البحث في...
إسم البحث
الباحث
اسم المجلة
السنة
نص البحث
 أسلوب البحث
البحث عن اي من هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على كل هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على هذه الجملة

التَّعدُّدية الدِّينيَّة

الباحث :  أ صادق لاريجاني
اسم المجلة :  مجلة المنهاج
العدد :  21
السنة :  السنة السادسة ربيع 1422 هجـ 2001 م
تاريخ إضافة البحث :  February / 5 / 2015
عدد زيارات البحث :  1535

التَّعدُّدية الدِّينيَّة (محاضرة وحوار)

أ. صادق لاريجاني(*)

ترجمة: أ. كمال السيّد

في مفهوم التَّعدّديَّة الدِّينيَّة
التَّعدُّديّة الدِّينيَّة، أو «البلوراليَّة الدِّينيَّة»،(Rligions pluralism) بحث في كثرة الأديان. و «البلوراليَّة» تعني التَّعدُّدية، ويمكن تصوُّرها في مجالات متعدِّدة، بل إنَّه قد جرى استخدامها عمليَّاً في دوائر مختلفة، وعلى سبيل المثال، في الشأن السياسي، فهي تعني، في هذا الشأن، ذاك الاعتراف الرَّسمي بالأحزاب والجماعات المختلفة، فالذين يعيشون عالم «السياسة البلوراليَّة» مقتنعون بأنَّ المسار السياسي تديره التَّعدُّدية، ما يعني أنَّه لا بدَّ من توافر الأحزاب المتعدِّدة والآراء المتنوِّعة التي تتنافس في ما بينها وتدير من ثمّ دفَّة الحكم.
وفي مجال آخر، يمكن طرح «البلوراليَّة» في نطاق المعرفة الوجودية وما وراء الطبيعة أو في الانطولوجيا، فالمعنيّ اعتبارنا أن هذا العالم قائم على أساس الكثرة، في مقابل النَّظرة الآحادية.
ولكن هذه «التَّعدُّديات» ليست محوراً للدِّراسة والبحث في هذا المقام، فبحثنا يتناول التعدُّدية الدِّينية (البلوراليَّة الدينية).
ينضوي تحت هذا العنوان بحثان رئيسيان هما:
1 ـ التَّعدُّدية في فهم الدين.
2 ـ التَّعدُّدية في ذات الدين.
________________________________________
(*) باحث من إيران

[الصفحة - 82]


والمقصود من التَّعددية، في فهم الدين، هو الاعتقاد بالاستنتاجات والانطباعات المختلفة عن الدِّين، وبالتعبير المتداول اليوم: القراءات المتعدِّدة للدِّين.
والمقصود من التَّعددية، في ذات الدين، هو أنَّ الأديان نفسها تمثِّل طرقاً مختلفةً تفضي إلى الحقيقة الواحدة. أي أنها في مقام السعادة والصدق والحقَّانية تقوم بقيادة أتباعها وهدايتهم إلى أمر واحد.
والتعدُّدية، في فهم الدِّين، ليس لها علاقة بذات الدِّين، وعلى هذا الأساس فإن مسألة فهم الدين وتعدُّدية هذا الفهم بحث يعود إلى من يخاطبهم الدِّين والذين من شأنهم فهمه.
إلّا أنّ مرجع التَّعدُّدية في الدِّين إنما هو تلك الرؤية التي تحاول أن تبيِّن التَّعدُّد الموجود في الديانات، فهذه الأديان التي ظهرت في الماضي والحاضر ما هي نسبتها إلى بعضها بعضاً؟ وما هي نسبتها إلى الواقع والحقيقة؟ وما هي علاقتها بأتباعها؟ فالبحث إذن يقع في قسمين: الأوَّل هو التَّعدُّدية في فهم الدِّين، وهو ما سوف نعالجه بدايةً، ومن ثمَّ يأتي القسم الثاني، وهو الكثرة في الدِّين نفسه.
بالطَّبع تنضوي تحت هاتين المقولتين بحوث رئيسيَّة، وسنشير هنا إلى بعض ادّعاءات الذين يطرحون مثل هذه البحوث فقط، ونورد أيضاً قسماً من استدلالاتهم ونبحث في مدى القبول بها سواءٌ من الناحية العقلية أم النَّقلية (الآيات والروايات).
حساسيَّة البحث في هذا الموضوع
إن البحث في التَّعدُّدية في فهم الدين، وهو البحث الذي يطرح اليوم في مجتمعنا على نطاق واسع، يعني تعدُّد القراءات في الدِّين ومسألة «القبض والبسط» في الدين وأمثال ذلك، وهو بحث مهم في حد ذاته، ولكنه بالشكل الذي يطرح فيه اليوم في مجتمعنا، سواء في ذلك التعدُّدية في فهم الدين أم في ذات الدين، هو في رأيي ـ أنا ـ بحث مسيَّس؛ إذ يكمن خلف هذا الطرح عمل سياسي. أما هذا البحث، في حد ذاته، فهو بحث مهم وهو قابل للتَّرشيد.
________________________________________

[الصفحة - 83]


وحقيقة الأمر هي أنَّ علماءنا ـ وبخاصَّة الأصوليين ـ تحدَّثوا، وعلى نطاق واسع، في مسألة فهم الدِّين، وشغلت هذه المسألة لديهم مساحة مهمَّة وحتى الغربيين ـ وعلى عكس متنوِّرينا الجدد ـ لا يبتّون في المسألة من طرف واحد. لقد أوردت في بحث «المعرفة الدِّينية» عدّة موارد تبيِّن أن فلاسفة الغرب وعلماءه في التفسير (الهرمنيوطيقيا) لا يطرحون هذه البحوث في هذا الإطار من التفريط والإفراط الذي يطرحه متنوِّرو مجتمعنا المعاصر.
ولذا، ومن باب التذكير فقط، أقول: عندما تلج بعض من تلك المباحث أوساط مجتمعنا فبدل أن تأخذ نسقها الطبيعي في الحركة فإنها تستحيل إلى موضوع سياسي، إذ تكمن وراء ذلك أغراض أخرى..، وذلك في الوقت الذي لا يُعرف فيه: هل يضمر صاحب هذا الرأي هذا الغرض أو لا؟ لكنّ البحث في هذا الموضوع يتعرّض للاستغلال.
إنَّ موضوع النسبيَّة في فهم الدين هو من أمضى الأسلحة التي استخدمها الغرب في نزع سلاح الحكومة الدينية، ولا توجد «حَرْبة» أكثر قدرة من هذه النسبيَّة يمكن أن تفرغ الحكم الديني من محتواه وتسلبه صلابته.
وبالطَّبع، من الضَّروري أن يبدي المُخَاطَبون قدراً من الحساسية إزاء هذه البحوث، لأنها عندما تطرح في شكلها الحالي، لا تطرح في إطار البحث الدِّيني الصرف، بل تستحيل إلى «حراب» تنفذ، وبهدوء، في بنية الحكومة الدِّينية بغية إضعافها.
ذلك أنَّ من لوازم النِّسبية هي «العلمانيّة» (سكولاريزم)، أو فصل الدِّين عن السياسة، إضافة إلى الآثار الأخرى المترتِّبة عن ذلك.
ومن هنا فإنَّ البحث في هذا الموضوع ينطوي على قدر كبير من الحساسيَّة.
التّعدُّديَّة في فهم الدِّين/ تعدُّد القراءات
يتمسَّك الذين يطرحون مسألة التَّعدُّدية في قراءة الدِّين، أو تعدُّد القراءات، باختلاف المجتهدين في آرائهم، ويقولون:
________________________________________

