البحث في...
إسم البحث
الباحث
اسم المجلة
السنة
نص البحث
 أسلوب البحث
البحث عن اي من هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على كل هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على هذه الجملة

هجرة الرسول(صلى‏ الله ‏عليه ‏و ‏آله ‏و سلم) وبناء الدَّولة والمجتمع الإسلاميِّين قراءة تحليليَّة نقديَّة في شبهات المستشرقين

الباحث :  الشيخ علي ناصر
اسم المجلة :  مجلة المنهاج
العدد :  54
السنة :  السنة الرابعة عشر صيف 1430هجـ 2009 م
تاريخ إضافة البحث :  December / 20 / 2015
عدد زيارات البحث :  7620
هجرة الرسول(صلى‏ الله ‏عليه ‏و ‏آله ‏و سلم) وبناء الدَّولة والمجتمع الإسلاميِّين
قراءة تحليليَّة نقديَّة في شبهات المستشرقين

الشيخ علي ناصر (*)

تمهيد
عانى الرسول(صلى‏ الله ‏عليه ‏و ‏آله ‏و سلم) كثيراً، وهو يحاول إقناع زعماء قريش بدعوته، واتخاذ مكَّة منطلقها وسبيلها إلى بقية الحواضر والقبائل، الدَّائرة في فلكها الدِّيني ونفوذها الاجتماعيّ والاقتصاديّ (1). ثمَّ أثبتت محاولاته التالية، سواء مع الطائف أم اليمامة، صلابة هذه الجبهة والتزامها بالموقف القرشي المعبّر عن مصالحها الحيوية، ما جعلها ترفض مسبقاً فكرة الحوار مع الرسول(صلى‏ الله ‏عليه ‏و ‏آله ‏و سلم) (2). فوقع الاختيار على يثرب الخارجة عن الدائرة الجغرافية لمكة، رغم وقوعها في دائرة المواصلات الرئيسة لتجارة قريش مع الشام.
لقد كان للأنصار (الأوس والخزرج) دور كبير في جعل يثرب مقرَّاً لدولة الرسول(صلى‏ الله ‏عليه ‏و ‏آله ‏و سلم)، وفي إخراج الإسلام من دار الإضطهاد إلى دار الهجرة. لقد كانت وقفة أولئك النَّفر من الأوس والخزرج بمستوى التاريخ؛ إذ كانوا أنموذجاً في العطاء والتَّضحية ونكران الذَّات، فاستحقُّوا لقب “أنصار الله وأنصار رسول الله” (3)؛ ذلك أنَّهم التزموا بالإسلام، واحتضنوا الرسول(صلى‏ الله ‏عليه ‏و ‏آله ‏و سلم) والمهاجرين، وانخرطوا في الجهاد.
والمتتبِّع للأحداث قد يجد وراء هذه الوقفة أسباباً اجتماعية واقتصادية، وليس أسباباً سياسية فحسب(4)، فقد كان للقاء العقبة الذي غيَّر مسار التاريخ الإسلامي،
________________________________________
(*)باحث في التاريخ والفقه الإسلامي، من لبنان.
(1)بيضون، إبراهيم، “الرسول واليهود - في الملامح القومية للهجرة إلى يثرب”، مجلة الطريق، العدد السادس، بيروت - كانون أول، 1990، ص: 66.
(2)م. ن، ص: 67.
(3)بيضون، إبراهيم، الأنصار والرسول(صلى‏ الله ‏عليه ‏و ‏آله ‏و سلم)، م.س، ص: 8.
(4)م. ن، ص: 7- 5.

[الصفحة - 179]


أسبابٌ دينيَّة تمثَّلت بمعاناة المسلمين في مكة، وإخفاقهم في إقناع قريش وحلفائها بالإسلام، وأسبابٌ سياسيةً ناتجةً عن مؤامرات اليهود ضد الأوس والخزرج، وأسبابٌ عسكريةً ناتجةً عن الحروب الداخلية التي أنهكت هاتين القبيلتين، وأسبابٌ اقتصادية ناتجةٌ عن تراجع الإنتاج الزراعي بسبب انعدام الاستقرار السياسي في يثرب (5). فكان لقاء العقبة محصِّلةً لهذه المعطيات أكثر مما هو نتاج مصادفة تاريخية (6). ولا يعني ذلك أن إسلام الأنصار كان سياسياً وناتجاً عن الحاجة إلى إرساء وضع جديد وتكريس سلام ثابت فقط، فتضحية الأنصار في سبيل الإسلام وجهادهم بأموالهم وأنفسهم، ناتج أيضاً عن إيمانهم بالإسلام ديناً، وبقيمه ومبادئه.
لقد عمل الرَّسول(صلى‏ الله ‏عليه ‏و ‏آله ‏و سلم) على إرساء علاقة اجتماعية متوازنة في المدينة، تقوم على كبح نزعتين لدى المهاجرين: أولاهما نزعة التفوُّق القبلي، بوصفهم ينتمون إلى قبيلة قريش، وثانيهما نزعة أسبقية الدُّخول في الإسلام. كما عمل الرسول(صلى‏ الله ‏عليه ‏و ‏آله ‏و سلم) على كبح النزعة الإقليميّة لدى الأنصار ومعها شعور المنقذ للإسلام من محنته الشديدة (7)، فنجح النبي(صلى‏ الله ‏عليه ‏و ‏آله ‏و سلم) في ترسيخ وحدة الأوس والخزرج في إطار الأنصار ووحدة هؤلاء مع المهاجرين في إطار الجماعة الإسلاميّة (8). فكان الأنصار شركاء أساسيين في تكوين الدولة الإسلامية في مختلف المجالات العسكرية والإدارية والاقتصادية، ما جعل هذه الدولة أكثر قدرة على تجاوز الخطر وقهر التحدِّيات المحيطة بها (9).
لقد اتَّصفت المرحلة الأولى من الهجرة بمهادنة اليهود، فاكتفى النَّبي(صلى‏ الله ‏عليه ‏و ‏آله ‏و سلم) بمراقبة نشاطهم ورصد تحرُّكاتهم، فكان اهتمامه منصباً على مواجهة الخطر القرشي، فعمل(صلى‏ الله ‏عليه ‏و ‏آله ‏و سلم) على توثيق عرى الوحدة بين المسلمين في المدينة، وتجنيب جبهته الداخلية مخاطر التصدُّع والشقاق. الأمر الذي تجلّى في المواجهة الهادئة مع حركة النفاق.
وفي المقابل، كان موقف اليهود من الهجرة فاتراً، يؤكِّد ذلك عدم اتِّصالهم بالرسول(صلى‏ الله ‏عليه ‏و ‏آله ‏و سلم) قبل حدوثها، فضلاً عن الاستجابة الضعيفة من جانبهم للدعوة إلى الإسلام. وقد بدا أنَّ اليهود يقومون بمحاولة لاحتواء المسلمين والمراهنة على انقسامهم، وذلك تمهيداً لإخراجهم من المدينة (10).
________________________________________
(5)م. ن، ص: 9 .
(6)بيضون، إبراهيم، الرسول واليهود، م. س، ص: 67.
(7)بيضون، إبراهيم،الأنصار والرسول (ص)، م. س، ص: 30.
(8)م. ن، ص: 9
(9)م. ن، ص: 38.
(10)بيضون، إبراهيم، الرسول واليهود، م. س، ص: 73 .

[الصفحة - 180]


ويبدو أنَّ القبائل اليهودية التي كانت تعيش هاجس السَّيطرة العربية، قد عانت أيضاً من الانقسام، ولم يكن وضعها يتجاوز الموقف الدِّفاعي، والسَّعي ما أمكن إلى تأجيج الصراع بين الأوس والخزرج حتَّى بعد إسلامهم. فلم تكن هذه القبائل اليهودية قادرة على التدخل الفعلي لمنع الهجرة، أو التصدِّي لها بصورة جديَّة، ويبدو أن الرسول(صلى‏ الله ‏عليه ‏و ‏آله ‏و سلم) العارف بأمور يثرب ووضع اليهود فيها لم يرَ في هؤلاء ما يمثِّل مصدراً للخطر على الهجرة (11). ومما تجدر الإشارة إليه، أيضاً، أن النَّبي(صلى‏ الله ‏عليه ‏و ‏آله ‏و سلم) انفتح على اليهود وعقد معاهدة معهم، لكنهم لم يكفُّوا عن المجادلات الدينية وافتعال الأزمات السياسية. وقد لعب المنافقون دوراً في هذا النزاع وكان للنبي(صلى‏ الله ‏عليه ‏و ‏آله ‏و سلم) موقف منهم.
يتضمَّن هذا المقال، عرضاً لبيعتي العقبة الأولى والثانية، وبناء الدولة والمجتمع الإسلامي والأعمال التأسيسية التي قام بها النبي(صلى‏ الله ‏عليه ‏و ‏آله ‏و سلم) من بناء المسجد، والمؤاخاة بين المسلمين، وإعداد القوة العسكرية. ويتضمَّن، أيضاً، الحديث عن معاهدة المدينة، أو دستور المدينة، أو الصحيفة، لأهميتها على مستوى توثيق الصلات بين المسلمين من جهة، وبينهم وبين اليهود من جهة أخرى، وتحقيق الوحدة بين جميع سكان يثرب وتجنُّب خطر قريش ونشر الدعوة، وتحقيق الأمن والاستقرار والحرية الدينية، أضف إلى ذلك الكلام على نص الصحيفة وصحته ومضمونها وشموليتها ومبادئها وشرحها والتعليق عليها.
أولاً هجرة الرسول
أ- بيعتا العقبة
لما وقف أشراف قريش في وجه الدَّعوة، وحالوا دون بناء المجتمع المسلم فوق بطحاء مكة (12)، تطلَّع النبي(صلى‏ الله ‏عليه ‏و ‏آله ‏و سلم) إلى بلد آخر من البلدان، فأرسل عدداً من أصحابه إلى الحبشة، في شهر رجب سنة خمس من البعثة، ولكن الحبشة وإن كانت مناسِبةً لإيواء المسلمين في ذلك الحين، لم تكن مناسِبةً لتكون منطلقاً للدعوة إلى
________________________________________
(11)م. ن، ص: 72.
(12)مكّة من أشهر مدن العالم، وأكثر المدن الحجازية سكاناً، ترتفع عن سطح البحر ما يقارب 300 متراً، وتقع بين سلسلتين من الجبال. يبدأ تاريخ مكة من زمن النبي إبراهيم، الذي أسكن ولده إسماعيل مع أمه هاجر في أرض مكة، فنشأ إسماعيل هناك، وتزوج من القبائل التي سكنت على مقربة من تلك المنطقة. ثم بنى إبراهيم البيت الحرام "الكعبة" بأمر من الله تعالى. وتقول بعض الروايات: إن النبي نوح هو الذي بناها، وإن إبراهيم هو الذي جددها. وهكذا نشأت مدينة مكة حتى وصل التاريخ إلى عصر رسول الله(صلى‏ الله ‏عليه ‏و ‏آله ‏و سلم)؛ حيث كانت قريش أكبر قبيلة ساكنة فيها. راجع: السبحاني، جعفر، سيرة سيد المرسلين، م.س، ص: 31 و38.

