البحث في...
إسم البحث
الباحث
اسم المجلة
السنة
نص البحث
 أسلوب البحث
البحث عن اي من هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على كل هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على هذه الجملة

مسألة جمع القرآن، رؤية استشراقيّة وحقائق موضوعيّة

الباحث :  د مجيد معارف
اسم المجلة :  مجلة المنهاج
العدد :  55
السنة :  السنة الرابعة عشر خريف 1430هجـ 2009 م
تاريخ إضافة البحث :  June / 25 / 2015
عدد زيارات البحث :  2517
مسألة جمع القرآن،
رؤية استشراقيّة وحقائق موضوعيّة
الدكتور مجيد معارف (*)
تشكّل المقدّمة التي أوردها (ريجيه بلاشير) المستشرق الفرنسيّ المعاصر (1)في ترجمته للقرآن الكريم إلى اللغة الفرنسيّة المصدر الأول لأبرز آرائه ونظريّاته حول القرآن وتاريخ علومه، وقد ركّز فيها على قضيّة جمع القرآن وتدوينه في زمن الرسول(صلى‏ الله ‏عليه ‏و ‏آله ‏و سلم) وبعد التحاقه بالرفيق الأعلى. ويعتقد بأنّ النبيّ(صلى‏ الله ‏عليه ‏و ‏آله ‏و سلم) لم يتصدّ لجمع القرآن في حياته بشكلٍ كاملٍ، وإنّما تحقّق هذا الأمر في زمن الخلفاء بعد رسول الله(صلى‏ الله ‏عليه ‏و ‏آله ‏و سلم)؛ حيث تصدّى كلّ واحدٍ منهم لهذا العمل الأساسيّ وفق سليقته وذوقه الخاصّ وبما ينسجم مع المصالح القبليّة والسياسيّة التي كانت تُحيط بموقع كلّ منهم. وهذه الأفكار يبنيها (بلاشير) على تراثٍ استشراقيّ له تاريخٌ عريق. ومن الطبيعيّ إخضاعها للبحث والتمحيص لما بينها وبين المتبنيّات الإسلاميّة من تفاوتٍ كبير، على مستوى الأُسس والمبادئ، كما على مستوى التفاصيل ونتائج الأفكار (2).
إشكاليّة البحث
من الأمور المهمّة في ميدان الدِّراسات القرآنيّة، مسألة جمع القرآن. ومن هنا، بذل الباحثون المسلمون وغيرهم جهداً وافراً على هذا الصعيد. و(ريجي بلاشير) واحد
________________________________________
(*)أستاذ في كليّة الإلهيّات والمعارف الإسلاميّة في جامعة طهران، من إيران. ترجمة الشيخ محمد زراقط
(1)ـ ريجيه بلاشير مستشرق فرنسي له عدد من المساهمات في التراث الاستشراقي، سواء على مستوى المقالة أو الكتاب، في مجال الأدب العربيّ والإسلاميّات. ومن أهمّ أعماله التي ربّما كان لها دور كبير في شهرته ترجمته للقرآن الكريم إلى اللغة الفرنسيّة. وقد بذل جهدا وافرا لتكون ترجمته واحدة من الترجمات التي تجمع بين الفصاحة والاعتدال، وربما يمكن القول إنّ ترجمته من بين أفضل الترجمات الأوروبية. وقد مهد لترجمته بمقدمة علمية تكشف عن سعة اطلاعه وتضلعه في الدراسات القرآنية والتاريخية. كما وتكشف هذه المقدمة عن خبرة واسعة في اللهجات العربية المختلفة وعلى الخصوص لهجة مكة والمدينة. ويكتشف المتتبع لأعمال بلاشير تأثره بمن سبقه من المستشرقين من أمثال: الألماني نولدكه وغيره من المستشرقين، إلا أنّه يجمع إلى ذلك جهداً واضحاً في الرجوع إلى المصادر الإسلامية الأصيلة. ويحاول بلاشير جاهداً إظهار نفسه محايداً؛ ولذلك يتجنب التشكيك في النص القرآني وإخضاعه للأسئلة التي تشكك في أصالته وتثير غبار التساؤلات حول كما حول النصوص الإسلامية الأولية كالسنة النبوية الشريفة. ولكن مع هذه الرغبة في الحياد أو ادعائه، إلا أنّ بعض آرائه وأفكاره على الأقل لا تنسجم مع ما هو مقبول ومسلم أحياناً بين المسلمين. ورغم خلو كتابات بلاشير من الحملات الحادة التي يمتلأ بها تراث الاستشراق الأوروبي، إلا أنّ من الواضح أنّ الفضاء الذي يحكم على تفكير بلاشير هو الفضاء البعيد عن الفضاء الإمامي؛ ومردّ ذلك إلى أنّ المستشرقين تعرّفوا على العالم الإسلاميّ بكل تفاصيله ومنها التشيّع، من خلال العالم الإسلامي بقسمه السنّي. وعلى ضوء ذلك نلاحظ أنّ بلاشير وغيره كثيرين يجهلون الكثير عن التشيّع والأفكار الشيعيّة. وعلى أيّ حال حاول أحد الباحثين المتخصصين في القرآنيّات وهو الدكتور محمود راميار، ترجمة أفكار بلاشير بلغة فارسية جزلة وتقديمها مع نقدها والتعليق عليها إلى قرّاء الفارسيّة، ونشر ذلك في كتاب بعنوان: "در آستانه قرآن"، نشرته مؤسسة فرهنك إسلامي. لمزيد من الاطلاع على بلاشير وأفكاره، انظر: ريجيه بلاشير، در آستانه قرآن، ترجمة: محمود راميار، دفتر نشر فرهنك إسلامي، 1363هـ.ش.، ص3و5.
