البحث في...
إسم البحث
الباحث
اسم المجلة
السنة
نص البحث
 أسلوب البحث
البحث عن اي من هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على كل هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على هذه الجملة

الشيخ محمد حسين النائيني , دراسة في حياته العلمية والسياسية

الباحث :  عبد الكريم آل نجف
اسم المجلة :  مجلة المنهاج
العدد :  15
السنة :  السنة الرابعة خريف 1420 هجـ 1999 م
تاريخ إضافة البحث :  February / 1 / 2015
عدد زيارات البحث :  3239

الشَّيخ محمَّد حسين النَّائيني‏ دراسة في حياته العلميَّة والسِّياسيَّة

عبد الكريم آل نجف‏ (*)

ولادته ونشأته‏
ولد الشَّيخ محمَّد حسين النَّائيني في سنة 1273هـ (1857م) (1) في مدينة نائين التَّابعة إلى أصفهان، وفي أُسرة دينية معروفة؛ حيث كان والده الشيخ عبد الرحيم ـ وكذلك آباؤه من قبله ـ يتمتَّع بلقب شيخ الإسلام في أصفهان، وهو يعادل لقب المفتي في البلاد العربية، ويمثِّل منصباً دينياً؛ حيث كان السلطان القاجاري يقوم بتعيين علماء في المدن الرئيسية في هذا المنصب، ويخلع على كلِّ واحدٍ منهم لقب شيخ الإسلام. وبعد والده أصبح أخوه الأصغر منه شيخاً للإسلام في أصفهان، أمّا الشيخ محمد حسين النائيني فقد أصبح في ما بعد شيخ الإسلام في البلاد الشيعية كافّة من دون أن يحتاج في ذلك إلى فرمان سلطاني.
نشأ في نائين، وتعلَّم عند أساتذتها المقدِّمات والمبادى الأوَّليَّة، ثم هاجر إلى أصفهان لإكمال دراسته هناك، وذلك في سنة 1293هـ أو 1295هـ (1876 أو 1878م)، فدرس عند الشيخ محمَّد باقر نجل الشَّيخ محمد تقي صاحب «حاشية المعالم»، والشَّيخ محمد حسن المعروف بالهزار جريبي، وأبي المعالي الكلباسي، والشَّيخ جهانكير القشقائي الشهير بتضلّعه بالحكمة والكلام. ويتحدّث الشيخ النائيني عن تلك المرحلة الدِّراسية من حياته، فيذكر أنّه لم يترك درس الشّيخ محمد باقر طوال المدَّة التي قضاها في أصفهان، وأنّه كان يدرس عنده كتاب «نجاة العباد» للشيخ محمد حسن صاحب «الجواهر». ويذكر أيضاً أنّه في تلك الآونة كانت تربطه علاقة حميمة مع السيد جمال الدين الأسد آبادي المعروف بالأفغاني‏ (2) .
________________________________________
(*)باحث إسلامي من العراق.
(1)العاملي، السيِّد محسن الأمين، أعيان الشيعة، 6/54، في ما ذكر الشيخ آغا بزرك الطهراني في نقباء البشر: 2/593 أن ولادة الشيخ النائيني كانت في سنة 1277هـ (1860م).
(2)مجلة حوزة، العدد 30، ص 40 و41. من مقابلة مع آية اللَّه السيِّد محمد الهمداني، نقلاً عن أبيه الذي كان أحد تلامذة الشيخ النائيني.

[الصفحة - 154]


