تمهيد
من الموضوعات التي شكَّلت محور اهتمام من قِبَل مفسّري الشيعة موضوع التفسير الروائي والروايات التفسيريّة. إلا أنَّهم لم يتبعوا أسلوباً واحداً في التعاطي معها. فاكتفى بعضهم بذكر الروايات المتعلّقة بالآية المفسَّرة، فيما اعتمد آخرون لفهم النص القرآني، على الروايات أكثر من أيِّ شيء آخر، وإن استعانوا بغيرها. وفسّرت طائفة ثالثة الآيات الشريفة بمنهجٍ اجتهاديٍّ جامعٍ الى حدٍ ما، وكانت الروايات أحد مصادرهم الأساسيّة، فيما كانت استعانة آخرين بالروايات محدودة، لكنهم درسوا الروايات التفسيرية وناقشوها بعيداً عن التفسير. وممّا امتاز به التفسير الروائيّ عند الشيعة من التفسير الروائيّ عند أهل السنّة، الاهتمام الكبير للشيعة بروايات أهل البيت (عليهم السلام) ومع ذلك فقد توجد بعض الإخفاقات في مناهج التفسير الروائيّ المتعدّدة عند الشيعة، وهذا ما سنتناوله في هذه المقالة.
عنوان (الشيعة) لفظ له دلالات متعدِّدة لكن المقصود به، في هذه المقالة، تلك الطائفة الكبيرة من المسلمين التي تعتقد ـ استناداً إلى الآيات والروايات الكثيرة ـ أنَّ الأرض لا تخلو من حجّةٍ لله (وهو الامام المعيَّن من قِبَل الله) وأنَّ الله
________________________________________
(*)عضو الهيئة العلمية لفرع علوم القرآن لمركز أبحاث «الحوزة والجامعة»، من إيران، ترجمة علي آل دهر الجزائري.
[الصفحة - 235]
تعالى بعد رحلة النبيّ الخاتم (ص) لم يترك الناس هملاً وإنَّما اختار لهم اثني عشر شخصاً مؤهلاً للإمامة بعد النبي الأكرم (ص) وقد عرّفهم إلى الناس بوساطة النبي(ص) لكي تتّبعهم الأمّة وأنّهم ـ بعد النبي (ص) ـ واحداً بعد الآخر، يتولّون هداية الأمّة وقيادتها في كلِّ شؤونها نحو الكمال والقرب الإلهيِّ. وأنَّ أوَّلهم أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (ع)وآخرهم الإمام المهدي (عج) وهو الآن حيّ غائب عن الأبصار وسيظهر يوماً فيملأ الدنيا قسطاً وعدلاً.(1)
يُعتبر تفسير القرآن من أقدم وأهمّ العلوم الاسلاميّة؛ لأنَّه يوضح معاني ومقاصد أكثر المصادر الإسلاميّة اعتماداً، بل الأقدم بينها؛ لأنّ هذا العلم ظهر في عصر الرسالة وكان موجوداً في كلِّ الأعصار، وقد تبلور بمناهج مختلفة، يُطلق عليها (المناهج التفسيريّة) وأحد هذه المناهج (التفسير الروائيُّ) الذي يُراد به إظهار معاني الآيات القرآنيّة بالاستعانة بالروايات. وقد بدأ هذا الأسلوب التفسيريّ منذ عصر الصحابة وكان دائماً موضع اهتمام المفسِّرين.
وتتكفل هذه المقالة دراسة مكانة التفسير الروائي وتطوّره عند الشيعة، وبيان مزاياه ونواقصه. ولهذا تتمحور أبحاث المقالة حول تطور التفسير الروائيّ عند الشيعة، وميزات التفسير الروائيّ عندهم، والبحث عن مواطن الضعف فيه.
1ـ مكانة التفسير الروائي عند الشيعة ومراحل تطوّره
لقد كان للشيعة نشاطٌ علميٌّ واسعٌ في كثيرٍ من العلوم الاسلاميّة، ومنها تفسير القرآن الكريم، ولهذا ظهرت لهم مصنَّفات تفسيريّة كثيرة. وبنظرةٍ إلى المؤلّفات التفسيريّة للشيعة يتَّضح أنّه، بالرغم من المنزلة المرموقة للتفسير الروائيِّ عند الشيعة وكونه موضع اهتمامهم دائماً، إلا أنّ رؤية مفسّري الشيعة لم تكن واحدة ولم يكن منهجهم في التفسير الروائيّ واحداً.
فاعتبر بعضهم التفسير الروائي هو وحده المنهج التفسيريّ الصحيح، واكتفوا
________________________________________
(1)ـ للاطلاع على المعنى اللغويّ والاصطلاحيّ والاستعمالات المختلفة للفظة (شيعة) وفرقها المتعدّدة، راجع أعيان الشيعة، 1: 18 ـ 23 (بيروت، دار التعارف)؛ ومقال «شيعة وتشيع، مفهوم شناسي، ماهيت وخاستكاه» فصلية (شيعة شناسي) التخصصية، العدد 11، ص 139 ـ 151 .
[الصفحة - 236]
في تفسير الآيات الكريمة، بذكر الروايات التي تبيّن معانيها، ويمكن أن نسمّي هذا الأسلوب بـ (التفسير الروائي الخالص). وأحد مفسّري الشيعة الذي يُظنّ أنّه سار على هذه النظرية، وعلى أساسها اكتفى في التفسير الذي ألّفه بذكر الروايات في ذيل الآيات القرآنية، هو السيد (هاشم البحراني) مؤلّف (البرهان في تفسير القرآن). ففي مقدّمة تفسيره ـ وضمن ذمّه للدخول مباشرة في عمليّة التفسير وفي ما لم يرو عن أهل بيت العصمة (عليهم السلام) ـ يرى وجوب التوقّف حتى يأتي تأويل القرآن عنهم؛ لأنّ علم التنزيل والتأويل عندهم. فما جاء عنهم فهو النور والهدى، وما جاء عن غيرهم فهو الظلمة والعمى. وبعد أن يُبدي عجبه من علماء المعاني والبيان الذين ظنّوا أنّ معرفة هذين العلمين تكفي للقيام بتأويل القرآن، يرى أنّ معرفة هذين في كتاب الله تحتاج إلى تعليم أهل البيت (عليهم السلام) أيضاً ويقول: «ومن تعاطى معرفته من غيرهم ركب متن عمياء وخبط خبط عشواء»(2). واكتفت بعض التفاسير الشيعيّة الأخرى مثل تفسير العياشي وتفسير فرات الكوفي(3)وتفسير نور الثقلين أيضاً بذكر بعض الروايات في ذيل الآيات القرآنية، وإن كان من المتعذر القطع بأنَّ مؤلِّفي هذه التفاسير يعتقدون أنَّ التفسير الروائيّ هو المنهج الوحيد الصحيح في التفسير؛ لأنّه ربما كان غرضهم من تصنيف هذه التفاسير جمع الروايات التفسيريّة والاستعانة بها في تفسير الآيات، لكن لا شكّ أنّهم يعتقدون بدور كبير للروايات في تفسير القرآن ويعتبرون التفسير الروائيّ من أفضل المناهج التفسيريّة.
وهناك طائفةٌ أُخرى من مفسِّري الشيعة علاوة على اعتقادهم بصحَّة الاجتهاد في تفسير القرآن من خلال الرجوع إلى غير الروايات كاللغة وأشعار العرب وغيرها في توضيح معاني الآيات فاستعانوا بغير الروايات في تفسيرهم للقرآن. إلا أنَّهم عند توضيح الآيات القرآنيّة وبيان المراد منها، استفادوا من الروايات التفسيريّة أكثر من أيِّ مصدرٍ آخر، وكان منهجهم الرائج هو التفسير الروائي، ولهذا يمكن تسمية هذا المنهج بـ (التفسير الاجتهادي ـ الروائي، أو الروائي ـ الاجتهادي). ومن
________________________________________
(2)ـ البحراني، سيد هاشم، البرهان في تفسير القرآن، 1 : 10، بيروت، دار الهادي، 1412 هـ .
(3)ـ لا شكّ في تشيّع فرات الكوفي، لكن ثمة كلام في كونه إمامياً؛ وقد احتمل محقّق تفسير فرات أو ظنّ بملاحظة بعض عبارات هذا التفسير أنّه زيديّ ولهذا قال : «وربما كان من الناحية الفكرية والعقائدية زيدياً أو كان متعاطفاً معهم ومخالطاً إياهم ومتمايلاً اليهم ... » (تفسير فرات الكوفي، 11، طهران، 1410 هـ) لكن يمكن العثور على بعض الشواهد الدالة على كونه إثني عشرياً أيضاً من قبيل: أ ـ جاء في خطبة التفسير : «صلى الله عليه وعلى أهل بيته أوّلهم المرتضى أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام الذي هو لمدينة علمه (علم نبيه) الباب وآخرهم المهدي (بلا ارتياب) وعلى السبطين السيدين السندين الإمامين الهمامين الحسن والحسين وعلى الأئمة الأبرار الأخيار ... » (نفس المصدر : 45 ).ب ـ وجاء في تفسيره لرواية وردت عن رسول الله (ص) : «أُسري بي إلى السماء قال لي العزيز ... يا محمّد تحبُّ أن تراهم؟ قلت: نعم، يا رب. قال: التفت عن يمين العرش فالتفت فإذا أنا بالأشباح (بأشباح) علي وفاطمة والحسن والحسين والأئمّة كلهم حتى بلغ المهدي صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين...» (نفس المصدر: 74). جـ ـ تلاحظ في هذا التفسير روايات عن الإمامين الباقر والصادق (عليهما السلام) مضمونها أنّ «أصحاب اليمين: هم شيعتنا أهل البيت» و«إن الله خلقنا من نوره وخلق شيعتنا منّا » (راجع: المصدر نفسه: 513 ـ 514 و529 الأحاديث 671 ـ 672 و681). د ـ روى في ذيل آية أولي الأمر (النساء: 59) عن الإمام الباقر (ع)أنّه [سئل عن الآية قال أولي الفقه والعلم، قلنا: أخاص أم عام] قال: «بل خاص لنا» (المصدر نفسه : 108). [هذه الرواية في المصدر مردّدة في النسخ عن الصادقين (عليهما السلام) ولكن الرواية التي بعدها عن الباقر (ع): أولي الأمر في هذه الآية هم آل محمد (عليهم السلام)]. هـ ـ يُلحظ وجود فرات في أسانيد بعض الروايات التي أوردها الصدوق، والتي أشارت إلى أنّ للنبي (ص) إثني عشر وصيّاً (علل الشرائع: 5). و ـ توجد روايات في تفسير القمّي عن فرات (راجع: تفسير القمي 2 :232، تفسير سورة (ق) وص 437 تفسير سورة المطففين) ونظراً لقول القمِّي في مقدِّمة تفسيره: «نحن ذاكرون ومخبرون بما ينتهي إلينا ورواه مشايخنا وثقاتنا» (المصدر نفسه 1 : 30) يتَّضح أنَّه شيعة وثقة في رأي المؤلِّف (القمّي). زـ عدّ صاحب أعيان الشيعة فرات من مفسّري الشيعة (راجع: أعيان الشيعة، 1 : 126) وقد ذكرنا تفسير فرات في هذه المقالة في تعداد تفاسير الشيعة بناء على احتمال أنّه شيعيٌّ إثنا عشري.
