البحث في...
إسم البحث
الباحث
اسم المجلة
السنة
نص البحث
 أسلوب البحث
البحث عن اي من هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على كل هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على هذه الجملة

المشروع الإصلاحي للشَّيخ النَّائيني‏ مقاربة أوَّلية في مناشى‏ء الوعي‏

الباحث :  الأستاذ رائد عبد الرَّحمن‏
اسم المجلة :  مجلة المنهاج
العدد :  15
السنة :  السنة الرابعة خريف 1420 هجـ 1999 م
تاريخ إضافة البحث :  February / 1 / 2015
عدد زيارات البحث :  1199

المشروع الإصلاحي للشَّيخ النَّائيني‏ مقاربة أوَّلية في مناشى‏ء الوعي‏

الأستاذ رائد عبد الرَّحمن‏ (*)

البحث عن أسباب النُّهوض الحضاري‏
دخلت المنطقة الإسلامية مرحلة التخلُّف الحضاري في أعقاب أفول دولة الخلافة وتسلُّط الدَّولة الأموية التي استخدمت القوَّة في انتزاع الشرعية، ومارست أوَّل فصول الاستبداد، متحدِّية بذلك إرادة الأمَّة ومبادئها في السياسة والحكم. فحلَّ الاستبداد محلّ الشورى، واستبدلت الإرادة العامّة بإرادة الحاكم، واختفت الحياة القانونية، وتراجع الوعي تحت ضغط الأساليب القمعية والعمل الإعلامي الحكومي المكثّف، الذي استهدف عقل الفرد وقيمه وسلوكه.
ثم جاءت الدَّولة العبَّاسية لتستكمل «الشَّوط» الأموي، وتمهِّد السَّبيل لتدافع موجات المغول واحتلال بغداد بقيادة هولاكو عام 657هـ/1258م. وبعد ذلك بقرنين، زحف تيمورلنك على دمشق ليكرِّر دور هولاكو فيها، ولتعيش دمشق ثانية وطأة الاستبداد والاضطهاد بعد أن واجهته مدَّة قرنين من الزمان في ظلِّ الحروب الصليبية المعتدية على بلاد الشام‏ (1) . هذا إلى جانب ما لحق الأندلس من جرَّاء الغارات المعادية منذ 1060م حتى سقوطها عام 1492م‏ (2) .
واتّصف الحكم العثماني بتكريس فقهاء السُّلطة، وبلورة الفقه السلطاني، المكلَّف بشرعنة ممارسات السلطان، والإبقاء على فقيه السلطة ليمارس تزييف الوعي ويقوم بدور المصالحة بين الطَّاغية والشَّريعة، التي ترفض روحها ومبادئها كلَّ أنواع الظلم والاستبداد وتعدُّ العدل هدفاً مقدَّساً لحماية حقوق الفرد والأمَّة.
________________________________________
(*)باحث وکاتب من العراق.
(1)المحافظة، علي، الاتجاهات الفكرية عند العرب في عصر النهضة، لبنان، بيروت، الأهلية للنشر والتوزيع، ط 1983، ص 11.
(2)سليمان، سمير، الإسلام والغرب.. إشكالية التعايش والصراع، إيران، مؤسسة التوحيد، كتاب التوحيد (2)، ط 1995، ص 19 وما بعدها.

[الصفحة - 202]


