الباحث : أ. خلاف الغالبي
اسم المجلة : مجلة المنهاج
العدد : 33
السنة : السنة التاسعة ربيع 1425هجـ 2004 م
تاريخ إضافة البحث : December / 16 / 2015
عدد زيارات البحث : 4912
الإعجاز القرآني والتَّفسير العلمي
علاقة زائفة أم جدل منطقي
أ. خلاف الغالبي (*)
مـــدخــــل
عن أبي هريرة، عن النبي (صلي الله عليه و آله و سلم) قال: «ما من الأنبياء نبيٌّ إلَّا اءُعطي من الآيات ما مثله اءُومِنَ ـ أو آمن ـ عليه البشر، وإنما كان الذي أوتيته وحياً أوحاه الله إليَّ، فأرجو أنّي أكثرهم تابعاً يوم القيامة» (1). من هنا يتَّضح أنّ الأنبياء والرُّسل السَّابقين قد أيَّدهم الله بمعجزات حسِّية خاصة بأقوامهم، وفي الحدود الزمانية والمكانية لدعواتهم. في حين اءُوتي نبيّنا الأكرم محمد (صلي الله عليه و آله و سلم) معجزة القرآن مؤيِّدة له على قومه، ودليلًا على صدق نبوَّته، متحدّية الإنس والجن، على مرِّ الأزمنة والعصور، أن يأتوا بمثلها، يقول القرآن: {قل لئن اجتمعت الإنس والجنّ على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهير}[الإسراء/88]؛ لذلك كان رجاء نبيِّنا (عليه أفضل الصلوات والتسليم) أن يفوق المؤمنون برسالته من آمن بالنبوَّات والرسالات السابقة.
ونظراً للعناية الكبيرة التي عرفتها هذه المعجزة الخالدة من المسلمين على مرِّ الأجيال: تلاوةً، وحفظاً، وفهماً، ودراسة، ومدارسة.. فقد أدى ذلك إلى ظهور عدد من العلوم والمعارف، نضع على رأسها ما اصطُلح عليه بعلوم القرآن: من مكِّيه ومدنيِّه، ومحكمه ومتشابهه، وعامّه وخاصّه، ومطلقه ومقيّده، وعلم تفسيره، واستنباط أحكامه، وأسباب نزوله، وعلم قراءاته... وكان من بين علومه التي انبثقت، نتيجة لهذه العناية المتميزة، ما يعرف بإعجاز القرآن.
________________________________________
(*)باحث من المغرب
(1)رواه البخاري في جامعه، ح 4696، كتاب فضائل القرآن، وكرّره في ح 6846، كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة.
[الصفحة - 251]
عناية المسلمين بالإعجاز القرآني
لقد مضى عصر النبوَّة، ومدَّة عهد الأمويين، وشطر كبير من عصر العباسيين، من دون أن يتعرَّض أحد لقضية الإعجاز القرآني. وما كان ذلك إهمالًا لشأن القرآن، ولا تقصيراً في حقِّه، وإنَّما إعظاماً لأمره وتهيُّباً لمقامه، وصوناً له من أن يكون غرضاً للآراء والأهواء، وميداناً للجدل والخلاف.
ويرى صاحب المزهر أنّ النَّاس، في ذلك الوقت، لم يتعرضوا لقضية الإعجاز؛ لإيمانهم وإدراكهم بأنّ القرآن من عند الله، وهو معجزته التي أيّد بها رسوله محمداً (صلي الله عليه و آله و سلم) ، فلا ينبغي الخوض في مسائله لما يكتنف ذلك من المخاطر، وسبب ثالث ومهم جداً هو تذوُّقهم الفطري لبلاغة القرآن وإعجازه، فاستغنوا بذلك عن البحث في معانيه (2).
لقد كان الذَّوق الفطري والملكة اللغوية وسيلتهم الأولى في إدراك الإعجاز القرآني، فقد كانوا «عبدة البيان قبل أن يكونوا عبدة الأوثان، وقد سمعنا من استخفّ منهم بأوثانهم، ولم نسمع قط منهم من استخفّ ببيانهم» (3).
ثم ظهر، بعد ذلك، في مجتمع المسلمين، بعض المشكِّكين، فكثر القول في القرآن وإعجازه، وقال بعضهم بخلقه. فكان واجباً على علماء الإسلام أن يهبوا للدفاع عن معجزة نبيهم؛ لنفي الشبهات عنها، ولرد كيد الأعداء والمغرضين، مصداقاً لقوله عليه الصلاة والسلام: «يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله ينفون عنه تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين» (4).
إنّ دراسة إعجاز القرآن اتَّجهت، في أوَّل أمرها، وجهة البحث في وجوه أخرى غير الإعجاز، هي الدِّفاع عن القرآن ونفي ما أثاره الطاعنون فيه من أكاذيب وأباطيل.. وقد سلك العلماء، في ردّهم على هذه الدعاوى الباطلة، طريقين، أولهما: كلاميّ، يردّ على الطاعنين بالرأي والحجة، وثانيهما: لغوي، يكشف جوانب الإعجاز في النص المنزل (5) . ويبيِّن الجدول الآتي أهم المصادر التي عُنِيت بقضية الإعجاز في القرآن. وإذا كان هؤلاء المدافعون عن قدسية النص القرآني متفقين على إعجازه، فقد اختلفوا في تحديد وجوه هذا الإعجاز. ففريق جعل وجوه
________________________________________
(2)انظر: «نظرية الإعجاز القرآني وأثرها في النقد العربي القديم»، ص 25 ـ 27.
