مقدّمة
إنّ الأدب الأندلسيّ لم يكن أموياً بصورة كليَّة، بل إنَّنا نرى أنَّ قسماً من أدب الأندلس كان أدباً إسلامياً أصيلاً شيعياً بعيداً عن الخلاعة والمجون، فهناك مدائح في حقِّ أمير المؤمنين الإمام علي(عليه السلام) وفاطمة الزهراء (عليهما السلام) مضافاً إلى المراثي الحسينيّة بشكل خاص. جاء في كتاب (دائرة المعارف الإسلاميّة الشيعيّة) للأستاذ حسن الأمين اللبنانيّ أسماء عددٍ من الشعراء الشيعة في الأندلس ومنهم: محمّد بن هاني الأندلسيّ وأبو عبد اللّه الرعسيني وعبادة بن ماء السماء وأحمد القسطلي وعبد الرحمن الأشبوني وأبو البحر المرسي والجراوي. وقد خصّ کثيرٌ من الشعراء الأندلسيين قسماً من أشعارهم لرثاء الإمام الحسين (عليه السلام). وخير كتابٍ أُلِّفَ في هذا الميدان كتاب (أدبُ الطفِّ أو شعراء الحسين(عليه السلام)) ومؤلِّفه: حجة الإسلام والمسلمين السيد جواد شبّر النجفي. وقد طُبِعَ هذا الكتاب النفيس في النجف الأشرف وفي بيروت عدّة مرات وذُكِرَت فيه أسماء شعراء أندلسيين رثوا الإمام الحسين (عليه السلام) ومنهم : صفوان بن إدريس الذي ذمَّ في أشعاره بني أميّة ومدح أهل البيت (عليهم السلام) والحسين (عليه السلام) بصورة خاصّة. إلا أنَّ بعض الأدباء رفضوا وجود وزعموا أنَّ الأندلسيين کانوا جميعاً من السنّة. ولا نری ذلک. وقد أوردنا في هذا البحث بعد إثبات وجود التشيع في الأندلس، قسماً من أشعار الشعراء الشيعيين الملتزمين بحبّ
________________________________________
(*) عضو الهيئة العلمية بجامعة زابل، من إيران.
[الصفحة - 111]
أهل البيت (عليهم السلام) لکي يکون خيرَ دليلٍ على وجود الأدب الشيعيّ في الأندلس، وذلک من خلال استعراض النقاط التالية:
1- التشيع في الأندلس
بدايةً لا بدّ أن نذکِّر بأنّ الحديث عن التشيّع في الأندلس لا يعني الحديث عن طائفةٍ مقابل طائفة کما يوحي بذلک الانقسام الموجود في عالمنا الإسلاميّ اليوم، بل إنّ التشيّع کان يمثّل التيّار الذي يرفض التمييز العرقيّ والطبقيّ، ويثور علی الحاکم الظالم، ويدعو إلی الکمال من علم وتقوی. ثمّ إنّ فکر التشيّع لآل البيت، بالمعنی الأعمّ، کان موجوداً من أوائل الفتوحات الإسلاميّة في أنحاء العالم الإسلاميّ لا سيما في الأمم المغلوبة، نتيجة التضادّ الموجود بين إسلام السلطة، خصوصاً في عهدَيْ بني أميّة وبني العبّاس، وبين الإسلام الموصوف في القرآن الکريم والمحکيّ من خلال السيرة النبويّة. وکلَّما عرف المسلمون قداسة الرسالة الإسلاميّة وعلموا بانحراف السلطة عن السيرة النبويّة، عدلوا عن الحكّام وأمرائهم ومالوا إلی العترة الطاهرة ونقبائهم، الذين حيّاهم الروح الأمين وحلّاهم الکتاب المستبين وطهّرهم الله من الرجس وشرّف بهم الإنس. فبقدر انحراف السلطة عن الأصول الإسلاميّة وأهدافها، تحقّقت کراهية المؤمنين للسلطة وأصحابها، وتبلورت وجهة نظرهم نحو الأسرة الطاهرة وأنصارها. فهذه الفکرة بصورتها الساذجة، هي التشيّع بالمعنی الأعمّ الذي کان موجوداً