[الصفحة - 237]
التفاسير التي اتبع مؤلِّفوها هذا المنهج في تفسير القرآن، تفسير القمي؛ لأنّه وإن كان القسم الأعظم من محتوى تفسيره هو الروايات، إلا أنّ مؤلِّفه اجتهد واستند إلى الآيات القرآنية والأشعار العربيّة أيضاً.(4)
والشخصيّة الأخرى من بين مفسّري الشيعة الذي انتهج أيضاً هذا الأسلوب هو المولى محسن المعروف بالفيض الكاشاني في تفسيره الصافي. وتحتلّ الروايات المساحة الأكبر في هذا التفسير، لكنّه استند في بيان معاني المفردات، إلى المصادر اللغويّة كما استند أيضاً إلى آيات القرآن لرفع الإبهام عن بعض الآيات وقد صرّح بنفسه في مقدِّمة تفسيره بأنّه يأتي بشاهد من محكمات القرآن لتوضيح الآيات الكريمة، فإن لم يجد آية رجع إلى الروايات.(5)
وكذلك سار محمد المشهدي على هذا المنهج في كنز الدقائق. فإنّه يوضح المعنى اللغويّ للمفردات والنكات اللغوية في العبارة، ثمَّ يستعين بالروايات لتوضيح المقصود من الآيات القرآنيّة. والطائفة الأخرى من المفسِّرين الشيعة أمثال الشيخ الطوسي وأمين الإسلام الطبرسي، وإن تناولوا الآيات بمنهجٍ اجتهاديٍّ جامع الى حدٍّ ما في التفسير، إلا أنّ إحدى الدعامات الأساس في تفسيرهم هي الروايات، ويظهر التفسير الروائيّ للقرآن عندهم بوضوح. ويمكن تسمية منهج هذه الفئة من المفسِّرين بالنسبة إلى التفسير الروائي (التفسير الروائيّ الضمنيّ)؛ لأنّهم يضمِّنون منهجهم الاجتهاديّ الجامع تقريباً تفسيراً روائياً.
والبعض الآخر من مفسّري الشيعة كالعلامة الطباطبائي، في تفسيره (الميزان) وفي مقابل الرأي الذي يعتقد بالتفسير الروائيّ الخالص، لا يرى أنّ تفسير القرآن متوقّف على الروايات، وأنّ التفسير ممكن بدونها أيضاً، ويعتقد أنّ دور الروايات في التفسير هو تسهيل فهم معاني القرآن ومقاصده، وتفصيل الكليّات والمجملات.(6)ولهذا السبب فقد كان اعتماده على الروايات في التفسير محدوداً. لكنّه، مع ذلك، اهتمّ بالروايات التفسيريّة ووضعها على مشرحة البحث والتحليل،
________________________________________
(4)ـ راجع: تفسير علي بن إبراهيم القمي، 1 : 59 ـ 61 و63؛ 2: 355 و399 ذيل الآيات 3 و8 ـ 25 ؛ البقرة، 44؛ الرحمن، 24 ؛ القلم، 13، (بيروت، دار السرور، 1411 هـ).
(5)ـ الفيض الكاشاني، محسن، الصافي، 1: 75، بيروت، مؤسسة الأعلمي، 1402 هـ .
(6)ـ الطباطبائي، محمد حسين، الميزان في تفسير القرآن 1: 6 و8 ـ 9 و11 : 3 ، 43، 77، قم، منشورات جامعة المدرسين، بلا تاريخ.
[الصفحة - 238]
ونحن نطلق على هذا المنهج عنوان (دراسة وتحليل الروايات التفسيريّة). وعليه يمكن القول إنّ هناك أربعة مناهج من التفسير الروائي عند الشيعة هي كالآتي:
1ـ التفسير الروائي الخالص.
2ـ التفسير الاجتهاديّ ـ الروائيّ.
3ـ التفسير الروائي الضمنيّ.
4ـ دراسة وتحليل الروايات التفسيرية.
ولهذه المناهج الأربعة مزايا مشتركة مقارنةً بالتفسير الروائيّ عند أهل السنّة وفي كلٍّ منها تبدو بعض الإخفاقات أيضاً. سنتعرّض إلى خصائصها المشتركة ونواقص كلٍّ منها على حدة:
2ـ مزايا التفسير الروائيِّ عند الشيعة
التفسير الروائي منهج رائجٌ بين مفسِّري الشيعة والسنّة، ويندر أن نجد مفسِّراً لم يستفد من هذا المنهج على الإطلاق. إلا أنّ استعماله بين الفرق الإسلاميّة وحتَّى بين مفسِّري الفرقة الواحدة كان متفاوتاً. ومن الاختلافات الأساس بين التفسير الروائيِّ الشيعيِّ والتفسير الروائيِّ السنّي، بالإضافة إلى الاعتماد على الروايات التفسيريّة المنقولة عن رسول الله (ص) عند الشيعة والسنّة، فإنَّ الشيعة يعتمدون كثيراً على الروايات المنقولة عن أهل البيت (الأئمة المعصومين (عليهم السلام) بينما يعتمد أهل السنّة في الغالب على آراء الصحابة والتابعين، ويندر استنادهم إلى روايات أهل بيت النبي (ص)، ولهذا فإنَّ جزءاً كبيراً من التفاسير الروائيّة لأهل السنّة يتمثّل بآراء الصحابة والتابعين ويندر أن تجد فيها روايةً عن أهل البيت(عليهم السلام)، وفي المقابل تجد أنَّ محتوى التفاسير الروائيّة للشيعة يعتمد على الروايات المنقولة عن رسول الله (ص) وأهل بيته (عليهم السلام) ويندر أنّ تجد فيها آراء غيرهم من الصحابة والتابعين وأمثالهم.
________________________________________
[الصفحة - 239]
وقد ثبَت في المصنّفات الكلاميّة والعقيديّة وفي المذاهب التفسيريّة أنَّ أهل بيت النبي (ص) هم المفسِّرون العارفون بمعاني كتاب الله الظاهريّة والباطنيّة والمعصومون من الخطأ، وقد ورثوا عن رسول الله (ص) تفسير ما يَحتاج إلى توضيح وتفسير من معاني القرآن.(7)ولهذا فكلُّ ما بيَّنوه من معاني القرآن هو بمنزلة بيان رسول الله(ص)، وهو حقٌ ومطابقٌ للواقع والمعنى الذي أراده الله تعالى في كلامه المجيد. أمَّا آراء الصحابة والتابعين فهي كآراء سائر المفسِّرين تحتمل الخطأ والمناقشة(8)، ونظراً إلى ذلك يتَّضح أنّ التفاوت المذكور من المزايا البارزة للتفسير الروائيّ عند الشيعة مقارنةً بالتفسير الروائيّ عند السنّة؛ لأنّه وطبقاً لما تقدّم، فإنًّ قسماً كبيراً ممّا جُمع في تفاسير أهل السنّة بعنوان الروايات التفسيريّة هو في الحقيقة آراء بشريّة ويختلف جوهرياً عن التفسير الوارد عن رسول الله (ص) وحتّى لو سلّمنا بصحّة سندها أو حصل لنا الاطمئنان بصدورها عن الصحابة والتابعين من خلال القرائن المتوفرة، فلا يمكن الاعتماد عليها كمعارف وحيانيّة (منزَلة) وإنَّما تبقى آراء يمكن مناقشتها ونقدها، بخلاف ما يرد في تفاسير الشيعة عن أهل بيت النبي (ص) فإنّه ـ إذا صحّ سنده أو حصل الاطمئنان إلى صدوره ـ كان جديراً بالاعتماد عليه كروايات رسول الله (ص).
وأمّا في ما يرتبط بالإخفاقات فحيث كانت إحدى مهام النبي (ص) وأوصيائه المعصومين (عليهم السلام) تبيين الكتاب الكريم، وكانت الروايات التفسيريّة المنقولة عن هؤلاء المعصومين (عليهم السلام) أحد المصادر المعتبرة للتفسير، وأكثر الطرق وثاقةً في الوصول الى جزءٍ كبيرٍ من معاني القرآن، فلا شكّ أنَّ التفسير الروائيّ واحدٌ من أفضل المناهج التفسيريَّة ويُمكن القول إنَّه من المناهج الضروريَّة في التفسير؛ لأنَّ فهم بعض معاني القرآن لا يتحقّق بغير هذا الطريق. وبناء على ذلك فلا شكّ في ضرورة التفسير الروائيّ أو في حسنهِ على أقلِّ تقدير. لكن الكلام في كيفيّة الاستفادة من هذا المنهج. ولهذا سنتناول المناهج الأربعة للتفسير الروائيِّ
________________________________________
(7)ـ بابائي،علي أكبر، مكاتب تفسيري (المذاهب التفسيريّة): 64 ـ 78، ط: قم مركز أبحاث الحوزة والجامعة وطهران (سمت)، 1381 هـ ش.
