الباحث : السيد محمد رضا الحسيني الجلالي
اسم المجلة : تراثنا
العدد : 37
السنة : السنة التاسعة شوّال ـ ذوالقعده ـ ذوالحجّة 1414 هـ
تاريخ إضافة البحث : January / 30 / 2016
عدد زيارات البحث : 2770
علم الأئمة بالغيب
والاعتراض عليه بالإلقاء إلى التهلكة
والإجابات عنه عبر التاريخ
السيد محمد رضا الحسيني الجلالي
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين الذي بنعمته تتم الصالحات ، وترفع الدرجات ، وأفضل السلام وأكمل الصلاة على سيد الكائنات وأشرف الموجودات ، محمد صاحب المعجزات الباهرات ، وعلى الأئمة المعصومين من آله ذوي الكرامات والحجج البينات .
وبعد :
فإن الإسلام يمر في هذه الأيام بظروف صعبة إذ استهدف الكفار والملحدون قرآنه ، وكرامته ، وسنته ، وأولياءه ، وأمته ، بأنواع من التزييف والتهجين والقذف والهتك والاتهام ، لتشويه سمعته وصورته بين شعوب العالم ، ولزعزعة الإيمان به في قلوب معتنقيه والحاملين لاسمه ، خصوصا ذوي المعلومات السطحية ، والدراسة القليلة ، والاطلاع المحدود ، ومن المغفلين عن حقائق العلم والدين .
وقد استخدم أعداء الإسلام أحدث الأساليب والأجهزة والأدوات ، في هذا الغرض الخبيث .
(7)
ومن ذلك بعث المنبوذين ممن لجأ إلى أحضان أعداء الإسلام ، وتعمم باليأس والقنوط من أن يصل إلى منصب أو مقام بين أمة الإسلام ، وتعهدوا له أن ينفخوا في جلده ، ويكبروا رأسه ، ويصفوه بما يشتهي ويشتهون ، وقدموه وكتاباته إلى أمة الإسلام وقد ملأها بالهراء والسفسطة والكتابة الهزيلة الزائفة ضد عقائد الأمة وشريعتها ومصادر الإسلام ومقدساته ، باسم الاصلاح ، وباسم نقد العقل ، وباسم الصياغة الجديدة ، وباسم الإعادة لدراسة المعرفة ، وباسم التصحيح ، وباسم القراءة الجديدة !
إن كل هذه الأسماء هي لمسمى واحد هو : (تشويه الإسلام) وإعطاء صورة تشكيكية لفكره وشريعته ومصادره ، وبأقلام وعقول قاصرة عن درك أبسط المعاني ، سوى التلاعب بالألفاظ ، وتسطير المصطلحات من دون وضعها في مواقعها ، بل باستخدامها في خلاف مقاصدها .
إن الاستعمار البغيض وأيديه العميلة ، يتصورون أن بإمكانهم زعزعة الإيمان بالإسلام في قلوب الأمة الإسلامية ، التي فتحت عيونها في هذا القرن ، على كل ألاعيب الأعداء وأساليب عملهم ، وخاصة باستخدام هذه العناصر البغيضة .
وقد نشرت في الآونة الأخيرة كتابات هزيلة حول علم الأئمة عليهم السلام بما أقدموا عليه في حياتهم ، فأصابهم على أثر ذلك القتل والسجن وأنواع البلاء والإيذاء من الأعداء .
فرأينا أن ننشر هذا البحث ليكون مبينا لحقيقة الأمر ، وردا حاسما على مزاعم الزيف الواردة في تلك الكتابات ، وهو يستوعب العناوين التالية :
أصل المشكلة .
تحديد محاور البحث العامة وعلم الغيب .
صيغ الاعتراض عبر التاريخ :
1 ـ في عصر الإمام الرضا عليه السلام (ت 203 ه) .
(8)
2 ـ في عصر الكليني رحمه الله (ت 329 ه) .
الجواب عن الاعتراضات على الكافي .
3 ـ في عصر الشيخ المفيد رحمه الله (ت 413 ه) .