[الصفحة - 84]


لقد كان في الإسلام مجتهدون مختلفون طرحوا آراءً مختلفة، وهذا يعني أن هناك أفهاماً مختلفة وقراءات مختلفة في الدِّين.
لكنَّ الحقيقة شيء آخر، وهذا الكلام يعدُّ استغلالًا سيِّئاً لأمر بديهي وواضح، من أجل استنتاج نتيجة غير صحيحة البتَّة.
فليس النِّزاعُ، في موضوع القراءات المختلفة للدِّين، هو الاختلاف في مسائل فقهيَّة معيَّنة، مثل تحديد موقف فلان أو فلان... من مسائل فرعية أبدى فيها علماء آراءً مختلفة، بل إن موضوع القراءات المتعدِّدة هو في النِّسبية الكلِّية، يعني هل أن مجموع إدراكاتنا وأفهام علماء الدِّين والحكماء والفلاسفة أو ما يفهمه المفسِّرون، من نصوص الكتاب والسنة لا يمكِّن من بلوغ فهم يقيني للكتاب والسنة!؟ وإن يكن الأمر هكذا فهل يعقل أن أمثال النائيني والأصفهاني والسيد الإمام قد غفلوا ـ بالرغم من جميع تدقيقاتهم في الفقه والأصول ـ عن وجود الاختلاف بين المجتهدين.
إنَّ البحث ينصّ على ما يأتي: هل توجد لدينا، أساساً، ضروريات دينية أو فقهية أو لا؟ وهل يتسنَّى لي، في العصر الحاضر، مثلًا، وفي ضوء الاختلاف في الفهم بين العلماء، منذ صدر الإسلام وحتى الآن، أن أبدي رأيي في تفسير آية ما حسب وجهة نظري؟
بالطَّبع هذا بحث في ضروريَّات الدِّين.
من الممكن أن يدَّعي شخص أنَّ لديه كلاماً جديداً حول آية لها مداليل وتطبيقات، وليس من إشكال في ذلك.. ولكن عندما يكون الحديث في ضروريَّات الدين، مثلًا في باب «المعاد»؛ حيث فسّره بعضهم بـ «ظهور قوى البروليتاريا»، فهل يمكن أن يكون هذا فهم للإسلام؟
ربما يقال: إنه يوجد اختلاف في الرَّأي في مسألة التوحيد أيضاً؟ نعم، يوجد اختلاف، ولكن عندما يكون الحديث حول نفي التوحيد في الإسلام فهل لدينا إزاء هذا الرأي موقف محدَّد، وهل تمتدُّ بنا الأفهام المختلفة إلى تنحية الضَّرورات الدِّينيَّة والفقهيَّة؟
________________________________________

[الصفحة - 85]


وهذه الدَّائرة هي منطقة النزاع؛ إذ يعلن كثير من الكتّاب، مراراً، أنه لا يوجد فهم للإسلام يحظى بالقداسة؛ وذلك في الوقت الذي توجد فيه ضرورات دينية مسلّم بها (التوحيد، النبوّة والمعاد)، وهي من الكتاب والسنَّة وتحظى بالقداسة.
النُّقطة الأخرى موضوع البحث هي: هل يوجد، في غير فهم الضَّرورات الفقهية، منهج خاص في قراءة الكتاب والسنَّة؟ يعني: أليس هناك، في دائرة الأفهام الظنِّية المستنبطة، ما هو حجَّة وغير حجَّة؟
الواضح، هنا، أن أشياء أخرى تكمن وراء هذه البحوث.
مثلًا، عندما يبدي كاتب ما رفضه لآراء الفقهاء، علينا أن نعرف، أوَّلًا، ما إذا كان هذا الكلام يتناول حتى الأفهام الظنِّيّة أو لا؟؛ وذلك في الوقت الذي تتضمَّن فيه كثير من أحكام الرسائل العمليَّة الظنيّات، لكنها حجَّة.
أي أنّ مجتهداً بذل جهده وسعيه باستخدام أدوات استنباط الحكم من الكتاب والسنّة والعقل، وتوصَّل إلى فهم ظنِّي؛ حيث الظَّن حجَّة، ونقول: إن مجرد ظنِّية بعض آراء المجتهدين لا يسوِّغ لنا ادعاء تساوي ظنِّيات فلان الكاتب، وهو لا يمتلك نصيباً من هذه المعارف، مع هذا الظن الحجَّة للمجتهد حتى يقول: إن فهمنا للقرآن هو هكذا.. لأن هذا مغالطة؛ إذ إن فهمه ليس موثَّقاً.
من الممكن، طبعاً، أن يكون فهم الفقية ظنّياً، لكنه فهم موثَّق. وتوثيق مجموع جهود المجتهدين والفقهاء في الاستنباط والاجتهاد والتحقيق وقواعد الاستنباط يتمثل في وجود منهج يمكن الاستناد إليه في توثيق الظن الذي يرضي الله تعالى ورسوله (صلي الله عليه و آله و سلم).
إنني أرى ما وراء هذه البحوث، وأتابع هذه القضايا، وقد قرأت جميع أفكار الباحثين في «التعدّدية الدينية».
بعضهم وصل به الأمر إلى حالة من الفوضى الفكرية، فيقول: إنَّ ديناً تكون فيه أفهامنا ظنِّية إنما هو بحيث يكون فهم «العلَّامة» مجرد فهم من الأفهام بشكل ما، والفخر الرازي يفهم بشكل آخر، وكلٌّ من الأشعري والمعتزلي والإمامي يفهم فهماً
________________________________________

[الصفحة - 86]


