دراسة مقارنة حول أهل البيت(عليهم السلام) وأحكامهم
الشيخ صفاء الخزرجي (*)
يقع البحث حول نقطتين: الأولى في تحديد الموضوع أي تعيين المقصود بـ(آل محمد) أو (أهل البيت) والثانية في تحديد الأحكام المترتبة عليهم.
النقطة الأولى: المراد بآل محمد أو أهل البيت
أمّا أصل الموضوع (آل محمد أو أهل البيت) فمتَّفق على وقوعه موضوعاً لجملةٍ من الأحكام كالصلاة عليهم، واستحقاقهم الخمس، وحرمة الصدقة عليهم وغير ذلك ممّا سيأتي ذكره. ولكنّ الخلاف وقع في تعيينهم وتحديد مصداقهم، فذهبت مدرسة أهل البيت(عليهم السلام) إلى أنَّهم الأئمة الاثني عشر مع فاطمة(عليهم السلام) وذهبت مدرسة أهل السنة إلى غير ذلك.
والفارق بين المدرستين أنَّ التفسير الذي تقدّمه مدرسة أهل البيت(عليهم السلام) متَّفق عليه بينهم ولا خلاف فيه. وأمّا مدرسة أهل السنة فلم تُجمع على تفسيرٍ واحد، بل هي تقدّم عدَّة تفاسير تتراوح بين تفسيره في شخص واحد وهو النبيّ(صلى الله عليه و آله و سلم) وبين تفسيره في جميع الأمّة وأتباعه. وبين هذين القولين أقوال متوسطة.
والسرّ وراء إجمـاع الشيعة هو اتِّفـاق روايـاتهم على ذلك مضافاً إلى
________________________________________
(*) كاتب وباحث من الحوزة العلمية، من العراق.
[الصفحة - 131]
الروايات الواردة من طرق أهل السنة المؤيِّدة لتفسيرهم. والسرّ في اختلاف آراء أهل السنة اختلاف رواياتهم في ذلك. ونحن نتعرّض أوّلاً لتفسير مدرسة أهل البيت(عليهم السلام) لقيام الإجماع عندهم عليه، ثمّ نذكر مدرسة أهـل السنة. ولكن نُشير قبـل ذلك إلى المعنى اللغوي للفظ «الآل» و«أهل البيت»:
المعنى اللغويّ للفظ «الآل» و«أهل البيت»
أولاً لفظ الآل
في اشتقاق الآل قولان:
القول الأوّل: إنّ أصلها من أهل، فآل الرجل أهله، ولكن قُلبت الهاء همزة فقيل (أأل)، فلمَّا توالت الهمزتان خُفِّفت للتسهيل. وعليه فالآل مقلوب من الأهل (1). والأهل هم العيال (2) أو العشيرة وذوو القربى (3).
القول الثاني: إنّها مشتقّة من الأوْل وهو الرجوع من آل يؤول إذا رجع (4). فآل الرجل هم الذين يرجعون إليه ومآلهم له، وهم أهل بيته. قال ابن فارس: «وآل الرجل أهل بيته؛ لأنّه إليه مآلهم وإليهم مآله» (5). وقال ابن منظور: «آل الرجل أهله وعياله» (6).
وأمّا معنى الآل ففيه ثلاثة أقوال:
1 بمعنى القرابة والعيال كما تقدّم عن الفيروزآبادي وابن منظور، فيكون مرادفاً للفظ الأهل في جنس لمعنى وإن كانت ثمة فوارق في الاستعمال والاطلاق ذكرها بعضهم (7).
2 خاصّة الرجل ممّن يختص بالانسان اختصاصاً ذاتياً إمّا بقرابة أو بموالاة أو صُحبة. قال الراغب: «ويستعمل فيمن يختصّ بالانسان اختصاصاً ذاتياً إما بقرابة أو بموالاة قال الله عز وجلّ{ وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ } وقال {أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ } » (8). وقال أبو هلال العسكري «والآل خاصّة الرجل من جهة
________________________________________
(1) لسان العرب 11: 30، ط/ دار صادر، القاموس المحيط 3: 485، ط/ دار إحياء التراق، مفردات ألفاظ القرآن: 98.
(2) الصحاح 4: 1627.
(3) القاموس المحيط 3: 486.
(4) أنظر: لسان العرب 11: 28 و37، ط/ دار صادر، ترتيب كتاب العين 1: 94. وذهب إليه الكسائي، انظر: الكليات: 171.
(5) معجم مقاييس اللغة 1: 160.
(6) لسان العرب 11: 37.
(7) مفردات ألفاظ القرآن: 98.
(8) المصدر السابق.
[الصفحة - 132]
القرابة أو الصُحبة. تقول آل الرجل لأهله وأصحابه» (9).
3 كلُّ من يؤول إلى الرئيس في خيره أو شرّه (10) سواء كان رئيساً لقبيلة أو عائلة أو دين أو جيش أو غير ذلك، ولعلَّ هذا هو مراد من أضاف الأتباع إلى الأهل والقرابة كالجوهري الفيّومي والفيروزآبادي (11)، فيكون المراد لدى الجميع واحداً.
والظاهر رجحان المعنى الأخير لتناسبه مع أصل الاشتقاق أولاً ولاستعماله في اللغة والشرع ثانياً. أمّا اللغة فلقول الأعشى:
فكذّبـوهـا بمـا قـالت فقبَّحـهُمْ ذو آل حسّانَ يُزجي السمَّ والسلَعَ
يعي جيش تُبَّع (12).
وأمَّا شرعاً فلقوله تعالى {أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ} (المؤمن، 23). والمرويّ عن الإمام الصادق(عليه السلام) مخاطباً الشيعة «أنتم والله من آل محمد، فقلت: من أنفسهم جعلت فداك؟ قال: نعم والله من أنفسهم ثلاث» (13).
فالآل معنى يقع على الجميع، إمّا من جهة النسب كالأهل والقرابة والذرّية، فالجميع آل لأنّه يرجعون إلى من يؤول إليه أمرهم من جهة النسب، أو من جهة الدّين كالشيعة أو الأتباع أو الأمّة، فالجميع آل، أو من جهة النسب والخلافة معاً كالأئمة الإثني عشر. قال بعضهم: «الآل هم المختصّون بالقرب منه قرابة أو صحبة أو خلافة عنه في مواريثه العلميَّة والعمليَّة والحاليّة (14).
ثانياً أهل البيت
وهو لفظ مركَّب. ويُراد به تارة بيت السُكنى وهم سكّانه اي عِيَال الرجل والذين يبيت عندهم. قال الخليل «أهل البيت سكّانه» (15). وأُخرى بيت النسب. قال أبو البقاء «أهل البيت سكّانه أو من كان من قوم الأب، والبيت بيت النسبة، وبيت النسبة للأب، ألا ترى أنَّ إبراهيم بن محمد عليه الصلاة والسلام من أهل
________________________________________
(9) الفروق اللغوية: 84، ط/ جماعة المدرسين.
(10) الكليات: 164، ط/ مؤسسة الرسالة.
(11) الصحاح 4: 1627، المصباح المنير: 13، القاموس المحيط 3: 485.
(12) الصحاح 4: 1627.
(13) بحار الأنوار، المجلسي، ج23 ص 225.
(14) انظر: الكليات: 171.
(15) ترتيب كتاب العين 1: 115. وانظر أيضاً: مقاييس اللغة 1: 150، لسان العرب 11: 29.
[الصفحة - 133]
بيت النبوّة ولم يكن من القبط وأنسابه» (16). واعتبر الراغب المعنى الأوّل هو المعنى الحقيقيّ ثمّ تجوّز به إلى المعنى الثاني فقال «أهل الرجل في الأصل من يجمعه وإيّاهم سكن واحد، ثُمّ تجوِّز به فقيل: أهل بيت الرجل لمن يجمعه وإيّاهم نسبٌ واحد». وقال الطبرسيّ: «والعرب تسمّي ما يُلتجأ إليه بيتاً ولهذا سمّوا الأنساب بيوتاً وقالوا: بيوتات العرب، يريدون النسب» (17).
المعنى الاصطلاحيّ
يُضاف لفظ «الآل» تارةً إلى النبي(صلى الله عليه و آله و سلم) فيقال «آل النبيّ»، وأخرى إلى اسمه الشريف فيقال «آل محمد» وثالثة إلى بيته الكريم فيقال «آل البيت»، وإنّما الكلام في تحديد المعنى وبيان المصداق للآل وأهل البيت، حيث تعدّدت الأقوال وتباينت الآراء في المسألة لدى الفريقين.
وقد ذكرنا في البحث اللغوي أنّ «الآل» أو «الأهل» لفظان عامّان يقعان بنحو التشكيل على مراتب متعدّدة بحسب الوضع. وأمّا بحسب الاستعمال في الكتاب والسنة، فالأمر كذلك حيث يطلق لفظ «آل محمد» أو «أهل البيت» في النصوص الشرعية على معاني تختلف في مدلولاتها سعة وضيقاً، فهي ليست على حدّ واحد. وهذه المعاني كالتالي:
1 ـ الإطلاق اللغويّ العام الذي جرى فيه المشرّع على عادة أهل اللغة في محاوراتهم العرفيّة نظير قول النبيّ(صلى الله عليه و آله و سلم) «خمّروا الآنية وأجيفوا الأبواب وأطفئوا المصابيح فإن الفويسقة [الفأرة] ربما جرّت الفتيلة فأحرقت أهل البيت» (18) وما روي عنه(صلى الله عليه و آله و سلم) أنّه رخّص في العرية يأخذها أهل البيت بخرصه (19)، وهكذا لفظ الآل الوارد في حديث تحريم الصدقة على آل محمّد «وأنّها لا تحلّ لمحمّد ولا لآل محمد (20) فإنّه يُراد بهم جميع بني هاشم، وهذا من باب الاطلاق اللغويّ العـام.
________________________________________
(16) الكليات: 210.
(17) مجمع البيان.
(18) صحيح البخاري 7:143.
(19) صحيح مسلم 5: 13.
(20) شرح النووي لصحيح مسلم 7: 177.
[الصفحة - 134]
2 ـ الإطلاق الخاصّ بلحاظ طبقة خاصّة وإن كان اللفظ عامّاً، ويُفهم الخاصّ لقيام القرينة عليه، كقوله(صلى الله عليه و آله و سلم) في قضيّة الإفك على عائشة «من يعذرني من رجل قد بلغني أذاه في أهل بيتي...» (21)، وقوله(صلى الله عليه و آله و سلم) بعد بنائه بزينب ابنة جحش لمّا صار يطوف على نسائه مسلماً عليهم «السلام عليكم أهل البيت» (22). فإنّ المقصود في الحديث الأوّل هو خصوص عائشة مع عموم اللفظ المنطبِق على غيرها، والمقصود في الثاني خصوص أزواجه أي بيت السكنى مع عمومه لمطلق من يسكن في البيت ولبيت النسب أيضاً؛ إذ لا شكَّ في عموم لفظ الآل وكذا أهل البيت في الحديثين لأبي لهب. قال الشيخ الطوسي: «المعنيُّ بأهل بيته: بنو هاشم خاصّة، وهم ولد أبي طالب والعباس وأبي لهب، وليس لهاشم عقب إلاّ من هؤلاء»(23)، ولكنّه خرج بالدليل الخاصّ الذي أبطل قرابته شرعاً «لا قرابة بيني وبين أبي لهب؛ فإنه آثر علينا الأفجرين» (24).
3 ـ الإطلاق الأخصّ بلحاظ دائرة أضيق مع عموم اللفظ. كقوله(صلى الله عليه و آله و سلم) عندما سأله كعب بن عجرة عن كيفيّة الصلاة على أهل بيته: قولوا: اللهم صلّ على محمد وآل محمد..»(25). وقوله(صلى الله عليه و آله و سلم) «من أراد التوسّل إليّ وأن تكون له عندي يد أشفع له بها يوم القيامة، فليصلّ على أهل بيتي ويدخل السرور عليهم» (26)، وكقوله(صلى الله عليه و آله و سلم) كما روته أم سلمة لفاطمة (عليها السلام): «إئتني بزوجك وابنيك، فجاءت فألقى عليهم كساءً فدكياً ثم وضع يده عليهم ثم قال: اللهم إن هؤلاء آل محمد فاجعل صلواتك ويركاتك على محمد وعلى آل محمد إنك حميد مجيد. قالت أم سلمة: فرفعت الكساء لأدخل معهم فجذبه من يدي وقال: إنَّك على خير» (27)، وكقوله(صلى الله عليه و آله و سلم) لمّا رأى الرحمة هابطة: إدعوا لي إدعوا لي، فقالت صفيَّة: من يا رسول الله؟ قال: أهل بيتي علياً وفاطمة والحسن والحسين، فجيء بهم فألقى عليهم النبيّ كساءه ثمَّ رفع يديه ثم قال: اللهم هؤلاء أهل بيتي فصلّ على محمد وآل محمد وأنزل الله عز وجل {إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمْ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِير} (28) فإنَّ
________________________________________
(21) صحيح البخاري 6: 7.
(22) المصدر السابق: 25.
(23) المبسوط 3: 302.
(24) حاشية ردّ المختار 3: 383.
(25) صحيح البخاري 2: 239، كتاب بدء الخلق.
(26) الوسائل 7: 207، الباب 42 من أبواب الذِّكر، ح17.
(27) مسند أحمد 6: 323.
(28) المستدرك على الصحيحين 3: 148.
[الصفحة - 135]
المعنيَّ بهم في هذه الاطلاقات والاستعمالات هم خصوص أهل الكساء - ويلحق بهم التسعة من أبناء الحسين(عليه السلام) كما يشهد له لفظ «عترتي» في حديث الثقلين «عترتي أهل بيتي» ـ مع عموم اللفظ في الآل وفي أهل البيت بناءً على إرادة بيت النسب فيه. وأمّا بناءً على إرادة بيت النبوة، كما هو الصحيح ـ وسيتضح ذلك لاحقاً فلا عموم في الثاني.
هذه هي القاعدة الأساس في هذين اللفظين، ولكن الخلط بين هذه الاستعمالات أو الاطلاقات أوقع الكثيرين في الإشكال كما سنلاحظ ذلك في الأقوال في مسألة تحديد من هم أهل البيت أو آل محمد ولكن نكتفي بنموذجين من تلك الأقوال التي تخبّطت في استعمال هذا المصطلح:
1 ـ فسّرت بعض الأقوال آل محمد بمن تحرم عليهم الصدقة استناداً لقول النبي(صلى الله عليه و آله و سلم) في الصدقات «إنها لا تحلّ لمحمد وآل محمد» وحيث أن المراد بهم بنو هاشم في هذه المسألة أي الاطلاق الخاص فقد تمّ تعميم هذا التفسير إلى كافة الموارد الأخرى الوارد فيها أحكام لآل محمد (عليهم السلام) مع أنّ المراد في تلك الموارد هو الاطلاق الثالث، أي المعنى الأخص.
2 ـ فسّرت بعض الأقوال أهل البيت بزوجات النبي(صلى الله عليه و آله و سلم) وأصحاب الكساء معاً؛ وذلك تمسّكاً بعموم لفظ أهل البيت لهما، مع أنّ الأزواج خارجات عن ذلك، وليس هذا إلا سبب الخلط بين الإطلاق الأوّل والإطلاق الثالث حيث تصوّر القائل أنَّه كلّما استعملت أهل البيت فالمراد به الأزواج والأبناء، مع أنَّ الأمر ليس كذلك كما تقدّم بيانه في الإطلاقات الثلاث المتقدّمة.