وفي الطَّرف الآخر من العالم الإسلامي (إيران)، كانت الدَّولة الصفوية التي كرَّست الطائفية واستنبتت روح العداء بين المذاهب الإسلامية، وحوَّلت، بمعيَّة الدولة العثمانية، الودَّ الإسلامي إلى عداء متجذِّر، خلف حالة من الكراهية ظلَّت تسري في دماء المسلمين إلى الوقت الحاضر. ثم تلتها الدولة القاجارية لتكون مثالاً للاستبداد والاضطهاد والتفرُّد في السلطة والتحكُّم برقاب المسلمين.
تلك الأحداث لم تمنع الوعي الرسالي وهمّ التغيير والإصلاح أن يراود ـ ولو خلسة ـ عقول شريحة من الأمَّة ظلَّت يقظة رغم الملابسات والتعقيدات الطاغية على الحياة العامَّة، بل من يتحرَّى الموضوعية يستطيع أن يحصي جملة ظواهر تكشف عن الرفض المستمرِّ لدى هؤلاء، وقد عبَّر هذا الرَّفض عن نفسه عبر انتفاضات وثورات شعبية، أو أفكار تبثّ في الكتب، أو أحاديث تدور همساً بين الأفراد، أو مواقف تحدٍّ بطولية، أو مواجهات، أو تحرُّك سياسي متوشِّح بسرية كاملة، أو حركة علمية تنمو في منأى غير بعيد عن الحدث.
لكن كل ذلك لم يتحوَّل إلى تيار متصاعد إلا بعد التماس الإسلامي الغربي، حينما وطئت حملة نابليون أرض مصر حاملة معها رقي الحضارة الغربية، المدينة للحضارة الإسلامية في تطوّرها (3) ، حينها اكتشف المسلمون الحقيقة، وتبصّروا واقعهم المتردّي، وقدروا عب‏ء المسؤولية، فطرحوا لأوَّل مرة سؤال النهضة: «لماذا تقدَّم الغرب وتخلَّف المسلمون؟». وأخذوا يفتِّشون عن أسباب النهوض الحضاري، فتعدَّدت الأجوبة، وتعدَّدت تبعاً لها الاتجاهات الثقافية والسياسية، لكن الاتجاه الإسلامي الواعي كان أوفر حظاً نسبةً إلى التيَّارات الأخرى، التي خذلها الوعي فألقت بلائمة التخلُّف على الدين قياساً على النظام الديني المسيحي الكنسي، الذي ساد أوربا إبان القرون الوسطى، وكان المسؤول المباشر عن تخلّف الغرب، متناسية بذلك دور الحضارة الإسلامية في تطوُّر الحضارة الغربية؛ حيث بدأ الغرب يقتبس من الأولى في أول تماس لهما في الأندلس إبان القرن التاسع‏ (4) ، ثم حوّل الغرب الشرق موضوعاً للدراسة والبحث، فشرع في دراسة مكوّناته الثقافية والفكرية دراسة أكاديمية منظمة عبر الجامعات الغربية (5) .
________________________________________
(3)المصدر نفسه.
(4)المصدر نفسه، ص 143.
(5)سعيد، ادوارد، الاستشراق (المعرفة، السلطة، الإنشاء). ترجمة كمال أبو ديب، إيران، قم، دار الكتاب الإسلامي، ط2، ص 80.

[الصفحة - 203]


ورغم أن الهدف الأساس وراء الاستشراق هو الاستحواذ على المفاصل الحياتية في الشرق إلاّ أن ذلك لا يمنع من دراسته أيضاً بغية تفكيك بناه الفكرية لفرز عناصر القوة في الحضارة الإسلامية وتوظيفها في بناء حضارتهم المادية. وهذا ما حصل حقيقة، فإن الدعوى إلى الأسلوب الموضوعي واعتماد الدليل والبرهان، واتباع الطرق العلمية للوصول إلى الحقيقة، والحث على طلب العلم والمعرفة، والتأكيد على اليقظة والوعي المستمرين، هذه الأمور جميعها متبنَّيات إسلامية أكدتها الآيات القرآنية والأحاديث الشريفة، فتركها المسلمون وأمسكها الغرب لينال بها أعلى درجات الرقي الحضاري المادي. بل صار الغرب، بأنماطه الثقافية والفكرية، يشكّل تحدّياً حقيقياً يخترق منظوماتنا الأخلاقية والدينية، ويطلّ علينا كل يوم بجديد يحرّك فينا دافع الرغبة في تقليده. ومن طرف خفي ينوع أقنعته في استعمارنا واستغلالنا، ونحن في غفلة من أمرنا. لهذا صار الإصلاح والتجديد مهمّة لا ينهض بها إلا من أوتي همَّة عالية، وعقلاً يقظاً، ووعياً ثاقباً، يحلل الظواهر الاجتماعية، ويتعمَّق في التحليل، ليصل إلى الحقيقة، ثم يعلن عنها بجرأة وشجاعة كبيرتين.
عوامل النَّهضة الإسلاميَّة الحديثة
لم تتفرَّد حملة نابليون بونابرت على مصر في تكوين الوعي وإحداث النهضة الإسلامية الحديثة، وإنما هناك عوامل متعدِّدة فأحدها حملة نابليون على مصرف تشابكت في إنتاجها وبلورتها. نعرض لها بإيجاز:
1 - علماء الدين‏
تؤكِّد البحوث التَّاريخية الاجتماعيَّة أنَّ الواعين، من علماء الدِّين، هم الأكثر حظَّاً في تكوين الوعي، وأوَّل المتصدِّين للاستبداد السياسي والتَّضليل الفكري، ولهذا تنقاد لهم الأمّة وتستجيب لنداءاتهم الثورية، رغم ضخامة التَّبعات والتَّضحيات.
وإذا أردنا أن نغور قليلاً في عمق التَّاريخ الإسلامي، نجد أن ثورة المدينة ضدَّ الخليفة الثالث هي أوّل موقف جري‏ء واجه العبث بمقدرات الأمة الإسلامية والاستفراد بالسلطة. ثم تبعتها ثورة الإمام الحسين (عليه السلام) لتواجه الاستبداد السياسي
________________________________________