(3)انظر: مجلة عالم الفكر، المجلد 31، العدد 2، ص 18.
(4)ذكره ابن الموّاق المغربي في كتابه «بغية النقاد»، وأخذه عنه العراقي في شرحه مقدمة ابن الصلاح. انظر: «المنهج الإسلامي في الجرح والتعديل»، ص 168.
(5)نظرية الإعجاز القرآني وأثرها في النقد العربي القديم، ص 30 ـ 32.
[الصفحة - 252]
الإعجاز القرآني معدودة محصورة، كالسَّكاكي الذي يرى في «مفتاح العلوم» أنها وجوه خمس.
وآخر يرى أنها متعددة لا تنحصر في وجه من دون آخر، يقول ابن قيِّم الجوزية في مقدمة «الفوائد المشوقة إلى علوم القرآن وعلم البيان»: «وأودعه من الإعجاز ما لا ينحصر بحصر حاصر ولا بعدِّ عادٍّ».
ونقل السيوطي أنّ بعض العلماء قد أنهى وجوه الإعجاز إلى ثمانين وجهاً، ثم قال: «والصواب أنه لا نهاية لوجوه إعجازه...» (6).
جدول
جدول بأهم المؤلفات التي اهتمت بقضية إعجاز القرآن بين القرنين الرابع والعاشر الهجريَّين
________________________________________
(6)المصدر نفسه، ص 95 ـ 97.
[الصفحة - 253]
ويشكل الوجه البياني أو «النظم القرآني» الوجه الوحيد الذي أجمع القائلون بإعجاز القرآن عليه، إلا ما كان من بعض المعتزلة القائلين بالصرفة، ومن سار على دربهم، أو ما ذهب إليه مالك بن نبي من أن الإعجاز البياني كان مرحلة من مراحل تطور الإعجاز القرآني قد انصرمت (7) .
والأدلَّة على هذا الوجه الإعجازي للقرآن كثيرة ولا مجال لحصرها، وسنكتفي بذكر بعض الأمثلة الدالَّة على إعجاز بيان القرآن وسحر نظمه، كقصة إسلام عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) نتيجة لسماع بعض الآيات من سورة طه في لحظة انتباه عقل، ويقظة ضمير، ورقة حال، أو ما كان من الوليد بن المغيرة ـ وهو بشهادته على نفسه أعلم قريش بالشعر ورجزه وقصيده ـ عندما قال، بعدما سمع رسول الله يتلو القرآن، وهو يصلي عند الكعبة: «والله لقد سمعت من محمد آنفاً كلاماً ما هو من كلام الإنس ولا من كلام الجن، وإنّ له لحلاوة، وإنّ عليه لطلاوة، وإنّ أعلاه لمثمر، وإنّ أسفله لمغدق، وإنّه ليعلو وما يُعلى، وإنه ليحطم ما تحته». فقالت قريش: «صبأ والله الوليد، والله لتصبأنّ قريش كلهم».
ولذلك، فقد كان مشركو قريش يتواصون بعدم الاستماع إلى القرآن، ويقومون بصرف الناس عن سماعه؛ لعلمهم بقوَّة وقعه على الأسماع والقلوب، وشدة تأثيره على النفوس، يقول تعالى: {وقال الذين كفروا لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه لعلّكم تغلبون} [فصلت/26] (8).
الخلاف في شأن الإعجاز القرآني والتفسير العلمي
إذا كان الإعجاز شبه قائم في خصوص الوجه البياني، فإنّ من أكثر الوجوه إثارة للخلاف قديماً وحديثاً، الوجه العلمي للإعجاز القرآني.
الخلاف عند المتقدمين
من أشهر العلماء المتقدِّمين الذين ناصروا هذا الاتجاه نذكر أبا حامد الغزالي، الذي أورد، في كتابه «إحياء علوم الدين»، أنّ في القرآن سبعاً وسبعين ألفاً ومئتي علم، وقال في كتاب آخر: «أوَما بلغك أنّ القرآن هو البحر المحيط؟ ومنه يتشعب علم الأولين والآخرين، كما يتشعب عن سواحل البحر المحيط أنهارها وجداولها» (9). ثم جاء بعده أبو الفضل المرسي، ثم جلال الدين السيوطي الذي أيّد
________________________________________
(7)انظر: الظاهرة القرآنية.
(8)نظر: «مدخل إلى تفسير القرآن وعلومه»، ص 148 ـ 153.
(9)جواهر القرآن ودرره، ص 10.
[الصفحة - 254]
هذا الاتجاه، مستدلًّا له بنصوص القرآن والسنَّة وبأقوال الصحابة والسلف كابن مسعود والحسن والشافعي وغيرهم (10). وقد جاء تفسير «مفاتيح الغيب» للفخر الرازي تتويجاً لهذا الاتجاه، ضمّنه صاحبه جلّ ما تحقق من علوم في ذلك العصر الذهبي.
وقد عارض هذا التوجه الإمام أبو إسحاق الشاطبي، في كتابه «الموافقات»، ثم سار على نهجه النحوي أبو حيّان التوحيدي الأندلسي في تفسيره «البحر المحيط». وقد أيّد ـ من المتأخرين ـ كل من الدكتور الذهبي، في كتابه «التفسير والمفسرون» والشيخ يوسف القرضاوي في كتابه «كيف نتعامل مع القرآن»، رأي الشاطبي، إلا ما كان من قوله بأمّية الشريعة، وقد تعقبه في ذلك الشيخ الطاهر بن عاشور في تفسيره «التحرير والتنوير».
