الباحث : هيثم مزاحم
اسم المجلة : مجلة المنهاج
العدد : 66
السنة : السنة السابعة عشر صيف 1433 هجـ 2012 م
تاريخ إضافة البحث : December / 21 / 2015
عدد زيارات البحث : 11982
نشأة التشيّع وظهور فرق الشيعة
هيثم مزاحم(*)
قلّما اختلف المؤرِّخون والباحثون في تحديد تاريخ نشوء فرقة من الفرق الإسلاميّة كما اختلفوا في تحديد بداية ظهور التشيّع والشيعة. ويعود اختلاف الآراء وتعدّدها في هذه المسألة إلى أسباب عدَّة أبرزها:
1- تعدّد الدلالات للفظ شيعة، إذ خلط بعض الباحثين بين الدلالة اللغويّة والدلالة التاريخيّة أو الدلالة الاصطلاحيّة للكلمة. فالشيعة لغةً تعني القوم والأتباع والأنصار والحزب(1) .
وقد وردت الكلمة في القرآن الكريم في قوله تعالى: {فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلانِ هَذَا مِن شِيعَتِه وَهَذَا مِنْ عَدُوِّهِ فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِن شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ } (القصص، 15)، وفي قوله تعالى أيضاً: {وَإِنَّ مِن شِيعَتِهِ لإِبْرَاهِيمَ } (الصافات، 83).
وفي الآية الأولى جاءت كلمة الشيعة بمعنى القوم، وفي الآية الثانية جاءت بمعنى الأتباع.
أمّا المعنى الاصطلاحيّ للكلمة، الذي عرفه التاريخ الإسلامي، فهو للدلالة على من «شايعوا علياً(ع)، وقالوا بإمامته
________________________________________
(*) كاتب وباحث، من لبنان.
(1)- جمال الدين ابن منظور، لسان العرب، بيروت، دار صادر ودار بيروت للطباعة والنشر، 1956م، ج 8، ص 188 - 189.
[الصفحة - 53]
وخلافته، نصاً ووصيةً إمّا جلياً وإمّا خفياً »، كما يقول الشهرستاني(2) وغيره من كتَّاب الفرق والمؤرِّخين.
كما اختلف الباحثون في تحديد زمن إطلاق هذه التسمية على أنصار علي بن أبي طالب من جهة، وعلى دلالة التسمية من جهة أخرى.
2- اتِّصال عقائد الشيعة بالأحداث التاريخيّة، حيث أدَّى ذلك إلى اختلاف الباحثين في تحديد أيِّ حدثٍ من هذه الأحداث كان الحدث الأهمّ لنشأة التشيّع، الذي مرّ بعدد من المراحل التاريخيّة حيث كان لكلِّ مرحلةٍ خصائصها الذاتيّة التي ميّزتها عن غيرها من المراحل، فاعتُبِرَت كلّ مرحلة نقطة تحوّلٍ مهمّة في التشيّع(3) ، فيما عدّ كلّ فريق من الباحثين كلَّ مرحلةٍ من هذه المراحل نقطة البداية في نشأة الشيعة.
3- كثرة الإنقسامات في الشيعة وتشعّبها إلى عددٍ كبير من الفرق نتيجة اختلافهم على تعيين شخص الإمام، منذ استشهاد الإمام الثالث الحسين بن عليّ(ع) عام 61هـ وحتَّى وفاة الإمام الحادي عشر الحسن العسكري(ع) وغيبة ابنه الإمام الثاني عشر المهدي المنتظر(عج) (260 هـ). وقد ساهم كتَّاب الفِرَق المهووسون بتجسيد الحديث المنسوب إلى الرسول(ص)، حول تفرّق الأمّة الإسلاميّة إلى ثلاث وسبعين فرقةٍ بينها فرقة واحدة هي الناجية، في الإكثار من عدد هذه الفرق، كي يصل عدد الفرق الإسلاميّة إلى الرقم المذكور في الحديث(4) .
4- اتِّهام الشيعة من قبل خصومهم بالغلوّ والرفض، والتعاطي معهم كحالةٍ طارئةٍ على الإسلام، وردّ نشأتهم إلى أصول أجنبيَّة غريبة عن الإسلام، الأمر الذي ضلّل بعض المؤرِّخين والمستشرقين والكتّاب المتأخّرين فتخبّطوا في تحديد نشأة الشيعة.
5- عدم توافر المصادر التاريخيّة الموضوعيّة والدقيقة التي يمكنها أن تعطي صورة يقينيَّة ومحايدة عن نشأة التشيّع وأصول عقائده، وذلك بسبب تشكيك كلِّ فريقٍ بصحّة الأحاديث النبويّة والروايات التاريخيّة التي يستند إليها الفريق الآخر.
أمّا أهمّ وجهات النظر المختلفة في أصل التشيّع فهي التالية:
________________________________________
(2)- محمد بن عبد الكريم الشهرستاني، الملل والنحل، ط1، بيروت، - دار السرور، 1948 م، ج1، ص 146.
(3)- أحمد محمود صبحي، نظريّة الإمامة لدى الشيعة الاثني - عشرية، بيروت، دار النهضة العربية، 1991، ص 28 و52.
(4)- عبد الله السريحي، حديث افتراق الأمّة، دراسة في السياق والأصول والنتائج، مجلّة الاجتهاد، العدد 19، ربيع 1993، ص - 89 - 94، وص132 - 134.
[الصفحة - 54]
النظرية الأولى: ظهور التشيّع زمن النبي(ص)
يقول سعد الأشعري، صاحب كتاب (المقالات والفرق): « فأوّل الفرق الشيعيّة وهي فرقة عليِّ بن أبي طالب رضوان الله عليه المسمّون شيعة عليِّ في زمان الرسول وبعده معروفون بالانقطاع إليه والقول بإمامته، منهم المقداد...، وسلمان...، وأبو ذر... وعمار بن ياسر...، وغيرهم ممن وافق مودّته مودّة علي بن أبي طالب، وهم أوَّل من سمّوا باسم التشيّع من هذه الأمّة » (5) .
ونجد هذا الكلام أيضاً في كتاب (فرق الشيعة) للحسن النوبختيّ (6) ، ويؤيّده معظم مؤرّخي الشيعة وكتّابهم. يقول العلاّمة الشيعيّ محمد حسين كاشف الغطاء: « إنَّ أوَّل من وضع بذرة التشيّع في حقل الإسلام هو صاحب الشريعة الإسلاميّة نفسه، يعني أنّ بذرة التشيّع وضعت مع بذرة الإسلام جنباً إلى جنب وسواءً بسواء ». ويستدلّ على ذلك بما رُويَ عن النبي(ص) في تفسير قوله تعالى:{ أُوْلَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ} أنّه قال(ص) مشيراً إلى علي(ع): « والذي نفسي بيده إنّ هذا وشيعته هم الفائزون يوم القيامة » (7) .