3 ـ فسّرت بعض الأقوال الآل بالأتباع استناداً إلى قوله تعالى { أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ } (29)وهذا خلط آخر بين المعنى اللغوي للآل وهم الأتباع بالمعنى الاصطلاحي، وإلاّ كيف يجوز لفقيه أن يكتفي بورود هذا الاستعمال
________________________________________
(29) غافر: 46.
[الصفحة - 136]
ويقصر نظره عليه ويغمض عينيه عن باقي موارد استعمال الآل في الروايات والنصوص الكثيرة ليُفتي أنّ المراد بهم الأتباع ثمّ يفرّع عليه كافة أحكامهم من حرمانهم من الصدقة واستحقاق الخمس والصلاة عليهم في التشهد وحرمة بغضهم ونصب العداوة لهم ووجوب حبّهم فتدخل الأمّة في ذلك كلها لأنها أتباعه فلا يبقى مستحقّ للزكاة ولا يقتصر في الخمس على بني هاشم إلى غير ذلك من التوالي الفاسدة التي منشأها الخلط بين المصطلحات وتحديد الاطلاقات والاستعمالات الواردة في النصوص.
وأظن أنّ هذه القاعدة كفيلة للردّ على باقي الأقوال غير قول الإمامية، ولكنّا سوف نستعرض جميع الأقوال أو أغلبها، ونعلّق عليها في مواردها بما يناسبها ولكن الأساس في تعليقنا هو ما ذكرناه آنفاً.
القول الأول: خصوص أصحاب الكساء والأئمة من ولد الحسين(عليه السلام). ويدلّ عليه:
أوّلاً: صدق المعنى اللغوي وانطباقه عليهم، سواء فسّرنا الآل بالأهل أو بمن يؤول أمرهم إليه من حيث النسب والقرابة، فهم آله لغة وعرفاً، والأمر أوضح بناءً على من يرى استعمال لفظ الآل فيمن يختصّ بالانسان اختصاصاً ذاتياً إمّا لقرابة قريبة أو موالاة.
قال الفخر الرازي في تفسير آية المودّة: «آل محمد(صلى الله عليه و آله و سلم) هم الذين يؤول أمرهم إليه، فكلُّ من كان أمرهم إليه أشدّ وأكمل كانوا هم الآل، ولا شكّ أنّ فاطمة وعليّاً والحسن والحسين كان التعلّق بينهم وبين رسول الله(صلى الله عليه و آله و سلم) أشدّ التعلقات وهذا كالمعلوم بالنقل المتواتر، فوجب أن يكونوا هم الآل، وأيضاً اختلف الناس في الآل فقيل: هم الأقارب، وقيل: هم أمّته. فإن حملناه على القرابة فهم الآل، وإن حملناه على الأمّة الذين قبلوا دعوته فهم أيضاً آل، فثبت أنّهم على
________________________________________
[الصفحة - 137]
جميع التقديرات هم الآل، وأمّا غيرهم فهل يدخلون تحت لفظ الآل فمختلف فيه» (30).
ثانياً: الروايات المنتشرة للفظ «أهل البيت» الوارد في آية التطهير، وهي في نفس الوقت مفسِّرة ايضاً للفظ «آل محمد» أيضاً؛ سواء فسّرنا الآل بالأهل أو بالأوْل ومَن يرجع إليه. وعلى كل حال فإنّ أول من فسَّر هذا المصطلح هو شخص النبي(صلى الله عليه و آله و سلم) عند نزول آية التطهير { إِنَّمَا يُرِيدُ الله لِيُذْهِبَ عَنْكُمْ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِير} (31)، والروايات الواردة عنه بهذا الشأن تنيف على السبعين رواية من الفريقين. وقد رواها إخواننا بطرق كثيرة تقرب من الربعين طريقاً عن جملة من الصحابة نذكر منهم:
1- أمّ سلمة. 2- عائشة. 3- أبي سعيد الخدري. 4- ابن عباس. 5- ثوبان. 6- سعد. 7- واثلة بن الأسقع. 8- أبي الحمرا. 9- عبدالله بن جعفر. 10- علي(عليه السلام). 11- الحسن بن علي(عليه السلام). 12- جابر بن عبدالله الأنصاري. 13- زيد بن أرقم. 14- أنس بن مالك. 15- عمر بن أبي سلمة. كما روته الشيعة عن علي وزين العابدين والباقر والصادق والرضا(عليهم السلام) وأمّ سلمة وأبي ذر وأبي ليلى وأبي الأسود الدؤلي وعمر بن ميمون الأودي وسعد بن أبي وقّاص في أكثر من ثلاثين طريق (32).
وقد نقل أكابر علماء إخواننا هذه النصوص كابن كثير في تفسيره في ستة عشر طريق (33) وابن حجر (34) والشوكاني (35). ونسب ابن حجر القول بأنَّ المراد بها أصحاب الكساء إلى مشهور المفسِّرين.
والملاحظ في هذه الروايات حرص النبيّ(صلى الله عليه و آله و سلم) على تفسير مصطلح «أهل البيت» الوارد في الآية بشكل دقيق كما أنّه بالغ في تكرار هذا التفسير وترسيخه في ذهن المتشرّعة، فقد كان يقف على باب دار فاطمة(عليها السلام) أشهراً مديدة (تتراوح
________________________________________
(30) التفسير الكبير 27: 165.
(31) الأحزاب: 33.
(32) انظر الميزان في تفسير القرآن 16: 329.
(33) تفسير ابن كثير 3: 798- 804.
(34) الصواعق المحرقة: 221- 224.
(35) فتح القدير 4: 279- 280.
[الصفحة - 138]
بين 6-17 شهراً) ويذكرهم بالصلاة ثمَّ يتلو آية التطهير بعد ذلك وينصرف. وهي عمليّة لها دلالاتها الواضحة. ويندرج في أسلوب المبالغة هذا أيضاً بيان هذه الحقيقة بالقول تارة وبالفعل والممارسة أخرى. ومن هنا أمكن تقسيم الروايات الصادرة عنه(صلى الله عليه و آله و سلم) إلى السنّة القوليّة والسنة الفعليّة، وهذا ما سنتعرّض إليه بشيء من التوضيح:
أوّلاً- السنّة القوليّة:
1 ـ روى مسلم في صحيحه عن عائشة قالت: «خرج النبي(صلى الله عليه و آله و سلم) غداة وعليه مرط مرجّل من شعر أسود فجاء الحسن والحسين فأدخلهما معه، ثمَّ جاءت فاطمة فأدخلها معه، ثمَّ جاء علي فأدخله معه، ثم قال: { إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمْ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً }(36).
2 ـ روى أحمد بن حنبل في مسنده عن أمّ سلمة قالت: «إنّ رسول الله(صلى الله عليه و آله و سلم) قال لفاطمة: إئتيني بزوجك وابنيك، فجاءت بهم، فألقى عليهم كساءً فدكياً، ثمّ وضع يده عليهم ثم قال: اللهم إنّ هؤلاء آل محمد، فاجعل صلواتك وبركاتك على محمّد وعلى آل محمد، إنّك حميد مجيد. قالت أم سلمة: فرفعت الكساء لأدخل معهم فجذبه من يدي وقال: إنّك على خير» (37).
3 وروي عن أم سلمة أيضاً قالت: وأنا جالسة عند الباب فقلت: يا رسول الله ألست من أهل البيت؟ فقال: إنّك على خير، أنت من أزواج رسول الله. قالت: وفي البيت رسول الله(صلى الله عليه و آله و سلم) وعلي وفاطمة وحسن وحسين، فجلّلهم بكسائه وقال: اللهم هؤلاء أهل بيتي فأذهب عنهم الرجس وطهّرهم تطهير» (38).
ثانياً السنّة الفعلية:
1 ـ ما كان يفعله النبي(صلى الله عليه و آله و سلم) على باب بيت فاطمة(عليها السلام) مدّة ستة أو ثمانية اشهر حيث كان يقف ويقول كلّما خرج إلى الصلاة: الصلاة يا أهل البيت { إِنَّمَ}
________________________________________
(36) صحيح مسلم 4: 1883، الرقم 2424.
(37) مسند أحمد 6: 323.
(38) جامع الأصول: تسلسل 6689.
[الصفحة - 139]
{ يُرِيدُ الله لِيُذْهِبَ عَنْكُمْ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً } . وقد ذكر الحاكم النيسابوري انّ هذا صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه في الصحيحين (39).
2 ـ إنّ النبي(صلى الله عليه و آله و سلم) عندما سألته أمّ سلمة أنّها من أهل البيت وحاولت الدخول جرّ الكساء من يدها، وفي رواية أخرى أنّ عائشة حاولت ذلك أيضاً فدفعها النبي(صلى الله عليه و آله و سلم) (40).
3 ـ إنّ النبي(صلى الله عليه و آله و سلم) ضحّى في منى بكبشين فقال في أحدهما بعد ذكر الله تعالى: «اللهم عن محمد وآل محمد» (41) وفي الآخر «اللهم عن محمد وأمّة محمد». وفي رواية أخرى أنّه ضحّى في منى عن نسائه بالبقر (42). والأخيران قرينة على عدم دخول الأمة والأزواج في الآل فلا يراد بهم حينئذٍ إلاّ الخمسة من أصحاب الكساء(عليهم السلام).
ثالثاً ملاحظة مناسبات الحكم والموضوع:
إنّ عملية التشريع ـ كما هو معلوم ـ ليست عمليَّةً جزافيّةً، بل قائمة على ملاكات معيّنة، والملاحِظ للأحكام المتعلّقة بالعناوين المتقدّمة «آل البيت أو آل محمد أو أهل البيت» يقطع بالتخصيص بمن ذكرناه رعاية لمناسبات الحكم والموضوع. وإليك بعض النماذج من تلك الأحكام:
أ ـ ثبوت العصمة لأهل البيت الوارد ذكرهم في آية التطهير { إِنَّمَا يُرِيدُ الله لِيُذْهِبَ عَنْكُمْ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِير} كما سيأتي توضيحه في أحكامهم، وهذا ما لا ينطبق على سواهم فينحصر الأمر بهم خاصّة.
ب ثبوت الإمامة والمرجعية العلمية لهم بنصّ حديث الثقلين «أيها الناس إنّي تارك فيكم أمرين لن تضلّوا إن اتبعتموها وهما كتاب الله وأهل بيتي عترتي» (43) وهو يدلّ على وجود إمام من أهل البيت في كل زمان إلى يوم القيامة
________________________________________
(39) مستدرك الحاكم 3: 172، رقم 4747/ 345.
(40) صحيح مسلم 4: 451، 7021، مسند أحمد 7: 430، ح36057.
(41) مسند أبي يعلى: 327، ح1792، صحيح مسلم 6: 78، السنن الكبرى 9: 287.
(42) صحيح البخاري 1: 77.
(43) المستدرك على الصحيحين 3: 110.
[الصفحة - 140]
كما يدلّ على مؤهلاتهم العلمية، وهذا ما لا ينطبق إلاّ على الأئمة الاثني عشر(عليهم السلام)، إذ لم ينازعهم في ذلك أحد من أهل البيت سواهم. ويؤيده ما روي عنه(صلى الله عليه و آله و سلم) في حديث الأئمة الإثني عشر، مثل ما عن جابر بن سمرة قال سمعت رسول الله(صلى الله عليه و آله و سلم) يقول: «لا يزال الدين قائماً حتّى تقوم الساعة أو يكون عليهم اثنا عشر خليفة كلهم من قريش» كما رواه مسلم ونحوه في صحيح البخاري (44).
ج ـ ثبوت الصلاة عليهم في التشهد في الصلاة وجوباً أو استحباباً على الخلاف في ذلك ولا شكّ أنّه مقام رفيع جداً لا يكون لكلِّ أحد؛ لأنّ الصلاة الواجبة على النبي(صلى الله عليه و آله و سلم) في التشهد إنّما هي باعتبار الرسالة فلا بد أن يكون لمن يعطف عليه مباشرة مشاكلة له في ذلك بأن يكون لهم شأن في الرسالة، فإن صرف القرابة لا تبرّر ذكرهم في أمر عبادي محض كالصلاة سيما على القول بوجوب الصلاة عليهم؛ فإنّ النبي(صلى الله عليه و آله و سلم) لم يأت ليكرّس أحكام الشريعة لقرابته أو ذريته أو أزواجه لصرف القرابة أو المناسبة الاعتبارية المحضة.
فالمناسب في هذه الأحكام وسواها ممّا يتعلق بآل البيت إرادة جماعة معينة فلا يراد مطلق الأمة أو الأتباع أو الذرية والقرابة كما تذهب لذلك بعض القوال التي سيأتي ذكرها.
ثانياً مدرسة أهل السنة:
ذكرنا أنَّ الأقوال لدى الفقه السنّي متفاوتة تفاوتاً شديداً تبعاً للروايات والاجتهادات ونحن نشير إلى الأقوال حسب أهميّتها وشهرتها حسب الترتيب التالي:
القول الأوّل: إنّ المراد بآل محمّد هم الذين حرّمت عليهم الصدقة. ولعلّ هذا هو القول المشهور عندهم حيث ذهب إليه الشافعي وأحمد وهو اختيار جمهور أصحابهما وكذلك رأي أبي حنيفة وبعض أصحاب مالك بل وهو اختيار
________________________________________
(44) صحيح مسلم 2: 119، صحيح البخاري 4: 164.
[الصفحة - 141]
الأكثرين كما وصفه ابن قيّم الجوزية (45).
ويدل على هذا الرأي: 1ـ رواية عبد المطلب بن ربيعة مرفوعاً عنه(صلى الله عليه و آله و سلم) قال: «إنّ هذه الصدقات إنما هي أوساخ الناس، وأنّها لا تحلّ لمحمد ولا لآل محمد» (46) 2- حديث زيد بن أرقم الذي نقل فيه حديث لثقلين وتذكير النبي(صلى الله عليه و آله و سلم) المسلمين بأهل بيته، فسأل الحصين زيداً عن أهل بيته فقال: «أهل بيته الذين ذكرهم هم من حرموا الصدقة بعده. قال: ومن هم؟ قال: آل علي وآل عقيل وآل جعفر وآل العباس. قال: وكلّ هؤلاء حرموا الصدقة؟ قال: نعم» (47).
ولكن ثمّة اختلاف في تحديد من تحرم عليهم الصدقة على أقوال:
1 ـ أنّهم بنو هاشم وبنو عبد المطلب، وهذا هو مذهب الشافعيّ وأحمد في رواية عنه، وهو قول مالك أيض (48).
2 ـ إنَّهم بنو هاشم خاصّة، وهو مذهب أبي حنيفة، وهو الرواية الثانية عن أحمد واختيار ابن القاسم صاحب مالك (49).
3 ـ إنَّهم بنو هاشم فمن فوقهم إلى بني غالب فيدخل فيهم بنو المطلب وبنو أميّة وبنو نوفل ومن فوقهم إلى بني غالب، وهو اختيار أشهب بن عبد العزيز بن داوود القيسي (توفي 204هـ) من أصحاب مالك (50).
4 ـ إنَّهم بنو هاشم مع زوجات النبي(صلى الله عليه و آله و سلم)، وفيه خلاف (51).
المناقشة:
1 ـ إنّ المشكلة الأساسيَّة في هذا القول ونظائره أنّها تعتمد أحد الاطلاقات الواردة لمصطلح «آل محمد» أو «أهل البيت» لتعمّمه في جميع الموارد. والصحيح هو أنّ هذا الاطلاق الوارد في روايات الصدقة ـ على فرض صحَّته حيث ورد مرفوعاً ولعلّه الوحيد بهذا اللفظ فإنَّ باقي الروايات لدى الفريقين ورد فيها عنوان
________________________________________
(45) جلاء الأفهام: 237.
