البحث في...
إسم البحث
الباحث
اسم المجلة
السنة
نص البحث
 أسلوب البحث
البحث عن اي من هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على كل هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على هذه الجملة

عاشوراء، دراسة في مرويات السلطة

الباحث :  مشتاق بن موسى اللواتي
اسم المجلة :  مجلة المنهاج
العدد :  64
السنة :  السنة السادسة عشر شتاء 1433 هجـ 2012 م
تاريخ إضافة البحث :  December / 21 / 2015
عدد زيارات البحث :  2467
عاشوراء، دراسة في مرويات السلطة

مشتاق بن موسى اللواتي (*)

تمهيد
في التاريخ أخبار ومرويّات تتعلّق بأحداث فتوجّه هذه الأحداث توجيهاً مختلفاً عن واقعها. وبما أنّ الأحداث التاريخية تخضع دائماً لعمليّة تحليل وقراءة، فإنَّ لهذه الأخبار تأثيرها على تحليل الحادثة التاريخيّة. ومن هنا كان للتحقيق في صحّة هذه المرويات أهميّة تسبق العمل على تحليل الحدث وقراءة معطياته ونتائجه. وواقعة كربلاء كحدث تاريخيّ وردت فيه مرويّات عديدة، ومنها ما سنعالجه في هذه الدراسة حول ما جرى بين الإمام الحسين (ع) والسلطة التي استشهد ثائراً عليها.
أورد الطبري في تاريخه، أنّ الإمام الحسين (ع)، عرض على عمر بن سعد في كربلاء، أن يرجع إلى المكان الذي أتى منه، أو أن تسيِّره السلطة الأمويّة إلى أيِّ ثغر من ثغور المسلمين، أو أن يأتي يزيد بن معاوية فيضع يده في يده. ولكنّ الوالي الأمويّ على الكوفة عبيد الله بن زياد، رفض ذلك، وأصرّ على أن ينزل الحسين (ع) على حكمه (أي حكم عبيد الله)، الأمر الذي رفضه الحسين (ع)، فلقيَ تلك النهاية المأساويّة!! وقد اعتمد على الطبريّ بعض من جاء بعده من المؤرّخين. واختلفت آراء الكتّاب والباحثين المعاصرين حولها إلى مذاهب شتّى.
وسنقوم في هذا البحث بدراسة هذه الروايات وتعريضها للنقد الداخليّ
________________________________________
(*) باحث إسلامي، من سلطنة عمان.

[الصفحة - 78]


والخارجيّ، مع التركيز على نقد متون الروايات والأخبار ومحاكمة مضامينها في ضوء منطق التاريخ، بالإضافة إلى الاستئناس بآراء أهل الجرح والتعديل في بعض رواتها ومستوى وثاقتهم. وسنجري بعض الموازنات والمقارنات بين هذه الروايات وروايات أخرى لتحديد العلاقات فيما بينها وتكميل الفراغات التي تتركها بعض المرويّات، مضافاً إلى اكتشاف نقاط الضعف والقوّة فيها. كما سنعرضها على طبيعة الحوادث الاجتماعيّة والسياسيّة السائدة آنذاك للنظر في مدى تماسكها وانسجامها معها، ومدى اتّساقها مع مجريات الأمور وتسلسلها المنطقيّ في تلك الفترة، بالإضافة إلى مدى تجانسها مع أهداف ومواقف وكلمات وخطب الإمام الحسين (ع)، وكذلك مدى توافقها مع أغراض وخطط السلطة الأمويّة.
المرويّات التاريخيّة
يروي الطبري في هذا الصدد أربع روايات رئيسة:
الأولى: عن زكريا بن يحيى الضرير عن خالد بن يزيد القسري عن عمار الدهني عن الإمام أبي جعفر الباقر (ع)، وهي رواية موجزة عن مقتل الإمام الحسين(ع).
الثانية: عن الحسين بن نصر عن أبي ربيعة عن أبي عوانة عن حصين بن عبد الرحمن عن هلال بن يساف.
والثالثة: عن أبي مخنف عن أبي جناب عن هاني بن ثبيت الحضرمي.
الرابعة: عن أبي مخنف عن المجالد بن سعيد والصقعب بن زهير الأزدي (1).
النقطة الأولى: قراءة نقديّة لمضامين الروايات
1ـبالنسبة للرواية الأولى عن عمار الدهني عن أبي جعفر الباقر (ع)، يُلاحظ أنّ متن الرواية ـ وهو أكثر أهميّة في النقد التاريخيّ ـ يشتمل على عدّة ثغرات، فقد ورد فيها أنّ الحرَّ بن يزيد التميمي لقيَه في الطريق، حيث كان بينه وبين القادسية ثلاثة
________________________________________
(1)- أبو جعفر الطبري، تاريخ الأمم والملوك، ويشار اليه بتاريخ الطبري، ج 5، ص 389 ، ص 391، ص 413، ص 414 ، دار التراث، بيروت.

[الصفحة - 79]


أميال، فقال له: أين تريد؟ قال: هذا المصر، فقال له: «إرجع فإنّي لم أدع لك خلفي خيراً أرجوه...». وهذا يتعارض مع مهمّة الحرّ التميميّ الرياحيّ التي أُرسل من أجلها، وهي عدم مفارقة الحسين (ع) وأن يقدمه الكوفة على عبيد الله بن زياد! كما ورد فيها أنّ الحسين (ع) همَّ بالرجوع بعد نصيحة الحرّ، ولكن إخوة مسلم بن عقيل أبوا حتّى يأخذوا بثأر مسلم بن عقيل، فقال الحسين «لا خير في الحياة بعدكم» (2). والحال أنَّ الإمام الحسين هو إمامهم وزعيمهم وقائدهم، وأنّهم لم يكونوا ممن يخالف أوامره وتعليماته طوال المسيرة. وقد أبدوا ليلة العاشر موقفاً صلباً لمّا دعا الإمام الحسين(ع) أهله وأصحابه، لأن يتَّخِذوا الليل جملاً وينصرفوا ويتركوه يواجه القوم بنفسه (3). كما كانت لهم يوم عاشوراء مواقف بطوليّة مشهودة في الذبِّ عن الإمام الحسين (ع) من جهةٍ أُخرى. إنّ مجموع أبناء عقيل الذين اسشهدوا مع الإمام الحسين (ع) على أكثر الروايات والأقوال كانوا ثمانية، فليس من المتصوَّر أن يشكِّلوا ضغطاً قوياً بحيث يرضخ الجميع لرأيهم، خلافاً لرأي الإمام الحسين (ع). وعلى فرض صحّة ذلك، فإنّ منطق الأشياء يقتضي أن لا تمرّ هذه الواقعة بهذه البساطة والهدوء، وتنتهي برضوخ الإمام الحسين (ع) لضغوطهم، وتعريض الجميع لتلكم المجزرة الدمويّة وللمآسي التي رافقتها وتلتها! ثمّ إنّ طبيعة الموقف تفرض حدوث انقسام في الآراء والمواقف ووقوع نوع من الخلاف، إن لم نقل الشقاق، في ركب الإمام الحسين (ع) بين أصحابه وأهل بيته، بين مؤيِّدٍ لموقف الإمام الحسين(ع) ومؤيّدٍ لأبنـاء مسلم، ممّا تكون له تداعيـات وأصداء غير عاديّة وانعكاسات سلبيّة على مواقف الفريق غير المقتنع طوال الطريق وعلى معنويّاته وأدائه القتاليّ! في حين أنَّ شيئاً من ذلك لم يحدث، حسب معطيات التاريخ. والذي ينسجم مع منطق الحوادث وطبيعة الأمور في هذه الواقعة، هو ما رواه المفيد في الإرشاد، والخوارزميّ في مقتله، من أنّ الإمام الحسين (ع) سألهم رأيهم، بعد أنّ تلقى خبر مقتل مسلم بن عقيل، من باب المشاورة أو لاستطلاع آرائهم واختبار نواياهم فيما إذا كان الخبر قد
________________________________________
(2)- تاريخ الطبري، ج5، ص389.
(3)- تاريخ الطبري، ج5، ص419.