عند الأمّة الإسلاميّة في أيّ زمانٍ ومکانٍ، خاصَّة عند الملل المغلوبة الذين اعتنقوا الإسلام رجاءً للعدالة الإسلاميّة ولم يجدوها عند الأمراء الخلفاء. ونفس هذه الفکرة أکَّدت التشيّع المذهبيّ، المتَّهم بالرفض عند الأسرة الحاکمة؛ کما أدّت بعد طيّ مراحلها التاريخيّة والثقافية إلی تأسيس الدول الشيعية واحدةً بعد واحدة، کما أدّت إلی تأسيس الدولة الهاشميّة العلويّة الإدريسيّة في المغرب ودولة الفاطميِّين في تونس ومصر ودولة الحموديين العلويين وقيام حرکة التشيّع في الأندلس، وفي سائر بقاع العالم الإسلاميّ. هذا ويری الدکتور مصطفی الشعکة أنّ المسلمين في الأندلس
________________________________________
[الصفحة - 112]
جميعهم کانوا علی مذهب أهل السنّة (1). وهکذا يعتقد شوقي ضيف أيضاً «إنّ الأندلس کانت محصَّنةً ضدّ التشيّع ودعاته» مستدلاً بقول المقدسيّ في أواخر القرن الرابع الهجريّ: «إنَّ الأندلسيين إذا عثروا علی متشيّع قتلوه» (2) ولا نری ذلک، رغم ما کان يتعرَّض له التشيّع من محاربة الحکام الأمويين، والمتشيِّع من مطاردةٍ في الأندلس، ونعتقد أنَّ التشيّع قد دخل الأندلس حتَّی منذ بدايات فتحها، ولنا دلائلنا:
أولاً: إنّ التشيع في الأندلس کان في الحقيقة وليد التشيّع في المغرب، وفکرة التشيّع بالأندلس هي شعبة من فکرة التشيّع منطقياً وتاريخياً بالمغرب الأقصی وشمال أفريقيا خصوصاً المغرب العربيّ، فإنّ للمغاربة منذ بداية تاريخهم الإسلاميّ، محبة شديدة وتعلّقاً کبيراً بآل البيت الأطهار، ويدلُّ علی ذلک مؤازرتهم لهم حيث وجدوا عندهم الملاذ بعد أن حوربوا في بلادهم وقتلوا أشدّ تقتيل ويئسوا من البقاء في ديارهم، فالتجأوا إلی بلاد المغرب، فأيَّدهم المغاربة ونصروهم واعترفوا بحقِّهم، وتبرّؤوا من أعدائهم. وبذلک تکوَّنت في رحاب المغرب الأقصی وبين ظهرانیّ المغاربة، الدولة الهاشميّة الإدريسيّة، وهي أوّل دولة علويّة تتکوّن في العالم الإسلاميّ (3). وهذا فضل للمغاربة سجّلوه في تاريخ العقيدة، ويلزم الاعتراف به. ولذلک کانت هذه المنطقة مؤهَّلة للتشيّع وترويج معتقداتهم. ويظهر أنَّ البربر ـ الذين لهم السهم الأوفی في فتح الأندلس ـ کانوا يتعاطفون علی الأقلِّ مع التشيّع، ويفهمون ما قدَّمه التشيّع من تضحيات جسيمة في سبيل الدِّفاع عن قِيَم الإسلام، ومن أجل محاربة الظلم والتمييز الطبقيّ والعنصريّ ولا سيما في ثورة کربلاء ولذلک يقول المقريّ إنّ الأمويين حين دخلوا الأندلس بعد سقوط خلافتهم في بغداد أخفوا نسبهم الأموي وسمّوا أنفسهم قرشيين «لمَّا انحرف الناس عنهم وذکروا أفعالهم في الحسين بن علي رضي الله عنه» (4).
ثانياً: وجود الهاشميّين وکذلک أبناء الصحابة الأوائل مع الفتح الإسلاميّ للأندلس ممَّن کانوا معروفين بالولاء للتيَّار العلويّ کأبناء عمار بن ياسر، وأبناء قيس
________________________________________
(1) ـ الشعكة، مصطفى، الأدب الأندلسي، ص74، الطبعة السادسة، بيروت، دار العلم للملايين، 1986م.