ويذهب إلى هذا الرأي علماء الشيعة الاثني عشريّة ومنهم الشيخ محمد جواد مغنيّة الذي يقول: «إنّ النبيّ(ص) هو الذي بعث عقيدة التشيّع وأوجدها، ودعا إلى حبِّ علي(ع) وولائه وأوّل من أطلق لفظ الشيعة على أتباعه ومريديه، ولولاه لم يكن للشيعة والتشيّع عين ولا أثر »(8) . ويؤيِّده السيد محمد حسين الطباطبائي قائلاً: «إنّ بداية نشوء الشيعة، والتي سمّيت لأوّل مرة بشيعة علي... وعُرِفَت بهذا الإسم كان في زمن النبي الأكرم(ص)، فظهور الدعوة الإسلاميَّة وتقدّمها وانتشارها خلال ثلاثٍ وعشرين سنةً، زمن البعثة النبويّة، أدّت إلى ظهور مثل هذه الطائفة بين صحابة النبيّ الأكرم(ص) »(9) .
وينظّر السيّد محمد باقر الصدر، وهو أحد كبار علماء الشيعة المحدثين، لهذا الرأي معتبراً أنَّ التشيّع وجد «في إطار الدعوة الإسلاميّة ممثلاً في هذه الأطروحة النبويّة
________________________________________
(5)- سعد بن عبد الله الأشعريّ القمّي، كتاب المقالات والفرق، تحقيق: محمد جواد مشكور، طهران، مطبعة حيدري، 1963، ص15ـ 16.
(6)- الحسن بن موسى النوبختيّ، فرق الشيعة، بيروت، دار الأضواء، 1984م، ص 17 - 19.
(7)- محمد حسين كاشف الغطاء، أصل الشيعة وأصولها، بيروت، دار الزهراء، 1980، ص 53 - 54.
(8)- محمد جواد مغنيّة، الشيعة في الميزان، بيروت، دار الجواد، 1980، ص 17.
(9)- محمد حسين الطباطبائي، الشيعة في الإسلام، مترجم عن الفارسية، بيروت، دار التعارف، ص 23.
[الصفحة - 55]
التي وصفها النبيّ(ص) بأمرٍ من الله للحفاظ على مستقبل الدعوة » والتي تمثّلت في إعداد النبيّ(ص) للإمام علي(ع) إعداداً خاصاً لمواصلة قيادة الدعوة من بعده، وإسنادها إليه رسمياً. ويذكر الصدر شواهد على إعلان الرسول(ص) وتخطيطه تتمثّل في أحاديث الدار والثقلين والمنزلة والغدير وعشرات النصوص القرآنيّة والنبويّة التي تدعم هذه الأطروحة(10) . ويَعتبر الصدر أنّ التشيّّع وجد «كنتيجةٍ ضروريّةٍ لطبيعة تكوّن الدعوة وحاجاتها وظروفها الأصليّة التي كانت تفرض على الإسلام أن يَلِدَ التشيّع »، مميّزاً بين ولادة التشيّع وولادة الشيعة. فالتشيّع في رأيه «أحد اتِّجاهين رئيسيين ومختلفين قد رافقا نشوء الأمَّة وبداية التجربة الإسلاميَّة منذ السنوات الأولى، وكانا يعيشان معاً داخل إطار الأمَّة الوليدة التي أنشأها الرسول ». وبعد وفاته(ص) أدَّى الاختلاف بين هذين الاتِّجاهين إلى انقسامٍ عقيديّ «شطر الأمّة الإسلاميّة إلى شطرين قُدِّر لأحدهما أن يحكم فاستطاع أن يمتدَّ ويستوعب أكثريّة المسلمين بينما أقصي الشطر الآخر عن الحكم، وقدّر له أن يمارس وجوده كأقليَّة معارضة ضمن الإطار الإسلاميّ العام، وكانت هذه الأقليّة هي الشيعة »(11) .
ويضيف الصدر إنَّ التشيّع هو الاتِّجاه الذي يؤمن بالتسليم المطلق للنصِّ الدينيِّ مقابل الاتِّجاه الآخر الذي يرى إمكانيّة الاجتهاد والتغيير في النصِّ الديني وفقاً للمصالح في مختلف مجالات الحياة. لذلك التزم أنصار الاتِّجاه الشيعيِّ بالنصِّ الدينيِّ على إمامة عليِّ وخالفه أنصار الاتِّجاه الثاني. أمّا الشيعة - في رأيه - فقد «ولدوا منذ وفاة النبي مباشرةً متمثَّلين في المسلمين الذين خضعوا عمليّاً لأطروحة زعامة الإمام علي(ع) وقيادته التي فرض النبي(ص) الابتداء بتنفيذها من حين وفاته »، حيث رفضوا نتائج السقيفة من تجميدٍ لأطروحة زعامة علي وإسناد السلطة إلى غيره وهو ما قام به الاتِّجاه الثاني(12) .
ويستدلّ أصحاب هذا الرأي على مقولتهم هذه بأنّ اسم الشيعة كان يُطلق في عهد الرسول(ص)
________________________________________
(10)- محمد باقر الصدر، نشأة الشيعة والتشيّع، تحقيق: د. عبد الجبار شرارة، بيروت، الغدير للدّراسات والنشر 1995م، ص ص 63ـ79. وقد نشر هذا البحث تحت عناوين عدة منها (بحث حول الولاية).
(11)- المصدر نفسه، ص 73 - 75.
(12)- محمد باقر الصدر، المصدر نفسه، ص 75 - 79.
[الصفحة - 56]
على بعض الصحابة واختصَّ بأربعةٍ منهم هم سلمان الفارسيُّ وأبو ذرٍ الغفاريّ وعمّار بن ياسر والمقداد بن أسود، وكانوا يتصرَّفون في حياة النبيِّ(ص) باعتبارهم شيعة علي(ع)، وكان ذلك يُعرف عنهم إذ خاطب النبي(ص) علياً(ع) بقوله: «يا علي أنت وأصحابك في الجنّة »(13) . ولا تخفى صلات هؤلاء الأربعة بالإمام علي(ع) في حياة النبيّ(ص) وبعد وفاته، فكانوا يرون فيه المرجع الروحيّ والدينيّ والقائد السياسيّ، الأمر الذي تجلَّى في موقفهم الرافض لنتائج السقيفة ومطالبتهم بالخلافة لعلي واعتصامهم في بيت فاطمة(14) .