[الصفحة - 181]


الإسلام وبناء المجتمع المسلم، لأسباب عديدة أذكر منها:
- عدم إسلام أهلها على الرُّغم من الكلام عن إسلام ملكها النجاشي.
- بُعدها عن جزيرة العرب ووجود البحر بينهما.
- الله تعالى أراد أن يجعل العرب نواة المجتمع المسلم وحملة الدعوة إلى الناس أجمعين، لذلك اصطفى خاتم الرسل(صلى‏ الله ‏عليه ‏و ‏آله ‏و سلم) من بينهم، وأنزل كتابه بلغتهم، ودعاهم إلى الإيمان به ونصرته وتحمُّل الأذى في سبيله.
وقد استمر ذلك إلى أن أتى إلى مكَّة، في موسم الحج، في السنة الحادية عشرة من البعثة، ستة من الخزرج، فلقيهم رسول الله(صلى‏ الله ‏عليه ‏و ‏آله ‏و سلم) وجلس معهم، فدعاهم إلى الله عز وجل، وعرض عليهم الإسلام، وتلا عليهم القرآن، فقال أحدهم للآخر: “يا قوم، تعلمون، والله، أنَّه للنبيّ الذي توعَّدكم به يهود فلا تسبقنَّكم إليه. فأجابوه إلى ما دعاهم إليه بأن صدَّقوه وقبلوا منه ما عرض عليهم من الإسلام، وقالوا له: “إنا قد تركنا قومنا ولا قوم بينهم من العداوة والشرِّ ما بينهم، وعسى أن يجمعهم الله بك، فسنقدم عليهم فندعوهم إلى أمرك ونعرض عليهم الذي أجبناك إليه من هذا الدّين، فإن يجمعهم الله عليه فلا رجل أعزّ منك”. ثم انصرفوا عن رسول الله(صلى‏ الله ‏عليه ‏و ‏آله ‏و سلم) راجعين إلى بلادهم وقد آمنوا وصدقوا (13).
وقد استهدف النَّبي(صلى‏ الله ‏عليه ‏و ‏آله ‏و سلم) من هذا الاجتماع حثَّ هؤلاء الأشخاص على القيام بنشاط في بلادهم لتهيئة الجو وخلق مناخ مؤيد ومتعاطف مع الدعوة ومبادئها الجديدة في المدينة. فلما عادوا إلى يثرب (14)، ذكروا لقومهم رسول الله(صلى‏ الله ‏عليه ‏و ‏آله ‏و سلم) ودعوهم إلى الإسلام حتى فشا فيهم، فلم تبقَ دار من دور الأنصار إلاَّ وفيها ذكر من رسول الله(صلى‏ الله ‏عليه ‏و ‏آله ‏و سلم).
1- بيعة العقبة الأولى
فلما كان العام المقبل، وافى الموسم اثنا عشر رجلاً منهم (15)، فلقوا النبي(صلى‏ الله ‏عليه ‏و ‏آله ‏و سلم)، وبايعوه بيعة العقبة الأولى. قال ابن إسحاق، نقلاً عن عُبادة بن الصامت:
________________________________________
(13)الحميري، المعافري، عبد الملك بن هشام بن أيوب، السيرة النبوية، ط1، بيروت، مؤسسة المعارف، 1425هـ-2004م، ص: 216
(14)يثرب مدينة تقع في شمال مكة، وتبعد عنها بتسعين فرسخاً تقريباً، وتحيط بها بساتين، ومزارع ونخيل وافرة. أرضها أكثر صلاحية لغرس الأشجار والزرع. وهو اسم المدينة المنورة قبل الإسلام. وبعد أن هاجر إليها رسول الإسلام(صلى‏ الله ‏عليه ‏و ‏آله ‏و سلم) ُسمّيت بمدينة الرسول(صلى‏ الله ‏عليه ‏و ‏آله ‏و سلم)، ثم أطلقت عليها لفظة "المدينة" مجردة تخفيفاً. ويحدثنا التاريخ أن العمالقة كانوا أول من سكن هذه الديار، ثم خلفهم طائفة اليهود، والأوس، والخزرج. وقد ُسمّي الذين أسلموا من الأوس والخزرج بالأنصار. راجع: السبحاني، جعفر، سيرة سيد المرسلين، م.س، ص: 32.
(15)هؤلاء الرِّجال هم: أسعد بن زرارة بن النجار وعوف ومعاذ ابنا مالك بن النجار، ورافع وذكوان ابنا عامر بن زريق، وعبادة بن الصامت بن ثعلبة بن غنم، ويزيد بن ثعلبة بن عمَّارة، والعباس بن عبادة بن العجلان. وعقبة بن عامر بن حرام، وقطبة بن عامر بن سواد وأبو الهيثم بن التَّيهان، وعُويم بن ساعدة. راجع: الحميري، المعافري، عبد الملك بن هشام بن أيوب، السيرة النبوية، م. س، ص: 217 و218.

[الصفحة - 182]


“كنت فيمن حضر العقبة الأولى، وكنا اثني عشر رجلاً، فبايعنا رسول الله(صلى‏ الله ‏عليه ‏و ‏آله ‏و سلم) على بيعة النِّساء: على أن لا نشرك بالله شيئاً، ولا نسرق، ولا نزني، ولا نقتل أولادنا، ولا نأتي ببهتان نفتريه من بين أيدينا وأرجلنا، ولا نعصيه في معروف. فإن وفيتم فلكم الجنة، وإن غششتم من ذلك شيئاً فأمركم إلى الله عزَّ وجل: إن شاء عذَّب، وإن شاء غفر (16).
ثم بعث الرَّسول(صلى‏ الله ‏عليه ‏و ‏آله ‏و سلم) معهم مصعب بن عمير بن هاشم بن عبد مناف بن عبد الدار بن قصي(رض)، وأمره بأن يُقْرِئهم القرآن، ويعلِّمهم الإسلام، ويُفَقِّهَهُمْ في الدِّين، فكان يسمى المقرئ في المدينة، وكان يصلي بهم، وذلك أن الأوس والخزرج كَرِهَ بعضهم أن يَؤُمَّه بعض. فقام بمهمته على أكمل وجه، حتَّى انتشر الإسلام في المدينة. وممَّا يجدر بنا ذكره هو إسلام سعد بن معاذ وأسيد بن حضير، وهما يومئذٍ سيِّدا قومهما من بني عبد الأشهل، وكلاهما كان مشركاً على دين قومه. وقد أتى كلٌّ منهما أسعد بن زرارة ومصعب بن عمير، اللّذين كانا قد خرجا سويةً يريدان دار بني عبد الأشهل، فوقف كل منهما يقول: ما جاء بكما تُسفِّهانِ ضعفاءنا؟ فقال مصعب لكل منهما في كل مرة: “أوتجلس فتسمع فإن رضيت أمراً قبلته، وإن كرهته كُفَّ عنك ما تكره”، قال: أنصفت. فكلّمه مصعب بالإسلام، وقرأ عليه القرآن. فأشرق وجه كل من سعد بن معاذ وأسيد بن حضير بعد أن تعجبا من حسن هذا الكلام وجماله، وسأل كلٌّ منهما أسعد بن زرارة ومصعب بن عمير: كيف تصنعون إذا أردتم أن تدخلوا في هذا الدين؟ فأجابا: تغتسل فتَطَّهَر، وتُطَهِّر ثوبيك، ثم تشهد شهادة الحق ثم تصلِّي، وهكذا كان. ثم أقبل سعد إلى نادي قومه ومعه أُسَيدُ بنُ حُضَيْر، فلما رأوه مقبلاً قالوا: نحلف بالله لقد رجع إليكم سعد بغير الوجه الذي ذهب به من عندكم. فلما وقف عليهم قال: يا بني عبد الأشهل، كيف تعلمون أمري فيكم؟ قالوا: سيدنا وأفضلنا رأياً وأيمننا نقيبة، قال: فإن كلام رجالكم ونسائكم عليَّ حرام حتى تؤمنوا بالله وبرسوله. قالا: فوالله ما أمسى في دار بني عبد الأشهل رجل ولا امرأة إلا مسلماً أو مسلمة (17).
________________________________________
(16)م، ن، ص: 218.
(17)م، ن، ص: 219-220.

[الصفحة - 183]


2- بيعة العقبة الثانية:
رجع مُصْعَب بن عُمَير إلى مكة، وخرج من خرج من الأنصار، من المسلمين، إلى الموسم مع حجاج قومهم من أهل الشُّرك، حتى قدِموا مكة للحج في العام الثالث عشر من البعثة، وكانوا يكتمون أمرهم على من معهم من قومهم من المشركين، فالتقوا النبي(صلى‏ الله ‏عليه ‏و ‏آله ‏و سلم) ليلة الثاني عشر من شهر ذي الحجة، فتكلم رسول الله(صلى‏ الله ‏عليه ‏و ‏آله ‏و سلم) فتلا القرآن، ودعا إلى الله، ورغَّب في الإسلام، ثم قال: “أبايعكم على أن تمنعوني مما تمنعون منه نساءكم وأبناءكم”، فأخذ البراء بن معرور، وهو سيِّد قومه وكبيرهم، بيده(صلى‏ الله ‏عليه ‏و ‏آله ‏و سلم) ثم قال: “نعم، والذي بعثك بالحق لنمنعنَّك ممَّا نمنع منه أُزُرنا، فبايعنا يا رسول الله، فنحن والله أهل الحروب، وأهل الحلقة ورثناها كابراً عن كابر”.. فتبسَّم رسول الله(صلى‏ الله ‏عليه ‏و ‏آله ‏و سلم) ثم قال: “بل الدم الدم، والهدم الهدم، أنا منكم وأنتم مني، أحارب من حاربتم وأسالم من سالمتم” (18).
قال ابن إسحاق: “فحدثني عُبادة بن الوليد بن عبادة بن الصامت عن أبيه الوليد عن جدِّه عبادة الذي كان أحد النقباء، قال: “بايعنا رسول الله(صلى‏ الله ‏عليه ‏و ‏آله ‏و سلم) بيعة الحرب، على السمع والطاعة في عُسرنا ويُسرنا ومَنْشَطِنا ومَكْرَهِنا، وألا ننازع الأمر أهله، وأن نقول بالحق أينما كُنَّا لا نخاف في الله لومة لائم” (19). فبايعوه على مصيبة الأموال وقتل الأشراف، على النَّفقة في العسر واليسر، وعلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وعلى قول الحق، وعلى أن يحفظوه إذا قدم عليهم يثرب، ويمنعوه مما يمنعون منه أنفسهم وأزواجهم وأبناءهم.
لقد تم الاجتماع السِّري بين الرسول(صلى‏ الله ‏عليه ‏و ‏آله ‏و سلم) ومسلمي يثرب بحضور علي(عليه ‏السلام) والحمزة في الدار التي كان ينزل فيها الرسول(صلى‏ الله ‏عليه ‏و ‏آله ‏و سلم) وهي دار عبد المطلب، وتلك هي بيعة العقبة الثانية، وكان عدد المبايعين من الأوس والخزرج ثلاثة وسبعين رجلاً وامرأتين (20).
وبذلك أصبحت المدينة مهيَّأة ليهاجر الرسول(صلى‏ الله ‏عليه ‏و ‏آله ‏و سلم) وأصحابه إليها، ويجعلها مقرّاً للدعوة، ويؤسس فيها المجتمع المسلم. لقد نجح النبي(صلى‏ الله ‏عليه ‏و ‏آله ‏و سلم) في نهاية المطاف، بفعل إصراره على مواصلة الدعوة وعدم يأسه أو استسلامه أمام
________________________________________
(18)م.ن، ص: 223.
(19)م.ن.، ص: 229.
(20)م.ن.، ص: 229.