4 ـ في عصر الشيخ الطوسي رحمه الله (ت 460 ه) .
5 ـ في عصر الشيخ ابن شهر آشوب رحمه الله (ت 588 ه) .
6 ـ في عصر الشيخ العلامة الحلي رحمه الله (ت 726 ه) .
7 ـ في عصر الشيخ المجلسي رحمه الله (ت 1110 ه) .
8 ـ في عصر الشيخ البحراني رحمه الله (ت 1186 ه) .
9 ـ مع السيد الخراساني رحمه الله في القرن السابق (ت 1368 ه) .
10 ـ في هذا القرن .
خلاصة البحث
والمرجو من الله أن يأخذ بأيدينا إلى ما فيه رضاه ، وأن يفيض علينا من فضله وبره وإحسانه ، إنه كريم وهاب .
وكتب
السيد محمد رضا الحسيني
20 جمادى الآخرة 1415 ه
قم المقدسة .
(9)
أصل المشكلة ووجه الاعتراض
الإمامة هي خلافة عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، في أداء المهام التي كانت على الرسول .
فلا بد أن يتميز الإمام بكل ما يمكن من مميزات الرسول : من العصمة ، والعلم ، والكمال ، وسائر الصفات الحميدة ، وأن يتنزه عن كل الصفات الذميمة والمشينة .
وقيد (ما يمكن) هو لإخراج ميزة (الرسالة والبنوة) فإنها خاصة بالرسول المصطفى ، والمبعوث بها من الله ، والمختار لهذا المقام العظيم ، لقيام الأدلة ـ كتابا وسنة ـ على أنه صلى الله عليه وآله وسلم خاتم النبيين ، وأنه لا نبي بعده .
وقد أشبع علماء الكلام ـ في كتبهم ـ البحث والاستدلال على ما ذكرناه جملة وتفصيلا ، بما لا مزيد عليه .
وفي بحث (العلم) التزم الشيعة الإمامية بأن النبي لا بد أن يكون عالما بكل ما تحتاج إليه الأمة ، لأن الجهل نقص ، ولا بد في النبي أن يكون أكمل الرعية ، حتى يستحق الانقياد له ، واتباع أثره ، وأن يكون أسوة .
وكذا الإمام ، لا بد أن يكون عالما ـ بنحو ذلك ـ حتى يستحق الخلافة عن النبي في الانقياد له ، واتباع أثره ، ولكي يكون أسوة .
وبعد هذا ، وقع البحث في دائرة (العلم الذي يجب أن يتصف به النبي والإمام) .
هل هو العلم بالأحكام فقط ؟
أو يعم العلم بالموضوعات الخارجة ، وسائر الحوادث الكونية ، بما في ذلك المغيبات المغيبات ، الماضية والمستقبلة ؟
(10)
فالتزام الإمامية بإمكان هذا العلم بنحو مطلق ، وعدم تخصيصه أو تقييده بشيء دون آخر من المعلومات ، في أنفسها ، إلا ما دلت الأدلة القطعية على إخراجه .
واعترض هذا الالتزام بوجهين :
الاعتراض الأول :
أن علم الغيب خاص بالله تعالى ذكره ، لدلالة الآيات العديدة على ذلك .
مثل قوله تعالى :(قل لا يعلم من في السموات والأرض الغيب إلا الله) الآية (65) من سورة النمل (27) وهي مكية .
وقوله تعالى : (فقل إنما الغيب لله . . .) الآية (20) من سورة يونس (10) وهي مكية . وقوله تعالى : (وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو) الآية (59) من سورة الأنعام (6) وهي مكية . وقد وصف الله نفسه جل ذكره بأنه (عالم الغيب) في آيات أخرى :
منها قوله تعالى : (عالم الغيب والشهادة وهو الحكيم الخبير) الآية (73) من سورة الأنعام (6) وهي مكية .
وقوله تعالى : (ثم تردون إلى عالم الغيب والشهادة) الآية (94) من سورة التوبة (9) وهي مدنية .
وقوله تعالى : (عالم الغيب والشهادة الكبير المتعال) الآية (9) من سورة الرعد (13) وهي مدنية .