(2)ـ اهتم الاستشراق بكثير من الشؤون الإسلامية ومن بينها القرآن وكل ما يرتبط به. ويتمايز المستشرقون في المناهج والدوافع ونتائج الأفكار. والدوافع التي دعت إلى تكوّن الاستشراق تتنوع بين السياسة والتجارة والعلم والاستعمار والتبشير. (حمدي زقزوق، الاستشراق والخلفية الفكرين، القاهرة، دار المنار، 1409هـ.، ص88؛ محمد حسين الصغير، دراسات قرآنية، قم، مكتب الإعلام الإسلامي، 1413هـ.، ص15-21؛ مصطفى السباعي، الاستشراق والمستشرقون ما لهم وما عليهم، بيروت، دار الورّاق، 1422هـ.، ص20-31.) وعلى ضوء ذلك، فإنّ ما يشكّل الاستشراق هو طيف عريض يجمع بين صفوفه علماء منصفين ومحايدين كما يضمّ مغرضين لا يمثّل لهم العلم سوى أداة في خدمة الغرض الذي يصبون إلى تحقيقه. ولكن يكشف تتبّع أعمال المستشرقين على اختلاف توجّهاتهم وانتماءاتهم عن عدد من المشكلات التي تعاني منها الدراسات الاستشراقيّة حول القرآن. ومن أبرز تلك المشكلات، ما يأتي:أولا : الانطلاق من فرضيّات مسبقة حول عقائد المسلمين لا تتفق بالضرورة مع ما يؤمن به المسلمون أنفسهم. ثانيا : عدم اعتمادهم تصنيفاً واضحاً للمصادر الإسلامية، والتعامل معها جميعها بشكل واحد.ثالثا: الاهتمام بنقد النصوص والروايات لجهة متنها انطلاقاً من الفرضيّات الخاصة المتبنّاة عندهم، وإغفال السند وعدم الاهتمام به. رابعا :تنبّي فهم خاص للآيات والنصوص الإسلامية، قد يكون أحياناً مستنداً إلى سوء فهم للغة العربيّة.
[الصفحة - 270]
ممّن أولى هذه القضيّة ما تستحقّ من جهدٍ، وحاول دراسة كلّ ما يتعلّق بمسألة جمع القرآن بدءاً من عصر النبيّ(صلى‏ الله ‏عليه ‏و ‏آله ‏و سلم) وانتهاءً بعصر الخلفاء الثلاثة؛ حيث يبدو أنّ الحديث عن جمع القرآن ينتهي عندها. ويخلص بعد دراسته إلى ما يأتي:
أـ اعتمد المسلمون في فترة وجود النبيّ(صلى‏ الله ‏عليه ‏و ‏آله ‏و سلم) على الحفظ والذاكرة في تداول القرآن، رغم وجود ما يدلّ على تدوين غير منظّم بشكلٍ واضحٍ. ولكن في السنوات الأخيرة من حياة النبيّ(صلى‏ الله ‏عليه ‏و ‏آله ‏و سلم) تحوّلت قضيّة جمع القرآن إلى قضيّة مُلِحّة أَوْلاها المسلمون ما تستحقّ من اهتمام، إلا أنّ هذا الاهتمام لم يؤدِّ في نهاية المطاف إلى توفّر نسخة معياريّة كاملةٍ للقرآن الكريم (3).
ب ـ بعد وفاة النبيّ(صلى‏ الله ‏عليه ‏و ‏آله ‏و سلم) عمد كبار الصحابة إلى إعداد نسخٍ خاصّة بهم من الوحي، وكان من الطبيعيّ أن تختلف هذه النُسَخ في ما بينها (4). وتٌعدّ نسخة (أبي بكر) واحدة من هذه النُسَخ (5).
ج ـ قد أدّى اختلاف النُسَخ والقراءات في زمن عثمان إلى مشاكل في المجتمع الإسلاميّ الحديث النشأة، ما دعا الخليفة الثالث إلى إعادة التفكير في مسألة الوحي القرآنيّ وإنتاج نسخة معياريّة، تكون هي الأساس لما سواها من نُسَخٍ متداولةٍ في العالم الإسلاميّ، وعلى ضوء هذه الرغبة عهد عثمان بهذه المهمّة إلى عدد من أقاربه من وجهاء مكّة، وقد تأثّر حاصل عملهم بمصالحهم الشخصيّة والقبليّة (6).
وتحتوي تحليلات (بلاشير) على مواقف تُلقي الضوء على تاريخ المصحف الشريف وما طرأ على عمليّة تدوين القرآن من تطوّرات في العهود الإسلاميّة الأولى، إلا أنّ مجمل نظرته إلى القرآن بحاجة إلى تأمّل ونقدٍ تقويميّ جادّ؛ وذلك لانطلاقه من التسليم بعدم تدوين القرآن في عصر النبيّ(صلى‏ الله ‏عليه ‏و ‏آله ‏و سلم)، ولتضخيمه قضيّة الاختلاف بين مصاحف الصحابة، وأخيراً الاعتقاد بأهميّة ما فعله عثمان وخطورته، واعتباره موقفاً نابعاً من مصالح السلطة الحاكمة.