(8)ـ المصدر نفسه، 180ـ 188 .
[الصفحة - 240]
عند الشيعة بالتحليل لكي تتَّضح إخفاقات ونواقص كلِّ واحدٍ من هذه المناهج ثمَّ العمل بالمنهج الذي سَلِم منها.
ألف ـ التفسير الروائيِّ الخالص
يستند هذا المنهج في التفسير إلى نظريّة الذين يعتقدون بأنّ القرآن لا يمكن تفسيره بغير الروايات، وهذه النظرة، وإن وجد من يدافع عنها من السنّة والشيعة(9)داعماً رأيه هذا ببعض الآيات القرآنيّة والروايات أيضاً(10)، ولكن لا أحد يدافع عن هذا الرأي في العصر الراهن، وقد نوقشت أدلّتهم أيضاً واتّضح عدم دلالتها على هذه النظريّة.(11)
ولهذا يمكن القول إنّ هذا المنهج لا يقوم على أُسس متينة والذين دوّنوا تفاسيرهم معتمدين هذا المنهج أمثال العياشي، فرات الكوفي، السيد هاشم البحراني، وعبد علي بن جمعة الحويزي الذين صنَّفوا (بالترتيب): تفسير العياشي، تفسير فرات الكوفي، والبرهان في تفسير القرآن ونور الثقلين، إذا كانوا يبنون على الاكتفاء بما في الروايات في فهم القرآن وتفسيره، وعلى عدم إمكان فهم شيءٍ من القرآن أو البحث عن تفسيره أكثر ممَّا في الروايات، فهذه النظريّة وهذا المنهج التفسيريّ لا يمكن القبول بهما. أمَّا إذا كان غرضهم جمع الروايات وتوفير مصدر روائيّ للتفسير، كما يُستفاد من كلام الحويزيّ في مقدِّمة نور الثقلين(12)فإنَّ مشروعهم هذا يكون مقبولاً ومفيداً بلا اعتراض؛ لأنَّهم لم يكونوا بصدد التفسير حصراً، ولكن هناك نواقص من حيث جمع الروايات التفسيريّة نُشير إلى بعضها:
أولاً:عدم الشموليَّة: إنَّ عدم الشموليّة واضح في تفسيرَي العياشي وتفسير فرات الكوفي، إلا أنّ تفسيرَي البرهان ونور الثقلين اللذين يعدّان من الجوامع التفسيريّة، وتصدّى مؤلِّفاهما لجمع الروايات التفسيريّة فقد جمعا فيهما رواياتٍ كثيرة، ولكن شموليتهما لا تبلغ حداً يغني عن الرجوع إلى الكتب التفسيريّة
________________________________________
(9)ـ يقول الراغب: وقد تشدَّد بعضهم في ذلك وقالوا لا يجوز لأيِّ شخصٍ وإن كان عالماً أديباً ومتبَحِّراً في معرفة الأدلّة والفقه ونحو الأخبار والآثار أن يفسِّر شيئاً من القرآن، وإنَّما ينتهي للعارف بروايات الرسول (ص) والصحابة الذين شهدوا نزول الآيات والتابعين الذين تعلموا منهم. (الراغب، جامع التفاسير : 93، الكويت، دارالدعوة، 1405 هـ ) (النقل بالمضمون). وقال الشيخ الطوسي (رحمه الله) أيضاً: «واعلم أنّ الرواية ظاهرةٌ في أخبار أصحابنا بأنَّ تفسير القرآن لا يجوز إلا بالأثر الصحيح عن النبي(ص) وعن الأئمة (عليهم السلام) الذين قولهم حجة كقول النبي(ص)» (الطوسي، محمد بن الحسن، التبيان في تفسير القرآن، 1 : 4، بيروت، دار إحياء التراث العربي، بلا تاريخ).
(10)ـ الحرّ العاملي، محمد بن الحسن، الفوائد الطوسية : 63 195، 1403 ق، قم المطبعة العلمية؛ المؤلف نفسه المؤلف، وسائل الشيعة 18 : 129،طهران، المكتبة الإسلامية، 1367 هـ ش .
(11)ـ بابائي، مكاتب تفسيري: 1، 274 310 .
(12)ـ الحويزي، عبد علي بن جمعة، نور الثقلين ، 1 : 2، قم، مؤسسة اسماعيليان، 1412 هـ .
[الصفحة - 241]
الأخرى للاطلاع على الروايات التفسيرية. وكشاهد على ذلك، فقد نقل في تفسير نور الثقلين روايات عن سبعة عشر كتاباً(13)لم ينقل منها رواية واحدة في تفسير البرهان، ووردت روايات في تفسير نور الثقلين لم ترد في تفسير البرهان.
فقد جمع في تفسير نور الثقلين تسعين رواية حول سورة التوحيد، وما يقرب من أربع وأربعين رواية منها في بيان فضيلة سورة التوحيد وخواصِّها وقراءتها وما يقرب من ست وأربعين رواية حول معنى وتفسير تلك السورة، بينما كان مجموع الروايات التي وردت حول هذه السورة في تفسير البرهان ثلاثاً وأربعين رواية، ثمان وعشرون منها في فضيلة السورة وخواصِّها وخمس عشرة رواية في معناها وتفسيرها. وفي ما يرجع إلى سورة الحمد أيضاً فقد وردت مائة وأربع عشرة رواية في تفسير نور الثقلين، بينما أورد صاحب تفسير البرهان أربعاً وثمانين رواية (أربع وثلاثون رواية في ثواب فضيلة فاتحة الكتاب والبسملة واثنتا عشرة رواية في تفسير آية البسملة، وأربعون رواية في تفسير سائر آيات سورة الحمد).
ونُقل في تفسير فرات روايات أيضاً لم ترد في تفسير البرهان، وكنموذجٍ على ذلك، فقد جاء في ذيل الآيتين 25 و26 من سورة البقرة، روايتان عن الإمام الباقر (ع)ولم ترد أيٌّ من الروايتين في تفسير البرهان في ذيل هاتين الآيتين. وكذلك لم يحتوِ نور الثقلين على كافّة الروايات التفسيريّة، فالروايات التفسيريَّة الموجودة في البرهان وحتَّى في تفسير فرات، لم ترد في تفسير نور الثقلين.(14)وقد رُوى في تفسير البرهان عن ما يقرب من ثلاثين كتاباً، لم يُرو في تفسير نور الثقلين عن تلك الكتب.
ثانياً:ذكر الاسرائيليَّات والأخبار غير الصحيحة أو التي لا تخلو من ملاحظات: مثل الروايات التي تتحدَّث عن هبوط هاروت وماروت إلى الأرض وابتلائهما بشرب الخمر والشرك والقتل والزنا وتعذبيهما في الهواء ومسخ المرأة
________________________________________
(13)ـ وهي الكتب الآتية: 1ـ اعتقادات الإماميّة للصدوق (راجع: الحويزي، عبد علي، نور الثقلين ، 3: 190؛ 4: 71؛ 2 ـ كتاب الاستغاثة، لعليّ بن أحمد الكوفي (راجع: المصدر السابق 4: 169) 3 ـ كتاب الإهليلجة المنسوب الى الإمام الصادق (ع)(راجع: المصدر السابق 1: 14 ؛ 4: 195) 4 ـ تفسير الثعلبي (راجع: المصدر السابق 2: 157)؛ 5 ـ مقتل الحسين (ع)لأبي مخنف (راجع: المصدر السابق 2: 160)؛ 6ـ تلخيص الأقوال في أحوال الرجال (المصدر السابق 4: 71)؛ 7 ـ كتاب الرجال للكشي (المصدر السابق 4: 33)؛ 8 ـ طب الأئمة (عليهم السلام) (المصدر السابق 4: 128)؛ 9ـ غوالي اللئالئ (المصدر السابق 2: 97) 10ـ كتاب الغيبة للطوسي (المصدر السابق 1: 80)؛ 11ـ كشف المحجّة لابن طاووس (المصدر السابق 1: 378) 12ـ مصابح الكفعمي (المصدر السابق 2: 2)؛ 13ـ نهج البلاغة (المصدر السابق 1: 13، 42، 48، 62، 119 / 2: 3، 10)؛ 14ـ مهج الدعوات (المصدر السابق 1: 8)؛ 15ـ مصباح الزائر لابن طاووس (المصدر السابق 4: 421).
(14)ـ فعلى سبيل المثال: وردت في تفسير البرهان ذيل الآيات 15 ـ 17 من سورة آل عمران عشر روايات بينما ذكرت ست روايات في نور الثقلين، وأيضاً في ذيل الآية الثانية من سورة النساء وردت خمس روايات بينما ذكرت روايتان في نور الثقلين، وجاءت روايتان في تفسير فرات ذيل الآية 25 من سورة البقرة لم ينقل أي منهما في نور الثقلين. وجاءت أيضاً روايتان في ذيل الآية 26 من السورة نفسها في تفسير فرات (تفسير فرات الكوفي : 54) لم تذكرا في نور الثقلين.
[الصفحة - 242]
التي ابتلي بها هاروت وماروت الى نجمة الزهرة، والرواية المتضمِّنة لحلّ سراويل النبي يوسف (ع)الواردة في تفسير العياشي(15)، وخبر أنّ النبي (ص) قد سُحِر، والحديث الذي يحكي عن أنّ الأرض على حوت، والحوت على ظهر ثور، والثور على صخرة، والروايات المشعِرَة بحذف كلمةٍ من بعض الآيات، فتلك نماذج من الروايات التي وجدت طريقها إلى تفسير فرات الكوفي(16). والروايات التي لا تتناسب مع عصمة الأنبياء والأوصياء ومقامهم، والروايات الدالّة على القراءات الشاذة ونسخ التلاوة ونوع من التحريف (فقدان آية أو تغيير حرف أو كلمة) الوارد في تفسير البرهان(17)ونور الثقلين(18).
