الباحث : السيد محمد رضا الحسيني الجلالي
اسم المجلة : تراثنا
العدد : 35
السنة : السنة التاسعة / ربيع الآخر ـ رمضان سنة 1414 هـ
تاريخ إضافة البحث : January / 12 / 2015
عدد زيارات البحث : 2581
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين سيدنا محمد خاتم النبيين ، وعلى الأئمة الصادقين من آله الطيبين ، وعلى الأخيار من الصحابة ، والتابعين .
تجتاح البلاد الإسلامية موجة من الصحوة والوعي والتحرك ، تكونها الجماهير المسلمة ، المؤمنة بدينها ، المحبة لأوطانها ، والتي تيقظت من سباتها الطويل ، بعد غياب وذهول عن ما يملكه الإسلام من مقومات حضارية ، وبعد أن ثبت لها بالعيان وبالتجربة الحية ، والمعاناة الطويلة القاسية ، فشل كل النظم والقوانين وأساليب الحياة غير الإسلامية ـ سواء الشرقية منها أم الغربية ـ وإخفاق كل دعاة العلمنة والهلوسة الغربية ، والتحضر الأوربي ، من تقديم أية خدمة تنجد الأمة أو تقلل من مآسيها .
-------------------------------------
(1) قراءة نقدية لكتاب (تدوين السنة) تأليف (إبراهيم فوزي) نشر : رياض الريس للكتب والنشر ـ الطبعة الأولى ـ كانون الثاني / يناير 1994 ـ لندن .
(الصفحة 7)
وكانت عودة الجماهير إلى الحضارة الإسلامية ، عودة حميدة مجيدة ، تحتوي على قوة العزيمة والتصميم والجد والوعي والمعرفة التامة .
ولقد ذهل الاستعمار بهذه العودة ، بعد أن دأب قرنا من الزمان في العمل على إبعاد الأمة الإسلامية عن دينها ، وبث روح اللهو واللعب والتفاخر والتكاسل بين جيل الشباب إلى حد الارتماء في أحضان الرذيلة والفساد والعبثية .
وقد أثارت هذه العودة إلى الإسلام سخط الاستعمار ـ شرقيه وغربيه ـ فجند أجهزته الظاهرية والسرية ، ولجأ إلى القمع والاتهام ، والضغط السياسي والاقتصادي ، ومن خلال عملائه الحاكمين على بلدان المنطقة ، وبأجهزة الأمن والاستخبارات والمباحث في داخل البلاد وخارجها ، لإيقاف المد الإسلامي الظافر ، وإخماد نور الصحوة الإسلامية المجيدة .
ومن الأساليب التي ينفذها هو (بعث) شراذمة من أولاد البلاد الإسلامية والمنتمين إلى لغاتها ، من الجيل المتعلم في مدارس الغربيين ، أو على مناهجهم الدراسية ، والمتربين على الثقافة الغربية المادية ، والذين غسل المستشرقون أدمغتهم ، وفرغوها عن كل ما هو إسلامي ، ولقنوهم حب الغرب والانبهار بكل ما فيه ، فدفعوهم في هذه الفترة بالذات ليكونوا أدوات تحريف لأفكار الشباب المعاصر في البلاد الإسلامية ، لصدهم عن اللحوق بهذه الصحوة ، وحذرا من أن ينتبهوا إلى ما يملكه الإسلام من قدرات خارقة عظيمة في الفكر والتشريع والأخلاق ، والحضارة .
فراح أولئك العملاء الجدد يشوهون سمعة هذا الدين ويزيفون ما يمت إليه من خلال كتابات تهريجية ومزورة ، ملؤها الكذب على الإسلام وأهله والقذف للجيل المتحرك لإعلاء كلمته ، ولا تخلو صفحة من كتاباتهم من الاتهام والهراء ضد مقدسات الأمة ، والتعدي على أصوله وفروعه ، وتراثه وتاريخه ، بعقلية تزييفية ، وبصورة بشعة ، إلا أن أعمالهم تحمل عناوين غارة
(الصفحة 8)
من قبيل (التحقيق) و (البحث) و (الدراسة) و (النقد) وما إلى ذلك من عناوين جذابة ومغرية للشباب المشتاق للمعرفة والمحب للاطلاع .