[الصفحة - 80]


ترك أثراً سلبيّاً عليهم. فقد كان من دأبه في كلِّ موطنٍ ومحطّةٍ أن يُطلِعَ الذين يرافقونه بمجريات الأمور وبأحدث الأخبـار والتطوّرات في المواقف، حتّى يكونوا على بيِّنةٍ من أمرهم، وعلى وعيٍ تامٍ بالمصير الذي ينتظرهم مع الإمـام الحسين (ع)، ويتّخذوا قرارهم بالسير معه أو التخلّف عنه بمحض إختيارهم. ولهذا كان يخيّرهم باستمرار بين مواصلة المسير معه أو تركه. فكان من رأي أبنـاء عقيل المسير لمواجهة القوم لأخذ ثأرهم وحتّى يذوقوا ما ذاق مسلم، فعزّز مواقفهم قائلاً: «لا خير في العيش بعد هؤلاء» كما عن المفيد في الإرشاد (4). وقد تمّ تحوير الواقعة في بعض المصادر والروايات بهذه الطريقة، بقصد الإيحاء بتردّد الإمام الحسين (ع) وعدم وضوح الرؤية عنده، والتشكيك في صدقيّة أهدافه في الإصلاح والتغيير. وكيفما كان الأمر، فإنّ التأمّل في تفاصيل هذه الرواية يكشف عن عددٍ من مواطن الضعف وعدم الاتّساق فيهـا مع الواقع. أضف إلى ذلك أنّ الروايـة مبتورة ومقطّعة الأوصال وتشتمل على فجوات واضحةٍ جرّاء التلاعب فيها بسبب النزعات السياسيّة والعقَدية وذلك بالحذف والإضافة، حتّى فقدت ترابطها الداخليّ وغدت متهافتة في بعض فقراتها. وقد تنبَّه الطبريّ إلى ذلك، عند تناوله خبر مسلم بن عقيل، حسب هذه الرواية، مرجِّحاً عليها رواية أبي مخنف، حيث قال: «وأمّا أبو مخنف فإنّه ذكر من قصة مسلم بن عقيل وشخوصه إلى الكوفة ومقتله قصّة هي أشبع وأتمّ من خبر عمّار الدهني» (5). والغريب أنّ بعض مؤرِّخي الإمامية ذكروا هذه الرواية، كابن نما الحلي في مقتله.
أمّا بالنسبة للخيارات الثلاثة المنسوبة للإمام الحسين (ع) في هذه الرواية، فيُلاحظ أنّها تذكر أنّه طرحها على عمر بن سعد، لمّا وصل الأخير كربلاء، فقال له الحسين: «إختر واحدة من ثلاث: إمّا تدعوني فأنصرف من حيث جئت، وإمّا أن تدعوني فأذهب إلى يزيد، وإمّا أن تدعوني فألحق بالثغور. فقبل عمر ذلك، فكتب إليه عبيد الله بن زياد: «لا ولا كرامة، حتّى يضع يده في يدي، فقال له الحسين: لا والله
________________________________________
(4)- الشيخ المفيد ، الارشاد ، ص 222، مؤسسة الاعلمي، بيروت.
(5)- تاريخ الطبري، ج5، ص 351.

[الصفحة - 81]


لا يكون ذلك أبداً، فقاتله ...» ! والواقع أنّ هذه الرواية وأمثالها، مضافاً إلى أنّها تصطدم مع عدد من الحقائق التاريخيّة وتشتمل على عدد من المفارقات، تعجز عن تقديم إجابات مقنعة للإشكالات المثارة أمامها. فإذا كان الحسين مستعدّاً أن يضع يده في يد يزيد، فما معنى معارضته لفرض ولايته منذ زمن معاوية؟ وما معنى رفضه تقديم البيعة للوالي الأمويّ على المدينة مبكراً، بناء على طلب من يزيد إثر موت أبيه معاوية؟ ثمّ لا معنى لأن يقبل الحسين (ع) الرضوخ لحكم يزيد ويرفض النزول على حكم واليه وممثّله عبيد الله بن زياد، إذ لا يوجد فرق جوهريّ بينهما، فهو الذي عيّنه ومنحه السلطة والقوّة والنفوذ.
2ـ الرواية الثانية: نجد أنّ هذه الرواية تضمّنت أموراً غريبة غير واقعيّة، وقد انفردت بها، من قبيل أنّ الإمام الحسين (ع) كان لا يعرف شيئاً من الأخبار أثناء مسيره نحو العراق، وأنّه كان شخصاً بسيطاً لم يدرس الأمور بدقّة ورويّة، ولم يضع أمامه احتمال تقلّب المواقف وموازين القوى، وأنّه تفاجأ بإغلاق الكوفة أمامه، وفوراً وببساطة شديدة، اتّخذ قرار التوجّه نحو الشام لمقابلة الحاكم الأموي يزيد بن معاوية! وهكذا غيّر الحسين مساره رأساً على عقب، من ثائر ينشد الإصلاح والتغيير في الأمّة، ويرفض بيعة يزيد ولا يراه مؤهّلاً للخلافة والسلطة إلى رجلٍ يريد أن يضع يده في يد يزيد بن معاوية، ربما لكي يقدِّم له بعض المواعظ والنصائح وينتهي كل شيء !. تقول الرواية: «فأقبل الحسين ولا يشعر بشيء حتّى لقِيَ الأعراب، فسألهم، فقالوا: لا ندري، غير أنّا لا نستطيع أن نلج ولا نخرج»، وأنّه إثر ذلك انطلق يسير نحو طريق الشام بقصد لقاء يزيد! ولكن لقيته الخيول بكربلاء، فنزل يناشدهم الله والإسلام! بينما يُستفاد من فقرة أخرى من نفس الرواية أنّ الإمام الحسين ناشدهم الله والإسلام ، «أن يسيّروه إلى أمير المؤمنين فيضع يده في يده» فرفضوا وقالوا: «إلا على حكم ابن زياد»، ولمَّا رأى الحرّ بن يزيد ذلك ترك المعسكر الأمويّ والتحق بالحسين(ع). وهذا يدلّل على أنّه كان يوم العاشر من المحرم، قبيل أو عند نشوب
________________________________________

[الصفحة - 82]


القتال، بينما تشير رواية عمار الدهني السالفة إلى أنّ الإمام الحسين (ع)، عرض على عمر بن سعد البدائل الثلاثة، فور وصول عمر كربلاء، أي في اليوم الثالث أو الرابع من المحرّم، وأنّ عمر بن سعد كتب إلى ابن زياد يخبره بذلك، غير أنّ الأخير هو الذي رفضها، وأصرّ أن يضع يده في يده (6).
من جهةٍ أخرى، إنّ هذه الرواية، منذ البداية، ركَّزت على غرضٍ واحد، وأشارت إلى أنّ الإمام الحسين عرض بديلاً واحداً فقط، وهو أن يسير إلى يزيد مباشرةً فيضع يده في يده. كما يُلاحظ أنّ الراوي ذكر يزيد بن معاوية بلقب إمارة المؤمنين، ممّا قد يعني أنّه كان من الموالين للسلطة الأمويّة. وممّا يؤيّد ذلك، أنّ الطبريّ أورد لنفس الراوي روايةً عن مولى لمعاوية بن أبي سفيان أنّه لمَّا أُتي يزيد برأس الحسين، بكى، وقال: «لو كان بينه وبينه رحم لما فعل هذا» (7)! وفي هذه الرواية يُفصح الراوي عن هدفه من بعض رواياته، وهو محاولة تبرئة الحاكم الأمويّ، يزيد بن معاوية من جريمة قتل الإمام الحسين (ع)، وإلقاء التبعة على واليه عبيد الله بن زياد، متجاهلاً أنّه يمثِّله وينوب عنه، وأنّه عيّنه أساساً لمواجهة تحرّك الإمام الحسين(ع) في الكوفة ضدّ الحكم الأمويّ. فلا معنى لأن يرفض ابن زياد رضوخ الحسين ليزيد ويصرّ على رضوخه له شخصياً مع أنّه واليه ومن ثمّ فهو وكيله وممثّله. من جهةٍ أُخرى، يصعب أن تمرّ هذه الواقعة بهذه السهولة والسرعة دون أن تُمارس ضغوط من بعض الزعماء وبعض رجال بني أميّة في الكوفة على ابن زياد ليقبل برضوخ الحسين (ع)، كما أنّه لا يمكن أن تمرّ الواقعة بسلام ودون أن تُحدِث انقساماً في الرأي في حاشية ابن زياد.
3ـ الرواية الثالثة:وتشير هذه الرواية إلى أنّ الإمام الحسين (ع) هو الذي بادر لطلب اللقاء مع عمر بن سعد ليلاً، وعقد اللقـاء بينهما حيث حضر كلٌّ منهما مصطحباً معه عشرين فارساً. ثمَّ أمر كل واحد منهما أصحابه أن يتنحّوا عنه. قال: «فانكشفنا عنهما، بحيث لا نسمع أصواتهما ولا كلامهما. فتكلّما فأطالا حتّى ذهب
________________________________________
(6)- تاريخ الطبري ، ج5، ص 392.
(7)- تاريخ الطبري، ج5، ص393.