وبعد أن استوعب الشَّيخ النَّائيني المعطيات العلميَّة المتوافرة في مدينة أصفهان، لم يعد يجد فيها شيئاً يشفي غليله العلمي، فوجّه نظره إلى العراق، وكانت المرجعية يومئذٍ للمجدِّد السيِّد محمد حسن الشيرازي، فقصد الشَّيخ النَّائيني سامرَّاء ووصلها في سنة 1303هـ (1884م)، وبدأ يحضر دروس السيِّد إسماعيل الصدر والسيِّد محمد الأصفهاني.
وبعد مدَّةٍ، حضر دروس السيِّد محمد حسن الشيرازي، وأخَذَ يثير قضايا علميّة دقيقة لفتت نظر السيّد الشيرازي إليه، فسأله عن مصدر هذه القضايا، فأجابه الشيخ النائيني بأنّ أُستاذه في أصفهان درّسه كتاب «نجاة العباد» في الفقه، وكان يُشكِل أثناء الدرس على حاشية السيِّد الشيرازي عليه، ثم يجيب عن هذه الإشكالات، وهذا هو مصدر تلك القضايا، فتركت هذه الحادثة وقعاً خاصَّاً في قلب السيِّد المجدِّد الشيرازي، وجعلت له مكانة خاصَّة لديه، ما جعله يشير إلى أحد العلماء المقرَّبين لديه، وهو السيد محمد الأصفهاني، بأن يهتمّ بالشَّيخ النَّائيني ويقوِّي علاقته به‏ (3) .
واصل الشَّيخ النَّائيني حضور درس المجدِّد السيِّد محمد حسن الشيرازي حتى وفاته في عام 1312هـ (1895م). وصار في أواخر أيَّامه كاتباً ومحرِّراً خاصّاً له.
كما واصل الحضور في درس السيِّد محمد الأصفهاني، ولازم بحث السيِّد إسماعيل الصَّدر إلى عام 1314هـ (1897م)، وهاجر معه إلى كربلاء في تلك السنة، وبقي معه عدة سنين فيها، ثم هاجر إلى النجف الأشرف المقرّ الأخير له، منهياً بذلك دورة التحصيل ومبتدئاً دورة العطاء العلمي.
وهناك كان اسم الشيخ محمد كاظم الخراساني يتألَّق في سماء الحوزة والمرجعية الدينية، وبخاصَّةٍ بعد وفاة السيِّد المجدِّد الشيرازي، وكانت مكانته العلمية الرفيعة تجذب إليه عدداً كبيراً ونوعياً من الطلاّب. وفي ظلِّ هذا الظرف العلمي لم يشأ الشيخ النائيني الشروع بالتَّدريس، مفضِّلاً في هذه الآونة التعاون العلمي والسياسي مع الشيخ الخراساني؛ حيث كان الشيخ الخراساني يعقد في داره مجلساً خاصّاً يحضره كبار العلماء للمداولة في المسائل العلمية المعضلة، فكان الشيخ النائيني وجهاً بارزاً في هذا المجلس.
________________________________________
(3)المصدر نفسه.

[الصفحة - 155]


وسنجده النصير الأكبر للشيخ الخراساني في القضية الدستورية التي قادها لإصلاح الحياة السِّياسيَّة في إيران.
مكانته العلميَّة ومرجعيَّته‏
يتميَّز الشَّيخ محمد حسين النَّائيني عن أقرانه وعلماء عصره بمكانته العلمية الخاصَّة بينهم. فلم يكن حلقة كباقي الحلقات التي يقتصر دورها على ربط الماضي بالحاضر ونقل نتاج الماضين إلى المعاصرين، وإنما كان حلقة مشعَّة، ما زال شعاعها متواصلاً ومتوهِّجاً في الدِّراسة الحوزوية التخصُّصيَّة منذ 60 عاماً وحتى الآن، ولا تزال آراؤه ونظرياته تتداولها الأوساط العلمية وتهيمن بقوة على الفكر الأصولي في مرحلته المعاصرة، ويعبّر عنها باسم «مدرسة النَّائيني»؛ بحيث يُعدُّ التطرُّق لرأي الشيخ النائيني في مسألة ما ومعالجته سلباً أو إيجاباً ضرورة علمية. ولم يكن المحقّق الشيخ آغا بزرك الطهراني مبالغاً حينما قال فيه: «... أمّا هو في الأُصول فأمر عظيم، لأنه أحاط بكلّياته ودقّقه تدقيقاً مدهشاً وأتقنه إتقاناً غريباً. وقد رنّ الفضاء بأقواله ونظرياته العميقة، كما انطبعت أفكار أكثر المعاصرين بطابع خاصّ من آرائه، حتى عُدّ مجدّداً في هذا العلم كما عُدَّت نظريّاته مماثلة لنظريات شيخنا الخراساني، صاحب «الكفاية»، وكان لبحثه ميزة خاصَّة لدقَّة مسلكه وغموض تحقيقاته، فلا يحضره إلاّ ذوو الكفاءة من أهل النَّظر، ولا مجال فيه للنَّاشئة والمتوسِّطين لقصورهم عن الاستفادة منه» (4) .
وقد انعكس هذا الواقع على مستوى تلامذته الذين تسنَّموا المرجعيَّة والرِّيادة العلمية مدَّة تربو على نصف قرن، أمثال السيِّد جمال الدين الكلبايكاني، والسيِّد محمود الشهرودي، والسيِّد محسن الحكيم، والسيِّد أبي القاسم الخوئي، والعلاَّمة الطباطبائي، والشيخ حسين الحلي، والشيخ محمد تقي الآملي، وغيرهم.
أمّا آثاره العلميّة، فله تعليقة على «العروة الوثقى»، إضافة إلى كتابه الشهير «تنبيه الأُمَّة وتنزيه الملّة»، وهناك تقريرات ومخطوطات؛ أشهرها «فوائد الأُصول» بقلم الشيخ محمد علي الكاظمي الخراساني، و «مُنية الطالب في شرح المكاسب» بقلم الشيخ موسى النجفي، و «أجود التقريرات» بقلم آية اللَّه السيِّد أبي القاسم الخوئي.
________________________________________
(4)الطهراني، آغا بزرك، نقباء البشر، 2/595.