(2) - ضيف، شوقي، عصر الدول و الإمارات ـ الأندلس، ص54، القاهرة، دار المعارف، لا تاريخ.
(3) - الأندلسي، ابن الأبار، مقدمة درر السمط في خبر السبط، ابن الأبار الأندلسي، ص 23، تحقيق أبي الفتح دعوتي، الطبعة الأولی، طهران، مؤسسة الهدی الدولية، 1421هـ . ق.
(4) - التلمساني، أحمد بن محمد المقري، نفح الطيب من غصن الأندلس الرطيب، ج1، ص290، تحقيق الدکتور إحسان عباس، بيروت، دار صادر، 1988م.
[الصفحة - 113]
بن سعد عُبادة الأنصاريّ. وکان بينهم من الثائرين علی الحکم الأمويّ في الأندلس مثل الحسين بن يحيی بن سعد بن عُبادة سنة 165هـ وابنه سعيد بن الحسين وعبد الله بن سعد بن عمار بن ياسر سنة 143ه (5).
ثالثاً: کثرة الثورات بقيادة الموالين لمدرسة آل البيت، نذکر منها ثورات أبناء الصحابة وأوَّلها ثورة عبد الله بن سعيد بن عمار بن ياسر، والثورة الثانية التي قام بها الحسين بن يحيی بن سعد بن عُبادة الخزرجيّ. فقد ثار في سنة 165 بسرقسطة، وخلع طاعة عبد الرحمن. إضافةً إلی هذه الثورات العربية ثمة ثورات بربريّة موالية لأهل البيت، وأوَّل من قام بها شقيا بن عبد الواحد المکناسي، وکانت أخطر الثورات التي هدّدت عبد الرحمن الداخل وأطولها، إذ استمرّت من 151 إلی 160هـ . ومن الثورات الأخری ثورة أحمد بن معاوية القطّ سنة 288هـ وانتشرت بين القبائل البربريّة في منطقة الجوف، وحرکة أبي الخير في الأندلس وکانت أخطر حرکة فاطميّة علی الحکم الأمويّ بعد وفاة عبد الرحمن الناصر، فقد انتشرت في مناطق عديدة من بلاد الأندلس. وقد تفاعل الأندلسيُّون مع الدعوة الفاطميّة حتّی أصبح البربر في منطقة الجوف مهداً للتشيّع (6).
رابعاً: ظهور التشيّع بين العلماء الأندلسيّين، ولا سيما من اتَّصل منهم بعلماء المشرق. وتحدّثنا کتب التراجم عن تواصلٍ واسعٍ بين علماء الأندلس وبغداد والکوفة وأصفهان وخراسان، وبين هؤلاء من حمل معه التشيّع إلی الأندلس، مثل قاضي الجماعة بقرطبة منذر بن سعيد البلوطيّ، وهو من بربر منطقة الجوف المتشيِّعة، وممِّا أُثِرَ عنه غضبه حين قرأ أرجوزة ابن عبد ربه التي يذکر فيها الخلفاء الراشدين ويجعل معاوية رابعهم ولم يذکر علياً، فکتب علی حاشية الأرجوزة هذين البيتين (7):
أوما علیٌّ ـ لا برحت ملعّنا ـ يا بـن الخـبيثة عنـدک بإمام؟
ربّ الکساء وخير آل محمد دانـي الـولاء مقـدّم الإسـلام
________________________________________
(5) - أمين، أحمد، ظهر الإسلام، الجزء الثالث، ص 383، دار الکتاب العربي، 2008م ؛ و الأدب العربي في الأندلس، الدکتور محمد علي آذرشب نقلاً عن کتاب «المُغرب في حُلَی المَغرب»، ص29، الطبعة الأولی، طهران، منظمة سمت، 1387هـ.ش.
(6) - الأدب العربي في الأندلس، الدکتور محمد علي آذرشب، ص29.
(7) - م. ن، ص30.