مختلفاً؛ إن مثل هذا الدين الذي ينطوي على كثرةٍ في الأفهام لا يمكن الوثوق به، ولا يمكن تحميله (الدين) أكثر ممَّا يحتمل.
وأصحاب هذه النظرية يحاولون الترويج، بشكل من الأشكال، للإباحية المعاصرة، وإننا لنرى كثيراً من مريدي هذه الأفكار يعيشون هذا النوع من الإباحيَّة.
إنَّهم يدّعون أن واجبية الحدود وواجبيَّة الصوم وهذه الدقَّة في أبواب الأحكام ما هي إلّا فهم الفقهاء، أما ما يقوله الدين نفسه فهو مجهول!
ونقطة النِّزاع هنا تتمثَّل في أن طائفة من هذه الإدراكات هي من ضرورات الدِّين، وطائفة أخرى من ضرورات الفقه والباقي ظنّيات حجَّة.
وعليه فإنَّكم، إذا بذلتم جهداً على مدى سنين طويلة، وصحَّحتم قواعد الاستنباط، وتوصّلتم إلى فهم غير هذه الأفهام، فإن فهمكم يصبح فهماً حجَّة أخرى.
لا أن تقولوا وبسهولة: إن ما قاله العلماء هو فهمهم. أحياناً يكون البحث حول القراءات المختلفة للدِّين، فيتمسَّكون بجملة مسائل بديهية، مثل اختلاف الفقهاء في اجتهادهم، ثم يستنتجون من ذلك افتراق في القراءات، ولكن الواجب معرفة أين هي منطقة الاختلاف؟
هل يوجد اختلاف كلّي أو لا؟
وإجمالًا فإن مسائل الاستنباط الفقهي جزء من البديهيَّات.
هناك استدلالات متعدِّدة حول النِّسبية المطلقة، وسوف أشير إلى قسم منها.
إنَّ في طليعة مسوِّغات التَّعديية في فهم الدين نظرية «الشَّريعة الصامتة». فهم يطرحون هذه الفكرة، وهي: إن الشريعة ونصَّ الكتاب والسنَّة صامتان، ونحن الذين نستنطقهما ونفهم منهما مطلباً معيَّناً..
ويرون أن تلك الأسئلة التي تُطْرح على الكتاب والسنَّة هي التي تستنطقهما، وإلّا فهما صامتان، ثم يتساءلون عن مصادر هذه الأسئلة؟
________________________________________

[الصفحة - 87]


من المسلّم به أن مصدر هذه الأسئلة ليس الكتاب والسنَّة بل العلوم والمعارف المعاصرة والفلسفة والرياضيات والكيمياء.. وعلى هذا الأساس، فكلما ازداد تراكم هذه العلوم في ذهن العالم ازداد فهمه للدِّين أصالةً ودقّة، وكان أكثر قرباً من الحقيقة، وما لم تتم معرفة العلوم الأساسية فإن فهم علمائنا لن يكون حجَّة.
وفكرة «الشريعة الصامتة» تنطوي على فرضيَّات قبلية لغويَّة وأصولية يتوجَّب بحثها.
غير أنه يجب التأمّل في مسوّغات أساس هذا الادّعاء، والسُّؤال: هل يتّصف بالصحة أو لا؟ وهل الشريعة صامتة حقاً؟
لنفترض، على سبيل المثال، أنفسنا جالسين في مسجد، ثم يدخل النَّبي (صلي الله عليه و آله و سلم) ويبيِّن حكماً، فما هي أدلَّة صمت الحكم هنا؟
ولماذا يقولون: إن فهمنا للكتاب يدور في مدار أسئلتنا؟
ثم يصل بهم التَّطرّف إلى القول: إن فهمنا يأتي بالضبط وفاقاً لأسئلتنا، ما يعني أنه ما لم نسأل فإن القرآن والسنَّة لا ينطويان على شيء من أجلنا.
هل صحيح أنَّه لا يمكن أن يخاطبنا القرآن قبل أن نسأله؟ وأساساً فإن انطواء القرآن على محتوى ومعان ومفاهيم يلقيها إلينا هو الخطاب عينه. وإنني أحدس بأن القائلين بهذه النظرية يخلطون.
لبعض فلاسفة «الهرمنيوطيقيا» مقولة في باب السُّؤال، وهم لا يفسرون معناه بأنه اكتساب شيء من الخارج، بل يرون أنه حالة من التَّهيُّؤ إزاء النَّص، فالإنسان ـ وفقاً لآرائهم ـ يتهيَّأ. طبعاً هذا شرط صحيح. فعندما أجلس أمامكم، مثلًا، وأريد الإصغاء إلى كلامكم، فإنه يتعيّن عليّ الاستعداد لاستقبال كلامكم، يعني أن أعدّ نفسي وأتهيأ من أجل الإصغاء إليكم وفهم كلامكم، وهذه الحالة لا علاقة لها بالبحث.
وهناك فرق بين أنَّه يجب أن يكون الإنسان في حالة توجُّه عندما يتواجه مع متن ما وبين كون المتن صامتاً بسبب استجلاب الإنسان أسئلته من الخارج ومن المعارف العصرية.
________________________________________

[الصفحة - 88]


وإضافة إلى هذا، هناك مسألة مهمَّة يغفلون عنها، وهي: لماذا الشَّريعة صامتة؟ إنهم يرجعون السؤال إلى بحث لغوي ويقولون: إن اللغة لا تقدِّم لنا المعاني بل نحن الذين نهب اللفظ معناه.
بينما علماؤنا يقولون: إنَّ للألفاظ معاني وُضِعت لها بمعزل عن ميولنا، وبالرغم من أصلها الاعتباري. ولكنها، بعد الاعتبار والمواضعة، تصبح ذات دلالة حقيقيَّة على المعاني، من دون أن يكون لذلك علاقة برغباتنا وميولنا... هذا هو تفكير علمائنا.
أمَّا هؤلاء فيقولون: نحن الذين نمنح النص معناه.. ونقول في معرض الجواب أنَّ هذه المقولة، من حيث الأساس، تفتقر إلى الصحة؛ ذلك أنه، وإضافة إلى وجود نتيجة فاسدة لها، فإنها تفتقر إلى مبنى معقول.
إن النتائج التي تفضي إليها هذه المقولة هي حرّية الإنسان في منح اللفظ المعنى الذي يشاء.
فعلى سبيل المثال نقول: إذا قلتم لا إله إلا الله ينزل المطر، وهنا يقولون: إننا لا نريد القول إن النَّص يقبل كل معنى.
والحال ليس هكذا.
فعندما ندقِّق في جذور ذلك، فإنَّنا نعود إلى أن العلاقة بين الألفاظ والمعاني، بعد المواضعة، قد انتفت فيها المواضعة، ولم يعد ظهورها اعتباريَّاً كما هو الحال في الظواهر حيث إنها مواضعية، صحيح أن الوضع هو عبارة عن تعاهد وتعاقد إلّا أن ظهور الألفاظ في المعاني، بعد الوضع، هو أمر غير تعاقدي ولا مواضعي وإنما هو أمر تكليمي.
وإن ما يخطر في أذهاننا من معان، من خلال ألفاظ القرآن، سواء على نحو الدَّلالة التَّصورية أم الدلالة التصديقية، ليس معاني اعتبارية بل معانٍ حقيقية.
ولذا، وفي ضوء التَّعريف الفلسفي والكلامي، نقول عن أيٍّ من معاني القرآن والسنَّة إنَّه عيني.
________________________________________