[الصفحة - 156]


وعلى صعيد المرجعية الدينية برز اسم الشيخ النَّائيني مرجعاً دينياً في الفتوى والتقليد، بعد وفاة شيخ الشريعة الأصفهاني، وذلك إلى جانب السيِّد أبي الحسن الأصفهاني الذي كان أشهر من زميله عند العامَّة، فيما كان النائيني أشهر منه عند الخاصَّة (5) .
الشَّيخ النَّائيني والثَّورة الدُّستورية في إيران‏
وجدنا، في ما سبق، أنّ الشيخ النائيني كانت تربطه علاقة وطيدة بالسيِّد جمال الدين الأسد آبادي المعروف بالأفغاني منذ أيام دراسته في أصفهان عندما كان في العشرينات من عمره، ويؤكِّد الشيخ النائيني نفسه أنّ هذه العلاقة تواصلت في ما بعد، فيقول: ففي أيام اندلاع ثورة التنباك سنة 1309هـ (1891م)، قدم السيِّد جمال الدين إلى العراق ووصل سامرَّاء، «وقصدني إلى غرفتي فالتقيته، وطلب منِّي أن أُرتِّب له لقاءً خاصَّاً بالسيِّد المجدِّد الشيرازي لمدّة نصف ساعة، فامتثلت، طلبه لكن اللقاء لم يتمّ» (6) .
وهذه العلاقة التي يبدو التجاوب فيها بين الرجلين واضحاً تكشف بشكل أوّلي عن تطلُّع قديم وعميق إلى السياسة والإصلاح السياسي في شخصية الشيخ النائيني، وهو ما سيتعزَّز أكثر من خلال علاقة التلمذة ـ وما انطوت عليه من خصوصيات ـ مع السيِّد المجدِّد الشيرازي، وعلاقة التعاون السياسي والعلمي مع الشيخ محمد كاظم الخراساني. فممَّا لا شكّ فيه أنّ العلاقة التي ربطت بينه وبين أقطاب الإصلاح هؤلاء لم تنطلق من فراغ، ولم تمرّ من دون أثر تتركه في حياة الشيخ النائيني، ومن هنا نجد أنّ التطلُّع نحو السياسة والإصلاح الذي بدأه الشيخ النائيني منذ العشرينات من عمره، قد بلغ ذروته عندما أصبح في الخمسينات من عمره، وذلك من خلال المشاركة الفعَّالة في الحركة الدستورية الإيرانية.
فقد كان أحد أعضاء هيئة العلماء التي شُكِّلت لتوجيه الحركة وقيادتها تحت إشراف الشيخ الخراساني‏ (7) .
ويُعتَقَد أنَّ اسم «ميرزا محمد»، الوارد في بعض المصادر والوثائق بأنّه كان سكرتيراً للشيخ الخراساني، هو نفسه الشيخ الميرزا محمد حسين النائيني، فقد ذكر
________________________________________
(5)العاملي، السيِّد محسن الأمين، المصدر السابق، 6/54.
(6)مجلة حوزة، العدد 30، مصدر سابق.
(7)الخاقاني، علي، شعراء الغري، 10/88.

[الصفحة - 157]