[الصفحة - 114]
2ـ الأدب الشيعيّ في الأندلس:
ألف ـ مؤامرة بني أميّة والمؤرِّخين
أدب الشيعة له تاريخ عريق وخير شاهد على ما نقول كتاب (الغدير) للعلامة الأميني النجفي، وكتاب (أدب الطف) لحجة الاسلام السيد جواد شبر النجفي. وأمّا بالأندلس فإنه عندما قامت دولة الأمويّين واشتهروا بممارساتهم المسيئة، بدأ الناس ينحرفون عنهم لسوء سلوکهم؛ فاضطّر الأمويّون ـ کما ذکرنا من قبل ـ لأن يُخْفوا نسبهم الأمويّ وأن يُسمّوا أنفسهم قرشيين «لمَّا انحرف الناس عنهم وذکروا أفعالهم في الحسين بن علي رضي الله عنه» (8). وازدهر حينئذٍ أدب التشيّع، فکثر في الأندلس الأدباء الشيعة ومن ثمَّ أدب الولاء لآل البيت (عليهم السلام) ولا سيما ما يرتبط برثاء الإمام الحسين (عليه السلام)، واتَّسع ذلک في عصر دولة بني حمود الشيعيّة، ودولة الموحِّدين التي ينتسب حکَّامها إلی آل البيت. غير أنَّ سياسة الأمويِّين تجاه الشيعة كانت تقوم علی محاولة تجاهل آل البيت وحذف أخبارهم من المتون التاريخيّة، ومحو آثارهم من المجتمع الإسلامي، وکانوا في ذلک متبعين سياسة معاوية المعادية لکلِّ علويّ وفاطميّ. ولُعِنَ الشيعة علی المنابر وکانوا يعدّون الخلفاء الراشدين ثلاثة دون علي(عليه السلام). وهذه السياسة يعکسها ابن عبد ربّه الأموي في أرجوزته التاريخيّة التي اعتبر فيها معاوية رابع الخلفاء متجاهلاً علياً، ممَّا أثار غضب محبِّي أهل البيت. وقد أشرنا إلى ذلك في حديثنا عن التشيّع في الأندلس. کما أغفل المؤرخون ذکر ما يتعلَّق بتاريخ أمراء الحموديّين المتشيّعين من الأسرة الهاشميّة في الأندلس، وکان هؤلاء الأمراء يسلکون مسلک أجدادهم (الأدارسة) وساسوا الناس بالعدل ونُقلت عنهم الأخبار العجيبة لا سيما في عهد علي بن حمود الملقّب بالناصر لدين الله، وقد قصده الشاعر أحمد بن عبد المالک بن شهيد وقال وهو يودِّع قرطبة ملتجئاً إلی مالقة (9):
عليکم بداري فاهدموها دعائماً ففي الأرض بنـاؤون لي ودعائم
إذا هشمت حـقي أميـة عنـدها فهاتـا علی ظهر المحـجة هاشم
________________________________________
(8) - نفح الطيب من غصن الأندلس الرطيب، ج1، ص290.
(9) - الأمين، حسن، دائرة المعارف الاسلامية الشيعية، ج4 ، ص 27، بيروت، دار التعارف، 1393هـ.ق.
[الصفحة - 115]
وقد کان علي بن حمّود هذا ذا ولع شديد بالمدائح النبويّة، فکثر هذا الفنّ في عهده وشاع أدب البکاء والعزاء في الحسين (عليه السلام)، وقصده الشعراء المتشيِّعون مثل عبادة بن ماء السماء وأبي عبد الله الرعيني القرطبيّ وأبي عمر أحمد بن درّاج القسطلّي وأبي عبد الرحمن بن مقانا الفندقيّ الأشبونيّ (10). فعلی سبيل المثال قال عبد الرحمن بن مقانا الأشبونيّ في إدريس بن حمود وکان معروفاً بالخير والعدل (11):
يا بني أحمـد يا خيـر الـوری لأبيکم کان وفـد المسلمـين
نزل الوحـي عليـه فاحتـبی في الدجی فوقهم الروح الأمين
انظـرونا نقتبس مـن نورکم إنـه من نـور رب العالمـين
يُستفاد من كل ذلك أنَّ الأفکار الشيعيّة کانت منتشرة بالأندلس آنذاک، إلا أنّ المصادر العربيّة والسنيّة غضّت الطرف عن الحموديّين ولم تذکرهم إلا عند الضرورة كما اذا احتاجوا إلى نقل شعر شعراء الأندلس، وذلك لاستعظام الناس حقّهم ولکراهية الأمراء الأمويِّين وغيرهم ذکرهم.