وقوله تعالى :(عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحدا) الآية (26) من سورة الجن (72) وهي مكية .
(11)
الاعتراض الثاني :
أن الرسول والإمام إذا كان يعلمان الغيب ، فلا بد أن يعرفا ما يضرهما ويسوءهما ، والعقل والشرع يحكمان بوجوب الاجتناب والابتعاد عما يسوء ويضر ، بينما نجد وقوع النبي والإمام في ما أضرهما وآذاهما .
وقد جاء التصريح بهذه الحقيقة على لسان النبي في قوله تعالى : (ولو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من الخير ، وما مسني السوء ، إن أنا إلا نذير وبشير لقوم يؤمنون) الآية (188) من سورة الأعراف (7) وهي مكية .
ولو كان الأئمة يعلمون الغيب ، لما أقدموا على أعمال أدت إلى قتلهم وموتهم ، وورود السوء عليهم :
كما أقدم أمير المؤمنين على الذهاب إلى المسجد ليلة ضربه ابن ملجم ، فمات من ضربته .
وكما أقدم الحسين عليه السلام على المسير إلى كربلاء ، حيث قتل وسبيت نساؤه ، وانتهب رحله .
فإن كل ذلك ـ لو كان مع العلم به ـ لكان من أوضح مصاديق الالقاء للنفس في التهلكة ، الذي نهى عنه الله في قوله تعالى : (ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة ، وأحسنوا إن الله يحب المحسنين) الآية (195) من سورة البقرة (2) .
وقد أثير هذا الاعتراض الثاني قديما جدا ، حتى أنا نجده معروضا على الأئمة عليهم السلام أنفسهم ، ونجده مطروحا في القرون التالية مكررا ، وقد تعددت الإجابات عنه كذلك عبر القرون .
وقد حاولنا في هذا البحث أن نسرد الاعتراض بصيغة المختلفة ، ونذكر الإجابات عنه كذلك .
(12)
تحديد محور البحث بين الاعتراضين
وفي البداية لا بد من التنبيه على أمور :
الأمر الأول :
إن الاعتراض الثاني إنما يفرض ويكون واردا وقابلا للطرح والمناقشة ، فيما إذا التزم بالفراغ عن الاعتراض الأول ، وكان المعترض بالثاني ملتزما بأن الرسول والإمام يعلمان الغيب ، فيكون إقدامهما على موارد الخطر إلقاء للنفس في التهلكة .
وإلا ، فإن لم يقل بأنهما يعلمان الغيب ، فإن الإقدام لا محذور فيه وليس من الالقاء في التهلكة ، لأن غير العالم بالخطر معذور في الإقدام عليه .
فنفس اللجوء إلى الاعتراض الثاني وفرض وروده دليل على ثبوت الالتزام بفكرة العلم بالغيب لدى المعترض ، خصوصا مع عدم المناقشة بالاعتراض الأول ، كما هو المفروض في صيغ الاعتراض الثاني منذ عصور الأئمة عليهم السلام .
وهذا يدل على أن فكرة (علم الأئمة بالغيب) مفروضة عند السائلين ، ولا اعتراض لهم عليها ، وإنما أرادوا الخروج من الاعتراض الثاني فقط .
أو على الأقل فرض التسليم به ، والاعتراف به ولو جدلا ، حتى يكون فرض الاعتراض الثاني ممكنا .
وإلا ، لكان اللازم ذكر الاعتراض الأول ، الذي بتماميته ينتفي اعتقاد (علم الغيب) وبذلك لا يبقي للاعتراض الثاني مجال .
(13)
الأمر الثاني :
ويظهر من الإجابات المذكورة التي تحاول توجيه مسألة الإقدام على ما ظاهره الخطورة والتهلكة ، هو الموافقة على أصل فكرة علم الأئمة بالغيب ، وعدم إنكار فرضه على السائلين .
ومن المعلوم أن التوجيه إنما يلجأ إليه عندما يكون أصل السؤال مقبولا ، وغير منكر .