(46) صحيح مسلم بشرح النووي 7: 177، ط/ العصرية.
(47) سنن البيهقي 2: 148.
(48) الأم 3: 201، ط/ دار الوفاء، المغني 4: 111 مواهب الجليل للحطاب 3: 224.
(49) المغني 4: 111، البناية في شرح الهداية للعيني الحنفي 3: 554، مواهب الجليل 3: 224، جلاء الأفهام: 237.
(50) عقد الجواهر الثمينة (للجذامي) 1: 246.
(51) انظر: فتح القدير 4: 280، تفسير روح البيان 22: 17.
[الصفحة - 142]
بني هاشم ـ يراد به أحد معنيين وكلاهما لا يفيان بغرض المستدل:
الأوّل: أن يُرَاد به خصوص آل محمّد الذين تحرم عليهم الصدقة ـ أي الإطلاق الثالث ـ لا كلّ من تحرم عليه الصدقة.
الثاني: أن يراد بالإطلاق العرفيّ الأعم بقرينة الروايات المفسّرة لهم ببني هاشم، وعليه فلا يمكن اعتباره تعريفاً عاماً أو شابطة مطرّدة في الموارد كافّة.
وبناء على المعنى الثاني نعود لنؤكِّد فكرة دراسة هذه الإطلاقات وملاحظة المعنى المقصود بها من خلال القرائن المحيطة بها والتي منها مناسبات الحكم والموضوع، فحرمة الصدقة ـ كحكمٍ شرعيّ ـ لا يمكن النظر إليه على حدٍّ سواء مع الصلاة على الآل في التشهّد ولا مع مضمون حديث الثقلين الصريح في جعل الإمامة والمرجعيّة العلمية لأهل البيت(عليهم السلام).
2 ـ إنّ كلام زيد لا يعدو أن يكون اجتهاداً في مقابل النصّ الوارد عن رسول الله(صلى الله عليه و آله و سلم) الذي فسّر أهل البيت بأصحاب الكساء(عليهم السلام) كما تقدّم. إلاّ إذا أراد تفسيره في خصوص الصدقة، ولكنّه خلاف الظاهر منه لأنَّه بصدد تفسير لفظ (أهل البيت) الوارد في حديث الثقلين. ولعلّ السبب في إطلاقه هذا التفسير عدم إلمامه واطّلاعه على باقي الأحاديث الوارد فيها لفظ أهل البيت فربما سمع حديث تحريم الصدقة فظنّ اجتهاداً منه المساواة بين آل محمد أو أهل بيته وبين من تحرم عليهم الصدقة، وخطأ اجتهاده واضح لمن لاحظ باقي الروايات في تفسير أهل البيت كما أنه أخطأ من جهة أخرى حيث قيّد حرمان الصدقة بما بعد حياة النبي(صلى الله عليه و آله و سلم) «من حرموا الصدقة بعده» مع أنَّ الحكم مطلق في حياته وبعدها. وثالثاً إنّ حرمان الصدقة لا يقتصر على من ذكرهم بل يشمل بني عبد المطلب أيضاً كما ذكر ذلك الكنجي الشافعي(52).
القول الثاني: إنّ المراد بهم خصوص أزواج النبي(صلى الله عليه و آله و سلم)؛ لدلالة سياق آية
________________________________________
(52) كفاية الطالب: 54.
[الصفحة - 143]
التطهير على ذلك أولاً، ولكونهنّ سبب النزول ثانياً ولعموم لفظ «أهل البيت» ثالثاً، وهو قول عكرمة ونسبه إلى ابن عباس، وكان عكرمة يقول من شاء باهلته أنّها نزلت في أزواج النبي(صلى الله عليه و آله و سلم) (53)، وكذلك قول مقاتل وعروة بن الزبير. ولم يتفوّه به أحد من أهل التفسير والعلم والتحقيق. والظاهر أنّ هذا القول خاصّ بتفسير الآية لبيان المراد بأهل البيت فيها، لا لبيان وتفسير لفظ آل محمد أو أهل البيت الوارد في باقي الروايات والنصوص الأخرى والذي ذكر له الفقهاء أحكاماً خاصّة به. ولذا لم يذكر هذا الرأي أحد من الفقهاء من الفريقين، نعم هناك كلام في دخول الأزواج في أهل البيت وهو القول الثالث وسيأتي بحثه. ولذا فإنّ الصحيح منهجيً خروج هذا القول عن دائرة الأقوال الفقهية الواردة في المسألة.
والجواب على هذا الرأي ما يلي:
1 ـ أمّا السياق وكون الأزواج سبب النزول فقد ذكر ابن حجر أنّ أكثر المفسرين على أنّ الآية نزلت في علي وفاطمة والحسن والحسين، لتذكير ضمير عنكم وما بعده (54). على أنّ «الأحاديث على كثرتها نصّت في نزول الآية وحدها ولم يرد حتى في رواية واحدة نزول هذه الآية ضمن آيات نساء النبي(صلى الله عليه و آله و سلم)، ولا ذكره أحد حتّى القائل باختصاص الآية بأزواج النبيّ كما ينسب إلى عكرمة وعروة. فالآية لم تكن بحسب النزول جزء من آيات نساء النبي ولا متّصلة بها، وإنّما وضعت بينها إمّا بأمر النبي(صلى الله عليه و آله و سلم) أو عند التأليف بعد المرحلة، ويؤيِّده أنَّ آية {وقرن في بيوتكن} على انسجامها واتّصالها لو قدّر ارتفاع آية التطهير من بين جُمَله (55).
2 ـ إنّه حتَّى على فرض التسليم بوحدة السياق وكون الآية نازلة في ضمن آيات نساء النبي(صلى الله عليه و آله و سلم)، فإنَّ إمكان رجوع الضمير إلى غيرهنّ لا ينكره من عرف عادة الفصحاء في كلامهم، فإنّهم يذهبون من خطاب إلى غيره ويعودون إليه ولقرآن من ذلك مملوء وكذلك كلام العرب وأشعارهم (56).
________________________________________
(53) فتح القدير (الشوكاني) 4: 279.
(54) الصواعق المحرقة: 220، ط/ دار الكتب العلمية، في الآيات الواردة فيهم [أهل البيت].
(55) الميزان في تفسير القرآن 16: 316.
(56) مجمع البيان (الطبرسي) 7-8: 560.
[الصفحة - 144]
3 ـ إنّه مع كثرة الروايات (57) الواردة عن النبي(صلى الله عليه و آله و سلم) المفسِّرة لأهل البيت في الآية بغير أزواج النبي(صلى الله عليه و آله و سلم) بل والمصرّح في بعضها بخروجهن من هذا العنوان وأنّها نزلت في غيرهنّ فإنّ هذا التفسير يكون اجتهاداً في مقابلة النصّ؛ إذ لا حجة لظهور السياق ـ الذي هو من أضعف الظهورات ـ مع القرينة الصارخة.
4 ـ مثل ما روته أمّ سلمة: إنّ النبي(صلى الله عليه و آله و سلم) كان في بيتها فأتته فاطمة رضي الله عنها ببرمة فيها خزيرة فدخلت عليه به افقال لها: إدعي لي زوجك وابنيك، قالت: فجاء علي وحسن وحسين فدخلوا عليه فجلسوا يأكلون من تلك الخزيرة وهو على منامة له، وكان تحته(صلى الله عليه و آله و سلم) كساء خيبري، قالت: وأنا في الحجرة أصلّي، فأنزل الله عز وجل {إِنَّمَا يُرِيدُ الله لِيُذْهِبَ عَنْكُمْ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِير} قالت رضي الله عنها: فأخذ(صلى الله عليه و آله و سلم) فضل الكساء فغطاهم به ثم أخرج يده فألوى بها إلى السماء ثم قال: (اللهم هؤلاء أهل بيتي وخاصّتي فأذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً) قالت: فأدخلت رأسي فقلت: وأنا معكم يا رسول الله؟ فقال(صلى الله عليه و آله و سلم): إنّك إلى خير، إنك إلى خير» (58).
4 وأمّا عموم لفظ أهل البيت، فقد ذكرنا أن لهذا اللفظ اطلاقات متعدّدة بعضها على التوسعة وبعضها على التضييق، وهذا ما يفهم من خلال القرينة الصارفة، فهو نظير لفظ الأهل الذي يتسع مدلوله تارة ويضيق أخرى، فقوله(صلى الله عليه و آله و سلم) «خيركم خيركم لأهلي وأنا خيركم لأهلي» يراد به الزوجة مع أنه عام، والسر وجود القرينة الصارفة له عن عمومه. ولفظ «أهل البيت» وإن كانت عامّاً ولكن القرينة الصارفة له ـ وهي تفسير النبي(صلى الله عليه و آله و سلم) الوارد في الأحاديث السالفة ـ عن عمومه أو عن بيت السكنى إلى بيت النسب تحول عن دخول جميع الأفراد حتى مع حضورهم وطلبهم الدخول وتذكيرهم بهذا العنوان كما في قول أم سلمة «ألست من أهل بيتك يا رسول الله؟».
________________________________________
(57) أنظر على سبيل المثال: تفسير ابن كثير 3: 798-804 حيث روي في هذه الصفحات نحو (16) حديثاً في ذلك، وفتح القدير 4: 279-280.
(58) تفسير ابن كثير 3: 799.
[الصفحة - 145]
5 ـ إنّه لا شكّ أنّ لأهل البيت أو آل محمد أحكاماً ذكرها الفقهاء وسيأتي استعراضها وهذه الأحكام لم يذكرها الفقهاء لأزواج النبي(صلى الله عليه و آله و سلم) بل صرّحوا بنفيها عنهنّ، فمثلاً لا شكّ في حرمة الصدقة الواجبة وهي الزكاة على آل محمد وأهل بيته في حين صرّحوا بنفي الحكم عنهن. فقد ذكر أبو الحسن ابن بطال في شرح البخاري: «إنّ الفقهاء كافّة اتفقوا على أنّ أزواجه عليه الصلاة والسلام لا يدخلن في آله الذين حرمت عليهم الصدقة» (59).
وكذلك الصلاة على الآل في التشهد لا تدخل فيه أزواج النبي(صلى الله عليه و آله و سلم) لصرف الزوجيّة ولا القرابة لصرف القرابة؛ لأنّ الصلاة عليهم مقام عظيم.
6 ـ ما ناقش به الإمام النبهاني هذا القول من أنّ ضمير جمع النسوة ذكر في اثنين وعشرين موضعاً، عشرين قبلها واثنين بعدها، ولم يأت ضمير جمع الذكور إلاّ في (عنكم) و(يطهّركم). فلو كان المراد أزواجه(صلى الله عليه و آله و سلم) (خاصّة) لكان إتباعُ هذين الضميرين للاثنين وعشرين ضمير أولى وأحرى ليكون الكلام على نسقٍ واحد (60). وناقش فيه ابن كثير من خارج الآية فقال: «إن أريد أنّهن المراد فقط دون غيرهن ففي هذا نظر؛ فإنَّه قد وردت أحاديث تدلّ على أنَّ المراد أعمّ من ذلك...» (61). ثمَّ أورد الأحاديث في ذلك.
7 ـ إنّ عكرمة متَّهمٌ في رأيه هذا من جهتين: الأولى انتمائه السياسيّ للخوارج، وهم معروفون في مناهضتهم لعلي(عليه السلام) (62). الثانية اتّهامه بالكذب والوضع (63).
8 ـ أمّا نسبته إلى ابن عباس فقد روي عنه ذلك بطريقين أحدهما فيه عكرمة. ولكن ابن عباس أجلّ شأناً أن يصحّ عنه ذلك، لأنَّه اجتهاد في قبال النصّ الصريح عن النبي(صلى الله عليه و آله و سلم) وقبال إجماع الصحابة عليه، ولأنَّه قد روي عنه ما يعارضه، فاحتمال التقوّل عليه قويٌ جداً. وأمّا الطريق الثاني فهو عن سعيد بن جبير عن ابن
________________________________________
(59) حاشية الشلبي على تبيين لحقائق 1: 303، ط/ بولاق.
(60) تفسير ابن كثير 3: 798.
(61) الشرف المؤبد: 38، ط/ دار جوامع الكلم.
(62) قال الحافظ المزّي (تهذيب الكمال 20: 277): «قال ابن لهيعة: كان يحدّث برأي نجدة الحروري، وأتاه فأقام عنده ستة أشهر، ثم أتى ابن عباس فسلّم عليه، فقال ابن عباس: جاء الخبيث».
وقال أيضاً (20: 278): «وعن يحيى بن معين: إنّما لم يذكر مالكُ بن أنس عكرمة؛ لأن عكرمة كان ينتحل رأي الصفرية».
وقال أيضاً (20: 278): «وعن أحمد بن حنبل أنه كان يرى رأي الأباضية، فقال: يقال إنّه كان صُفرياً.. وأتى خراسان يطوف على الأمراء يأخذ منهم».
وبناءً على آراء الخوارج التكفيرية للمسلمين كان عكرمة يقف على باب المسجد ويقول: ما فيه إلا كافر. وحدّث خالد بن أبي عمران قال: دخل علينا عكرمة مولى ابن عباس بافريقية في وقت الموسم فقال: «وددت أنّي بالموسم بيدي حربة أضرب بها يميناً وشمالاً، وفي رواية: فأعترض بها من شهد الموسم» (تهذيب الكمال 20: 278). وعلى كل حال فهو أول من أحدث مذهب الخوارج بالمغرب (سير أعلام النبلاء 5: 20 و21) والخوارج بالمغرب عنه أخذوا (سير أعلام النبلاء 5: 21).
(63) وقد كان عكرمة معروفاً بالكذب حتى صار مضرباً للمثل في ذلك بين الرواة. وإليك بعض الشواهد لذلك: أ- قال سعيد بن المسيّب لغلامه بُرد: لا تكذب عليّ كما كذب عكرمة على ابن عباس، ويروى ذلك عن ابن عمر قاله لنافع (ميزان الاعتدال 3: 97). ب- وقال عبد الله بن عمر لمولاه نافع: «اتق الله ويحك يا نافع، ولا تكذب عليّ كما كذب عكرمة على ابن عباس» (تهذيب الكمال 20: 279). ج- قال يزيد بن ابي زياد: دخلتُ على علي بن عبد الله بن عباس وعكرمة مقيّد على باب الحُش (بيت الخلاء) قلت: ما لهذا كذا؟ قال: إنه يكذب على أبي (20: 280). د- روى الفضل بن الربيع عن الشافعي قال: ومالك سيء الرأي في عكرمة، قال: لا أرى لأحد أن يقبل حديثه (سير أعلام النبلاء 5: 26). ĕ- وعن ابن سيرين أنّه كذاب وكان يقول: اسأل الله أن يميته ويريحنا منه (تهذيب الكمال 20: 282). وقيل فيه: أنه لا يُحسن الصلاة أو لا يصلي ويلعب بالنرد ويسمع الغناء (سير أعلام النبلاء 5: 27). وقد ذكر فيه أئمة الرجال مدحاً وقدحاً وتوثيقاً وتضعيفاً، والجرح مقدّم عند التعارض.
[الصفحة - 146]
عباس، وقد احتمل بعض الباحثين أنّه أخذها عن عكرمة لأنّ ابن مردويه قد رواها عن سعيد بن جبير عن عكرمة عن ابن عباس (64).