[الصفحة - 89]


ولذا يمكن القول: إنني أدركت معنى القرآن أو لم أدركه.
القراءات المتعدّدة للدين، وانطلاقاً من إقرارهم، تشتمل على الصحيح والسقيم. يعني أن قراءاتنا للدِّين هي مجموعة تضم الخطأ والصَّحيح، وهذا الخطأ لا يمكن أن يكون «بطناً» للقرآن في الوقت الذي تكون فيه نصوص القرآن جميعاً هي الحق عينه.
إذن فإن القراءات المختلفة، وهي على حد زعمهم مشتملة على الصواب والخطأ، لا يمكن أن تكون تلك «البطون» القرآنية التي أشير إليها في الرِّوايات!
التّعدُّديَّة في ذات الدِّين
إلى هنا نكون قد أجملنا الكلام في بحث القراءات المختلفة والمتعدِّدة للدِّين.. والآن نبحث التَّعدُّدية في ذات الدين، وهي نظرة من خارج الدين؛ حيث يقول بعضهم: في عالمنا أديان مختلفة، وهناك تشابه كبير بينها واختلافات كثيرة أيضاً. وهذه الكثرة يجب بيانها.. فلماذا هو التكثُّر؟ ولماذا بهذه الكيفية؟ وهنا نرى أن مسألة التسامح ترتبط بهذا البحث؛ وذلك أن أساس النتيجة المتحصِّلة لدى هؤلاء، من التعدّدية الدِّينية، هو التسامح والتساهل ليس في الصَّوابية فحسب، وإنَّما في الحقَّانية أيضاً.
هناك ثلاث نظريات في الأديان:
1 ـ التَّعدُّديّة: (ploralism)
2 ـ الشُّموليَّة (Inclusivism)
3 ـ الانحصاريَّة (Exclusivism)
وتعني الانحصاريَّة أن هناك ديناً واحداً على الحق والأديان الأخرى على باطل.
أمَّا الشُّمولية فتعني وجود دين واحد على الحق تنطوي الأديان الأخرى تحت ظلاله.
________________________________________

[الصفحة - 90]


فعلى سبيل المثال، المسيحي يدّعي أن المسيحية هي الدين الحق، والمسلمون هم في الواقع مسيحيون؛ يعني أنَّ جميع الأديان واقعة داخل المسيحية من دون أن يلتفت أتباعها إلى ذلك.
الأديان الأخرى ليست على غير حق، ولكن حقَّانيتها تندرج تحت دين خاص، وهذه هي الشُّمولية.
التعدُّدية، أو «البلوراليَّة»، تدّعي أن كل دين هو نفسه، ولكن جميع هذه الأديان هي مظاهر/ صور لواقعيَّة واحدة، وهذه الصُّور حقيقية. وعلى هذا توجد طرق مختلفة إلى هذه الحقيقة، ما يعني أن لا تكون أتباع الأديان الأخرى أهلًا للعقاب. ويقول أتباع هذه النظرية: كيف يمكننا أن نقبل بأن الشيعة الاثني عشرية هم وحدهم أتباع الحق، وهم الناجون، وجميع الناس سيكون مصيرهم إلى الجحيم؟
وينتهي أتباع هذه النظرية إلى القول: إن الأديان الأخرى هي، أيضاً، على الحق، إذ إن كلًّا منها يمثل صورة من الحق.
وقبل أن نلج هذا البحث أشير إلى عدّة نقاط في ماهية الأدلَّة على هذه المقولة؟
فمن نقاط البحث التي يجب الالتفات إليها ما يأتي:
أوَّلًا: إن هذه المسالك والنظريات الثلاث لا تدل على الانحصار في إطارها؛ فيما أكثر المعارف القرآنية التي تذكر شيئاً لا هو تعدُّدي ولا هو شمولي ولا هو انحصاري بل هو قسم معقول آخر.. إنني أدافع عن هذا.
نستعرض بعضاً من آيات القرآن لا تبدو من هذه النَّظريَّات الثَّلاث بل شيء آخر.
والنقطة الأكثر أهمية، وهي ضرورية وجديرة بالبحث لحمايتها من الاستغلال كهذه النقطة، وهي أن «الشيعة الاثني عشرية هم أهل الجنة والآخرون في النار».
وحتى لا نقع في مغالطة، يجب تحديد منطقة البحث فنسأل: هل أن بحث القراءات المختلفة للدِّين يهتم بالأديان كما نزلت أو بالأديان كما هي الآن؟
________________________________________

[الصفحة - 91]