ثمّة وثيقةٌ في غاية الأهميّة، تبيِّن بوضوح تعمّد الکتّاب والمؤرِّخين إهمال الأدب الشيعيّ. يذکر المقريّ أنَّه وقَع بيده کتاب (درر السمط في خبر السبط) لأبي عبد الله بن حمد القضاعي المعروف بابن الأبار، فأثنى علی الکتاب واستنسخه في نفح الطيب ولکن لم يورد کلّ ما فيه، ويقول: «ولم أورد منه غير ما ذکرته؛ لأنّ في الباقي ما تشمّ منه رائحة التشيّع، و الله يسامحه بمنه وکرمه»(12).
کما يظهر لنا ما کان غامضاً من قبل في مخطوطٍ أثريّ لكتابٍ مهمٍ في هذا الميدان وهو موجود في جامعة القرويّين باسم «إعلام الأعلام فيمن بويع بالخلافة»، ومؤلّفه لسان الدين بن الخطيب حيث جاء في هذا المخطوط وصف المآتم الحسينيّة من التمثيل بإقامة الجنائز و إنشاد المراثي، وذكر أنَّ هذه المراثي كانت حسينيّة، يقول لسان الدّين بن الخطيب: «لم يزل الحُزن متَّصلاً على الحسين، والمآتم قائمة في البلاد
________________________________________
(10) - مقدمة درر السمط في خبر السبط، ص 27.
(11) - دائرة المعارف الاسلامية الشيعية، ج4 ، ص 28
(12) - نفح الطيب من غصن الأندلس الرطيب، ج4، ص 506
[الصفحة - 116]
يجتمع لها الناس ليلة يوم قتل فيه ـ أي ليلة عاشوراء ـ ولا سيما بشرق الأندلس، يُقيمون رسم الجنازة في شكل من الثياب ويُحتَفل بالأطعمة والشموع، ويُوقَدُ البخور، ويُجلَب القرّاء ويُتَغنّى بالمراثي الحسينيّة، وبقيةٌ من هذا لم تنقطع بعد» (13). وقد أوضح لنا ابن الخطيب بنقله هذا الخبر مدی عناية الناس بأهل البيت في الأندلس وهو ما أغفله المؤرِّخون.
ب ـ الشعراء الشيعة البارزون في الأندلس
1ـ محمّد بن هانئ الأندلسي 326-362هـ : وهو يُعدّ في مقدّمة الشعراء الشيعة في الأندلس، ويقول عنه ياقوت الحمويّ في معجم الأدباء: «أديب شاعر مفلق، أشعر المتقدّمين والمتأخِّرين من المغاربة» (14). وطبيعة الأمور قضت أن لا يَظهر هذا الشاعر من فراغ، بل من بيئة تعي التشيّع، وتعي ما يجري من تحوّلٍ في شمال أفريقيا علی يد الفاطميّين، ولذلک انتقل إلی المغرب وعمره سبع وعشرون سنة.
يُجمِع الباحثون علی أنّ انتقاله إلی المغرب کان بسبب تشيّعه، ومن الواضح ـ بعد الأسباب التي ذکرناها ـ أنّ الأندلس عَرفت التشيّع، وکان فيها شيعة علی مرّ العصور، ولذلک فإنّ مغادرة ابن هاني للأندلس لم تکن طبقاً لأقوی الاحتمالات لعقيدته الشيعيّة، بل بسبب مواقفه الرافضة لِمَا في الأندلس من انحراف الحکّام، ولمَّا رأی أنّ الحکم العلويّ هو الأمين علی الرسالة الإسلاميّة. إذن موقفه کان سياسياً مناهضا لنظام الحکم الأمويّ في الأندلس، ونظام الحکم العباسيّ في بغداد، ولم يکن عقائدياً محضاً. ولذلک اتَّجه في المغرب إلی توظيف شعره لمدح الخلفاء الفاطميّين وولاتهم. ووجد في هذه الأسرة ما يحقّق آماله في الحاکم المطلوب.