9 ـ أمّا نسبته إلى مقاتل بن سليمـان فإنَّه على فرض صحّتهـا فإنّ هذا الرجل متَّهم بالفسق والفجور(65) وذكره ابن الجوزيّ والذهبيّ في الضعفاء بل ذكر الأخير أنّهم «أجمعوا على تركه» (66).
10ـ وأمّا عروة بن الزبير فكان شديد البغض لعلي(عليه السلام) والعداوة لبني هاشم. وقد روى المسعودي عن حمّاد بن سلمة قال: كان عروة بن الزبير يعذر أخاه إذا جرى ذكر بني هاشم وحصره إياهم في الشعب وجمعه لهم الحطب ليحريقهم، ويقول: «إنّما أراد بذلك إرهابهم ليدخلوا في طاعته إذا هم أبوا البيعة كما سلف» (67)، أي في السقيفة.
ويَكفي قوله لابن عمر مستفتياً: إنَّا نجلس إلى أئمتنا هؤلاء فيتكلَّمون بالكلام نعلم أنَّ الحقّ غيره فنصدِّقهم، ويقضون بالجور فنقوّيهم ونحسّنه لهم، فكيف ترى في ذلك؟ فقال له ابن عمر: يا ابن أخي كنّا مع رسول الله(صلى الله عليه و آله و سلم) نعدّ هذا النفاق، فلا أدري كيف هو عندكم؟(68).
وقفة مع كلام الحكيم الترمذي:
قال الحكيم الترمذي في نوادر الأصول في رأي الإمامية في آية التطهير: «وتأوّلوا قوله تعالى:{إِنَّمَا يُرِيدُ الله لِيُذْهِبَ عَنْكُمْ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً } إنَّما هم علي وفاطمة والحسن والحسين، وهي لهم خاصّة وكيف يجوز هذا ومبتدأ هذا الخطاب قوله عز وجل: {يا أيها النبي قل لأزواجك} إلى قوله {أجراً عظيماً} ثم قال {يا نساء النبي} إلى قوله { إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمْ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ} ثم قال: {واذكرن ما يتلى في بيوتكن} فهذا كلام منسوق أثره على أثر بعض، فكيف صارت هذه المخاطبات كلها لنساء النبي عليه الصلاة
________________________________________
(64) أهل البيت في آية التطهير (السيد جعفر مرتضى العاملي): 160، راجع الدرّ المنثور 5: 189.
(65) المجروحون 3: 16.
(66) سير أعلام النبلاء 7: 201.
(67) مروج الذهب 3: 77، ط/ دار الأندلس.
(68) السنن الكبرى 8: 165.
[الصفحة - 147]
والسلام قبلاً وبعداً، وينصرف في الوسط لغيرهن وهو على نسق نظام واحد لأنه قال: { لِيُذْهِبَ عَنْكُمْ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ } ثم قال على أثره { بيوتكن} فكيف صار الكافي الثاني [بيوتكن] خطاباً للنساء والأول [عنكم] لعلي وفاطمة رضي الله تعالى عنهما، وأين ذكرهما في هذه الآيات.
فإن قال قائل: إن كان الخطاب لنسائه فكيف قال { ليذهب عنكم} ولم يقل عنكنّ؟ قلنا: إنّما ذكره لأنه ينصرف إلى الأهل، والأهل مذكّر فسمّاهنّ باسم التذكير وإن كنّ إناثاً.
وقد يروى عن رسول الله(صلى الله عليه و آله و سلم) أنه لمّا نزلت هذه الآية دخل عليه علي وفاطمة والحسن والحسين رضوان الله تعالى عليهم، فعمد النبي(صلى الله عليه و آله و سلم) إلى كساء فلفّها عليهم ثم ألوى بيده إلى السماء فقال: «هؤلاء أهلي أذهب عنهم الرجس وطهّرهم تطهير»، فهذه دعوة منه لهم بعد نزول الآية، أحبّ أن يدخلهم في الآية التي خوطب بها الأزواج رضوان الله تعالى عليهم أجمعين (69).
وقد اشتمل كلامه على عدة نقاط نشير إليها:
النقطة الأولى: إنّ تخصيص القول باختصاص الآية بأصحاب العباء غير سديد، فقد ذهب إلى ذلك جمهرة من الصحابة. وقال به الطحاوي في مشكل الآثار.
ولذا ردّ الإمام النبهانيّ مناقشاً في كلامه هذا فقال: «إنّ كلامه رضي الله تعالى عنه غير مسلّم ليس من حيث قصره أهل البيت في الآية على الزوجات الطاهرات، فإنّ له في ذلك شركاء من الأئمّة وإن قلّوا كما علمت، ولكن من حيث تشنيعه على القائلين باختصاص فاطمة وزوجها وابنيها بهذه الآية بعبارته الشديدة، فإن كان مراده بهم غلاة الشيعة وهو الظاهر من الأوصاف الذميمة التي وصفهم بها ويقتضيه حسن الظن به فلا بأس، غير أنَّ نسبة هذا القول إليهم خاصّة غير
________________________________________
(69) نقلاً عن الشرف المؤبد (النبهاني): 35.
[الصفحة - 148]
صواب، فقد تقدَّم أنّه قال به أبو سعيد الخدريّ من الصحابة وجماعةٌ من التّابعين، منهم قتادة ومجاهد الذي قال فيه الإمام الشافعيّ رضي الله تعالى عنه: إذا جاءك التفسير عن مجاهد فحسبك به، وإذا تأمّلت في عبارته رحمه الله ظهر لك منها أنّه حنق أيضاً على القائلين بشمول الآية لأهل العباء والزوجات الطاهرات معاً، وقد علمت ممّا تقدّم أن هذا مذهب جمهور المفسرين من أهل السنة والجماعة (70).
النقطة الثانية: التمسّك بوحدة السياق وقد تقدّم الجواب عليها سابقاً، وما طرحه من تساؤل منعكس عليه، فإنّه لو أريد بأهل البيت النساء فلماذا تبدّل الخطاب إلى التذكير ولماذا جيء بلفظ «أهل البيت» بل كان طبيعة الكلام والسياق أن يُقال «إنَّما يريد الله ليطهركنّ ويُذهب عنكنّ الرجس ويطهركنّ تطهير» فما هو الداعي أو الاضطرار إلى تبديل الضمائر أولاً والإتيان بلفظ أهل البيت ثانياً؟
وأمّا جوابه من تذكير الضمائر المذكّرة (عنكم ـ يطهركم) وأنّه باعتبار رجوعه إلى لفظ الأهل وهو مذكّر فغير تام لما قلناه من أنّه ما الداعي أساساً إلى تغيير الضمير في هذين الموردين خاصّة مع أنّه سبقهما عشرون ضميراً مؤنثاً ولحقهما ضميران مؤنثان؟ فإن قال ذكر «أهل البيت» عاد السؤال أيضاً أنّه ما الدّاعي ذكر هذا اللفظ ـ لو كان يُراد به النساء خاصّة ـ حتى يتغيّر الضمير بتبعه؟
وهذا ما أشار إليه النبهاني مناقشاً لكلام الترمذيّ بعد نقله «وقد ظهر لذهني الفاتر تعليل وجيه لشمول الآية للفريقين، وهو أنّي نظرت إلى سابق هذه الآية ولاحقها من قوله تعالى {قُلْ لأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الحَيَاةَ الدُّنْيَ} إلى قوله {وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ} فوجدت ضمير جمع النسوة مذكوراً في اثنين وعشرين موضعاً، عشرين قبلها واثنين بعدها، ولم يأت ضمير جمع الذكور إلاّ في (عنكم ويطهّركم) فلو كان المراد أزواجه(صلى الله عليه و آله و سلم) خاصّة لكان إتباع هذين الضميرين للاثنين وعشرين ضميراً أولى وأحسن ليكون الكلام على نسقٍ واحدٍ، فلم تحصل
________________________________________
(70) الشرف المؤبد: 37.
[الصفحة - 149]
المخالفة فيهما إلاّ لمخالفة المراد منهما للمراد ممَّا قبلهما وبعدهما، ويكون ذلك بشمولهما مع الزوجات الطاهرات ما أفصح الحديث بدخولهم وهم أهل العباء».
ثمَّ قال بشأن تذكير الضمير ومناقشة كلام الترمذي: «وأمّا تذكير لفظ الأهل فغاية ما يقتضيه جواز تذكير الضمير باعتباره كما يجوز تأنيثه أيضاً باعتبار المعنى، ويرجح جانب المعنى هنا إحاطة ضمائر النسوة بهذين الضميرين من كلتا جهتيهم». ثمَّ استنتج من هذه المناقشة توجيهاً أفضل ممّا ذكره الترمذي في تذكير الضمير ليصبّ في رأيه المختار وهو شمول الآية للفريقين فقال: «فإذن لم يعدل عن التأنيث للتذكير فيهما إلا لأمرٍ آخر وهو دخول أهل العباء في الخطاب، وفي الأهل بالمعنى الذي نصّ عليه رسول الله(صلى الله عليه و آله و سلم) نصاً لا يقبل التأويل في قوله «اللهم هؤلاء أهل بيتي فأذهب عنهم الرجس وطهّرهم تطهير» (71).
وكلامه جيد عدا ما ذكره من المحاولة لتوجيه تذكير الضمير في الآية وأنّه باعتبار وجود الذكور فيها وهم أصحاب العباء. لأنّه قد تقدّم بيان اختصاص الآية بهم وعدم تمامية ما ينهض لإثبات الشمول للأزواج من قضية السياق أو الروايات أو غير ذلك.
النقطة الثالثة: ما ذكره من أنّ ما قام به النبي(صلى الله عليه و آله و سلم) بحقِّ أصحاب العباء إنّما هو دعوة منه لهم بعد نزول الآية أحبَّ إدخالهم في الآية التي خوطب بها الأزواج.
وقد كفانا الجواب على ذلك النبهانيّ بجواب سديد في المقام. قال رحمه الله: «وكيف يحبّ رسول الله(صلى الله عليه و آله و سلم) دخول قوم في آية من كتاب الله لم يدخلهم الله تعالى فيها؟! والذي يدلّ دلالة واضحة على أن المراد من الآية أهل العباء مع الزوجات إن لم نقل وحدهم. الرواية التي أخرجها عن أم سلمة: ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني وابن مردويه، وتقدّمت عن الدرّ المنثور للحافظ السيوطي، وهي أنّ رسول الله(صلى الله عليه و آله و سلم) كان في بيتها على مقامة له عليه كساء خيبريّ
________________________________________
(71) المصدر السابق: 38.
[الصفحة - 150]
فجاءت فاطمة ببرمة فيها خزيرة فقال رسول الله(صلى الله عليه و آله و سلم): إدْعي لي زوجك وابنيك حسناً وحسيناً فدعتهم فبينما هم يأكلون إذ نزلت على النبي(صلى الله عليه و آله و سلم) {إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمْ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِير} فأخذ النبي(صلى الله عليه و آله و سلم) بفضلة فغشّاهم إياها، ثمَّ أخرج يده من الكساء وألوى بها إلى السماء ثمَّ قال: اللهم هؤلاء أهل بيتي وحامّتي» وفي رواية «وخاصّتي فأذهب عنهم الرجس وطهّرهم تطهيراً، قالها ثلاث مرات. قالت أم سلمة: فأدخلت رأسي في الستر فقلت يا رسول الله وأنا معكم؟ فقال: إنّك إلى خير مرتين». فأنت ترى هذه الرواية صريحة في تخصيص الآية في أهل العباء، نعم ذكر البغويّ في معالم التنزيل في الرواية عن أمِّ سلمة: «فقلت: ألستُ منهم يا رسول الله؟ قال: بلى» وذكر المقريزيّ رواية عنها: «قلت: وأنا منهم؟ قال: نعم» فهاتان الروايتان مع سابق الآية ولاحقها يدلاّن على دخول الزوجات الطاهرات في المراد منها وحينئذ تكون شاملة للفريقين كما هو مذهب جمهور المفسّرين» (72).
أقول: لقد أجاد فيما أفاد إلاّ في تقرير مختاره حيث اضطرب كلامه؛ لأنّه لو تجاوزنا ما تمسَّك به من السياق الذي عبّر عنه بسابق الآية ولاحقها وسلّمنا له تماميته فإنّه صرّح بأنَّ رواية السيوطي صريحة في اختصاص الآية في أهل العباء وهذا يتنافى مع تمسّكه بالسياق الذي ينفي الاختصاص ويدخل الأزواج فكان عليه رفع التنافي في هذه النقطة أولاً، وأيضاً كان عليه رفع التعارض بين هذه الرواية ورواية البغوي، فكيف ردّ النبي(صلى الله عليه و آله و سلم) أم سلمة في الأولى وكيف أدخلها معهم في الثانية؟ هذا ما لم يتوقَّف عنده النبهاني في كلامه، وليته كان يتوقف ويعطي البحث حقّه ليسلَم له رأيه. ولكن الأدلَّة على خلاف رأيه ـ كما سلف ـ أقوى وأظهر، ولذا كان يقترب النبهاني في بعض عباراته من القول باختصاص الآية بأصحاب العباء كما مرّ عليك قوله «والذي يدلّ دلالة واضحة على أن المراد من الآية أهل العباء مع الزوجات إن لم نقل وحدهم».
________________________________________
(72) المصدر السابق: 40.
[الصفحة - 151]
ثمَّ نضيف إلى ما ذكره في مناقشة الحكيم الترمذيّ: لماذا هذا التقليل من شأن الروايات الكثيرة جداً بحقِّ أصحاب الكساء في خصوص هذه الآية فهل قوله «وقد يروى عن رسول الله...» تقليلاً من شأن هذه الروايات هو ممّا تقتضيه الموضوعيّة في البحث العلميّ؟ وليته اكتفى بهذه المحاولة المكشوفة بل راح يتبرّع بأنَّ إدخالهم كان بعد نزول الآية في الأزواج لرغبة في نفس النبيّ لإدخال أقربائه وكأنّه لم يطلّع على الروايات الدالة على نزولها فيهم والتي ذكر بعضها النبهاني وغيرها مثل رواية عبد الله بن جعفر لمَّا رأى النبي(صلى الله عليه و آله و سلم) الرحمة هابطة فقال ادعوا لي... فنزلت الآية وقد تقدّم نقلها سابقاً. بل لم تنقل رواية واحدة بأنّ هذا المقطع نزل ضمن آيات نساء النبي(صلى الله عليه و آله و سلم) أو أنّه نزل فيهنّ، وهذه كتب الرواية ومصادر الحديث بين أيدينا وعلى مدّعي العكس الإثبات. وعلى فرض وجودها فهي معارضة بالروايات الكثيرة الدالّة على نزولها في أصحاب الكساء(عليهم السلام).
القول الثالث: إنّ المراد بهم في الآية زوجات النبي(صلى الله عليه و آله و سلم) مع أصحاب الكساء. وقد ذهب إلى هذا الرأي كلٌ من القرطبيّ وابن كثير والشوكاني (73) ونسبه النبهاني ـ من علماء الشيعة ـ إلى جمهور المفسِّرين من أهل السنّة والجماعة (74). وهذا الرأي كسابقه إنَّما طُرح في ضوء تفسير الآية ولم يُطرح ـ غالباً ـ في دائرة الأقوال الفقهيَّة في تفسير الآل أو أهل البيت. نعم ذهبت بعض الأقوال الفقهيَّة إلى ذلك كما سنشير إليه لاحقاً. ولعلَّ هذا القول ـ سواء كان تفسيراً للآية أو رأياً فقهياً معتمّداً ـ هو أكثر الآراء وجاهة واعتباراً من غيره ولذا اختاره كثير أو أكثر المفسِّرين من الجمهور لأنّه يجمع بين الزوجات والقرابة ليوفّق بين الروايات الواردة بهذا المضمون.