وهل تتمثَّل مهمَّة البحث، في الإسلام والمسيحية واليهودية، في تناول هذه الأديان كما جاء بها الأنبياء أو كما هي اليوم؟ وهذا بحث مهم؛ حيث يجب أن نصغي إلى استدلالات الطرفين ومنطلقاتهم ومبانيهم.
النقطة الثانية، في هذا البحث، والتي يتوجَّب الالتفات إليها، هي أن الأديان الإلهية تدرّجية في الزمان.. ففي كل حقبة زمنية يُرسل نبي لتبليغ دين الله. إذن فإن مسألة الزمان مهمة لاحتمال نسخ الشريعة حتى لو جاء بها نبي، أو نسخ جزء من أحكامها؛ فحتى شريعة المسيح الحقة نسختها أديان أخرى، ومن خلال مجيء أنبياء آخرين؛ إذن مسألة الزمان يجب أن تحظى بالاهتمام.
والحقيقة أن الأنبياء متَّحدون تماماً في أمَّهات التعاليم. آيات القرآن تعلن ذلك صراحة، وهناك إشارات واضحة في القرآن الكريم كقوله على لسان النبي: {قل: يا أهل الكتاب، تَعَالَوا إلى كَلِمَةٍ سواءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ ألَّا نَعْبُدَ إلَّا الله...} {آل عمران/64}. أي أنَّه يدعوهم إلى كلمة مُتَّفق عليها بين الطَّرفين، وهي عدم جعل إله آخر مع الله.
أو قوله تعالى: {إنّ الدِّين عندَ الله الإسلام} {آل عمران/19} كما هو الحال في رأي العلامة الطباطبائي، حيث ذهب إلى أن الإسلام هنا لا يعني ديناً خاصّاً، وإنما يعني التَّسليم لإرادة الله.
فحقيقةُ الدِّين، لدى الله سبحانه، هي الإسلام، ويعني أصل الخضوع والتسليم لله في المعرفة والعمل. وبالرغم من الاختلاف بين الأديان، كمّاً وكيفاً، فإنَّها جميعاً مصداق التسليم لله، سواء في المعارف أم في السلوك.
ومن الممكن أن يخالف بعضهم رأي العلامة الطباطبائي في هذا المضمار، ذلك أن الإسلام، في لغة القرآن، قد يعني معناه الاصطلاحي، ولهذا فهو بحث تحقيقي.
الروايات، طبعاً، تؤكِّد معناه الاصطلاحي، وأوردت أركانه أيضاً. وفي القرآن من المحتمل أنه يعني معناه اللغوي، وهو مفهوم التسليم، والآية الشريفة، وانطلاقاً من المعنى اللغوي، تعني التَّسليم للحقَّانية.
________________________________________

[الصفحة - 92]


إذن، لو بحثنا في الأديان الحقيقيّة فسوف نرى أنَّه لا يوجد من ينكر اتحادها في الأصول الكبرى. لأنها جميعاً تدعو إلى الإيمان بالتوحيد والمعاد.
وما يلفت الانتباه، هنا، أن بعض الآيات تصرّح بأن السَّابق من الأنبياء يبشِّر بلاحقهم. فالدِّين المسيحي لم يكتف بالسيد المسيح وحسب، بل إنه بشر بنبي يأتي من بعده، فالبشارة هذه جزء من الدِّين المسيحي.
وهكذا نرى وحدة بين الأديان. أمَّا الاختلاف القائم بين الأديان فهو تارة اختلاف بالشدّة والضعف، وأخرى بسبب الكمال والمعارف التي يتم التقاؤها؛ حيث من الممكن أن تكون أكثر أهمية أو كمالًا من هذا الدِّين أو ذاك. وثالثة بسبب مسألة النسخ؛ حيث يجري إلغاء أحكام نتيجة عنصر التدرُّج الزمني.
وكما أشار العلامة الطباطبائي، فإن التَّسليم، وهو الدِّين الحقيقي، يتجلّى في مصداق واحد في كل مرحلة زمنية.
ففي زمان النبي (صلي الله عليه و آله و سلم) تمثَّل التسليم للحق في الإيمان برسالة النبي (صلي الله عليه و آله و سلم) والإذعان لها.
فعدم الإيمان به يعني عدم التسليم للحق، وبالتالي عدم القبول بجوهر الأديان جميعها.
والمسألة التي يتوجَّب التأمُّل فيها، في هذا البحث، كما قلنا، هي: هل أننا نبحث الأديان الحقيقيَّة؟ وقد اتضح لنا ذلك.. أو الأديان كما هي الآن؟
أحياناً نشهد دعاوى متعارضة بين الأديان المعاصرة: المسيحية المعاصرة، مثلًا، تنفي نبوَّة سيدنا محمد (صلي الله عليه و آله و سلم)، وغالباً ما تقول بالتَّثليث أو بالأقانيم الثلاثة، وإن المسيح هو الرَّب أو ابن الرَّب.
وقد صرّح القرآن الكريم بكفر هذه العقيدة. وفي ما يخصّ قضيَّة صلب السيد المسيح (عليه السلام) فالقرآن ينفيها صراحة، ويعدّها خطأ، ويقول: إنما شُبّه لهم {وَقولِهم: إنَّا قتلنا المسيح، عيسى بن مريم، رسولَ الله، وما قتلوه وما صلبوه، ولكن شُبِّه لهم...} {النِّساء/57}.
________________________________________

[الصفحة - 93]


وهذا يعني وجود طائفة من العقائد في الأديان، كما هي اليوم، محرّفة وسيكون الجمع بينها غير معقول.
حتى لو لم نستند إلى القرآن، فإن مقولة التَّعدُّديّة ـ البلوراليَّة في حقانيَّة الإسلام والمسيحية واليهودية هي في حد ذاتها ليست معقولة؛ وذلك لأن اليهودية والمسيحية اليوم تنطويان على دعاوى متعارضة، فهل من الممكن أن تكون جميع الدعاوى المتعارضة هذه على حق؟
إنَّنا نقول ببطلان التثليث، في الوقت الذي يؤمنون فيه بحقَّانية ذلك، ولا يمكن الجمع القولين.. والتعدّديَّة ـ البلوراليَّة، بهذا المعنى، باطلة هنا في حدِّ ذاتها؛ إضافة إلى أن هذه المقولة منافية للمعارف القرآنية والرِّوائية، وسيكون المتديِّن المسلم في وضع يرفض فيه هذه التعدّديَّة ـ البلوراليَّة.
الآيات القرآنية تنفي صراحة بعض التعاليم الموجودة في الأديان كما هي اليوم.. إذن فالتعدُّديَّة، بمعنى الجمع بين الأديان في الحقانية وبلوغ السعادة، ليست معقولة.
المسألة الأخرى التي تستدعي الانتباه والتي يستند إليها بعض دعاة التعدّديَّة هي وجوب التَّفكيك بين المقولات الثلاث:
1 ـ مقولة السعادة. 2 ـ مقولة صوابية العقاب. 3 ـ مقولة الحقَّانية.
إنَّنا إذا اعتقدنا بحقَّانية الإسلام لا غير، فمن غير المعلوم أن نقول: إن جميع أتباع الأديان الأخرى هم في الجحيم، أو أنهم محرومون من أي نصيب من السعادة. يقول المرحوم الطباطبائي، في أحد مؤلَّفاته: إننا لا نستطيع الادّعاء بأن غير المسلمين محرومون من السعادة؛ لأن السعادة تدور مدار الطاعة، فما أكثر المسيحيين الذين بحثوا وتلمّسوا، ولكنَّ الظروف الاجتماعية الخاصّة حالت دون بلوغهم الهداية، ولكنهم عملوا بما حصلوا عليه من العلم.
ومثل هذا الإنسان الباحث المتلمِّس أطاع الحق ولا يدخل الجحيم؛ إضافة إلى قبح العقاب قبل البيان، وهذه مسألة معروفة لدى علمائنا. وهذا الدليل ينسحب على
________________________________________