أحد تلامذته، وهو آية اللَّه الشيخ ميرزا هاشم الآملي، أنّ الشيخ النائيني هو الذي كان يتولّى كتابة البرقيات والبيانات التي كانت تصدر باسم الشيخ الخراساني‏ (8) .
وقد واصل الشيخ النائيني دوره الرئيس في الحركة حتى أيامه الأخيرة؛ حيث ذكر الأخ الأصغر للشيخ النائيني، أنَّ أخاه كان في جملة العازمين على الرحيل مع الشيخ الخراساني إلى إيران من أجل صدّ الهجوم الروسي على شمال إيران وتوجيه الحركة الدستورية من داخل الساحة الإيرانيّة نحو الاتّجاه المطلوب الذي انحرفت عنه أخيراًف (9) ، لكنَّ ذلك الرَّحيل لم يتم بسبب الوفاة المفاجئة للشيخ الخراساني. ويتمثَّل الجهد الأكبر الذي بذله الشيخ النائيني والدَّور الأعظم الذي أدَّاه، في هذا الاتّجاه، في تأليف كتاب «تنبيه الأمَّة وتنزيه الملَّة» الذي يُعَدُّ زبور الحركة الدستورية؛ حيث قام الشيخ النائيني من خلاله بدور المنظّر الفكري وواضع الأُسس الفقهية لها.
مع الجهاد في إيران والعراق‏
في اليوم السابع من شهر محرَّم الحرام عام 1330هـ (كانون الثاني 1912م)، وصلت برقيَّات إلى النجف الأشرف تتحدَّث عن جرائم بشعة ارتكبها الروس في المناطق التي احتلّوها في شمال إيران، فقرّر علماء الدين التوجّه للجهاد بعد توقّف المحاولة الأولى لهم التي كانت قبل هذا التأريخ بثلاثة أسابيع إثر الوفاة المفاجئة للشيخ الخراساني، واستعدّوا للسفر هذه المرّة أيضاً، وانتُخِبَت هيئة من العلماء للإشراف على حركة الجهاد برئاسة الشيخ عبداللَّه المازندراني، كما تقرَّر الاجتماع في الكاظمية لاتّخاذ القرار النهائي هناك. وكان الشيخ محمد حسين النائيني أحد العلماء المشاركين في هذا التحرُّك الجهادي‏ (10) ، وبعد اجتماعهم في الكاظمية قرَّر العلماء ترك المبادرة العسكرية في مثل هذه المسألة بيد الدولة الإيرانية واتِّباع رأيها في مسألة الذهاب إلى الجبهات، ولمّا استطلعوا رأيها تبيّن لهم عدم الحاجة إلى ذلك.
وعندما أعلن الجهاد ضدّ الاحتلال الانجليزي في العراق عام 1333هـ (1914م)، كان الشيخ محمد حسين النائيني من جملة العلماء المشاركين فيه، ويروي آية اللَّه السيد شهاب الدين المرعشي أنّه يتذكَّر جيداً دور الشيخ النائيني المؤثر في الجهاد والجبهات‏ (11) .
________________________________________
(8)الحائري، عبد الهادي، «تشيع ومشروطيت»، ص 156، بالفارسية.
(9)الحائري، عبد الهادي، مصدر سابق، ص 160.
(10)شبر، السيِّد حسن، تاريخ العراق السياسي المعاصر، 2/125.
(11)الحائري، عبد الهادي، المصدر السابق، ص 169.

[الصفحة - 158]


قيادة الحركة الاستقلالية في العراق‏
بعد مشاركته في الجهاد ضدّ الاحتلال البريطاني للعراق عام 1914م، لم يعد للشيخ محمد حسين النائيني نشاط سياسي، طوال السنوات الست الممتدّة من ذلك التاريخ وحتى آب 1920م؛ حيث ذُكِرَ أنه كان بعد هذا التأريخ إلى جنب شيخ الشريعة الأصفهاني في مدَّة مرجعيته القصيرة التي امتدّت عدّة أشهر من أواخر عام 1920م، والتي كانت مليئة بأحداث ثورة العشرين. وهنا ينبغي التوقُّف للإشارة إلى أنّ ثورة العشرين استمدّت فكرها السياسي من الحركة الدستورية الإيرانية إلى حدٍ ما، وأنّ القائمين عليها من العلماء والمراجع كانوا من تيّار هذه الحركة، وأنها تمحورت حول المطالبة بملك مقيّد بدستور ومجلس نيابي، إلاّ أنها لم تطالب بإشراف المجتهدين على أعمال المجلس النيابي كما فعلت الحركة الدستورية. وربما يعود السبب في ذلك إلى وجود أبناء السنّة الذين يمثلون نسبة مؤثرة في العراق.
والمسألة التي قد تنطوي على دلالات مهمَّة هي أنّ الشيخ النائيني بدأ دوره في هذه الثورة عندما بلغت نهايتها، وسنجده عما قليل أحد القادة الثلاثة للحركة الاستقلالية العراقية، التي انبثقت في عام 1921 وتواصلت حتى عام 1924م.
والتفسير الذي يترجح الاعتقاد به هو أنّ اختيار الشيخ النائيني للقيام بهذا الدور لم يكن عفوياً، وإنّما كان قائماً على أساس اختزان دروس الحركة الدّستورية ووعيها، فإنّ ثورة العشرين واجهت في أواخر عام 1920م المأزق نفسه الذي واجهته الحركة الدستورية في أواخره، وهو الوقوع في الفخ البريطاني. ومن هنا انطلق الشيخ النائيني يذود عن ثورة العشرين في المرحلة الأخيرة منها.
ففي 12 آذار 1921م، حسم مؤتمر القاهرة القضية العراقية بتسمية الأمير فيصل بن الشريف حسين مرشّحاً وحيداً لعرش العراق. وهنا وقف الشيخ محمد حسين النائيني ـ ومعه السيد أبو الحسن الأصفهاني ـ ضدّ فكرة الترشيح لعرش العراق، سواء كان المرشّح فيصلاً أم غيره، ما لم يُضمن استقلال العراق ويتمّ إنهاء الانتداب البريطاني له أولاً وقبل أي شي‏ء آخر، معتبراً استقلال العراق وتشكيل الحكومة المستقلّة فيه المنفصلة عن الأجنبي والمقيّدة بدستور ومجلس نيابي هدفاً
________________________________________