[الصفحة - 184]


الإخفاق الظَّاهري في مكة، وبفعل الثقة بوعد الله سبحانه بالنصر، في إيجاد القاعدة المناسبة التي يرتكز عليها الإسلام. فكانت يثرب موضع اختياره الجديد. وكانت بيعة العقبة هي الخطوة الرئيسية التي مهَّد فيها النبي(صلى‏ الله ‏عليه ‏و ‏آله ‏و سلم) للهجرة إلى المدينة المنوَّرة، حيث تبدأ المرحلة الثالثة من مراحل الدعوة، وهي مرحلة بناء الدولة، والدفاع عن الإسلام. فإذا ضاق البلد بالمسلمين يوماً، ومُنِعوا من إقـامة دينهم فيه وعبـادة ربهم، وعجزوا عن مقاومة الطغيان ونشر الإسلام، ولم يستطيعوا أن يقيموا المجتمع المسلم في ذلك البلد، فما عليهم إلا أن يسيحوا في أرض الله الواسعة، ويقيموا حيث يأمنون:
{إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلآئِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُواْ فِيمَ كُنتُمْ قَالُواْ كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالْوَاْ أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ الله وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُواْ فِيهَا فَأُوْلَـئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءتْ مَصِيرًا إِلاَّ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاء وَالْوِلْدَانِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلاَ يَهْتَدُونَ سَبِيلاً فَأُوْلَـئِكَ عَسَى الله أَن يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللّهُ عَفُوًّا غَفُورًا وَمَن يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ الله يَجِدْ فِي الأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً وَمَن يَخْرُجْ مِن بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى الله وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلى الله وَكَانَ اللّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا } (21).
ويرى المؤرِّخ “إبراهيم بيضون” أن هذه البيعة كانت تظاهرة أكثر مما كانت اتفاقاً سبق أن وُضعت أسسه العقبة الأولى، وذلك عندما انطلق سبعون من قبيلتي الأوس والخزرج، بينهم امرأتان، للتأكيد على نصرة الرسول(صلى‏ الله ‏عليه ‏و ‏آله ‏و سلم) وممهِّدين لانتقاله إلى حاضرتهم، حيث أصبح له مقر ينافح فيه عن دعوته وينشر مبادئها في وضح النهار. فكانت بيعة العقبة الثانية تكريساً لذلك الحلف في مواجهة قريش والقبائل الدائرة في فلك نفوذها، حيث كان القضاء على الوثنية من أولويَّات مشروع رسول الله(صلى‏ الله ‏عليه ‏و ‏آله ‏و سلم)، فيما كان خطر اليهود يقلق الأوس والخزرج في يثرب، ولكن الرسول(صلى‏ الله ‏عليه ‏و ‏آله ‏و سلم) طمأن نفوسهم مما يخالجها من القلق إزاء اليهود (22)، حيث قالوا له: “إن بيننا وبين الرجال حِبالاً، وإنا قاطعوها (يعني اليهود)، فهل عسيت إن نحن فعلنا ذلك، ثم أظهرك الله أن ترجع إلى قومك وتدعنا؟”، فتبسَّم رسول الله(صلى‏ الله ‏عليه ‏و ‏آله ‏و سلم) ثم قال: “بل الدم الدم، والهدم الهدم، أنا منكم
________________________________________
(21)سورة النساء، الآية: 97- 100.
(22)بيضون، إبراهيم، الأنصار والرسول (ص)، م. س، ص: 134-135.

[الصفحة - 185]


وأنتم منِّي أحارب من حاربتم وأسالم من سالمتم” (23).
ب- الهجرة إلى يثرب (24)
بعد بيعة العقبة الثَّانية، سمح النبي(صلى‏ الله ‏عليه ‏و ‏آله ‏و سلم) للمسلمين، وخصوصاً لأولئك الذين كانوا يتعرَّضون للإيذاء والضغوط، بالهجرة إلى يثرب، وقال لهم في ما يُروى عنه(صلى‏ الله ‏عليه ‏و ‏آله ‏و سلم): “إنَّ الله، عزَّ وجل، قد جعل لكم إخواناً وداراً تأمنون بها”، فأخذ المسلمون يتوافدون إلى يثرب أفراداً وجماعات سراً وعلانية، مضحّين بوطنهم وبعلاقاتهم. وكثير منهم ضحُّوا بممتلكاتهم ومكانتهم في مجتمعهم الجاهلي، في سبيل عقيدتهم ودينهم. ورأت قريش، في هذه الهجرة، خطراً على وجودها ومستقبلها، وذلك خشية من أن يمثِّل المهاجرون مع أهل يثرب من قوة تستطيع أن تقف في وجه قريش ومصالحها، خصوصاً أن تجارتها إلى الشام تمر عبر يثرب، فأخذت تمنع المسلمين من الهجرة وتلاحقهم وتُلحق العذاب والإرهاب بكل من كان يقع في قبضتها. وبرغم كل هذه الإجراءات تمكَّن معظم المسلمين من الهجرة، ولم يبق في مكة بعد بيعة العقبة بمدَّة وجيزة سوى النبي(صلى‏ الله ‏عليه ‏و ‏آله ‏و سلم)، وعلي(عليه ‏السلام)، وعدد قليل من المسلمين المستضعفين.
بقي النبي(صلى‏ الله ‏عليه ‏و ‏آله ‏و سلم) في مكة ينتظر الإذن الإلهي بالهجرة، وشعرت قريش بحجم الخطر الكبير الذي سيحدث إن التحق النبي(صلى‏ الله ‏عليه ‏و ‏آله ‏و سلم) بأصحابه، خصوصاً بعدما قدَّرت أن المدنيين سيحمونه وينصرونه بكلِّ طاقتهم بعدما بايعوه على السمع والطاعة والجهاد، فاتَّخذت قراراً حاسماً بالتخلص من النبي(صلى‏ الله ‏عليه ‏و ‏آله ‏و سلم) قبل فوات الأوان، واستطاعت أن تنتزع قراراً بمشاركة كل قبائل قريش في عملية الإغتيال، من أجل أن يتفرَّق دمه في القبائل كلها، فلا يعود بإمكان بني هاشم أن يثأروا لدمه.
ولكن الله أخبر رسوله(صلى‏ الله ‏عليه ‏و ‏آله ‏و سلم) بهذه المؤامرة، وأمره بالخروج ليلاً من مكة. فطلب رسول الله(صلى‏ الله ‏عليه ‏و ‏آله ‏و سلم) من عليٍّ(عليه ‏السلام) أن يبيت في فراشه من أجل التمويه والإيهام، ولِيُفَوِّتَ عليهم كيدهم قائلاً له: “نم على فراشي وتسجَّ ببردي هذا الحضرمي الأخضر، فنم فيه فإنه لن يخلص إليك شيء تكرهه منهم” (25).
________________________________________
(23)الحميري، المعافري، عبد الملك بن هشام بن أيوب، السيرة النبوية، م. س، ص: 223.
(24)كان اسمها يثرب قبل هجرة الرسول الأكرم(صلى‏ الله ‏عليه ‏و ‏آله ‏و سلم)، ثم بعد هجرته إليها أصبح أسمها المدينة المنورة.
(25)م.ن، ص: 243.

[الصفحة - 186]


وفي ذلك نزل قوله تعالى: {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللّهُ وَاللّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ } (26). فخرج رسول الله(صلى‏ الله ‏عليه ‏و ‏آله ‏و سلم) إلى غار ثور، وبات علي(عليه ‏السلام) على فراش رسول الله(صلى‏ الله ‏عليه ‏و ‏آله ‏و سلم) تلك الليلة، فكان أول فدائي في الإسلام. وعندما اقتحم المشركون دار النبي(صلى‏ الله ‏عليه ‏و ‏آله ‏و سلم)، وجدوا أنفسهم أمام علي(عليه ‏السلام) وكان النبي(صلى‏ الله ‏عليه ‏و ‏آله ‏و سلم) قد خرج قبل ذلك من بينهم، وهو يقرأ هذه الآية: {وَجَعَلْنَا مِن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لاَ يُبْصِرُونَ } (27).
فتوجَّه النَّبي(صلى‏ الله ‏عليه ‏و ‏آله ‏و سلم) نحو غار ثور، وأقام فيه ثلاثة أيام (28)؛ ولمَّا اطمأنَّ إلى خلوِّ الجبل من المطاردين، غادره وتوجَّه إلى المدينة المنوَّرة، وتمكّن من الوصول إلى قرية قباء القريبة من المدينة المنورة برغم ملاحقة قريش له. أما عليٌّ فقد أمره النبي(صلى‏ الله ‏عليه ‏و ‏آله ‏و سلم) بأن يتخلَّف بعده بمكة حتى يؤدِّي عنه الودائع التي كانت عنده للناس، وكان رسول الله(صلى‏ الله ‏عليه ‏و ‏آله ‏و سلم) مأمن كل لاجىء، “ليس في مكة أحد عنده شيء يخشى عليه إلا وضعه عنده لما يعلم من صدقه وأمانته(صلى‏ الله ‏عليه ‏و ‏آله ‏و سلم)”.
وكانت هجرة النبي(صلى‏ الله ‏عليه ‏و ‏آله ‏و سلم) في شهر ربيع الأول، بعدما كان أمضى ثلاث عشرة سنة في مكة، وكانت هذه الهجرة بداية التاريخ الإسلامي. وكانت للهجرة دوافع عديدة منها:
ردُّ فعل على اضطهاد قريش التي آذت الرسول(صلى‏ الله ‏عليه ‏و ‏آله ‏و سلم) والمسلمين معه، ونجحت في وضع الحواجز والعراقيل الكثيرة أمام تقدُّم هذا الدين وانتشاره ومارست عمليات التعذيب والإرهاب.
لم تعد مكة مكاناً صالحاً للدعوة، وقد حصل النَّبي(صلى‏ الله ‏عليه ‏و ‏آله ‏و سلم) منها على أقصى ما يمكن الحصول عليه، ولم يبق أي أمل في دخول فئات جديدة في الدين الجديد، في المستقبل القريب على الأقل.
إن الإسلام دين كامل ونظام شامل، يعالج في تشريعاته، جميع جوانب الحياة، وهو للبشرية جمعاء، ولذلك كان لا بد من الانتقال إلى مكان آخر ينشط فيه الإسلام
________________________________________
(26)سورة الأنفال، الآية: 30.
(27)سورة يس، الآية: 9.
(28)فأقام رسول الله(صلى‏ الله ‏عليه ‏و ‏آله ‏و سلم) في الغار ثلاثاً ومعه أبو بكر، وجعلت قريش حين عجزت عن العثور عليه جائزةً مقدارها مئة ناقةٍ لمن يردُّه إليها. راجع: الطبري، محمد بن جرير، تاريخ الأمم والملوك، م.س، ص: 104.