[الصفحة - 204]


بالتضحية والفداء. وقد امتازت الثَّورة بالتصدِّي المباشر للسلطان الجائر من جهة، واستبطنت فضحاً صارخاً لفقهائه الذين كرَّسوا وجودهم لشرعنة ممارساته وأخطائه وتأكيد دكتاتوريته واستبداده وتعاليه على البشرية جمعاء من جهة ثانية.
واستمرَّ علماء الدين في قيادة حركة الوعي وسط الأمّة حتى الوقت الحاضر، وكانت آخر حلقاتها، وليس أخيرها، قيام الدولة الإسلامية بقيادة الإمام الخميني.
أمَّا قبل هذا التَّاريخ، فيمكن أن نحصي قائمة من العلماء الذين سجَّلوا إسهاماتٍ واضحة في عملية تكوين وعي الأمّة وإحداث يقظتها. فبعد الشيخ حسن العطار، هناك السيد جمال الدين الحسيني المعروف بـ «الأفغاني» والطنطاوي، وخير الدين التونسي، ومحمد عبده، وعبد الحميد بن باديس، والميرزا الشيرازي، والكواكبي، وعمر المختار، وشكيب أرسلان، والآخوند الخراساني، وعلي شريعتي، والسيد محمد حسين الطباطبائي، والسيد محمد باقر الصدر، والسيد محمد حسين بهشتي، والشيخ المطهري، والسيد المدرسي، والشيخ مفتح... وغيرهم.
وقد جاءت أدوار علماء هذه الثلة الواعية، متكاملة رغم التفاوت في نسبة التأثير داخل الوسط الذي احتضن حركتهم. فبعضهم قاتل على صعيد التحرُّر من الاستعمار، وآخر استمات من أجل حرية أمّته وشعبه، وآخر عمل على صعيد إصلاح المناهج الدراسية والتعليمية، وآخر كرّس وقته لتأصيل النظرية الإسلامية، بعد اكتشاف مبانيها وركائزها. واشتركوا جميعاً في القدرة على تشخيص الواقع وقراءة الإسلام قراءة تحفظ له مقوّماته وقدراته على تلبية متطلبات العصر وحاجاته.
ومن الروَّاد المصلحين الذين لعب كلٌّ منهم دوراً كبيراً، على صعيد السياسة والفكر، الشيخ محمد حسين النائيني، موضوع حديثنا في هذه المقالة.
2 - السيِّد جمال الدين الحسيني (الأفغاني)
لسنا نغالي عندما نتحدَّث حديثاً مستقلاًّ عن السيّد جمال الدين الحسيني، المعروف بالأفغاني، ضمن عوامل النهضة في الوطن الإسلامي. ويعود ذلك إلى حجم الأثر الذي تركه على السَّاحة الإسلامية. فقد سجَّل السيِّد جمال الدين منعطفاً تاريخياً في حركة الوعي، من خلال مشروعه الإصلاحي الواسع والجاد، الذي
________________________________________

[الصفحة - 205]


استهدف إحياء الشخصية الإسلامية، وأعاد بناءها عبر إصلاح الفكر والمقولات والرؤى التي أصابتها تشوّهات كثيرة بفعل عوامل متعدّدة، أودت بها إلى الانحطاط والتبعية، والإقصاء المتكرّر للفرد المسلم كي يغادر موقعه الحضاري الفاعل، ويتخلَّى عن مسؤوليته تجاه أمّته ودينه، ويهمّش دوره في صناعة التاريخ، ويعجز عن بناء مستقبل طموح يتناسب وحجم المبادى والقيم التي آمن بها، فجاء السيِّد جمال الدين ليعيد لتلك الشخصية المستلبة، المقموعة في داخلها، أو المحاصرة من قبل الاستعمار والاستبداد، قدرتها على النهوض، واتخاذ مواقف تناسب مرحلتها الراهنة. وفعلاً استطاع السَّيِّد جمال الدين إيقاظ الأمّة، فاندفعت تحطّم أغلال العبودية وتواجه التحدّيات بثقة عالية.
أمَّا الملامح الرئيسية لمشروع السيِّد جمال الدين فهي‏ (6) :
محاربة الاستعمار.
مناهضة الاستبداد.
إشاعة الوعي وتركيزه.
تنقية الفكر الإسلامي من الشَّوائب.
توحيد المسلمين في إطار الجامعة الإسلامية.
3 - التحدِّيات الخارجية
اتّسمت العلاقة بين الإسلام والغرب، منذ أوّل تماس بينهما على أرض الأندلس، بعدم التكافؤ؛ حيث كان الإسلام هو المركز والذات المتعالية بعزّة تقدّمها الحضاري والغرب هو الآخر المستتبع، يعيش على موائد المسلمين العلمية، فيتعلَّم ويعي ويستفيد ويتطوَّر يوماً بعد آخر. غير أنَّه سرعان ما فتئت النزاعات الداخلية والصراعات السياسية تحصد الدولة الإسلامية، والغرب يحاول بناء نفسه علمياً وعسكرياً لينقضَّ بتقدّمه الحضاري المادّي ففي ما بعدف على الحضارة الإسلامية في الأندلس، ثم يعبر مضيق جبل طارق ليمتدّ إلى أرض المسلمين في كل مكان. وبهذا انقلبت مصاديق الثنائية المعروفة (الأنا والآخر)، فصار الغرب هو الذات المهيمنة والمسلمون هم الآخر المتخلِّف الذي يدور حول المركز.
________________________________________
(6)راجع: مجلة التوحيد، العدد 89، كلمة التحرير.