________________________________________
(3)ـ بلاشير، مصدر سابق، ص30و31.
(4)ـ المصدر نفسه، ص66.
(5)ـ المصدر نفسه، ص54.
(6)ـ المصدر نفسه، ص 75-77.
[الصفحة - 271]
النقطة الأولى: (بلاشير) وجمع القرآن في عصر النبيّ(صلى‏ الله ‏عليه ‏و ‏آله ‏و سلم)
يعتقد (بلاشير) بأنّ تاريخ القرآن مرتبط بعوامل ثلاثة، هي:
أ ـ الاستفادة من نُسَخٍ خطيّة ناقصة.
ب ـ عدم وجود نسخةٍ كاملةٍ من الوحي منجَزةٍ تحت إشراف النبيّ(صلى‏ الله ‏عليه ‏و ‏آله ‏و سلم).
ج ـ بالنظر إلى ما تقدّم، يكون من الضروريّ الاعتماد على الذاكرة والحفظ في جمع القرآن وتدوينه (7).
يدرس بلاشير الخطّ العربيّ في القرن السادس الميلاديّ وأدوات الكتابة المتوفّرة في ذلك العصر، ويخلص إلى أنّ لذلك كلِّه أصلٌ خارج بلاد العرب. ويعترف بوجود عدد من الكتّاب في عصر النبيّ(صلى‏ الله ‏عليه ‏و ‏آله ‏و سلم) تولَّوا تدوين بعض المقاطع من القرآن الكريم في تلك المرحلة. وعلى ضوء ذلك يعترف بأنّ الحفظ والتدوين كلاهما وسيلتان تمّ اعتمادهما معاً في نقل نصّ القرآن والحفاظ على الوحي. ويختم تقديره بالآتي: «توجد بين أيدينا وثائقَ تكشف عن أسماء عددٍ ممّن تولَّوا كتابة الوحي وتدوينه، ولكن لا تتوفّر شواهد تدلّ على تاريخ إنجازهم تلك المهامّ الموكَلة إليهم، أضف إلى ذلك وجود بعض التضارب بين الروايات التي تتضمّن أسماء هؤلاء الكتّاب»(8).
والنتيجة التي ينتهي إليها (بلاشير) هي وجود فاصلةٍ زمنيّة بين نزول الوحي وبين تدوينه وجمعه، والدلائل التي يستند إليها في تأسيس مدّعياته في هذا المجال، يمكن حصرها في ما يأتي:
أ ـ عدم وعي النبيّ(صلى‏ الله ‏عليه ‏و ‏آله ‏و سلم) بأهميّة رسالته : يقول بلاشير: «لم يكن يعرف النبيّ في بداية رسالته أهميّة ما يدعو إليه، ولا قدرته على تحويل أوضاع العرب إلى ما آلت إليه الأمور بعد سنوات من البعثة. وبالتالي لم تكن فكرة تدوين القرآن لتخطر على باله في مراحل الدَّعوة الأولى، فضلاً عن اهتمام غيره من المؤمنين بهذه الدَّعوة بهذا الأمر. وتبعاً لذلك كان الحفظ والنقل الشفهي، ولذلك تأخّر التدوين
________________________________________
(7)ـ المصدر نفسه، ص15.
(8)ـ المصدر نفسه، ص15إلى 20، بتصرف وتلخيص.
[الصفحة - 272]
إلى عهدٍ لاحقٍ عندما اختلط المسلمون بعد الهجرة إلى المدينة بدءاً من عام 622 للميلاد، باليهود في المدينة وإحساسهم بضرورة تدوين القانون الجديد» (9).
ب ـ عدم توفر الوسائل اللازمة: يعتقد بلاشير بأنّ تأخر تدوين الوحي مردّه مضافاً إلى ما ذُكِر أعلاه، إلى عدم توفّر الوسائل الماديّة اللازمة لتحقيق مثل هذا الأمر، فيقول: «منَعَ عدم توفّر الوسائل الضروريّة للكتابة من تدوين الوحي؛ حيث كان ينزل القرآن على رسول الله، في مناسباتٍ وأوقاتٍ مختلفة تتراوح بين الليل والنهار، والسفر والحضر، وحالة الصلاة وحالة الانشغال بغيرها من الأعمال والأنشطة...؛ ولذلك لم تتوفَّر خلال حياة النبيّ سوى مجموعات مدوَّنة قليلة تحتوي على بعض السوَر مرتَّبة بحسب الطول. وتدلُّ بعض الروايات غير المؤكَّدة أنَّ أخت عمر كانت تملك نسخةً ناقصةً من المصحف تحتوي على سورة طه وكانت تقرأها بصوت عالٍ... ومن مجموع الشواهد المتوفَّرة يُستفاد أنَّ العهد النبويّ لم يُنجز من القرآن المدوَّن بضعة مدوَّنات غير مكتملةٍ، ولا تخلو من تصرَّفٍ واجتهادات شخصيّة. بل كان الحفظ والمشافهة هو الوسيلة المتعارفة في ذلك العهد، بل إنَّ المصحف المدوَّن احتاج إلى الذاكرة والحفظ لتُضاف إليه علامات الإعراب والنقاط عندما دُوِّنَ في الصُحف في فترة لاحقة...» (10).