وإلا ، فإن الأولى في الجواب هو نفي الأصل وإنكاره وعدم الموافقة على فرض السؤال صحيحا .
وهذا الأمر واضح اشتراطه في المحاورات والمباحثات .
الأمر الثالث :
إن الإمامة إذا ثبتت لأحد ، فلا بد أن تتوافر فيه شروطها الأساسية ، ومن شروطها عند الشيعة الإمامية : العصمة ، وهي تعني الامتناع عن الذنوب والمعاصي بالاختيار ، ومنها العلم بالأحكام الشرعية تفصيلا .
فمن صحت إمامته ، واستجمع شرائطها ، لم يتصور في حقه أن يقدم على محرم كإلقاء النفس في التهلكة ، المنهي عنه في الآية . وحينئذ لا بد أن يكون ما يصدر منه مشروعا .
فلا يمكن الاستناد إلى (حرمة الالقاء في التهلكة) لنفي علم الغيب عنه ، لأن البحث عن علمه بالغيب إنما يكون بعد قبول إمامته ، وهي تنفي عنه الإقدام على الحرام .
وهذا يعني أن ما يقدم عليه هو حلال مشروع ، سواء علم الغيب أم لم يعلمه !
فلا يمكن نفي علمه بالغيب ، بفرض حرمة الالقاء في التهلكة عليه .
(14)
ومن هنا توصلنا إلى أن الاعتراض الثاني ـ وهو (أداء الالتزام بعلم الأئمة للغيب إلى إلقائهم بأيديهم إلى التهلكة) ـ اعتراض ـ لا يصدر ممن يعتقد بإمامة الأئمة الاثني عشر عليهم السلام ، ويلتزم بشرائط الإمامة الحقة المسلمة الثبوت في كتب الكلام والإمامة .
وما يوجد من صور الاعتراض في تراثنا العلمي إنما هو افتراض بغرض دفع شبه المخالفين ، ورد اعتراضاتهم .
الأمر الرابع :
إن بعض أدعياء العقل ونقده ، قد انبرى للتطفل على الكتب والكتابة ، وعلى التراث ومصادره القديمة ، بادعاء الإعادة لقراءتها ، فعرض هذا البحث بشكل مشوه ينم عن جهل بأوليات المعرفة الإسلامية ، وقصور في فهم أبسط نصوصه ، وعرض مشبوه لها لإقدامه على بتر المتون ، واقتصاره على الجمل والعبارات التي توحي بغرضه على حد زعمه ، مع ارتباك في العرض واضطراب في البحث واستخدام لأسلوب القذف والسب !
وليس كل هذا ولا بعضه من شأن طالب للعلم ، فضلا عمن يدعي العقل ونقده ، والمعرفة وإعادتها !
ومن الخبط الجمع بين الالتزام بالاعتراضين في عرض واحد ، وبصورة متزامنة ، فإن من غير المعقول أن يحاول أحد أن ينفي عن الأئمة علم الغيب زاعما منافاة ذلك للعقل ويحاول الاستدلال بالآيات الكريمة التي ذكرنا بعضها في صدر هذا البحث .
غافلا عن دلالة هذه الآيات على اختصاص علم الغيب بذات الله تعالى ، مسلمة عند جميع المسلمين ، شيعة وأهل سنة ، ولم يختلف في ذلك اثنان ، وليس موضع بحث وجدل حتى يحتاج إلى إثبات ونقاش ، ولم يدع أحد أن غير الله تعالى يمكنه بصورة مستقلة العلم بالغيب .
(15)
وإنما يقول الشيعة بأن الله تعالى أوحى إلى نبيه من أنباء الغيب ، وقد أخبر عن ذلك في قوله تعالى : (ذلك من أنباء الغيب نوحيه إليك . . .) الآية (44) من سورة آل عمران (3) وهي مدنية .
وقد استثنى الرسول ممن لا يظهر على الغيب ، فقال تعالى : (عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحدا * إلا من ارتضى من رسول . . .) الآيتان (25 و 26) من سورة الجن (72) وهما مكيتان.
فبالإمكان إذن صدور الغيب الإلهي إلى غير الله تعالى ، لكن بإذنه تعالى وبوحيه وإلهامه .