[الصفحة - 187]


بحرية، بعيداً عن ضغوط قريش ومناطق سيطرتها ونفوذها، ويمثِّل ساحة جديدة يستطيع النبي(صلى‏ الله ‏عليه ‏و ‏آله ‏و سلم) فيها إقامة الحكومة التي تضمن تطبيق النظام الإسلامي في الحياة وتحقيق أهدافه الكبرى ونشره، ليصل إلى كل إنسان في كل مكان.
لقد تهيَّأت أسباب الهجرة إلى يثرب على عدَّة مستويات:
- فمن الناحية الجغرافيّة:تبعد المدينة عن مكة أكثر من أربعمائة كيلو مترٍ، ما يجعلها في مأمن من هجمات قريش المفاجئة والمباغتة من جهة، ومن جهة أخرى هي قريبة من طريق تجارة مكة - الشام، بحيث يتمكّن النبي(صلى‏ الله ‏عليه ‏و ‏آله ‏و سلم) من فرض سيطرته وممارسة نوع من الضغط السياسي والاقتصادي وحتى العسكري على قريش في الوقت المناسب.
- ومن الناحية الاقتصاديّة:تعدُّ المدينة غنية بإمكانياتها الزراعية، ما يُمَكِّنها من المقاومة والاحتفاظ بنوع من الحياة في حال تعرضت لضغوط اقتصادية من قبل المشركين وغيرهم.
- ومن الناحية الاجتماعيّة:فإن طول النزاع القبلي، بين سكانها من الأوس والخزرج واليهود، جعلها منطقة مفكَّكة اجتماعياً، تتطلَّع إلى رجل تلتفُّ حوله لينزع عنها إلى الأبد هذه العصبيات المستعصية. لقد كان المهاجرون والأنصار واليهود أبرز عناصر هذا المجتمع. أما الأوس والخزرج فهما قبيلتان من أصل واحد، خرجتا من اليمن وأقامتا في المدينة. وبعد وقت من إقامتهما في المدينة تنازعتا، وبلغ النزاع بينهما أن حالف الأوس يهود بني قريظة ضد الخزرج، وحالف الخزرج يهود بني النضير وبني قينقاع ضد الأوس. وكانت وقعة بعاث بين القبيلتين، وهي وقعة عظيمة قتل فيها كثير من أشرافهم وكبرائهم، وذلك قبل الهجرة النبوية بخمس سنين، وكان اليهود يعملون على بث الفرقة وأسباب الخلاف في ما بينهم لتبقى لهم السيطرة على المدينة، ولكن الرسول(صلى‏ الله ‏عليه ‏و ‏آله ‏و سلم) استأصل أسباب الخلاف وجعلهم أخوة متحابين، وأمرهم بأن يعبدوا الله ولا يشركوا به شيئاً، وبأن يؤمنوا بالرسول(صلى‏ الله ‏عليه ‏و ‏آله ‏و سلم) وبما يوحى إليه.
________________________________________

[الصفحة - 188]


ثانياً- بناء الدَّولة والمجتمع الإسلاميِّين
لم يهاجر النَّبي(صلى‏ الله ‏عليه ‏و ‏آله ‏و سلم) إلى المدينة ليخلد إلى الراحة وينعم بالطمأنينة، وإنما هاجر إليها بعدما كان قد أتمَّ تدبير أمور العقيدة والأخلاق في مكة، ليبني المجتمع المسلم، وينشئ أمة المسلمين على مبادئ الإيمان وأحكام الإسلام. وبعد أن كان في مكة مظلوماً، ومضطهداً، لا يستطيع أن يغيِّر شيئاً من أحوال مجتمعها الوثني الفاسد، أصبح هو الحاكم المطاع، والرئيس الأعلى في المجتمع الجديد، فنظَّمه أحسن نظام، وأعدَّ له أفضل إعداد.
أ- شرائح المجتمع اليثربي
باشر الرَّسول(صلى‏ الله ‏عليه ‏و ‏آله ‏و سلم)، فور وصوله إلى المدينة المنورة، القيام بأعمال تأسيسية ترتبط بإيجاد البيئة الملائمة لتبليغ الإسلام وأحكامه وتشريعاته التي كانت تنزل على الرسول(صلى‏ الله ‏عليه ‏و ‏آله ‏و سلم) تدريجياً، فكان لا بد للاطمئنان على مستقبل الدعوة الإسلامية، من بناء مجتمع إسلاميّ سياسيّ، يضمُّ تحت لوائه كافّة شرائح المجتمع اليثربيّ الذي كان يضمُّ ست طوائف من السكان هم:
المهاجرون:الذين هاجروا من مكة إلى المدينة مع النبي(صلى‏ الله ‏عليه ‏و ‏آله ‏و سلم) وقبله وبعده بأمر منه، فضحوا بوطنهم وأموالهم وعلاقاتهم وأقاربهم، وعشائرهم طلباً للحرية وحرصاً على دينهم.
الأنصار:وهم سكان المدينة الأصليين من، قبيلتي الأوس والخزرج، الذين أحبوا رسول الله(صلى‏ الله ‏عليه ‏و ‏آله ‏و سلم) ونصروه واتبعوا النور الذي أنزل معه، والذين احتضنوا الرسول(صلى‏ الله ‏عليه ‏و ‏آله ‏و سلم) والمهاجرين معه وقاسموهم الأرزاق.
المتهوِّدون:وهم جماعة من الأوس والخزرج وغيرهما كانوا قد تهوّدوا لمجاورتهم خيبر وبني قريظة والنضير.
اليهود الأصليون:الذين أتوا إلى الجزيرة العربية وسكنوا المدينة وضواحيها، وهم بنو قينقاع وقريظة والنضير. ويرى المستشرق مونتغمري واط في كتابه الشهير
________________________________________

[الصفحة - 189]


“محمد في المدينة” أن اليهود كانوا موجودين في المدينة يسيطرون عليها قبل مجيء الأوس والخزرج إلى يثرب. وأن العرب كانوا أضعف من اليهود في المدينة، بل كانوا تحت حماية اليهود كجيران وحلفاء. أما من أين جاء يهود المدينة، وهل هم من أصل عبراني، أو أن معظمهم كانوا عرباً اعتنقوا الدين اليهودي، أو أنهم يتحدَّرون من فلسطين، فهذه أمور قد ناقشها العلماء العرب والغربيون ولم يصلوا فيها إلى أي اتفاق (29). وتقول المصادر، بحسب واط، أن القبائل اليهودية هي ثلاث قبائل: قريظة والنضير وقينقاع. أما القبيلة اليهودية الرابعة التي كانت في المدينة، في أثناء حياة محمد، فهي قبيلة ثعلبة، ولكن يقال: إنّها من أصل عربي (30).
المشركون:من قبيلتي الأوس والخزرج ومن قبائل عربية أخرى، كانوا كافرين في سنوات الهجرة الأولى، وتأخر إسلام كثير منهم إلى السنة الرابعة بعد الهجرة.
المنافقون:وهم الذين أظهروا الإسلام وأبطنوا الكفر، وتربَّصوا بالرسول(صلى‏ الله ‏عليه ‏و ‏آله ‏و سلم) وبالمؤمنين الدَّوائر، وكادوا لهم، فشكَّلوا خطراً كبيراً على الإسلام والمسلمين في بداية الدعوة وانطلاقتها.
ب- أعمال تأسيسية:
1- الانفتاح على أهل الكتاب
الانفتاح على أهل الكتاب، من أهم الأعمال التي باشر النبي(صلى‏ الله ‏عليه ‏و ‏آله ‏و سلم) بها فور وصوله إلى المدينة المنوَّرة؛ ذلك أنَّه يعدُّ من صلب العقيدة الدينيَّة في الإسلام، التي تعترف بالأديان السماوية، وبكل الرسل والأنبياء. والانفتاح على أهل الكتاب لا يعني كما يدعي بعض الباحثين (31)أن يبدِّل النبي(صلى‏ الله ‏عليه ‏و ‏آله ‏و سلم) شعائر الإسلام حتى ترضى عنه اليهود:{وَلَن تَرْضَى عَنكَ الْيَهُودُ وَلاَ النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى الله هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءهُم بَعْدَ الَّذِي جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ الله مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ } (32).
لقد عبَّر المستشرق بروكلمان، ولعلّه يعكس وجهة نظر المستشرقين عموماً في
________________________________________
(29)واط، مونتغمري، محمد في المدينة، تعريب: شعبان بركات، صيدا، لبنان، المكتبة العصرية، 1952م، ص: 292 293.
(30)م.ن، ص: 294و296.
(31)وقد كتب بعض المستشرقين، في هذا المجال، أمثال المستشرق الألماني الشهير الأستاذ كارل بروكلمان في كتابه "تاريخ الشعوب الإسلامية" الذي أخرجه للناس عام 1939م. والذي يتناول فيه تاريخ العرب والمسلمين منذ أقدم العصور حتى عصرنا الحاضر، حيث نهاه بالدول الإسلامية بعد الحرب العالمية.
(32)سورة البقرة، الآية: 120.

[الصفحة - 190]


هذا المجال، عن تأثّر النبي(صلى‏ الله ‏عليه ‏و ‏آله ‏و سلم) بالديانة اليهودية، وعن “تحايله” على اليهود من خلال تكييف شعائر الإسلام مع شعائرهم الدينية؛ حيث يقول في سياق استعراضه لموقف النبي(صلى‏ الله ‏عليه ‏و ‏آله ‏و سلم) من اليهود في المدينة: “وتأثرت اتجاهات النبي الدينية في الأيام الأولى من مقامه في المدينة بالصِّلة التي كانت بينه وبين اليهود. وأغلب الظن أنه كان يرجِّح، عقب وصوله إلى المدينة، أن يدخل اليهود في دينه، وهكذا حاول أن يكسبهم عن طريق تكييف شعائر الإسلام بحيث تتفق وشعائرهم في بعض المناحي” (33).
إنَّ أكثـر المبشِّرين والمستشرقين يذكـرون أنَّ الرسـول(صلى‏ الله ‏عليه ‏و ‏آله ‏و سلم) اتصل ببعض النصارى واليهود، وأخذ عنهم عدداً من المعلومات الدينية والتاريخية. فهم يريدون القول: إنَّ محمداً بن عبد الله(صلى‏ الله ‏عليه ‏و ‏آله ‏و سلم) أخذ يلملم فُتاتاً من تعاليم اليهودية، والنصرانية، إضافة إلى تفكيره فِي المسائل الدينية، لكي يروي ظمأه الروحي. ولكن الحقيقة أن وجود آيات قرآنية تتحدَّث عن الأديان السابقة، وعن بعض ما يقوله علماء اليهود، أمر طبيعي. ولا يعني هذا أن النبي أخذ عنهم، فالإسلام هو الديانة الخاتمة، التي تستوعب في طياتها تعاليم الرسالات السماوية السابقة وتكتنفها. ولعل الآيات القرآنية الآتية تؤكد ما نقوله: {وَإِنَّهُ لَتَنزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنذِرِينَ بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُّبِينٍ وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ أَوَلَمْ يَكُن لَّهُمْ آيَةً أَن يَعْلَمَهُ عُلَمَاء بَنِي إِسْرَائِيلَ } (34).
ولكن المستشرق نفسه يقرُّ بالاختلاف الواضح بين الدِّيانات قائلاً في الصَّفحة التَّالية من كتابه: إنَّ محمداً(صلى‏ الله ‏عليه ‏و ‏آله ‏و سلم) “قد عيَّن منادياً للصلاة يُعرف بالمؤذِّن، وليس من شك في أنه قد بدأ بذلك معارضته لكل من الديانتين الموحِّدتين، فبينما كان النَّفخ في الأبواق هو وسيلة الدعوة إلى الصلاة في كُنُس اليهود الشرقية، كان النصارى يصطنعون النواميس الخشبية بدلاً من أجراس الكنيسة. أما محمَّد(صلى‏ الله ‏عليه ‏و ‏آله ‏و سلم) فقد وقع اختياره على الصوت البشري لدعوة أتباعه إلى الصلاة. كذلك جعل يوم الجمعة يوم صلاة عامة على غرار "السبت" اليهودي، ولكنه خالف اليهود حين سمح للمؤمنين بأن ينصرفوا في ذلك النهار إلى شؤونهم الدنيوية قبل أداء الصلاة وبعدها” (35).
________________________________________
(33)بروكلمان، كارل، تاريخ الشعوب الإسلامية، ط10، ترجمة نبيه أمين فارس ومنير البعلبكي، بيروت، دار العلم للملايين، 1984م، ص: 46.
(34)سورة الشعراء، الآية: 192- 197.
(35)بروكلمان، كارل، تاريخ الشعوب الإسلامية، م. س، ص: 47.