تساؤلات
في هذا المجال توجد مجموعة من الأسئلة يُمكن أن تُطرح على ضوء ما يدّعيه (بلاشير):
هل أنّ الصحابة الذين يُوصفون بالحفّاظ والذين يُنسب إليهم حفظ القرآن، وسوف نرى أنّ عددهم محدود، هل كان يحفظ هؤلاء القرآن كلَّه؟ وفي الجواب يرى (بلاشير) أنّ بعض ما رُوي في السيرة النبويّة يقدّم الجواب عن هذا التساؤل؛ وذلك أنّه يروى أنّ النبيّ(صلى‏ الله ‏عليه ‏و ‏آله ‏و سلم) مرّ على مجلسِ وعظٍ فسمِعَ الواعظ يتلو شيئاً من القرآن من ذاكرته، فأثار ذلك عواطفه واستدعى تعجَّبه، بعد أن وعى أنّه نفسه نسيَ تلك الآيات
________________________________________
(9)ـ المصدر نفسه، ص30.
(10)ـ المصدر نفسه، ص30-31، بتصرف وتلخيص.
[الصفحة - 273]
التي يتلوها هذا الواعظ وما كان ليتذكّرها لولا صدفة مروره بذلك الواعظ. فإذا كان النبيّ(صلى‏ الله ‏عليه ‏و ‏آله ‏و سلم) نفسه ينسى شيئاً من القرآن، فكيف نضمن حفظ غيره جميع أجزاء القرآن دون زيادةٍ أو نُقصان. وإذا كانت وثاقة هذه الرواية تقبل البحث والجدال، فإنّ في القرآن ما يدفع عن هذه الدعوى ويدعم احتمالات صدقه، وذلك قول الله في القرآن: {مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللهَ عَلَىَ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } (البقرة، 106)وقد قدّم بعض المفسِّرين لهذه الآية تفسيرات تختلف عن المعنى الأوّلي الظاهر لها، حيث فسَّروا النسيان بالترك والإهمال، ورأى آخرون أنّ المعنى الظاهر هو المراد من الآية وبالتالي فسَّروا النسيان بالمحو من الذاكرة. وعلى ضوء ذلك فإذا كان من المُمكن نسيان بعض القرآن قبل البعثة وحتَّى تاريخ الهجرة إلى المدينة، فإنّ حصول واقعة النسيان بعد ذلك إلى زمان جمع القرآن، أي بعد وفاة النبيّ(صلى‏ الله ‏عليه ‏و ‏آله ‏و سلم) أمر ممكن، بل في غاية الإمكان. وهذا ما دعا الجيل الثاني من المسلمين إلى جمع القرآن وتدوينه خوفاًَ عليه من الضياع وطروء التغيير (11).
لماذا لم يُقدِم محمّد(صلى‏ الله ‏عليه ‏و ‏آله ‏و سلم) في فترة حياته، على تصنيف آيات القرآن وتدوينها وجمعها في محلّ واحد؟... وما هي الأسباب التي دعت النبيّ إلى عدم توفير نسخة معياريّة للوحي؟ يُشير (بلاشير) في هذا المقام إلى جوابٍ متطرِّفٍ للمستشرق (كازانوفا)، وحاصله أنّ القرآن في جوهره دعوة إلى الاستعداد ليوم الدِّين، وبالتالي فإنّ الإسلام دين خلاصيّ يدعو الناس إلى استقبال يوم القيامة الذي اقترب أجله، وفي القرآن ما يؤكّد ذلك حيث يقول تعالى: {اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مَّعْرِضُونَ } (الأنبياء، 1) (12)ونتيجة الكلام المتقدّم هو أنّ الشعور العامّ الذي دعا إلى عدم الإحساس بوجود فُسحةٍ من الوقت تسمح بتدوين الوحي، فما الحاجة إلى التدوين وقد أوشكت القيامة أن تقوم؛ ولكن لمَّا تأخَّر ذلك وبدا للمسلمين أنّ الساعة ليست بذاك القرب الذي كانوا يعتقدون، رأوا الحاجة ماسّة إلى التدوين وحفظ القانون الجديد، أسوةً بغير الإسلام من الدِّيانات السابقة (13).
________________________________________
(11)ـ بلاشير، مصدر سابق، ص32-33.
(12)ـ انظر بلاشير، مصدر سابق، ص40.
(13)ـ المصدر نفسه، ص40-41.
[الصفحة - 274]
موقف (بلاشير) من رأي (كازانوفا)
لا يُظهِر (بلاشير) موقفاً مؤيّدا لـ (كازانوفا)، ويحاول تقديم تصوّر خاص به، حيث يقول:
1ـ ربّما كان يعتقد محمّد ومعاصروه بأنّ تدوين نسخة معياريّة للوحي أمرٌ قريب من الكفر أو هو الكفر، وقد أقعدتهم عن التدوين طاعتهم المطلقة للتطمين القرآني الذي يتضمنّه قوله تعالى: {إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ * فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ } (القيامة، 17ـ 18)وبالتالي فإنّ ما نتعجّب منه ويُثير أسئلة من قبيل: لماذا ترك صاحب الرسالة تدوين الكتاب المُنزل عليه؟ وما شابهه من الأسئلة. ربّما كان بحسب القرآن نفسه ضرورة لا مفرّ منها.
