلامي، باعتباره صاحب حضارة عريقة لها منظومة قيمية شاملة ومتماسكة تمثِّل تحدِّياً للغرب، بالإضافة إلى تاريخ صراعي طويل، وأصحابها الآن يرفضون الغرب وحضارته لأن هذه الحضارة، في نظرهم، كما يقول هنتنغتون، إما «مسيحية هدامة» أو «علمانية منحطَّة» (3). كما أن هذه العودة إلى الجذور «تعزِّر، كما يرى «هنتنغتون» كذلك، مفارقة الديمقراطية، فعندما تتبنَّى المجتمعات غير الغربية الانتخابات بالطريقة الغربية فإن الديمقراطية تشجِّع الحركات السياسية الأهليَّة المعادية للغرب، وكثيراً ما تأتي بها إلى السلطة» (4). وهنا يجد الغرب نفسه أمام مفارقة صعبة، فالديمقراطية التي يدعو الغرب إلى اعتبارها من القيم العالمية في المجال السياسي والتي يجب أن تسود العالم ستأتي بدعاة العودة إلى الجذور والأصوليين إلى السلطة، وهم من أشد النخب عداءً للغرب والتغريب، وإن كانوا يؤمنون بالتحديث فلاكتساب القوة والثروة فقط، وإذا نجحت جهود التحديث المطلوبة فإنها، وحسب «هنتنغتون»، ستعزز الثروة الاقتصادية والقوة العسكرية للبلد بأسره، وسيشجع هذا التحديث ثقة الناس بتراثهم ويؤكِّد انتماءهم الثقافي. ونتيجة لذلك شهدت مجتمعات غير غربية كثيرة عودة إلى الحضارات الوطنيَّة (5).
وعندما يدعم الغرب الأنظمة السياسية المستبدَّة في العالم غير الغربي، فإن الادّعاء بعالمية قيم حضارته لن تكون له أية مصداقية، وهذا ما خبرته شعوب العالم الثالث، وفي مقدمتها شعوب العالم الإسلامي.
وأمام الجهود التي بذلت في آسيا للتحديث لتحقيق التقدُّم العلمي والصناعي وسعي عدد من الدول العربية والإسلامية لامتلاك القدرة على التصنيع كذلك، وأمام تزايد وتيرة معدَّلات النُّمو السكاني في هذه المناطق، فإن الغرب بدأ يستشعر أن حجمه بدأ يتقلَّص، فموجات الإحياء والرجوع إلى الجذور أثبتت تهافت الادّعاء بعالمية قيم الحضارة الغربية، كما أثبتت إخفاق هذه الحضارة وهي في عزّ قوَّتها
________________________________________
(3) الغرب فريد وليس عالمياً، ضمن كتاب: الغرب وبقية العالم: بين صدام الحضارات وحوارها، بيروت: مركز الدِّراسات الاستراتيجية، ط1، 2000م، ص 165.
(4) م.ن، ص 167.
(5) م.ن، ص 165.

[الصفحة - 326]


الاقتصادية والسياسية في أن تكون عالمية. أما على المستوى العلمي والتكنولوجي فقد أثبتت الدُّول الآسيوية أنَّها قادرة على منافسة الغرب في مجال التصنيع والبحث العلمي، ما جعلها تحظى بنسبة مهمة في التجارة العالمية. وهي آخذة في التوسع والنمو. كما استطاعت بعض الدول الإسلامية أن تمتلك تقنية عالية في مجال التصنيع العسكري (صواريخ بعيدة المدى قادرة على حمل رؤوس كيماوية ونووية لدى كل من إيران وباكستان). وهذا ما جعل الحديث عن توازن القوى في العلاقات الدولية (بعد الحرب الباردة)، بين الأقطاب الجديدة يأخذ طابعاً جدِّياً.
لقد بدأ الغرب يتراجع، لغاته في تراجع عما كانت عليه، وحجم سكانه في تراجع أيضاً، وفي العقدين القادمين سيتجاوز عدد المسلمين عددَ المسيحيين في العالم، والنتيجة التي يخلص إليها «هنتنغتون»، وهو يرصد هذه التطوُّرات العالمية وموقع الغرب فيها، أن الأفكار الغربية من اشتراكية وقومية قد أخفقت، وأن «إعادة الأسلمة» في الشرق الأوسط في تصاعد مستمر، ومن ثمّ فلم «يعد لدى الغرب، باعتباره حضارة ناضجة، القوة الاقتصادية والسكانية الدافعة والمطلوبة لفرض إرادته على مجتمعات أخرى، وأي جهد سيبذل في هذا الصدد سوف يكون مضادَّاً للقيم الغربية الداعية إلى تقرير المصير والديمقراطية» (6). «إن الغرب، وهو في أوج قوَّته، كما يقول «هنتنغتون»، يواجه كيانات ليست غربيَّة ترغب في تشكيل العالم بطرائق غير غربيَّة، ولديها الإرادة والإمكانات للقيام بذلك» (7).
وعليه، فإذا كانت المصادر الأساسية للنَّزاعات، قبل نهاية الحرب الباردة، سياسية واقتصادية وأيديولوجية، فإن «الانقسام الرئيسي سيكون ثقافياً في المستقبل، وسيحدد التفاعل بين سبع أو ثماني حضارات رئيسة هي: الغربية، الكونفوشيوسية، اليابانية، الإسلامية، الهندوسية، السلافية الأرثوذكسية، الأمريكية اللاتينية، وربما الإفريقية، إلى حد كبير مجرى تطور الأحداث في العالم. والعنصر الأهم الذي يفرق بين حضارة وأخرى هو الدِّين» (8). هذا ما يؤكِّده «هنتنغتون»، الخبير السياسي الأمريكي، الذي يطالب الغرب، وبناء على تحليله لهذه المعطيات، بأن «يتخلَّى عن وهم العالمية، وأن يعزز قوة حضارته وتماسكها وحيويتها في عالم من الحضارات» (9).
لقد اكتشف «هنتنغتون» أن حضارة الغرب فريدة وليست عالمية، وعلى الغرب
________________________________________
(6) م.ن، ص 169.
(7) صدام الحضارات، ضمن: الغرب وبقية العالم، م.ن، ص 15.
(8) المنظومة الإبراهيمية للحوار، فريتزر ستيبات، ضمن: الغرب وبقية العالم، م.ن، ص 186.
(9) الغرب فريد وليس عالمياً، م.ن، ص 170.