ويُمكن الاستدلال على هذا القول بما يلي:
أولاً: قضيّة السياق وكون الآيات نازلة في الأزواج من جهة وعموم اللفظ الشامل لغيرهنّ وهم القرابة وورود الأخبار فيهم من جهةٍ أُخرى.
________________________________________
(73) الجامع لأحكام القرآن 14: 119، تفسير ابن كثير 3: 798، فتح القدير 4: 280.
(74) الشرف المؤبد: 38.
[الصفحة - 152]
قال القرطبيّ: «الذي يظهر من الآية أنّها عامّة في جميع أهل البيت من الأزواج وغيرهم. وإنّما قال { ويطهّركم} لأنّ رسول الله(صلى الله عليه و آله و سلم) وعلياً وحسناً وحسيناً كان فيهم، وإذا اجتمع المذكّر والمؤنّث غُلّب المذكر، فاقتضت الآية أنّ الزوجات من أهل البيت؛ لأنَّ الآية فيهنّ والمخاطبة لهنّ يدلّ عليه سياق الكلام» (75).
ويرد على هذا الدليل: 1ـ ما تقدّم فيم ناقشة السياق في القول السابق فلا نكرّر. 2ـ إنّ الآية صريحة في إذهاب الرجس والذنب عن أهل البيت على وجه الحصر المفاد بأداة الحصر (إنّما)، فقد أراد الله لهم ذلك فلا بدَّ أن تكون إرادته حاصلة ومستحقّة في حقّهم، لامتناع تخلّف المراد من إرادته. وليست الإرادة تشريعيّة عامّة لأنّه لا معنى للحصر حينئذٍ وتطهيرهم من الرجس المؤكَّد بالمفعول المطلق (تطهيراً) هو المعبّر عنه بالعصمة. وهذا ما لا تتَّصف به زوجات النبي(صلى الله عليه و آله و سلم) ـ على جلالة قدرهنّ ـ بصريح القرآن في سورة التحريم مخاطباً بعض أزواجه {إِنْ تَتُوبَا إِلَى الله فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ الله هُوَ مَوْلاَهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ المُؤْمِنِينَ وَالمَلاَئِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ} . قال القرطبي: «قوله تعالى { إن تتوبا إلى الله} . حثَّهما على التوبة على ما كان منهما من الميل إلى خلاف محبّة رسول الله(صلى الله عليه و آله و سلم) { فقد صغت قلوبكما} أي زاغت ومالت عن الحق وهو أنّهما أحبَّتا ما كره النبي(صلى الله عليه و آله و سلم). { وإن تظاهرا عليه} أي تتظاهرا وتتعـاونا على النبي(صلى الله عليه و آله و سلم) بالمعصية والإيذاء» (76)، ولا أريد التذكير بواقعة الجمل التي أظهرت فيها أمُّ المؤمنين عائشة ندمها على ما وقع وجرى فيها للمسلمين(77)، ولكنّي أتساءل كيف لنا أن نتصوّر أهل بيت أذهب الله تعالى بإرادته العليّة عنهم الرجس وطهّرهم تطهيراً مطلقاً وشاملاً لا مجال فيه للذنب وأكّد النبي(صلى الله عليه و آله و سلم) هذه الحقيقة القرآنية بقوله «فإنّا وأهل بيتي مطهّرون من الذنوب» أن يقع بينهم الاختلاف والخصام إلى حدّ السيف وإراقة الدم وان يستحلّ أحدهما دم الآخر؟ لا مخرج لذلك إلاّ القول
________________________________________
(75) الجامع لأحكام القرآن 14: 119.
(76) المصدر السابق 18: 184.
(77) روى البيهقي في المحاسن والمساوي (1: 471): «سئلت عائشة عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه فقالت: وما عسيت أن أقول فيه، وهو أحبّ الناس إلى رسول الله(صلى الله عليه و آله و سلم)، لقد رأيت رسول الله(صلى الله عليه و آله و سلم) قد جمع شملته على علي وفاطمة والحسن والحسين، وقال: هؤلاء أهل بيتي، اللهم أذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً. قيل لها: فكيف سرت إليه؟ قالت: أنا نادمة، وكان ذلك قدراً مقدور».
[الصفحة - 153]
بخروج أحد هذين الصنفين من الآية وليس هم أصحاب الكساء قطعاً لإجماع الأمّة ـ عدا عكرمة ومن حذا حذوه ـ والنصوص الصحيحة على دخولهم. وبودّي الإشارة إلى أنّ الذي دعاني لمثل هذا الحديث ليس الإساءة لأحد خصوصاً في أمّهات المؤمنين أو استذكار الماضي المرير، ولكن لدواعي علميّة وإنصافاً للبحث العلمي سيما وأنَّ إخواننا من أهل السنّة يصرّحون بنفي العصمة عن غير النبي(صلى الله عليه و آله و سلم) وأنّ الجميع يجري على مقتضى الطبيعة البشريّة من الإطاعة والمعصيّة.
وقد أخرج الحكيم الترمذيّ والطبرانيّ وابن مردويه وأبو نعيم والبيهقي معاً في الدلائل عن ابن عباس رضي الله عنهما قال قال رسول الله(صلى الله عليه و آله و سلم): «إنّ الله قسّم الخلق قسمين فجعلني في خيرهما قسماً.. ثمَّ جعل القسمين أثلاثاً فجعلني في خيرها ثلثاً.. ثمّ جعل الأثلاث قبائل فجعلني في خيرها قبيلة.. ثمّ جعل القبائل بيوتاً فجعلني في خيرها بيتاً، فذلك قوله تعالى: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمْ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِير} فأنا وأهل بيتي مطهّرون من الذنوب» (78). وواضح أنَّ مراده بيت النسب لا السكن وإلا كان قوله «فأنا وأهل بيتي مطهّرون من الذنوب» معارضاً لصريح القرآن والعياذ بالله. وقد جعل تطهيرهم من الذنوب على حدّ تطهيره منها وهو نفس وزان الآية فكلاهما بيان واحد للعصمة.
ثانياً: إنّه مقتضى الجمع بين الروايات المفسِّرة لأهل البيت بالأزواج وبأصحاب الكساء. والروايات في الثاني أكثر وقد تقدّم بعضها. وأمّا الروايات في الأوّل فهي:
1ـ عن عطاء بن يسار عن أم سلمة قالت: في بيتي نزلت { إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمْ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً } قالت: فأرسل رسول الله(صلى الله عليه و آله و سلم) إلى فاطمة وعلي والحسن والحسين فقال: هؤلاء أهل بيتي. قالت فقلت: يا رسول الله أما أنا من أهل البيت؟ فقال: بلى إن شاء الله (79).
________________________________________
(78) الدر المنثور 6: 605، ط/ دار الفكر.
(79) سنن البيهقي 3: 150، ط/ دار الفكر.
[الصفحة - 154]
2ـ عن عبد الله بن وهب بن زمعة قال: أخبرتني أم سلمة رضي الله عنها قالت: إنّ رسول الله(صلى الله عليه و آله و سلم) جمع علياً وفاطمة والحسن والحسين رضي الله عنهم ثمَّ أدخلهم تحت ثوبه، ثمَّ جأر إلى الله عزّ وجل ثمّ قال: «هؤلاء أهل بيتي» قالت أم سلمة: فقلت يا رسول الله أدخلني معهم، فقال(صلى الله عليه و آله و سلم): أنت من أهلي (80).
3ـ وروي نحوه عن عمر بن ابي سلمة عن أمّه رضي الله عنه (81).
4ـ عن شهر بن حوشب عن أم سلمة حدثته بعد قتل الحسين(عليه السلام) فقالت: جاءت فاطمة رسول الله(صلى الله عليه و آله و سلم) غدوة ببرمة لها تحملها في طبق لها حتة وضعتها بين يديه فقال لها: أين ابن عمّك؟ قالت هو في البيت قال: «اذهبي فادعيه لي وائتني بابنيه» فجاءت تقود ابنيها كل واحد منهما في يده وعلي يمشي في أثرها حتَّى دخلوا على رسول الله فأجلسهما في حجره وجلس علي على يمينه وجلست فاطمة على يساره. قالت أم سلمة: فاجتذب من تحتي كساء خيبرياً كان بساطاً لنا على المنامة في المدينة فألقى رسول الله(صلى الله عليه و آله و سلم) عليهم جميعاً وأخذ بشماله طرفي الكساء وألوى بيده اليمنى إلى ربّه فقال: «اللهم هؤلاء أهلي أذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهير» ثلاث مرات، كل ذلك يقول «اللهم هؤلاء أهلي أذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهير» فقلت: يا رسول الله ألست من أهلك؟ قال: «بلى فادخلي في الكساء» فدخلت في الكساء بعدما مضى دعاؤه لابن عمّه وابنيه وابنته فاطمة (82).
5ـ عن شهر بن حوشب أنّه كان جالساً عند أم سلمة إذ قالت: جاءت فاطمة تحمل قدراً لها في خزيرة [لحم يقطع صغاراً ويصب عليه الماء وبعد نضجه يذرّ عليه الدقيق] فقال لها رسول الله(صلى الله عليه و آله و سلم): أين ابن عمك؟ قالت: في البيت، قال: فادّعيه وادعي ابنيّ معه، فدعتهم فطعموا ثمَّ أخذ كساءً خيبرياً كنّا نبسطه في بيتنا فتجلّله هو وهم ثم قال: «اللهم هؤلاء أهل بيتي أذهب عنا الرجس وطهرنا
________________________________________
(80) تفسير ابن كثير 3: 801، شواهد التنزيل 2: 112، ط/ المحمودي.
(81) المصدر السابق.
(82) شواهل التنزيل 2: 137، ط/ المحمودي.
[الصفحة - 155]
تطهير»، قالت: فقلت يا رسول الله ألسنا من أهلك؟ قال: «بلى أنت على خير». هذه هي مجموع الروايات التي رويت بشأن دخول الأزواج في الآية وهي خمسة فقط وقد روي بعضها بأكثر من طريق كرواية شهر بن حوشب، وعلى كلِّ حال لم أعثر على غير هذه الروايات الخمس مع تتبِّعي لها سيما في أوسع المصادر الذي عنى بنقل روايات هذه الآية وهو شواهد التنزيل للحسكانيّ.
المناقشة:
لا شكَّ في وجود تعارض بين هذه الروايات وبين الروايات الأخرى التي رفض فيها النبيّ(صلى الله عليه و آله و سلم) بصراحة دخول أم سلمة ـ في روايات كثيرة جداً ـ أو عائشة ـ في رواية واحدة ـ عندما طلبتا الدخول، كما تعارض ظاهر الروايات الأخرى الكثيرة التي لم يرد فيها طلب أم سلمة ذلك فإنّ ظاهرها قصر عنوان أهل البيت على من جمعهم النبي(صلى الله عليه و آله و سلم) تحت الكساء وسمّاهم بأهل البيت «اللهم هؤلاء أهل بيتي» أو تلى الآية بشأنهم بياناً لمصداقها. والروايات التي رفض فيها النبي(صلى الله عليه و آله و سلم) الدخول معهم وردت بألفاظ عديدة مثل:
ـ إنّك إلى خير إنك من أزواج النبي.
ـ أنت من أزواج رسول الله.
ـ إنّك على خير إن شاء الله أو: إنك إلى خير أو: أنت إلى خير.
ـ أنت زوج النبي وأنت على خير.
ـ اجلسي مكانك فإنك على خير.
ـ أنت في مكانك وأنت على خير.
ـ مكانك وأنت على خير.
ـ أنت من صالح نسائي.
ـ إنّك لعلى خير.
________________________________________
[الصفحة - 156]
ـ تنحّي فإنك إلى خير.
ـ أنت ممّن أنت منه وأنت على خير.
ـ إنَّك بخير وإلى خير.
وما ذكر من وجه الجمع بينهما في هذا القول هو من قبيل الجمع التبرعيّ؛ لأنّ الجمع إنَّما يتمّ لو كان كلاهما مثبِتَين فيقال إنَّ كلَّ دليل بيّن فرداً معيناً والجمع بينهما الالتزام بكلا الفردين، ولكن الوارد فيهما هو النفي والإثبات، فأحدهما يثبت والآخر ينفي فلا مجال للجمع العرفي، والصحيح في الجواب على ذلك أن يقال: إنّ البحث يقع في مقامين:
المقام الأوّل: إمكان الجمع بين الطائفتين
إنَّ الروايات التي ذكرت حديث الكساء لا تخلو من إحدى حالتين:
1ـ إمّا أن تكون عبارة عن قضيَّة واحدةٍ ولا تكرار فيها فحينئذ يكون قول أم سلمة «فدخلت في الكساء بعدما مضى دعاؤه لابن عمه وابنيه وابنته فاطمة» قرينة متَّصِلةً وشاهد جمع بين الطائفتين، فالنبي(صلى الله عليه و آله و سلم) لم يسمح لها بالدخول أثناء الدعاء وأثناء تجليلهم بالكساء كما تشير إليه باقي الروايات ولكنّه(صلى الله عليه و آله و سلم) أذن لها بذلك بعد فراغه من الدعاء.
2ـ أن تكون قد تكرّرت أكثر من مرَّة وفي هذه الحال يمكن أيضاً اعتبار المقطع في نفس الروايات شاهداً للجمع سواء اتَّحدت الواقعة أو تكرّرت. هذا مضافاً إلى أنّ قوله(صلى الله عليه و آله و سلم) في الرواية الثانية «أنت من أهلي» والرواية الخامسة «بلى أنت على خير» غير واضح في إدخالها معهم وشمولها بخصوصيتهم؛ لأنّه لا شكّ في كون أم سلمة وسائر أزواج النبي(صلى الله عليه و آله و سلم) هم أهله بالإطلاق اللغوي والعرفيّ ولكنّهم غير داخلين في الإطلاق الخاص لأهل البيت وإلاّ لو كنّ كذلك لأدخلهم ابتداء لا بعد السؤال. ثمَّ إنّ بعض النصوص النافية لدخول أم سلمة نصٌ في النفي
________________________________________
[الصفحة - 157]
فتتعارض مع ظاهر الروايات الدالّة على الإذن بالدخول والنصُّ مقدَّم على الظاهر ولا بدّ من صرفه عن ظاهره وحمله على محملٍ ينسجم والنصُّ في باقي الروايات، وأفضل محملٍ هو ما ذكرناه من شاهد الجمع. والروايات النصيّة رواية عمرة الهمدانية: أنَّها دخلت على أمِّ سلمة زوج النبي(صلى الله عليه و آله و سلم)، قالت: يا أمّتاه ألا تخبريني عن هذا الرجل الذي قُتل بين أظهرنا فمحبّ ومبغض [له]؟ قالت لها أم سلمة: أتحبيّنه؟ قالت: لا أحبّه ولا أبغضه ـ تريد علي بن أبي طالب ـ فقالت أم سلمة: أنزل الله تعالى { إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمْ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً }وما في البيت إلا جبرائيل ورسول الله وعلي وفاطمة والحسن والحسين وأنا فقلت: يا رسول الله أنا من أهل البيت؟ فقال رسول الله: أنت من صالح نسائي، فلو كان قال نعم كان أحبّ إليّ مما تطلع عليه الشمس وتغرب (83).