[الصفحة - 83]


من الليل هزيع، ثمّ انصرف كلُّ واحد منهما إلى عسكره بأصحابه. وتحدّث الناس فيما بينهما، ظناً يظنونه أنّ حسيناً قال لعمر بن سعد: اخرج معي إلى يزيد بن معاوية وندع العسكرين! قال: إذن تُهدم داري، قال: أنا أبنيها لك، قال: إذن تؤخذ ضياعي، قال: إذن أعطيك خيراً منها من مالي بالحجاز. قال: فتكرّه ذلك عمر، قال: فتحدّث الناس بذلك، وشاع فيهم من غير أن يكونوا سمعوا من ذلك شيئاً ولا علموه». وتتميّز هذه الرواية، بأنّ راويها الحضرميّ كان ممّن شهد الواقعة، ولكنّه مع ذلك يبدو مشكِّكاً فيما نسب إلى الإمام الحسين (ع)، ولم يشأ أن يُفصح عن ذلك صراحةً، لاعتبارات معيّنة لم تفصح عنها الرواية، حيث يُلاحظ عليه تأكيده أنّ اللقاء كان ذا طابع سريّ، وأنّ أحداً من الحاضرين لم يسمع ما دار فيه، وأنّ ما تحدّث عنه الناس وما نسبوه إلى الحسين، مستند إلى ضرب من التخمين والظن، وكرّر تأكيده، بأنّه شاع فيهم من غير أن يكونوا سمعوا من ذلك شيئاً أو علموه، بل ظناً يظنونه.
كما يُلاحظ، أنّ هذه الرواية لم تشر إلى البدائل الأخرى، بل تضمّنت بديلاً واحداً في غاية الغرابة والسذاجة والبعد عن المنطق والواقعيّة، وهو اقتراح الإمام الحسين (ع) على قائد الجيش الأمويّ بأن يترك الجيش ويصطحبه لمقابلة يزيد بن معاوية! والواقع أنّ مثل هذا الطلب لا يمكن صدوره عن قائد وزعيم يمتلك وعياً وبصيرة وخبرةً اجتماعيّة ودراية بالواقع الاجتماعيّ والسياسي، فضلاً عن أن يصدر عن الإمام الحسين (ع)، إلا أن يكون على نحو المحاججة، في محاولةٍ منه لثنيه عن هذه المهمّة، ولكن تمّ تحوير الخبر بهذه الطريقة.
ثمّ إنّ مضمون الحوار الذي جرى بين الإمام الحسين وعمر بن سعد حسب الرواية تظهر عليه آثار الصنعة والتكلّف بجلاء؛ لأنّ توجّه الإمام الحسين (ع) وعمر بن سعد إلى الحاكم الأموي يزيد، إذا كان ممكناً ومتاحاً، لا يُفترض أن يؤدِّي إلى هدم دار ابن سعد والاستيلاء على ضياعه وأملاكه! وإذا حصل شيء من ذلك، فإنّ من المفترض أن يعوّضه يزيد بدلا عنها، ولا يفوّت عليه ولاية الريّ التي منّاه بها ابن
________________________________________

[الصفحة - 84]


زياد، بل ربما يُضاعف يزيد من أعطياته له، كجزء من المكافأة له لأنّه أطلعه على جرائم وتجاوزات واليه على أوامره وتوجيهاته. هذا فيما إذا كان يزيد، بالفعل، لم يشأ حصول كلّ تلكم الجرائم عبر ولاته. لقد بدا واضحاً على هذه الروايات، أنّها إنّما وضعت لتحسين صورة يزيد وتقديمه على أنّه كان يشكِّل نوعاً من المرجعيّة السياسيّة المقبولة عند الإمام الحسين (ع)، إلى درجة أنّه كان يريد اللجوء إليه والاحتكام إليه أو التفاهم معه. إنّها محاولة لقلب الحقائق والإيحاء بأنّ حركة الإمام الحسين ومعارضته، إنّما كانت ضدّ الوالي الأمويّ عبيد الله بن زياد وليس ضدّ يزيد بن معاوية الحاكم الذي ولاه وعينه ومكّنه على مقدرات الناس، فهي موجهة ضد الفرع وليس الأصل.
ولكنّ الخوارزمي في مقتله أورد هذه الواقعة بصورةٍ مختلفةٍ. فقد ذكر أنّ اللقاء حضره من طرف الإمام الحسين (ع) كلٌّ من أخيه العباس وولده علي الأكبر، ومن طرف عمر بن سعد، ابنه حفص وأحد غلمانه واسمه لاحق، وتنحّى بقيّة الفرسان بالفعل. كما أورد الخوارزمي ما دار بينهما من الحوار بشكلٍ مغايرٍ أيضاً. فقد قال له الحسين: «ويحك، أما تتّقي الله الذي إليه معادك؟ أتقاتلني وأنا ابن من علمت؟ يا هذا ذر هؤلاء القوم، وكن معي فإنّه أقرب لك من الله»، فقال له عمر: أخاف أن تهدم داري، فقال الحسين: أنا أبنيها لك، فقال عمر: أخاف أن تؤخذ ضيعتي، فقال: أنا أخلف عليك خيراً منها من مالي بالحجاز، فقال: لي عيال أخاف عليهم، فقال: أنا أضمن سلامتهم، قال: ثمَّ سكت فلم يجبه عن ذلك، فانصرف عنه الحسين، وهو يقول: ما لك، ذبحك الله على فراشك سريعاً عاجلاً، ولا غفر لك يوم حشرك ونشرك، فوالله إني لأرجو أن لا تأكل من برّ العراق إلا يسيراً، فقال له عمر: يا أبا عبد الله، في الشعير عوض عن البرّ، ثمّ رجع عمر إلى معسكره» (8). إنَّ مضمون الحوار في هذه الرواية أكثر اتّساقاً مع طريقة الإمام الحسين، على الأقل، في أسلوب إلقاء الحجّة على خصومه وبالذّات على كبار القادة السياسيين والعسكريين، فهو أشبه بعددٍ من
________________________________________
(8)- احمد المكي الخوارزمي، مقتل الحسين، ويشار اليه بمقتل الخوارزمي، ج1، ص 347، الطبعة الاولى، دار انوارالهدى ، قم /ايران.

[الصفحة - 85]


حواراته ومحاججاته وخطبه، سواء مع الحر الرياحي، أم مخاطباته يوم العاشر للحجّار بن أبجر وشبث بن ربعي وعمرو بن الحجاج وقيس بن الأشعث. كما أنَّه يتفق مع سائر محاولاته من أجل ثني القوم عن ارتكاب جريمة قتله. أضف إلى ذلك، أنّ النسق الداخليّ للحوار مترابط ومتماسك ومضامينه متناسبة مع الشخصيّات المتحاورة وكذلك مع طبيعة الأجواء المحيطة باللقاء. كما أنَّها تخلو من الأمور المتكلّفة وغير الواقعية التي تضمّنتها الرواية السابقة.
4ـ الرواية الرابعة:تشير هذه الرواية إلى أنّ الإمام الحسين (ع)، قال لهم اختاروا مني خصالاً ثلاثاً، إمّا أن أرجع إلى المكان الذي أقبلت منه، وإمّا أن أضع يدي في يد يزيد بن معاوية فيرى فيما بيني وبينه رأيه، وإمّا أن تسيِّروني إلى أيِّ ثغرٍ من ثغور المسلمين شئتم فأكون رجلاً من أهله لي ما لهم وعلي ما عليهم. وطبقا لهذه الرواية فإنّ الإمام الحسين وعمر بن سعد اجتمعا ثلاث أو أربع مرّات، وإثرها كتب عمر بن سعد إلى عبيد الله بن زياد: «أمّا بعد، فإنّ الله قد أطفأ النائرة وجمع الكلمة، وأصلح أمر الأمّة، هذا حسين قد أعطاني أن يرجع إلى المكان الذي منه أتى، أو أن نسيِّره إلى أيِّ ثغرٍ من ثغور المسلمين شئنا، فيكون رجلاً من المسلمين له ما لهم، وعليه ما عليهم، أو أن يأتي يزيد أمير المؤمنين فيضع يده في يده، فيرى فيما بينه وبين رأيه، وفي هذا لكم رضا وللأمّة صلاح». وتذكر الرواية أنّ ابن زياد لمّا قرأ الرسالة قال: «هذا كتاب رجلٍ ناصحٍ لأميره، مشفقٍ على قومه، نعم قد قبلت». ولكنّ شمر بن ذي الجوشن حرّضه قائلاً: «لئن رحل من بلدك، ولم يضع يده في يدك، ليكونَنّ أولى بالقوّة والعزّة، ولتكوننّ أولى بالضعف والعجز»، وقال له: «لا تعطه هذه المنزلة فإنّها من الوهن، ولكن لينزل على حكمك هو وأصحابه». وذكر له أنّه بهذا الأسلوب في التعامل معه، سيكون له الخيار، إن شاء عاقبهم وإن شاء غفر لهم! وطبقاً لهذه الرواية فإنّ الوالي ابن زياد مال إلى قبول العرض، غير أن شمراً، وهو أحد القادة العسكريين البارزين، أقنعه بخلاف ذلك، معتبراً هذا العرض المزعوم حيلةً
________________________________________