[الصفحة - 327]


أن يدرك هذه الحقيقة وأن يعمل على تجديدها والحفاظ عليها عبر تعزيز العلاقات السياسية والاقتصادية والثقافية والعسكرية والمؤسساتية بين شطريه الأوروبي والأمريكي، وأن يفسح في المجال أمام الدول القريبة من الحضارة الغربية والتي لها مشتركات قيمية ومصلحية متداخلة معها للدخول في شراكات وتحالفات وتكتلات اقتصادية وسياسية ودفاعية مشتركة تشكل في مجملها كتلة حضارية واحدة تستطيع أن تدافع عن مصالحها وحضارتها، كما أشار على الغرب بأن «يدعم المجموعات الحضارية الأخرى المتعاطفة مع القيم والمصالح الغربية وتقوية المؤسسات الدولية التي تعكس المصالح، والقيم المشروعة للغرب، ويدعم مشاركة الدول غير الغربية في تلك المؤسسات» (10).
وفي إطار نظريَّة التصادم الحضاري الحتمي فإن «هنتنغتون» يرى «أن أخطر الصدام سيكون بين الحضارة الإسلامية والصينية وبين الحضارة الغربية، فالنمو السكاني في الآفاق الجغرافية للإسلام، والتطور الاقتصادي الآسيوي مؤشر قوة تجابه الغرب في نهاية القرن العشرين والعقود القادمة في القرن القادم» (11). لذلك ينصح «هنتنغتون» الغرب بأن يعوِّق جهود الدول الإسلامية والكونفوشيوسية عن امتلاك قدرة عسكرية وأن «يستغل الخلافات والنزاعات بينها (12). وألَّا يتدخَّل في العالم إلا بمقدار ما يضمن مصالحه. إنَّها دعوة صريحة للعدوان على دول العالم الثالث؟! في المقابل نجد أن الأشكال الصراعية، كما يقول د. وجيه كوثراني، التي يصفها «هنتنغتون» بالصدامات بين الحضارات لا تعدو كونها أشكالًا من الممانعات الثقافية وحركات الاحتجاج والرفض والحروب الأهلية الناتجة عن عجز الحضارة الغربية عن أن تصبح عالمية مستوعبة لتنوُّع العالم، وذلك بسبب تطابقها مع مشروعها الرأسمالي وتحوُّلها واستخدامها لمنطقه في الربح والسيطرة والاستهلاك، وبسبب إعاقة هذا المشروع لخطط التنمية التي أخفقت في بلدان الأطراف إخفاقاً ذريعاً» (13).
الحوار بديلًا للصِّراع الحضاري «الحتمي»
إذن نحن أمام معطيات جديدة، فالتَّحديث مكَّن دولًا وحضارات قديمة من القوَّة الاقتصادية والعسكرية، وهذه المقاومة للهيمنة الغربية ولاستغلالها ثروات الشعوب وتهميشها، اتخذت شكل انبعاث حضاري شامل يرفض العناصر الجوهرية
________________________________________
(10) صدام الحضارات، م.ن، ص 37.
(11) من صدام الحضارات إلى حوار الحضارات، قراءة نقدية في مقولة «هنتنغتون»، د. رسول محمد رسول، مجلة الكلمة، عدد 24، صيف 1999م، ص 88.
(12) صدام الحضارات، م.ن، ص 37.
(13) حول إشكالية الخيار بين حوار الثقافات أم صراعها، ورقة مقدمة لمؤتمر دمشق: «كيف ندخل سنة حوار الحضارات 2001».

[الصفحة - 328]