2ـ الأمر الثاني الذي ربّما يكون هو المانع من التدوين هو الاعتقاد بكفاية الحفظ والنقل الشفاهيّ، وبالتالي الاعتقاد بأنّ الذاكرة الإنسانيّة وسيلة مأمونة لنقل الكُتب المقدَّسة، من جيلٍ إلى جيلٍ.
3ـ ثمّ لا ينبغي إغفال الطبيعة العربيّة وتجاهل دورها في إهمال عمليّة التدوين، وذلك أنّ العربيّ بطبعه أسير اللحظة، ولا يشغل نفسه بمزيدٍ من التفكير في المستقبل. ومن هنا، لم تكن تخطر فكرة التدوين على بال المعاصرين للنبيّ، ولم يكن أحدهم يشعر بالحاجة إلى ذلك ما دامت الأمور تسير بشكلٍ لا يسمح لمن يكتفي بعيش اللحظة بتوقّع المستقبل واستشرافه واتّخاذ الاحتياطات اللازمة لتلافي الأخطار المُحدِقة. وليست مسألة التدوين هي الوحيدة ممّا أُهمِل وله صلة بمستقبل الرسالة، فقد أُهمِل أمرٌ مهمٌ آخر ولم يفكّر فيه المسلمون، إلا لحظة الحاجة إلى الحلّ وبعد أن دهمتهم المشكلة، وذلك في قضيّة الخلافة.
4ـ ويُضاف إلى ما تقدّم تعدّد القراءات الذي هو بحدّ نفسه معيقٌ إضافيّ لعملية التدوين؛ وذلك لأنّ التساؤل الأوّل الذي كان يجب أن يخطر على بال كلّ من يعزم على التدوين هو: ماذا ندوّن هل ندوّن النص مع قراءاته المتنوّعة؟ أم
________________________________________
[الصفحة - 275]
الخيار الأمثل هو تدوين نص ثابت والتخلّي عن ما سواه؟ وتتضاعف المشكلة عندما نلاحظ اختلاف الصحابة فيما بينهم في القراءات، ونموذج ذلك الاختلاف بين (عمر بن الخطاب) و(هشام بن الحكم) في قراءتهما سورة الفرقان. وما نريد الإشارة إليه في هذا المجال هو: أنّ النبيّ منذ البداية احترز عن ترجيح إحدى القراءات على غيرها. وبالتالي ربّما ترك النبيّ تدوين القرآن في حياته انتظاراً لوضوح الصورة في المستقبل لتتّضح الآثار المترتِّبة على هذه العمليّة، مع مرور الزمان. وبالتالي يُمكن اتّخاذ موقفٍ واضحٍ على ضوء المصالح والمفاسد المترتِّبة على كلٍّ من الخيارين المُتَاحين وهما التدوين وعدمه (14).
حاصل أفكار (بلاشر)
يُمكن اختصار ما تقدّم من أفكار ورؤى عرضناها لبلاشير في العناوين الآتية:
أ ـ توفّي رسول الله(صلى‏ الله ‏عليه ‏و ‏آله ‏و سلم) والقرآن محفوظ في الأذهان، غير مدوَّن ولا مجموعٌ في محلٍ واحدٍ، وما دُوِّن منه ليس كاملا.
ب ـ لا يوجد ما يضمن بقاء القرآن كلّه في الأذهان فإذا كان النبيّ(صلى‏ الله ‏عليه ‏و ‏آله ‏و سلم)، قد نسيَ بعضه فما الذي يضمن حفظ غيره للقرآن كاملاً دون نقيصة أو زيادة.
نقد نظريَّات (بلاشير) في جمع القرآن في عصر النبيّ(صلى‏ الله ‏عليه ‏و ‏آله ‏و سلم):
أ ـ ربّما يبدو تقييمنا الأولي لآراء (بلاشير) غريباً؛ لكن لا بدّ من قول الحق، وهو أنّ الآراء التي يطرحها (بلاشير) تبدو منسجمة مع المصادر التي يستند إليها، وبالتالي لا غرو أن يصدر عن مثل هذه الأفكار بعد أن ورد مثلَ هاتيك الموارد. فعندما نرجع إلى بعض المصادر كصحيح البخاري ونجد فيه: «عن عائشة قالت: سمع النبيّ (ص) رجلاً يقرأ في المسجد فقال رحمه الله لقد أذكرني كذا وكذا آية أسقطتها في سورة كذا وكذا» (15).
أفهل يُمكن بعد وجود رواياتٍ كهذه في مصادر المسلمين الاعتراض على مثل (بلاشير)، والتعجُّب من تشكيكه في قدرة الصحابة على حفظ القرآن ووعيه
________________________________________
(14)ـ بلاشير، مصدر سابق، ص42- 45، بشيء من التلخيص والتصرف.
(15)ـ محمّد بن إسماعيل البخاري، الصحيح، بيروت، دار القلم، 1407هـ.، ج8، ص428.