ففي مدحه للمعزّ لدين الله الفاطميّ يُفصِح أنّ دولة الفاطميين ليست کدولة (العباسيين) التي استغلّت الأيَّام الهوجاء الرکيکة (الضعيفة) وسيطرت علی مقاليد الحکم، وأنَّ جذور دولة الفاطميّين تعود إلی بيت النبوّة وإلی مهبط الوحي. ويقول: إنَّ الذي دعاني إلی الالتحاق بالفاطميّين هو وِدٌّ لبّت علی أثره عزيمتي وناقتي وليلي
________________________________________
(13) - شبّر، السيد جواد، أدب الطف أو شعراء الحسين عليهالسلام، ج 4، ص ، الطبعة الأولى، بيروت، 1988م؛ ومقدمة درر السمط في خبر السبط، ابن الأبار الأندلسي، ص 29-30.
(14) - ياقوت الحموي، معجم الأدباء، ج19، ص92، الطبعة الثالثة، دار الفکر للطباعة و النشر، 1980م.
[الصفحة - 117]
والنجوم، وروح تأبی الذلّ، وتأبی الاستسلام أمام الأهوال. ولو أرادت بنو أمية أن تشدّه إليها لاختفی سنام التامک (المرتفع). ولقد أرادت أن تسدّ الطريق عليه، لکنه اجتاز کلَّ هذه الموانع وکأن المنايا تحته سرير نوم، يقول (15):
لکم دولة الصدق التي لم يقم بها نتيـلة والأيام هـوج رکائـک
تُرَدُّ إلی الفردوس منکم أرومـة يصلّي عليـکم ربّهـا والملائـک
ثنائي علی وحي الکتاب عليـکم فلا الوحي مأفوک ولا أنا آفـک
دعـاني لکم وُدٌّ فلبّت عزائـمي وعنسي وليلي والنجوم الشوابک
ومستکـبر لم يشعر الذّل نفسـه أيٌّ بأبکــار المهـاول فاتــک
ولو علقـته من أميّـة أحبُــلٌ لجُـبَّ سنامٌ من بني الشعر تامـک
ولما التقت أسيـافها ورماحـها شِراعاً وقد سُدّت عليَّ المسالـک
أجـزت عليها عابراً وترکتـها کأن المنايـا تحت جنـبي أرائـک
القارئ لأشعار ابن هانئ يری تعاليم الشيعة مبثوثة فيها، كشروط الدعوة والإمام المعصوم، وحقّه في الخلافة، وبطلان الدعوة العباسية. وقد ذکر أحمد أمين أبياتاً منه بهذا الصدد وقال إنّه اتَّبع تعاليم الشيعة ومنها قوله في تقديس الإمام، وأنّ فيه قبساً من نور الله (16):
هذا أمـين الله بين عبـاده وبلاده إن عُدّت الأمَنَاءُ
هو الوارث الأرض عن أبوين أبٍ مصطفیً وأب مرتضی
بالله مـن سببٍ بالله متّصل وظل عدل علی الآفاق ممدود
هـذا الشفيـع لأمة تأتي به وجدوده لجـدودها شفعاء
2ـ أحمد بن درّاج القسطلي: وهو من الشعراء الأفذاذ في الأندلس خلال القرن الخامس الهجريّ، وكان معاصراً لآل حَمّود وهم من السادة الأدارسة الحسنيّين في
________________________________________
(15) - محمد، أبو القاسم، ديوان ابن هانئ الأندلسي، ص 244-245، بيروت، دار صادر.
(16) - ظهر الإسلام، ص 468-469.