للحضارة الغربية، مع الحرص على الإبقاء على جوانب التفاعل والاقتباس المقبولة، يقول الياباني «يوسي ووكين» واضعاً حدود التفاعل الحضاري المطلوب: «الروح اليابانية والأساليب التقنية الغربية» (14)، ويقول الصيني «تي يونغ»: «التعلُّم الصيني من أجل المبادى الجوهرية والتعلم الغربي لغاية عملية» (15). الموقف نفسه نجده لدى المسلمين، فلا أحد يرفض امتلاك التكنولوجيا الغربية، بل هناك دعوة ملحَّة لذلك وإلى رفع المخصَّصات المالية لتشجيع البحث العلمي ودعم الصناعات الوطنية وتطويرها لتصل إلى درجة المنافسة في الأسواق المحلية والعالمية.
هذا الاتجاه «العالمثالثي الجديد» بدَّد الأوهام الغربية القديمة بادّعاء عالمية الحضارة الغربية، في الوقت الذي بدأ يقلِّص من هيمنة الغرب على السوق التجارية العالمية بنسب مطَّردة النمو لصالح العالم الثالث.
إذن فقد تبدَّدت آمال الغرب في صياغة نظام عالمي جديد وتشكيله، بعد انتهاء الحرب الباردة، تتزعمه الولايات المتحدة الأمريكية، فقد ظهرت أقطاب جديدة في طريقها إلى التشكل، وأخذ موقعها في خريطة العالم. وهذه الأقطاب ليست اقتصادية أو سياسية أو أيديولوجية فقط، وإنما حضارية، لذلك فخطوط التماس القادمة ستكون حضارية، والصدام المحتمل سيكون حضارياً، بسبب تعاطي الغرب مع هذا الانبعاث الحضاري والتعدُّد القطبي، باعتباره يمثل تهديداً لمصالحه، كما أكَّد الأمين العام للأمم المتحدة كوفي آنان، وإذا ما حاول الغرب فرض هيمنته بالقوة العسكرية والدِّفاع عن مصالحه وعالميته الوهمية من دون اعتبار لمطالب دول العالم الثالث، فسيتَّجه العالم حتماً نحو الصدام الحضاري الشامل. وهذا ما أكّده «هنتنغتون» كذلك عندما رأى «جهود الغرب لدعم قيمه المتعلقة بالديمقراطية والليبرالية، بوصفها قيماً عالمية، والحفاظ على هيمنته العسكرية ودعم مصالحه الاقتصادية، تولد ردود فعل مضادة من قبل الحضارات الأخرى» (16). وأهم هذه الردود تلك التي كشفت عنها الحضارة الإسلامية، وقد بدأ الإعلام الغربي يهيِّىء المجتمعات الغربية للصِّدام المقبل مع العالم الإسلامي، والمؤشرات والمعطيات الواقعية جميعها تصب في تأكيد هذه الفرضية، وهي أن عالم الإسلام هو العدو الأوّل والرئيسي للغرب وحضارته، وأن المواجهة قريبة وحتمية؟!
________________________________________
(14) الغرب فريد وليس عالمياً، م.ن، ص 164.
(15) م.ن، ص 164.
(16) صدام الحضارات، م.ن، ص 18.

[الصفحة - 329]


و «حتمية الصِّراع» هذه أكَّدها كذلك عدد من المفكِّرين المسلمين والغربيين الذين راقبوا التطورات الحاصلة في العالم الإسلامي، وتتبعوا يوميات الصحوة الدينية ومطالبها، وأكدوا بدورهم أن المستقبل سيشهد صداماً ما، أو مواجهة مباشرة بين الغرب وعالم الإسلام، إذا استمرت علاقات التوتر بين الطرفين على حالها، على أن هناك طائفة أخرى من المفكرين رفضت هذا التحليل للتحوُّلات العالمية، ورأت أن عناصر الصدام التي يعدّدها «هنتنغتون» ليبني عليها فرضية حتمية الصراع الحضاري «لا تندرج في نسق الحضارات ومفهومها، وإنما هي تعبر عن أزمة نظام عالمي يمر في النقطة الحرجة التي تجعل منه، على حد ما يقول الباحث الفرنسي في الاستراتيجية بيار لولوش، فوضى الأمم» (17).
أمّا انبعاث الثقافات الفرعية لحضارة قديمة، كالحضارة الإسلامية، على سبيل المثال، فهو، حسب د. كوثراني، «ليس إلّا صيغة يقظة المغلوب الذي يلجأ إلى الذاكرة الجماعية الثقافية للاحتماء والاحتجاج والرفض..» (18). لكن ومهما كان الاختلاف حول طبيعة الصِّراع، فهذا لا يلغي ضرورة الحاجة الملحَّة إلى صياغة نظام جديد للعلاقات بين العالم الغربي والعالم الثالث. من هنا فالدعوة، لفتح المجال أمام حوار حضاري شامل، جاءت رد فعل لتجاوز حتمية هذا الصراع المرتقب، خصوصاً بين الحضارتين: الغربية والإسلامية، وعندما تنطلق الدعوة والمبادرة من العالم الإسلامي ومن إيران بالذات، فإن تداعياتها على مستوى العلاقات الدَّولية سيكون لها آثارها الإيجابية، لأنها كما يقول د. عبد العزيز التويجري «تعبِّر عن رؤية إسلامية إنسانية كونية إلى حاضر الإنسانية وإلى مستقبلها» (19)، رؤية تؤمن بتجاوز انفجار الصراع وتعمل من أجل ما تؤمن به بغية التوصُّل إلى توافق عالمي في الآراء لإقامة نظام جديد في الألفية القادمة على أساس الإيمان والقيم المعنوية والأخلاقية المشتركة بين الحضارات المعاصرة.. وإذا كان هذا القرن قد دارت رحاه على مدار السيف، كما يقول السيد خاتمي، وكان بعض الشعوب فيه مغصوباً وبعضها الآخر غالباً، «فإن مدار القرن القادم لا بد من أن يقوم على الحوار، وإلا فإن ذلك السيف سيكون سلاحاً ذا حدّين لن يرحم أحداً..» (20)؛ وذلك لأن الصِّراع واستخدام وسائل الدمار الشامل، من جرثومية ونووية، ستكون له عواقب وخيمة على البشرية جمعاء (21).
________________________________________
(17) د. كوثراني، م.ن.
(18) م.ن.
(19) ندوة: «الحوار والتعايش بين الحضارات والثقافات» برلين، 5 تموز (يوليو) 2000م، محمد دكير، مجلة الكلمة، عدد 28، صيف 2000م، ص 169.
(20) أنظر: محاضرة السيد خاتمي في منظمة اليونسكو سنة 2000م.
(21) لقد رأينا كيف أثر استخدام قذائف اليورانيوم المستنفذ من طرف القوات العسكرية الأمريكية في حرب الخليج الثانية وفي البلقان على الجنود الغربيين، وقد توفي عدد منهم نتيجة استنشاق غبار مشبع بالإشعاعات المنبعثة من مخلَّفات الدبَّابات المدمَّرة.