[الصفحة - 206]


هذا التطوُّر العلمي، لدى الغرب، أثار تساؤلات كثيرة، وطرح جملة من الاستفهامات طالت كل شي‏ء في الثقافة الإسلامية بحثاً عن الأجوبة المقنعة؛ ومن هذه الاستفهامات:
كيف تطوَّر الغرب وتخلَّف المسلمون؟
هل يمكن أن نرتقي السلَّم الحضاري ثانية؟
هل الخلل في الفرد أو في الثقافة أو في الفكر؟
بذلك تصاعدت وتيرة الوعي، فحصلت مراجعة اتَّسمت بالعنف في كثير من الأحيان، وأنتجت فكراً جديداً وثقافة تعيد الثقة للنفس المتحطِّمة، وتحثّها على مسارعة الخطى للّحوق بركب الحضارة الجديدة من دون التخلِّي عن الهوية الحضارية للأمَّة.
4 - الرُّقي الثَّقافي المتصاعد
لمَّا أحسَّ المسلمون بنقطة الضعف، بالقياس إلى الغرب، انساقوا في طريق العلم وتحصيل المعرفة، فبادر بعض الطلاّب للسفر إلى أوروبا لإكمال دراساتهم الأكاديمية والاستفادة من معطيات العلم الحديث واكتشاف حقيقة الحضارة التي غدت تشكّل تحدّياً سافراً لجميع القيم والمبادى. ثم تطوَّرت السَّفرات الشخصية إلى بعثات علمية متعدِّدة ومنظَّمة. فكان لسفر هؤلاء الأثر في نقل معالم الحضارة الحديثة وأنماطها الثقافية والمعرفية، الأمر الذي تسبَّب في تصاعد مستوى الوعي، لا سيما في وسط الشبيبة. وأخذت الرغبة في الحصول على العلم تزداد يوماً بعد آخر، فازداد عدد المتعلّمين والمثقّفين، وتلوَّنت تبعاً لذلك الحالة الثقافية وطرحت أفكار جديدة حول الحالة السياسية والثقافية، وبدأت تتشكّل علامات استفهام عن قيمة التراث والدِّين.
وفي أثر ذلك، ازداد عدد الصحف الصادرة في البلدان الإسلامية لتصبح منابر إعلاميَّة تثير سجالاً واسعاً حول القضايا الراهنة.
كما قدَّم بعض المثقّفين قراءاتٍ جديدة للواقع الإسلامي وأصالته وتاريخه وقيمه أثارت حولها شكوكاً مختلفة.
________________________________________

[الصفحة - 207]