[الصفحة - 191]


إنَّ المستشرق الألمانيّ يزعم أنَّ الرَّسول(صلى‏ الله ‏عليه ‏و ‏آله ‏و سلم) شرَّع الصلاة تَشبُّهاً باليهود، مع أن اليهود "يسبِّتون" ولا يعملون عشية السبت، بينما تشكّل صلاة الجمعة ظاهرة دينية اجتماعية سياسية ينحصر وقتها، في مدَّةٍ تمتدُّ من أذان الظهر من وقت الجمعة إلى وقت انتهاء الصلاة.
أمَّا المستشرق “واط” فيركِّز على أن محمداً أراد أن يصوغ الإسلام على شاكلة أقدم الأديان؛ ذلك أنَّ لإقامة صلاة الجماعة أصل عبري، وأنَّ محمداً لم يمارس وقت الصلاة هذا حتَّى الجمعة الأولى التي قضاها في المدينة، وأنَّ هناك تعليماً آخر سار فيه محمد على هدى الطقوس اليهودية حين كان لا يزال في مكة، وهو التوجه نحو القدس للصلاة (36)، وكذلك صيام عاشوراء الذي يقع في يوم عيد الكفَّارة اليهودي. كما فرضت برأيه أيضاً صلاة الظهر مجاراة للعادات اليهودية. حيث لم يكن يوجد في مكة سوى صلاتي الصبح والمغرب والقيام في الليل.
ولقد قيل، أيضاً، إنَّ محمَّداً حين بنى مسجد المدينة بناه على شكل كنيس لليهود (37). وقد رأى واط أنه من البديهي أن محمداً كان يميل لصياغة ديانته على شكل الديانة اليهودية قبيل الهجرة وبعدها، كما كان يشجِّع أتباعه في المدينة على الاحتفاظ بالطقوس اليهودية التي تبنُّوها. كما أن الدِّين الجديد يحرم الدم والميتة وما أُهِلَّ لغير الله به والمنخنقة والموقودة والمتردِّية والنطيحة وما أكل السبع..، وهذه التشريعات تشبه كثيراً قائمة محرَّمات موجودة في الدِّين اليهودي.
ويخلص “واط” إلى أنَّ النَّبي(صلى‏ الله ‏عليه ‏و ‏آله ‏و سلم) كان يهدف من وراء ذلك كلِّه إلى أمرين:
الرَّغبة في استمالة اليهود الذين كانوا حلفاء للقبائل العربية، ولم يشكِّلوا بأنفسهم مصدر خطر على العرب، ولكنهم بوصفهم حلفاء لعبد الله بن أبي، كان لهم تأثير كبير (38).
2. التصميم على إظهار صفة النبوة لمحمد(صلى‏ الله ‏عليه ‏و ‏آله ‏و سلم) بإظهار التماثل في الأصل بين الوحي الذي نزل عليه والوحي القديم. وأن هذه النظرية مقبولة عادة عند العلماء الغربيين(39).
________________________________________
(36)م. ن، ص: 302-303.
(37)م. ن. ص 304.
(38)م. ن. ص 298 .
(39)م. ن، ص: 305-306.

[الصفحة - 192]


ويرى “واط” أيضاً أنَّ محمداً(صلى‏ الله ‏عليه ‏و ‏آله ‏و سلم) تظاهر بالصبر بعض الوقت، ثم غيَّر موقفه فجأة، حيث نزل عليه الوحي يأمره بأن يتوجَّه في صلاته نحو الكعبة وليس نحو سورية(40). ويبدو أنه مرَّت مدَّة تردد، فسخر اليهود من المسلمين قائلين عنهم: إنّهم لا يعرفون إلى أيّ جهة يتوجّهون للصلاة. ويكمل واط فيُعدِّد الأمور التي برهنت على تغيُّر موقف محمد(صلى‏ الله ‏عليه ‏و ‏آله ‏و سلم) تجاه اليهود، إذ شرَّع صيام شهر رمضان وأعلن أن صيام عاشوراء لم يعد واجباً. ورأى واط أن هذه الوقائع هي بمثابة إعلان قطع الصّلات باليهود، وأنَّها تدلُّ على اتجاه جديد اتخذه محمد في ميداني السياسة والدّين (41)، وأن دولة المدينة بدأت عندئذٍ بإرسال سلسلة من الهجمات ضد اليهود على المستوى المادي، كما شرَّع القرآن على المستوى الفكري الخصومة ضد اليهودية.
ويستعرض “واط” هجوم القرآن على اليهود ثمَّ يقول: “كان من الممكن أن تظلَّ الكلمة الأخيرة لليهود في مناقشاتهم مع المسلمين الذين كانت معلوماتهم قليلة عن النصوص المقدَّسة لليهود، ولكن معلومات المسلمين أخذت تزداد، وأصبح باستطاعتهم استعمال الكتب المقدّسة لإفحام اليهود”(42). ويكمل واط، فيرى أنَّ قوَّة النَّبي(صلى‏ الله ‏عليه ‏و ‏آله ‏و سلم) اتجهت ضدّ اليهود لأنهم لم يلبُّوا دعوته، ولم يكن الأمر غيظ أثاره رفضهم، بل كان رد فعل رجل يشعر بالخطر (43). وهكذا، فإن واط يرى أن النبي(صلى‏ الله ‏عليه ‏و ‏آله ‏و سلم) لا يسيطر على انفعالاته، بل يتعامل مع الأحداث بردة فعل، ويعامل من لا يلبِّي دعوته بقسوة وغضب وحساسية مفرطة. وهذه محاولة للنيل من خاتم الرُّسل والأنبياء محمد بن عبد الله(صلى‏ الله ‏عليه ‏و ‏آله ‏و سلم).
ويحق لنا أن نتساءل: ألا يهدف هذا القول إلى التشكيك بالإسلام، وبنبوَّة محمَّد(صلى‏ الله ‏عليه ‏و ‏آله ‏و سلم)؟ ثم ألا تتشابه الرسالات السماوية ذات المصدر الواحد، وهو الله تعالى، في بعض القضايا والتشريعات؟ إن واط وغيره من المستشرقين يصوّرون النبي(صلى‏ الله ‏عليه ‏و ‏آله ‏و سلم) على أنه زعيم يلجأ إلى وسائل خداع سياسية على حساب الدين. والحقيقة أنه من الطبيعي أن يتشابه الإسلام، في بعض نصوصه وتعاليمه، مع نصوص الأديان السماوية وتعاليمها التي سبقته كاليهودية والمسيحية.
________________________________________
(40)المقصود بذلك التوقُّف عن التوجه نحو القبلة الأولى، أي القدس، والتوجُّه نحو القبلة الثانية للمسلمين أي الكعبة.
(41)إن الإسلام المحمَّدي الأصيل لا يرى فرقاً، أو فصلاً، بين الدين والسياسة وللإمام الخميني(قده) قول مشهور عنه في هذا المجال وهو: "سياستنا عين ديننا".
(42)واط، مونتغمري، محمد في المدينة ، م.س، ص: 315-316.
(43)م. ن، ص: 308 312.

[الصفحة - 193]


إنَّ الإسلام يؤمن بالوصايا العشر. والمسلمون يلتزمون بها. وكذلك يؤمن الإسلام بالمحبة، والانفتاح على الأديان السماوية الأخرى، والتعايش السلمي على أساس التوحيد، والعدل، وعدم الاعتداء على الآخر. قال تعـالى: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعالوا إِلَى كَلَمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ الله وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شيئاً وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَابًا مِّن دُونِ الله فَإِن تَوَلَّوا فَقُولُواْ اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ } (44).
نعم هناك دائرة مشتركة بين الإسلام والأديان الأخرى، وإن كنا نعتقد بأنَّ اليهودية التي نزلت على موسى(عليه ‏السلام)، وغيره من أنبياء بني إسرائيل، ليست الديانة اليهودية السائدة اليوم نفسها. فاليهودية الحالية هي يهودية محرَّفة في كثير من معتقداتها، وتشريعاتها. وكذلك نعتقد بأنَّ المسيحية اليوم لا تتطابق مع تعاليم السيد المسيح(عليه ‏السلام)، بل تختلف معها في الكثير من المعتقدات، وكان لا بد من أن يكون هناك رسالة خاتمة تجسِّد تتكامل الأديان، وتطوُّر الإنسان، وتحمل في طياتها كل المفاهيم، والعقائد، والتشريعات، سواء على مستوى العبادات، أم المعاملات، والأخلاق.. ولا بد من أن يحفظ الله دينه الخاتم من التحريف، ليكون حجّة على العالمين: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ } (45).
ويعتقد “واط”، أيضاً، بأنّ محمداً، خلال السَّنوات الأولى التي قضاها في المدينة، فكّر في إقامة منظمة دينية وسياسية، تضمن شيئاً من الوحدة للأمة الإسلامية. وفي هذا الصدَّد نرى أنّه من الطبيعي أن يفكر النبي محمد(صلى‏ الله ‏عليه ‏و ‏آله ‏و سلم) بما يضمن وحدة المسلمين من أوس وخزرج، ومهاجرين وأنصار. ولكنَّه دعا اليهود أيضاً إلى الإسلام، وبلّغهم رسالته، وما أوحي إليه، ولكن من دون أن يجبرهم على التخلِّي عن عقيدتهم، أو يُكرههم على اعتناق الإسلام، فهو نبيٌّ طُلب إليه أن يُبلِّغهم رسالةً إلهيةً، وهذا لا يعني أن هذا المشروع يتفق مع الفكرة القائلة: إنَّ كل نبي يُرسل إلى أُمَّة معينة، فيكون محمد(صلى‏ الله ‏عليه ‏و ‏آله ‏و سلم) قد أرسل إلى العرب فقط! فهذه فكرة باطلة، حيث تتحدَّث آيات كثيرة عن “عالمية الإسلام”، وتُخاطِب الناس وليس المؤمنين فقط(46)، فهو رسول للناس أجمعين، وهو رحمة للعالمين.
________________________________________
(44)سورة آل عمران، الآية: 64.
(45)سورة الحجر، الآية: 9.
(46)إن الإسلام الذي مضى عليه نحو ألف وأربعمائة وأربعين سنة، دين عالمي ينص كتابه على أن الدين فطرة في النفس الإنسانية. قال تعالى: فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (سورة الروم، الآية: 30).