وقد ثبت بطرق مستفيضة أن الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم أخبر عليا وأهل البيت عليهم السلام بذلك ، وقد توارثه الأئمة عليهم السلام ، فهو مخزون عندهم .
وقد عنون الشيخ المفيد رحمه الله لباب في (أوائل المقالات) نصه : (القول في علم الأئمة عليهم السلام بالضمائر والكائنات ، وإطلاق القول عليهم بعلم الغيب ، وكون ذلك لهم في الصفات) قال فيه :
وأقول : إن الأئمة من آل محمد صلى الله عليه وآله وسلم قد كانوا يعرفون ضمائر بعض العباد ، ويعرفون ما يكون قبل كونه . وليس ذلك بواجب في صفاتهم ، ولا شرطا في إمامتهم ، وإنما أكرمهم الله تعالى به ، وأعلمهم إياه للطف في طاعتهم والتمسك بإمامتهم .
وليس ذلك بواجب عقلا ، ولكنه وجب لهم من جهة السماع .
فإما إطلاق القول عليهم بأنهم يعلمون الغيب ! فهو منكر بين الفساد ، لأن الوصف بذلك إنما يستحقه من علم الأشياء بنفسه لا بعلم مستفاد ، وهذا لا يكون إلا لله عز وجل .
وعلى قولي هذا جماعة أهل الإمامة إلا من شذ عنهم من المفوضة ومن
(18)
انتمى إليهم من الغلاة (1) .
وقد أثبت الشيخ المفيد الروايات المنقولة بالسمع والدالة على علم الأئمة عليهم السلام بالمغيبات ـ والتي هي دلائل على إمامتهم واستحقاقهم للتقديم ـ في كتاب (الإرشاد) في أحوال كل إمام ، فليراجع .
فنسبة القول بأن الأئمة يعلمون الغيب ، بالإطلاق إلى الشيعة ، ومن دون تفسير وتوضيح بأنه بتعليم الرسول الآخذ له من الوحي ، أو بالإلهام والإيحاء والقذف في القلب ، والنظر بنور الله ، كما جاء في الخبر عن المؤمن أنه ينظر بنوره تعالى ، فهي نسبة ظالمة باطلة يقصد بها تشويه سمعة هذه الطائفة المؤمنة التي أجمعت على اختصاص علم الغيب بالله تعالى ، تبعا لدلالة الآيات الكريمة ، والتزمت بما دلت عليه الآيات الأخرى من إيصال ذلك العلم إلى الرسول ، وما دلت عليه الآثار والأخبار من وصول ذلك العلم إلى الأئمة .
فلم يكن في تلك النسبة الظالمة إلا التقول على الشيعة ، مضافا إلى كشفها عن الجهل بأفكار الطائفة وعقائدها ومبادئها . فكيف يحق لمثل هذا المغرض المتقول أن يتدخل في إعادة قراءة التراث الشيعي ؟ !
ومع أنه التزم بنفي علم الغيب عن الرسول والأئمة :
فهو يحاول أن يورد الاعتراض الثاني أيضا ـ في عرض الاعتراض الأول ـ بأن في أفعال الرسول والأئمة ما هو من الالقاء في التهلكة ، وفي ما أصابهم على أثر إقدامهم كثير من السوء الذي وقعوا فيه .
وحاول جمع ما يدل على ذلك مما أصاب الرسول وأهل البيت طول حياتهم ، مؤكدا على أن ذلك هو من (السوء) ومن (الهلكة) .
مع أنه بعد إصراره على نفي علم الغيب عنهم لم يكن عملهم إقداما
------------------------------------------
(1) أوائل المقالات : 67 ، وسيأتي نقل رأي المفيد في مسألة الالقاء في التهلكة تفصيلا .
(17)
على الهلكة ، فيجب أن لا يحاسبوا على الإقدام عليها ، أو ينهوا عن الالقاء فيها ، لأن الجاهل بالشيء لا يحاسب عليه ، ولا يكلف بالاجتناب عنه ودفعه .