الخلاف عند المتأخرين
كما هي الحال، في أغلب المسائل الخلافية، فقد توارث المتأخِّرون خلاف المتقدِّمين بخصوص الإعجاز القرآني والتفسير العلمي، وانقسموا في ذلك ثلاث فرق:
فريق معارض: نجد على رأسه الإمام الأكبر الشيخ محمود شلتوت (رحمه الله) الذي أنكر، في مقدمة تفسيره، على من حاول أن يفسر القرآن بمقتضى ما تلقوه من علوم حديثة، كذلك الشيخ أمين الخولي وزوجته بنت الشاطى، ومحمد رشيد رضا وغيرهم (11).
فريق وسط: قبلوا بالفكرة مضموناً، لكنهم رفضوا مصطلح «الإعجاز العلمي»، من بينهم:
ـ الشيخ يوسف القرضاوي في كتابه «كيف نتعامل مع القرآن»..؛ إذ يرى أنّ الموقف فيه ثلاثة اتجاهات، طرفين وواسطة، حيث يوجد في طرف من يرفضون بإطلاق إدخال العلوم الكونية في مجال التفسير. وفي الطرف المقابل يوجد من يغالون في استخدام العلوم غلوَّاً كبيراً، ويجتهدون في إبراز ما سمّوه «الإعجاز العلمي» بكثير من التمحّل. وموقف وسط عدل لا يبالغ في النفي ولا يغلو في الإثبات. ويرى أنّ هذا الوجه من الإعجاز القرآني لا يعدو أن يكون إعجازاً بيانياً.
________________________________________
(10)انظر: الإتقان في علوم القرآن، وإكليل التأويل.
(11)يصنف عدد من المؤلفين كلًا من: الشيخ المراغي؛ وسيد قطب ضمن الفريق المعارض، لكن موقفهما الصريح الرافض لم يتبين لنا بعد.
[الصفحة - 255]
ـ الشيخ محمد الغزالي. يقول، عند الحديث عن الإعجاز العلمي للقرآن: «أنا أقول بذلك، أقول: إنّه دليل صدقه، ودليل نبوَّة الرسول (عليه الصلاة والسلام)، ودليل مصداقية القرآن.. أما تسميته «إعجازاً» فهذا الذي أتوقف عنده؛ لأني أرى ذلك يتعارض مع خلود المعجزة» (12).
ـ ويرى الدكتور صبحي الصالح أنّ ما يسمّى بالإعجاز العلمي، أو التشريعي، أو غيره مما يخرج عن الإعجاز البياني، لا يدخل في دائرة الإعجاز؛ لأنه لم يقع به التحدي، يقول: «فما إعجاز هذا الكتاب إلا سحره، ولقد فعل سحره هذا ما فعله في القلوب في أوائل الوحي قبل أن تنزل آياته التشريعية، ونبوءاته الغيبية، ونظرته الكلية الكبرى إلى الكون والحياة والإنسان» (13). وهو رأي الدكتور عدنان زرزور (14) والدكتور أحمد سيد عمار (15). كما يرى الدكتور الشظيفي أنّ الإعجاز العلمي لون من إعجاز المعاني الذي دلّت عليه الألفاظ (16).
ـ أمَّا مناع القطان فيرى أنّ إعجاز القرآن العلمي ليس في اشتماله على النظريات القابلة للتجدُّد والتغير، وإنما إعجازه في حثه على التفكير والتدبر في هذا الكون (17).
فريق مؤيد: نجد على رأسه: محمود شكري الآلوسي، عبد الرحمن الكواكبي الذي يرى في كتابه «طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد»، أنّ العلوم هي «الكاشفة عن إعجاز القرآن» (18)، والمرحوم مصطفى صادق الرافعي، والشيخ متولي الشعراوي، والدكتور محمد سعيد رمضان البوطي، ومالك بن نبي، والطاهر بن عاشور وغيرهم.
وفي ما يأتي أقوال بعض المؤيدين تبيِّن موقفهم من الإعجاز العلمي:
ـ يقول محمد سعيد رمضان البوطي: «أمَّا الجانب الذي يعم الناس كلهم، فيتمثل في إخباره عن المغيبات التي لم تكن وقعت بعد، ثم وقعت كما أخبر، وعن الاءُمم الماضية وقصصها. كما يتمثل في تشريعه الشامل الدقيق الصالح لكل زمان ومكان، مع ما عُرف من كونه (عليه الصلاة والسلام) اءُمّياً لم يقرأ كتاباً ولا خطه بيمينه، فضلًا عن أنه لم يدرس قانوناً ولا تشريعاً، ولا عني بشيء من أمر النظم الاجتماعية المعروفة إذ ذاك عند الفرس أو اليونان. وفي ما ينطوي عليه من القواعد والبحوث العلمية التي لا يزال الباحثون اليوم في طور اكتشافها والوقوف عليها. فهذه
________________________________________
(12)كيف نتعامل مع القرآن، ص 139.
(13)مباحث في علوم القرآن، ص 321.
(14)انظر: كتاب: مدخل إلى تفسير القرآن وعلومه.
(15)نظرية الإعجاز القرآني وأثرها في النقد العربي القديم.
(16)تقييدات في إعجاز القرآن، ص 50.
(17)مباحث في علوم القرآن، ص 270.
(18)انظر: التفسير والمفسرون، للذهبي، ومقال «الاتجاه العلمي في تفسير القرآن، قراءة في المنهج» لعبد الأمير كاظم زاهد، المنشور في مجلة المنهاج، العدد 19، لسنة 1421هـ، وغيرهما.
[الصفحة - 256]
الوجوه من إعجاز القرآن يستوي في فهمها العرب وغيرهم من كلّ من كانت لديه ملكة عقلية سليمة»(19).