[الصفحة - 276]
في الذاكرة. هذا ولكنّنا نوجّه نقدنا إلى (بلاشير) ونسأله عندما استدلّ بالقرآن، لماذا جعل دليله على مدّعاه قوله تعالى: {مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللهَ عَلَىَ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } ، وهي آية مدنيّة كما يعتقد، ويترك قوله تعالى: {سَنُقْرِؤُكَ فَلَا تَنسَى * إِلَّا مَا شَاء اللهُ إِنَّهُ يَعْلَمُ الجَهْرَ وَمَا يَخْفَى } (الأعلى، 7 و8)وهذه الآية فيها ضمانة إلهيّة بأنّ النبيّ(صلى‏ الله ‏عليه ‏و ‏آله ‏و سلم) لن ينسى ما يُوحيه إليه الله. وأمّا حول الاستثناء المذكور في الآية، فإنّه تابع لأسلوب القرآن في عرض ما يريد عرضه، ويدلّ بالتالي على قدرة الله على فعل ما يريد، ولا يدلُّ على تحقّق كلِّ المستثنيات بالضرورة. وفي القرآن موارد عدّة من هذا الأسلوب منهـا قوله تعالى: {وَلَئِن شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ ثُمَّ لاَ تَجِدُ لَكَ بِهِ عَلَيْنَا وَكِيلاً } (الإسراء، 68) (16)وعلى ضوء هذه الآية القرآنيّة التي لا لبس فيها، نقول إنّ حديث البخاري مردودٌ لمخالفته للقرآن.
ب ـ إنّ رسول الله(صلى‏ الله ‏عليه ‏و ‏آله ‏و سلم)، لم يكن ينقصه وعي وفهمٌ لمعرفة مدى أهميّة ما يحمل من رسالة إلى الناس. بل كان بصيراً بأمر رسالته حريصاً على مستقبلها غاية الحرص، على حدّ تعبير الله سبحانه في القرآن حيث يقول: {قُلْ هَـذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ الله وَمَا أَنَاْ مِنَ المُشْرِكِينَ } (يوسف، 108).
ج ـ تدلّ الشواهد التاريخيّة وعلى رأسها القرآن على أنّ القرآن عرِفَ الكتابة والتدوين منذ السنوات الأولى للبعثة في مكة (17)، ومن هنا، فإنّ ادّعاء (بلاشير) عدم توفّر الوسائل الماديّة اللازمة للكتابة والتدوين، ما هي إلا دعوى تنقصها وسائل الإثبات، وبالتالي لا يمكن الركون إليها لنفي تدوين القرآن في تلك الفترة.
دـ وأمّا حول دوافع حفظ القرآن في مكّة فإنّ مراجعة المصادر الإماميّة تكشف عن حضّ النبيّ(صلى‏ الله ‏عليه ‏و ‏آله ‏و سلم) على الاستفادة من الحفظ والتدوين كلاهما لحمل القرآن وتحمّله، وتنقل كتب السنّة الشريفة عدداً من الروايات التي تتضمّن توصية النبيّ(صلى‏ الله ‏عليه ‏و ‏آله ‏و سلم) المسلمين ودعوته إيّاهم إلى حفظ القرآن، بكلتا الوسيلتين (18).
________________________________________
(16)ـ انظر: السيد محمد حسين الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، بيروت، مؤسسة الأعلمي، 1393هـ.، ج20، ص329.
(17)ـ محمود راميار، تاريخ قرآن (تاريخ القرآن)، طهران، أمير كبير، 1362هـ.ش.، ص257.
(18)ـ أبو القاسم الخوئي، البيان في تفسير القرآن، بيروت، دار الزهراء، 1408هـ.، ص253؛ محمود راميار، مصدر سابق، ص238؛ مجيد معارف، در آمدى بر تاريخ قرآن (مدخل إلى تاريخ القرآن)، طهران، نبأ، 1383هـ.ش.، ص79.
[الصفحة - 277]
هـ ـ إنّ الوعد الإلهيّ بجمع القرآن وحفظه لا يعارض أيّ تدبير يتّخذه النبيّ(صلى‏ الله ‏عليه ‏و ‏آله ‏و سلم) سواء أكان التوصية بالحفظ في الصدور، أم الحفظ في الرِّقاع وغيرها من وسائل الكتابة المُتداولة في ذلك العصر. بل إنّ الله عندما يتولّى جمع القرآن وحفظه ليس بالضرورة أن يحفظه بالمعجزة، بل قد تكون التدابير والتوصيات التي يعتمدها النبيّ(صلى‏ الله ‏عليه ‏و ‏آله ‏و سلم) هي الوسيلة المُرادة لتحقيق الوعد الإلهيّ. وتتّضح صورة هذه الدَّعوى من التأمّل في قوله تعالى: {ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ } (القيامة، 19)وقوله: {وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ }(النحل، 44).
و ـ ثمّ إنّ (بلاشير) يستند من بين ما يستند إليه إلى قضيّة تعدّد القراءات، وفي وجه هذه الدّعوى نقول: إنّ وجهة النظر التي يتبنّاها أكثر علماء الإماميّة، هي أنّ القراءات أمر استجدّ بعد النبيّ(صلى‏ الله ‏عليه ‏و ‏آله ‏و سلم) ولم يكن له أصل في زمنه. وأمّا حديث الأحرف السبعة فقضيّة استجدّت في أواخر القرن الأوّل للهجرة (19).