ويؤيِّد هذا الرأي من الباحثين الدكتور عبد الله فيَّاض الذي يذهب إلى أنَّ التشيّع لعليّ الذي زُرِعَت بذرته في عهد النبيّ كان تشيّعاً روحياً، أي بمعناه الخاص، وهو يتضمَّن القول بإمامة عليّ وبأنّها بوصية النبي وإرادة الله، وإنّ هذا التشيّع أقدم عهداً من التشيّع السياسيّ بمعناه العام، وهو القول بحقِّ عليٍّ بالخلافة والعمل على استرداد الحقّ المذكور دون الالتزام كليّةً بقضيّة النصّ على إمامته(15) .
ويرى الدكتور كامل الشيبي أنّ التشيّع الروحيَّ للإمام علي(ع) كان قديماً قِدم الإسلام وظهر على شكل دعوةٍ سياسيّةٍ في أوَّل لحظةٍ بدا من المناسب أن يَظهر للناس حيث كان الشيعة الأوائل يرون في عليٍّ(ع) صفات روحيَّة تُميّزه عن باقي المسلمين وكانت صلة هؤلاء بالتشيّع سابقةً على ظهوره السياسيّ الرسميّ. ويعرض الشيبيّ للصلات الرّوحية بين الإمام علي(ع) وأصحابه الأربعة، والتي تستند إلى الآيات القرآنيّة وأحاديث الرسول(ص) في فضائل علي ومنزلته من النبيِّ والنصِّ على خلافته من بعده، كما إلى ما شهدوه من علم وزهد وتقوى وتفانٍ وإخلاص وشجاعةٍ عند علي، بحيث أضحى عندهم مثال القائد الروحيّ والسياسيّ(16) .
ويرفض الصدر تجزئة التشيّع إلى روحي وسياسي لأنَّه أطروحةٌ لحماية مستقبل الدعوة بعد النبي(ص)، وهو مستقبل بحاجة إلى المرجعيّة الفكريّة والزعامة السياسيّة للتجربة الإسلاميَّة معاً. ويفسّر ولاء المسلمين للإمام علي(ع) بعد مقتل الخليفة عثمان بن عفان، وهو ما اعتبره الباحثون تشيّعاً سياسيّاً، بأنّه كان
________________________________________
(13)- كامل الشيبيّ، الصلة بين التصوّف والتشيّع، دار المعارف، ص 18 - 21.
(14)- ابن حجر العسقلاني، الصواعق المحرقة، ص 159، نقلاً عن المصدر السابق، ص 19، ابن عساكر، الدر المنثور في تفسير كتاب الله بالمأثور، نقلاً عن محمد حسين كاشف الغطاء، مصدر سابق، ص 87، تاريخ اليعقوبي، ج2، ص 103، نقلاً عن الشييبي، مصدر سابق، ص 19.
(15)- عبد الله فيّاض، تاريخ الإماميّة وأسلافهم من الشيعة، الطبعة الثالثة، بيروت، مؤسسة الأعلمي للمطبوعات، 1986، ص 40ـ 42.
(16)- الشيبي، مصدر سابق، ص 18 - 82.
[الصفحة - 57]
باعتباره الشخص الجدير بمواصلة دور الخلفاء الثلاثة في الحكم، ولم يكن هذا الولاء «تشيّعاً روحياً ولا سياسيَّاً وإنَّما نما التشيّع الرّوحيّ والسياسيّ داخل إطاره ».
أمّا الولاء الروحيّ والفكريّ للإمام علي(ع) من قِبَل كبار الصحابة (أبي ذر، سلمان، المقداد، عمار، حذيفة، الخ...) في عهد النبيّ(ص) وفي عهدَيْ أبي بكر وعمر، فهو - في نظر محمّد باقر الصدر - تعبير عن إيمانهم بقيادة الإمام علي(ع) الفكريّة والسياسيّة، وانعكس ذلك في معارضتهم لخلافة أبي بكر والاتِّجاه الذي أدَّى إلى صرف السلطة عن علي إلى غيره(17) .
وقد لاحظ الباحث تأثير الأطروحة، التي قدّمها محمد باقر الصدر في كتابات الشيعة(18) من بعده، وهي أطروحة تستند إلى أحاديث منسوبة إلى الرسول(ص) في فضائل عليٍّ والنصِّ على إمامته، لكنّها تعرَّضت للنقد من قِبَل بعض الباحثين السنّة الذين استغربوا كيف يقسّم النبي(ص) المسلمين في حياته بين شيعة علي وغير الشيعة، وهو الدّاعي إلى وحدة الأمّة(19) ، فيما علَّل بعضهم حرص الشيعة على ردّ أصول التشيّع إلى عهد النبي(ص) لجعل بذرته إسلاميّةً خالصةً، ونفي ما اتِّهم به مذهبهم من أصول أجنبيّة(20) .
النظريّة الثانية: ظهور التشيّع بعد وفاة النبي(ص). ذهب بعض المؤرِّخين والمستشرقين والباحثين المحدثين إلى ردّ بداية التشيّع إلى ما بعد وفاة الرسول(ص) واجتماع السقيفة حيث أسفر عن اختيار أبي بكر خليفةً للرسول(ص) فيما عارض علي وبنو هاشم وعدد من الصحابة هذا التعيين، واعتصموا في بيت فاطمة رافضين البيعة لأبي بكر، مطالبين بأحقيَّة عليٍّ(ع) بخلافة النبيّ(ص). وقد عبَّر عن وجهة نظر المعارضة هذه الإمام علي نفسه حين طُلبت منه البيعة لأبي بكر فقال: «أنا أحق بهذا الأمر منكم، لا أبايعكم وأنتم أولى بالبيعة لي، أخذتم هذا الأمر من الأنصار واحتججتم بالقرابة من النبيّ...، وتأخذونه من أهل البيت غصباً؟... وأنا أحتجّ عليكم بمثل ما احتججتم به على الأنصار نحن أولى برسول الله(ص) حياً وميتاً، فأنصفونا إن كنتم تؤمنون، وإلاّ فبوؤوا بالظلم وأنتم تعلمون.... الله الله يا معشر المهاجرين،
________________________________________
(17)- الصدر، مصدر سابق، ص 91 - 93.
(18)- انظر: عبد الله الغريفي، التشيّع: نشوؤه - مراحله - مقوّماته، الطبعة الثالثة، بيروت، دار الثقلين للطباعة والنشر والتوزيع، 1994، ص 41؛ هاشم الموسوي، التشيّع نشأته . . معالمه، الطبعة الأولى، مركز الغدير للدراسات الإسلامية، 1993م، ص 28 - 30.
(19)- علي سامي النشّار، نشأة الفكر الفلسفي في الإسلام، الطبعة الثالثة، دار المعارف، 1965، ج2، ص 14 - 15.
(20)- أحمد محمود صبحي، مصدر سابق، ص 30.
[الصفحة - 58]
لا تُخرجوا سلطان محمد في العرب عن داره وقعر بيته...، لنحن أحقُّ الناس به؛ لأنَّا أهل البيت، ونحن أحقُّ بهذا الأمر منكم ما كان فينا القارئ لكتاب الله، الفقيه في دين الله، العالم بسنن رسول الله...» (21) .