ـ يقول الشيخ متولي الشعراوي: «معجزة القرآن تختلف عن معجزات الرسل السابقين في كثير من زوايا الإعجاز... وفي القرآن إعجاز لا ينتبه إليه العقل إلَّا بعد أن ينشط ويكشف المستور عنه من حقائق الكون وأسراره».
ويقول: المعجزة «في القرآن أن يعطي لكلّ عقل قدر حجمه.. ويعطي لكلّ عقل ما يعجبه ويرضيه.. فترى غير المتعلم يطرب للقرآن ويجد فيه ما يرضيه.. ونصف المتعلم يجد في القرآن ما يرضيه.. والمتبحِّر في العلم يجد في القرآن إعجازاً يرضيه» (20).
وتجدر الإشارة هنا إلى أنّ المؤيدين ليسوا سواء:
فاتجاه يعكس نظرة الأسلاف المتقدمين الذين يرون أنّ القرآن بحر العلوم جميعها، كالشيخ طنطاوي جوهري في «تفسير الجواهر»، والدكتور محمد محمود عبد الله في كتابه «مظاهر كونية في معالم قرآنية».
ورأي يرى أنّ الإعجاز العلمي للقرآن هو الوجه الوحيد المتبقي اليوم والصالح لمخاطبة عقل الإنسان المعاصر، وهو رأي الاءُستاذ مالك بن نبي (21).
واتجاه يرى أصحابه أنّ للقرآن وجوهاً مختلفة، من بينها الوجه العلمي، من دون أن يزعموا أنّ في القرآن جميع علوم الدنيا، ومن دون أن يجعلوا هذا الميدان مشاعاً يلجه من شاء، وكيفما شاء. بل جعلوا لذلك منهجاً في البحث، ووضعوا له قواعد وضوابط تمنعه وتقيه من الزلل والشطط (22)، وهو الاتجاه الغالب على هذا الفريق.
الاعتراض على الإعجاز القرآني والتفسير العلمي للقرآن وحقيقته
حجج المعترضين (23)
يمكن إجمال حجج الفريق المعارض في النقاط الآتية:
________________________________________
(19)كبرى اليقينيات، ص 176 و177.
(20)معجزة القرآن الكريم، ص 21 و22.
(21)انظر: كتاب «الظاهرة القرآنية».
(22)انظر: على سبيل المثال، إصدارات هيئة الإعجاز العلمي بهذا الخصوص. ومقال «من ضوابط الإعجاز القرآني» للشيخ عبد الله بن بيه، المنشور في مجلة الإعجاز العلمي، العدد 10 لسنة 1422هـ.
(23)انظر، مثلًا: كتاب «نظرية الإعجاز القرآني وأثرها في النقد العربي القديم»، ومقال «الاتجاه العلمي في تفسير القرآن، قراءة في المنهج»..
[الصفحة - 257]
1 ـ مخاطبة القرآن العرب أوَّلًا. وهم في اءُمّيتهم، فقد أدى معهم رسالته على أحسن وجه يتاح.
2 ـ إنّ القرآن كتاب هداية وتوجيه. ولم يأت ليبيِّن للناس أسرار الظواهر الطبيعية والكونية من رعد وبرق وشمس وقمر..
3 ـ إنّ النظريات العلمية، في الكون، غير مستقرة، بل هي معرضة للتغيير والتبديل، وقد تنقلب رأساً على عقب، وبالتالي فتفسير القرآن، وفاقاً لمعطيات العلم، من شأنه إخضاع المطلق لما هو نسبي، ومن شأنه المساس بقدسية القرآن وتعريضه للعبث، وهو أمر يتنافى مع عظمة القرآن وجلال قدره.
4 ـ إنّ التوافق بين المقررات القرآنية والحقائق العلمية ليس فيه من الإعجاز شيء؛ لارتباطه بالتحدي، وإنما ذلك دليل على نبوَّة محمد (صلي الله عليه و آله و سلم) .
5 ـ إنّ الآيات الكونية تمثل بعضاً من آي القرآن، في حين وقع التحدي بأيّ سورة من سور القرآن. وبالتالي فكيف نثبت الإعجاز للقرآن من خلال السور والآيات الخالية من أية إشارة علمية.
6 ـ إنّ هذا الوجه من الإعجاز، على القول به، قاصر على بعض أهل العلم الذين يدركون هذه الحقائق العلمية، فهو بذلك محجوب عن كلّ من ليست له المعرفة العلمية التي تمكنه من فهم هذا اللون من الإعجاز.
7 ـ إنّ من يدّعون العلم يحمّلون آيات القرآن ما لا تحتمل، رغبة في إثبات إعجاز جديد للقرآن.
بعض الأسباب الدَّاعية إلى الاعتراض
إنّ موقف الفريق المعارض للإعجاز القرآني والتفسير العلمي للقرآن، ليس موقفاً غير مؤسَّس، ناتج عن ذوق أو رغبة أو ميل أو هوى. وإنما هو موقف ينبني على دعائم واءُسس معيَّنة، يظهر بعضها جلياً من خلال أدلتهم وحججهم في الاعتراض، وبعضها الآخر لا يظهر. ونعتقد بأنَّ من بين أهم الدواعي المؤسسة لهذا الموقف ما يأتي:
________________________________________
[الصفحة - 258]
1 ـ تنوُّع المدارس التفسيرية وانقسامها إلى: التفسير بالمأثور، الذي أثر عن رسول الله (صلي الله عليه و آله و سلم) ، وعن صحابته الكرام (رضوان الله عليهم)، وهذا اللون من التفسير عليه إجماع علماء الاءُمة؛ والتفسير بالرأي، وهو تفسير لغير ما ورد فيه نص مأثور صحيح صريح، وهذا الأخير كان ولا يزال محلّ خلاف بين علماء المسلمين، فمنهم من حرّمه ومنهم من أجازه، علماً بأنَّه لون فرض ذاته بعد انصراف عهد الصحابة والتابعين ومن تبعهم، والذين كانوا يتحرّجون ويتهيّبون من أن يقولوا في القرآن بآرائهم. وإلى هذه المدرسة التفسيرية الأخيرة ينسب عدد من علماء التفسير العلمي للقرآن.