وقد صدرت في هذه الفترة بالذات كتابات تستهدف السنة الشريفة لكونها من مصادر المعرفة في الإسلام ، بأقلام تستهدف تزييف السنة وتعطيل أثرها الهام في التعريف بالإسلام وتحديد قضاياه وأحكامه .
ومما صدر أخيرا كتاب (تدوين السنة) لإبراهيم فوزي .
ولما في عنوانه من الإثارة ، وما يحتويه من تحريف وتزييف ، وما قام به مؤلفه من تخط وتعد على أعراف العلم وموازين الكتابة ، فقد عرضنا ما لاحظناه عليه خلال الفصول التالية :
1 ـ مع موازين الكتابة .
2 ـ مع مؤدى العنوان .
3 ـ مع مؤشرات الهدف .
(الصفحة 9)
1 ـ مع موازين الكتابة
* موازين الكتابة :
إن من الأمور المتفق عليها ضمنيا في فن الكتابة العلمية هي تلك الموازين المقررة ، والملتزم بها عمليا ، والمنادى بها ولو بالشفاه المطبقة ، والتي تعد (عرفا) للكتاب ، وقد أملتها الحاجة إلى نظام في ما يقرأ ، قبل أن يكتب ، وإن كان الكاتب ـ في عصر الطغيان على الموازين ـ لا يرى نفسه ملزما بكل ما هو (إجماعي) أو (عرف) حتى لو كان معلنا ، فكيف إذا لم يحاول أصحاب (المصلحة) أن يعلنوه ، أو يسجلوه ؟ !
ولكن ضرورات من قبيل (تصنيف الكتاب) في المكتبة ، ليأخذ موضعه المناسب ، حتى يتناول بيسر وسرعة ، أمر لا يمكن تجاوزه ، لأي غرض كان لأنه ـ فعلا ـ من الثوابت التي لا خلاف فيها ، إذا أريد للكتاب أن يكون متداولا علميا ، وبالخصوص إذا تناول ظاهرة بالدرس والتحليل ، خارجا عن أطر الإعلام والخطابة ! وإذا أراد الكاتب أن يكون باحثا منهجيا ، بعيدا عن وهدة (الارهاب الفكري) و (العبث بالفكر) التي ابتليت بها التيارات العلمانية في العالم العربي خاصة ، إذ تسيطر هي على قطاع كبير من قرائه المثقفين ، بهدف تزييف ما يمت إلى شعوب المتكلمين بالعربية ، أو الذين يفكرون على أساس مصادرها الثقافية والفكرية ، والذين يشكل المسلمون غالبيتهم العظمى !
مع أن من أوضح ما يميز الكتاب الذي يتناول موضوعا فكريا أو تراثيا ، ويراد له أن يكون خارجا عن إطار (الارهاب) أن يتخذ أسلوب (التوثيق المرجعي) والالتزام بالموضوعية ، على طول الخط ، من أول جرة قلم ، وحتى نهاية المطاف .
(الصفحة 10)
* بين الأهداف المعلنة ، والنيات المبطنة :
ثم إن تحديد المؤلف لغرضه الذي تعنى من أجله للكتابة ، لا أنه يدخل في تلك الموازين ، فحسب ، بل هو ضرورة للإسراع في تفاعل القارئ مع الكتاب ، ودرك الكلمة المكتوبة ، في سياق موضعها من جملة المؤلف ، وفي سطور الصفحة ، وصفحات دفتي الكتاب ، تفاعلا لا بد أن يرغب المؤلفون فيه ، فيقدمونه أمام كتبهم .
وليست صفحات الكتاب الذي يعالج مشكلة مستفحلة علمية أو تراثية ، مجالا للبهلوانيات ، حتى تكون السرعة ـ وكذا الاقتحام ـ فيها مطلوبة ، إلا في صورتها الشائعة في الكتابات المعاصرة .
والكاتب الذي يقدم مادته (بكل حياد وتجرد) لا يتخوف من قرائه ، تماما كالطبيب الحاذق الذي لا يخاف من عدوي المرضى الذين يباشر علاجهم ، وهم يراجعونه ، ليجدوا الشفاء على يديه ، مهما كان نوع المرض ، ومهما كان خطرا .