ويرى المستشرقون جولد تسهير (22) وبرنارد لويس (23) ومادلونغ (24) وشتروثمان (25) في موقف علي وأنصاره، كمعارضة لبيعة السقيفة تطالب بحقِّ أهل بيت النبي(ص) في خلافته، بداية نشوء التشيّع كاتِّجاه سياسيّ لم يصل إلى حدّ التشيّع الدينيِّ القائل بالنصِّ والوصيَّة الذي ظهر لاحقاً. ويؤيِّد هذا الاتِّجاه من الباحثين المسلمين كلٌّ من أحمد أمين (26) ، وكامل الشيبي (27) ، وإبراهيم بيضون (28) ، إلى جانب بعض المؤرِّخين والعلماء الشيعة الذين يعتبرون أنَّ بداية ظهور الاتِّجاه الشيعيِّ على مسرح الأحداث السياسيَّة كان بعد وفاة الرسول(ص)، لكنّه كان يفتقر إلى كثرة المؤيدين آنذاك، فيما كان فيهم أفضل صحابة الرسول(ص).
ويرى الشّيعة أنّ اجتماع السقيفة كان مؤامرةً لإبعاد عليٍّ عن الخلافة رغم تعيين النبيّ له في مواضع عدَّة أبرزها حادثة غدير خم، وذلك يعود إلى كره قريش لعلي بسبب قتله لساداتها في الحروب ضد المشركين. وقد عبَّر بعضهم عن هذا الشعور بقوله: « إنّ قريش رأت ألا تجمع (لكم) النبوّة والخلافة في بيت واحد » (29) . كما قام بقَمع الاتِّجاه الشيعي المؤيّد للإمام علي والمعارض لتنصيب أبي بكر وإرغامه على البيعة له. وقد ضمّ هذا الاتِّجاه بني هاشم، وعلى رأسهم علي والعباس، ومن الصحابة كلاً من الزبير بن العوّام، وسلمان الفارسي، وأبي ذر الغفاري، وعمار بن ياسر، والمقداد بن الأسود، وحذيفة بن اليمان وغيرهم من كبار الصحابة (30).
النظرية الثالثة: نشأة الشيعة بعد مقتل عثمان
يميل عددٌ من كتّاب الفِرَق والمستشرقين والباحثين إلى تحديد بداية نشأة الشيعة إلى آواخر عهد الخليفة عثمان، أو بتعبيرٍ أدقّ إلى الفتنة وأحداثها، والمؤامرة اليهوديّة
________________________________________
(21)- 29؛ ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، القاهرة، دار الكتب العربيّة الكبرى، ج1، ص 134.
(22)- إجناس جولد تسهير، العقيدة والشريعة في الإسلام، ترجمة: د. محمد يوسف موسى وآخرون، الطبعة الثانية، مصر، دار الكتب الحديثة، 1945، ص189.
(23)- برنارد لويس، أصول الإسماعيليّة والفاطميّة والقرمطيّة، ترجمة حكمت تلحوق، الطبعة الأولى، بيروت، دار الحداثة، 1980، ص 58.
(24)- W. Madelung، Shi’a item، in Encyclopedie de l’Islam (Nouvelle Edition، Leiden، 1998)، vol.4، p 434.
(25)- R. Strothmann، Shi’a item، in The Encyclopedia of Islam، (Leiden، 1934، )، vol.4، p 350.
(26)- أحمد أمين، مصدر سابق، ج3، ص 209.
(27)- الشيبي، مصدر سابق، ص ص 80 - 82.
(28)- ابراهيم بيضون، ملامح التيّارات السياسيّة في القرن الأوّل الهجريّ، الطبعة الأولى، بيروت، دار النهضة العربية، 1979، ص 15 - 16.
(29)- محمد بن جرير الطبري، تاريخ الرسل والملوك، القاهرة، 1938، ج2، ص 444؛ أحمد بن أبي يعقوب اليعقوبي، التاريخ، بيروت، دار صادر، 1960، ج2، ص 125 - 104؛ ابن قتيبة، مصدر سابق، ج1، ص ص 28 - 32.
(30)- Moojan Momen، An Introduction to Shi’i Islam، (Yale University Press New () york، First published، 1985)، pp.18-20; S. Hussain M.Jafri، Origins and Early Development of Shi’a Islam، (First Published، London، 1979)، pp.27-53.
[الصفحة - 59]
المنسوبة إلى عبد الله بن سبأ، وهو يهوديٌّ دخل الإسلام وأُثير جدل واسع حول دوره في الفتنة التي أدَّت إلى مقتل عثمان، ودوره في الانقسامات والحروب بين الصحابة التي أعقبت مقتل الخليفة الثالث، ولا سيَّما حربا الجمل وصفّين اللتان خاضهما الإمام علي ضد خصومه الذين ادّعوا المطالبة بالثأر لدم عثمان. وقد أنكر بعض الباحثين (31) - ولا سيَّما الشيعة منهم - وجود ابن سبأ تاريخيّاً واعتبروه شخصيَّة وهميَّة ابتدعها خصوم الشيعة للطعن عليهم ونسبة عقائدهم إلى أصول يهوديَّة. لكنّ بعضهم الآخر قلّل من أهميّة الدور المنسوب إلى ابن سبأ ومن تأثيره في الأحداث التاريخيّة والعقائد الفكريّة للمسلمين (32) آنذاك، فيما لا يزال بعضهم مصراً على وجود ابن سبأ وعلى دوره المركزي في نشوء التشيّع وعقائده (33) .
ويذكر النوبختيّ (34) أنّ ابن سبأ « كان يهودياً فأسلم ووالى علياً، وكان يقول وهو على يهوديَّته في يوشع بن نون بعد موسى(ع) بهذه المقالة فقال في الإمام علي(ع)... بعد وفاة النبي(ص)... بمثل ذلك، وهو أوَّل من شهر القول بفرض إمامة علي وأظهر البراءة من أعدائه فمن هناك قال من خالف الشيعة إنَّ أصل الرفض مأخوذ عن اليهوديّة ». ويضيف أنَّه « أظهر الطعن على أبي بكر وعمر وعثمان والصحابة وتبرّأ منهم وقال إنّ علياً أمره بذلك فأخذه علي فسأله عن قوله هذا فأقرَّ به فأمر بقتله. لكنّ الناس عارضوه وطلبوا نفيه إلى المدائن » (35) .