[الصفحة - 330]


إن أي صراع ما ينفجر سيكون مدمِّراً للطبيعة وللوجود البشري على ظهر هذا الكوكب، وعليه فلا بد من فتح قنوات الحوار والتواصل بين الأمم والحضارات والدُّول من أجل معالجة مواضيع وقضايا التوتر وأسباب الصراع في العالم. وإذا جاءت المبادرة من العالم الإسلامي بفتح باب الحوار فإن الغرب وحده سيتحمل تاريخياً عواقب أي انفجار أو صراع مرتقب. لأن الغرب يحاول أن يقف في وجه حركة التاريخ ولا يستجيب إيجابياً للمتغيِّرات والتطورات العالمية ولا يتعاطى معها، فلم يعد هناك مجال أو مسوِّغ يحول دون تمكين شعوب العالم الثالث ودوله من حقوقها، وضرورة إشراكها، كما يقول السيد خاتمي، «في تحديد ملامح حركة سير العالم في بداية الألفية الثالثة للميلاد. لا يجوز تهميش أي شعب أو أمَّة أياً كانت المسوّغات الفلسفية والسياسية والاقتصادية» (22). وعلى الغرب أن يتحرر من أوهامه في العالمية والهيمنة المطلقة. وأن يرضخ ويدخل في حوار عالمي تشارك فيه جميع الأقطاب الحضارية للعمل على تحقيق تفاعل حضاري إيجابي متوازن وشراكات سياسية واقتصادية وعلمية وثقافية، يضمن الغرب فيها مصالحه من دون إلحاق الضرر بالعالم الثالث على المستويات الاقتصادية والثقافية والحضارية جميعها.
سنتان من التأصيل الإسلامي للحوار
انطلقت، مباشرةً، بعد إطلاق المبادرة والدَّعوة لحوار الثقافات والحضارات وإقرار المقترح الإيراني من قبل الجمعية العامة للأمم المتحدة، باعتبار سنة 2001م عاماً للحوار، الاستعدادات الإسلامية والعربية والعالمية للتحضير لهذه السنة، وتمثَّلت في إقامة العشرات من الندوات والمؤتمرات واللقاءات العلمية والثقافية والسياسية، المناقشة موضوع الحوار ومعالجته: مفهومه وشروطه وفرص نجاحه ومعوِّقاته، كما وضع مشروع الحوار على جدول أعمال منظمتي المؤتمر الإسلامي والأمم المتحدة. وقامت منظمة المؤتمر الإسلامي بصياغة وثيقتين تمثِّلان التصوُّر الإسلامي لحوار الحضارات.
وقد أسفرت هذه اللقاءات والفعاليات والأنشطة العلمية، وخصوصاً في العالم الإسلامي، عن تأصيل عام لمفهوم الحوار ومصاديقه انطلاقاً من النظرة الإسلامية.
________________________________________
(22) من خطاب السيِّد خاتمي أمام اليونسكو، م.ن.

[الصفحة - 331]


وأنجز عدد من المفكرين العرب والمسلمين دراسات علمية مهمة حول الحوار أبرزوا فيها قيم الإسلام الداعية إليه وإلى التعايش السلمي والتعارف بين البشر، وأكدوا فيها قدرة الثقافة الإسلامية على معالجة قضايا العصر المزمنة والإسهام في إيجاد الحلول لمشاكل العالم المستعصية. كما كشفوا فيها عن أهداف الحوار وما يمكن أن يتحقق من نتائج إذا انخرط العالم في حوار جدي ثقافي وحضاري عام.
المنطلقات العقديَّة للحوار
1 ـ وحدة الجنس البشري: بعيداً عن الأيديولوجيَّات الغربية التي روَّجت طويلًا لنظرية التفوُّق العرقي الغربي واتخذتها مطيَّة ومسوِّغاً لاستعباد الشعوب غير الغربية والسيطرة عليها، فإن الإسلام يؤكد على وحدة الخلق والجنس البشري، فالبشر من آدم، وآدم من تراب كما جاء في الحديث عن رسول الإسلام (صلي الله عليه و آله و سلم)، وهناك العشرات من الآيات التي تؤكد هذه الوحدة يقول تعالى: {يا أيُّها النَّاس اتقوا ربَّكم الذي خلقكم من نفس واحدة} [النساء/1]. ويقول أيضاً: {وهو الذي أنشأكم من نفس واحدة} [الأنعام/98] ويقول عز من قائل: {هو الذي خلقكم من نفس واحدة وجعل منها زوجها} [الأعراف/189]. إذن هناك قاعدة أساسية تمثِّل منطلقاً يجمع شعوب العالم جميعها، وتتمثل هذه القاعدة في وحدة الخلق، أما الاختلافات العرقية والدينية والمذهبية والحضارية، فإنها جاءت بعد ذلك. لكن هذا الاختلاف الذي طرأ على الحياة البشرية لا يمكن أن يلغي الحقوق المترتِّبة عن وحدة الأصل والخلق، يقول الإمام علي (عليه السلام) الناس صنفان: «إما أخ لك في الدين أو نظير لك في الخلق» (23). وإذا كان هناك من تميُّز وتفاضل بين بني البشر فليس بسبب اللون أو العرق أو المنشأ الجغرافي أو أي شيء آخر، وإنما «بالتّقوى» التي لا تعني سوى امتلاك الحقيقة المطلقة ودرجة الامتثال لها، وهذا الميزان هو ميزان إلهي، وقد بعث الله الأنبياء والرسل ليعرِّفوا الناس هذه الحقائق المطلقة، وليحثوهم على الالتزام بها، لأنها جزء لا يتجزَّأ من مفهوم الاستخلاف الإلهي للإنسان، وهذا يجرنا إلى تأكيد الكرامة الإنسانية التي عبر عنها هذا المفهوم، فالإنسان خلق ليكون خليفة لله في الأرض، يقول تعالى: {هو الذي جعلكم خلائف في الأرض} [فاطر/29] وهذا الاستخلاف اقتضى تكريمه على بقية الخلق، يقول عز من قائل: {ولقد كرّمنا بني}
________________________________________
(23) نهج البلاغة، الكتاب 53 ـ 9.