وإذا كان الطبيب يتوجس خيفة في نفسه ، من مرضاه ، فخير له أن يغلق (المطب) ولا يكلف نفسه عناء الإعلانات الفضفاضة حول مهارته في العلاج ، خصوصا إذا لم تكن عنده الخبرة الكافية ، ولا التخصص ، بل ولا عارفا ب (جس النبض) ، بل جاهلا بأصول العلم ، وبمصطلحات الأطباء ، وأسماء الأدوية ! !
أما إذا كانت اللافتة التي ينصبها على باب (العيادة الطبية) تحمل عنوانا ضخما ، مغريا للمرضى ، بينما هو يعنى بتخصص آخر ، ويبطن من إعلانه المزور هدفا غير طبي ، فإنما يعد في عرف المهن (دجالا) وليس عمله إلا (ابتزاز) و (خيانة) !
(الصفحة 11)
* عناوين الكتب مفاتيح لتصنيفها :
إن عناوين الكتب ـ سواء الكبيرة ، أم الثانوية التي توضح أبعادا أوسع ـ إنما هي الأبواب التي يدخل القراء من خلالها إلى أعماق المدينة المؤلفة من الكلمات والسطور والصفحات ، فيحدد موقفه منها خلال نظره ، فمن (الابتزاز) أن يحاول المؤلف الايحاء بالعنوان إلى غير ما يحتويه الكتاب ، وإغراء القارئ بشرائه أو قراءاته ، فهذه طريقة مقبوحة ومستهجنة ، تحتوي على استهلاك الكلمة التي تشكل العنوان ، وعلى حساب الفكر ، وتوتر القراء ، وهو نوع من (الدجل الفكري والثقافي) .
فلو قيس عنوان (تدوين السنة) الذي وضعه المؤلف إبراهيم فوزي على كتابه ، إلى الغرض الذي تابعه من (المقدمة) وحتى آخر صفحة بعنوان (الخاتمة) والتي صرح فيها بالغرض واضحا ، يجد أنه (لا يشي عنوانه بأهميته) عند البعض ، إن اعتبر ذلك (إحدى حسناته) إلا أنه تجاوز لما ذكرنا من موازين الكتابة العلمية ، مهما أحسنا الظن به !
فإن العلوم الإسلامية ، والمعارف التي تتمحور حولها ، قد تضخمت ، وتوسعت على مدى المدة الفاضلة بيننا وبين المصادر الأساسية ، و (السنة) لكونها عند المسلمين واحدا من تلك المصادر ، بل أوسعها ، لم تخرج من دائرة هذه الحقيقة ، بل تكثفت الجهود حولها ، وشكلت لمعالجة قضاياها وجمع خصوصياتها علوم عديدة هي : (علم الحديث) و (علم المصطلح) و (علم الرجال) مضافا إلى ما يتفرع عن كل من مباحث ، وتخصصات ، استغرقت جهودا مبثوثة ، وأخرى منتشرة بشكل استطرادي في علوم أخرى .
ومن أهم البحوث المصيرية المطروحة حول (السنة) هو البحث عن حجيتها ، ومدى تأثيرها في إثبات المعارف الدينية ، وقد قام منذ القديم حول ذلك جدل كبير ، لما يترتب على نتيجته من آثار عملية مباشرة في حياة
(الصفحة 12)
المسلمين وتحديد المعارف عقيدة وتشريعا وتاريخا .
وإذا كانت (حجة) فإن بحوثا أخرى تستتبع في الثقافة الإسلامية ، واستتبعت ـ ولا تزال ـ جهودا كبيرة من قبيل : ما هي السنة ؟ وتحديد مداها ؟ وتاريخها ، لتحديد نصها ؟ ويدخل في هذه الناحية تاريخ (تدوين السنة) .
فمن هنا يمكن أن نرى عنوان (تدوين السنة) بارزا عندما تكون (حجية السنة) أمرا مفروغا عنه ، وإلا فيكون البحث عن التدوين ، ترفا فكريا ، إذ لا يترتب عليه أثر علمي ولا عملي ، ولا يدعو إلى الاهتمام به في المأزق الثقافي الراهن .