[الصفحة - 159]


مقدّماً على مسألة العرش، فيما وافق الشيخ مهدي الخالصي على فكرة الترشيح من دون ذلك الشرط، واختار بدلاً عنه أن يشترط على فيصل أن يكون منفصلاً عن الأجنبي مقيّداً بدستور ومجلس نيابي، فوافق فيصل على هذا الشرط، وأقسم عليه أمام الشيخ الخالصي الذي بايعه على هذا الأساس. ثم ما لبث أن سحب بيعته منه بعدما تبيّن له عدم التزام فيصل بالشرط المذكور.
وأخيراً توافق الزعماء الثلاثة على معارضة الانتداب والمعاهدة البريطانية العراقية، وترشيح الأمير فيصل لعرش العراق، وعلى المطالبة بحكومة عراقية مستقلّة ومقيِّدة بدستور ومجلس نيابي، وواصلوا معارضتهم التي انتهت بتسفيرهم مع عدد آخر من العلماء المحيطين بهم إلى إيران، فأقاموا هناك عدّة أشهر جرت بعدها مفاوضات بينهم وبين الحكومة العراقية، انتهت بموافقة الحكومة العراقية على عودة العلماء شريطة عدم التدخّل في الشؤون السياسية(12) .
عودة إلى السَّاحة الإيرانيَّة
في نهاية حزيران 1923م، قامت الحكومة العراقية بتسفير العلماء المعارضين للانتداب البريطاني والمحتجِّين على نفي الشيخ محمد مهدي الخالصي إلى خارج العراق. وفي مدّة إقامتهم في إيران، الممتدّة من ذلك التأريخ حتى نيسان 1924م، جرت أحداث رئيسة في إيران، شارك فيها هؤلاء العلماء بشكل عام، وآية اللَّه النائيني منهم بشكل خاص، بدور رأى بعض المؤرّخين والكتّاب أنَّه كان سلبياً وموجباً للانتقاد.
ففي تلك الآونة كانت الساحة الإيرانية يتجاذبها اتّجاهان سيَّاسيان أساسيَّان هما:
1 - الاتّجاه الرافض للنفوذ البريطاني، وهو الاتّجاه الشعبي الذي يحظى بقيادة العلماء وتجاوب أحمد شاه معه.
2 - الاتّجاه المؤيِّد للانجليز والسَّائر في ركابهم، وعلى رأسه رضا خان الذي كان وزيراً للحربية آنذاك.
________________________________________
(12)بحث محقّق الكتاب سير الحركة الاستقلالية العراقية وتطوّراتها والأسباب التي دعت العلماء إلى الموافقة على اشتراط الحكومة العراقية بعدم التدخّل في الشؤون السياسية، ضمن دراسته لحياة السيِّد أبي الحسن الأصفهاني وحياة الشيخ محمد مهدي الخالصي، وذلك في كتابه «من أعلام الفكر والقيادة والمرجعية».

[الصفحة - 160]