ويروي الأشعريّ (36) أنّ ابن سبأ قال: « إنَّ علياً لم يمت وأنَّه يرجع إلى الدنيا قبل يوم القيامة »، فيما يعدّه البغدادي (37) ممن دعا إلى ألوهيَّة عليٍّ(ع) فأحرق الإمام(ع) جماعة من أنصاره ونفاه إلى المدائن. ويستند الذين يردّون التشيّع إلى ابن سبأ إلى كونه « أوّل من نادى بقداسة الإمام علي وبفكرة وصايته عن النبي، وأوَّل من هاجم الخلفاء الثلاثة الأولين واعتبرهم مغتصبين... وأنّه قال بالرجعة »، وذلك لأنَّ هذه الآراء موجودة في عقائد معظم الشيعة (38) .
ويشكّك المستشرق برنارد لويس في دور ابن سبأ من جهة التأثير الفكريِّ في تطوّر
________________________________________
(31)- طه حسين، الفتنة الكبرى، ج2، (علي وبنوه)، دار المعارف، مصر، 1953، ص 90 - 93.
(32)- قارن بـ : مرتضى العسكري، عبد الله بن سبأ وأساطير أخرى، الطبعة الأولى، بيروت، دار الزهراء، ج1، ص 12.
(33)- برنارد لويس، مصدر سابق، ص 61.
(34)- قارن بـ : علي سامي النشّار، مصدر سابق، ص 18، محمد أبو زهرة، المذاهب الإسلاميّة، القاهرة، إدارة الثقافة بوزارة التربية، ص 46، عبد الرحمن بدوي، مذهب الإسلاميين، الطبعة الأولى، بيروت، دار العلم للملايين، 1973، ج2، ص 15 - 44، أحمد محمد جلي، دراسة عن الفرق في تاريخ المسلمين، الخوارج والشيعة، الطبعة الثانية، الرياض، مركز الملك فيصل للبحوث والدراسات الإسلامية، 1988، ص 156 ـ157.
(35)- النوبختي، مصدر سابق، ص 22.
(36)- الأشعريّ (أبو الحسن)، مقالات الإسلاميين واختلاف المصلين، تحقيق: محمد عبد الحميد. القاهرة، مكتبة النهضة المصرية 19، ص 86.
(37)- عبد القادر البغدادي، الفَرق بين الفِرق، الطبعة الثالثة، بيروت، دار الآفاق الجديدة، 1978، ص 223 - 225.
(38)- أحمد محمود صبحي، مصدر سابق، ص 36 - 37.
[الصفحة - 60]
العقيدة الإسلاميّة، مستنداً إلى دراسة نقديّة للمصادر التاريخيّة قام بها المستشرقان فلهاوزن وفريد ليندر أظهرا فيها أنَّ المؤامرة والدعوة المنسوبتين إلى ابن سبأ من اختلاق المتأخِّرين. ويعتبر لويس « أنَّ التشيّع كعقيدةٍ منظَّمة لها آراء كلاميّة لا يمكن أن تصدر إلا بعد أن توالت أحداث هامّة كمقتل علي وفاجعة كربلاء »، وهو « التشيّع الثوريّ ذو الصبغة المهدويّة » (39) .
وبيَّن المستشرق كايتاني أيضاً أنَّ مؤامرةً كهذه، بهذا التفكير وهذا التنظيم، لا يمكن أن يتصوَّرها العالم العربيِّ المعروف عام 35 هـ بنظامه القبليّ القائم على سلطان الأبوّة، وأنّها تعكس أحوال العصر العباسيِّ الأوّل بجلاء (40) . أمّا المستشرق ليفي دلافيو فقد خلص إلى أنّ ابن سبأ لم يكن يهوديّاًً، فيما شكّك فلهاوزن وفريد ليندر في رواية الطبريِّ حول ابن سبأ لاستنادها إلى شهادة سيف بن عمر الوضّاع، وانتهيا إلى أنّ التعارض بين معلومات المؤرِّخين حول تفاصيل قصة ابن سبأ يدلّ على ابتداع سيف بن عمر لهذه الرواية لأغراض تتعلَّق بتبرئة الصحابة وأتقياء المدينة من هذه الفتنة الآثمة التي كانت أوّل حرب أهليَّة في الإسلام، وأيَّده في ذلك المستشرق لاوست (41) .
ويذهب الدكتور طه حسين إلى إنكار وجود ابن سبأ ويعتبر « أنّ أمر السبيئة وصاحبهم إبن السوداء (لقب ابن سبأ) إنّما كان متكلَّفاً منحولاً »، اخترعه خصوم الشيعة لإدخال عنصرٍ يهوديٍّ في أصول هذا المذهب، مستغرباً كيف نسي المؤرِّخون السبئيّة حين رووا حرب صفين ونشأة الخوارج معلِّلاً ذلك بأن ابن سبأ لم يكن إلا وهماً، وإن وجد بالفعل « فلم يكن ذا خطر » (42) .
وثمّة تفسيرٍ آخر لظاهرة ابن سبأ هذه طرحه الدكتور عبد العزيز الدوري إذ يرى أنَّ المقصود بابن سبأ هو الصحابيّ عمار بن ياسر، وأنّ هذا اللقب اخترعه الأمويِّون من أجل التشهير بشيعة علي وتحميل هذه الشخصيَّة الوهميّة العقائد الغالية المنتشرة في كتب الفرق والتي تبرَّأ منها أهل السنّة والشيعة على حد سواء (43) . وقد أبرز الشيبي معطيات جديدة تبيّن التطابق التامّ بين شخصيتي عبدالله ابن سبأ وعمار بن
________________________________________
(39)- برنارد لويس، مصدر سابق، ص 61.
(40)- بدوي، مصدر سابق، ص 20 - 36.
(41)- Henri Laoust، Les Schismes dans L’Islam (Paris، Payot، 1965)، pp.15-16.
(42)- طه حسين، مصدر سابق، ص 90 - 93.
(43)- النشار، مصدر سابق، ص 27 - 28.
[الصفحة - 61]
ياسر حيث كانت أمّ عمار سوداء وأصله يَمنيّ أي من سبأ، وكلُّ مسلم هو عبد الله، إضافةً إلى العلاقة الخاصة التي تربط عماراً بعلي(ع) (44) .
ولا يستبعد هذا الأمر الدكتور سامي النشّار في تعليقه على موضوع السبئيّة إذ يحتمل أن يكون الأمويّون قد غلَّفوا اسم عمار بن ياسر باسم ابن سبأ - كما كانوا يستعملون كنية أبي تراب في كلامهم عن علي(ع) - من أجل خِدَاع الشاميّين (45) .
وفي رأينا أنَّ ما روي عن الرسول(ص) أنّه قال لعمار بن ياسر: « تقتلك الفئة الباغية » (46) ، كشهادةٍ لعمار والفريق الذي ينضمّ إليه بأنّه من أتباع الحق، كانت وحدها كافيةً لتكون دافعاً للأمويّين لتشويه صورة عمّار عبر ابتداع شخصيّةٍ أُخرى موازية لشخصيَّته تُنسب إليها الفتنة والانقسامات والحروب بين المسلمين والعقائد الغالية المنحرفة (47) .