ولقد كان علماء المسلمين على قدر كاف من الدقة إذ عنونوا لحجية الحديث والسنة في مجال (الحجج الشرعية) ووسائل إثبات الحكم الشرعي من بحوث علم أصول الفقه ، وعنونوا لبحث (تدوين السنة) في مجال تاريخ الحديث ، وفي بحوث علم مصطلح الحديث ، إلا أن سعة مباحثه ، وأهميته ، لكونه الأرضية الموطدة لما يبنى عليها من عناوين وبحوث ، استدعت المؤلفين إلى الاستقلال بالبحث عنه منذ القدم ، فأقدم ما في المتناول من المؤلفات حول تدوين السنة ، كتاب الخطيب البغدادي (ت 463) بأسم (تقييد العلم) المطبوع محققا مع مقدمة واسعة وافية من عمل الدكتور يوسف العش ، السوري ، وأحدث عمل تكاملت فيه النظريات المطروحة على طاولة البحث وهو كتاب (تدوين السنة الشريفة) الصادر في قم سنة 1413 من تأليف كاتب هذه السطور .
أما كتاب (تدوين السنة) لإبراهيم فوزي ، الذي نقدم قراءة عنه ، فهو آخر ما صدر يحمل هذا العنوان ، على الرغم من أنه لا يعنيه مباشرة ، إلا بصورة جزئية ، مما يثير إرباكا لدى القارئ ، فإذا صدق قول أبي الفتح البستي (وأول مقروء من الكتب عنوان) فأن عنوان كتاب فوزي يوحي أن يكون خاصا بالبحث عن الموضوع ، بينهما المهمة الأساسية التي يتصدى لها الكتاب هي غير ذلك ،
(الصفحة 13)
بل هي : نفي الاعتماد على السنة مصدرا للتشريع ، وأن اعتمادها سبب ـ حسب اعتقاد المؤلف ـ إرباكا في الفقه الإسلامي ، أدى إلى وجوه المذاهب المتعددة ، والطوائف المتفرقة .
ومع قناعتنا بحرية الكاتب في اتخاذ هدف معين لعمله ، من دون أن يكون لأحد حق في تحديده ، إلا أن تقنعه بقناع (تدوين السنة) للوصول إلى هدف يبتعد عن هذا العنوان ، أمر لا يبتعد عن الريب والإثارة ، شاء الكاتب أم أبى ! فمن ناحية حضارية ، فإن الإصدارات التي تستعمل هذا الأسلوب ، تؤدي إلى فقدان الشخصية الثقافية ، بين المجتمع العلمي ، حيث إنه إسقاط لقيم العناوين ، وتلاعب باستخدامها ، في الوقت الذي تستدعي موضوعية البحث الذي يراد له أن يكون هادفا وعلميا ، كونه مجردا عن (الدجل * وبعيدا عن (العبثية) .
فالمطلوب : الدقة الكاملة في انتخاب العناوين ، واستخدامها ، بدلالات واضحة على المحتويات ، وإيصالها إلى الأهداف ، بصدق وأمانة ، وإلا كانت نماذج من (التضليل الثقافي) المنبوذ .
أما من الناحية الأدبية ، فإن تفويت الفرص على القراء والمراجعين ، وجرهم إلى قراءة ما يرغب فيه الكاتب ، وبطريقة الاغراء من خلال عنوان الكتاب ، أمر يعتبر استهتارا مفضوحا .
إن ما يرتبط بعنوان (تدوين السنة) إنما هو القسم الأول من الكتاب ، ذي الأقسام الثلاثة ، بينما القسم الثاني يبحث عن (علوم الحديث) والثالث يتركز فيه البحث عن الأحكام الشرعية المتعددة على السنة ، بعنوان (السنة بعد التدوين) .
ومجموع ما يحتوي على القسم الأول هي الصفحات من 27 ـ 141 ، وفصوله ستة ، وما يرتبط منها بالتدوين ، الثاني ، ص 37 ـ 48 ، بعنوان (النهي
(الصفحة 14)
عن تدوين السنة) ، والثالث * ص 48 ـ 56 ، بعنوان (إمساك الصحابة عن تدوين السنة) والرابع ، ص 57 ـ 64 بعنوان (إباحة تدوين السنة) ومجموع صفحات هذه الفصول 27 صفحة فقط ! !