ثالثاً:حذف السند وتقطيع المتن: وهذا مورد آخر من إخفاقات هذه التفاسير. وهذه الملاحظة لا ترد على تفسير البرهان(19)، لكنَّ جميع روايات تفسير العياشي والقسم الأعظم من روايات تفسير فرات وعدداً كبيراً من روايات نور الثقلين تواجه مشكلة الإرسال وحذف السند والذي أدَّى إلى ضعف اعتبارها، كما أنّ قسماً من روايات نور الثقلين تعترضه مشكلة تقطيع المتن، والذي يلزم الباحث الرجوع إلى المصدر الأصلي لاحتمال تأثير السياق في مفاد الرواية.
رابعاً:عدم تصنيف الروايات وإيرادها مجتمعةً سواء أكانت ناظرةً إلى الظاهر أو الباطن، وسواء أكانت تفسيراً أو تأويلاً، وسواء أتحدّثت عن المفهوم أو المصداق أو القراءة أو ثواب القراءة وغيرها، فهذا نقصٌ آخر في هذا النوع من التفاسير.
ب: التفسير الاجتهادي ـ الروائي
يعتمد هذا المنهج الاجتهاد في العمل التفسيريّ ويسعى إلى فهم الآيات الكريمة من خلال التدبّر في السياق والاستمداد بالآيات الأخرى والاستشهاد بأشعار العرب والقواعد اللغويّة والقضايا التاريخية وأمثالها، وهو بهذا يمتاز من التفسير الروائيِّ الخالص، إلا أنَّه يواجه إخفاقاً من جهتين:
________________________________________
(15)ـ العياشي، مصدر سابق 1: 53 ـ 55، الحديث 75 و 76؛ 2: 173، الحديث 17.
(16)ـ الكوفي، مصدر سابق:619ـ621، الأحاديث 774 و 775؛ 495، الحديث 649، 78، الحديث 52.
(17)ـ البحراني، مصدر سابق 2: 376.
(18)ـ الحويزي، مصدر سابق 2: 419 ـ 421، الأحاديث 43، 45،46، 47، 52 ؛ 1: 115 الحديث 312.
(19)ـ للاطلاع على نماذج من حذف السند في تفسير نور الثقلين، راجع 2 : 15 ـ 16 الأحاديث 45، 48 و239، الأحاديث 227 و 228.
[الصفحة - 243]
فجهةٌ من حيث إنّ هذا المنهج لا يعطي الأهميّة الكافيَة للأدلّة غير الروائيّة ولا يستفيد منها الاستفادة الممكنة، فمثلاً في تفسير قوله تعالى {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} (الفاتحة، 6) تشكّل الآيات التالية أقوى الأدلّة لبيان معنى الصراط المستقيم: {وَأَنْ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ} (يس، 61)، و{إِنَّ اللّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَـذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ} (آل عمران، 51)، إلا أنّ الفيض الكاشاني وعلى الرغم من أنّه وعد في مقدِّمة تفسيره، بأن يأتي بالشاهد القرآني مع وجود ما يدلّ منه على المراد، في الحالات التي يحتاج التفسير إلى سماع من المعصوم(20)، لكنّه في تفسير (الصراط المستقيم) لم يستند إلى الآيتين المذكورتين، واتّجه للروايات فقط(21)، وكذلك الحال في تفسير القمي(22).
ومن جهةٍ أخرى نلحظ الاعتماد على الروايات دون بحث سندها أو دلالتها، أو البحث عن عدم وجود المعارض لها وغير ذلك من الأمور المهمة في تفسير الآيات. إذ لا بد أولاً من أن يُبحث في كلِّ رواية، عن اعتبار سندها من عدمه؛ وإذا لم يكن لها سند معتبر فيُبحث عن القرائن الدالّة على الاطمئنان بصحة صدورها؛ إذ لا يصحّ الاعتماد على روايةٍ ليس لها سند معتبر، وليست محفوفة بقرائن قطعيّة، أي، كما يُصطلح، لا تتوافر على وثوق مخبريّ ولا وثوق خبريّ. كما لا بدّ ثانياً، من أن تُدرَس دلالتها مع أخذ القرائن المتّصلة والمنفصلة بنظر الاعتبار، لكي تتضح أبعاد دلالتها. ولا بدّ ثالثاً، من دراستها من حيث عدم مخالفتها للقرآن والبرهان العقليّ والضروريات الدينيّة وعدم معارضتها لروايةٍ معتبرة؛ لأن الروايات المعارِضة لأحد الأمور المذكورة، بحيث تكون مخالفةً لها على نحو لا يمكن الجمع العرفي بينهما، يُسقط اعتبارها، ولا يمكن الاعتماد عليها في التفسير. وعلى سبيل المثال، نشير الى رواية عن الامام الصادق (ع)تقول إنّ {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنعَمتَ عَلَيهِمْ غَيرِ المَغضُوبِ عَلَيهِمْ} تُقرأ: «صراط من أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم» فهذه الرواية حتّى لو كان سندها صحيحاً أيضاً، لا يُمكن
________________________________________
(20)ـ الفيض الكاشاني، الصافي 1 : 75 .
(21)ـ المصدر نفسه : 84 ـ 86 .
(22)ـ القمي 1 : 57 58 .
[الصفحة - 244]
الالتزام بظاهرها وتجويز تلك القراءة؛ لإعراض المسلمين سنةً وشيعةً عن مفادها، فتكون غير مشمولةٍ لأدلّة الاعتبار من سيرة العقلاء وغيرها أو على الأقل يُشكُّ في شمول تلك الأدلّة لها. كذلك الرواية التي نقلت قصة النبيّ داود (ع)مع زوجة أوريا، فلا يصحّ الاعتماد عليها وإن كان سندها صحيحاً؛ لأنّه أولاً: يتنافى مفادها مع الأدلَّة العقليّة والنقليّة الدالَّة على عصمة الأنبياء ؛ وثانياً: فقد كُذّب مضمونها بشدّة في رواياتٍ أُخرى، لكنّ هاتين الروايتين وردتا في تفسير القمي بدون تمحيص(23). وكذلك ينقل الفيض الكاشاني في ذيل الآية {آلآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ} (يونس، 91) رواية تقول إنّ فرعون عندما قال عند الغرق {آمَنتُ أَنَّهُ لا إِلِـهَ إِلاَّ الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ...}(يونس، 90)أخذ جبرئيل طيناً ووضعه في فمه بدون أمر من الله تعالى وقال: {آلآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ ...} .(24)وهذه الرواية تعارض الآية الشريفة: {لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُم بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ} (الأنبياء، 27) ولا تنسجم أيضاً مع ظاهر الآية {آلآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ...} ؛ لأنَّ ظاهر الآية أنَّ الجواب من الله تعالى لفرعون، وعلى الرغم مما ورد في الرواية من أنّ جبرائيل قال ذلك بدون وحي من الله تعالى، ولكن الكاشاني لم يقف عند ذلك ولم يبين له وجهاً مقبولاً. وفي المواضع التي لا توجد رواية عن الشيعة يعتمد الكاشاني على روايات أهل السنّة.(25)وهذا إخفاق آخر في منهجه التفسيريّ كما يبدو؛ لأنّ رواياتهم عن النبي(ص) أو الأئمّة لا سند معتبراً لها، ولا يصح الاعتماد على مثل تلك الرواية وإن لم تكن عن طريق الشيعة أيضاً.
ج ـ التفسير الروائيّ ـ الضمنيّ
تقدَّم أنّ طائفةً من مفسِّري الشيعة، وضمن تفسيرهم الاجتهاديّ الجامع نسبيّاً، تعرَّضوا للتفسير الروائيّ أيضاً، أي إنّهم استعانوا بالروايات في تفسير وتوضيح معاني الآيات. والمقصود بالتفسير الروائيّ الضمنيّ منهج تلك الطائفة من المفسّرين في الاستفادة من الروايات التفسيريّة. وفي هذا المنهج ونظراً لاستفادتهم
________________________________________
(23)ـ القمي، مصدر سابق 1: 58 / 2: 232 ـ 235.
(24)ـ الكاشاني، مصدر سابق 2: 416.
(25)ـ الكاشاني، مصدر سابق 1: 75 .
[الصفحة - 245]
من الروايات في تفسير القرآن ضمن اجتهادٍ جامعٍ في تفسير الآيات، ينتفي النقص الأوَّل المذكور في المنهج السابق (التفسير الاجتهاديّ الروائيّ)؛ لأنَّ هذا المنهج التفسيريّ يهتمّ بالأدلَّة الأُخرى غير الروائيَّة. ويَظهر الإخفاق الثاني فيه بدرجةٍ أقلّ أيضاً وتمَّ اجتنابه في بعض الحالات؛ وعلى سبيل المثال، فقد رُفض خبر (حلّ السراويل) من النبيّ يوسف (ع)بشكلٍ قاطع في تفسير التبيان للشيخ الطوسي، وتفسير أبي الفتوح الرازيّ، ومجمع البيان للطبرسيّ؛ وذكره الشيخ الطوسيّ بتعبير (ما قاله الجهّال) وبيّن مخالفته لصفات النبي يوسف (ع)التي وردت في القرآن.(26)وذكر أبو الفتوح الرازي هذا الخبر بقوله «أمَّا أصحاب الحديث والحشوية فقالوا...» وبيّن عدم انسجامه مع عصمة الأنبياء بالأدلّة العقليّة والنقليّة(27). واستعمل الطبرسيّ عبارة: «ما لا يجوز نسبته إلى الأنبياء» في تعليقه على هذا الخبر وتحدّث عن مخالفته لتنزيه الله تعالى للنبيّ يوسف (ع)(28). وقال الطبرسي عن خبر قصة النبي داود (ع)مع زوجة أوريا : «لا شبهة في فساده»(29). واعتبر الشيخ الطوسيّ هذا الخبر من الموضوعات(30). ومع ذلك يبدو أنَّ استعانة هذا المنهج بالروايات في تفسير القرآن لا تخلو من نقص، فقد ذُكرت الروايات في أكثر المواضع بدون سند، وحتَّى لم يُشَر إلى مصدرها. ولم يُفرَّق بين روايات الشيعة والسنّة، وروايات أهل البيت (عليهم السلام) عن آراء الصحابة والتابعين، ولم يُعتنَ بأسناد الروايات وميزان اعتبارها، ولم يبحث في دلالة الروايات والجمع بين الروايات المتعارضة في الظاهر بالمقدار الكافي، ولم يلجأ هؤلاء إلى الروايات بالحد الممكن، والتفاسير التي كُتبت بهذا الأسلوب تفتقر أيضاً إلى الشموليَّة في تتبّع الروايات.