[الصفحة - 94]


المعارف والأحكام، فمن تفحَّص ولم يجد بياناً للحقيقة، فإن عقابه سيكون قبيحاً، والله لا يفعل ذلك.
فمجرد الانتساب إلى الأديان الأخرى لا يوجب القول: إن أتباعها معذَّبون ومعاقبون، فالمسألة هنا إذن هي مسألة الحقَّانية. فلعل من هم غير أهل الحق لا يكونون من أهل الجحيم أيضاً، لأن ذلك يتوقَّف على عملهم.
يمكننا أن ندَّعي، مع الأخذ بنظر الاعتبار الأديان كما هي عليه اليوم، بأن التعدّدية تفقد معناها، سواء من وجهة نظر عقلية أم نقلية، أمَّا الأديان، كما جاء بها الأنبياء، فهي في جوهرها الأصيل متوحِّدة نُسخ بعض تعاليمها، ولذا لا بد من الأخذ بالدين الكامل، وهو الإسلام في زماننا هذا.
إننا، لو التفتنا إلى ما تقدَّم، فسيكون ما ذكرناه نوعاً من الانحصارية بمعنى من المعاني، لأننا نقول: إن الدين الإسلامي هو الحق؛ لكننا لو دقَّقنا نقول: من ناحية جوهرية، الأنبياء جميعاً يدعون إلى حقيقة واحدة، وهي التسليم للحق حيث مصداقه مختلف بلحاظ الزمان، والأنبياء كانوا يبشِّرون بمن يأتي بعدهم، والآية الكريمة تصرّح بهذه الحقيقة: {الذين يتَّبعُون الرَّسولَ النَّبيَّ الُأمّي الذي يَجِدُونَه مَكتُوباً عندهم في التَّوراة والإنجيل} {الأعراف/157}.
فالقرآن يصرِّح بوجود اسم النبي (صلي الله عليه و آله و سلم) في التّوراة والإنجيل في أنهم لا يؤمنون بهذا الدِّين الحالي.
الاستدلال الآخر يقولون فيه: لدينا أديان مختلفة، وهذا تكثُّر موجود يتوجَّب تبيينه. والتَّبيين هو أن الأنبياء جميعاً كانوا يتلقَّون أمراً واحداً، ولكن هذا الأمر النازل هو أمر خاص، يقوم ذهن النبي نفسه بتفسيره، والأنبياء مفسِّرون لذلك العنوان المبهم النازل عليهم.
وعلى هذا، فإن نبيَّ الإسلام الذي جاء بدين الإسلام إنما جاء بتفسير وتجربة ذاتيَّين، وكذا بالنسبة للمسيحية واليهودية.
إنهم يريدون القول: إن الأمر المنزل من الله على الأنبياء واحد، ولكن هذا
________________________________________

[الصفحة - 95]


الأمر الواحد، لم يفسَّر، إذ إن تفسيره يتم من خلال تجربة النبي، ويستشهدون بهذا المثال العجيب: إن النعيم في الجنة تفسيره أحياناً بالحور العين يعني العيون السود، ثم يقولون: ولكن هل الجمال ينحصر بالحور؟ ولكن لأن البيئة آنذاك تنظر إليه بوصفه مثالًا للجمال، لهذا ذكر القرآن الحور العين، ولو كان في بيئة أخرى لقال: العيون الزرق. يعني أن ذهن النبي فسّر ذاك الذي استلهمه.
مؤلف «الصُرط المستقيمة» (1) {د. عبد الكريم سروش} يطرح هذه الفكرة، ويقول في موضع آخر: إن حجم القرآن الفعلي إنما يرتبط بمدّة نزوله، وهي 23 سنة، ولو عاش النبي (صلي الله عليه و آله و سلم) أكثر لتضاعف حجم القرآن عدّة مرات، وهذا يعني أنه تفسير النبي لذلك الأمر الواحد النازل عليه، ومن المحتمل أن يتعرض للزيادة أو النقصان بمرور الزمن.
والحقيقة أن هذا المدّعى يفتقر إلى أساس ديني، والقرآن يصرِّح قائلًا: {ومَا يَنْطِقُ عن الهَوَى * إنْ هو إلّا وحيٌ يُوْحَى} {النَّجم/3 و4}.
وإذا كانت المعارف القرآنية والإنجيلية والتوراتية هي تجلِّيات ذهنية للأنبياء، فما هو معنى «وما ينطق عن الهوى» وما هو مصير: {بالحقِّ أنْزَلناه وبالحقِّ نَزَل} {الإسراء/105}.
والقرآنُ يزخر بهذا التعبير عن الحق الذي هو هذا القرآن: {وإنَّك لتُلَقَّى القُرْآن من لدُنْ حكيمٍ عَليم}{النَّمل/6}.
وإذا كان القرآن هو التفسير والتجربة الذهنيَّة للنبي (صلي الله عليه و آله و سلم) تكون عبارة{لتُلَقَّى القرآن} خاطئة، لأنه (القرآن) وليد ذهنية النبي (صلي الله عليه و آله و سلم) وليس {من لدن حكيم عليم} . وإن لهذا الطرح نتائج يستفيد منها هؤلاء في عرض القرآن على العلم المعاصر، فإذا ظهر هناك تعارض بينهما، تكون الأصالة للعلم وليس للقرآن لأن الأخير تفسير النبي وتجربته الذهنية!
لكنهم لا يجرأون على التصريح بذلك، بل يقولون: إننا نطرح الأفكار ونتكلم ونترك الاستنتاج للناس. إنهم بطريقة، أو أخرى، يريدون زعزعة حقَّانية القرآن وقداسته، وهما من ضرورات الدين. وعندما يتم لهم القضاء على القرآن، سندنا الوحيد، فلن يتبقى لنا حينئذٍ شيء.. إنهم يريدون إطفاء هذا النور الذي
________________________________________
(1) هذه الدِّراسة، في الأصل، محاضرة تلتها أسئلة من الحضور أجاب عنها المحاضر، وقد رأينا أنَّه من الأفضل والأكثر فائدةً أن ننشر نصَّ المحاضرة وما أثارته من حوار.