أما الفصل الأول فهو بعنوان (تعريف السنة) والخامس بعنوان (الكذب على النبي (ص) وأسبابه) والسادس بعنوان (الاجتهاد في الفقه الإسلامي) وارتباط هذه الفصول ، بتدوين السنة ، فهو برابط القسم الأول بالأقسام الأخرى من الكتاب ، وهو وحدة الغرض الجامع بين الأقسام وفصوله ، والذين أشرنا إليه ، وسنتحدث عنه بتفصيل .
فالبحث عن (تدوين السنة) الذي يشغل فقط 27 صفحة من أصل 384 صفحة هي عدد صفحات الكتاب ، لا يمثل لوحده محتوى الكتاب ، إذ تبقى 357 صفحة من الكتاب بعيدة عن العنوان !
فهل يخلو مثل هذا العمل من محاسبة ؟ ! أو يتطابق مع عرف الكتابة العلمية ؟ ! أو يخدم القراء بصدق ؟ ! وهل روح (المنهج النقدي) الذي التزمه الكاتب تسمح بهذا التصرف ؟ !
* بين مؤدى العنوان ، ومؤشرات الهدف :
وتعقيبنا هذا على كتاب (تدوين السنة) يدور على طرفي : العنوان ، والهدف ، في فصلين :
1 ـ فقد فصلنا بين الملاحظات التي تجمعت حول الكتاب فيما يخص (تدوين السنة) من بحوثه ، بما في ذلك منهج المؤلف في التوثيق ، واستخدام المصادر ، وما أثاره في هذا المجال ، فذكرناها تحت عنوان : (مع مؤدى العنوان) .
2 ـ وجمعنا الملاحظات حول ما أثاره في مجال غرضه من تأليف الكتاب والإشكاليات التي تابعها في مصدرية السنة لأحكام الشريعة ، وتزييف ما أخذ اعتمادا عليها ، فذكرناها تحت عنوان (مع مؤشرات الهدف) .
(الصفحة 15)
2 ـ مع مؤدى العنوان
* حياد أو انحياز ؟
إن الكاتب ، وعلى الرغم من دعواه عرض البحث بكل حياد ، وتجرد ، لم يكن حياديا في عرضه ما يرتبط بمسألة (تدوين الحديث) بالذات .
فمثلا ، نجد انحيازه واضحا عندما يعرض أدلة الطرفين حول (تدوين السنة) إثباتا ونفيا ، فيذكر في ص 42 بعض أدلة إباحة التدوين ، ويحاول في الهامشين 14 و 15 إيراد تضعيفها أو إسقاط رواتها ، ولكنه لما يذكر أدلة المنع ـ وقد بادر بذكرها في الأسبق ـ في بداية الفضل الثاني الذي عقده للبحث عن (التدوين) فهو لا يشير إلى أية نقطة ضعف في أدلة المنع ، ولا خدشة في رواتها !
ونفس عمله في عنوان الفصل الثاني ، المعقود لجمع أدلة الطرفين ، لكنه عنونه ب (النهي عن تدوين السنة) يتم عن روح الانحياز والتطرف إلى جهة المنع ، وكذلك عنوان الفصل الثالث الذي يليه وهو (إمساك الصحابة عن تدوين السنة) وأما الفصل الرابع المعنون (إباحة تدوين السنة) فهو يعنى بفترة ما بعد القرن الأول ، مع أنه قد بدأه بقوله :
(مضى القرن الأول للهجرة ولم يدون من السنة شيء ، كما جمع القرآن ، ولم يعرف عن أحد من الصحابة والتابعين أنه دون صحيفة أو كتب كتابا يحوي أحاديث النبي (ص) وسننه ، سوى ما روي عن بعضهم أنهم كتبوا لأنفسهم أحاديث عن الرسول لكي يحفظوها ، ثم أتلفوها . . .) .
إن هذه البداية تكشف بمنتهى الوضوح عن انحياز الكاتب إلى ما يهواه من إثبات عدم التدوين .