د ـ منهج تحليل الرواية بنحوٍ مستقلٍّ عن التفسير:
قام العلامة السيّد محمد حسين الطباطبائي، وهو أحد مفسّري الشيعة البارزين في القرن الرابع عشر الهجريّ، بتفسير القرآن بأسلوب جديد، ورفد الفكر
________________________________________
(26)ـ الطوسي، التبيان 6: 123 .
(27)ـ الرازي، أبو الفتوح الحسين بن علي، روض الجنان وروح الجنان في تفسير القرآن 11: 47 48، مشهد مجمع البحوث الإسلامية، 1381.
(28)ـ الطبرسي، مجمع البيان 3: الملزمة 5، 344، بيروت، دار المعرفة، 1408 هـ .
(29)ـ المصدر السابق 4 : الملزمة 8، 236 .
(30)ـ الطوسي، مصدر سابق 8 : 554 .
[الصفحة - 246]
الإسلاميّ بتفسيره القيّم (الميزان في تفسير القرآن) وقد تناول العلامة الطباطبائي الروايات التفسيريّة بأسلوبٍ خاص، والعنوان المذكور للبحث يشير إلى منهجه التفسيريّ في تناوله للروايات. ولمَّا كان يتبنى القول بعدم توقّف التفسير على الروايات، ويرى إمكان فهم معاني القرآن ومقاصده بدون الاستعانة بالروايات(31)، ولم يستند إلى الروايات إلا في موارد معدودة، لكنَّه بعد تفسيره لآية أو لمجموعةٍ من الآيات يستأنف بحثاً تحت عنوان (بحث روائيّ) ويأتي بالروايات التفسيريّة من مصادر الشيعة والسنّة ويضعها على مشرحة التحليل والنقد. وغالباً ما يحذف(32)سند الروايات، وأحياناً يقطع النصّ أيضاً. وإذا كان هناك إبهام في معنى الرواية أو تعارض ظاهريّ مع روايات أُخرى يُشير إليه ويعمل على رفعه(33). ويوضح معنى الروايات أحياناً بالاستعانة بالآيات القرآنيّة(34)وتارةً يحلّل ويناقش المعنى الذي ذكره آخرون للرواية(35).
وذكر في تفسيره بعض الروايات المأوَّلة بالأئمّة المعصومين (عليهم السلام) أو أعدائهم وذكر أنّها من قبيل (الجري) والتطبيق على المصداق(36). وفي بعض الموارد ذكر بعض الروايات الدالّة على المعاني الباطنيّة للآيات. وصرّح في أوَّل موضع ذكر فيه روايات الجري: أنّ هكذا روايات كثيرة وأنّه لا يأتي بأكثرها لأنّها خارجة عن غرض الكتاب، وإنَّما يذكر بعضها في المورد الذي يتعلَّق به غرض البحث(37).
ولا يختص (الجري) و(الباطن) عنده بهذه الطائفة من الروايات، بل يعمّم ذلك على تلك الروايات التي أُوِّلت بالأئمّة أو أعدائهم أيضاً، من قبيل الجري، وفي بعض المواضع من المعاني الباطنيّة للقرآن.
ومن الأمثلة على ذلك، الرواية التي فسّرت (الصبر) في الآية {وَاسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ} (البقرة، 45) بالصيام من قبيل الجري(38)وفي الرواية التي فسّرت (المعاد) بالرجعة في الآية {إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ} (القصص، 85) قال: ربما كان هذا باطن الآية لا تفسيراً له(39). وفي دراسته
________________________________________
(31)ـ الطباطبائي، مصدر سابق 1: 6 و8 9 و 11/ 3 : 43 و77. [هكذا، ولم أقف على تصريح له] (المترجم)
(32)ـ وأحياناً يذكر سند الرواية بتمامه، فمثلاً في البحث الروائي للآيات 1 ـ 6 من سورة المجادلة نقل رواية عن تفسير القمي مع سندها بتمامه. (راجع : المصدر نفسه، 19 : 81).
(33)ـ الطباطبائي، مصدر سابق 1: 150 .
(34)ـ المصدر نفسه : 277 ـ 278 و286 .
(35)ـ المصدر نفسه : 146 و224 .
(36)ـ المصدر نفسه، 1: 41 و46، 334 ـ 335 ؛ 2: 59 ؛ 4: 384ـ 385 ؛ 5 : 333 ؛ 9 :318 ؛ 13: 377 .
(37)ـ المصدر نفسه، 2: 42 . [ربما الأصح 1 : 42 لأن عبارة الطباطبائي في آخر البحث الروائي لسورة الحمد في الجزء الأول ص45 من الطبعة الأولى لدار الأعلمي 1411هـ].
(38)ـ المصدر نفسه، 1 : 153 .
(39)ـ المصدر نفسه، 16 : 95 .
[الصفحة - 247]
لصحَّة الروايات وسقمها يُشير أحياناً إلى صحّة السند أو ضعفه(40)، ولكن نظره في الغالب إلى معنى الروايات ومحتواها ومطابقتها أو عدم مطابقتها لظاهر سياق الآيات. وبعد نقل الروايات، يجعلها مؤيِّدةً لبيانه وتفسيره للآيات الكريمة. ويقول أحياناً : هذه الروايات مطابقةٌ لما ذكرناه في بيان كلام الله أو استفدناه من الآيات الشريفة(41). وفي كثيرٍ من الحالات ذكر روايات لا تنسجم مع ظاهر الآيات أو السياق واعتبرها غير مقبولة(42). وحيث كان يرى عدم حجيّة خبر الواحد صحيح السند في غير الأحكام، فإنَّه يحاكم الرواية غير المتواترة، والرواية التي لا توجد قرائن قطعيّة على صدورها ـ وإن كان سندها صحيحاً ـ بمعيار الموافقة والمخالفة لظاهر وسياق الآيات والأصول العامّة المستفادة من القرآن، ويرفض الرواية التي يَعتقد مخالفتها للظاهر أو للسياق. وإنَّما يقبل الرواية التي يكون مفاد الآيات منسجماً معها ومؤيِّداً ومؤكِّداً له(43). ولهذا السبب، فقد أورد في البحث الروائي للآيات 1ـ 6 من سورة المجادلة، روايةً بسندٍ صحيحٍ في بيان سبب نزول تلك الآيات عن تفسير القمي، وقال عنها: «الآية بما لها من السياق وخاصّةً ما في آخرها من ذكر العفو والمغفرة، أقرب انطباقاً على ما سيق في هذه الرواية، ولا بأس بها من حيث السند أيضاً، غير أنّها لا تلائم ظاهر ما في الآية من قوله ...»(44).
أمَّا عن الروايات المذكورة في كتب أهل السنّة وبعض كتب الشيعة حول هاروت وماروت ونسبة المعصية إلى هذين الملَكين الإلهيّين، فبعد أن يذكر أنّ السيوطي أورد أكثر من عشرين حديثاً في الدرِّ المنثور بهذا المضمون وصرّح جماعة (من علماء السنّة) بصحَّة بعض هذه الروايات، وفي سندها عدّة من الصحابة، قال: «وهذه قصّةٌ خرافيّةٌ تُنسَب إلى الملائكة المكرَّمين الذين نصَّ القرآن على نزاهة ساحتهم وطهارة وجودهم عن الشرك والمعصية أغلظ الشرك وأقبح المعصية»(45). وأخيراً، اعتبر هذه القصة من الخرافات وهي أشبه بخرافات اليونان حول النجوم؛ لأنَّها لا تنسجم مع تلك الصفات التي ذكرها القرآن للملائكة.
________________________________________
(40)ـ المصدر نفسه، 2 : 378 ؛ 9 : 296 .
(41)ـ المصدر نفسه، 1 : 250 و 409 .
(42)ـ المصدر نفسه، 2 : 438 ؛ 11 : 167 .
(43)ـ قال (رحمه الله) في البحث الروائيّ للآيات 17 ـ 24 من سورة التوبة :«فالذي يهمّ الباحث عن الروايات غير الفقهية أن يبحث عن موافقتها للكتاب فإن وافقتها فهي الملاك لاعتبارها ولو كانت مع ذلك صحيحة السند فإنما هي زينة زينت بها، وإن لم توافق فلا قيمة لها في سوق الاعتبار»، المصدر نفسه، 9: 212.
(44)ـ المصدر نفسه، 19: 181 ـ 182 .
(45)ـ المصدر نفسه، 1: 239 .
[الصفحة - 248]
وأحياناً يؤيِّد الروايات بنقل مطالب من التوراة والإنجيل.(46)وأحياناً أُخرى عند مقارنة محتوى الرواية بما ورد في التوراة، يحكم بوضعها، فمثلاً، لا يرى اعتبار الرواية التي تقول إنَّ الشيطان أغوى آدم وحواء بمساعدة الحيّة والطاووس، ويقول: «وفي بعض الأخبار ذكر الحيَّة والطاووس عونين لإبليس في إغوائه إيَّاهما لكنَّها غير معتبرةٍ، أضربنا عن ذكرها وكأنّها من الأخبار الدخيلة، والقصَّة مأخوذة من التوراة» ثمَّ نقل القصة من التوراة كشاهدٍ على كلامه(47).