الأمر الخامس :
أن تسمية الفعل الذي يقدم عليه الفاعل المختار سوء أو هلكة إنما يتبع المفسدة الموجودة في ذلك الفعل ، فإذا خلا الفعل في نظر فاعله عن المفسدة ، أو ترتبت عليها مصلحة أقوى وأهم في نظره من المفسدة ، لم يسم سوء ولا هلكة .
فليس لهذه العناوين واقعا ثابتا حتى يقال : إن ما أقدم عليه الأئمة هو سوء وهلكة ، بل هي أمور نسبية تتبع الأهداف والأغراض والنيات ، بل يراعي في تسميتها الأهم ، فرب نفع في وقت هو ضرر في آخر ، ورب ضرر لشخص هو نفع لآخر .
قال تعالى : (وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم ، وعسى أن تحبوا شيئا وهو شر لكم) الآية (216) من سورة البقرة (2) .
وقال تعالى : (فعسى أن تكرهوا شيئا ويجعل الله فيه خيرا كثيرا) الآية (19) من سورة النساء (4) .
هذا في المنظور الدنيوي المادي ، وأما في المنظار الإلهي والمثالي ، وعالم المعنويات ، فالأمر أوضح من أن يذكر أو يكرر .
فهؤلاء الأبطال الذين يقتحمون الأهوال ، ويسجلون البطولات في سبيل أداء واجباتهم الدينية والعقيدية ، أو الوطنية والوجدانية ، أو الشرف إنما يقدمون على ما فيه فخرهم ، مع أنهم يحتضنون (الموت) ويعتنقون (الفناء) لكنه في نظرهم (الحياة) و (البقاء) .
كما أن المجتمعات تمجد بأبطالها وتخلد أسماءهم وذكرياتهم ، لكونهم المضحين من أجل الأهداف السامية ، وليس هناك ما يسمي ذلك (هلاكا) أو
(18)
(سوء) إلا الساقط عن الصعود إلى مستوى الادراك ، وفاقد الضمير والوجدان من المنبوذين .
دون الذين استبسلوا في ميادين الجهاد في الحروب والنضالات الدامية ، الساخنة أو الباردة ، ومن أجل إعلاء كلمة الله في الأرض ، أولئك الذين قال عنهم الله أنهم : (. . . أحياء عند ربهم يرزقون * فرحين بما آتاهم الله من فضله ويستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم من خلفهم ألا خوف عليهم ولا هم يحزنون * يستبشرون بنعمة من الله وفضل وأن الله لا يضيع أجر المؤمنين) الآيات (169 ـ 171) من سورة آل عمران (3) .
هؤلاء الذين (قتلوا) في سبيل الله .
ولا بد أن الشهداء قد قصدوا الشهادة وطلبوها وأرادوها ، إذ لا يسمى من لا يريدها (شهيدا) وهيهات أن يعطاها من يفر منها ، مهما كان مظلوما ، وكان قتله بغير حق .
إن المسلم إذا اقتحم ميدانا بهدف إحقاق الحق أو إبطال الباطل ثم أصابه ما لا يتحمل إلا في سبيل الله ، أو أدركه القتل ، وهو قاصد للتضحية ، فإن ذلك ليس سوء ولا شرا ، بل هو خير وبر ، بل هو فوق كل بر ، وليس فوقه بر ، كما نطق به الحديث الشريف عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : (إن فوق كل بر بر حتى يقتل الرجل في سبيل الله) .
فلا يدخل مثل هذا في (التهلكة) التي نهى الله عنها في الآية ، بل هو من (الاحسان) الذي أمر الله به في ذلك تلك الآية فقال تعالى : (ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة ، وأحسنوا إن الله يحب المحسنين) الآية (195) من سورة البقرة (2) .
والشهادة هي إحدى الحسنيين ـ النصر أو الشهادة ـ في قوله تعالى : (قل هل تربصون بن إلا إحدى الحسنيين . . .) الآية (52) من سورة التوبة (9) .
وإذا لم يصح إطلاق (السوء) على ما أصاب النبي والإمام ، من البلاء ،
(19)