وبعد مدَّة من وصول العلماء إلى إيران، وتحديداً في 27 تشرين الأوّل 1923م، تمَّ تعيين رضا خان رئيساً للوزراء تحت ضغط الانجليز وتأثيرهم، ما جعل أحمد شاه يشعر بالريبة وينظر بالشك إزاء مستقبله، فصمّم على الخروج من إيران إلى أوروبا، وطلب من الوزير المفوّض البريطاني «لورن» أن يأخذ تعهُّداً من رضا خان بتأمين سلامة ولي عهده. ومن أجل أن تخلو الساحة له سارع رضا خان إلى تقديم هذا التعهُّد.
وفي 1 تشرين الثاني 1923م، عشية سفره الأخير ـ الذي انتهى به مصيره السياسي ـ إلى أوروبا، توجَّه أحمد شاه إلى مدينة قم، وذلك لتوديع العلماء الثلاثة: آية اللَّه الشيخ عبد الكريم الحائري، وآية اللَّه السيِّد أبي الحسن الأصفهاني، وآية اللَّه الشيخ محمد حسين النائيني.
وفي أثناء غياب أحمد شاه عن الساحة، بدأ رضا خان الدعوة إلى تأسيس نظام جمهوري في إيران، طامحاً من وراء ذلك إلى التخلُّص من الأُسرة القاجارية وتأسيس نظام جديد يكون بزعامته، واستطاع أن يعبِّىِّ لصالح هذه الفكرة، التي لم تكن جديدة على الساحة الإيرانية، بعض الفئات، لكن الرأي العام، وبزعامة القيادة الإسلامية، تمسّك برفض هذه الفكرة التي تعني عملياً تحكّم الانجليز بكل شي‏ء وإن كانت من الناحية النظرية تقدّم صورة أفضل من الحكم الوراثي؛ حيث اجتمع العلماء الثلاثة في قم واتّفقوا على ضرورة إقناع رئيس الوزراء بأن أحمد شاه لا يمثّل خطراً على البلاد، وبالتالي لا مسوّغ لطرح فكرة الجمهورية، خصوصاً وأنّ الدستور يحدّ من صلاحيات الشاه.
وقد نجح العلماء، أخيراً، في تحقيق هذا الهدف وإنقاذ البلاد من مأزق خطير. ففي عشية عودة آية اللَّه السيد أبي الحسن الأصفهاني وآية اللَّه الشيخ محمد حسين النائيني إلى العراق، وتحديداً في آذار 1924م.، قدم رضا خان إلى قم لتوديع العلماء، فتباحثوا معه وأقنعوه بضرورة التخلّي عن فكرة الجمهورية، وأصدروا بياناً يعلنون فيه للشعب الإيراني تخلِّي رضا خان عن فكرة الجمهورية، وانتهاء الأزمة السياسية في البلاد، وأعلن رضا خان ذلك أيضاً بنفسه في بيان مستقل موجّه إلى الشعب الإيراني.
________________________________________

[الصفحة - 161]


وبهذا الموقف استطاع رضا خان أن يعزّز مكانته لدى العلماء، ويوجد لديهم الثقة به بوصفه سياسياً يحترم الإسلام والعلماء ويحتكم إلى رأيهم في اللحظات الحرجة، وسيقوم بتوظيف هذه النتيجة لصالحه في المعركة مع أحمد شاه؛ فلئن أخفقت فكرة الجمهورية بوصفها وسيلة لإقصاء أحمد شاه من العرش، فإنّ رئيس الوزراء كان لا يزال يملك الوسائل البديلة التي تحقّق له ذلك.
وعلى صعيد القيادة الإسلامية ظهر اتّجاهان بشأن الموقف من رضا خان:
1 - الاتّجاه الرافض لرضا خان رفضاً قاطعاً بسبب علاقاته المشبوهة بالانجليز، ويمثّل هذا الاتّجاه آية اللَّه الشهيد السيِّد حسن المدرس.
2 - الاتّجاه الواثق به بوصفه سياسيَّاً مطيعاً للعلماء؛ ويمثِّل هذا الاتّجاه بالدرجة الأولى آية اللَّه الشيخ النائيني وبعده آية اللَّه السيِّد أبو الحسن الأصفهاني. ويبدو أنّ الأساس الذي انطلق منه هذا الاتّجاه يتمثّل باليأس من عودة أحمد شاه إلى السلطة، وبالتالي عدم إمكانية الرهان عليه. وقد أبدى رضا خان طوال المدَّة السابقة احتراماً كبيراً للعلماء حتى أنَّه طلب ذات مرّة من آية اللَّه الشيخ عبد الكريم الحائري رسالته العملية ليقلِّده على أساسها. من هنا وثق به آية اللَّه الشيخ النائيني وآية اللَّه السيِّد أبو الحسن الأصفهاني باعتباره بديلاً مناسباً لأحمد شاه.
والواقع أنَّ تجربة الشيخ النائيني، في الحركة الدستورية، أكسبته حساسيّة شديدة تجاه الاستعمار، وقد وجدنا ذلك بوضوح في زعامته للحركة الاستقلالية في العراق، فمن غير المعقول الاعتقاد بأنّ الشيخ النائيني قد غضّ الطرف عن عمالة رضا خان للانجليز، أو تهاون في مقاومتهم. ومهما تكن نتائج البحث في صحّة موقفه الواثق برضا خان أو عدم صحّته، ومدى إمكانية القول بأنه كرّر خطأ الشيخ محمد مهدي الخالصي في مبايعته للملك فيصل، فإنّ زعيماً دينياً قضى شطراً من عمره في مقاومة الاستعمار وتنقّل بين عدة خنادق وجبهات إيرانية وعراقية، لا يمكننا أن نفسّر ذلك الموقف منه بالتهاون أو المهادنة.
ويبدو من بعض الوثائق أنَّ الشيخ النائيني، في الأيام الأخيرة من وجوده في إيران، سعى إلى إقناع آية اللَّه السيِّد حسن المدرس بالتخفيف من معارضته لرضا
________________________________________