وقام بتقسيم الروايات من حيث قبولها وطرحها الى ثلاثة أقسام: طائفة لا بدّ من قبولها، وهي الروايات التي يُقطع بصدورها عن النبي (ص) والأئمَّة المعصومين(عليهم السلام)، وطائفةٌ يجب طرحها جانباً، وهي الروايات المخالفة للكتاب والسنّة القطعية، وطائفةٌ يجب أن لا تُرفض ولا تُقبل، وهي الروايات التي لم يقم دليل عقليّ على امتناعها، ولا تدل السنّة القطعية على منعها. وأشكل على الذين ردّوا هذه الروايات بسبب عدم صحَّة سندها، بأنَّ عدم صحَّة السند لا يوجب الإعراض عن الروايات التي لا تُخالف العقل ولا النقل الصحيح(48). وفي بعض الموارد يَستنبط من الروايات قاعدةً تفسيريّةً، وكنموذج على ذلك في البحث الروائي للآيات 108 ـ 115 من سورة البقرة، فإنّه بعد أن يذكر روايتين (إحداهما عمّن صلى في يوم غيم [في فلاة الأرض] ولا يعرف القبلة حتَّى إذا فرغ من صلاته بدت له الشمس فإذا به صلَّى إلى غير القبلة، فأجابه الإمام (ع)يعيد ما لم يفت الوقت، لأنّ الله تعالى يقول : {فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ الله} (البقرة، 115) والرواية الأخرى التي تقول: «أنزل الله هذه الآية في التطوّع خاصة») بالقول: «إنَّك إذا تصفَّحت أخبار أئمَّة أهل البيت (عليهم السلام) حقَّ التصفح، في موارد العام والخاص والمطلق والمقيَّد من القرآن، وجدتها كثيراً ما تستفيد من العام حكماً ومن الخاص أعني العام مع المخصص، حكماً آخر، فمن العام مثلاً، الاستحباب كما هو الغالب، ومن الخاص الوجوب، وكذلك الحال في الكراهة والحرمة، وعلى هذا القياس،
________________________________________
(46)ـ المصدر نفسه، 5: 357 ـ 359 .
(47)ـ المصدر نفسه، 1 : 140 ـ 142 .
(48)ـ المصدر نفسه، 1 : 293. [عبارة «نه با عقل صحيح» في النص الفارسي خطأ مطبعي، لاحظ الميزان 1: 288 من طبعة الأعلمي الأولى] (المترجم).
[الصفحة - 249]
وهذا أحد أصول مفاتيح التفسير في الأخبار المنقولة عنهم وعليه مدار جمّ غفير من أحاديثم، ومن هنا يُمكنك أن تستخرج منها في المعارف القرآنيَّة قاعدتين:
إحداهما: أنّ كلَّ جملةٍ وحدها وهي مع كلِّ قيدٍ من قيودها تحكي عن حقيقةٍ ثابتةٍ من الحقائق أو حكمٍ ثابتٍ من الأحكام كقوله تعالى: {قُلِ اللّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ} (الأنعام، 91) ففيه معانٍ أربعة: الأوَّل: {قُلِ اللّهُ} ، والثاني: {قُلِ اللّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ} والثالث: {قُلِ اللّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ} ، والرابع: {قُلِ اللّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ} . واعتبِر نظير ذلك في كلِّ ما يُمكن. و(القاعدة) الثانية: أنّ القصتين أو المعنيين إذا اشتركا في جملةٍ أو نحوها ، فهما راجعان إلى مرجعٍ واحدٍ. وهذان سرَّان تحتهما أسرار»(49).
تحليل ومناقشة
إنّ من نقاط القوّة في هذا التفسير، جعلَ الروايات عاملاً مساعداً على فهم معنى الآيات والتسليم بالحاجة إلى الروايات، وتوقف فهم بعض المقاصد عليها، وجعل السنّة قرينة الكتاب في الحجيَّة والاعتقاد بأنّ روايات النبي (ص) والأئمَّة المعصومين (عليهم السلام) حجّةٌ في تفسير الآيات، وعدم حجيّة آراء الصحابة والتابعين وسائر العلماء، وتخطئة الأخذ بالروايات مطلقاً ورفضها مطلقاً(50). وكذلك من نقاط القوة في هذا التفسير اهتمامه بالروايات التفسيريّة ومناقشة صحَّتها وسقمها بملاك المطابقة أو عدم المطابقة مع مفاد الآيات، وتوضيح معاني الروايات والحديث عن رفع تعارضها الظاهريِّ وتعيين كونها تأويلاً أو جرياً أو تطبيقاً، ومقارنتها بما ورد في التوراة والإنجيل والاستنتاج منها وعدم الخلط بين التفسير وبعض الأبحاث الروائيّة الصرفة. ولكن مع ذلك تبدو فيه بعض الملاحظات والإخفاقات بالنسبة إلى الروايات. سنفصّل بعضها نظراً لأهميّتها ونكتفي بالإشارة إلى بعضها الآخر:
________________________________________
(49)ـ المصدر نفسه، 1 : 260 .
(50)ـ المصدر نفسه، 5 : 214، 336 ؛ 12 : 261 ؛ 1 : 240 و293.
[الصفحة - 250]
ألف ـ بالرغم من أنَّ عدم خلط التفسير بالمباحث الروائيَّة الصرفة التي لا تتعلَّق بالتفسير من نقاط قوّة هذا المنهج التفسيريّ، إلا أنّ الإفراط في ذلك حتَّى في تفسير الآيات التي يكون تبيان معناها وانكشاف مرادها منوطين بتبيين النبيّ(ص) والأئمَّة المعصومين (عليهم السلام)، يُعدّ من الإخفاقات؛ لأنه كما ثبت في (منهج تفسير القرآن)(51)من خلال (الأصول العقلائيّة للمحاورة، الدليل القرآني، الدليل الروائيّ) أنَّ الروايات الموثَّقة الواردة عن النبي الأكرم (ص) وأوصيائه الطاهرين(عليهم السلام) في تفسير الآيات، من القرائن المنفصلة للآيات القرآنيّة، وبحسب قاعدة وجوب الرجوع إلى القرائن لا بدّ من الرجوع إلى تلك الروايات في التفسير أيضاً. وما يُفهم من ظاهر الآيات قبل فحص واستقصاء القرائن المنفصلة في الروايات، يمثِّل المراد الاستعماليِّ للآيات، ولا يمكن اعتباره المراد الجديّ للآيات والمقصود الحقيقيّ لله تعالى؛ لأنّه ربما كان في الروايات مخصّص أو مبيّن أو مقيد أو قرينة للآيات يتغيّر الظهور والمعنى بملاحظته(52).
والحقيقة أنَّ المعنى الذي يبيّنه العلامة، بالاستعانة بالآيات الأخرى، غالباً ما يوفِّق بينه وبين الروايات المرتبطة بتلك الآيات، ولا يبعد أن يكون قد استلهم من الروايات فهم المعنى، أي إنّ الروايات توجِّهه إلى معنى الآيات أولاً ثمّ يصل إلى ذلك المعنى بالتدبّر بسياق الآية والاستعانة بالآيات الأخرى، وربما لو لم تكن الرواية لم ينصرف ذهنه إلى ذلك المعنى. ولكن عندما تكون الرواية قرينةً للآيات وللمراد من كلام الله تعالى، فلا مسوِّغ لعدم الاستناد إلى الرواية. ومع أنَّ الآيات ليس فيها بمفردها ظهور في المعنى، فقد يُجتَهد في حملها على ذلك المعنى وبقدر المستطاع ممّا يؤدِّي أحياناً إلى الابتعاد عن المعنى الواقعيّ للآية. وكمثالٍ على الآية {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقْرَبُواْ الصَّلاَةَ وَأَنتُمْ سُكَارَى حَتَّىَ تَعْلَمُواْ مَا تَقُولُونَ وَلاَ جُنُباً إِلاَّ عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّىَ تَغْتَسِلُواْ ...} (النساء، 43) والتي لها بمفردها ظهور في أنَّ الجُنب ما لم يغتسل فلا يجوز له الاقتراب من الصلاة إلا
________________________________________
(51)ـ كتاب بالفارسيّة عنوانه (روش شناسي تفسير قرآن).
(52)ـ بابائي، وآخرون، روششناسي تفسير قرآن : 196 213، قم مركز أبحاث الحوزة والجامعة، 1379ش .
[الصفحة - 251]
إذا كانت الصلاة في السفر. لكن بملاحظة الرواية الواردة في تفسير الآية الكريمة(53)يتّضِح أنَّ ذيل الآية يتعلَّق بالمسجد ومحلّ الصلاة، والمراد أن لا تدخلوا المسجد في حال الجنابة، إلا إذا أردتم العبور منه، وقد فسّر العلامة (رحمه الله) الصلاة في صدر الآية بالمسجد وجعل دليله {وَلاَ جُنُباً إِلاَّ عَابِرِي سَبِيلٍ} واعتبر النهي في {لاَ تَقْرَبُواْ} سواء في حال السكر وحال الجنابة متعلّقاً بالمسجد(54). لكن يبدو أنّه لو لم تخصِّص الرواية جملة {وَلاَ جُنُباً إِلاَّ عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّىَ تَغْتَسِلُوا}بالمسجد، لا يمكن أن يُفهم أنَّ المقصود بالصلاة فيها هو المسجد؛ لأنَّ استثناء حالة عبور السبيل بالنهي عن الاقتراب للصلاة في حال الجنابة لا يخلو من مناسبةٍ أيضاً. ولولا الرواية لكانت دلالة ذيل الآية مختصة بعدم الاقتراب من الصلاة في حال الجنابة، إلا في حالة عبور السبيل أو في السفر. ولمَّا كان المستند في رفع اليد عن ظهور الآية، وبعبارةٍ أُخرى القرينة الصارفة عن الظهور، هو الرواية ودلالتها تتعلَّق فقط بالمعطوف {وَلاَ جُنُباً إِلاَّ عَابِرِي سَبِيلٍ} فإنّ المراد بالصلاة هو المسجد، ولا توجد هكذا دلالة بالنسبة إلى المعطوف عليه {وَأَنتُمْ سُكَارَى} فلا يُمكن حمل الصلاة في الفقرة الأولى على المسجد، وتفسير النهي عن الاقتراب للصلاة في حال السكر بالنهي عن الاقتراب إلى المسجد في حال السكر؛ لأنّ هذا رفعٌ لليد عن المعنى الحقيقيّ وظهور الكلام بدون دليل، سيما وأنَّ {حَتَّىَ تَعْلَمُواْ مَا تَقُولُونَ} يتناسب أكثر مع الصلاة نفسها، ولمَّا كان العطف يجعل الفعل المتعلِّق بالمعطوف عليه بمنزلة تكرار المعطوف، فلا مانع أن يكون المراد بالنسبة إلى حال السكر هو الصلاة، وبالنسبة إلى حالة الجنابة المقصود منه المسجد. نظير كون المراد من مرجع الضمير شيئاً ومن الضمير شيئاً آخر، وهو ما يسمّى بـ (الاستخدام)(55). وبناء على ذلك، فإنَّ تفسير العلامة لهذه الآية بدون استناد إلى الرواية، من حيث المنهج، حملٌ للفظ على المعنى المجازي بدون دليل وقرينة صارفة، ومن حيث
________________________________________
(53)ـ روى الصدوق بسند معتبر عن الإمام الباقر (ع)أنّه قال: الحائض والجنب لا يدخلون المسجد إلا مجتازين، إن الله تبارك وتعالى يقول:وَلاَ جُنُباً إِلاَّ عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّىَ تَغْتَسِلُواْالبرهان في تفسير القرآن، 2 : 231.