[الصفحة - 96]


يربطنا بالسماء، وعن طريق التلاعب بالألفاظ وتزويق الكلمات يحاولون انتزاعه منا.
هناك صيغة أخرى للتعدُّدية تتمثّل في قولهم: إن ما ينزل على الأنبياء ليس واحداً بل هو مختلف، وصور مختلفة لحقيقة واحدة في عالم الوجود.
والأنبياء، وفاقاً لدرجاتهم، يحصلون على هذه الحقيقة، واختلاف التفاسير إنما يتم بسبب تعدُّد تجارب الأنبياء فحسب، لأن قابليّاتهم في التلقِّي متفاوتة! وهذه مقولة صحيحة إجمالًا والقرآن ذكر هذا الاختلاف في درجات الأنبياء.
ولكن السؤال الذي يطرح هنا هو: ما علاقة هذا الموضوع بالتعدُّدية الدِّينية في الأديان؟
إن هذا الموضوع يفيد أن ما جاء به الأنبياء هو تجلٍّ لحقيقة واحدة، فما جاء به المسيح (عليه السلام) لا يتعارض مع ما جاء به نبينا الأكرم (صلي الله عليه و آله و سلم)، وهذا صحيح، لكن ما علاقة ذلك بالتعدُّديَّة الدينيَّة؟
يجب ألّا نخلط بين الأديان الحقيقية كما نزلت بالأديان كما هي اليوم؛ إذ إنها تعرّضت للتَّحريف.
هذا خلط في البحث لأن الموضوع يرتبط أساساً بالأنبياء أنفسهم لا بالأديان في شكلها الحالي.
وخلاصة القول هي: هناك ثلاث نظريات مطروحة في مسألة التعدّديَّة الدينية فيما المعارف القرآنية الموجودة تؤكّد أن حقيقة الأديان واحدة إلّا في ما يتعلّق بالنسخ وكمال النفس.
أما هذه الأديان في صورتها الحالية فدعاوى متضادّة تفتقد التعدّديَّة فيها جميع المعاني.
حــوار
س: هل يمكن الاستناد إلى الاختلاف في فتاوى الفقهاء ونظريات كبار الفلاسفة في إثبات التَّعددية الدينية، وبخاصّة أن دعاة هذه التعدّديَّة يعتمدون الاختلاف في فتاوى الفقهاء دليلًا على دعواهم؟
________________________________________

[الصفحة - 97]


ج: لقد بحثنا هذه المسألة وقلنا: إن هناك تعدّدية في فهم الدين ترجع إليها اختلافات الفقهاء بصورة طبيعية. وقد بيَّنت أن أحداً لا ينكر وجود هذا الاختلاف، إلّا أن الحساسية في القراءات المختلفة للدِّين والبحث عن نسبيَّة مطلقة وكلِّية، وبسبب الخلط في هذه المباحث، تفضي إلى هذه النتيجة. والحال أن البحث هنا يدور حول وجود فهم مشترك لدينا أو لا؟ وهذا لا مجال للاختلاف فيه، إنّنا نريد القول: إن تاريخ الفقه والمعارف وتاريخ الضَّرورات الكلامية جميعها تنتهي إلى وجود ما هو مشترك، والتمسُّك باختلاف آراء الفقهاء يفضي أحياناً إلى زعزعة ذلك المشترك.
على سبيل المثال، قد يشكُّ أحدهم في ما إذا كانت الصلاة قد شرِّعت في الإسلام أولا؟ وهذا غير صحيح، ولا أحد ينكر هذه المسألة التي هي من أسس الإسلام كالصوم والحج.
البحث، إذن، ينصب على الضَّرورات الدِّينية والاستنتاجات الحجَّة. وإننا نفرِّق بين فهم المجتهد وفهم كاتب من الكتاب، ذلك أن فهم المجتهد حجَّة.. أما المباني التي يستند إليها كاتب في الاستنباط فهي ليست بحجة لأن الأخير لم يقم بتفحُّص الكتاب والسنة.
وهنا تكمن منطقة النزاع لا في اختلاف الآراء الذي هو من البديهيَّات.
س: يقول بعضهم: إن المشترك بين الفقهاء والمتكلمين وليد فرضياتهم القبلية المشتركة (كما هو الحال في الفتوى)، فإذا حصل اختلاف في تلك الفرضيات فهل تتبدَّل الفتوى؟
ج: نعم هذا صحيح، وفي كثير من المناسبات يحاول بعضهم الوصول إلى هذه النقطة؛ حيث يقولون: إننا نعدّ الثبات في الفهم معلولًا للمقدِّمات، ولكن هنا نقطة، وهي: هل يمكن اعتبار المقدمات قابلة للمناقشة والتعديل؟ هذا أمرٌ لا يمكن القبول به أبداً على أساس أنَّ من الفرضيَّات المطروحة ما يُسمَّى بالفرضيات (المصادرات) اللسانية أو اللغوية في فهم المحاورات، مثل لزوم العمل بظواهر الألفاظ يعد مقدمة وفرضية قبلية لسانية، ونحن نقبل ذلك جميعاً،
________________________________________

[الصفحة - 98]


وهذا يصبح دليلًا في الوصول إلى فهم للكتاب والسنة، فإذا قال أحدهم: إنني أرفض هذه الفرضية! فإنه يغلق باب الحوار والمخاطبة ليس في فهم الكتاب والسنة بل وحتى في المحاورات العادية.
إذن ثمة مبانٍ عقلية في باب الفهم لو تخلَّينا عنها لاختلّ نظام الحياة الاجتماعي.
إنَّنا نأخذ بالظَّواهر اللُّغوية؛ حيث المخاطِب والمخاطَب كلاهما ملتزم بمفاد ظاهر الكلام، وإلّا عجزنا عن التفاهم في ما بيننا، لأنه إذا أردنا التفاهم، فعلينا أن نقبل هذه القاعدة العقلائية، وهي أن اللفظ يكشف عن معنى محدّد، وعندما نرفض هذه القاعدة يصبح التفاهم والتخاطب مستحيلين.
صحيح أن الأفهام تابعة للفرضيات القبلية، وثبات بعضها تابع لثبات تلك الفرضيات، لكننا نقول: هناك فرضيات قبلية (مصادرات) لا يمكن التخلّي عنها، ووفقاً لذلك لدينا قدرة التفاهم في ما بيننا.
مثلًا لنفترض أن القرآن حق، هذه فرضية قبلية، وعندما ترفضها أنت تكون، في الحقيقة، قد هدمت ركناً في الإسلام، ولا يمكنك الادّعاء بأنك مسلم في الوقت الذي ترفض فيه أن القرآن حق!
ويمكن الترقِّي أكثر، فمثلًا، قد يقول أحدهم: إنني مسلم، ولكني أرفض التوحيد. إن التوحيد من مقدِّمات الإسلام، وهو فرضية قبليَّة، وإذا أردت الطعن فيها فلا يجوز لك الادعاء بأنك مسلم.
ثمة فرضيات ثابتة تفضي إلى أفهام مشتركة.
س: يبدو، من كلامكم، أنكم لم تفرقوا بين التعدُّدية والقراءات المختلفة للدِّين، والسؤال هنا هو: هل يوجد فرق بين المسألتين أو لا؟
ج: لقد بحثنا ذلك وقلنا: إن هناك تعدُّديَّة في ذات الدين وتعدُّديَّة في فهم الدين، وهي نظريَّة التَّعدُّد في القراءات.
س: إذا لم تكن الشريعة صامتة، فلماذا يقال عن القرآن: كتاب الله الصامت؟ وللمعصوم: كتاب الله الناطق؟
________________________________________