2 ـ بناء الموقف على رأي المتقدِّمين، ومن سلك طريقهم من المتأخرين (على قلتهم)، والذين رأوا في القرآن موسوعة علوم، في حين أن غالبية المؤيدين لا يرون ذلك، يقول محمود شكري الآلوسي (1273 ـ 1342هـ): «وليس القرآن كتاباً في العلوم الكونية حتى نردَّ إليه كلّ نظرية، ونفتش عن كلّ مكتشف كما يفعل بعض الناس في أيامنا هذه، فيأتون أحياناً بالعجب الذي لا يخطر على بال.. لكننا نحب أن نبيّن أنه ربما أشار إلى بعض الحقائق والنواميس الكونية» (24).
ويقول عماد الدين خليل: «صحيح أنّ كتاب الله ما جاء ليكون كتاباً علمياً كما هو معروف... وهكذا فإنّ مبالغة طائفة من المفكرين في تحويل القرآن الكريم إلى كتاب رياضيات وفلك وفيزياء وطب وتشريح، دفع طائفة أخرى إلى وضع جدار عازل بين القرآن والمعطيات العلمية، وكأنّ كتاب الله جاء لكي يخاطب الإنسان بمعزل عن العالم الذي هيِّى له، والكون الذي يتحرك فيه. إنّ هذا التضاد المتطرف يجب ألا يضيّع علينا الرؤية الصحيحة لموقف القرآن في المسألة العلمية.. وهو موقف واضح ومؤكد من أية زاوية نظرنا» (25).
3 ـ ارتباط قضية الإعجاز، في بداياتها الأولى، ببعض رموز المعتزلة «كالجاحظ والرماني والزمخشري» الذين يغلّبون العقل على الوحي، فكان التخوف من أن يسري ذلك على التفسير والإعجاز العلميين للقرآن.
4 ـ الاختلاف في المعنى المراد بالإعجاز العلمي وبالتفسير العلمي.
________________________________________
(24)ما دل عليه القرآن مما يعضد الهيئة الجديدة القويمة البرهان، ص 3 و4.
(25)مجلة العربي، العدد 241، ص 19 و20.
[الصفحة - 259]
التَّفسير العلمي عند الذَّهبي: هو «التَّفسير الذي يحكم الاصطلاحات العلمية في عبارات القرآن، ويجتهد في استخراج مختلف العلوم والآراء الفلسفية منها» (26).
التفسير العلمي لدى هيئة الإعجاز العلمي: هو «اجتهاد المفسر في كشف الصلة بين آيات القرآن الكريم الكونية ومكتشفات العلم التجريبي، على وجه يظهر به إعجاز للقرآن يدل على مصدره وصلاحيته لكل زمان ومكان، أو هو الكشف عن معاني الآية أو الحديث في ضوء ما ترجحت صحته من نظريات العلوم الكونية» (27).
المعجزة في الاصطلاح: هي أمر خارق للعادة مقرون بالتحدِّي سالم من المعارضة.
الإعجاز العلمي عند مالك بن نبي: يقول الدكتور باطاهر: إنّ مفهوم مالك بن نبي للإعجاز قريب من مفهوم المعجزة عند دارسي الإعجاز، إذ هي في اصطلاحهم: «أمر خارق للعادة، داع إلى الخير والسعادة، مقرون بدعوى النبوَّة، قُصد به إظهار صدق من ادعى أنه رسول الله» (28).
الإعجاز العلمي لدى هيئة الإعجاز العلمي: هو إخبار القرآن الكريم «أو السنَّة النبوية الشريفة» بحقيقة أثبتها العلم التجريبي، وثبت عدم إدراكها بالوسائل البشرية في زمن رسول الله (صلي الله عليه و آله و سلم) ، على أنّ الإعجاز هنا يفيد السبق والفوت، وهو المعنى اللغوي لكلمة إعجاز(29).
5 ـ اشتغال بعض المتحمِّسين للإعجاز العلمي بالعديد من حقول المعرفة، حتى تلك التي تبعد عن تخصصاتهم، ما يؤدي بهم إلى تأويلات وتفسيرات متكلفة وغير مقبولة، كالمسعى الذي ذهب إليه الشيخ طنطاوي جوهري، في تفسيره «الجواهر»، عندما عرض لقوله عزّ وجلّ: {وإذ قال موسى لقومه إنّ الله يأمركم أن تذبحوا بقرة قالوا أتتخذنا هزواً قال أعوذ بالله أن أكون من الجاهلين} [البقرة/67] ، إلى قوله تعالى: {وإذ قتلتم نفساً فادّارأتم فيها والله مخرج ما كنتم تكتمون. فقلنا اضربوه ببعضها كذلك يحيي الله الموتى ويريكم آياته لعلكم تعقلون} [البقرة/72] ، فيتحدث عن عجائب وغرائب تضمّنتها هذه الآيات، كعلم تحضير الأرواح، فيقول: «.. وأما علم تحضير الأرواح فإنّه من هذه الآيات استخراجه...» (30).