(54)ـ الطباطبائي، مصدر سابق 4 : 36 .
(55)ـ قال صاحب الجواهر في هذه الآية: ... لأنا نقول قد يكون المراد من الصلاة نفسها بالنسبة إلى السكران وإلى جنب مواضعها على طريق الاستخدام أو غيره. (الجواهر، 3 : 50).
[الصفحة - 252]
المعنى والمحتـوى أيضاً وإن كان بالنسبة إلى الفقرة الثانية {وَلاَ جُنُباً إِلاَّ عَابِرِي سَبِيلٍ...} موافقاً للرواية، لكنّه بالنسبة إلى الفقرة الأولى {لاَ تَقْرَبُواْ الصَّلاَةَ وَأَنتُمْ سُكَارَى} لا ينطبق على الرواية؛ وليس السبب فيه عدم وجود روايةٍ تدلُّ على أنّ الصلاة في الفقرة بمعنى المسجد فحسب، بل إنّ بعض الروايات ظاهرة في أنّ المراد بالصلاة في هذه الفقرة الصلاة نفسه(56).
وفي تفسير الآية {وَهَبْ لِي مُلْكاً لَّا يَنبَغِي لِأَحَدٍ مِّنْ بَعْدِي} (ص، 35) لا يتّفق تفسير الطباطبائي(57)مع المعنى الذي ذكرته رواية علي بن يقطين(58).
وقد أدَّى هذا المنهج أيضاً في بعض الحالات، إلى أن يمرّ على تفسير الآيات بإجمال، وكمثال على ذلك في تفسيره لآية {وَإِذَا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنَا لَهُمْ دَابَّةً مِّنَ الْأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ} (النمل، 82) وعذره في ذلك أنّه لا يوجد في الآيات الأخرى ما يفسِّر هذه الآية، فتجاوزها دون أن يبيِّن ما المقصود بالدَّابة وما هي خصوصيّاتها؟ وكيف تخرج من الأرض وتكلِّم الناس وماذا تقول؟(59)وإن ذكر بعض الروايات في بحثها الروائيّ.
وفي تفسير {حَافِظُواْ عَلَى الصَّلَوَاتِ والصَّلاَةِ الْوُسْطَى} (البقرة، 238) لم يبين ما المراد بـ {الصَّلاَةِ الْوُسْطَى} وتجاوزها قائلاً إنّ السنّة تفسّره(60)، وقد أوضحها في البحث الروائيّ(61).
ب ـ اعتبر أنّ الملاك في مناقشة صحة الروايات وسقمها المطابقة وعدم المطابقة مع النصّ، والظاهر وسياق الآيات الكريمة. فهو يرى الرواية معتبرة وجديرة بالاعتماد إذا شخّص أنها كذلك، وإن لم يكن لها سند صحيح. وإذا كانت الرواية مخالفةً للنصّ اعتبرها مردودة، وإن كان لها سند صحيح(62).
ولا شكّ في أنّ المخالفة لنصِّ الكتاب دليل على عدم صحّة الرواية، والمخالفة لظاهر الكتاب يُمكن أن يُعتبر أيضاً شاهداً على بطلانها ووضعها إذا لم
________________________________________
(56)ـ البحراني، مصدر سابق، 2 : 228، الأحاديث 1 6 .
(57)ـ الطباطبائي، مصدر سابق، 17 : 205 .
(58)ـ البحراني، مصدر سابق 6 : 480، الحديث 3 .
(59)ـ الطباطبائي، مصدر سابق، 15 : 396 .
(60)ـ المصدر نفسه، 2 : 246 .
(61)ـ المصدر نفسه، 258 ـ 259 .
(62)ـ في عدة مواضع منها تأكيده على هذه النقطة في بحثه الروائي للآيات 17 ـ 24 من سورة التوبة. (راجع الميزان، 9 : 212) وفي البحث الروائي من تفسير الآيات 1 ـ 6 سورة المجادلة أورد أيضاً روايات في شأن نزولها ومع اعتبار سندها في رأيه إلا أنه ردها بسبب عدم موافقتها للظاهر. (راجع المصدر نفسه، 19 : 181 ـ 182).
[الصفحة - 253]
تكن قابلة للجمع العرفي؛ أمَّا إذا كانت مخالفةُ الرواية للكتاب بحيث يمكن معها الجمع العرفيّ ـ كأن تكون الآية عامّة والرواية خاصَّة، أو أن تكون الآية مطلقة والرواية مقيّدة، أو أن تكون الآية ظاهرة والرواية أظهر، بحيث يمكن اعتبار الرواية قرينةً صارفةً عن ظهور الآية، فالمخالفة من هذا القبيل ليست دليلاً على عدم صحّة الرواية. وكذلك إذا كان عدم توافق الرواية مع الآية بحيث تبيِّن الرواية معنىً لا يُفهم من ظاهر الآية، فلا يمكن جعل ذلك دليلاً على عدم صحَّة الرواية ووضعها؛ لأنَّه ربما ذكرت الرواية مطلباً صحيحاً ليس للآية ظهور فيه ، أو تكون الآية ساكتة عنه أو تدل عليه في الباطن فتُعدّ الرواية من بطون الآية؛ وكمثالٍ على ذلك، الرواية التي ينقلها العياشي والكليني والصدوق عن أبي الربيع الشامي: سألت أبا عبد الله (الصادق) (ع)عن قول الله:{وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا وَلاَ حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ} (الأنعام، 59) فقال: «الورقة السقط، والحبّة الولد، وظلمات الأرض الأرحام ، والرطب ما يحيى ، واليابس ما يغيض وكلُّ ذلك في كتابٍ مبين»، وبعد أن أورد المؤلِّف الرواية قال: «والرواية لا تنطبق على ظاهر الآية»(63)، لكن عدم المطابقة هذه لا تدل على عدم صحّة الرواية؛ لأنَّ العرف وإن لم يفهم هذا المعنى من ظاهر الآية، إلا أنَّه لا يُنافي ظاهرها، وربما كان المعنى المذكور من المعاني الباطنة للقرآن، ومن باب التوسّع في معنى الآية؛ فإذا كان سند الرواية صحيحاً يمكن اعتبار المعاني المذكورة معنى مراداً للآية أيضاً.
وكذلك لا يُمكن اعتبار المخالفة للسياق دليلاً على وضع الرواية، فربما يُراد من سياق الآية معنىً، وهو المعنى الظاهر للآية؛ لأنَّها تدلُّ عليه بالظهور، ويُراد منها بصرف النظر عن السياق معنىً آخر وذاك المعنى باطن الآية؛ لأنَّه وفقاً للأصول العقلائيّة للمحاورة لا يمكن فهم إرادة هكذا معنى وإنَّما الطريق إليه مختصٌّ بالنبيّ (ص) وأوصيائه المعصومين. والمؤلِّف (رحمه الله) نفسه اعترف أنّه يعتمد
________________________________________
(63)ـ الطباطبائي، مصدر سابق، 7 : 148 .
[الصفحة - 254]
الاستفادة من بعض الروايات، وأنّ بعض الآيات يُمكن أن تدلّ على معنىً من فقرةٍ بمفردها، فيما تدلّ على معنى آخر بملاحظة كلِّ قيد من قيوده(64).
ومن حيث المطابقة أيضاً، إذا بيَّنت الآية عين المعنى المذكور في الآية، فذاك المطلب حقٌّ وجديرٌ بالاعتماد، ولكن لا حاجة حينئذٍ إلى الرواية ويُكتفى بالآية لفهم ذلك المعنى. وإذا أضافت الرواية مطلباً على ما تدلّ عليه الآية، فذلك المطلب يُمكن القبول به إذا كانت الرواية صحيحة السند، وإن لم تكن صحيحة السند فلا يُمكن القبول بذلك المعنى الإضافيِّ، استناداً إلى أنَّ الرواية تُطابق ظاهر الآية في جزءٍ من معناها؛ لأنَّ المطابقة للآية في جزءٍ من المعنى ليست دليلاً على صحَّة صدور الرواية. وربما كان واضع الرواية قد وضعها بحيث يتعدَّى معناها معنى الآية. وبناء على ذلك، إذا كان المقصود من مطابقة الرواية للآية هو العينيَّة والمطابقة مائة بالمائة، فالآية لا تحتاج إلى الرواية وليس للرواية أي أثرٍ، وإذا كان المقصود أنَّ الرواية في نفس اتِّجاه الآية وأعم من المطابقة في جزء المعنى، فحينئذٍ يكون الاعتماد على المعنى الخاص بالرواية مرهوناً بصحَّة السند أو الاطمئنان بصحّة الصدور. وبهذا يتَّضح أنَّ ملاك المطابقة والمخالفة للآيات لا يمكن أن يعيِّن صحّة كافّة الروايات وسقمها؛ وما يمكن الحصول عليه بهذا الملاك، كون الروايات التي تخالف نصوص الآيات وظواهرها مائة بالمائة وتتنافى معها عرفاً مرفوضة؛ لأنه لا شكّ أنّ هكذا روايات لم تصدر عن النبي (ص) والأئمّة المعصومين (عليهم السلام)؛ إلا أنَّ صحَّة الروايات الأخرى أو سقمها لا يمكن تعيينه بهذا الملاك ولا بدّ من البحث عن طريقٍ آخر مثل دراسة السند وفحص القرائن الدالّة على الصدور.