ويذهب الباحث الشيعيّ السيد مرتضى العسكريّ أيضاً إلى أنَّ ابن سبأ شخصيّة مختلَقة من نسج سيف بن عمر التميمي الوضَّاع، وأنّ الطبري نقل هذه الرواية عن كتاب سيف (حرب الجمل) من دون تمحيص، ثمّ نقل المؤرِّخون عن الطبريّ هذه الأسطورة (48) .
ويعتبر المستشرق مادلونغ أنّ الإمام علياً(ع)، وليس ابن سبأ - كما يذكر المؤرِّخون - هو مؤسّس التشيّع ومعلِّمه الأوّل، وأنّ عقائد ابن سبأ بأنّ علياً وصي للنبي(ص) وبنفيه موت علي وقوله بالرجعة بعد موته هي فقط لها أساس تاريخيّ (49) .
وسواء أكان عبد الله بن سبأ حقيقة أم أسطورة، فإنَّنا لا نرى لدوره أيّ تأثير في نشأة التشيّع بعد مقتل عثمان، وإن كان له دور محتمل في نشأة عقائد الغلاة بعد مقتل الإمام علي(ع).
أمّا بالنسبة إلى الرأي القائل بنشأة الشيعة بعد مقتل عثمان وانقسام المسلمين حزبين في حربي الجمل وصفين، فهو
________________________________________
(44)- الشيبي، مصدر سابق، ص 40 - 43.
(45)- النشار، ص 28.
(46)- الشيبي، ص 39.
(47)- صبحي، مصدر سابق، ص 26.
(48)- العسكري، مصدر سابق، ص 12.
(49)- Reinhart Dosy, Essai sur L’histoire de L’Islamisme (Amsterdam, Orient Press, 1966), p434. W. Madelung, op.cit, p.221; وأيضاً، النشّار، - ص 28 - 31.
[الصفحة - 62]
رأي عددٍ كبيرٍ من المؤرِّخين والباحثين المتقدِّمين والمتأخِّرين. يقول إبن نديم: «إنّ علياً قصد طلحة والزبير ليقاتلهما حتَّى يفيئا إلى أمر الله جلّ اسمه (و) تسمَّى من اتبعه على ذلك الشيعة، فكان يقول شيعتي وسمّاهم عليه السلام الأصفياء، الأولياء، شرطة الخميس، الأصحاب »(50) .
وقد تبنَّى هذا الرأي بعض المستشرقين والباحثين المحدثين، إذا يقول فلهاوزن: «بمقتل عثمان انقسم الإسلام إلى حزبين: حزب علي، وحزب معاوية، والحزب يطلق عليه في العربية اسم الشيعة، فكانت شيعة علي في مقابل شيعة معاوية، لكن لمَّا تولّى معاوية الملك في دولة الإسلام أصبح استعمال لفظ شيعة مقصوراً على أتباع عليّ »(51) .
ويؤيّد هذا الرأي الباحثون هودجسون(52) ولويس(53) وطه حسين والنشَّار(54) ومحمد عمارة(55) الذين يرون أنَّ كلمة الشيعة في عهد عليٍّ كانت تعني أنصاره وحزبه في مقابل شيعة معاوية من دون أن تكون لهذه التسمية أيّة دلالةٍ دينيّةٍ خاصّةٍ، فيما يذهب كل من شتروثمان ومادلونغ والجفري(56) ونبيلة داود(57) إلى شيوع إطلاق كلمة (الوصيّ) على الإمام علي في هذه الفترة مستندين إلى ما نقله المؤرِّخ (الشيعيّ) اليعقوبيّ من أقوال بعض أصحاب علي كقول مالك الأشتر له: «إنّه وصيّ الأوصياء ووارث علم الأنبياء » وما قاله أبو ذر الغفاري فيه: «أيّتها الأمة المتحيّرة بعد نبيّها أما لو قدّمتم من قدّم الله، وأخّرتم من أخّر الله، وأقررتم الولاية والوراثة في أهل بيت نبيّكم لأكلتم من فوق رؤوسكم ومن تحت أقدامكم »(58) ، وإلى ما يورده إبن أبي الحديد في شرحه لنهج البلاغة من أشعار وأراجيز تدلُّ على إطلاق تسمية الوصيّ على علي(59) .
ويشكّك هودجسون في صحّة القول بإطلاق تسمية الوصيّ على علي(60) أو في دلالة الأشعار في تلك الفترة، ويوافقه سامي النشّار على هذا الرأي. وإذا كانت كلمة (شيعة عليّ) قد وردت في وقعة الجمل وفي صحيفة التحكيم بعد حرب صفّين، فإنَّها كانت تعني أنصار عليّ بمعنى التشيّع السياسيّ، وهؤلاء كانوا متعدِّدي الأهواء، لم تكن
________________________________________
(50)- ابن النديم، الفهرست، القاهرة، ص 263.
(51)- يوليوس فلهاوزن، الخوارج والشيعة، ترجمة: عبد الرحمن البدوي، الطبعة الثانية، الكويت، وكالة المطبوعات، 1967م، ص 112.
(52)- مارشال هودجسون، كيف تطوّر التشيّع إلى مذهب، مجلة الاجتهاد، العدد 19، ربيع 1993، ص 140 - 142.
(53)- - Bernard Lewis، L’identite Chi’ite، en Islam et Politique au Proche _ Orient Aujourd’hui، (Paris، le debat، Ed. Gallimard، 1991)، p.57.
(54)- طه حسين، م.س، ص 173 - 175، النشار، ص 19.
(55)- محمد عمارة، تيارات الفكر الإسلامي، بيروت، دار الوحدة، 1985، ص 200 - 201.
(56)- R. Strothman, p. 351, W. Madelung p. 434, M. Jaffri, op. cit, p. 83.
(57)- نبيلة داود، نشأة الشيعة الإمامية، الطبعة الأولى، بيروت، دار المؤرخ العربي، 1994، ص 60.
(58)- اليعقوبي، ج4، ص 147 - 148، و155.
(59)- ابن أبي الحديد، ج1، ص 47 - 48.
(60)- هودجسون، مصدر سابق، ص 142، الهامش رقم 2، النشار، ص 19.
[الصفحة - 63]
تجمعهم عقيدة مشتركة ولا بواعث موحَّدة فبعضهم كان من أشدِّ المخلصين للإمام علي كعمار بن ياسر وحجر بن عدي، وبعضهم كان يؤيِّده لأسباب سياسيّة أو اقتصاديّة أو جهويّة.
ويرى طه حسين أنَّ علياً قُتل دون أن يكون له حزب منظّم ولا شيعة مميّزة، إنّما كانت كثرة المسلمين له أنصاراً وأتباعاً، وهؤلاء خذلوه بعد التحكيم وانقلبوا عليه في حياته وبعد مماته(61) .