[الصفحة - 194]


كما أنَّ النَّبي محمداً(صلى‏ الله ‏عليه ‏و ‏آله ‏و سلم) قد أرسل رسائل إلى ملوك الفرس والروم، يدعوهم فيها إلى الإسلام، فالإسلام ليس بتقاليد وموروثات وآراء وشروح، بل هو فطرة مجردة من كل شائبة تؤدِّي بقواها الذاتية بالإنسان إلى أقوم الطُّرق (47). كما أن الإسلام يُعلن أنّه دين عام للبشر جميعهم من غير أن تكون دعوته خاصَّة بقوم دون قوم، ولا بمكان دون مكان، ولا بزمان دون زمان، قال الله سبحانه وتعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ } (48) . وقال أيضاً: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ الله إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوات وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآَمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِالله وَكَلِمَاتِهِ واطيِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ } (49).
ويرى الأستاذ الشيخ “محمد سعيد رمضان البوطي” (50)أن التَّفاعل الايجابي مع الأمم الأخرى من أولى الواجبات التي جاء بها الإسلام، فيبقول: “أما الخروج إلى العالم من دائرة القوم والإقليم والبلدة، للتعرف على الأمم الأخرى، والتفاعل معها بالإفادة والاستفادة، فذلك من أولى الواجبات التي جاء بها الإسلام، وهو أول الآثار التي حققها الإسلام في حياة العرب، الذين كانوا منطوين على أنفسهم في جزيرتهم العربية طوال عصور الجاهلية.. ولكلمة جامعة: أخرجهم الإسلام من جزيرتهم الضيِّقة، وأدخلهم في العالم الكبير الذي هو الدنيا المعمورة كلها” (51).
ويكمل “البوطي” قائلاً: “وأساس ذلك أن الإسلام.. جاء عالمي النزعة، إنساني المبادئ والقيم، لا يتحيَّز في شرعه ومبادئه لقوم دون قوم، يرسي العدالة العالمية التي يستوي في حكمها العربي والأعجمي، والأبيض والأسود، بل المسلم وغير المسلم. تأمَّل في خطاب الله تعالى في القرآن تجده يتجه إلى الناس جميعاً دون أي تمييز، إن تحدَّث عن العقائد وحقائق الكون وجّه خطابه إلى الناس جميعاً بقوله: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ } أو {يَا بَنِي آَدَمَ } وإن تحدَّث عن الأحكام والشرائع السلوكية، وجَّه خطابه إلى المؤمنين بقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا } ، ولن تجده يخصُّ العرب أو أهل مكَّة، أو المدينة، أو قريشاً، أو أيَّ فئة أو أيَّ قوم من الناس، بأي خطاب يخصهم به دون
________________________________________
(47)وجدي، محمد فريد،”الإسلام دين عام خالد” هدية مجلة الأزهر، الجزء الرابع - السنة (78)، مصر - القاهرة، ربيع الآخر 1426 هـ، مايو/ يونيو 2005م، ج 1، ص: 47.
(48)سورة سبأ، الآية 28.
(49)سورة الأعراف، الآية: 158.
(50)أستاذ العقيدة للدراسات العليا في كلية الشريعة - جامعة دمشق، وعالم ومفكر وكاتب إسلامي شهير.
(51)"الإسلام والعولمة الثقافية"، مجلة المقتطف الثقافي، تصدر عن المركز الإستشاري للدراسات والتوثيق، العدد229، بيروت، 2 تموز 2003م، ص: 26.

[الصفحة - 195]


غيرهم” (52). وأن الرسول الذي جاء بالإسلام هو خاتم النبيين، ثم به عهد الوحي الإلهي، وخلَّى بين الإنسان وعقله فقال تعالى: {مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَانَ الله بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا } (53). فالآية صريحة بأن الإسلام رسالة الله الخاتمة، موجَّهة إليهم جميعاً سواء كانوا من العرب أم لا، فلا دليل على كون الأمة العربية هي المقصودة بالدعوة فقط. نعم اللسان مقصود بالاستقلال للبيـان كما في قـوله تعـالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ الله مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ } (54).
ويصرِّح الإسلام أيضاً بأنه أتاهم بالدين الأول الذي أوحاه إلى المرسلين جميعهم في نص لا يحتمل التأويل، ولا يقبل التحريف: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى المُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ الله يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ } (55).
ولا شك في أن الإسلام دين العدالة والمصلحة العامة الإنسانية، ويدل على ذلك قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِله شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآَنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى واتقُوا الله إِنَّ الله خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ } (56). والإسلام أيضاً دعوة للانفتاح على الشعوب الأخرى، والتعارف في ما بينها، ولكن معيار هذا الانفتاح والتعاون هو البرُّ والتَّقوى، وليس الإثم والعدوان، قال تعالى: {وتعاونوا على البر والتَّقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان } (57).
ويقول الإمام الخامنئي (دام ظله الشريف) بأصالة الوحدة بين بني البشر، ويرى أنَّ الجنس، أو اللون، أو العرق، أو الجنسية، ليست معايير للتفاضل: “وانطلاقاً من التفكير الإلهي الإسلامي، يُعتبر أبناء البشر إخوة وأخوات، الجميع عباد الله، وليس هناك أي امتياز لعرق دون عرق، أو للون دون لون، أو لشعب دون شعب.. فلا تشكل مثل هذه الاعتبارات عاملاً لتفضيل أي فرد أو شعب على غيره. إن البشرية وحدة
________________________________________
(52)م. ن، ص: 27.
(53)سورة الأحزاب، الآية: 40.
(54)سورة إبراهيم، الآية: 4.
(55)سورة الشورى، الآية: 13.
(56)سورة المائدة، الآية: 8.
(57)سورة المائدة، الآية: 2.

[الصفحة - 196]


متماسكة متلاحمة، ومن ثم فإن الاعتداء على فرد واحد من بني الإنسان يعتبر اعتداء على الإنسانية برمتها، بغض النظر عن كل الفوارق الجغرافية، والعرقية” (58).
2- بناء المسجد
هناك عمل آخر باشر النبي(صلى‏ الله ‏عليه ‏و ‏آله ‏و سلم) به فور وصوله إلى المدينة المنورة، وهو بناء المسجد، وكان يعمل فيه بيده الشريفة إلى جانب المسلمين حتى أتموا بناءه، فكان مركزاً للعبادة والتعليم والحكم والإدارة، وكان مأوىً للفقراء ومَعْلَماً حضارياً، ومركزاً روحياً وثقافياً وجهادياً، ومكاناً للتَّعارف والتآلف والوحدة بين المسلمين، وهو مكان صلاة الجماعة، ومقرُّ المجتمع المسلم ورمزه، وعنوان وجوده، وسر عظمته (59).
إن أول مسجد بُني في الإسلام هو مسجد قباء القريب من المدينة، حيث كانت محطة النبي(صلى‏ الله ‏عليه ‏و ‏آله ‏و سلم) الأخيرة في رحلة الهجرة قبل دخوله إلى المدينة وهو المسجد الذي أشار إليه القرآن بقوله تعالى: {لَّمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَن تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَن يَتَطَهَّرُواْ وَاللهُ يُحِبُّ المُتَطَهِّرِينَ } (60).
3- المؤاخاة بين المسلمين
قال ابن إسحاق: “وآخى رسول الله(صلى‏ الله ‏عليه ‏و ‏آله ‏و سلم) بين أصحابه من المهاجرين والأنصار، فقال: تآخوا في الله أخوين أخوين”، ثم أخذ بيد علي بن أبي طالب(عليه ‏السلام)، فقال: “هذا أخي”، فكان رسول الله(صلى‏ الله ‏عليه ‏و ‏آله ‏و سلم) سيد المرسلين، وإمام المتقين، ورسول رب العالمين، الذي ليس له نظير في العباد، وعلي بن أبي طالب(عليه ‏السلام)، أخوين. وكان حمزة بن عبد المطلب، وزيد بن حارثة مولى رسول الله(صلى‏ الله ‏عليه ‏و ‏آله ‏و سلم)، أخوين. وجعفر بن أبي طالب، ومعاذ بن جبل، أخوين. وأبو بكر، وخارجة بن زيد بن أبي زهير، أخوين. وعمر بن الخطاب، وعتبان بن مالك، أخوين. وأبو عبيدة بن عبد الله بن الجراح، وسعد بن معاذ بن النعمان، أخوين (61). وقد آخى بينهم على الحق والمساواة.
وقد حقَّق الرسول(صلى‏ الله ‏عليه ‏و ‏آله ‏و سلم) من هذه الخطوة المباركة أهدافاً عديدة هي:
________________________________________
(58)يعقوب، أحمد، فكر الإمام الخامنئي في القضايا السياسية والاجتماعية، ط1، بيروت-لبنان، الدار الإسلامية، 1422هـ-2001م، ص: 391.
(59)ولكن، وللأسف، فقد أفرغت الأنظمة السياسية الحاكمة في بلاد العرب والمسلمين المسجد من مضامينه، كما حاولت إفراغ الإسلام من مضامينه، ولكن الله تعهد بحفظ هذا الدِّين.
(60)سورة التوبة، الآية: 108.
(61)الحميري، المعافري، عبد الملك بن هشام بن أيوب، السيرة النبوية، م. س، ص: 256.

[الصفحة - 197]


التأكيد على وحدة المسلمين والتمهيد لولادة الأمة الجديدة.
التغلُّب على التناقضات الداخلية القائمة بين الأوس والخزرج من جهة وبين المهاجرين والأنصار، من جهة أخرى، والحد من الاعتبار القبلي.
الحد من الاعتبار الطبقي الاقتصادي وعلاج مشكلة التفاوت في المستوى المعيشي.
التعبير العملي عن مبدأ المواساة والمساواة والعدالة الاجتماعية، وإزالة الشعور بالوحشة والغربة في دار الهجرة، وردم الهوة بين طبقات المجتمع التي كانت سائدة في الجاهلية، فكان في الغالب أحد الأخوين من السادة الأشراف والآخر من المستضعفين أو الموالي، وكان في الغالب أحد الأخوين من المهاجرين والآخر من الأنصار.
تحويل المسلمين الأوائل من مجتمع مفكَّك، يعيش أبناؤه التناقضات والأحقاد والعداوات إلى مجتمع متآلف يعيش المحبة والمودة وتماسك البنيان. وهكذا لم تكن الأخوَّة مجرد شعور نفسي وكلام معسول، بل كانت واقعاً عملياً عاشه المسلمون. كانت الأخوة بذلاً وعطاءً من جانب الغني، وعفَّة وقناعة من جانب الفقير. كان الأنصار عارفين بفضل المهاجرين وتضحياتهم وأسبقيتهم إلى الإسلام وتحمُّلهم شتى أنواع العذاب في سبيل هذا الدين، وفي سبيل الإيمان بالله ورسوله، وكان المهاجرون شاكرين للأنصار صنيعهم، معترفين لهم بفضلهم. لقد كان النبي(صلى‏ الله ‏عليه ‏و ‏آله ‏و سلم) يرغب في نصرة المسلم لأخيه ومعاونته حيث قال: “ما استفاد امرؤ مسلم فائدة بعد فائدة الإسلام مثل أخ يستفيده في الله” (62). لقد كان(صلى‏ الله ‏عليه ‏و ‏آله ‏و سلم) ينهى عن كل ما يؤدِّي إلى التباغض بين المسلمين، فأمرهم بأن لا يتباغضوا، ولا يتحاسدوا، ولا يتدابروا، وأن لا يهجر المسلم أخاه فوق ثلاث. وقد ورد عنه(صلى‏ الله ‏عليه ‏و ‏آله ‏و سلم) أنه كان “إذا فقد الرجل من إخوانه ثلاثة أيام سأل عنه، فإن كان غائباً دعا له، وإن كان شاهداً زاره، وإن كان مريضاً عاده”(63).
________________________________________
(62)ريشهري، محمد، ميزان الحكمة، ج1، ص: 40.
(63)م.ن، ص: 50.