ج ـ في بعض الموارد لم يبذل الجهد اللازم في نقل الرواية وبيان معناها والاستنباط منها، ومن أمثلة ذلك، في البحث الروائيّ للآية 45 و 46 من سورة البقرة، فقد ذكر الرواية الآتية: في تفسير العياشي عن أبي الحسن (ع)في الآية
________________________________________
(64)ـ المصدر نفسه، 1 : 260 .
[الصفحة - 255]
قال :الصبر الصوم، إذا نزلت بالرجل الشدّة أو النازلة فليصم؛ إنّ الله يقول: {وَاسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الْخَاشِعِينَ} والخاشع الذليل في صلواته المقبل عليها، يعني رسول الله(ص) وأمير المؤمنين (ع). فقال (رحمه الله) في بيانها : «قد استفاد (ع)استحباب الصوم والصلاة عند نزول الملمَّات والشدائد، وكذا التوسّل بالنبيّ والولي عندها، وهو تأويل الصوم برسول الله وأمير المؤمنين»(65).
لكن كما أنّ في نقل الرواية نقصاً كذلك المعنى والمطلب الذي استفاده من الرواية موضع تأمّل. أمَّا النقصان في النقل فهو أنّ النص في تفسير العياشي المطبوع مع مقدِّمة العلامة نفسه، وفي متناول اليد، يختلف عمَّا ذكره وليس فيه فقرة «الخاشع الذليل ....الخ »(66)نعم نُقلت الرواية مع هذه الفقرة في بعض طبعات تفسير البرهان نقلاً عن تفسير العياشي(67)، وهنا يُحتمل أمران: 1ـ أن لا تكون هذه الفقرة من الرواية وإنَّما توضيح من مؤلِّف تفسير البرهان لكلمة (الخاشعين)، 2ـ أن تكون هذه الفقرة موجودة في نسخة تفسير العياشي الذي نَقَلَ عنه مؤلّف تفسير البرهان. ويُحتمل أنّ العلامة الطباطبائي رأى الرواية في تفسير البرهان ونقلها عنه ولم يرجع إلى تفسير العياشي، وحينئذٍ من المناسب، أولاً أن يوردها بعبارة «عن تفسير العياشي» ليُعلم أنّه لم يأخذها عن تفسير العياشي واعتمد على نقل الآخرين. وثانياً: أن يَلفِت إلى احتمال كون هذه الإضافة من مؤلِّف تفسير البرهان ولا ينقلها كجزءٍ من الرواية، أمَّا التأمل في بيان المعنى فهو أنَّ هذه الرواية، حتَّى على فرض كون فقرة (والخاشع الذليل ...) منها أيضاً فلا دلالة فيها على أنَّ الإمام أبا الحسن (ع)استفاد من الآية استحباب التوسّل بالنبي(ص) والإمام (ع)؛ لأنَّه ليس في صدر الرواية أيُّ كلامٍ عن النبي (ص) أو الإمام (ع)والتوسّل بهما، وفي الفقرة الأخيرة من الرواية أيضاً أُوِّلَ الخاشع في الصلاة برسول الله (ص) وبأمير المؤمنين (ع)، وهذا لا دلالة فيه على استحباب
________________________________________
(65)ـ المصدر نفسه، 1 : 153.
(66)ـ العبارة في تفسير العياشي هكذا : «عن سليمان الفراء عن أبي الحسن (ع)في قول الله:وَاسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِقال: الصبر الصوم؛ إذا نزلت بالرجل الشدة أو النازلة فليصم قال: الله يقول:وَاسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِالصبر الصوم. (تفسير العياشي، 1 : 43، الحديث 41).
(67)ـ في تفسير البرهان طبعة بيروت، دار الهادي سنة 1412 هـ نقل الرواية كالآتي : «عن سليمان الفراء عن أبي الحسن (ع)في قول اللهوَاسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِقال: الصبر الصوم؛ إذا نزلت بالرجل الشدة أو النازلة فليصم فإن الله عزّ وجلّ يقول :وَاسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الْخَاشِعِينَوالخاشع الذليل في صلاته المقبل عليها؛ يعني رسول الله (ص) وأمير المؤمنين (ع)(البرهان في تفسير القرآن، 1 : 94 الحديث 6)، لكن في الطبعة الاخيرة لتفسير البرهان والتي كانت بمقدمة وتحقيق وتعليق جمع من العلماء والذي نشرته مؤسسة الأعلمي لا توجد هذه الفقرة في الرواية التي نقلت عن تفسير العياشي بل في الرواية التالية المروية عن مناقب ابن شهر آشوب وردت هذه الفقرة بمفردها على شكل رواية مستقلة في تفسير الآية عن ابن عباس. (راجع : البرهان في تفسير القرآن، 1: 210 ـ 211، الأحاديث 6 ـ 7، طبعة الأعلمي).
[الصفحة - 256]
التوسّل بهذين العظيمين. وإنَّما يصحُّ ما ذكره لو كانت الرواية قد أوّلت الصوم والصلاة بهما، وعليه تكون الاستعانة بهما مشمولةً للأمر في الآية، ولكنّ تأويلاً كهذا لم يرد في الرواية. وكذلك يُلاحظ في تفسير بعض الروايات أنَّه بالرغم من عموم الخطاب في الرواية، وعدم وجود أيِّ مخَصٍّص ولا مخَصص فيها، فقد خصّها (رحمه الله) بطائفةٍ من الناس، وكمثالٍ على ذلك، في البحث الروائي للآيات 33 ـ 62 من سورة النجم، وبعد نقل بعض الروايات التي تنهى عن التفكّر في الله، قال: «وفي النهي عن التفكُّر في الله سبحانه روايات كثيرة أُخَر مودَعة في جوامع الفريقين، والنهيُ إرشاديٌّ متعلِّقٌ بمن لا يُحسن الورود بالمسائل العقليّة العميقة فيكون خوضه فيها تعرّضاً للهلاك الدائم»(68).
والسؤال هنا، عن وجه اختصاص النهي بهكذا أشخاص؟ فالروايات ظاهرةٌ في أنَّ النهي متوجِّه لعامّة الناس، ولا بدّ من قرينةٍ صارفةٍ لرفع اليد عن هذا الظهور، ولم تُذكر هكذا قرينة. ومن الإخفاقات الأخرى في تفسير الميزان بالنسبة إلى الروايات التفسيريّة عدم ذكر مصدر الروايات، وحذف المتن وتقطيعه في بعضها، وعدم استقصاء جميع الروايات التفسيريّة المتعلِّقة بالآيات؛ ومع ذلك ففي البحوث الروائيّة لهذا التفسير، ما لم يُلحظ حتّى في التفاسير الروائيّة الجامعة(69)، وأيضاً في توضيح معاني الروايات، وتمييز الصحيحة من غير الصحيحة، واحتوائه على نكات مفيدة قلّما توجد في الكتب الأخرى، ولهذا فالكتب الأخرى والتفاسير لا تغني عن البحوث الروائيّة لهذا التفسير.
الخاتمة
ما نستخلصه من هذه المقالة، أنّ التفسير الروائيّ والروايات التفسيريّة كانت دائماً موضع اهتمام الشيعة، وبالرغم من اختلاف الرؤى والمناهج التفسيريّة لمفسِّري الشيعة، فإنَّ جميعهم اهتمّ بالروايات التفسيريّة طبقاً لرؤيته ومنهجه التفسيري. ولهذا السبب فقد لوحظت أربعة مناهج في التفاسير الروائيّة والبحث
________________________________________
(68)ـ الطباطبائي، مصدر سابق، 19 : 53 .
(69)ـ وكنموذج في البحث الروائي الثاني لسورة الحمد ذكر ثلاث روايات عن الكافي ونهج البلاغة وعلل الشرائع والمجالس والخصال في بيان أقسام العبادات من حيث دوافع العباد. (راجع: الميزان 1: 37) لم توجد في أي من التفاسير الروائية الجامعة مثل نور الثقلين والبرهان في تفسير القرآن.
[الصفحة - 257]
عن الروايات التفسيريّة عند الشيعة. ولهذه المناهج المختلفة في التفسير الروائيّ ميزة مشتركة تمتاز بها عن التفسير الروائيّ عند السنّة، وهي الاهتمام الوافر بالروايات التفسيريّة الواردة عن أهل بيت النبي (عليهم السلام)، ولكلِّ واحد من المناهج الأربعة فوائد ومزايا، ومع ذلك فهناك بعض الإخفاقات في كلِّ واحدٍ من هذه المناهج، ولذلك لا يمكن اعتبار أيِّ واحدٍ منها منهجاً متكاملاً في التفسير الروائيّ، والمنهج المتكامل هو الذي يتوافر فيه مزايا ونقاط قوّة المناهج الأربعة ويسلم من إخفاقاتها وذلك يتمُّ بالآتي:
ـ الاهتمام بكافّة الروايات التي ترتبط بنحوٍ ما ببيان المعنى والمصداق والظاهر والباطن لكلِّ آية، ومن خلال الاجتهاد الكامل والشامل لفهم معناها.
ـ دراسة سند ومأخذ الروايات، وتبيين مفادها، وملاحظة موافقتها ومخالفتها لنصوص وظواهر القرآن والسنّة القطعيّة والروايات المعتبرة وضروريّات الدين والمذهب والقواعد العقلية، وبيان ميزان اعتبارها بملاحظة ذلك كلّه، وحذف الروايات الموضوعة والإسرائيليّات، وتصنيف الروايات من حيث مرتبة اعتبارها وترتيب الأثر على كلّ رواية وفقاً ذلك.
ـ تمييز روايات الفضائل وخواصّ السور والآيات، وروايات القراءات عن الروايات التفسيرية والمتعلّقة بمعنى الآيات ومضمونها، وتبيين دلالة كلِّ روايةٍ من حيث بيان الظاهر والباطن، والمفهوم والمصداق للآيات وتخصيص المعنى وتقييده وتوسيعه وتعميمه ومفاد الآيات.
________________________________________