________________________________________
(26)التفسير والمفسرون، ج2، ص 511.
(27)مجلة الإعجاز العلمي، العدد 12، ص 59.
(28)مجلة عالم الفكر، المجلد 31، العدد 2، ص 17.
(29)لة الإعجاز العلمي، العدد 12، ص 59.
(30)انظر: «التفسير والمفسرون»، ج2، ص 548.
[الصفحة - 260]
6 ـ التقليل من شأن المؤيدين وقيمتهم العلمية: يقول الدكتور يوسف القرضاوي (31): «والذين يعنون بهذا اللون من التفسير في الغالب ويتحمسون له، هم من علماء الكون والطبيعة وليسوا من علماء الدين والشريعة» (32).
ويقول الدكتور محمد رجب البيومي: «ومما جعل الآذان تصغي كثيراً لهذا الفريق أن اءُناساً ممَّن لا يجمعون بين النظر الصائب والعلم الصحيح قد دفعهم حب الابتكار إلى تفسير بعض الآيات تفسيراً بدائياً لا يستند إلى دليل. فحين يظهر مكتَشَف ما من المكتشفات، يسارع هؤلاء السطحيون فيقتطعون من كتاب الله ما يوهم صاحب النظر المتسرع أنه يسير مع المكتشف الحديث...» (33).
7 ـ افتقار عدد من علماء الدِّين والشريعة إلى حد أدنى من الثقافة العلمية ، وهو أمر مطلوب في حقهم؛ الأمر الذي يصدهم عن فهم الجهود والمحاولات التي تسعى إلى الربط بين مقررات الوحي المسطور والقوانين الثابتة للوحي المنظور.
يقول الدكتور يوسف القرضاوي: «ولقد رأينا بعض المشايخ الذين تعقبوا سيد قطب في «ظلاله» الشهيرة، ينكرون عليه (رحمه الله) أشياء غريبة مثل حديثه عن المجموعة الشمسية، وعن المجرات الكونية وغير ذلك، مما يدل على الجهل المطبق للمتعقب بهذه العلوم. وقد قيل قديماً: من جهل شيئاً عاداه...» (34).
ملاحظات على بعض حجج المعترضين
وبخصوص الاعتراض بدعوى أن هناك من المتحمِّسين للتفسير العلمي من يتكلَّفون، ويُكلِّفون النصوص ما لا تتحمله، بهدف تطويعها لتوافق ما جد في عالم الاكتشافات العلمية خدمة لقناعاتهم، وتصديقاً لرؤاهم ولنظرياتهم في هذا المجال. وهو صنيع شبيه بما يعرف بالتفسير المذهبي أو التفسير الصوفي للقرآن، والذي عمد أربابه إلى صرف بعض معاني القرآن عن حقائقها، وعن مدلولاتها الواضحة والبديهية إلى معانٍ بعيدة كلّ البعد عن المراد والمقصود، قصد ملاءمتها مع مذاهبهم وأهوائهم. هذا المنحى يمكن أن نسميه تفسيراً بالرأي مذموماً، وهو منهج في التفسير مرفوض (35).
________________________________________
(31)كيف نتعامل مع القرآن، ص 431.
(32)ونحن نرى أنهم لذلك كانوا أقدر من غيرهم على خوض غمار هذا البحر المتلاطم الأمواج، وفاقاً للشُّروط والضوابط الموضوعة لذلك.
(33)انظر: «نظرية الإعجاز القرآني...»، ص 116.
(34)كيف نتعامل مع القرآن، ص 444.
(35)انظر مثلًا: «التفسير والمفسرون» للذهبي، «مباحث في علوم القرآن» لمناع القطان، و «مباحث في علوم القرآن» لصبحي الصالح..
[الصفحة - 261]
أمَّا الجهود والمحاولات التي تتوخَّى توضيح الصلة بين مقرَّرات الوحي المسطور، وبين ما دلَّت عليه الآيات من شواهد الوحي المنظور، التي استطاع الإنسان أن يفسر ألغازها، وأن يفك رموزها ـ خاضعة في ذلك للمنهج الصارم الصالح لذلك، منضبطة بضوابطه وشروطه ـ فإنها ليست من ذلك في شيء، وأقل ما يمكن أن يقال في حقها: إنها من قبيل التفسير بالرأي المحمود، بل هي أعلى درجة وأسمى مقاماً، إذ تقدِّم للرأي في الآية الحجة الداعمة، والدليل العلمي القطعي الثابت والمستقر (36). وليس كما يقال: إن قواعد العلم لا تعرف الاستقرار، ولا تلبث أن تتبدل وتتغير، بل تنقلب رأساً على عقب.
فمعطيات العلم ليست سواء؛ لأنّ هنالك من الحقائق والقوانين العلمية ما ثبت واستقر بعد أن هدى الله الإنسان إلى معرفة كنهها، واستكشاف سننها ونواميسها التي لا تتبدل ولا تتغير، مصداقاً لقوله عزّ وجلّ: {لكل نبأ مستقر وسوف تعلمون} [الأنعام/67].
ومن الأمثلة على هذه الحقائق أنّ الأرض كروية الشكل، وأنّ القمر كوكب مظلم، وأنّ الجلد هو مركز الإحساس بالألم، وأنّ للرياح دوراً في تلقيح النباتات والأشجار، وأنّ عدداً من الأراضي التي نعدّها اليوم من اليابسة كانت يوماً مغمورة بمياه البحار والمحيطات، وأنّ هناك مناطق من الكرة الأرضية لا تخضع للتعاقب العادي اليومي لليل والنهار الناتجين عن دوران الأرض حول نفسها، بل تشرق الشمس فيها ولا تغرب إلا بعد ستة أشهر لتظهر مرة أخرى بعد المدة نفسها.. وغير ذلك من الأمثلة كثير.