ز ـ ثمّ إنّ ضرورة وجود المصحف المدوَّن لم تكن أمراً طرأ بعد وفاة النبيّ(صلى‏ الله ‏عليه ‏و ‏آله ‏و سلم)، وبالتالي لم يكن التفكير في مثل هذا الأمر يتوقّف على الهجرة إلى المدينة، والاختلاط باليهود فيها. بل الحاجة إلى المصحف المدوَّن كانت من ضرورات الدَّعوة والتبليغ بين القبائل التي كان يرسل النبيّ إليها موفديه، ولم تحفظ لنا كُتب السيرة والتاريخ نهياً من النبيّ(صلى‏ الله ‏عليه ‏و ‏آله ‏و سلم) عن نقل المصاحف سوى ما صدر منه حول المنع من نقل القرآن المكتوب إلى ساحات الحرب والقتال، أو دار الحرب (20).
ح ـ وأخيراً يدّعي (بلاشير) أنّ مسألة الخلافة كانت أهمّ من مسألة جمع القرآن ومع ذلك أغفلها النبيّ(صلى‏ الله ‏عليه ‏و ‏آله ‏و سلم) والمسلمون، وبالتالي فمن الطبيعيّ أن يتركوا الأمر الأقلّ أهميّة! ولكن وجهة النظر الشيعيّة تُجادل في مسألة الخلافة من هذا الباب، حيث إنّهم يعتقدون أنّ أمراً مهماً كأمر الخلافة لا يُمكن أن يُترَك وأن لا تُتَّخذ الاحتياطات اللازمة له في مجتمع حديث العهد بالإسلام، ولم يعتد في تاريخه تداول السلطة وفق قانونٍ واضحٍ المعالم. وفي السنّة النبويّة ما يدلّ على الاهتمام بهذا الشأن مطلع البعثة بعد أمر النبيّ بالجهر بدعوته في الحادثة المعروفة بحادثة الدار (21).
________________________________________
(19)ـ مرتضى العسكري، القرآن الكريم وروايات المدرستين، المجمع العلمي الإسلامي، 1415هـ.، ج2، ص121؛ أبو القاسم الخوئي، مصدر سابق، 177-178.
(20)ـ محمّد بن يزيد بن ماجة، السنن، دار الكتب العلمية، لا تا، ج2، ص961؛ عبد الله بن سليمان بن أبي داود، المصاحف، بيروت، دار الكتب العلمية، 1405هـ.، ج3، ص36.
(21)ـ انظر: محمد بن جرير الطبري، تاريخ الرسل والملوك، بيروت، دار التراث العربي، 1378هـ.، ج2، ص322. ويقول الدكتور محمود راميار في الرد على هذا الدليل من أدلة بلاشير: "كيف يمكن لقائد مسؤول أسس مجتمعاً سياسيا جديدا حرص على استقراره وتمتين أسسه حتى اللحظات الأخيرة من حياته، وهو على فراش الموت، كيف يمكن لقائد كهذا أن يهمل قضيّة خلافته ومن يقوم مقامه بعد وفاته؟! إنّ الشخص الذي يعتقد أنّه خاتم الرسل وآخر أنبياء الله، وأنّ شريعته باقية ما بقيت الحياة على هذا الكوكب، لا يمكن أن نصدق أنّه يغفل عن ضرورة الاهتمام بمن يليه في موقع القيادة لهذا المجتمع السياسي الوليد. فليسمح لنا بلاشير وغيره من المستشرقين؛ إنّ النبي لم يهمل ولا يعقل أن يهمل ذلك الأمر المهم والحياتي الذي تتوقف عليه مسيرة الرسالة الخالدة. بل على العكس من ذلك إنّه اهتم بخليفته منذ صغره وربّاه في كنفه ما جعله أوّل الناس إسلاماً ومهّد له السبل ليكون الخليفة من بعده في مناسبات عدة بدءاً من يوم إنذار عشيرته الأقربين إلى يوم الغدير وحجة الوداع. محمود راميار، مصدر سابق، ص12، بتصرف.
[الصفحة - 278]
النقطة الثانية: (بلاشير) وجمع القرآن بعد وفاة النبيّ(صلى‏ الله ‏عليه ‏و ‏آله ‏و سلم)
أ ـ أبو بكر وجمع القرآن
يَقبل (بلاشير) بحسب الروايات المذكورة في كتب أهل السنّة، أنّ القرآن خضع لعلميّة جمعٍ مّا في عهد أبي بكر؛ رغم أنّه طرح بعض الأسئلة الجادَّة في هذا المجال: «برزت بعد وفاة النبيّ ظروفٌ جديدة وواجهت المسلمين أسئلةٌ لم يكن لهم قِبلٌ بها، فقد تُوفِّي النبيّ صاحب الرسالة، وانسدّ باب الوحي، وانقطعت صِلَة الوصل بينهم وبين المعلّم الذي كان حاضراً ومستعدّاً لكلّ سؤال حول القرآن؛ وفي ظلّ هذه الظروف شعر المسلمون بأنّهم مضطرّون لفعل ما لم يفعله النبيّ من قبل، ألا وهو تدوين القرآن وجمعه في مصحف». ويصوّر (بلاشير) حالة الوحي في هذه الظروف على النحو الآتي:
ـ إنّ المؤمنين الحافظين للوحي بشكلٍ كاملٍ هم قلّة قليلة من المسلمين، ومن المؤسف أنّ الروايات التي تتحدّث عن عددهم وأسمائهم ليست متّفقة على صيغةٍ واحدةٍ... ولا شكَّ في أنّ مقداراً من الوحي كان مخزّنا في ذاكرةِ عددٍ كبيرٍ من المسلمين في عهد النبيّ(صلى‏ الله ‏عليه ‏و ‏آله ‏و سلم) لمدَّة طويلةٍ من الزمن، ومن الطبيعيّ في مثل هذه الحالة أن يَجري التساؤل حول مدى دقّة الحُفّاظ في حفظهم، وبالتالي أن تبرز الاختلافات بينهم عند رغبة أيٍّ منهم باسترجاع ما يُحفظ وروايته لغيره من الناس. ولا شكَّ في أنّ الاسترجاع المتأخّر ليس مثل الاسترجاع مع قرب العهد بالحفظ وبالرسالة (22).