وساهم بعضهم في ترجمة الكتب والأفكار الغربية، وكانت ترجمة غير منضبطة جداً أدَّت إلى انتشار بعض الأفكار العلمانية والإلحادية، فتعالت إثرها صيحات قومية وتغريبية.
وتنبغي الإشارة إلى أن تأسيس المطابع في أنحاء العالم الإسلامي، في وقت مبكر، هو الآخر، ساهم في انتشار الكتاب والصحيفة، وبالتالي تطوّر الحالة الثقافية وإشباعها بقدر كبير من الوعي.
الحالة الثقافية في إيران والعراق‏
لم تكن إيران والعراق منقطعتين عن الساحة الإسلامية، بل إن الحالة العامَّة لهما كانت أدعى للوعي واليقظة المبكرتين. فكلٌّ من الدولتين امتازت بوجود مراكز علمية كبيرة على أراضيها، مثل: الحوزة العلميَّة في مدينة النجف في العراق، والحوزة العلميَّة في مدينة قم والمدن الأخرى في إيران.
فالانطلاقة العلميَّة والثَّقافيَّة كانت تبدأ من تلك المدينتين لتمتدَّ وتغور في عمق الوسط الاجتماعي، فتأتي الاستجابة الجماهيرية من خلال الالتفاف حول علماء الدين وسلب أي شرعيَّة توازي شرعيَّة المركز كما يفهمه النَّاس. وبذلك تمكَّن المسلمون، من أتباع مدرسة أهل البيت، من مواجهة التحدِّيات السِّياسية الصَّادرة عن السلطان الجائر.
وكان تحدِّي علماء الإمامية للسلطان مبكِّراً، فلم يسجِّل التاريخ علاقة ودِّية بين الطَّرفين إلاَّ في دولة البويهيين وبعض مراحل الدَّولة الصفوية التي كانت بحاجة ماسَّة في تكوين شرعيتها إلى الفقيه، لكنَّ حاجتها كانت أكبر لتوظيفه عاملاً مؤثراً في تكوين أيديولوجية مضادة للأيديولوجية السنّية الحاكمة في الدولة العثمانية. والثانية أخذت تلاحقها علامات الاستفهام الكثيرة لما خلَّفته من آثار سلبية على الوعي.
ولم تكن الإيجابيَّة من السُّلطان، آنذاك، موقفاً استراتيجياً للطَّائفة الشيعية؛ ذلك أنَّ بعض العلماء استعصى على الانسياق في لعبة السلطان. فبهاء الدين العاملي والأردبيلي والشيرازي والقطيفي شخصيَّات مهمَّة في المرجعية الشيعية إلا أنهم
________________________________________

[الصفحة - 208]


حافظوا على استقلاليتهم مدرسياً ومالياًف (7) . فهم غير مضطرين للسلطان، لأن النظام التعليمي في الحوزات العلمية لم يرتبط بالمؤسسات الأكاديمية الحكومية. وكذا الحال في الأمور المالية، فإن الفقيه ومرجع الطائفة يغطي نفقات المرجعية وتسوية حسابات ميزانيتها عن طريق الضرائب المالية الشرعية (الخمس، الزكاة، وموارد أخرى)؛ فهو مستغنٍ بشكل كامل عن السلطان، بل إنّ أتباع المذهب يعتقدون بوجوب إعطاء الأموال الشرعية إلى الفقيه فقط. ولا يجوز التصرُّف بها إلا بإذنه أو إذن وكيله، الأمر الذي وفَّر على الفقهاء مؤونة التراجع أمام تحدِّيات السلطان وإغراءاته.
ولم تختلف الحال إبَّان الدَّولة البويهية؛ ففي تلك المرحلة بالذات استطاع المذهب الإمامي أن يعيد بناء نفسه، ويمتدّ إلى مجالات كانت محظورة عليه في ما مضى، فكانت مرحلة وعي وتأسيس للعلوم الدينية وفق مباني المذهب وأصوله.
والذي ساعد على ذلك كثيراً هو هامش الحرية الكبير الذي منحته الدولة البويهية لعلماء الدين، فاستغلَّ العلماء حالة التراخي السياسي لينطلقوا في تعميق الوعي وسط الأمّة ويرسموا ملامح المدرسة الإمامية بشكل واضح، فلم يرتبط الإنتاج العلمي في جوانبه الأصولية والفقهية والكلامية في العهد البويهي، وهو إنتاج تأسيسي في تكوين المذهب على مستوى المقالة، بمشروعية الأمير أو السلطان البويهي أو شرعيته، بل إن أجواء الحرية، ومواقف الدعم التي حظي بها فقهاء الشيعة من قبل السلاطين البويهيين فكما قلناف شجّعت هذه الاستجابة الفكرية الجديدة وسمحت بها. ولم تطرح هذه العلاقة الإيجابية على فقهاء الشيعة آنذاك اعترافاً صريحاً بشرعية السلطة القائمة. إنه نوع من قبول ضمني متبادل وتوزيع للأدوار في اجتماع سياسي إسلامي. فمن ناحية الفقهاء، اكتفى هؤلاء بمجال التدريس الذي دُعمت مؤسساته وشُجِّعت، وبمجال القضاء الذي حافظ على استقلاليته في غالب الأحيان‏ (8) .
أمَّا العامل الآخر الذي ساعد كثيراً على اتِّساع رقعة الوعي فهو التحدِّيات المستمرَّة التي واجهتها الشعوب الإسلامية في كلا البلدين، من «الداخل والخارج»، فإن الصراع بين الدَّولتين: الصفوية والعثمانية، تحوَّل إلى صراع طائفي أودى بحياة
________________________________________
(7)كوثراني، د. وجيه، الفقيه والسلطان، لبنان، بيروت، دار الراشد، ط 1989، ص 153.
(8)المصدر نفسه، ص 148 وما بعدها.