[الصفحة - 332]


{ آدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيِّبات وفضَّلناهم على كثير ممَّن خلقنا تفضيلًا}[الإسراء/70].
هذه المفاهيم: وحدة الخلق والاستخلاف والتكريم هي قيم إنسانية أصيلة وشاملة للنوع الإنساني، أمّا التفاضل فيأتي بعد ذلك لا ليمزِّق وحدة البشرية الأصليَّة، وإنما ليؤكِّد أن على البشرية أن تتجه صوب طريق التقوى، أي الإيمان بالحقيقة المطلقة والالتزام بها، ومن هنا ينشأ الاختلاف الذي عبَّرت عنه الآية الكريمة: {وما كان النَّاسُ إلا أمَّة واحدة فاختلفوا} [يونس/19].
وقد بُعث الأنبياء لإزالة هذا الاختلاف الرئيسي حول هدفيَّة الوجود وغائيته والطريق الحقيقي الموصل إلى هذه الأهداف والغايات. أمَّا أسلوب الأنبياء والرسل في إيصال هذه الحقائق فكان عبر الحوار والمجادلة بالتي هي أحسن، وإقناع الناس بالأدلَّة والبراهين والمعجزات، وليس بالإكراه. أمَّا مظاهر الإكراه التي وُجدت وشرَّعتها الرسالات السماوية، فاقتصرت على إزالة الحواجز والموانع أمام البشرية لإيصال الحقائق لها والتَّبشير والتبليغ بها، وهذا وجه من أوجه مفهوم الجهاد المسلَّح في الإسلام، أي العمل على كسر القيود وتحطيم الحواجز التي تحول دون غالبية الناس والحقيقة. أمَّا الإقناع بالحقيقة فلا يكون إلا بتقديم البرهان والدليل وترك الحرية للإنسان ليختار بين الحق الذي ظهر واضحاً جلياً وبين الباطل الذي تعرَّت حججه وتبيّنت مضارّه ومخاطره على حياة الإنسان ومصيره النهائي.
وخلاصة القول: لم يجد المفكِّرون المسلمون صعوبة تذكر في التأصيل لمفهوم الحوار انطلاقاً من قيم الإسلام العامة، لأن الإسلام، إذا كان يؤكِّد على وحدة الخلق وحقيقة الاستخلاف والتكريم، فهو إلى جانب ذلك يؤكِّد أن الاختلاف والتنوُّع حقيقة واقعيَّة، فهناك اختلاف وتنوُّع واقعيَّان وحقيقيَّان لهما علاقة بطبيعة الخلق، وهناك اختلاف طارىء له خلفياته وأسبابه، كما يعترف بأن القضاء على جميع أوجه الاختلاف بين البشر غير ممكن في الدنيا يقول تعالى: {ولا يزالون مختلفين إلَّا من رحم ربك ولذلك خلقهم} [هود/118]، ويقول عز من قائل: {ثمَّ إلى ربكم مرجعكم جميعاً فينبئكم بما كنتم فيه تختلفون} [الأنعام/164].
________________________________________

[الصفحة - 333]


لكنّه يقدِّم الوسيلة المثلى لتقليص حجم هذا الاختلاف أو القضاء عليه، على مستويين:
الأوَّل مستوى الدَّعوة إلى الحق والاجتماع عليه، وأسلوبها تقديم البرهان والجدال بالتي هي أحسن وإعطاء الفرصة للإنسان للاختيار الحر.
والثاني مستوى التَّعارف العام، فأي تنوُّع أو اختلاف لا يمكن أن يكون بالضرورة سبباً في الصراع والصدام أو محاولة إلغاء طرف أو مجموعة للآخرين، وإنما يمكن استثماره لتحقيق التكامل الذي هو ضرورة وظاهرة طبيعية مشهودة، لذلك لا بدَّ من تشجيع التعارف وتعبيد طرق التواصل لتحجيم هوة الاختلاف يقول تعالى: {يا أيُّها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم} [الحجرات/13]. وهذا التَّعارف لا يتحقَّق إلا بالحوار، ومعلوم أن عدداً من أسباب الصِّراع هي بسبب الجهل المتبادل بين أطراف الصراع، أو جهل أحد الأطراف بالآخر، بالإضافة طبعاً إلى الحرص على تحقيق المصالح والمنافع على حساب الآخرين، من هنا سينطلق الحوار من ثلاث قواعد أساسية هي:
1 ـ الحوار من أجل الوصول إلى الحقيقة المطلقة أو الدعوة إليها.
2 ـ الحوار من أجل فهم مظاهر الاختلاف والتنوُّع وأسبابهما (فهم الآخر والتعرف إليه).
3 ـ الانطلاق من تحديد نقاط الاختلاف والمشتركات لتحقيق توازن على المستويات جميعها يضمن مصالح كل طرف في الوجود والتميُّز والحفاظ عليهما.
هذه القواعد، أو المنطلقات، كانت لها مصاديق كثيرة في تاريخ الإسلام، فقد دعا الإسلام مخالفيه للحوار، وطالبهم بالدَّليل والبرهان، بعدما عرض آراءهم وفنَّدها بالدليل والبرهان كذلك، واحترم عقائدهم مع أنها مخالفة للحق الذي جاء به، لذلك لم يطالب أتباعه بإكراه مخالفيهم على اعتناق الدين الجديد، بل ضمن لهم حق البقاء على قناعاتهم السابقة إذا لم تنشرح قلوبهم للحقيقة الإسلامية، وشرَّع لهم حقوقاً كثيرة داخل المجتمع الإسلامي والدولة الإسلامية.
________________________________________