ـ هذا من جهة، ومن جهةٍ أُخرى كانت بعض القِطَع من القرآن مدوّنة على خلاف القاعدة الأساس وهي الحفظ، ولكن هل كانت لهذه المدوَّنات نُسخٌ متعدد؟ وكم هو عددها إن وُجدت؟ لا يُمكن الجواب عن هذا السؤال لا بالإيجاب ولا بالنفي. وإذا وجِدت نُسخٌ عدَّة من هذه المدوّنات، فهل كانت متَّفقة على مضمونٍ واحد؟ أم أنّ يد النسَّاخ تركت أثرها في تلك النُسَخ فاختلفت في ما بينها؟ وبخاصَّة أنّ بساطة الخط العربيّ في تلك الفترة تقوّي احتمالات الاختلاف بين النسّاخ.
________________________________________
(22)ـ بلاشير، مصدر سابق، ص48.
[الصفحة - 279]
وتؤكِّد آخر التحليلات أنّ الذاكرة كانت هي المستودَع الأمين للوحي طيلة فترة حياة النبيّ(صلى‏ الله ‏عليه ‏و ‏آله ‏و سلم)؛ ولكن طرأ ظرفٌ مستجدّ دعا إلى الخشية على القرآن من الضياع، وهو ما حصل في الحرب ضد (مُسيلمة الكذّاب) (العام 11 للهجرة)؛ حيث قُتِل في هذه الواقعة عدد من الصحابة الحافظين للوحي، ما دعا إلى التفكير الجادّ بوسيلة داعمة هي التدوين (23).
وعلى ضوء ما تقدّم كلّه يعمد (بلاشير) إلى نقل الروايات ذات الصِّلة بجمع القرآن وتدوينه، في فترة خلافة أبي بكر. ورغم وجود ما يدلُّ على خشيةٍ حقيقيّةٍ من قِبَل (أبي بكر) و (عمر) حول ضياع القرآن بعد استشهاد عدد من الحفّاظ، كما وجود ما يدلّ على إيكال هذه المهمّة إلى (زيد بن ثابت) إلا أنّ (بلاشير) يشكّك في صحّة الخشية المنسوبة إلى الخليفتين الأوّل والثاني ويحاول تتبّع ما فعله (زيد بن ثابت) وتحليل موقفه والدَّوافع التي دعته إلى ذلك، فيقول: «ليست مسألة تولّي زيد بن ثابت مهمَّة جمع القرآن واضحةً تمام الوضوح، بل يُحيط الشكُّ في تاريخ هذه الواقعة أيضاً، حيث إنَّ زيد بن ثابت تولَّى هذه المهمّة قبل وفاة أبي بكر بخمسة عشر شهراً، ومن هنا يبدو أنَّ اكتمال هذه المهمّة يُرجَّح أنَّه حصل في زمن خلافة عمر. ولكن المسألة لا تنتهي عند هذا الحدّ. فما هو الأثر الذي سوف يتركه تدوين نسخة من القرآن تحفظ بين ممتلكات أبي بكر أو عمر، فالخشية التي تُنسب إلى عمر تكشف عن خشية اجتماعيّة عامة، على القرآن من الضياع، فهل ينفع في رفع هذه الخشية تدوين مصحف يملكه الخليفة نفسه؟! ثمَّ ألا يمكن أن يكون الدَّافع نحو تدوين القرآن في تلك الفترة هو رغبة عمر نفسه بتملّك نُسخةٍ من الوحي؟ وبالتالي فلم يكن يريد لا أبو بكر ولا عمر تدوين نُسخةٍ من القرآن وتعميمها على المسلمين، بل ربَّما كان يُريد عمر أن يكون عنده نسخة من القرآن كما كان عند عدد من الصحابة نُسخٌ خاصّة بهم، وبالتالي ربَّما تكون هذه الرواية كاشفةٌ عن رغبة شخصيّةٍ في عدم حرمان خليفة المسلمين من امتياز متوفِّرٍ عند غيره من الصحابة العاديين»(24).
________________________________________
(23)ـ المصدر نفسه، ص50.
(24)ـ المصدر نفسه، ص54.
[الصفحة - 280]
 
فروع المركز

فروع المركز

للمركز الإسلامي للدراسات الإستراتيجية ثلاثة فروع في ثلاثة بلدان
  • العنوان

  • البريد الإلكتروني

  • الهاتف