النظريّة الرابعة: نشأة التشيّع بعد حرب صفين والتحكيم
يرى أصحاب هذا الرأي أنّ التشيّع قد ظهر بعد رفض الخوارج لنتائج التحكيم وانشقاقهم عن حزب عليّ، الأمر الذي أدّى إلى نشوء التشيّع كردِّ فعلٍ دينيّ على عقيدة الخوارج في الإمامة، فبينما جعل الخوارج الإمامّة عامّة، جعلها الشيعة وقفاً على آل النبي(ص) وذريّة علي بن أبي طالب(ع) وبنصّ إلهيّ ووحيّ من النبيّ. وعندما قالت طائفة من الخوارج إنَّ الإمامة غير واجبةٍ ولا يلزم شرعيَّة نصب الإمام، قال الشيعة بوجوب الإمامة على الله، ولمَّا شكَّك الخوارج بشرعيّة حروب عليّ وكفروه، قال شيعته بعصمته.
ويعتبر الدكتور أحمد محمود صبحي أنّ تقديس الشيعة للإمام عليّ وعقيدتهم في الإمامة والنصّ والوصيّة قد صيغت متأثِّرةً بنظريّة الخوارج على نحوٍ عكسيّ (62) .
ويذهب إلى هذا الرأي أيضاً كلٌّ من المستشرق مونتغمري وات الذي رأى أنّ بداية حركة الشيعة كانت بعد انشقاق الخوارج عن عليّ وثبات جماعةٍ من أتباعه معه وتجديد البيعة له وقولهم له: «نحن أولياء من واليت، وأعداء من عاديت» كما ينقل الطبريّ في تاريخه (63) .
النظريّة الخامسة: نشوء الشيعة بعد استشهاد الحسين (ع)
يذهب أصحاب هذا الرأي إلى أنّ استشهاد الحسين بن علي في واقعة كربلاء عام 61 للهجرة شكّل نقطة تحوّلٍ مهمّة في التاريخ الفكريّ والعقيديّ للتشيّع، إذ تحوَّل
________________________________________
(61)- صبحي، ص 43 - 47.
(62)- المصدر نفسه، ص 40 - 42.
(63)- تاريخ الطبري، ج4، ص 46، نقلاً عن فياض، مصدر سابق، ص 37.
[الصفحة - 64]
التشيّع من اتِّجاهٍ سياسيّ وميلٍ عاطفيّ إلى عقيدةٍ دينيّةٍ راسخةٍ وتحوّل الشيعة من مجرّد أنصار لآل البيت لا تجمعهم عقيدة مميّزة ولا تنظيم حزبيّ إلى فرقةٍ لها تنظيمها الهرميّ وعقيدتها الكلاميّة التي تميّزها عن جمهور المسلمين (64) . ويؤيِّد وجهة النظر هذه عدد من المستشرقين (65)والباحثين المحدثين الذين يذهبون إلى أنّ عبارة شيعة قد اتَّخذت صورتها الاصطلاحيّة للدلالة على التشيّع العلويّ بعد قتل الإمام الحسين (66) . ويرى هؤلاء - وفي طليعتهم الباحث الإسلامي الدكتور رضوان السيد - في نشوء حركة التوّابين ورفعها شعار (الثأر للحسين) ثمّ في نشأة حركة المختار بن أبي عبيد الثقفي وانتقامه من قتلة الحسين وتأسيسه لفرقةٍ كلاميّةٍ ذات عقائد سريّة في الوصية والنصّ والرجعة والمهدي والعلم الالهي، بداية ظهور الشيعة كفرقة تتميّز دينياً عن باقي المسلمين (67) .
ويرى فلهاوزن أنّ التشيّع، في الكوفة في أوّل حركة المختار، كان تعبيراً عن الاتّجاه السياسيّ العام لمعارضة العراق لسلطان الشام، ثمّ عندما انفصل أشراف الكوفة عن المختار بسبب إدخاله الموالي في حركته وانضمّوا إلى عبدالله بن الزبير، تحدّد نطاق التشيّع واتّخذ شيئاً فشيئاً صورة فرقة دينيّة في تعارض مع الأرستقراطية ونظام العشائر وأصبح بفضل استشهاد زعمائه ذا طابع مثاليٍّ خياليٍّ(68) .
ويعتبر الدكتور رضوان السيّد حركة التوّابين بقيادة شيخ الشيعة سليمان بن صرد بتنظيمها وأهدافها ورموزها، «بداية التشيّع باعتباره اتِّجاهاً في فهم النّص القرآني، والعلاقة مع السلطة، والحركة للتغيير. ومع أنّ مفهوم البراءة والولاية لم يكونا ظاهرين بعد في جماعة التوّابين، فإنَّهما كانا حاضرين في أقوال رجالها وتصرّفاتهم لكن تبلوّر هذين المفهومين بوضوح كان مع تنظيم المختار الذي يملك مقوّمات الفرقة أو الطائفة المنفصلة عن الجسم الأكبر، عبر التميّز بالرموز والشعائر الدينيّة التي تنمَّي إحساس الخصوصيّة لدى أتباعها وتدفعها kkkإلى العزلةkkkk عن أكثريّة الجماعة، ومن
________________________________________
(64)- صبحي، ص 47 - 49.
(65)- فلهاوزن، ص 137 - 167؛ لويس، ص 61، p.434; Strothman, p.350; Madelung.
(66)- كامل الشيبي، الفكر الشيعي والنّزعات الصوفية حتى مطلع القرن الثاني عشر، الدار العربية للكتاب، 83، ص - 15ـ16؛ وأيضاً الشيبي، الصلة بين التصوّف والتشيّع، ص 22 - 23.
(67)- رضوان السيد، مفاهيم الجماعات في الإسلام، الطبعة الأولى، بيروت، دار المنتخب العربي، 1993، ص 53 - 61.
(68)- فلهاوزن، ص 137 - 167.
[الصفحة - 65]
خلال التنظيم السريّ والهرميّ، الذي استمرّ رغم مقتل مؤسّسه المختار في فرقة الكيسانيّة »(69).
ويذهب باحثون آخرون(70) إلى مثل هذا الرأي مستدلّين بأنّ عقائد الشيعة في العلم اللدنيّ والبداء والرجعة والمهدي المرتبطة بنظريّة الإمامة، قد ظهرت مع المختار خلال قيادته للحركة الثوريّة الشيعيّة، وظهرت بعد مقتله في عقائد فرقة الكيسانيّة. لكن الشيعة الاثني عشريّة يؤكِّدون أنّ معظم هذه العقائد، وخصوصاً مسألة المهدي، هي جزء من عقيدة الإسلام ووردت نصوص بهذا الخصوص عن الرسول(ص) والأئمّة المعصومين الأوائل.