[الصفحة - 334]


وباختصار، فالحوار في القرآن يقوم على أساس دعوة الآخرين للهداية وتقديم الحقيقة لهم، بنهج عقلي برهاني لا علاقة له بالإكراه، وهذا يقتضي أن يتم في إطار من التعايش الاجتماعي، فهو كما يقول أبو يعرب المرزوقي: «مفهوم شامل بدايته التعايش وغايته التعارف» (24)، ومن خلال هذا التعارف يحقق الحوار أهدافه، أي القيم الإسلامية العامة، مثل: كرامة الإنسان، المساواة، التسامح، السلام، العدالة بين البشر، الدعوة إلى الحق...، هذا التصوُّر الإسلامي للحوار، كما يعرضه المفكرون المسلمون، يجعل من الدين الإسلامي دين حوار بامتياز، فكيف يتهم بالعنف وتشجيع التطرف والإرهاب، فهذه المظاهر السلبية في العلاقات الاجتماعية والسياسية المحلية والدولية تتناقض وقيم الإسلام، ولها خلفيات ودوافع موضوعية معروفة.
هذا التأصيل الإسلامي للحوار شكَّل الملامح الأساسية لمشروع الحوار بين الثقافات والحضارات، بالإضافة إلى العناصر الأخرى التي كشف عنها الباحثون، بوصفها مصاديق للحوار وأهدافه التفصيلية وشروطه وفرص نجاحه وما يعد به على المستوى العالمي والإسلامي والإيراني.
المبادىء العامَّة للحوار ومجالاته
تحدَّث إعلان طهران حول الحوار بين الحضارات (25) عن مجموعة من المبادى مستوحاة من قيم الإسلام الأساسية أهمُّها:
1 ـ احترام الكرامة الإنسانية والمساواة بين البشر جميعهم، وعدم التمييز بينهم أياً كان نوع هذا التمييز، وكذلك بين الدول سواء كانت صغيرة أم كبيرة.
2 ـ القبول الفعلي بالتنوُّع الثقافي، بوصفه أحد الملامح الثابتة للمجتمع الإنساني ومصدراً لتقدُّم البشرية وازدهارها.
3 ـ رفض محاولات الهيمنة والسيطرة الثقافية والحضارية والتصدي للمذاهب والممارسات الرامية لخلق الصراع والصدام بين الحضارات.
4 ـ الالتزام بمشاركة الشعوب والأمم جميعها من دون أي تمييز في عمليات صنع القرار وتوزيع المنافع على المستوى المحلي والعالمي.
________________________________________
(24) مقدمات الحوار السويّ بين الحضارات وشروطه، ورقة مقدمة لمؤتمر دمشق، كيف ندخل سنة حوار الحضارات.
(25) انظر: إعلان طهران حول حوار الحضارات، مجلة الكلمة، عدد 23، ربيع 1999م، ص 185.

[الصفحة - 335]


بالإضافة إلى الدعوة إلى احترام ثقافات الشعوب وقيمها وتراثها الحضاري والتوقف عن انتهاك مقدَّساتها، والعمل المشترك من أجل مواجهة التحديات العالمية.
أمّا مجالاته فهي متعددة، وأهمُّها:
1 ـ التجاوب مع تطلُّعات البشرية للتمسُّك بالإيمان والأخلاق.
2 ـ تعزيز التفاهم المتبادل والمعرفة بين مختلف الحضارات.
3 ـ التعاون وزيادة المعرفة حول مختلف مجالات الأنشطة والإنجازات البشرية في الميادين العلمية والتكنولوجية والثقافية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية والأمنية.
4 ـ التعاون من أجل وضع حد للمخاطر التي تهدد السلم والأمن الدوليين والازدهار، مثل: تلوث البيئة وظاهرة الانحباس الحراري، وانتشار أسلحة الدمار الشامل والمخدرات والجريمة المنظَّمة...
5 ـ تعزيز حقوق الإنسان العامة والخاصة في العالم وحمايتها من دون تمييز أو فصل أيّاً كان نوعه أو مسوّغاته.
شروط الحوار السَّوي بين الثَّقافات والحضارات
تحدّث المفكرون العرب والمسلمون عن مجموعة من الشروط التي يجب أن تتحقَّق في الحوار السَّوي بين الثقافات والحضارات لا تنفكُّ عن المنطلقات العقديَّة والمشتركات الإنسانية الأساسية، وتنطلق من قاعدة التكافؤ الذي يجب أن يشمل النَّوايا والأهداف والدوافع والغايات، فأي تناقض في هذه المنطلقات سيجعل الحوار غير مجدٍ وسيفرغه من مضمونه، فليس الحوار من أجل «تمييع المواقف وخلط الأوراق ومزج العقائد وتذويبها في قالب واحد». كما يقول، د. عبد العزيز التويجري (26). أو استخدام لغة الديبلوماسية من أجل تحقيق المصالح السياسية والاقتصادية ـ كما يقول السيد خاتمي ـ والتغلُّب على العدو، وباختصار استمرار الحرب، ولكن بلغة أخرى، «حوار الثقافات والحضارات أمر غير ممكن إلا بتآلف
________________________________________
(26) ندوة: الحوار والتعايش، محمد دكير، م.ن، الكلمة، عدد 28، ص 170.