أمَّا ما كان من النظريات العلمية غير الثابتة، والتي قد تتغير بين يوم وليلة، فنرى ـ والله أعلم ـ أنها لن تأتي موافقة للقرآن في حالة تبدلها، إلا ما كان من تكلُّف المفسر وعدم تريثه، وأنّ التطابق لن يحصل إلا عندما تستقر هذه النظريات ويترجح صوابها.
يقول محمود شكري الآلوسي، عندما يتحدث عن الهيئة الجديدة القويمة البرهان: «وقد سمَّاها الفلاسفة المتأخرون «الهيئة الجديدة»، لكونها شاعت في
________________________________________
(36)وإلى هذا ذهب أيضاً عبد الأمير كاظم زاهد في مقاله «الاتجاه العلمي في تفسير القرآن الكريم، قراءة في المنهج».
[الصفحة - 262]
العصر المتأخر، وإلا فالقول بها متقدم جداً، فقد رأيت كثيراً من قواعدها لا يعارض النصوص الواردة في الكتاب والسنة. على أنها لو خالفت شيئاً من ذلك لم يُلتفت إليها، ولم نؤول النصوص لأجلها، والتأويل فيهما ليس من مذاهب السلف الحرية بالقبول، بل نقول: إنّ المخالف لهما مشتمل على خلل فيه، فإنّ العقل الصريح لا يخالف النص الصحيح، بل كلّ منهما يصدّق الآخر ويؤيده»(37).
ولرد مثل هذه الشبهة، قام شيخ الإسلام ابن تيمية بتأليف كتابه «درء تعارض العقل والنقل» وقال فيه: «.. فتبين أنّ كلّ ما قام عليه دليل قطعي سمعي يمتنع أن يعارضه قطعي عقلي»، ويقول أيضاً: «.. النصوص الثابتة في الكتاب والسنة لا يعارضها معقول بيّن قط».
وقد دفع اتهام الفلاسفة المسلمين، ظلماً أو عن غير تحقيق بتقديمهم عقولهم على الوحي مطلقاً، دفع ذلك بابن رشد لأن يضع كتابه «فصل المقال في ما بين الحكمة والشريعة من الاتصال»، وجاء فيه: «وإذا كانت الشريعة داعية إلى النظر المؤدي إلى معرفة الحق، فإنا معشر المسلمين نعلم على القطع أنه لا يؤدي النظر البرهاني إلى مخالفة ما ورد به الشرع، فإنّ الحق لا يضاد الحق، بل يوافقه ويشهد له».
وقد لخَّص الشاطبي عدم التعارض هذا بعبارة موجزة، فقال في كتابه «الموافقات»: «الأدلة الشرعية لا تنافي العقول» (38).
أما القول: إنّ القرآن كتاب هداية، ولم يأت لتبيان كيف يتكون الرعد والبرق؟ ولا كيف تتحرك الكواكب؟ وبالتالي فنحن غير مطالبين بالوقوف على كنه الآيات الكونية، والتعرف على أسرار الكون، ولا يسعنا إلا التسليم المطلق للخبر القرآني، شأن القائلين بهذا شأن من يقول: إنّ في العلم بحرمة لحم الخنزير كفاية وغناء، ولا داعي لإجهاد النفس وإرهاق العقل بغية الكشف عن علة التحريم.
هذا القول يناقض المنهج القرآني نفسه، أوَلم يسمعوا قول الله تعالى: {وإذ قال إبراهيم رب أرني كيف تحيي الموتى قال أولم تؤمن قال بلى ولكن ليطمئن قلبي قال فخذ أربعة من الطير فصرهنَّ إليك ثمّ اجعل على كل جبل منهن جزءاً ثم ادعُهن يأتينك سعياً واعلم أن الله عزيز حكيم} [البقرة/260]، كيف يطلب إبراهيم النبي؛
________________________________________
(37)ما دل عليه القرآن من الهيئة الجديدة القويمة البرهان، ص 12.
(38)انظر «نظرية المعرفة في القرآن الكريم وتضميناتها التربوية»، ص 312 ـ 322.
[الصفحة - 263]
الرسول؛ الاءُمّة من ربه آية يتحقق له بها اطمئنان قلبه المؤمن، ونمنع أناساً كثيرين ـ لا وجه لمقارنة إيمانهم بإيمان إبراهيم (عليه الصلاة والسلام) ـ من الحصول على الراحة النفسية، واليقين العقلي، والاطمئنان القلبي، المتحقق بالآيات الكونية المشهودة والمحسوسة والمعقولة؟!
وفي ما يتعلق باقتصار هذا الوجه من الإعجاز على قلة قليلة من الناس، لديهم الرصيد العلمي الذي يؤهلهم لفهم العلاقة بين العلم التجريبي والقرآن الكريم، فإنّ ذلك يصدق أيضاً على الوجه البياني في الإعجاز.
يقول الدكتور باطاهر: إن «فهم الإعجاز عن طريق التذوق اللغوي لم يكن متيسراً إلا لفئة مخصوصة من العلماء المتمرِّسين في صناعة البيان، حتى قيل: «لم يدر ما الإعجاز سوى الأعرجين: أحدهما من زمخشر والآخر من جرجان»، ويقصدون بذلك الزمخشري وعبد القاهر الجرجاني.