وفي رواية الأعمش عن بعض أشياخه عن أمِّ سلمة وفيها تحكي دخول أصحاب الكساء(عليهم السلام) على النبي(صلى الله عليه و آله و سلم) إلى أن قالت: فجمعهم رسول الله حوله وتحته كساء خيبري فجلّلهم رسول الله جميعاً ثمَّ قال: اللهم هؤلاء أهل بيتي فأذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً، فقلت: يا رسول الله وأنا معهم؟ فوالله ما قال وأنت معهم ولكنه قال: أنت على خير وإلى خير فنزلت عليه: { إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمْ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً } (84) ولا شكَّ أنّ ظهور تلك الروايات في دخولها لا يقاوم هذا النّص الصريح فيُحمل على دخولها متأخِّراً معهم بعد فراغه(صلى الله عليه و آله و سلم) من الدعاء ومن الخصوصيّة.
ثمَّ روايات دخول أم سلمة معهم أي في عداد أهل البيت لو سلّمنا بها فإنَّها مبتلاة بالمعارضة مع رواياتٍ أُخرى رويت عن عائشة وهي روايات دلّت ـ وبعض نصّ في ذلك ـ عدم سماح النبي(صلى الله عليه و آله و سلم) لها. ففي رواية رواية جميع التيمي عن عائشة «.. ولقد رأيت رسول الله التفع عليهم بثوب وقال: اللهم هؤلاء أهلي أذهب الله عنهم الرجس وطهّرهم تطهيراً. قلت يا رسول الله: ألستُ من أهلك؟
________________________________________
(83) شواهد التنزيل 2: 161.
(84) المصدر السابق.
[الصفحة - 158]
قال: إنّك لعلى خير، ولم يدخلني معهم (85) . وفي روايته الأخرى بعد قولها «يا رسول الله أنا من أهلك؟ قال لها(صلى الله عليه و آله و سلم): تنحّي، فإنّك إلى خير (86) . وفي روايته الثالثة: إنّك على خير (87) . فلو كان عنوان الزوجيّة داخـلاً في عنوان أهل البيت في الآية فلماذا تدخل فيه أم سلمة وتخرج عنه عائشة؟ فلا يبقى إلاّ ما ذكرناه وهو أن إدخالها ليس في عنوان أهل البيت ولا في الخصوصية الثابتة لهم بل كان ذلك بعد الفراغ ممّا قصده النبي(صلى الله عليه و آله و سلم) فاحترمها النبي(صلى الله عليه و آله و سلم) وأدخلها في الكساء وقال لها أنت أهلي كما قال بحقِّ سلمان الفارسي: سلمان منّا أهل البيت.
المقام الثاني: إعمال المرجحات مع استقرار التعارض
إن ما يمكن تسجيله هنا من ملاحظات كالتالي:
الملاحظة الأولى: الترجيح باعتبار كثرة الرواة.
لا شكّ في كثرة طرق ورواة الطائفة المعارضة لدخول الأزواج في الآية فقد روى الحسكاني ـ وهو أوسع من أورد الروايات المتعلّقة بالآية ـ نحواً من (237) طريقاً للروايات الواردة، خرج منها الروايات الخمس المتقدّمة الدالة على دخول الأزواج ولتفرضها عشرة لوجود طرق أخرى لها، فيبقى الباقي وهو أرجح بلا شك لأنّه فوق التواتر فلا يقاومه أخبار الآحاد.
قال الشوكاني في الصورة الأولى من الترجيح باعتبار الاسناد: «الصورة الأولى: الترجيح بكثرة الرواة فيرجح ما رواته أكثر على ما رواته أقل؛ لقوة الظن به، وإليه ذهب المشهور» (88) .
الملاحظة الثانية: الترجيح باعتبار المتن. وفيه صور:
الصورة الأولى: الترجيح لِمَا كان حقيقة شرعيّة أو عرفيّة على ما كان حقيقة لغويّة (89). ولا شك بأنّ لفظ أهل البيت سواء كان البيت بيت النسب أو السكن فإنّه أعمّ من أصحاب الكساء مع أنّ الروايات الكثيرة المتواترة قَصَرته على
________________________________________
(85) المصدر السابق: 68.
(86) المصدر السابق: 69.
(87) المصدر السابق: 66.
(88) إرشاد الفحول 2: 1127، ط/ مؤسسة الريان ودار الفضيلة.
(89) المصدر السابق: 1134.
[الصفحة - 159]
خصوص أصحاب الكساء وهذا ما أكَّده النبي(صلى الله عليه و آله و سلم) بأساليب مختلفة قولاً وفعلاً. فتارة يلفّ عليهم الكساء ولا يسمح لغيرهم بالدخول وأخرى يتلو عليهم الآية بعد جمعهم بياناً لمصداقها وثالثة يقف على بيت فاطمة وعلي ستة أو ثمانية أشهر يخاطبهم بذلك ويتلو عليهم الآية إلى غير ذلك والمقصود في الجميع هو تركيز وترسيخ هذا الإطلاق الجديد الخاصّ بهم، وقد بقي هذا الاصطلاح ملازماً لهم ومعروفين به كما يظهر ذلك لمن تتبّع الأخبار والآثار وكتب التاريخ والسير.
الصورة الثانية: أن يقدّم الدّال على المراد من وجهين على ما كان دالاًّ على المراد من وجه واحد. وما نحن فيه من هذا القبيل، فإنَّ كثيراً من الروايات دلّت بأسلوب الإثبات والنفي أو الإيجاب والسلب على حصر وتطبيق مفهوم أهل البيت على أصحاب الكساء خاصّة، فإنّ دعوتهم من قبل النبي(صلى الله عليه و آله و سلم) وجمعه لهم ولفّهم بالكساء دليل واضح على جانب الإثبات ولو كان غيرهم داخلاً في المفهوم لأدخله قطعاً، كما أنَّ عدم سماحه ورفضه دخول الغير معهم وجذب الكساء من يده والتلطّف له بالكلام بمثل «أنت إلى خير أو على خير أو أنت من أزواج النبي» دليل واضح لجانب النفي والسلب، فالدلالة في مثل هذه الأحاديث من وجهين، فلو لم يكن حرص بعض أمّهات المؤمنين على نيل هذه الدرجة العالية والمقام الرفيع ومحاولة الدخول تحت الكساء لكان أسلوب الإثبات كافياً ولكنّ النبي(صلى الله عليه و آله و سلم) لم يَكتف بالأسلوب الأوّل ولو بأن يسكت أمام طلب بعض أزواجه، بل فعل وقال ما يدلّ على النفي، فهو تارة يجذب الكساء وأخرى يدعو بالخير لها وثالثة يوضّح العناوين ويفرزها قبال قولها «ألست من أهل بيتك» فيقول «أنت من أزواج النبي».
وأمّا الروايات الخمس المعارضة فهي تدلّ على الدخول ـ على فرض دلالتها عليه كما سيأتي بيانه ـ من وجه واحد فقط.
الصورة الثالثة: أن يقدّم المقرون بالتأكيد على غير المقرون به
________________________________________
[الصفحة - 160]
ومن الواضح والجليّ لكلِّ ذي عينين كثرة التأكيدات القوليّة والفعليّة والزمانيّة والمكانيّة الدّالة على إرادة هؤلاء النفر المطهّرين، فما معنى وقوف النبي(صلى الله عليه و آله و سلم) على باب بيت فاطمة(عليها السلام) ثمانية أشهر أو أكثر؟ لماذا هذا المكان بالخصوص ولماذا هذه الفترة الزمنيّة المديدة حتّى أنه قيل (19) شهراً أو إلى آخر عمره الشريف. وفي كلِّ صلاة الفجر أو في الصلوات الخمس كما في بعض الأخبار؟ فلو كان الموضوع يتلخّص بمحض الدعاء وطلب البركة والخير لهم أو الحبّ العاطفي الصرف لهان الخطب ولمَا احتاج الأمر إلى كلِّ هذا التكلّف أو المؤونة، فلا بدّ أن يكون ثمّة غرض مقصود للمشرّع وهدف رسالي ومقصد شرعي للنبي الأعظم(صلى الله عليه و آله و سلم).
وهذه نقطة مهمَّة يجب التوقّف عندها والتأمّل فيها وعدم المرور عليها مرور الكرام. وفي حين لا نجد مثل هذا الإصرار أو التأكيد بعد التأكيد في مثل الروايات الخمس المذكورة، تأوّلاً لم يكن إدخال الأزواج بمبادرة من النبي(صلى الله عليه و آله و سلم) بل هو استجابة لطلب البعض منهن وفرق بين المبادرة إلى العقل وتحقيق الغرض المقصود التي تكشف عن شدّة اهتمامه وحصره وبين الاستجابة على أثر السؤال والمطالبة. وثانياً إنه لم ينقل عن النبي(صلى الله عليه و آله و سلم) ولو مرّة واحدة وبسند ضعيف أنّه فعل أو قال ما فعله أو قاله بحقِّ أصحاب الكساء في حق أزواجه، فلم يجلّلهن بكساء ويدعو لهن بمثل ما دعا لأهل بيته ولم يقف على بيوتهن ويفعل مثل ذلك.
الصورة الرابعة: أن يُقدِّم ما كان مقصوداً بالبيان على ما لم يقصد به (90)، وما دلّ على إرادة أصحاب الكساء خاصّة مقصود بالبيان قطعاً وأمّا غيرهم فهل يقصد بمثل قوله(صلى الله عليه و آله و سلم): «أنت من أهلي» أو «بلى إن شاء الله» أو «بلى فادخلي في الكساء» إرادة بيان إدخال بعض أزواجه سيما مع وجود قرينة في بعضها تقول «فدخلت في الكساء بعدما مضى دعاؤه لابن عمه وابنيه وابنته فاطمة»؟ فهل يُراد ذلك جداً؟ ولو كان مراداً جداً له(صلى الله عليه و آله و سلم) فلماذا لم يبادر إليه قبل السؤال منه؟ ثم لماذا أم سلمة
________________________________________
(90) المصدر السابق.
[الصفحة - 161]
فقط وتحرم باقي أزواجه من هذه المنزلة الرفيعة؟ فهل هذا يدلّ على المراد الجدّي للنبي(صلى الله عليه و آله و سلم) أم أنّ مراده هو ما أفصح عنه مراراً وتكراراً فعلاً وقولاً؟
ثالثاً: ما وراه الخلاّل باسناده عن أبي مُليكة أنَّ خالد بن سعيد بن العاص بعث إلى عائشة سفرة من الصدقة فردّتها وقالت: «إنّا آل محمد لا تحلّ لنا الصدقة» (91) وقد أفتى بها ابن قدامة الحنبليّ كما هو ظاهر عبارته حيث علّق على رواية عائشة «وهذا يدلّ على أنَّهنَّ من أهل بيته في تحريم الزكاة» (92). إلاّ أنّ هذا القول ضعيف عند الفقهاء فقد ذكر أبو الحسن بن بطّال في شرح البخاري: «إنَّ الفقهاء كافّة اتّفقوا على أنّ أزواجه(صلى الله عليه و آله و سلم) لا يدخلن في آله الذين حُرِّمت عليهم الصدقة» (93). وقال ابن حجر: والقول بتحريم الزكاة عليهم ضعيف (94)على أنّه يُمكن أن يراد بقولها «إنّا آل محمد لا تحلّ لنا الصدقة» تقصد به النبي(صلى الله عليه و آله و سلم) لو كانت هذه القضيّة في زمانه(صلى الله عليه و آله و سلم) أو ذكرته تنزّهاً عمّا في أيدي الناس. هذا كله لو أريد بها الصدقة الواجبة، لاحتمال إرادة المستحبة منها بقرينة «السفرة» وهي الطعام الذي يُصنع للأكل.
وعلى كلِّ حال فإنَّ الرواية معارَضة برواية زيد بن أرقم التي رواها مسلم في صحيحه التي سأله فيها حصين ـ بعد أن ذكر زيد حديث الثقلين في قضيَّة الغدير ـ ومن أهل بيته يا زيد، أليس نساؤه من أهل بيته؟ قال: «نساؤه من أهل بيته، ولكن أهل بيته من حُرم الصدقة بعده، آل علي وآل عقيل وآل جعفر وآل عباس» (95)، ويُحتمل قوياً أنّ جملة «نساؤه من أهل بيته» قالها زيد على نحو الاستفهام الاستنكاري «نساؤه من أهل بيته؟» وهذا ما ينسجم مع استدراكه وتصحيحه «ولكن أهل بيته من حرم عليه الصدقة»
ويشهد لذلك لفظ روايته الأخرى التي رواها مسلم أيضاً فقد قال في جواب الحصين: «لا وأيم الله، إنَّ المرأة لتكون مع الرجل العصر من الدهر ثمّ يطلِّقها
________________________________________
(91) المغني 2: 520، ط/ الأولى.
(92) المصدر السابق.
(93) تبيين الحقائق 2: 127.
(94) روح المعاني 22: 17.
(95) صحيح مسلم 4: 1873، باب فضائل الصحابة، ح2408.
[الصفحة - 162]
فترجع إلى أبيها وقومها. أهل بيته: أصله وعصبته الذين حرموا الصدقة بعده» (96) وهذا هو المناسب للإطلاق اللغويّ للآل، ولذا قال الحليمي: إنّ اسم أهل البيت للأزواج تحقيق واسم الآل لهنّ تشبيه بالنسب (97). وعلى كلِّ حالٍ فإنَّ الرواية صريحة في عدم استحقاقهنّ الزكاة، وهي أرجح لورودها في صحيح مسلم. والأهمُّ من ذلك معارضتها للروايات المصرّح فيها بحرمة الصدقة على بني هاشم خاصّة وأنّه يُحرم منها من كان من صليبة بني هاشم (98).
القول الثالث: إنّ المراد بهم الأزواج مع أصحاب الكساء كما ذهب إليه القرطبي وابن كثير والشوكاني (99) ونسبه النبهاني إلى جمهور المفسِّرين من أهل السنة والجماعة (100) ووجّه القرطبي تذكير الضمير في {عليكم ـ يطهّركم} باعتبار وجود النبي(صلى الله عليه و آله و سلم) وعلي والحسن والحسين، وإذا اجتمع المذكر والمؤنث غلّب المذكر فاقتضت الآية أنّ الزوجات من أهل البيت؛ لأنّ الآية فيهن، والمخاطبة لهنّ كما يدل عليه سياق الآية (101). والمناقشة في ذلك بما يلي:
1 ـ إنّ ما استدل به من قضية السياق قد تقدم مناقشتها في القول السابق فلا نعيد.
2 ـ ما تقدّم في مناقشة القول السابق من عدم حرمة الصدقة على الأزواج كما أنّ ما ذكره الشوكاني من إرادة بيت السكن والنسب معاً غير صحيح في الأوّل لورود الروايات الكثيرة السابقة في تفسيره في الثاني وقد نقل الكثير منها ولم ينقل رواية واحدة عدا ما نُسب إلى ابن عباس وهي لا تقاوم الروايات الكثيرة على فرض كون رأيه رواية عن النبي(صلى الله عليه و آله و سلم) وإلاّ كان اجتهاداً في مقابل النصّ، هذا كلّه بعد تسليم الرواية عنه وعدم كونها من عكرمة.
القول الرابع: إنّ آل النبي(صلى الله عليه و آله و سلم) هم ذريّته وأزواجه خاصّة وهو قول جماعةٍ حكاه عنهم ابن عبد البرّ واختاره ابن الجوزيّة بدليل ما رواه مالك عن نعيم
________________________________________
(96) صحيح مسلم 7: 123.