[الصفحة - 86]


ومناورةً من الإمام الحسين(ع) للهروب بعد أن تمَّت محاصرته من قِبَل الجيش الأمويّ، ورأى أن لا محيص عن قتله، فسرعان ما اقتنع ابن زياد بكلامه ونفّذه، دون طرح أيّة احتمالات وتفسيرات أخرى. وقد يُقال إنّ الإمام الحسين (ع) عرض على عمر بن سعد أن يتركه هو ويزيد بن معاوية وشأنهما، ولا يورِّط نفسه بتنفيذ المهمّة التي أوكلت إليه بقتاله، فيتحمّل عارها وشنارها، ولكنّه قام بتحويرها بهذه الطريقة التي تُظهر الحسين في صورة الرجل المستسلم، أملاً منه في إقناع عبيد الله بن زياد في ذلك. وأياً كان الأمر، فإنّه لو لم يكن لدى ابن زياد علم بقرار السلطة الأمويّة وتخويلها له للقيام بقتاله، لما أصرَّ على تنفيذ الأمر بهذه السرعة وبتلك الصورة الإجراميّة. بل إن منطق الأشياء كان يقتضي، بناء على صحّة هذه الدعوى، أن يتمهَّل في ذلك ويتفاوض مع الإمام الحسين (ع) ويساومه للقبول ببعض البدائل المرضية للسلطة الأمويّة والرضوخ لبعض شروطها، خصوصاً بعد أن أحسّ هو ومستشاروه ضعفاً في موقفه حسب زعم الرواية، أو كان عليه أن يرفع الأمر إلى الحاكم الأمويّ يزيد بن معاوية بالشام ليعرف تعليماته، لا أن يُجازف بمستقبله السياسيّ ويسارع إلى محاصرته وقتله بتلك الطريقة البشعة دونما أمر أو موافقةٍ مسبَقةٍ من الحاكم الأموي يزيد بن معاوية.
النقطة الثانية: تقييم نقدي لبعض الرواة
1ـ الرواية الأولى:اشتمل السند على خالد بن يزيد بن أسد بن عبد الله القسري الدمشقي، وهو من رجال الأمويين وولاتهم في الدولة المروانيّة كما ذكر الذهبيّ في سير أعلام النبلاء. فقد كان والياً على مكّة زمن الوليد وسليمان ابني عبد الملك، كما تولّى العراق زمن هشام بن عبد الملك. ويبدو ممّا نقله أبو الفرج في الأغاني عنه أنّه كان مناوئاً للإمام علي (ع). فقد ذكر عن المدائني، قال: أخبرني ابن شهاب بن عبد الله، قال: قال لي خالد القسري: اكتب لي السيرة. فقلت له: فإنّه يمرّ بي الشيء من سير علي بن أبي طالب، فأذكره ؟ قال : لا، إلا أن تراه في قعر الجحيم (9)!
________________________________________
(9)- صائب عبد الحميد ، تاريخ الاسلام الثقافي، ص 79، الطبعة الاولى، مركز الغدير، سنة 1997.

[الصفحة - 87]


وهكذا يتجلّى واضحاً ولاؤه السياسيّ للأمويين، كما تتكشَّف اتِّجاهاته الفكريّة المعادية لأهل البيت (عليهم السلام). وإذا كانت هذه مواقف هذا الرجل وسوابقه حيال تدوين دور الإمام علي (ع) وإبراز جهاده وبطولاته في تاريخ الدعوة الإسلاميّة، فهل يُستبعد منه القيام بدورٍ مماثل في تشويه حركة الإمام الحسين (ع)، من أجل تلميع صورة السلطة الأمويّة؟ وكيف ما كان، فقد صرَّح عدد من أئمّة الجرح بتضعيفه، حيث نصّ ابن عدي على أنّه لا يُتابع سنداً ولا متناً، وضعيف، وقال العقيلي: لا يتابع، كما جاء في الميزان للذهبي (10). أمّا عمّار الدهني، فهو وإن وثَّقه بعضهم ولكن تكلّم فيه العقيليّ وهناك من أكّد على تشيّعه كما ذكر الذهبي في الميزان (11). ولكن طبقاً لما أفاده النجاشي فإنّه كان ثقةً في العامّة وجهاً، أي ثقة في رواة العامة وجماعتهم حسب السيد الخوئي(12). فهو لم يكن من أتباع الإمام الباقر (ع).
2ـ الرواية الثانية:حدّثنا الحسين بن نصر عن أبي ربيعة عن أبي عوانة عن حصين بن عبد الرحمن، عن هلال بن يساف. فمن ناحية السند اشتمل على أبي ربيعة وهو فهد بن عوف، واسمه زيد، ويكنَّى أبا ربيعة. وطبقاً للذهبيّ في الميزان، عن ابن المديني أنّه كذّاب. وقال أبو زرعة اتّهم بسرقة حديثين (13). أمّا الراويان حصين وهلال فقد نصَّ على وثاقتهما كما في تهذيب التهذيب لابن حجر العسقلاني. ولكن لم يشر إلى حضورهما الواقعة، بل إنّ الحصين بن عبد الرحمن كان أثناء الواقعة شاباً مراهقاً، كما يُستفاد من رواية أوردها ابن حجر في التهذيب عن علي بن عاصم عن حصين: جاءنا قتل الحسين، فمكثنا ثلاثاً كأنّ وجوهنا طليت رماداً، قلت: مثل من أنت يومئذ؟ قال: رجل مناهد، أي مراهق (14). ويظهر أنّه رواها حين الكبر، حيث أصيب بالنسيان والتخليط. وقد نصّ عدد من النقّاد مثل أبي حاتم على أنّه ساء حفظه في آخر عمره. كما ذكر الذهبيّ في الميزان عن يزيد بن هارون أنّه نسي واختلط في الآخر. وذكره البخاريّ في الضعفاء وكذا العقيلي(15). وربما كشف ذلك عن سبب اشتمال الرواية على بعض الأمور الغريبة التي انفردت بها.
________________________________________
(10)- شمس الدين الذهبي ، ميزان الاعتدال ، ج1، ص 647، ويشار اليه بميزان الذهبي، دار المعرفة.
(11)- ميزان الذهبي، ج3، ص 172.
(12)- أبو القاسم الخوئي، معجم رجال الحديث، ج 12، ص 252، ويشار اليه بمعجم الخوئي، الطبعة الثالثة، سنة 1983 دار العلم، قم /ايران.
(13)- ميزان الذهبي ، ج 3، ص366 .
(14)- ابن حجر العسقلاني، تهذيب التهذيب، ج 2، ص 382، ويشار اليه بتهذيب ابن حجر، دار صادر.
(15)- ميزان الذهبي، ج1، ص 552.

[الصفحة - 88]


3ـ الرواية الثالثة: عن أبي مخنف، قال: حدّثني أبو جناب عن هاني بن ثبيت الحضرمي، وهو ممّن شهد الواقعة مع عمر بن سعد، واشترك في قتل عدد من أصحاب الحسين وأهل بيته، مثل عبد الله بن عمير الكلبي، وعبد الله بن علي بن أبي طالب، وجعفر بن علي بن أبي طالب، وعبد الله بن الحسين، وأمّه الرباب، كما يذكر الطبري. أمّا أبو مخنف فسيأتي الحديث عنه. وأمّا الراوي الأوّل الذي روى عنه، وهو أبو جناب الكلبي، واسمه يحيى بن أبي حيّة، فقد نصّ أكثر النقّاد على تجريحه، كما في الميزان، فقد ضعّفه النسائي والدارقطني وقال القطان: لا أستحلّ الرواية عنه. كما قال بعضهم عنه كأبي زرعة وابن معين، بأنّه صدوق لكنّه يدلّس. وقد تناقض ابن حبَّان كعادته، فذكره مرّةً في المجروحين وأخرى في الثقات. وذكر ابن حجر في التهذيب تضعيف بعض النقّاد له مثل عثمان الدارمي والعجلي وإبراهيم الجوزجاني وابن عمار (16).
4ـ الرواية الرابعة: هي أيضاً عن أبي مخنف، قال: وأمَّا ما حدثنا به المجالد بن سعيد الهمداني والصقعب بن زهير الأزدي وغيرهما من المحدِّثين، فهو ما عليه جماعة المحدّثين. قالوا: إنّه قال : اختاروا مني خصالاً ثلاثاً، الخ.
ويُلاحظ أنّ أبا مخنف روى عنهما معاً، ومع ذلك، فإنّ المجالد الهمداني قال عنه الذهبي في الميزان: مشهور صاحب حديث على لين، وضعّفه الدارقطني ويحيى بن سعيد، وقال يحيى بن معين: لا يحتجّ به، وقال ابن مهدي: لا يروى عنه. وذكر ابن النديم في الفهرست أنّه كان ضعيفاً عند المحدّثين (17). أمّا الصقعب بن زهير فقد ذكر ابن حجر في التهذيب أنّه وثّقه أبو زرعة وقال أبوحاتم إنه شيخ ليس بالمشهور وذكره ابن حبّان في الثقات (18). ويبدو أنّ رواية أبي مخنف هذه عن الصقعب منقطعة السند، فإن الصقعب في العادة يروي وقائع كربلاء عبر أحد الرواة مثل عمر بن عبد الرحمن بن الحارث أو حميد بن مسلم أو عون بن أبي جحيفة وغيرهم، الأمر الذي يبدو منه أنّه لم يشهد الواقعة بنفسه (19).
________________________________________
(16)- ميزان الذهبي، ج4، ص 371.
(17)- ميزان الذهبي، ج3، ص 438، وكذا ابن النديم، الفهرست، ج 1، ص 103، تحقيق، رضا تجدد.
(18)- تهذيب ابن حجر، ج4، ص432.
(19)- تاريخ الطبري، ج 5، ص 384، ص329، ص378.