[الصفحة - 198]


4- صحيفة المدينة
وهي معاهدة عقدها النَّبي محمد(صلى‏ الله ‏عليه ‏و ‏آله ‏و سلم) بين المسلمين واليهود، ليكونوا جميعاً مواطنين في وطنهم (المدينة المنورة)، وليأمن المسلمون واليهود في عيشهم المشترك، وليتفرغ النبي الأكرم(صلى‏ الله ‏عليه ‏و ‏آله ‏و سلم) للعدو الأساسي، وهو كفار قريش (64).
5- إعداد القوة العسكرية
لقد أقدم النبي(صلى‏ الله ‏عليه ‏و ‏آله ‏و سلم) على خطوة أخرى على طريق بناء الدولة، وهي خطوة الإعداد العسكري، سواء على مستوى القوة البشرية المُدَرَّبة، أم على مستوى التجهيز كالسلاح، أو الخيل، أو غير ذلك مما تحتاجه القوة المسلحة، وذلك عملاً بقوله تعالى: {وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ الله وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لاَ تَعْلَمُونَهُمُ الله يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنفِقُواْ مِن شَيْءٍ فِي سَبِيلِ الله يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ } (65).
لقد كان لهذه الدقَّة، في التنظيم العسكري، في عهد النبي(صلى‏ الله ‏عليه ‏و ‏آله ‏و سلم)، دور كبير في تحقيق إنجازات عسكرية كبرى وفي مدَّة زمنية قصيرة:
كان النبي(صلى‏ الله ‏عليه ‏و ‏آله ‏و سلم) يستشير أصحابه ويستمع لآرائهم بعناية ولكن القرار الجهادي النهائي كان له وحده، سواء كان قراراً أمنياً أم عسكرياً، إستراتيجياً أم تكتيكياً.
كان النبي(صلى‏ الله ‏عليه ‏و ‏آله ‏و سلم) يختار للجندية الذكور البالغين الذين بلغوا خمس عشرة سنة من العمر، ولم يكن يقبل من هم أصغر سناً، وكان يستعرض الشبان في كل عام، ويسمح لمن تثبت لياقته البدنية بالانخراط في الجيش والمشاركة في الجهاد.
لقد كان شبان المدينة يتدرَّبون على استعمال السلاح وفنون القتال، وكان في المدينة مكان مخصَّص للتدريب. فقد كانت التعبئة الجهادية من مقوِّمات الثقافة العامة للمجتمع الإسلامي آنذاك، بحيث كان غير الخبير بفنون القتال شاذاً عن المجتمع. أما الانخراط الفعلي في العمل العسكري فكان يتم حين تدعو الحاجة، أي حين يقرر النبي(صلى‏ الله ‏عليه ‏و ‏آله ‏و سلم) القيام بحملة عسكرية، أو حين يتهدَّد المدينة خطر الغزو.
________________________________________
(64)وقد تناولنا هذا الموضوع بالتفصيل في مجلة المنهاج، العدد 53، بيروت، ربيع 1430هـ-2009م.
(65)سورة الأنفال، الآية: 60.

[الصفحة - 199]


6- تصنيف الأعداء:
أمَّا في ما يتعلق بدراسة الأعداء وتصنيفهم إلى أصناف معيَّنة بحسب شدة عداوتهم وقوة شوكتهم، وعدم إمكان إنذارهم، فقسَّمهم(صلى‏ الله ‏عليه ‏و ‏آله ‏و سلم) إلى الأقسام الآتية:
- المشركون العرب القرشيون:وهؤلاء هم العدو الأول للمسلمين، وهم أصحاب الشوكة في الجزيرة العربية، وهم أعداء لا يمكن إنذارهم بعدما جرى من إيذائهم المباشر للنبي(صلى‏ الله ‏عليه ‏و ‏آله ‏و سلم) والمسلمين، ولذلك بدأ بالتخطيط لحربهم بدءاً من غزوة بدر الكبرى وانتهاءً بعام الفتح. فقريش هي العدوُّ الأول الذي تنبغي تصفيته، وهذا ليس أمراً سهلاً، نظراً لمكانة قريش في جزيرة العرب، ولقوَّتها العسكرية والاقتصادية، ولذلك خطط النبي(صلى‏ الله ‏عليه ‏و ‏آله ‏و سلم) وهو قائد الأمة ومرجعها لعدة أمور:
أن يكون موقف المسلمين، في معركتهم مع قريش، موقف المدافع لا المهاجم، لئلا يتهم المسلمون - وهم قلّة - بالعدوان على الآخرين من قبل جماهير العرب في الجزيرة.
أن يكون ميدان المعركة بعيداً عن مكة، وقريباً من المدينة قدر الإمكان، لإضعاف معنويات المشركين البعيدين عن بلدهم ومواطن نجدتهم.
أن لا يحاط المسلمون بهالة قريش وعدَّتها وعديدها، بادئ ذي بدء، لئلا يقع في قلوب بعض النَّاس منهم الخوف من قوَّة قريش وجبروتها.
تحفيز المسلمين معنوياً، سواء على مستوى الآخرة ومغفرة الله وجنَّته، أم على مستوى الدنيا ومرغباتها المالية، حيث استولت قريش سابقاً على أرزاقهم.
طمأنة المسلمين إلى أن الله تعالى معهم، ناصرهم، ومؤيِّدهم، طالما هم متَّحدون تحت راية النبي(صلى‏ الله ‏عليه ‏و ‏آله ‏و سلم)، ومطيعين لأوامره ونواهيه.
دفع قريش إلى معركة حربية عاجلة، وحفزها على القتال من دون إبطاء، واستخدام عنصر المفاجأة، والسرعة في التخطيط والإنجاز، وذلك كي لا يتكاثر الأعداء من حول المسلمين وهم لا يزالون قلّة. ونلفت إلى أن انتصار المسلمين في
________________________________________

[الصفحة - 200]


بدر كان مصيبة مقدَّرة على الكافرين، وخلاصاً موعوداً للمؤمنين، فرقاناً يشبه حادثة البحر الأحمر بالنسبة لموسى واليهود.
- اليهود:عدوٌّ يمكن إنذاره إلى يوم قريب، فهم لم يُظْهروا للنبي(صلى‏ الله ‏عليه ‏و ‏آله ‏و سلم) عند مَقْدَمِهِ إلى المدينة إلا البشاشة والفرحة وإن كانت فرحة مزوّرة، وقد هادنهم الرَّسول(صلى‏ الله ‏عليه ‏و ‏آله ‏و سلم) وكتب بينه وبينهم كتاباً يسمى بـ “دستور المدينة أو الصحيفة أو الوثيقة”. ومع ذلك، فقد تناول المستشرق واط النضال العسكري للنبي(صلى‏ الله ‏عليه ‏و ‏آله ‏و سلم) ضد اليهود قائلاً: “حدثت، خلال الأشهر والسنوات التي تلت تغيير القبلة، عدة صدامات مسلحة بين المسلمين واليهود، من السهل جمعها معاً من وجهة النظر التاريخية، ولكن لا يجب الظن، بدون فحص دقيق، أن هذه الحوادث نتجت عن سياسة مقصودة ربما اتبعت في 632م. قبل بدر، وكان هدفها طرد اليهود أو التخلّص منهم” (66). ويتابع واط وصف الأحـداث، فيرى أن محمـداً(صلى‏ الله ‏عليه ‏و ‏آله ‏و سلم) بعـد عودته من بدر، كرَّر دعوته لليهود إلى الإسلام، مع الإشـارة إلى الخسائر الضخمة التي تكبدتها مكة، وأن ذلك مثل على مصير الذين لا يستجيبون لرسالة الله. وكأنه يريد القول: إنَّ محمَّداً هدَّد اليهود بعد أن انتصر في معركة بدر، وأراد(صلى‏ الله ‏عليه ‏و ‏آله ‏و سلم) أن يفرض الإسلام على اليهود بالقوة، بينما يقول القرآن: {لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ } (67).
والحقيقة أن بني قينقاع لم يتحمّلوا انتصار المسلمين في بدر، فاتجهوا نحو نقض العهد والميثاق بينهم وبين الرسول(صلى‏ الله ‏عليه ‏و ‏آله ‏و سلم). ومشهور ما فعلوه مع المرأة المسلمة في سوقهم، حيث كشفوا عورتها، وقتلوا المسلم الذي دافع عنها، وتفاخروا في وجه الرسول(صلى‏ الله ‏عليه ‏و ‏آله ‏و سلم) بقوَّتهم وخبرتهم القتالية. ولعل واط نسي عهد المدينة الذي يخصِّص له فصلاً كاملاً في كتابه، ونسي أنَّ أوَّل ما أعطاه الرسول(صلى‏ الله ‏عليه ‏و ‏آله ‏و سلم) لليهود هو الاستقلال الديني، وأن للمسلمين دينهم، ولليهود دينهم، ولكن يهود المدينة قد سبَّبوا لأنفسهم مأساةً كبيرة وضيَّعوا فرصاً جميلةً!
- المشركون العرب عدا قريش:وهؤلاء قوم يرجى إسلامهم إذا امتدَّت يد
________________________________________
(66)واط، مونتغمري، محمد في المدينة، م. س، ص: 318.
(67)سورة البقرة، الآية: 256.

[الصفحة - 201]


الإسلام في الجزيرة العربية، ولذلك فالأفضل إنذارهم وانتظار قدومهم مسلمين، وهكذا كان، فدخلوا في الإسلام عام الوفود.
- المشركون وراء الجزيرة العربية:كالفرس والروم والغساسنة وغيرهم، وهؤلاء أقوياء وليسوا على تماس مباشر مع المسلمين، أي ليسوا محل ابتلاء، ولذلك انتظر النبي(صلى‏ الله ‏عليه ‏و ‏آله ‏و سلم) إلى أن تقوى شوكة المسلمين، ويستكمل بناء دولتهم وبناء جيشهم، وهكذا كان فقد أرسل لهم الرسول(صلى‏ الله ‏عليه ‏و ‏آله ‏و سلم) الرسل في آخر عهده.
- المنافقون في المدينة:كان لا بد من أن يتعامل معهم النبي(صلى‏ الله ‏عليه ‏و ‏آله ‏و سلم) بحذر شديد، وأن يكون واعياً لمكرهم ومخطَّطاتهم السرية العدائية.
ج - موقف النبي(صلى‏ الله ‏عليه ‏و ‏آله ‏و سلم) من اليهود والمنافقين
ظلّ أكثر اليهود يتظاهرون بالسِّلم للنبي(صلى‏ الله ‏عليه ‏و ‏آله ‏و سلم)، ويسرّون الغدر، ويستغلُّون المناسبات لإثارة الفتن، وانضم إليهم جماعة من المنافقين الذين تظاهروا بالإسلام وأسرُّوا النفاق، كعبد الله بن أبي بن سلول، رأس الشرك والنفاق، وآخرون كزُوَي بن الحارث، وجلاس بن سويد بن الصامت، وأخوه الحارث بن سويد، وبجاد بن عثمان بن عامر، ونبتل بن الحارث، وأبو حبيبة بن الأزعر، وثعلبة بن حاطب، ومُعَتِّب بن قشير، وعباد بن حنيف، وجارية بن عامر بن العطاف وابناه زيد ومُجَمِّع، ووديعة بن ثابت، وخِذام بن خالد، وعمرو بن مالك بن الأوس (68). ولكل من هؤلاء المنافقين قصة مع النبي(صلى‏ الله ‏عليه ‏و ‏آله ‏و سلم) لا يتَّسعُ المجال لذكرها، ولكن أذكر قصة اثنين منهم على سبيل المثال لا الحصر، وهما معتب بن قشير الذي قال يوم الأحزاب: كان محمَّد يعدنا بأن نأكل كنوز كسرى وقيصر، وأحدنا اليوم لا يأمن أن يذهب إلى الغائط، فأنزل الله فيه: {وَإِذْ يَقُولُ المُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ مَّا وَعَدَنَا الله وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُوراً } (69). والآخر هو عبد الله بن أبي بن سلول، الذي انسحب في منتصف الطريق إلى أُحُدْ، ومعه ثلاثماية من رجاله، ولم يزعج نفسه بإخبار محمَّد(صلى‏ الله ‏عليه ‏و ‏آله ‏و سلم)
________________________________________
(68)السيرة النبوية لإبن هشام، م. س، ص: 264-267.
(69)سورة الأحزاب، الآية: 12.