[الصفحة - 118]
الأندلس. کما کان من الصنهاجيّين الذين کانوا عماد معظم الحرکات الشيعيّة في الشمال الأفريقيّ(17). وقد قال ابن درّاج القسطلي في رثاء علي بن حمود إحدى الروائع من غرر الشعر الشيعيّ أبدع فيها وأجاد، وقد أشار فيها الى ما عاناهُ أهل البيت(عليهم السلام) من مصائب ورزايا فاستنزعت القصيدة من أبي الحسن علي بن بسام إطراء جميلاً واعترافاً جعلها في قمَّة الشعر الشيعيّ، حيث قال في تلك القصيدة الغراء: «قصيدة طويلة وهي من الهاشميّات الغرّ، لو قَرَعت سَمْعَ دعبل بن علي الخزاعيّ والكميت بن زيد الأسدي لأمسكا عن القول، بل لو رآها السيّد الحميري وكثير عزّة لأقاماها بيّنة على الدعوى» (18). وتبدأ هذه القصيدة ببكاء شجي، بكاء تجهش به قلوب الشيعة في كُلِّ مكان، يقول (19):
لعلك يا شمس عند الاصيـل شجيت لشجو الغريب الذليل
فكوني شفيعي الى ابن الشفيع وكوني رسولي الى ابن الرسول
ثم يصف الواقعة الأليمة التي حلّت بآل البيت، فيقول:
تهاوت بهم مصعقات الرواعـ د في مدجنات الضحى والأصيل
بـوارق ظلمـاء ظلم قبيـح دمى مـن حمى أو دما من قتيل
فأذهـل مرضعة عن رضيـع وأنسى الحمائـم ذكر الهذيـل
ويصف فيها علي بن حمود ونسبه، فيقول:
لعل عواقـبه أن تتم فتهـدي الغــريب سـواء السبيـل
إلى الهاشـمي إلى الطالــبيّ الى الفاطميّ العطوف الوصول
إلى ابن الوصي إلى ابـن النبي إلى ابن الذبيـح إلى ابن الخليل
وهذه القصيدة طويلة تنوف على سبعين بيتاً، كلها ذات نفس واحد الى آخرها، وقد ختمها مؤكداً مقام آل البيت وأحفادهم بني حمود، وإمامتهم المدعمة بالكتاب
________________________________________
(17) - ديوان ابن دراج القسطلي، مقدمة الدکتور محمود علي مکي، ص 23، تحقيق الدکتور محمود علي مکي، الطبعة الأولی، دمشق، منشورات المکتب الاسلامي، 1961م.
(18) - دائرة المعارف الاسلامية الشيعية، ج 4، ص 27
(19) - م، ن.
[الصفحة - 119]
وبالمنطق، فيقول:
فأنتـم هداة حياة ومـوت وأنتـم أئمـة فعـل وقيـل
وسادات من حل جنات عدن جميــع شبابهـم والكهـول
وأنتم خلائـق دنيا وديـن بحكم الكتاب وحكم العقـول
3ـ أبو البحر صفوان بن إدريس التجيبيّ المرسي، وهو من شعراء القرن السادس الهجريّ، وقد ذكره أحد أعلام الفكر في القرن الثامن الهجريّ وهو لسان الدِّين بن الخطيب، وقال الأستاذ حسن الأمين: «أفادنا ابن الخطيب وعَرَّفنا بأحد شعراء الشيعة في الأندلس، الذي اشتهر برثاء سيِّدنا الحسين(عليه السلام) وهو أبو البحر صفوان بن إدريس التجيبي المرسي (561 ـ 598)»، وهذه القصيدة منه كانت مشهورة ينشدها المسلمون وهي (20):
سلام كأزهـار الـربى يتنسّـم على منزل منـه الهـدى يتعلّـم
على مصـرعٍ للفاطميـِّين غيبت لأوجهـهم فيه بدور وأنجــم
على مشهد لـو كنت حاضر أهله لعاينت أعضـاء النـبيّ تُقسّـم
على كربلاء لا أخلف الغيث كربلا وإلا فإنّ الدمـع أندى وأكـرم
مصـارع ضجّت يثـرب لمصابها وناح عليـهن الحطيم وزمـزم
ومكّـة والأستار والركن والصفا وموقـف جمـع والمقام المعظـم
وبالحجـر الملثوم عنوان حسـرة ألست تـراه وهو أسود أسحـم
وروضـة مولانا النـبيّ محـمد عليـه الشكل يوم تخـرّم
ومنبـره العلـويّ للجدع أعولا عليـهم عويـلاً بالضمائر يفـهم
ولو قدرت تلك الجمادات قدرهم لـدّك حراء واستطـير يلمــلم
وما قدر ما تبكي البلاد وأهلـها لآل رسـول الله والـرزء اعظـم
________________________________________
(20) - م، ن، ص 29.