[الصفحة - 209]


الكثيرين من كلا الطائفتين. فكلّ دولة كانت تعمّق الحسّ الطائفي لدى شعبها وتؤلِّبه ضد أخيه المسلم من منطلق طائفي عدواني.
هذا الصِّراع أدَّى إلى اضطهاد السنَّة القاطنين تحت سيطرة الدولة الصفوية (9) ، وإلى اضطهاد الشيعة الساكنين في دائرة السيادة العثمانية. والذي ساعد على تمادي الدولة العثمانية في بطشها هو سهولة انتزاع فتوى جواز قتل المخالف، من فقيه السلطة، حتى أن السُّلطان سليماً، عندما أعلن نفسه حامياً لأهل السنة وزعيماً لهم، «استحصل من بعض رجال الدين فتوى تجيز له قتل الشيعة، باعتبارهم مارقين عن الإسلام، ثم وضع خطة للقضاء على جميع الشيعة الساكنين في داخل الحدود» (10) .
والعامل الثَّالث في مسار الوعي هو ظهور طبقة المثقّفين المتعلِّمين في أوروبا أو دول آسيا الوسطى وروسيا. ورغم النزعة التغريبية التي اتّصف بها جلّهم، إلا أن هؤلاء ساهموا بشكل، أو بآخر، في تطوُّر الوعي العام، من خلال علامات الاستفهام التي أثاروها حول الثقافة والفكر والسياسة، وتصدِّيهم للكتابة في الصحف الداخلية والخارجية، إضافة إلى تأسيس بعض الصحف من قبلهم، وتكرّر لقاءاتهم بالغرب واطّلاعهم على الجديد من الأفكار والثقافة الحديثة من خلال السفر المتواصل إلى هناك. فبادروا إلى نقل تلك الأفكار إلى بلادهم. فدعا فتح علي آخوند زاده 1812م ـ أحد أفراد النخبة المتغربة في إيران ـ إلى علمنة الدولة ورفض الاستبداد، واعتبر الشعب المسؤول الأول عن الاستبداد. غير أن تقاطع الكثير من أفكاره مع ثقافة الأمّة وقيمها حال دون استقطاب الأنصار المؤيدين، ما عدا ثلة من المثقّفين‏ (11) .
آقا خان كرماني 1853م، دعا أيضاً إلى حاكمية القانون ورفض الاستبداد، وتشكيل مجلس نيابي. إلا أنه هو الآخر حرم من الأنصار والمؤيدين‏ (12) .
ومن أفراد هذه النخبة محمد خان سينكي 1809م، وميرزا حسين خان سبهسالار 1826م، الذي عمل كثيراً في السلك الدبلوماسي، وعرف بتغرُّبه ودعوته المستمرّة إلى اللِّحاق بالغرب، ويوسف خان مستشار الدولة 1895م، الذي قارن بين القانونين: الإسلامي والفرنسي، وكان يصرُّ على تقدُّم الأخير على الأوَّل‏ (13) .
________________________________________
(9)الوردي، د. علي، لمحات اجتماعية من تاريخ العراق الحديث، قم، انتشارات الشريف الرضي، ط 1413هـ، ط1، ص 57 - 59.
(10)المصدر نفسه، ج‏1، ص 45. وانظر: الحصري، ساطع، البلاد العربية والدولة العثمانية، بيروت 1960، ص 40. والعلوي، حسن، التأثيرات التركية في المشروع القومي العربي في العراق، لندن، دار الزوراء، 1988.
(11)حائري، د. عبد الهادي، تشيع ومشروطيت در إيران (بالفارسية)، التشيع والدستورية في إيران، طهران، سبهر، ط2، 1852، ص 26.
(12)المصدر نفسه، ص 28.
(13)المصدر نفسه، ص 31.