[الصفحة - 89]


ومع ذلك، وكما يبدو من عبارة أبي مخنف، فإنّ هذه الرواية كانت تتداولها جماعة من أهل الحديث.
النقطة الثالثة: تأمّلات عامّة في مضمون الروايات
1 ـفي الواقع إنّ هذه الحكاية نسجها بعض القادة الأمويِّين، وروَّجتها أجهزة السلطة الأمويّة، بُغية تشويه النهضة الحسينيّة وتضليل الرأي العام المسلم. وبالفعل فقد تبنَّاها جماعة من أهل الحديث، كما ذكر الطبري، فقد هالهم أن يقوم الخليفة الأمويّ والتابعي يزيد بن معاوية وابن الخليفة الصحابيّ معاوية، بتلك الجريمة النكراء، وبتلك الصورة البشعة، وفي تلك المرحلة المبكرة من تاريخ المسلمين، أي بُعيد نصف قرنٍ من رحيل النبي (ص)عن دار الدنيا. وهي الفترة التي تعبِّر عنها روايات أهل الحديث بخير القرون، وقد أدخلوا يزيد بن معاوية فيها ولو بشيء من التكلّف. فقد ذكر ابن كثير في البداية والنهاية عن زرارة بن أوفى: القرن عشرون ومائة سنة (كذا) فبُعث رسول الله (ص)في قرن وكان آخره موت يزيد بن معاوية. ولهذا سعوا إلى تبرئة الخليفة يزيد من تَبِعَات قتل سبط رسول الله (ص)، وإلقاء المسؤوليّة على واليه عبيد الله بن زياد ابن أبيه، الذي خالف أوامره وتمادى في غيه وانحرافه ونفَّذ تلك الجريمة المنكرة. ولهذا السبب حيكت مثل هذه الروايات التي لا تتّفق مع الواقع. ومن جهةٍ أخرى، يُشير بعض المؤرِّخين كالذهبيّ والسيوطيّ إلى أنَّ يزيد بن معاوية أظهر الفرح والسرور بقتل الحسين في البداية، لكنه بعد أن رأى انقلاب الرأي العام المسلم عليه وشيوع التذمّر وتفشِّي النقد ضده، بعد انتشار أخبار الواقعة وتفاصيلها على الناس، وحسب تعبير المؤرِّخين: «لما مقته المسلمون وأبغضه الناس» (20)بدأ يُظهر الندامة وأخذ يُلقي باللائمة والمسؤوليّة على واليه عبيد الله بن زياد بأنّه استعجل في قتله ولم يمنحه فرصة اللقاء به، ولم يراع علاقة القرابة والرحم بين الحسين ويزيد بن معاوية. ممّا يعني أنّها كانت محاولة من الإعلام الأمويّ لتضليل الناس وامتصاص
________________________________________
(20)- ابن كثير، البداية والنهاية، ج8، ص184. وجلال الدين السيوطي، تاريخ الخلفاء، ص 208، الطبعة الاولى، مطبعة السعادة، مصر. وكذا الذهبي، سير اعلام النبلاء، ج3، ص317.

[الصفحة - 90]


نقمتهم وتهدئة خواطرهم.
2 ـ إنّ مظاهر الحبكة واضحة على هذه الحكاية، كما أنّ أغراض تشويه الحركة الحسينيّة جليّة عليها. إذ ما معنى أن يرفض الوالي الأمويّ ابن زياد أن يرضخ الحسين للحاكم الأمويّ، الذي يمثِّل السلطة العليا في الدولة، ويُصرّ على أن يَخضع له مع أنَّ سلطته متفرِّعة عن سلطة الحاكم الأعلى؟ وما معنى أن يعرض الحسين الرضوخ للحاكم ويرفض الرضوخ لواليه وممثله وإن أدّى ذلك إلى قتله وقتل أهل بيته وأنصاره وسبي نسائه وهتك حرماته؟ كما أنّه كان من الممكن جداً أن تبدأ السلطة الأمويّة التفاوض مع الإمام الحسين (ع) في التفاصيل والشكليّات الإجرائيّة طالما قَبِلَ الرضوخ من حيث المبدأ للحاكم الأمويّ.
من جهةٍ أُخرى، إنّ هذه الحكاية لا تتّفق مع منطق الأحداث منذ اليوم الأوّل وحتّى اليوم الأخير من الواقعة، بل لا تتّفق مع الحوادث التي جرت وتتالت بعدها مع نساء الإمام الحسين (ع) وأطفاله من أَسْرِهم وسوقهم في البلدان وربط الإمام علي بن الحسين السجّاد (ع) بالأغلال، كما ذكر عددٌ من المؤرِّخين منهم الذهبيّ في سير أعلام النبلاء (21). كما أنّها لا تتّسق بتاتاً مع مواقف الإمام الحسين (ع) ولا مع كلماته، بل تتعارض معها أشد المعارضة.
3 ـيُلاحظ أنَّ الواقعة خلت من أيِّ دور للعيون والجواسيس والمخبرين السريّين الذين دأبوا على رفع تقارير سريّة عن الأوضاع السياسيّة والإداريّة بالولايات والأمصار ومنها الكوفة إلى مركز الحكم الأموي بالشام .! كما سبق لهم أن رفعوا تقارير عن تردّي الأوضاع الإدارية والسياسيّة والإجتماعيّة بالكوفة وأنّ الرأي العام يميل لصالح حركة مسلم بن عقيل الثوريّة، إبَّان ولاية النعمان بن بشير الأمر الذي حدا بالحاكم الأمويّ يزيد بن معاوية إلى أن يضمّ إلى عبيد الله بن يزيد ولاية الكوفة ويأمره بالتوجّه الفوريّ إليها لمواجهة الحركة الثوريّة المتنامية فيها وقمعها. من ناحيةٍ أُخرى يُلاحظ أنّ الوالي عبيد الله بن زياد ظلَّ بعد مقتل الإمام الحسين (ع) على
________________________________________
(21)- الذهبي، سير اعلام النبلاء، ج3، ص 319، ويشار اليه بسير التبلاء، الطبعة الثامنة، مؤسسة الرسالة.

[الصفحة - 91]