ويرى أحمد محمود صبحي أنّ: «دم الحسين هو الذي أنبت العقيدة الشيعيّة في صورتها النهائيّة إذ أدرك الشيعة بعد مجزرة كربلاء استحالة الانتصار على بني أميّة بالقوّة والسيف في تلك المرحلة، فلجأوا إلى قوّة أُخرى معنويّة هي قوة الفكر المرتبط بالدين، واستعانوا بمبدأ التقيّة لستر أمرهم »(71) .
وإذا كان كتّاب الشيعة يردّون التشيّع إلى عهد الرسول(ص) أو بعد وفاته مباشرةً، فإنّهم لا ينكرون ما لمقتل الإمام الحسين من أثرٍ كبيرٍ في تطوير عقائدهم وتمايزها عن عقائد الإسلام السنيّ. فالتشيّع قبل مقتل الإمام الحسين كان مجرّد رأيٍ سياسيّ لم يصل إلى قلوب الشيعة، فلمّا قُتل امتزج التشيّع بدمائهم وتغلغل في أعماق قلوبهم وأصبح عقيدة راسخة في نفوسهم مقترنةً بأحقيّة آل البيت(عليهمالسلام)(72) .
النظريّة السادسة: نشأة التشيّع مع الإمام جعفر الصادق (ع) وهشام بن الحكم
يرى فريق من المؤرِّخين والباحثين أنّ التشيّع المعروف اليوم والممثّل في المذهب الإماميّ الاثني عشريّ يعود في نشأته إلى أيَّام الإمام جعفر بن محمد الصادق(ع) وتلامذته من المتكلِّمين كهشام بن الحكم وزرارة بن أعين وصاحب الطاق وهشام بن سالم. ويذهب إلى هذا الرأي أيضاً بعض مفكّري المعتزلة كالقاضي عبد الجبار وابن المرتضى (الزيديّ) (73) وبعض المستشرقين والباحثين وأبرزهم هودجسون وسامي النشّار ومحمّد عمارة وأحمد محمود صبحي ومحمد أبو زهرة وأحمد جلي (74) . ويستند
________________________________________
(69)- رضوان السيد، مصدر سابق، ص 57 - 61.
(70)- فان فلوتن، السيادة العربية والشيعة والإسرائيليات في عهد بني أمية، ترجمة: حسن إبراهيم حسن ومحمد زكي إبراهيم، الطبعة الثانية، القاهرة، مكتبة النهضة المصرية، 1965، ص 76 - 83؛ هودجسون، ص 143 - 144.
(71)- صبحي، ص 47 - 50.
(72)- فياض، ص 46 - 57؛ Strothmann, p.350.
(73)- القاضي عبد الجبار، تثبيت دلائل النبوّة، - ج2، ص ص 258 - 259؛ ابن المرتضى، المنية والأمل في الملل والنحل، الطبعة الثانية، بيروت، دار الندى، 1990، ص 131، -
(74)- النشار، ص 2، عمارة، ص - 200 - 202؛ صبحي، ص 50 - 52؛ أبو زهرة، ص 46؛ جلي، ص 161 - 162؛ هودجسون، ص 155 وما بعدها.
[الصفحة - 66]
هؤلاء في دعواهم إلى دور الصادق (وأبيه الباقر إلى حدٍ ما) وتلامذته في تبلوّر عقائد المذهب في الإمامة (النّصّ الوصيّة والعصمة والبداء والعلم اللدنيّ والرجعة)، وتمّيزه في الآراء الكلاميّة والفقهيّة عن سائر المذاهب الإسلاميّة (75) .
يذكر ابن النديم، صاحب (الفهرست)، أنّ هشام بن الحكم هو الذي فتق الكلام في الإمامة وهذّب المذهب. ويقول المعتزلة إنّ عهد إمامة جعفر الصادق للشيعة هو الفترة الزمنيّة التي نشأ فيها التشيّع، وإنّ هشام بن الحكم هو الذي ابتدع القول بالوصيّة ثمّ أخذه عنه معاصروه ومن أتى بعده. ويقول القاضي عبد الجبّار: «إنّ هذا القول قد حدث قريباً، وإنَّما كان مَنْ قبل يذكر الكلام في التفضيل، ومن هو أولى بالإمامة، وما يجري مجراه »(76) . أمَّا ابن المرتضى - أحد كتّاب الزيديّة - فيقول: «إنّ مذهب الرافضة قد حدث بعد مضي الصدر الأوّل، ولم يُسمع عن أحدٍ من الصحابة من يذكر أنَّ النصّ في علي جليّ متواتر، ولا في الاثني عشر إماماً، كما زعموا »(77) .
ويذهب مارشال هودجسون إلى أنّ تاريخ فكرة الإمامة بالنصّ يعود على الأرجح إلى عهد الإمام الباقر(ع) ثمّ تبلوّرت الفكرة في عهد الصادق(ع) الذي شهد عمليَّة إعادة توجيه داخل المذهب الشيعيّ(78) ، مشيراً الى أنّ معظم أسانيد الشيعة عن النصِّ والوصية والعصمة والرجعة ترجع إلى الإمامين الباقر والصادق(79) .
وهكذا شهدت هذه المرحلة انقسام الشيعة إلى فرقٍ كثيرةٍ أبرزها الفرق الثلاثة الباقية: الإماميّة، والزيديّة، والإسماعيليّة، ولزم انقضاء نحو قرنٍ من الزمن، ومجيء خمسة أئمّةٍ آخرين بعد الصادق وغيبة الإمام الثاني عشر عام 260 للهجرة، حتّى اكتمل تبلور المذهب الاثني عشري وتحوّله من الإماميّة إلى الاثني عشريّة(80) .
مراحل التشيّع
على الرغم من اختلاف المؤرّخين والباحثين في تحديد وقت نشأة التشيّع، إلاّ أنّ معظمهم يؤيّد الفكرة القائلة إنّ التشيّع مرّ بمراحل عدّة قبل أن يتّخذ شكله النهائيّ سواء في المذهب الاثنيّ عشري أم المذهب
________________________________________
(75)- هودجسون، ص 154 - 159؛ صبحي، ص 50 - 52؛ النشار، ص 1 - 2؛ عمارة، ص 200 - 205؛ جلي، ص 161ـ162.
(76)- القاضي عبد الجبار، ص 258 - 259.
(77)- ابن المرتضى، ص 131.
(78)- هودجسون، ص 157 - 158.
(79)- عمارة، ص 200 - 205؛ جلي، ص 161 - 162.
(80)- إيتان كولبرغ، من الإمامية إلى الاثني عشرية، في مجلة الاجتهاد، العدد 19، ربيع 1993، ص - 165 - 182؛ الشيبي، ص 195 ـ235 . Momen,op.cit, pp. 23-60; Jaffri, pp.81-205.
[الصفحة - 67]