[الصفحة - 336]


القلوب والمحبة وبذل المساعي الصادقة لفهم الآخرين وليس التغلب عليهم» (27)، أو تأجيل انفجار الصراع عبر هذا الحوار، أو محاولة إقناع أحد أطراف الحوار بالتنازل عن خصوصياته وقيمه ومقوِّمات هويته، أو العمل على إحداث تأثير ما أو تفاعل، لأن حوار الحضارات كما يراه السيد خاتمي يقصد به معناه الدقيق، وهذا بخلاف التأثير والتأثر أو التبادل والسيطرة الثقافية والحضارية (28).
إن الحوار السوي لن يتحقَّق إلا إذا تم الاتفاق على الأهداف والعمل سوياً على تحقيقها والوصول إليها وإعطاء الفرصة لجميع أطراف الحوار لتحقيق عناصر التكافؤ الأساسية، وهذا ما أشار إليه السيد خاتمي عندما رأى أن العالم الإسلامي متخلِّف علمياً وصناعياً، وهذا يجعله يحاور من موقع ضعف، ويقلل من تقدير وزنه. لذلك يرى أنه «لكي نكسب الاحترام يجب أن تكون لدينا موارد مالية وعلمية وصناعية، يجب أن نكون أقوياء»، وكذلك الأمر بالنسبة لبقية دول العالم المستضعفة. لا بد من إفساح المجال أمامها لتحقيق الحد المطلوب من شروط التكافؤ حتى تتمكن من الدخول في الحوار وتسهم في تفعيله ودعمه ليحقق أهدافه الكبرى وإلا «فإن الدعوة إلى السلام والحوار والتفاهم ستظل دعوة متفائلة ساذجة» كما يؤكد السيد خاتمي (29). إن الحوار «بحاجة إلى أحكام عامة وشاملة وميدانية وأصولية» (30)، وهو يجري ويتحقَّق «في مقام وموقع فلسفي وأخلاقي خاص» (31)، ويتعارض مع أي مظهر من مظاهر الفوقية أو الاستعلاء أو الركون إلى مسوّغات تجعل من الحوار مطية لتسويغ الواقع وليس لتغييره. وهذه من أهم معوِّقات الحوار التي تحول دون تحقيق أهدافه. بالإضافة إلى تراكمات الماضي السلبية التي لا تزال آثارها ممتدة في الأذهان والواقع.
أهداف الحوار وما يَعِدُ به
لا يمكن حصر الأهداف في مجموعة من النُّقاط، لأن المبادى العامة للحوار التي استعرضنا بعضها قبل قليل هي بحد ذاتها من أهداف الحوار، لكن يمكن رصد أهم الأهداف التي تحدَّث عنها السيد خاتمي في خطاباته، وكذلك ما ذكره بعض المفكرين والسياسيين المسلمين والغربيين وغيرهم، والتي يمكن تقسيمها إلى قسمين: أهداف سياسية عالمية تخص العالم كله، وتتمثل في العمل من أجل «إقامة
________________________________________
(27) من محاضرة السيد خاتمي في اليونسكو، م.ن.
(28) م.ن.
(29) م.ن.
(30) م.ن.
(31) م.ن.

[الصفحة - 337]


نظام عالمي جديد في الألفية القادمة على أساس من الإيمان والقيم المعنوية والأخلاقية المشتركة بين الحضارات المعاصرة» (32)، وصياغة علاقات سياسية واقتصادية بين دول العالم يسودها التكافؤ والمشاركة وتبادل المنافع من دون قهر أو تسلُّط، وباختصار «تحسين نظام العلاقات الدولية التقليدي المتصلب» (33)، من أجل «إنهاء حقبة الحروب وإزالة معالم الظلم والإجحاف والتمييز والفقر والقتل والهيمنة اللاشرعية» (34)، والعمل من أجل «صناعة مستقبل أكثر عدلًا وجمالًا وإنسانية» كما يقول السيد خاتمي (35).
«ومن أجل الوصول كذلك إلى تحقيق توازن بين النظام الاقتصادي الذي تفرضه العولمة الغربية وبين القيم الإنسانية والدينية المشتركة التي بإمكانها أن تخفف من شراسة هذه العولمة ونهمها الشديد لاستغلال ثروات العالم الثالث، ونهبها من دون هوادة. وبإمكان الحوار كذلك أن يضيف بُعداً إنسانياً مهمَّاً للعلاقات الإنسانية بجعلها محكومة بعوامل أخرى غير اقتصاديات السوق ومتطلبات الاستثمار، أهمها التفكير بالوجود الإنساني بوصفه كلًّا متكاملًا من خلال جعل الحوار بين الحضارات يجسِّد الإنجازات الإنسانية على مختلف المستويات» (36).
أمَّا على المستوى الفكري والحضاري العام، فإن مبادرة منظمة المؤتمر الإسلامي ومساعيها لدعم الميثاق العالمي لحقوق الإنسان وإثرائه بالرؤية الإسلامية، ستكون له أبعاد إيجابية مهمة، لأن «اعتقاد الرؤيا الغربية لمفهوم الإنسان وحقوقه هو ما ورثه النظام الدولي المبني على تهميش الحضارات غير الغربية»، وهذا ما كان يجعل الكثير من مواد هذه المواثيق الحقوقية الغربية مدار تجاذب، ويحول دونها والعالمية الحقيقية، لذلك «فالنظام الدولي الذي يبنى على أساس الحوار والمشاركة الدولية بحاجة لقراءة جديدة لمفاهيم مهمَّة جداً في ضوء هذه المستجدَّات» (37).
أمّا بالنسبة لإيران فمشروع الحوار بين الثقافات والحضارات قد يكون بمثابة رسالة سياسية واضحة لأمريكا بالخصوص وللغرب بشكل عام، بأن يوقف عدوانه على إيران ومحاصرتها سياسياً واقتصادياً، فقيمه الجوهرية ليست عالمية، ومن حق الشعب الإيراني أن يستقل عن الغرب والشرق سياسياً واقتصادياً وثقافياً، وأن يبتكر أنموذجه التنموي المنسجم مع ثقافته المحلية وقيمه الحضارية، ومن حقِّ إيران أن
________________________________________
(32) إعلان طهران، مجلة الكلمة عدد 23، ص 184، م.ن.
(33) من خطاب السيد خاتمي، أمام قمة الدوحة، مؤخَّراً (2000م).
(34) انظر: مجلة الكلمة، عدد 26.
(35) انظر: نص محاضرة السيد خاتمي في اليونسكو، م.ن.
(36) عبد النبي اصطيف، حوار الحضارات في عصر العولمة، ورقة مقدمة لمؤتمر دمشق: «كيف ندخل سنة حوار الحضارات»، م.ن.
(37) من خطاب السيد خاتمي في قمة الدوحة الأخيرة.