(97) السنن الكبرى 2: 150، باب الدليل على أن أزواجه(صلى الله عليه و آله و سلم) من أهل بيته.
(98) انظر: السنن الكبرى 2: 149.
(99) الجامع لأحكام القرآن 14: 119، تفسير ابن كثير 3: 798، فتح القدير 4: 280.
(100) الشرف المؤبد: 38.
(101) الجامع لأحكام القرآن (القرطبي) 14: 119.
[الصفحة - 163]
المُجمر أنّ النبي(صلى الله عليه و آله و سلم) قال «اللهم صلِّ على محمد وعلى آل محمد» وقد روى أبو حُميد الساعدي قوله(صلى الله عليه و آله و سلم) عندما سئل عن كيفيةّ الصلاة عليه: «قولوا: اللهم صل على محمد وأزواجه وذريّته كما صلّيت على آل ابراهيم وبارك على محمد وأزواجه وذريته كما باركت على آل ابراهيم إنّك حميد مجيد» (102).
فإنّ الحديث الثاني يفسِّر الحديث الأول ويبيّن أن آل محمد هم أزواجه وذريته (103).
ويمكن المناقشة في هذا الرأي بما يلي:
1ـ قد تقدّمت المناقشة في دخول الأزواج في أهل البيت أو الآل وتقدّم أيضاً عدم حرمة الصدقة على الأزواج مع حرمتها على آل محمّد ممّا يشهد بخروجهنّ.
2ـ إنَّ التركيب الوارد في هذا الحديث على خلاف الروايات الكثيرة جداً التي نقلنا سابقاً بعضها في بحث الصلاة على النبي(صلى الله عليه و آله و سلم)، حيث أنّها خلت جميعاً من ذكر الأزواج وإنّما تكرر فيها لفظ «اللهم صل على محمد وآل محمد» وأمثاله. فهذا التركيب غريب في مجمل ما ورد في ألفاظ الصلاة التي أجمعت على ما ذكرناه أو نحوه. كما أنّه غير متناسق في نفسه فبينما يذكر الذرية والأزواج من جهة النبي(صلى الله عليه و آله و سلم) نجده يذكر الآل من جهة ابراهيم ومقتضى السياق ـ كما في باقي الأحاديث في هذا الباب ـ بين المشبّه والمشبّه به.
3ـ إنَّ لفظ الذرية ورد مطلقاً فيشمل البرّ والفاجر منهم ممّن لا يستحقّ هذه المرتبة العظيمة والعطف على رسول الله(صلى الله عليه و آله و سلم) سيما في الصلاة التي هي عمود الدين.
ومعلوم أنّ الصلاة عبادة توقيفيّة محضة وتشريع إلهيّ صرف لا شأن فيه للنبي(صلى الله عليه و آله و سلم) حتّى يُقال أنّه أدخل آله فيها حباً بهم بأيّ تفسير فسّرنا الآل، ولو
________________________________________
(102) صحيح البخاري 8: 139.
(103) التمهيد 7: 98، ط/ دار الكتب العلمية، جلاء الأفهام: 242.
[الصفحة - 164]
بالأتقياء منهم، ممّا يَعني أنَّ لهؤلاء الآل دوراً في الرسالة وشأناً دينيّاً رفيعاً بحيث يُعطف ذكرهم مباشرة على ذكر الرسول في الصلاة التي هي فرض من الله سبحانه لا من الرسول(صلى الله عليه و آله و سلم)، ولا شكّ أنّ مثل هذا الدور والمقام المعنويّ الرفيع لا يمكن تفسيره إلاّ بناءً على نظريّة الشيعة في أهل البيت(عليهم السلام)، وسيأتي مزيد بيان لهذه النقطة عند الحديث عن الأحكام المتعلّقة بآل محمد(صلى الله عليه و آله و سلم).
القول الخامس: إن آله(صلى الله عليه و آله و سلم) أتباعه إلى يوم القيامة. وقد ذهب إليه ابن قدامة(104) وحكاه ابن عبد البرّ عن جماعة من أهل العلم (105) واختاره بعض أصحاب الشافعي(106) والنووي من فقهائهم (107) ورجحه الشيخ محي الدين النووي في شرح مسلم (108)والأزهري (109). ونسب إلى الإمام مالك وغيره.
ويدل عليه:
1ـ إنّ آل الشخص المعظّم المتبوع هم أتباعه على دينه، كما يدلّ عليه اشتقاق لفظ الآل فإنّه من آلَ يؤول، ومرجع الأتباع متبوع لأنّه إمامهم وموئلهم ومنه قوله تعالى { إِلاَّ آلَ لُوطٍ نَجَّيْنَاهُمْ بِسَحَرٍ }(القمر، 34) والمراد به أتباعه وشيعته وكذا قوله تعالى { أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ } (غافر، 46).
2ـ ما رواه واثلة بن الأسقع من أنَّ النبي(صلى الله عليه و آله و سلم) دعا حسناً وحسيناً فأجلس كلَّ واحدٍ منهما على فخذه وأدنى فاطمة رضي الله عنها من حجره وزوجها ثمَّ لفّ عليهم ثوبه ثم قال: اللهم هؤلاء أهل بيتي. قال واثلة: فقلت: يا رسول الله وأنا من أهلك؟ فقال: وأنت من أهلي (110). ومعلوم أنّ واثلة بن الأسقع من بني ليث بني بكر بن مَنَاة وإنّما هو من أتباع النبي(صلى الله عليه و آله و سلم) (111).
وهذا الرأي من أغرب الآراء في المسألة وأبعدها ولا أدري كيف يلتزم به فقيه؟! وذلك لما يلي:
1- إنّ من أحكام آل محمّد حرمة الصدقة الواجبة أي الزكاة عليهم، وبناءً
________________________________________
(104) المغني 1: 582.
(105) التمهيد 7: 98، ط/ دار الكتب العلمية.
(106) انظر: جلاء الأفهام: 239.
(107) المجموع 3: 466.
(108) شرح مسلم 4: 163.
(109) معاني القراءات: 412.
(110) السنن الكبرى 3: 153.
(111) منهاج السنة 4: 21، المواهب اللدنية 2: 122.
[الصفحة - 165]
على الرأي المذكور يلزم تعطيل مصرف الفقراء في الزكاة لعدم وجود المصرف له في الخارج. وهذا ما أجاب به العلماء في مجلس المأمون مولانا الرضا(عليه السلام) حينما سألهم فقال: «أخبروني هل تحرم الصدقة على الآل؟ قالوا: نعم. قال: فتحرم على الأمّة؟ قالوا: لا. قال: هذا فرق ما بين الآل والأمّة» (112).
2ـ إنّ لازم الرأي المذكور دخول العصاة في آل محمد؛ لأنَّهم من أتباعه فيدخلون في حكم الصلاة عليهم في الصلاة وعطفهم على النبي(صلى الله عليه و آله و سلم)، وقد تقدّم ما في ذلك.
3ـ إنّ لفظ (الآل) وإن كان يطلق في بعض المواضع على الأتباع بقرينة، ولكنَّه لا يلزم من ذلك أنّه حيث وقع لفظ (الآل) يُراد به الأتباع. ذكره ابن قيّم الجوزية (113).
4ـ إذا كان واثلة من أهله فما معنى فعل النبي(صلى الله عليه و آله و سلم) حين لفّ عليهم ثوبه ثمَّ قوله: اللهم هؤلاء أهلي، فلو كان واثلة منهم لأدخله ابتداءً ولا حاجة لقول واثلة وسؤاله، بل لو كان من أهل البيت لما كان معنى لأداة الحصر في آية التطهير ولكانت عامّة في جميع المسلمين الأبرار منهم والأشرار على حدّ سواء ولكان ذلك مناقضاً للتطهير الوارد في الآية لوجود العصاة والفجّار في هذه الأمّة ممّن هو في منتهى الدنس والقذارة! ثمَّ كيف منع النبي(صلى الله عليه و آله و سلم) أزواجه من أمثال عائشة وأم سلمة وأدخل واثلة في أهل بيته؟
ومع ذلك فقد صرّح البعض بأنَّ إدخاله في حكم أهل البيت تشبيهاً بمن يستحقّ هذا الاسم لا تحقيق(114).
5ـ إنَّ علماء السنّة يلتزمون بعدم جواز الصلاة على غير الأنبياء حتّى الأولياء والأوصياء بينما في ضوء هذا القول يجوز حتَّى على العصاة والفسّاق.
القول السادس: إنَّ آله(صلى الله عليه و آله و سلم) هم الأتقياء.
________________________________________
(112) جلاء الأفهام: 257.
(113) سنن البيهقي 2: 152.
(114) أمالي الصدوق: 616، ح843.
[الصفحة - 166]
واستدلّوا عليه: 1ـ بما رواه الطبراني عن جعفر بن إلياس بن صدقة، حدَّثنا نعيم بن حمّاد، حدثنا نوح بن أبي مريم، عن يحيى بن سعيد الأنصاري، عن أنس بن مالك قال: سُئل رسول الله(صلى الله عليه و آله و سلم) مَن آل محمد؟ فقال: (كل تقي) وتلا النبي(صلى الله عليه و آله و سلم) { إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلاَّ المُتَّقُونَ } (الأنفال، 38) (115) . 2ـ وبقوله تعالى { إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ }(116) حيث أخرج ابن نوح بشركه عن أن يكون من أهله. 3ـ حديث واثلة بن الأسقع المتقدّم، فإنَّ تخصيص بذلك أقرب من تعميم الأمّة به.
ويمكن المناقشة فيه بما يلي:
1 ـ ضعف سند الأوّل بنوح بن أبي مريم فإنّه متّهم بالكذب وقال عنه ابن المبارك: كان يضع الحديث (117) كما أنّه مرويّ بطريقٍ آخر عن أنس وفيه نافع السلمي. قال البيهقي بعد نقله: وهذا لا يحلُّ الاحتجاج بمثله. نافع السلمي أبو هرمز بصري كذّبه يحيى بن معين وضعّفه أحمد بن حنبل وغيرهما من الحفّاظ (118).
2ـ اشتراكه في الإشكال مع الرأي السابق في حرمة الصدقة عليهم والصلاة عليهم في الصلاة وغيرها مع أنَّهم يَلتزمون بعدم جواز الصلاة على غير الأنبياء.
3 ـ وأمّا الاستدلال بالآية فقد أجاب عنه الإمام الشافعي وارتضاه ابن الجوزيّة حيث قال إنّه جيد وحاصله: إنّ المراد إنّه ليس من أهلك الذين أمرناك بحملهم ووعدناك بنجاتهم؛ لأنَّ الله قال له قبل ذلك { احْمِلْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلاَّ مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ } (119). فابنه ليس من أهله الذين ضمن نجاتهم (120).
4 ـ وأمّا حديث واثلة فالجواب عليه يُعلم ممّا تقدّم.
القول السابع: إنّهم كلّ مَن يلازم النبي(صلى الله عليه و آله و سلم) من الرجال والنساء والأزواج
________________________________________
(115) الأنفال: 38.
(116) هود: 46.
(117) انظر: التقريب، رقم 7210، مجموع الفتاوى 22: 462.
(118) السنن الكبرى 2: 152.
(119) هود: 40.
(120) جلاء الأفهام: 250، السنن الكبرى (البيهقي) 2: 152.
[الصفحة - 167]
والإماء والأقارب وكلّ ما كان الإنسان منهم أقرب وبالنبي(صلى الله عليه و آله و سلم) أخصّ وألزم كان بالارادة أحقّ وأجدر. وقد ذهب إلى هذا القول البقاعي صاحب تفسير نظم الدرر (المتوفى 895هـ) كما نقله عنه الخطيب الشربيني من فقهاء الشافعية (القرن 11) وظاهره اختياره حيث قال إنّه أولى الأقوال (121).
ويَحار المرء من أين يبدأ في التعليق على هذا الرأي فالإعراض عنه أولى ولكن نتسائل كيف يستساغ التنزّل (بأهل البيت) الذين تعلَّقت بهم الإرادة الإلهيّة العليّة لتطهيرهم حتّى تتساوى فيه فاطمة بضعة النبي(صلى الله عليه و آله و سلم) مع الخادمة والجارية وعلي والحسن والحسين مع الخدم والمماليك، فما هي الخصوصيّة لعنوان (أهل البيت) وما معنى الحصر فيها إذاً؟ وهل من يصلّي عليهم المسلمون في الصلاة هم الجواري والإماء؟ وهل هؤلاء هم الذين تجب مودّتهم ويحرم بغضهم وتحرم الصدقة عليهم؟ ولكن لا نملك إلاّ قول لاحول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم(122).
الأحكام المتعلِّقة بأهل البيت (عليهم السلام)
تقدّم في أوّل مباحث الكتاب أنّ لعظمة شخصيّة النبي(صلى الله عليه و آله و سلم) آثاراً تكوينيّة وأخرى تشريعيّة، وقد خصّصت الشريعة جملة من الأحكام به، وذلك من أجل تعميق وترسيخ الاحترام والتعظيم له في نفوس المسلمين، وهكذا الأمر في أهل بيته الكرام حيث وردت جملة من الأحكام الخاصّة بهم إعلاءً لشأنهم وإظهاراً لفضلهم في الدّين.
وهذا مبدأ عام لا يَختلف عليه إثنان من المسلمين، ولكن لمَّا كانت الرؤية العقائديّة بين السنّة والشيعة مختلفة تجاه أهل البيت في قضايا العصمة والإمامة وغيرها فلا شكّ أن هذا الاختلاف يترك أثره على دائرة الأحكام الشرعيّة الخاصّة بهم من الناحية الكميّة والكيفيّة معاً. وبناءً على ذلك فإنّ بعض الأحكام التي سنعرض لها قد تخلو من عنصر المقارنة لعدم تعرّض الفقه السنّي لها إطلاقاً؛
________________________________________
(121) الشرف المؤبد: 43.
(122) قال الألوسي في ردّ هذا القول: «بأنهم [الإماء والخدم] في معرض التبدّل بانتقالهم من ملك إلى ملك بنحو الهبة والبيع وليس لهم قيام يمصالحه [أي النبي(صلى الله عليه و آله و سلم)] واهتمام بمره وتدبير لشأنه إلاّ حيث يؤمرون بذلك» (روح المعالي 22: 17).
[الصفحة - 168]
وذلك انطلاقاً من رؤيته العقائديّة الخاصّة في هذا المجال، والأمر بعكسه لدى الشيعة. وقبل التعرّض للأحكام المتعلّقة بهم لا بدّ من مدخل معرفيّ لبيان لمحة موجزة عن مكانة وفضل أهل البيت كي ندرك بشكل أفضل الأساس المعرفي الذي قامت عليه هذه الأحكام ونقف على مدى التناسب والترابط الموجود من جهة وبين مكانتهم من جهة أخرى، وذلك لأنّ تلك الأحكام قد شرّعت وفقاً لملاكات معينة ولم تشرّع اعتباطاً أو لأجل اعتبارات شخصيّة ـ كالقرابة المحضة من النبي(صلى الله عليه و آله و سلم) ـ وإن كان لذلك فضلاً وشرفاً لا ينكر.