رأس سلطاته وولاياته على البصرة والكوفة، ولم يتعرّض لأيّة عقوبة من قبل الحاكم الأعلى على جريمته الكبيرة. وهذا يؤكِّد على توافقهما على الأمر، وأنّه إنّما كان ينفِّذ البرنامج الذي رسمته السلطة العليا المتمثِّلة في الحاكم الأمويّ بالشام يزيد بن معاوية. ولقد كانت طبيعة مهمَّة الوالي عبيد الله بن زياد تقتضي حزماً وسرعةً في التنفيذ تحسباً وتفادياً لأية مفاجآت وتقلبات في موازين الأمور. وممَّا يؤكِّد توافقهما على القرار، ما أورده بعض المؤرِّخين كالخوارزمي في مقتله عن تعليمات مبكرة صدرت عن يزيد بن معاوية إلى واليه على المدينة بقتل من يأبى مبايعته، بالإضافة إلى رسالة بعث بها عبيد الله بن زياد إلى الحسين في كربلاء، جاء فيها: «وقد كتب إليَّ ... يزيد، أن لا أتوسَّد الوثير ولا أشبع من الخمير حتّى ألحقك باللطيف الخبير، أو ترجع إلى حكمي وحكم يزيد» (22). وبقي عبيد الله بن زياد والي الكوفة والبصرة من أشدِّ المدافعين المخلصين عن الحكم الأمويّ في وجه الحركات المناوئة للحكم الأمويّ والتي ظهرت بعد ملحمة كربلاء. وهذا يدلّل على أنّ القصة حيكت خيوطها، لمجرّد تبرئة الحاكم الأمويّ يزيد بن معاوية من جريمة قتل سيّد شباب أهل الجنة وسبط رسول الله (ص)بأية طريقة مهما كانت متكلَّفة. ولهذا نجد هذه الأخبار جاءت مخالفةً للقواعد الشرعيّة والقانونيّة والإداريّة الواضحة، من حيث مسؤوليّة الحكَّام والولاة والقادة السياسيّين والعسكريّين والمسؤولين الكبار في الأجهزة الإداريّة والسياسيّة، بل حسب القواعد التي تبانت عليها المجتمعات الإنسانيّة.
4 ـفي المقابل هناك روايات تؤكِّد على أنّ والي الكوفة ابن زياد كان مصرّاً على بيعة الحسين ليزيد بن معاوية. روى الطبريّ وكذلك غيره من المؤرِّخين كالمفيد والخوارزمي، مع اختلافٍ يسير، وحسب الطبريّ عن هشام، قال حدَّثني عوانة بن الحكم عن عمار بن عبد الله بن يسار الجهني عن أبيه. ومفاد الرواية، أنّ قائد الجيش الأمويّ عمر بن سعد بن أبي وقاص كتب إلى الوالي الأمويّ عبيد الله بن زياد: «فإنّي حيث نزلت بالحسين بعثت إليه رسولي، فسألته عمّا أقدمه؟ وماذا يطلب ويسأل فقال:
________________________________________
(22)- مقتل الخوارزمي، ج 1، ص262، ص 341.

[الصفحة - 92]


كتب إليّ أهل هذه البلاد وأتتني رسلهم، فسألوني القدوم ففعلت، فأمَّا إذ كرهوني فبدا لهم غير ما أتتني به رسلهم، فأنا منصرف عنهم»، فأجابه ابن زياد: «أمّا بعد، فقد بلغني كتابك وفهمت ما ذكرت، فاعرض على الحسين أن يبايع ليزيد بن معاوية، هو وجميع أصحابه، فإذا فعل رأينا رأينا والسلام». فلمَّا قرأ عمر بن سعد الكتاب، قال: «حسبت ألا يقبل ابن زياد العافية» (23).
وهشام بن محمد بن السائب الكلبي وهو إخباري معروف، نقل عنه الطبري وغيره من المؤرّخين. وقد وصفه النجاشيّ حسبما نقل عنه السيد الخوئي في المعجم، بالعالم بالأيّام المشهور بالفضل والعلم وكان يختص بمذهبنا (24). في المقابل جرحه النقّاد من غير الإماميّة، فقد ترجمه الذهبي في الميزان بقوله: «أبو المنذر الإخباري النسّابة العلامة، روى عن أبيه أبي النضر الكلبي المفسّر وعن مجاهد وحدّث عنه جماعة. وقال أحمد بن حنبل عنه، كان صاحب سمر ونسب ما ظننت أحداً يحدِّث عنه. وقال الداراقطني وغيره: متروك. وقال ابن عساكر: رافضيّ ليس بثقة (25). ولكن أثنى عليه ياقوت الحمويّ (26).
أمّا عوانة بن الحكم، فقد وصفه ابن حجر في لسان الميزان، بأنّه الإخباريّ المشهور الكوفيّ، كثير الرواية عن التابعين، قلّ أن يروي حديثاً مسنداً، أكثر عنه المدايني، وروي عن عبد الله بن المعتز أنّه كان عثمانياً يضع الأخبار لبني أميّة (27). وحسب فؤاد سزكين أنّه يقدّم الرواية الأموية ويورد أحياناً إلى جانبها الرواية العراقيّة أو المدنيّة التي تقابلها (28).
أمّا عمار الجهني فهو من رجال الصادق (ع) حسب رجال الشيخ كما عن السيد الخوئي في معجم رجال الحديث (29).
وهذه الرواية تدلُّ على أنّ السلطة الأمويّة عبر كلِّ ولاتها ومسؤوليها، سواء في المدينة أم مكّة أم الكوفة، وفي مختلف المراحل وحتّى آخر يوم، كان مطلبها الأساس من الإمام الحسين (ع)، هو مبايعة يزيد بن معاوية وإسباغ الشرعيّة على حكمه، الأمر
________________________________________
(23)- تاريخ الطبري، ج5، ص411.
(24)- معجم الخوئي، ج19، ص308.
(25)- ميزان الذهبي، ج، ص، وكذا لسان الميزان، لابن حجر، ج6، ص196.
(26)- تاريخ الاسلام الثقافي، ص 59.
(27)- ابن حجر العسقلاني، لسان الميزان، ج4، ص368، الطبعة الثالثة، 1986، مؤسسة الأعلمي، بيروت، ويشار اليه بلسان ابن حجر.
(28)- تاريخ الاسلام الثقافي، ص 57.
(29)- معجم الخوئي، ج12، ص272.

[الصفحة - 93]


الذي رفضه الإمام الحسين (ع) مراراً، وأصرَّ على موقفه الرافض حتّى النفَس الأخير منه. من ناحيةٍ أُخرى، فإنَّ المضمون الذي ورد في رسالة عمر بن سعد حسب هذه الوثيقة، ينسجم مع كلمات الإمام الحسين (ع) وحواراته وردوده وخطبه في مختلف المراحل من مسيره. ويظهر من فحوى الكتاب المذكور لقائد الجيش الأمويّ عمر بن سعد، أنّه نقل لابن زياد صورةً دقيقةً عمّا دار بينه وبين الحسين في ذلك اللقاء، إذ إنّ جواب الإمام الحسين (ع) فيه جاء متَّفِقاً مع سائر كلماته وردوده، وهو أنّه ـ الحسين ـ لم يتوجّه إلى الكوفة إلا بناء على طلب أهلها، وأنّه أبدى استعداده للانصراف عنها إن عدلوا عن رأيهم، كما هو عليه الحال. ويبدو أنّ عمر بن سعد قد اقتنع بأنّه لا مبرّر لقتاله، وظنّ أنّ هذا كافٍ لإقناع ابن زياد أيضاً بالعدول عنه لعدم وجود مسوِّغٍ لارتكاب جريمةٍ لا تنتج لهم إلا العار والشنار، وبالتالي تُخلِّصه من هذا المأزق الذي وضع نفسه فيه.
5 ـهناك روايات تنفي وتكذِّب ما نسب إلى الإمام الحسين (ع) في الروايات السابقة، من استعداده للتفاهم مع يزيد بن معاوية. فقد ذكر بعض المؤرِّخين كالطبريّ وغيره، عن عقبة بن سمعان مولى الرباب زوجة الحسين(ع)، الذي كان شاهد عيان على كلِّ مجريات الواقعة، وهو ممّن بقي حياً، بخلاف ما قيل في بعض المصادر. فقد أنكر عقبة بن سمعان ما كان يروِّجه الحكم الأموي من إشاعات كاذبةٍ مفادها أنّ الحسين عرض أن يضع يده في يد يزيد بن معاوية. فقد روى الطبريّ عن أبي مخنف، فأمَّا عبد الرحمن بن جندب، فحدّثني عن عقبة بن سمعان قال: «صحبت حسيناً فخرجت معه من المدينة إلى مكّة، ومن مكّة إلى العراق، ولم أفارقه حتَّى قُتل، وليس من مخاطبته الناس كلمة بالمدينة ولا بمكّة ولا في الطريق ولا بالعراق ولا في عسكر إلى يوم مقتله إلا وسمعتها. ألا والله ما أعطاهم ما يتذاكر الناس وما يزعمون، من أن يضع يده في يد يزيد بن معاوية، ولا أن يسيّروه إلى ثغرٍ من ثغور المسلمين، ولكنه قال: دعوني فلأذهب في هذه الأرض العريضة حتى ننظر ما يصير أمر الناس» (30).
________________________________________
(30)- تاريخ الطبري، ج 5، ص413.