[الصفحة - 99]


ج: ورد في «نهج البلاغة»، عن أمير المؤمنين علي (عليه السلام)، كلام مشابه يقول فيه: هذا القرآن فاستنطقوه ولن ينطق لكم، ثم يقول الإمام: أنا الناطق به. فما معنى هذا؟ إنَّه بحث تفسيري له مكانه الخاص، وقد تتعدَّد التفاسير فيه. لكن الحقيقة هي في الخارج، والأئمة يستندون إليها، وهذه حقيقة مسلَّم بها، الحقيقة هي أن ظاهر الكتاب حجَّة لدى المسلمين، ويمكنهم الاستناد إلى القرآن.
ولدينا شواهد متعدِّدة في هذا المجال تؤكِّد علينا عرض الروايات على كتاب الله، فعندما نجد روايات متعارضة في مفادها فإننا نعرضها على القرآن، فما وافق كتاب الله نأخذ به ونطرح الباقي.
فالمعيار في اعتبار الرواية هو كتاب الله، وهذا لا يتم إلّا في حالة فهم كتاب الله، وهذا الفهم لدينا حجَّة، لأن الأئمة (عليهم السلام) أمرونا بالرجوع إلى الكتاب، فروايات أهل البيت (عليهم السلام) ليست حجَّة إلّا بعد عرضها على كتاب الله نأخذ بما يوافق الكتاب ونضرب الباقي بعرض الجدار.
إذن فالرُّجوع إلى كتاب الله والأخذ بظاهره حجَّة في الجملة، ولا يمكننا أن نقول: إنه صامت بشكل عام، أي أنه لا يلقي إلينا بأي مضمون.
ولو كان صامتاً، بشكل كلّي، لتوجب علينا الرجوع إلى الأئمة دائماً، فيما الأئمة يأمروننا بالرجوع إلى القرآن في تقييم الروايات.
يتَّضح، إذن، أن هناك أفهاماً لكتاب الله هي في ذاتها حجَّة، وهذا معيار في تشخيص الحق وتمييزه من الباطل في الروايات، وهي ليست قليلة، وهو ما عمل به الأصوليُّون والعلماء.
وعلى هذا يجب النظر إلى المعنى الممكن. ربما المعنى هو أن القرآن لديهم صامت بالنسبة للحقائق، وهذا حق أيضاً، وتشهد له الروايات في أن الأئمة يعدّون أنفسهم أصحاب التأويل.
إن هذا القرآن، بكل بطونه، ليس حاضراً بالنسبة لنا. إننا نواجه سطحاً من القرآن ومن خلال سبر بطون القرآن الذي يلزمه سبرها تهذيب للنفوس واستعدادات لا نعرف ما إذا كانت لسانية حيث الأئمة يحيطون بالقرآن كلّه.
________________________________________

[الصفحة - 100]


ثمة رواية في «بصائر الدرجات» و «أصول الكافي» تقول: إن القرآن الذي لو {سُيِّرت به الجبالُ أو قُطِعَت به الأرضُ أو كُلِّم به الموتى} {الرَّعد/31} لعند أهل البيت، والإمام يتمسك بهذه الآية؛ حيث تكليم الموتى وتسيير الجبال ليس بشيء لديه (الإمام)، لأنَّه يمكنه ذلك من خلال حقيقة القرآن.
ولكن يأتي بعض «المتنوِّرين»، ممَّن وقعوا في أطر الفضاء المادّي، ويستبعدون ذلك، ويقولون: هذا غلوّ في باب الأئمة وخطأ، وإننا لا نفهم هذا القرآن إلّا إذا أخذ بأيدينا الأئمة، ونكون مثل «سلمان» (2) ملحقين بأهل البيت، والخلاصة أن درجة من القرآن هي لدى الجميع حجَّة؛ طبعاً بعد التدقيق والفحص والتحقيق الذي هو حجَّة، وبعد إلغاء «الصَّمت». إذا قلنا: إن هذا القرآن نور وتبيان لكل شيء، ثم نقول بعد ذلك: إنه صامت، فهل الشيء الصَّامت يكون بياناً لكل شيء؟ الأئمة الذين هم أسرار مرافقة القرآن، فلو كان صامتاً فما الذي يمكن أن يقدِّمه لي؟ إن القرآن نفسه يقول:{هذا بيانٌ للنّاس} {آل عمران/138}، وهل الشيء الصامت يكون مبيِّناً؟
إن المراد من «صمت» القرآن هو جميع درجاته.
س: هل يمكن استنباط التَّعدُّدية الدِّينية من المصادر الدِّينية أو أنها قابلة للبحث فقط من منهج يقع خارج الدين؟
ج: الذين ينظّرون للنسبية يرون إلى الدين رؤيةً خارجية تماماً، ويدّعون أن مسألة القبض والبسط والنسبية الدينية هي خارج الدين ودرجة ثانية؛ مثل التفسير والفقه و.. ننظر إليها من الخارج؛ حيث نرى كيفية مسارها، وما هي الأشياء المؤثرة في الأفهام. والحقيقة أن التَّعدُّدية، بمعنى النسبية، فيها بحثان: أحدهما من خارج الدين والآخر من داخله.
لقد طرحتُ مسألة، وهي: ما هو الإشكال في عرض مسألة التعددية ـ كسائر المسائل الأخرى ـ على الكتاب والسنة؟
إنهما يرفضان التَّعددية والنسبية الكلّية.
________________________________________
(2) عن النبي (صلي الله عليه و آله و سلم) في حديث مشهور: «سلمان منا أهل البيت» (المترجم).

[الصفحة - 101]

 
فروع المركز

فروع المركز

للمركز الإسلامي للدراسات الإستراتيجية ثلاثة فروع في ثلاثة بلدان
  • العنوان

  • البريد الإلكتروني

  • الهاتف