[الصفحة - 210]


وقد اشترك هؤلاء بالدعوة إلى محاصرة الدين وضرورة فصله عن الدولة والحياة العامَّة (14) . فظلُّوا يدورون في دائرة المثقّفين من دون التغلغل في وسط الأمَّة، غير أن تلك الأفكار أثارت جدلاً داخل الوسط الإيراني، رغم محدودية انتشارها، ونبَّهت النَّاس إلى مفاهيم لم تطرق أذهانهم من قبل. ورغم دعوة تلك الأفكار للتغريب ـ بشكل مباشر أو غير مباشر ـ إلا أن مضامينها كانت جذَّابة ومشجِّعة تستهوي المتطلِّعين للحرية، والرَّافضين للاستبداد والتسلُّط.
ثم جاء ملكم خان 1908م، ذو الأصل الأرمني، والذي عاش أكثر حياته في أوروبا، فدعا للإصلاح، ونادى باستبعاد الدِّين، لا سيما في مجال التعليم، وطالب العلماء المجتهدين بالمشاركة في المجالس النيابية (15) ، كما أسّس محفلاً ماسونياً في طهران.
وتلاه عبد الرحيم طالب اف 1911م الذي ترعرع وكبر في روسيا، فدعا إلى حرية الهوية والعقيدة والرأي، والصحافة، والتجمّعات، والانتخابات‏ (16) .
غير أن أفكار الأخير لم تر النور طويلاً؛ إذ تصدَّى لها الشيخ فضل اللَّه النوري وكفّر طالب اف‏ (17) .
أما في العراق، فيمكن أن نذكر انموذجين للمثقّفين: الأوّل تفوح منه رائحة التغريب والدعوة إلى الملكية ومساندة الاستعمار. إلا أن أفكار هذا الاتجاه أثارت جدلاً واسعاً في الوسط العراقي، كالشاعر المعروف جميل صدقي الزهاوي الذي دعا إلى سفور المرأة والتخلّي عن الحجاب، الأمر الذي أثار ضجَّة كبيرة (18) .
والأنموذج الآخر تجسّدت فيه روح الإسلام، وافترق عن جميع المثقّفين المتقدّمين بدعوته إلى الإصلاح والتجديد من داخل الدين، ودعا إلى إعادة قراءة الدين قراءة صحيحة تنسجم مع الظروف الزمانية والمكانية، وصاحب هذا الاتّجاه هو السيِّد هبة الدين الشَّهرستاني، الذي صدرت صحيفته «العلم» عام 1910م.
وكان لأفكار السيِّد الشَّهرستاني أصداء قوية، وقد أثارت جدلاً واسعاً لا سيما داخل الحوزة العلمية في مدينة النجف‏(19) .
________________________________________
(14)المصدر نفسه، ص 37 وما بعدها.
(15)المصدر نفسه، ص 40.
(16)المصدر نفسه، ص 47.
(17)المصدر نفسه، ص 51.
(18)لمحات اجتماعية من تاريخ العراق، مصدر سابق، ج‏6، ص 15 و59.
(19)الرفاعي، عبد الجبّار، جدل التراث والعصر، كتاب قضايا إسلامية معاصرة(7)، ص 8.

[الصفحة - 211]


كما اشتهر الشَّيخ محمد جواد البلاغي بكتابة مجموعة كتب دافع فيها عن الإسلام وحذَّر من مخاطر الاختراق الثقافي.
وإلى جانب طبقة المثقّفين، هناك الصحف والجمعيات السياسية، العلنية والسرية، بمختلف اتّجاهاتها، والنشاطات الاجتماعية التي كانت تعزِّز الوعي الجديد للحالة السياسية والثقافية. فهناك «دار الفنون في طهران المهتمّة بتخريج موظّفين أكفاء للدولة ودبلوماسيين» (20) ، وأشرف عليها أساتذة أوروبيّون.
ومن الصحف الفارسية الصادرة في تلك الآونة: «اختر» التي كانت تصدر في اسطنبول، و «حبل المتين» في كلكتا، وصحيفة «ثريا» في القاهرة.
وفي العراق هناك مجلّة «العلم» التي أصدرها السيد هبة الدين الشهرستاني، و «درَّة النجف» التي تطبع بالفارسية، وقد أسَّسها حسين الصحاف، و «الغري» وصدرت بالعربية، وقد أسّسها الشيخ آغا محمد المحلاتي، وجريدة «النجف» لمسلم زوين‏ (21) .
وقد لعبت تلك الصّحف دوراً مهمَّاً في ترويج الفكر الإصلاحي وفي الدَّعوة إلى التجديد، وكانت أكثرها تأثيراً، في الوسطين السياسي والثقافي، صحيفتا «العلم» و «حبل المتين». والأخيرة هي «لسان حال الأحرار في العالم الشرقي الإسلامي»، فكانت تهاجم الحكومة القاجارية وتاريخ القاجار وتثبت معايبهم وظلمهم، كما تطري المجاهدين المصلحين أمثال السيد جمال الدين الأفغاني الذي وقف في وجه الاستبداد القاجاري والفوضوية القاجارية.
وكانت «حبل المتين» تأتي بغداد بلا رقابة، غير أن وصولها إلى كربلاء والنجف كان عسيراً لوقوف السلطة ضدّها وضدّ الفكرة (22) .
الحركة الدّستورية والوعي‏
اتّضح، مما تقدَّم، أن الحركة الدستورية والدَّعوة إلى رفض الاستبداد وإلى حاكمية القانون لم تكن وليدة المصادفة أو المبادرة الشخصيَّة، وإنما تكوّنت الفكرة عبر مخاضات فكرية وتحوّلات ثقافية متلاحقة، ابتدأت في أوروبا بانطلاق الثورة الفرنسية فالانجليزية فالأمريكية، ثم امتدّت إشعاعات تلك الثورات إلى المنطقة
________________________________________
(20)لمحات اجتماعية، مصدر سابق، ج‏3، ص 105.
(21)كمال الدين، محمد علي، ثورة العشرين في ذكراها الخمسين فمعلومات ومشاهدات في الثورة العراقية الكبرى سنة 1920م، بغداد 1975، ص 5، عن الرحيمي، مصدر سابق.
(22)الخاقاني، علي، شعراء الغري، النجف، ط 1365هـ، ج‏10، ص 85.