[الصفحة - 162]


خان‏ (13) ، لكنه أخفق في ذلك، وتواصلت الأحداث حتى جاء عام 1925م؛ حيث قام رضا خان بزيارة سريّة إلى العراق، وتوجَّه إلى النَّجف الأشرف ليلتقي العلماء، وليحسم قضية العرش في إيران. ويروي الشيخ محمد حرز الدين أنّ موثوقاً عنده روى له، في عام 1345هـ (1925م)، بأنّ آية اللَّه السيِّد أبا الحسن الأصفهاني وآية اللَّه الشيخ النائيني وآخرين اجتمعوا مع رضا خان في النجف الأشرف في حرم أمير المؤمنين (عليه السلام) ليلاً قبل الفجر بساعتين، وكان الراوي حاضراً ضمن حاشية أحد العلماء الحاضرين، وتداول العلماء معه الحديث حول شؤون إيران، وأخذوا عليه العهود والمواثيق والأيمان أن يسير برأي العلماء، وأن يكون هناك مجلس شورى يشرف عليه خمسة من المجتهدين، وشروطاً أخرى، ولم تنصّ الرواية على المطلب الذي جاء رضا خان من أجله. لكن السياق يوضح بأنّ مطلبه كان تأييده في إنهاء حكم الأسرة القاجارية وتسنّمه العرش بدلاً منها (14) .
وفي مقابل التعهُّدات والأيمان التي أُخذت منه، أصدر الزعيمان الدينيان السيد أبو الحسن الأصفهاني والشيخ محمد حسين النائيني فتوى مشتركة، حرّما فيها وبشدّة جميع أشكال المعارضة لحكم رضا خان‏ (15) . وينبغي التوضيح هنا أنّ تحريم المعارضة لا يعني أنَّ الزعيمين الدينيين نظرا إلى حكم رضا خان على أنّه حكم إسلامي، وإنّما يعني وجود المصلحة فيه على فرض التزامه بتعهُّداته المذكورة، وحينئذٍ فالمعارضة ستكون لتلك المصلحة ولموقف المرجعية الدينية. ومن هنا تأخذ الفتوى زخمها الشرعي.
وهكذا استتبّ الأمر لرضا خان، وبادر فوراً إلى خلع أحمد شاه والجلوس بدلاً منه على عرش إيران، وتأسيس حكم الأُسرة البهلوية الذي أسقط عام 1979م على يد الإمام الخميني قدس سره.
ولكنّه، وبعد أن استقرّ به المقام على العرش، واطمأنّ إلى مصيره ومستقبله، قلب للعلماء ظهر المجن، واتّخذ أتاتورك قدوة له في الحكم والسياسة.
إنّ هذه الفتوى كانت آخر نشاط سياسي للشيخ النائيني، وبها ختم حياته السياسية، وتفرَّغ للدَّرس والبحث وشؤون المرجعية الدينية، مخلّفاً وراءه ثلاث
________________________________________
(13)الحائري، عبد الهادي، المصدر السابق، ص 191.
(14)حرز الدين، الشيخ محمد، معارف الرجال، 1/48 و49.
(15)الحائري، عبد الهادي، المصدر السابق، ص 193، بالفارسية. انظر الفتوى.

[الصفحة - 163]