[الصفحة - 338]


تمتلك القوة العسكرية للدفاع عن نفسها كما يفعل الغرب. وعلى الغرب، في النِّهاية، أن لا يدير ظهره للمتغيِّرات العالمية، فالتعدد والتنوع الحضاريَّان حقيقة واقعية، أما المصالح الاقتصادية فبالإمكان التوصل إلى صيغ توافقية تضمن مصالح الطرفين من دون إجحاف أو استغلال. أما إذا أصر الغرب، أو أمريكا، على الغطرسة والعدوان فإن ذلك سيقوِّي من عزم إيران على تعزيز قوتها العسكرية وممانعتها الحضارية.
أما ما يعد به مشروع الحوار بين الحضارات والثقافات، فهناك وعود كثيرة لاحت في الأفق وتمَّ الإعلان عنها في أثناء المؤتمرات والندوات والخطب السياسية، بعضها في طريقه فعلًا للتحقّق وبعضها الآخر يحتاج إلى إرادة وعزيمة وقرارات سياسية استراتيجية من طرف الغرب وباقي دول العالم، ومن أهم ما يعد به الحوار بالنسبة لدول العالم الثالث:
1 ـ إذا ما تحقّق الحوار، بشروطه التامة، وشارك فيه الغرب، فإن العالم الثالث سيتمكَّن من تحقيق استقلاله السياسي والاقتصادي بشكل من الأشكال، وسيتمكَّن كذلك من تحقيق التَّنمية الاقتصادية والثقافية والبشرية المطلوبة، بعيداً عن التغريب أو الارتهان لمصالح الغرب.
2 ـ أمَّا بالنسبة للعالم الإسلامي، فبالإضافة إلى ذلك، فإنه سيتمكَّن من تغيير الصورة النمطية المشوهة لدينه وحضارته التي يكرسها الغرب وإعلامه واستشراقه، الأمر الذي يقلِّل من مظاهر الكراهية المتبادلة بين العالمين، ويخفِّف من التوترات.
3 ـ أمَّا بالنسبة للغرب، فالحوار سيمكِّنه من فهم باقي الحضارات بشكل أفضل بعيداً عن عبء الماضي المثقل بالمحطّات الصدامية الدموية، وسيحرره كذلك من أوهامه القديمة المتعلِّقة بالتفوق العرقي والثقافي والمركزيَّة..
4 ـ إذا تمكَّن العالم الثالث من معالجة مشكلاته السياسية والاقتصادية، فإن الغرب سيستفيد كذلك، لأن عناصر الصراع الأساسية وأسبابه التي تشكلت منها هواجس الغرب وخوفه من هذا العالم سوف تزول، وبالتالي فشعوب الغرب ستستفيد هي الأخرى من انتشار قيم التعايش والسلام على المستوى العالمي.
5 ـ يمكن للحوار أن يكشف عن رؤى وقيم جديدة في المجالات جميعها، ما
________________________________________

[الصفحة - 339]


يكشف عن الغنى والتنوُّع الذي تعرفه وتحتضنه البشرية بين أحضانها، وهذا سيزيد من وتيرة التفاعل الإيجابي بين الثقافات والحضارات.
6 ـ انتشار قيم الحوار والتعايش ليس بين الدول والحضارات والثقافات فقط، بل بين الأفراد والجماعات والمذاهب والتيارات الفكرية المختلفة داخل كل دولة أو تجمع بشري.
7 ـ سيجنّب الحوار العالم من الصدام، ومن ويلات الحروب النووية والكيماوية، وبالتالي سيحرِّر البشرية من هواجس الدمار الشامل.
8 ـ سيحقق الحوار تقارباً بين الشعوب والأمم، ما سينتج عنه، كما يقول الأمين العام للأمم المتحدة كوفي أنان، «حضارة شاملة تستند إلى تقبُّل التنوُّع الثقافي والحقوق الأساسية للإنسان» (38).
9 ـ سيكشف الحوار صيغاً متعدِّدة لتحويل التعدُّد والتنوُّع والاختلاف إلى تكامل يخدم البشرية، ويفتح أمامها آفاقاً أوسع للتقدُّم والتطور والازدهار.
________________________________________
(38) من خطاب الأمين العام للأمم المتَّحدة في قمة الألفية، أيلول 2000م.

[الصفحة - 340]

 
فروع المركز

فروع المركز

للمركز الإسلامي للدراسات الإستراتيجية ثلاثة فروع في ثلاثة بلدان
  • العنوان

  • البريد الإلكتروني

  • الهاتف