[الصفحة - 212]


الإسلامية، فثار حولها جدل واسع، وحرَّكت كوامن الوعي لدى الفرد المسلم، فأخذ يتطلّع إلى مستقبل أفضل، وعاد إلى التراث والدين ثانية ليعيد قراءتهما وفهمهما من جديد، بغية الوصول إلى هدفه من خلال الدِّين والتراث وليس منفصلاً عنهما.
ولمَّا بادر الشيخ محمد حسين النائيني إلى التنظير للحركة الدستورية، في إطار الرؤية الإسلامية، وألَّف كتابه: «تنبيه الأمة وتنزيه الملة»، لقي صدىً واسعاً، وصار وثيقة فكرية ـ فقهية ـ سياسية تساهم في حلِّ الإشكالات والتساؤلات الراهنة في ذهن الفرد المسلم، والمتراكمة عبر حقب زمانية متعدِّدة.
فصارت الدَّعوة إلى حاكمية الدستور، وضرورة تأسيس المجالس النيابية، ومشاركة الأمَّة في الحكم، ورفض الاستبداد، مفاهيم حيّة وفاعلة لأنها تستند إلى الدين الحنيف ومبادئه السامية.
والذي شدَّ عضد المسيرة الجديدة تقدُّم العلماء للدعوة إلى الدستور ووقوفهم مع الشَّعب ضدّ الاستبداد والتسلُّط. لذا مثَّلت الحركة الدستورية منعطفاً تاريخياً في إيران امتدّ ليؤثر بشكل، أو بآخر، في أحداث العراق الملتهبة. ويعتقد بعض الباحثين «أنَّ أول حدث نبَّه أذهان العراقيين إلى السياسة هو ما يسمَّى بحركة المشروطة؛ أي حركة المطالبة بالدستور، وذلك عام 1906م، حين وصلت إلى النجف أنباء النزاع الذي استفحل في إيران بين أنصار المشروطة وأنصار الاستبداد» (23) .
ثمَّة حقيقة أخرى هي أن ثورة التَّبغ (التنباكو) كان لها دور بالغ في تعزيز قيادة العلماء للأحداث الكبرى؛ حيث استطاع الميرزا محمد حسن الشِّيرازي أن يفشل خطة ناصر الدين شاه في منح الشركات الانجليزية احتكار امتياز تجارة التبغ في إيران مقابل مبلغ من المال يعدُّه الشاه ضرورة ملحّة لإنقاذه من الأزمة الاقتصادية الخانقة. ويصبح من حقّ الشركة بموجب هذا الاتفاق شراء جميع محصول التبغ الإيراني وتصديره إلى الخارج أو بيعه، وبعد أن تسرّب خبر الاتّفاق إلى الجمهور تصدَّى علماء الدين للمؤامرة وشرعوا بحملة توعية جماهيرية عبَّأت الرأي العام في البلاد، ثم أصدر الميرزا الشيرازي فتوى التحريم الشهيرة التي أرغمت الشاه على التخلِّي عن التزاماته تجاه الاتفاقية التجارية التي أبرمها من قبل مع الشركة الأجنبية.
________________________________________
(23)لمحات اجتماعية من تاريخ العراق، مصدر سابق، ج‏6، ص 302.

[الصفحة - 213]

 
فروع المركز

فروع المركز

للمركز الإسلامي للدراسات الإستراتيجية ثلاثة فروع في ثلاثة بلدان
  • العنوان

  • البريد الإلكتروني

  • الهاتف