(الصفحة 16)
* حديث النهي لا يحتج به :
إن عمدة ما استدل به القائلون بأن السنة لم تدون في العصر الأول هو حديث أبي سعيد الخدري ، الذي ذكره مسلم في صحيحه ـ دون البخاري ـ وافتتح به المؤلف الفصل الثاني ـ ص 37 ـ وظلت صورته عالقة بقلمه إلى آخر البحث ،مستنداً موثوقاً ، بينما هو حديث (معلل) حسب اصطلاح علماء الحديث، لا يصح الاحتجاج به لإثبات شيء ، وهو ما يدور النص فيه بين أن يكون من كلام النبي صلى الله عليه وآله وسلم فيسمى (المرفوع) وهو حينئذ حجة ، وبين أن يكون من كلام أبي سعيد نفسه ، فيسمى (الموقوف) فلا يكون حجة ! لأنه حينئذ يدخل كطرف في النزاع بين الصحابة المجوزين والمانعين ، في أمر التدوين ، فلا يشكل حجة على الطرف المعارض للمنع .
وتعليل الحديث ـ المسقط له عن الاحتجاج ـ بدورانه بين الوقف والرفع مذكور في مصطلح الحديث وفي الكتب الخاصة ب (علل الحديث) .
والمؤلف إبراهيم فوزي نفسه ، واقف على الفرق بين مصطلحي (المرفوع) و (الموقوف) وقد أيد معارضة القول بأن (الموقوف الذي لا مجال للرأي فيه له حكم المرفوع) وأن ذلك ليس كلاما يوجب الاغترار به ، كما في ص 176 هامش 6 . إذن ، فلماذا يغتر هو بهذا الحديث ، ويغرر قراءه ، فيكرر الاستناد إليه ، ولا يشير إلى هذه العلة القادحة في حجيته ، لا من قريب ولا من بعيد ؟ !
ثم إن موقفه من رأي أهل البيت عليهم السلام وموقفهم من مسألة تدوين الحديث لا يخلو من تقصير ، إذ لا نجد في كتابه إيعازا إلى ذلك ، سوى ما رواه من خطبة الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام ، أنه خطب مرة فقال : (أعزم على كل من كان عنده كتابة عن رسول الله ، إلا رجع محاها ، فإنما هلك الناس حيث اتبعوا أحاديث علمائهم وتركوا كتاب ربهم) ومصدره : سنن الدارمي
(الصفحة 17)
ج 1 .
ذكر ذلك في تدوين السنة ، ص 53 ـ 54 ، والهامش 16 . وقيل أن نناقش في سند الحديث ودلالته ، فإن ما نقله عن سنن الدارمي لم نعثر عليه ، وإنما الموجود هو في مصنف ابن أبي شيبة 9 / 52 ، ورواه القرطبي في جامع بيان العلم 1 / 63 وجاء بالنص الآتي : (أعزم على كل من كان عنده كتاب ، إلا رجع فمحاه ، . . .) إلى آخر الحديث ، فليس فيه (كتابة عن رسول الله) .
فهل تعدى الانحياز عند الكاتب إلى الخيانة ؟ !
ولم ينحصر المنقول عن الإمام علي عليه السلام بهذا الحديث ، بل إن مجموعة كبيرة من الروايات الدالة على تأكيده على الكتابة وحثه عليها مشهورة ومنقولة في جميع المصادر ، وكلها تدل على أنه عليه السلام كان رائد المبيحين لتدوين الحديث ، ولم ينقل عنه خلاف ذلك سوى هذا الحديث ، فإهمال الكاتب لكل تلك المجموعة ، وذكره هذا الحديث فقط ، يدل على ماذا ؟ !
أما هذا الحديث فقد ثبت بطلانه وفساده ، سندا ودلالة من أوجه كثيرة أثبتناها في دراستنا على الموضوع (1) .
* الإيحاءات المحرفة :
ويتبلور انحياز المؤلف إلى طرف المنع عن التدوين ، في تأكيده بشتى العبارات على الايحاء بأن النهي عن التدوين هي الحقيقة الثابتة ، وأن إباحة التدوين جاءت متأخرة ، فمثلا يفتتح الفصل الثالث المعنون (إمساك الصحابة عن تدوين السنة) فيقول في ص 49 :
تمسك الصحابة بعد وفاة النبي (ص) بحديثه الذي نهى فيه عن
------------------------------------
(1) تدوين السنة الشريفة : 190 ـ 195.
(الصفحة 18)