[الصفحة - 202]


بقراره، بالرغم من أن المرتدِّين معه عن المعركة كانوا يمثِّلون ثلث المقاتلين المسلمين، إذ كان عدد المقاتلين الإجمالي حوالى الألف.
لقد كشفت معركة أحد، من خلال الأفعال والأقوال، العدوَّ الحقيقيَّ للمسلمين في المدينة، وهو اليهود والمنافقين. أما اليهود فقد رفضوا الاشتراك في الحرب، بحجَّة أن ذلك اليوم كان يوم سبت، لكن المسلمين كانوا يعرفون جيِّداً أن اليهود كانوا يصلّون من أجل النصر للمكِّيين، وهذا ما ظهر منهم بعد انتهاء المعركة، حيث قالوا: إنَّ محمَّداً(صلى‏ الله ‏عليه ‏و ‏آله ‏و سلم) كان رجلاً طموحاً، دون مؤهِّلات نبوية، فتساءلوا مستهزئين: من سمع عن نبي حقٍّ مُنِيَ بنكسة كهذه؟
أما المنافقون، وعلى رأسهم ابن أبي، فقد كانوا سعداء بهزيمة المسلمين في معركة أحد (70)، حيث أكَّد هو وأنصاره وبصوت عال، أنه لو تم إتِّباع رأيه لما تكبَّد المسلمون هذه الإصابات. ويقول الريشري في ميزان الحكمة (71): “وقد استفاضت الأخبار وتكاثرت في أن عبد الله بن أبي بن سلول وأصحابه من المنافقين، وهم الذين كانوا يقلِّبون الأمور على النبي(صلى‏ الله ‏عليه ‏و ‏آله ‏و سلم)، ويتربصون به الدوائر، وكانوا معروفين عند المؤمنين، يقربون من ثلث القوم، وهم الذين خذلوا المؤمنين يوم أحد” (72). وقد سُمِّي ابن أبي وأنصاره، بعد معركة أُحُدْ، بالمنافقين، ولكن مونتغمري واط يقترح تسميتهم “بالزواحف أو الفئران”، ففي أُحُدَ تسلَّلوا هاربين إلى جحورهم مثل حيوانات صغيرة مذعورة، فقد كانوا جبناء، ولم يكن في تصرِّفهم أي شهامة (73).
وفي هذا السياق، يقول المؤرِّخ “د. إبراهيم بيضون”: إنَّ “حركة النفاق كانت إحدى محصِّلات الهجرة إلى المدينة، ونشأت في ظل التناقضات التي بلغت ذروتها بين المسلمين واليهود، وانعكست بصورة ما على العلاقة بين المهاجرين والأنصار، طامحاً من خلالها ابن أبي إلى اتخاذ موقع سياسي له في المدينة. ولا شك في أن حسم المسألة اليهودية قد أضعف كثيراً هذه الحركة، التي اقتصر مجالها على محاولة اختراق الجبهة الإسلامية، وإذكاء العصبية والإقليمية بين الأنصار (أهل المدينة) وبين
________________________________________
(70)لقد شعر المسلمون بإحباط عميق، وبدأ الشيطان يوسوس لبعضهم: هل كارثة أحد آية على أن الله قد تخلى عن محمد(صلى‏ الله ‏عليه ‏و ‏آله ‏و سلم)؟ لكن القرآن أجاب عن تساؤلاتهم موضحاً لهم في سورة آل عمران أن من الخطأ الاعتقاد بأن الكارثة كانت من فعل الله، بل يجب أن يلوم المسلمون أنفسهم حيث كانوا مشاكسين، ومتمردين، وغير منضبطين، طوال الحملة.
(71)كتاب يجمع بين دفتيه آلافاً من الأحاديث الشريفة من تراث الرسول وأهل بيته الكرام، الثقل الآخر بجنب الكتاب العزيز، فالحديث الشريف هو مفتاح فهم القرآن واستيعاب معانيه والطريق الذي نتعرف من خلاله على هدي قادة الإسلام العظام.
(72)الريشهري، محمد، ميزان الحكمة، ط1، إيران-قم، دار الحديث، 1416هـ، ج4، ص: 3345.
(73)واط، مونتغمري، محمد في المدينة، م. س، ص: 184.

[الصفحة - 203]


المهاجرين (أهل مكة).. وأن الدولة الإسلامية نجحت في استيعابها (أي حركة النفاق)، وتهميش دورها في المدينة، مراعية شخصية زعيمها عبد الله بن أبي” (74).
ويشيد “د. بيضون” بالمناخ السياسي والفكريّ الرَّحب، الذي تقبَّل - برغم الحذر - مثل هذه الحركة طوال تسع سنوات، ما يؤكد صواب السياسة الموضوعية التي انتهجها الرسول(صلى‏ الله ‏عليه ‏و ‏آله ‏و سلم) في مواجهة الانقسام الداخلي، الأمر الذي أدى إلى إعطاء صورة أنموذجية عن مجتمع تسوده الأخوَّة والعدالة والحرية، ولا يلغي بعضه بعضه الآخر (75)، فيشارك الجميع في الحياة السياسية، سواء الموالاة أم المعارضة.
ولا شكّ في أنَّ الإسلام هو دين الرَّحمة والتسامح والمشورة، ولكنه أيضاً دين الحسم والقرار؛ إذ يقول تعالى: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ الله يُحِبُّ المُتَوَكِّلِينَ } (76)، ودين ولاية الأمر والوحدة وإطاعة القيادة؛ إذ يقول الله تعالى في آية أخرى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى الله وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِالله وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا } (77)، ويقول أيضاً:{إِنَّ الله يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ} (78).
ولشدَّة خطورة النفاق والمنافقين على الإسلام والمسلمين، خصَّص الله تعالى لهم، في كتابه العزيز، سورة كاملة تتألَّف من إحدى عشرة آية، عدا الآيات الأخرى المتفرِّقة في سور قرآنية أخرى، فوصفهم الله بالكفر قائلاً: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آَمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ } (79). وفي آية أخرى يؤكد على عداوتهم قائلاً: {وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ } (80).
وهكذا، فقد اهتمَّ القرآن الكريم بأمر المنافقين اهتماماً بالغاً، وذكر مساوئ أخلاقهم، وأكاذيبهم، وخداعهم، ودسائسهم، والفتن التي أقاموها على النبي(صلى‏ الله ‏عليه ‏و ‏آله ‏و سلم) وعلى
________________________________________
(74)بيضون، إبراهيم، الأنصار والرسول (ص)، م. س، ص: 128-129.
(75)م. ن: 129.
(76)سورة آل عمران، الآية: 159
(77)سورة النساء، الآية: 59.
(78)سورة الصف، الآية: 4.
(79)سورة المنافقون، الآية: 3.
(80)سورة المنافقون، الآية: 4.

[الصفحة - 204]


المسلمين، وقد تكرر ذكرهم في السور القرآنية (81)، وقد أوعدهم الله في كلامه أشدَّ الوعيد في الدُّنيا والآخرة، وليس ذلك إلا لشدّة المصائب التي أصابت الإسلام والمسلمين من كيدهم ومكرهم وأنواع دسائسهم، كانسلالهم من الجند الإسلامي يوم أحد، وهم ثلثهم تقريباً، وعقدهم الحلف مع اليهود واستنهاضهم على المسلمين، وبنائهم مسجد ضرار الذي شارك في بنائه بعض هؤلاء فنهى الله نبيه(صلى‏ الله ‏عليه ‏و ‏آله ‏و سلم) عن الصلاة فيه (82)، وإشاعتهم حديث الإفك الذي اتهموا فيه زوجة النبي(صلى‏ الله ‏عليه ‏و ‏آله ‏و سلم) عائشة بالخيانة الزوجية، وإثارتهم الفتنة.. إلى غير ذلك ممَّا تشير إليه الآيات، حتى بلغ أمرهم في الإفساد وتقليب الأمور على النبي(صلى‏ الله ‏عليه ‏و ‏آله ‏و سلم) إلى حيث هدَّدهم الله تعالى بمثل قوله: {لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ المُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لَا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلَّا قَلِيلًا } (83).
وربَّ متسائل عن صبر النبي(صلى‏ الله ‏عليه ‏و ‏آله ‏و سلم) الكبير على عبد الله بن أبي بن سلول، وأصحابه في المدينة ما داموا منافقين، وجوابنا هو أن النبي(صلى‏ الله ‏عليه ‏و ‏آله ‏و سلم) قد واجه هؤلاء المنافقين، في كل محطَّةٍ، كانوا يثيرون فيها الفتنة، ويشيعون فيها الأكاذيب، ويقلِّبون بها الأعداء، لكن مواجهته لهم كانت سياسية ولم تكن عسكرية لأسباب عديدة نذكر منها:
إنَّهم يشكلون نسبةً لا بأس بها من سكَّان المدينة فهم ليسوا بقلّة.
إنَّ زعيمهم ابن أبي كانت له مكانته في قومه، وكان يطمح إلى زعامة العرب في المدينة، وقد انتهى حُلمه بمجيء رسول الله(صلى‏ الله ‏عليه ‏و ‏آله ‏و سلم) وهجرته إلى المدينة.
إنَّ النبي(صلى‏ الله ‏عليه ‏و ‏آله ‏و سلم) كان يواجه التهديد السياسي بالعمل السياسي، والتهديد العسكري بالعمل العسكري، ولم يكن يُصَعِّد موقفه من البداية، وهذا ما يتناسب مع رحمة الإسلام والدَّعوة إليه.
إنَّ مجتمع المسلمين في المدينة كان لا يزال في بداية تكوينه، ويحتاج إلى وقت لتستقر أموره ويتماسك ويقوى.
إنَّ النبي محمداً(صلى‏ الله ‏عليه ‏و ‏آله ‏و سلم) كان يعمل بحسب ترتيبه للأولويات، فكان يرى أن تفرُّغه لمواجهة خطر قريش من جهة، ويهود المدينة الذين نقضوا العهد والميثاق من جهة أخرى، أهم من مواجهة المنافقين عسكرياً.
________________________________________
(81)كسورة البقرة، وآل عمران، والنساء، والمائدة، والأنفال، والتوبة، والعنكبوت، والأحزاب، والفتح، والحديد، والحشر، والمنافقون، والتحريم.
(82)سورة التوبة، الآية: 107- 109.
(83)سورة الأحزاب، الآيات: 60-61.

[الصفحة - 205]
 
فروع المركز

فروع المركز

للمركز الإسلامي للدراسات الإستراتيجية ثلاثة فروع في ثلاثة بلدان
  • العنوان

  • البريد الإلكتروني

  • الهاتف