[الصفحة - 120]
وأقبلـت الزهـراء قدس تربـها تنـادي أبـاها والمدامع تسجـم
تقول: أبـي هـم غادروا بنيّ نهبة كمـا صاغـه قيس وما مج أرقـم
سقوا حسناً للسم كأسـا رويــة ولم يقـرعوا سنّـاً ولم يتنـدّموا
وهم قطـعوا رأس الحسين بكربلا كأنّهـم قد أحسنوا حيـن أجرموا
فخذ منهم ثـاري وسكـّن جوانحاً وأجفـان عين تستطير وتسجـم...
4ـ عبادة بن ماء السماء الأنصاري 304 ـ 422هـ : هو من ذريّة الصحابيّ المعروف سعد بن عُبادة الخزرجيّ. قال عنه ابن بسام في معرض حديثه عن الموشحات إنّه «نَهَجَ لأهل الأندلس طريقتها وکأنها لم تسمع بالأندلس إلا منه ولم تؤخذ إلا عنه» (21). وفهم بعض الباحثين أنّ عُبادة أوّل من ابتکر الموشّحات. ويذکر صاحب النفح بيتين من قصيدة لعبادة في مدح علي بن حمود ـ مشيراً في البيت الثاني إلی حديث يوم غدير خم ـ ويقول عن عبادة إنّه «کان معروفاً بالتشيع»(22):
أبوکم عليٌّ کان بالشرق بـدء مـا ورثتم، وذل بالغرب أيضاً سميه
فصلّـوا عـليه أجمعون وسلّمـوا لــه الأمـر إذ ولاّه فيـکـم وليّـه
کما يُشير عُبادة في أبياتٍ إلی عراقة بيته في الولاء لعليّ بن أبي طالب، إذ کان جدّه قيس بن سعد بن عبادة من شيعة علي (عليه السلام)، يقول مخاطباً يحيى بن علي بن حمود (23):
فها أنا ذا يـا ابن النبوة نـافث من القول أرياً غير ما ينفث الصل
وعندي صريح في ولائك معرق تشيـعه محـض وبيـعتـه بتـل
ووالي أبي قيس أباك على العلا فخيـم في قلـب ابن هند له غل
________________________________________
(21) - ابن بسام الشنتريني، علي، الذخيرة في محاسن أهل الجزيرة، ج1، ص361، تحقيق الدکتور إحسان عباس، الطبعة الأولی، بيروت، دار الغرب الاسلامي، 2000م.
(22) - نفح الطيب من غصن الأندلس الرطيب، ج1، ص 484.
(23) - الذخيرة في محاسن أهل الجزيرة، ج1، ص 478.
[الصفحة - 121]
حصيلة البحث
نستحصل من کلِّ ما تقدّم أولاً أنّ الوثائق التاريخيّة تدلُّ علی وجود المذهب الشيعيّ في الأندلس حتّی منذ فتحها وثانياً أنّه کان لهذا المذهب شعراء متشيِّعون کثيرون من أمثال ابن هانئ الأندلسيّ، ابن الدرّاج القسطليّ وعبادة بن ماء السماء؛ إلا أنّ سياسة الأمويِّين في محاولة تجاهل آل البيت وحذف أخبارهم من المتون التاريخيّة ومحو آثارهم من المجتمع الإسلاميّ من جانبٍ وتعمّد بعض الکتّاب والمؤرِّخين إهمال الشيعة وأدبهم، جعل شوقي ضيف وأمثاله يعتقدون بعدم وجود الشيعة ومن ثمَّ الأدب الشيعيّ في الأندلس.
________________________________________