تجارب سياسية في الإصلاح والمقاومة، انتهت جميعاً بمصير واحد هو خروج الاستعمار من الباب وعودته إلى الدار من الشباك، وتجاربه هذه كانت مع الحركة الدستورية الإيرانية، الحركة الاستقلالية العراقية، الحكم البهلوي في إيران.
لقد قسّم الباحث الإيراني عبد الهادي الحائري حياة الشيخ النائيني إلى ثلاث مراحل هي: مرحلة التحرُّك ضدّ الاستبداد، ومرحلة قيادة الحركة الاستقلالية في العراق، وأخيراً مرحلة الصداقة مع الأنظمة الحاكمة في إيران والعراق‏ (16) ، متّخذاً من تأييد الشيخ النائيني لحكم رضا خان مثالاً للمرحلة الثالثة التي نجد في تسميتها بالصَّداقة استعجالاً واضحاً.
لقد كانت أواسط العشرينات آونةً حاسمة على صعيد العالم الإسلامي ككل، ففي العراق قُضي على الحركة الاستقلالية، وفي إيران أُنهي الحكم القاجاري، وفي تركيا أقيمت الجمهورية وتمّ إسقاط آخر رموز الدولة العثمانية، وفي الجزيرة العربية ومصر والشام تمكّنت أُوروبا من فرض هيمنتها عبر معاهدات مذلّة وأنظمة هزيلة، وهكذا لم تكن المسألة القائمة في العالم الإسلامي آنذاك مسألة عميل هنا وحاكم هناك، بقدر ما هي مسألة الأمّة التي تحتاج إلى بناء جديد يمكّنها من الوقوف على قدميها أمام الهجمة الأوروبية الشاملة، وهي مسألة ترتبط بالجذور أكثر ممّا ترتبط بالسياسة التي أصبحت أهميّتها ثانوية، ومن هنا جاءت موافقة المرجعية الدينية على اشتراط عدم التدخُّل في السياسة عندما طلب منها ذلك مقابل العودة إلى النجف الأشرف، فإعادة البناء من جديد كانت أهمّ من السياسة ومعطياتها.
سجاياه الرُّوحيَّة
تمتّع الشَّيخ محمَّد حسين النَّائيني بخصائص روحية فريدة، فقد ذكر الشيخ آغا بزرك الطهراني أنّ الشيخ النائيني «كان إذا وقف للصَّلاة ارتعدت فرائصه وابتلّت لحيته من دموع عينيه» (17) .
ويذكر آية اللَّه السيِّد الحسيني الهمداني، نقلاً عن أبيه، أنَّ آية اللَّه النائيني كان يجلس عند باب الحرم العلوي قبل أن يُفتح وقبل أذان الصبح بساعة، فينشغل بالصلاة والتهجُّد عند الباب حتى يفتح ويدخل وقت صلاة الصبح، وفي آخر حياته
________________________________________
(16)الحائري، عبد الهادي، المصدر السابق، ص 194 و195.
(17)الطهراني، آغا بزرك، المصدر السابق، 2/594.

[الصفحة - 164]


كان ينهض قبل الصلاة بساعتين للتهجُّد والعبادة، وفي إحدى الليالي الأخيرة من حياته كان المرض مستولياً عليه وفي حالة من الإغماء فجاءه الطبيب واتّخذ بعض الإجراءات، ثم قال: إنّه سيفيق بعد ربع ساعة وتتحسَّن حالته، وكانت الساعة الثالثة بعد منتصف الليل، فقلت للحاضرين فوالكلام لوالد السيِّد الهمداني الذي كان تلميذاً للشيخ ف: إنّ الشيخ إذا أفاق ونظر إلى الساعة ووجدها في الثالثة سينهض لصلاة الليل وتسوء حالته، ولا بدّ لنا من تنظيم الساعات الموجودة وإرجاعها إلى الواحدة، فلما انتبه نظر إلى السماء وقال: الساعة الآن هي الثالثة بعد منتصف الليل، فقلت له: هذه الساعات جميعها تشير إلى أنّ الساعة هي الواحدة، قال: أنا أعرف الوقت من السماء. ثم طلب ماءً، فأتينا به، وتوضّأ وصلّى‏ (18) .
ويتحدّث الشيخ علي الشرقي عن شخصيَّته، فيقول:
«كان إماماً في الأدب الفارسي، وكان لأسلوبه شخصيَّة أدبية يتحداها الكتّاب من الفرس، وكان على جانب عظيم من الأدب العربي العالي، ولم يتناول من بيت المال وحقوق المسلمين درهماً واحداً طيلة حياته، وقد كانت له تركة من آبائه عقاريَّة وغير عقاريَّة، كانت مصدر تغذيته وصرفه أيام كان في إيران والنجف وسامرّاء ثم النجف» (19) .
وفاته (رحمه اللَّه)
في عام 1927م.، دخل آية اللَّه الشَّيخ النَّائيني إحدى مستشفيات بغداد للعلاج فيها، وفي عام 1933م.، دخل المستشفى مرة ثانية، وفي أواخر أيامه، أصيب بمرض لم يمهله طويلاً فتوفي على أثره (رحمه اللَّه)، وكان ذلك في 26 جمادى الأُولى 1355هـ (آب 1936م.)، وشُيِّع جثمانه تشييعاً مهيباً، وأُقيمت مجالس الفاتحة على روحه الطاهرة بشكل واسع، وأبّنه العلماء والشعراء.
نبذة عن الفقه السِّياسي الإسلامي‏
إنّ لولادة الفقه السِّياسي الإسلامي قصَّة ينبغي الإلمام بها لمن يريد الإحاطة بمكانة الشَّيخ النَّائيني.
________________________________________
(18)مجلة حوزة، المصدر السابق، ص 50، باللغة الفارسية.
(19)مجلة الموسم، العدد الخامس، ص 49.

[الصفحة - 165]

 
فروع المركز

فروع المركز

للمركز الإسلامي للدراسات الإستراتيجية ثلاثة فروع في ثلاثة بلدان
  • العنوان

  • البريد الإلكتروني

  • الهاتف