المكانة الرفيعة لأهل البيت
لا شكَّ أنَّ النبي(صلى الله عليه و آله و سلم) قد أولى أهل بيته عناية خاصّة لم يحظ بها أحد سواهم، كما أنَّ الله تعالى قد رفع قدرهم في عدّة آيات من القرآن، وليس ذلك اعتباطاً أو مجاملة بل انطلاقاً من مواقفهم الرساليَّة كحضورهم في يوم المباهلة ومبيت علي (عليه السلام) في فراش النبي(صلى الله عليه و آله و سلم) وحضوره الدائم والمميّز في حروب النبي(صلى الله عليه و آله و سلم) حتَّى قال ما انتصر الإسلام إلا بسيف علي ومال وخديجة. قال الزمخشري حول آية المباهلة: «خرج النبيّ(صلى الله عليه و آله و سلم) بأعزّته وأفلاذ كبده ليهلك خصمه مع أحبته، وفيه دليل لا شيء أقوى منه على فضل أصحاب الكساء على غيرهم، وقد لاح ذلك للأسقف حيث قال: أرى وجوهاً لو سألوا الله أن يزيل جبلاً لأزاله» (123)، والآيات من سورة الدهر أكبر شاهد على عظيم شأنهم في الدنيا والآخرة. ولسنا بحاجة للتذكير بدلالة آية التطهير على نزاهتهم وعصمتهم. كما أنّ في آية المودّة التي أوجبت مودّتهم على جميعم المسلمين وجعلتها أجراً للرسالة المحمدية دلالة بارزة على موقعهم الرسالي، إذ ما هو الارتباط بين حبّهم وبين أداء أجر الرسالة للنبي(صلى الله عليه و آله و سلم). وما هو الارتباط بين حبّهم أو بغضهم والعياذ بالله وبين الجنة والنار والآخرة والشهادة في حديث النبي(صلى الله عليه و آله و سلم): « من مات على حبّ آل محمد مات شهيداً، ألا ومن مات على حبِّ آل محمّد مات مغفوراً له.. ألا
________________________________________
(123) أنظر: تفسير الكشاف 4: 220.
[الصفحة - 169]
ومن مات على حبّ آل محمّد مات كافراً.. ألا ومن مات على بغض آل محمد لم يشمّ رائحة الجنة«؟ وأمّا الروايات في فضلهم ومكانتهم فقد حفلت بها بيانات عديدة نذكر منها:
1 ـ حديث السفينة: قال رسول الله(صلى الله عليه و آله و سلم): «مثل أهل بيتي فيكم مثل سفينة نوح في قومهنّ من ركبها نجا ومن تخلّف عنها غرق» (124) والحديث واضح في موقع أهل البيت (عليهم السلام) من الدين وأنّهم المقياس في الضلالة أو الهداية فمن تبعهم نجا ومن تخلَّف عنه غرق.
2 ـ حديث الثقلين: روى مسلم عن زيد بن أرقم قال: قال رسول الله(صلى الله عليه و آله و سلم): «ألا أيّها الناس إنّما أنا بشر يوشك أن يأتي رسول ربِّي فأجيب وإنّي تارك فيكم ثقلين، أوّلهما كتاب الله فيه الهدى والنور لخذوا بكتاب الله واستمسكوا به» فحثّ على كتاب الله ورغّب فيه ثمّ قال: وأهل بيتي أذكِّركم الله في أهل بيتي، أذكِّركم الله في أهل بيتي، أذكِّركم الله في أهل بيتي« (125).
وفي لفظ آخر: «إنّي تارك فيكم خليفتين: كتاب الله عز وجل مد ممدود ما بين السماء والأرض أو ما بين السماء إلى الأرض وعترتي أهل بيتي، وانهما لن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض» (126). هذه إشارة خاطفة ولكنّها تكفي من ألقى والسمع وهو شهيد.
وأمَّا الأحكام الخاصّة بهم فنتعرّض لها حسب الترتيب التالي:
1 ـ وجوب الاعتقاد بإمامتهم
وهذا من ضروريّات مذهب الإماميّة الإثني عشريّة، بل هو المميّز الأساس لهم عن باقي فرق المسلمين. والأدلّة على إمامتهم (عليهم السلام) كثيرة مستوفاة في كتب الكلام وغيرها كحديث الثقلين المتواتر وحديث السفينة والغدير ومن الكتاب آيات عديدة منها آية
________________________________________
(124)
(125) صحيح مسلم 4: 1873، كتاب فضائل الصحابة، فضائل علي بن أبي طالب.
(126) مسند أحمد 5: 182. وقال الهيثمي في المجمع (9: 162) رواه أحمد وغسناده جيد.
[الصفحة - 170]
{ أَطِيعُوا الله وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ } (النساء، 59) ومن آية { إِنَّمَا وَلِيُّكُمْ الله وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ } ، وهذه الأدلّة كما تُثبِت إمامتهم فهي تدلّ على وجوب الاعتقاد بها.
قال الشيخ المفيد: « ويجب على كل مكلّف أن يعرف إمام زمانه ويعتقد إمامته وفرض طاعته وأنّه أفضل أهل عصره وسيد قومه وأنّهم العصمة والكمال كالأنبياء، وأنّ الأئمَّة بعد رسول الله(صلى الله عليه و آله و سلم)حجج الله تعالى وأوليائه وخاصّة أصفياء الله، أوّلهم وسيدهم: أمير المؤمنين علي بن أبي طالب بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف عليه أفضل السلام، وبعده الحسن والحسين ثمّ علي بن الحسين ثمّ محمد بن علي بن الحسين ثمّ جعفر بن محمد ثمّ موسى بن جعفر ثمّ علي بن موسى ثمّ محمد بن علي بن موسى ثمّ علي بن محمد بن علي ثمّ الحسن بن علي بن محمّد ثمّ الحجة القائم بالحقّ محمد بن علي بن محمد بن علي بن موسى لا إمامة لأحد بعد النبي(صلى الله عليه و آله و سلم) غيرهم، ولا يستحقّها سواهم وأنهم الحجة على كافة الأنام» (127).
2 ـ وجوب طاعتهم
إنّ من مقتضيات الإمامة ولوازمها وجوب الطاعة والانقياد. قال الشهيد الثاني: « لا ريب إنّه يُشترط التصديق بكونهم أئمّة يهدون بالحق، وبوجوب الانقياد إليهم في أوامرهم ونواهيهم، إذ الغرض من الحكم بإمامتهم ذلك، فلو لم يتحقّق التصديق بذلك لم يتحقّق التصديق بكونهم أئمّة»(128) ، وكذلك تجب طاعتهم لقوله تعـالى: { أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ } فقد عطفت طاعتهم على طاعة الرسول(صلى الله عليه و آله و سلم) فيُعلم أنَّهـا طاعة واحدة. قال أبو الصلاح الحلبي: «فأوجب سبحانه طاعة أولي الأمر على الوجه الذي أوجب طاعته تعالى ورسوله(صلى الله عليه و آله و سلم) على كلِّ مكلّف حاضرٍ لنزول الآية وناشئ إلى انقضاء التكليف وفي
________________________________________
(127) المقنعة: 32.
(128) حقائق الإيمان: 150.
[الصفحة - 171]
كلِّ أمر فيجب عموم طاعة أولي الأمر كذلك، لوجوب إلحاق المعطوف بحكم المعطوف عليه»(129).
3 ـ وجوب مودّتهم
ممّا أجمع عليه فقهاء الإسلام كافّة وجوب مودّة أهل البيت وحبّهم، ولكن ما هو المراد بالمودّة والمحبّة هل مجرد العاطفة القلبيَّة أو العمليَّة المقرونة بالاتِّباع والموافقة في العمل؟ الظاهر الثاني؛ لقوله تعالى حكاية عن قول النبي(صلى الله عليه و آله و سلم): { إنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمْ الله } فإنّ الشرط هو المحبَّة وهي مشروطة بالاتِّباع المترتِّب عليها بالفاء. ثمّ إنّه ما أثر المحبّة بمعنى العاطفة لو لم تصدق بالاتّباع والاقتضاء والموافقة للمحبوب بالعمل، لذا يُقال لمن يدَّعي الحبّ إذا خالف بالفعل: لو كنت صادقاً في حبِّك لاتبعت قولي أو أمري. فإنّ العرف يرى الملازمة بين الأمرين وأن الحبّ غير المقرون بالعمل والاتباع مجرّد دعوى زائفة.
وقد ورد في الحديث: «كذب من زعم أنّه يحبّني فإذا جنّ عليه الليل نام». وعلى كلِّ حال، فإنَّ الأصل في وجوب مودّتهم قوله تعالى: { قُلْ لاَ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ المَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى } . وقد روى سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: لما نزلت { قُلْ لاَ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ المَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى } ، قالوا: يا رسول الله من قرابتك الذين أوجبت علينا مودّتهم؟ قال: علي وفاطمة وابناهم» (130) وللحديث طرق عديدة ذكرها البحرانيّ في غاية المرام (131).
وقد ورد في الأحاديث عنوان آخر غير وجوب محبَّتهم وهو عنوان تعليم الأولاد محبّتهم. فقد روي عن النبي(صلى الله عليه و آله و سلم) قال: «أدِّبوا أولادكم على ثلاث خصال: حبّ نبيّكم وحبّ أهل بيته وقراءة القرآن» (132)، والأصل في هذا الحب هو حبّ النبي(صلى الله عليه و آله و سلم) فحسبهم فرع من حبّه(صلى الله عليه و آله و سلم)، فعن النبي(صلى الله عليه و آله و سلم) قال: « أحبّوا الله لما يغذوكم، من نعمه وأحبّوني لحب الله، وأحبّوا أهل بيتي لحبّي« (133) كما ورد
________________________________________
(129) الكافي في الفقه: 94.
(130) مسند أحد 2: 669، ح1141.
(131) تفسير القرطبي 16: 24، الدر المنثور 6: 7.
(132) كنز العمال 6: 456/ 45409.
(133) سنن الترمذي 5: 664/ 3789.
[الصفحة - 172]
عنه(صلى الله عليه و آله و سلم) أنَّه قال: «أوّل ما يُسأل عنه العبد حبّنا أهل البيت» (134) وقال أيضاً: «لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يُسأل عن أربع: عن عمره فيما أفناه وعن جسده فيما أبلاه وعن ماله فيما أنفقه ومن أين اكتسبه وعن حبِّنا أهل البيت» (135).
4 حرمة بغضهم ونصب العداء لهم
من المقطوع به لدى جميع علماء الإسلام حرمة بغض أهل البيت(صلى الله عليه و آله و سلم) إجمالاً وإفراداً لأنَّه يؤدِّي بغض النبي(صلى الله عليه و آله و سلم) حيث روى زيج بن أرقم أنه لمّا نظر النبي(صلى الله عليه و آله و سلم) إلى فاطمة والحسن والحسين وعلي قال: «من أحبّ هؤلاء فقد أحبّني ومن أبغضهم فقد أبغضني» (136). كما أنّ بُغضهم ممّا توعّد عليه بدخول النار، فقد روي عنه(صلى الله عليه و آله و سلم)قال: «والذي نفسي بيده لا يبغضنا أهل البيت أحد إلاّ أدخله الله النار» (137).
قال ابن حجر بعد نقل الأحاديث الدّالة على حرمة بغضهم: «وعلم من الأحاديث السابقة وجوب محبّة أهل البيت وتحريم بغضهم التحريم الغليظ» (138) وكان الصحابة يميِّزون بين المؤمن والمنافق بالحبِّ والبغض لعلي (عليه السلام). فعن أبي سعيد الخدري: «إنَّا كنّا لنعرف المنافقين ـ نحن معشر الأنصار ـ ببغضهم علي بن أبي طالب» (139).
5 حرمة الغلو فيهم
الغلاة هم الذين تجاوزوا الحدّ في الأئمَّة (عليهم السلام) حتَّى ادَّعوا فيهم الربوبيَّة (140) وهذا حكم متَّفقٌ عليه بين الفريقين، فإنَّ الغلوّ محرّم سواء في الأئمّة أو في أي أحدٍ من الناس بأن يعتقد أنّه الخالق أو المدبِّر على نحو الاستقلال أو الرازق أو غير ذلك من صفات الربِّ تبارك اسمه أو الاعتقاد بنبوّته فإنّه من الغلو. وقد حكم فقهاء الإمامية بكفر الغلاة ونجاستهم، وقد تبرّأ الأئمّة الأطهار من الغلاة وحذّروا منهم أصحابهم. ولكن اختلفوا في تكفيرهم هل إنّه من باب إنكار الضروري كما
________________________________________
(134) عيون أخبار الرضا 3: 62، 258.
(135) المعجم الكبير (الطبراني) 11: 102، رقم 11177.
(136) تاريخ مدينة دمشق 14: 154.
(137) المستدرك على الصحيحين 3: 150.
(138) الصواعق المحرقة: 175.
(139) سنن الترمذي 5: 635، ح3717.
(140) جواهر الكلام 6: 50-51.
[الصفحة - 173]
عليه جماعة الفقهاء أو أنّهم كافرين بالذَّات لا لإنكارهم الضروريّ كما عليه غيرهم (141).
ومن هنا نعرف أنَّ العلاقة المأمور بها مع أهل البيت (عليهم السلام) هي توسّط الإفراط والتفريط أي النصب والغلوّ وهي إخلاص الحبّ لهم ومودّتهم بمعنى اتِّباعهم كما تقدّم.
6 حرمة سبّهم
لا إشكال في حرمة سبّهم لدى كافَّة فقهاء الإسلام، ولكن اختلفوا في حكمه وعقوبته، فذهب فقهاء الإماميَّة إلى قتله إجماع (142) ونجاسته إن اجتمع السبّ مع النصب (143) وإن أطلق بعضهم الحكم بنجاسته (144). أمّا القتل فهو محلَّ اتِّفاق بينهم، ولكن هل يقتل حدّاً كمرتكب الكبيرة في الثالثة أو ارتداداً؟ فيه خلاف (145).
وأمّا باقي المذاهب فقد أجمعت على أنّ من ستم واحداً من أهل البيت(عليهم السلام) فإنه يضرب ضرباً شديداً وينكّل به ولا يصير كافراً بالشتم (146).
7 حجية أقوالهم ومذهبهم
إنّ حجية أقوال أهل البيت (عليهم السلام) ثابتة بصريح السنّة القطعيّة: 1ـ كحديث الثقلين الذي رواه أكثر من عشرين صحابيّاً بألفاظ مختلفة وفي مناسبات عديدة كيوم الغدير وعند مرض النبي(صلى الله عليه و آله و سلم) وغيره (147) وقد روته العامّة والخاصّة. وممَّن رواه الترمذيّ عن جابر بن عبد الله الأنصاري قال: رأيت رسول الله(صلى الله عليه و آله و سلم) في حجّته يوم عرفة وهو على ناقته القصواء يخطب فسمعته يقول: «أيّها الناس قد تركت فيكم ما إن أخذتم به لن تضلّوا: كتاب الله وعترتي أهل بيتي» (148). فقد جعل العصمة من الضلالة في هذين الأمرين ولو كان شيء غيرهما لذكره، وهو يدلّ على عصمة أهل البيت (عليهم السلام) قولاً وفعلاً وإلاَّ لما كان للأخذ بقولهم وفعلهم عصمة من الضلال.
________________________________________
(141) المصدر السابق.
(142) المصدر السابق 41: 435.
(143) التنقيح في شرح العروة (الطهارة) 2: 87.
(144) كشف الغطاء 2: 355.
(145) انظر: جواهر الكلام 6: 55-56.
(146) انظر: الموسوعة الفقهية (الكويتية) 1: 107.
(147) انظر: الغدير 3: 118.
(148) صحيح الترمذي 5: 621، الحديث 3786 من مناقب أهل البيت.