[الصفحة - 94]


وأهمّ الرواة لهذه الرواية هم، أبو مخنف، لوط بن يحيى، الأخباريّ المشهور، وقد اختلفت التقييمات الرجاليّة فيه. قال عنه النجاشي، كما نقل عنه السيّد الخوئي في المعجم: «شيخ أصحاب الإخبار بالكوفة ووجههم، وكان يسكن إلى ما يرويه» (31). في المقابل جرّحه الذهبيّ في الميزان، وقال عنه: «إخباريّ تالف لا يوثق به». وأضاف قائلاً: «تركه أبوحاتم، وقال الداراقطني ضعيف، وقال يحيى بن معين ليس بثقة، وقال ابن عدي شيعي محترق، صاحب أخبارهم» (32). ومن كلام ابن عدي وتعليله يتبيّن سبب تجريح بعضهم له. مع أنّه كما صرح ابن أبي الحديد لم يكن شيعياً بالمعنى المصطلح، ولكن يظهر أنّ اتِّجاهه وهواه السياسيّ كان معهم، قال: «أبو مخنف من المحدّثين وممن يرى صحّة الإمامة بالاختيار وليس من الشيعة ولا معدوداً من رجالها» (33). ونصّ ابن كثير في تاريخه على تشيّعه وقال: «ضعيف الحديث عند الأئمّة، ولكنّه إخباري حافظ عنده من هذه الأشياء ما ليس عند غيره» (34). بينما ذهب بعض الباحثين المعاصرين في التاريخ، كعبد العزيز الدوري والدكتور فؤاد سزكين، إلى أنّ أخباره على العموم ليست متحزّبة (35). أمّا عبد الرحمن بن جندب، فقد قال عنه في ابن حجر في لسان الميزان، بأنّه متروك (36). واعتبره الطوسيّ في رجاله من أصحاب الإمام علي (ع)، كما نقله السيد الخوئي في معجم رجال الحديث(37).
وعلى أيّ حال، فإنّ هذه الشهادة الصريحة القاطعة من عقبة بن سمعان تؤكّد بطلان تلكم الحكاية التي نسجتها أجهزة الدعاية الأموية مبكراً. ولهذا نفى السبط ابن الجوزيّ في تذكرة الخواص أن يكون الحسين قد عرض عليهم ذلك.
ويظهر من التأمّل في كلمات عقبة بن سمعان السالفة، وبالأخصّ قوله: «والله ما أعطاهم ما يتذاكر الناس وما يزعمون»، أنّ الأجهزة الأمويّة بدأت في ترويج هذه الحكاية بعد مقتل الإمام الحسين (ع)، الأمر الذي أثار استغراب عقبة ودعاه إلى تكذيبها بقوّة. لقد كانت محاولةً مفضوحةً لتبرئة الحاكم الأمويّ وامتصاص نقمة الجماهير المسلمة وتسكين غضبها من مرتكبي الجريمة النكراء. وقد ذكر الذهبيّ
________________________________________
(31)- معجم الخوئي، ج 14، ص136.
(32)- ميزان الذهبي، ج3، ص419.
(33)- ابن ابي الحديد المعتزلي، شرح نهج البلاغة، ج1، ص 147، دار الفكر.
(34)- ابن كثير، البداية والنهاية، ج 8، ص161، الطبعة الثانية، دار الكتب العلمية، بيروت.
(35)- تاريخ الاسلام الثقافي، ص 58.
(36)- لسان ابن حجر، ج3، ص 408.
(37)- معجم الخوئي، ج9، ص315.

[الصفحة - 95]


في (سير أعلام النبلاء) والسيوطي في (تاريخ الخلفاء)، واللفظ للثاني، أنّه: «لمَّا قتل الحسين وبنو أبيه بعث ابن زياد برؤوسهم إلى يزيد، فسرَّ بقتلهم أولاً، ثمَّ ندم لمّا مقته المسلمون على ذلك وأبغضه الناس، وحقٌّ لهم أن يبغضوه» (38).
ويروي ابن كثيرٍ في تاريخه تفاصيل مهمّة جداً تلقي الضوء على بعض الملابسات والخفايا، حيث يذكر أنّ يزيد سرَّ بقتله أولاً وحسنت منزلة ابن زياد عنده ثمّ لم يلبث أن ندم على ذلك. وكان يلعن ابن مرجانة، أي عبيد الله بن زياد، ويقول: «إنّه أحرجه واضطرّه، وقد كان سأله ـ الحسين ـ أن يخلي سبيله أو يأتيني أو يكون بثغرٍ من ثغور المسلمين حتّى يتوفّاه الله، فلم يفعل، بل أبى عليه وقتله، فبغَّضني بقتله إلى المسلمين وزرع لي في قلوبهم العداوة فأبغضني البر والفاجر بما استعظم الناس من قتلي حسيناً» (39). وما ذكره ابن كثير يكشف النقاب عن حقيقة الأمر. ويَرجع نسج خيوط هذه الحكاية إلى القصر الأمويّ بالشام، ويُفصح عن الأسباب الكامنة وراءها، وهي تبرئة الحاكم الأمويّ يزيد بن معاوية من قتل الحسين، وتحسين صورته في المجتمع. وهذا يدل على أن يزيد بدأ يظهر أمام الناس تعاطفه مع الحسين ويكثر من ذمِّ عبيد الله بن زياد وإلقاء المسؤوليّة عليه، بعدما عمَّ السخط والنقد ضده جرّاء مقتل الإمام الحسين وأهل بيته وسبيه لنسائه وذراريه. وممّا يؤكِّد موقفه الأوّل الذي يدلّ على رضاه وسروره بمقتل الحسين، ما ذكره جمع من المؤرِّخين كالطبريّ في تاريخه والذهبيّ في سير أعلام النبلاء من أنّ يزيد بن معاوية، وضع رأس الإمام الحسين أمامه فكان ينكت رأسه بالقضيب (40)، وأنّ يزيد كان يتمثّل بالبيت الشعريّ، ولم يشأ الذهبي أن يحدِّد البيت الشعريّ المذكور بل اكتفى بإشارةٍ مبهمةٍ إليه! ويظهر أن البيت المذكور هو:
لعبت هـاشم بالملك فـلا خبـر جاء ولا وحي نـزل
كما ذكر الخوارزمي في مقتله والسيد ابن طاووس في اللهوف (41). ونقل ابن كثير عن تاريخ ابن عساكر أنّه لمّا وضع رأس الحسين بين يديه تمثّل بنفس شعر
________________________________________
(38)- السيوطي، تاريخ الخلفاء، ص208، وكذا سير النبلاء للذهبي، ج3، ص317.
(39)- ابن كثير، البداية والنهاية، ج 8، ص 186.
(40)- تاريخ الطبري، ج5، ص 390، وكذا سير النبلاء للذهبي، ج3، ص309، ص319، وابن كثير في البداية والنهاية، ج8، ص158.
(41)- مقتل الخوارزمي، ج2، ص66.

[الصفحة - 96]


الشاعر الجاهلي ابن الزبعرى، وذكر بيتاً آخر منه، وهو:
ليت أشيـاخي ببدر شهـدوا جـزع الخزرج من وقـع الأسل
موهماً أنّ البيت الأوّل هو من زيادات الرافضة (42)!! كما ذكر الذهبي في سير أعلام النبلاء أنّ رأس الحسين (ع) صلب ثلاثة أيام، وأنّ الإمام علي بن الحسين، زين العابدين، جيء به مغلولاً(43)!!
وعلى الرغم من محاولات بعض أعلام المحدّثين والمؤرّخين تجميل صورة يزيد بن معاوية، ولكنّهم مع ذلك لم يجدوا بداً من التصريح ببعض اتِّجاهاته الفكريّة وصفاته الأخلاقيّة وأعماله المنكرة. فقد حمَّله ابن كثير في البداية والنهاية مسؤوليّة إباحة المدينة ثلاثة أيّام وما نتج عنها من قتل خلقٍ كبيرٍ من الصحابة وأبنائهم، وصرّح بأنّه قتل الحسين وأصحابه على يدي عبيد الله بن زياد. وصرّح الذهبي في سير أعلام النبلاء، بأنّ يزيد كان ناصبياً فظّاً غليظاً يتناول المسكر ويفعل المنكر. وأنّه افتتح دولته بمقتل الشهيد الحسين واختتمها بواقعة الحرّة فمقته الناس. وذكر السيوطي في تاريخ الخلفاء أنّه لمّا خرج الحسين من مكّة مع آل بيته كتب يزيد إلى واليه عبيد الله بن زياد بقتاله (44).
النقطة الرابعة: استخلاصات
وممّا سبق يظهر أنّ ملابسات وضع هذه الحكاية تعود إلى أحد احتمالين، كما يمكن أن يكون مردّها إليهما معاً فليس بينهما تنافٍ، وهما:
1ـ إمّا أنّها من اختلاق وفبركة قائد الجيش الأمويّ، عمر بن سعد بن أبي وقاص، وذلك في محاولة منه لكي يخلّص نفسه من هذه المهمّة التي تورّط بها والتي ستشكّل وصمة عار على جبينه، وفي نفس الوقت ربما مكّنه ذلك من أن يُحافظ على مكانته في السلطة الأمويّة، وعلى بعض مصالحه ومكاسبه التي وعِدَ بها وعلى رأسها توليته بلاد الري. ولعلّ ما ذكره المفيد في الإرشاد يؤيِّد ذلك، حيث ذكر أنَّ الحسين
________________________________________
(42)- ابن كثير، البداية والنهاية، ج8، ص 163، ص 180.
(43)- سير النبلاء للذهبي، ج3، ص 319، وكذا ابن كثير في البداية والنهاية،ج8،ص163.
(44)- ابن كثير، البداية والنهاية، ج8، ص178، سير النبلاء للذهبي، ج 4، ص 38، وتاريخ الخلفاء للسيوطي، ص 207.

[الصفحة - 97]


لمَّا رأى نزول العساكر مع عمر بن سعد ومددهم لقتاله، أنفذ إلى عمر بن سعد أنّي أريد أن ألقاك وأجتمع معك، فاجتمعا طويلاً ثمَّ رجع عمر بن سعد إلى مكانه وكتب إلى عبيد الله بن زياد كتاباً جاء فيه: «فإنّ الله قد أطفأ النائرة وجمع الكلمة وأصلح أمر الأمّة، هذا حسين قد أعطاني عهداً أن يرجع إلى المكان الذي منه أتى أو أن يسير إلى ثغرٍ من الثغور فيكون رجلاً من المسلمين له ما لهم وعليه ما عليهم أو أن يأتي أمير المؤمنين يزيد فيضع يده في يده فيرى فيما بينه وبينه وفي هذا لك رضى وللأمّة صلاح» (45). فيُلاحظ أنّ الشيخ المفيد لم يُشِر إلى أنّ الإمام الحسين (ع) عرض هذه البدائل بل اكتفى بنسبتها إلى عمر بن سعد، ممّا يُشعر باعتقاده أنّها كانت من اختلاق وتحوير عمر بن سعد للوقائع، فيما يشبه محاولةً يائسةً منه للتخلّص من هذا المأزق. كما أنّ جواب الوالي الأمويّ ابن زياد على قائد الجيش الأموي عمر بن سعد يُشير إلى وجود محاولات خجولة من الأخير للتخلّص من هذه المهمّة النكراء. فقد ردّ عليه حسب المفيـد: «إنّي لم أبعثـك إلى الحسين لتكفّ عنـه ولا لتطاوله ولا لتمنّيه السلامة والبقاء ولا لتعتذر عنه ولا لتـكون له عندي شافعاً. انظر فإن نزل الحسين وأصحابه على حكمي واستسلموا فابعث بهم إليّ سلماً وإن أبوا فازحف إليهم حتّى تقتلهم وتمثّل بهم فإنّهم لذلك مستحقّون...» (46). ويظهر أنّ ابن زياد، لمَّا أدرك ذلك أراد أن يضع ابن سعـد في زاوية حرجة، ويقـطع عليه الطريق، فأمـره بأن يَعرض على الحسين أن ينزل على حكمه هو، فإن قَبِلَ يأتي بهم إليه سلمـاً. وإلا فابن زياد قد سبق أن ردّ على رسـالة عمر بن سعد الأولى التي حـاول فيها التخلّص من مهمّة قتال الإمام الحسين (ع) وأصرّ عليه أن يعرض عليه أن يُبايع ليزيد بن معاوية. على أنّ الطبريّ أورد نصّ هذه الرسالة عن أبي مخنف عن أبي جناب الكلبي بصورةٍ مختلفةٍ قليلاً، ولعلّها أدقّ. فقد جاء فيها: «فإنّي لم أبعثك إلى حسين لتكفّ عنه ولا لتطاوله... انظر إن نزل حسين وأصحـابه على الحكم واستسلموا فابعث بهم إليّ سلماً، وإن أبوا فازحف اليهم...» (47). فيُلاحظ أنّ اسم الحسين ورد فيهـا مجرّداً، كما
________________________________________
(45)- الشيخ المفيد، الارشاد، ص229.
(46)- الشيخ المفيد، الارشاد، ص 229.
(47)- تاريخ الطبري، ج 5، ص 415.

[الصفحة - 98]


لم يرد فيها أن يَعرض على الحسين وأصحابه أن ينزلوا على حكمه هو، بل أن ينزلوا على الحكم ويستسلموا، ويعني الرضوخ والاستسلام للحـكم الأمويّ الذي يمثله عبيد الله بن زياد.
2ـ أو أنّ أجهزة الدعاية الأمويّة هي التي اختلقتها وروّجتها بعد مقتل الإمام الحسين (ع) وما رافقه وما أعقبه من أحداث وفصول من قبيل أسر ذريّة الرسول(ص)وحملهم من الكوفة إلى الشام ضمن برامج احتفالية بمناسبة الانتصار الذي حقّقته بقتلها الإمام الحسين (ع) وأهل بيته وأنصاره. ولمّا لاحظ قادة السلطة الأموية أن تلكم المهرجانات الاستعراضيّة بدأت تنقلب عليهم بصورةٍ عكسيّة تدريجياً، نسجوا تلك الحكاية وأذاعوها بين الناس، لغرض تبرئة الحاكم الأمويّ يزيد وإلقاء اللائمة على واليه عبيد الله بن زياد. ومن الطبيعيّ أن يتلقفها بعض أهل الحديث والآثار المنتسبين إلى البلاط الأموي، ممّن أسهم معاوية في تشكيل اتِّجاهاتهم الفكريّة والسياسية، بما كان يغدقه عليهم من الهبات والعطايا والمكافآت. قال الذهبي في (سير أعلام النبلاء): «وخلف معاوية خلق كثير يحبونه ويتغالون فيه ويفضّلونه، إمّا قد ملكهم بالكرم والعطاء، وإمّا قد ولدوا في الشام على حبّه، وتربّى أولادهم على ذلك. وفيهم جماعة يسيرة من الصحابة وعدد كثير من التابعين والفضلاء، وحاربوا معه أهل العراق (أي حاربوا علياً (ع)) ونشؤوا على النصب...»، أي نصب العداء للإمام علي ولأهل البيت(عليهم السلام) (48).
ولا يبعد أيضاً صحّة الاحتمالين معاً، فإنّ قائد الجيش الأمويّ عمر بن سعد بن أبي وقاص اختلق القصّة وفبركها لتحقيق أغراضه الشخصيّة، ولكنّه فشل في تحقيقها. ولكنّ السلطة الأموية لمّا رأت التداعيات السلبيّة بدأت تظهر بعد مقتل الحسين وأهل بيته وصحبه الأخيار، وأنّ حالة النقد بدأت تتفشّى في الأمصار وأخذ الناس يحمِّلون الحكم الأمويّ مسؤوليّة ما جرى على أهل البيت (عليهم السلام)، وأخذت حالة التعاطف معهم تتنامى في مختلف المناطق، قامت أجهزة الدعاية الأموية ورجالاتها بتوظيف هذه
________________________________________
(48)- سير النبلاء للذهبي، ج3، ص128.

[الصفحة - 99]


الحكاية المفبركة وترويجها في الرأي العام المسلم، وأخذ يزيد بتوجيه اللوم إلى واليه ابن زياد والتظاهر بالحزن وعدم الرضا لما وقع مع الإمام الحسين وأهل بيته. وهذا الأمر الذي أكّده الذهبيّ والسيوطيّ في تاريخيهما، وقبلهما ابن كثير في تاريخه، كما سبقت إليه الإشارة. بل يذكر ابن كثير في تاريخه أنّ عبيد الله بن زياد طالب عمر بن سعد أن يسلِّمه الكتاب الذي كلّفه بموجبه بقتل الحسين، فتملّص الأخير من ذلك، وكأنّه فَطِنَ إلى قصده، من أنّه يريد إتلافه وتحميله المسؤوليّة وحده، فردّ عليه قائلاً: «مضيت لأمرك وضاع الكتاب»، وبعد إلحاحه عليه قال له: «تُرك والله يقرأ على عجائز قريش أعتذر إليهم بالمدينة، أما والله لقد نصحتك في حسين نصيحة لو نصحتها سعد بن أبي وقاص لكنت قد أدّيت حقّه» فقال عثمان بن زياد أخو عبيد الله: صدق عمر والله، ولوددت والله أنّه ليس من بني زياد رجل إلا وفي أنفه خزامة إلى يوم القيامة وأنّ حسيناً لم يقتل»(49). وهذا يدلّ على عمق حالة السخط التي عمّت الرأي العام المسلم جراء مقتل الإمام الحسين (ع) وسبي ذراري رسول الله(ص)، بحيث جرت محاولات من بعض القادة السياسيين والعسكريّين البارزين التملّص من المسؤوليّة.
________________________________________
(49)- ابن كثير، البداية والنهاية، ج8، ص166.

[الصفحة - 100]
 
فروع المركز

فروع المركز

للمركز الإسلامي للدراسات الإستراتيجية ثلاثة فروع في ثلاثة بلدان
  • العنوان

  • البريد الإلكتروني

  • الهاتف