أما طائفة العوام من الناس فلم يكن بمقدورهم إدراكه من هذا الوجه، وإنما تدرك منه قدراً يتناسب مع ما لديها من وسائل الفهم والإدراك...» (39).
ويقول الدكتور محمود السيد شيخون: إنّ «إدراك العرب الذين عاصروا نزول القرآن للإعجاز كان فطرياً غير مسبوق بدراسة، ولا طول نظر في الكتب، وإنما أدركوا هذا الإعجاز بفطرتهم العربية السليمة، وما حباهم الله من ذوق سليم وفصاحة وبيان، ولذلك كان إيمان من آمن منهم بهذا الدين إيماناً راسخاً، ناضلوا دونه، وبذلوا دماءهم وأموالهم في سبيله.
ولكن بعد أن تقدَّم الزمن، وانتشر المسلمون في أرجاء الأرض بانتشار الإسلام في الأمصار، وابتعدوا عن البيئة العربية السليمة، واختلطوا بغيرهم من أبناء البلاد المفتوحة، لم يعد إعجاز القرآن يُدرك بالفطرة، وإنما صار إدراكه يتطلب دراسة واعية ومستفيضة للغة العربية.. فانتقل الإعجاز من مرحلة «التذوق الفطري» إلى مرحلة «التذوق العلمي»، الذي يجب أن تسبقه دراسة واسعة لأساليب اللغة العربية، تؤهل صاحبها لإدراك ناحية الإعجاز في القرآن العظيم، وهذا يعني أنّ الإعجاز الذي كانت تدركه أكثرية العرب من الذين عاصروا نزول
________________________________________
(39)مجلة عالم الفكر، المجلد 31، العدد 2، ص 20.
[الصفحة - 264]
القرآن الكريم، أصبح من اختصاص طائفة قليلة من المسلمين، هي التي بيدها وسائل التذوق الفني...» (40).
وبالتالي، فلو سلّمنا بأنّ هذا الوجه العلمي للإعجاز يستعصي فهمه وإدراكه من طرف غالبية الناس(41)؛ فلا يجوز بحال أن يكون ذلك مدعاة لرفضه وإقصائه.
تأمُّلات داعمة
1 ـ تجديد الدِّين
جاء، في الحديث النبوي الشريف: «إنّ الله يبعث لهذه الاءُمة، على رأس كلّ مئة عام، من يجدِّد لها دينها» (42).
يقول عمر عبيد حسنة معلِّقاً على الحديث: «هو إخبار بامتداد هذا الدين، واستمرار سلامة قيمه، من خلال التصويب والمراجعة والتوثيق، وهو ـ من جانب آخر ـ تكليف للاءُمَّة أن تستمر فيها حاسة الرقابة العامة ومراجعة المسيرة ومعاينة الواقع، بعيداً عن أي استنقاع حضاري أو ركود ثقافي، أو استسلام وخلود إلى الأرض» (43).
وليس المراد من الحديث أن يأتي المجدِّدون بدين جديد، وإنما هو تجديد الوعي بالدين، وتجديد الفهم للدين في ظل الثوابت وضمن منهج الإسلام وفلسفته. وإذا كان القرآن الكريم عنوان هذا الدين الأبرز، فإن هذا التجديد لن يتأتَّى إلا من خلال تجديد فهم الآيات، بما لا ينقض فهماً مأثوراً صحيحاً صريحاً. فقد يفتح الله لشخص بفهم في كتاب الله لم يكن معروفاً لغيره، وإلى هذا يشير قول أمير المؤمنين علي (كرم الله وجهه) عندما قال له أبو جحيفة: هل عندكم شيء من الوحي ليس في كتاب الله؟
فأجاب: «لا والذي فلق الحبة وبرأ النسمة لا أعلمه، إلا فهماً يعطيه الله رجلًا في القرآن» (44).
2 ـ المعجزة والتحدِّي
يقول الشيخ متولي الشعراوي: «وإذا كانت المعجزة هي خرق للعادة مقرونة بالتحدِّي.. ولا يستطيع أحد معارضتها، فقد تأتي المعجزة خرقاً للعادة، ولكنها
________________________________________
(40)الإعجاز في نظم القرآن، ص 16.
(41)ونحن نقول: إن مواضيع الإعجاز العلمي متنوعة جداً، فمنها ما يفهمه من يمتلك بعض أوليات العلوم، ومنها ما هو في متناول من لديه ثقافة علمية متوسطة، ومنها ما يدركه المتخصصون كل حسب تخصصه؛ فضلًا عن أن البرامج الدراسية اليوم تقدم المواد العلمية للتلاميذ وللطلبة في سن جدّ مبكرة.وعليه فإن عدداً كبيراً من المتمدرسين يستطيعون فهم هذا اللون من الإعجاز والتأثر به، وهذا أمر مجرب.
(42)رواه أبو داود والحاكم.
(43)أصول الحكم على المبتدعة عند شيخ الإسلام ابن تيمية، ص 15.
(44)انظر مقال «من ضوابط الإعجاز القرآني»، ص 32.
[الصفحة - 265]
ليست مقرونة بالتحدِّي.. أي أنّ الله سبحانه وتعالى لا يتحدَّى البشر بها ولا يطالبهم أن يأتوا مثلها.. بل إنّ هذه المعجزة تأتي لإثبات طلاقة قدرة الله في كونه...» (45) .
ومن ذلك معجزات الأنبياء والرسل السابقين، والمعجزات الحسية غير القرآن التي أيّد الله بها رسوله محمد (صلي الله عليه و آله و سلم) ، كمعجزة الإسراء والمعراج، ومعجزة نبع الماء من كفيه الشريفتين... كما أنه لا معنى للتحدي، ولا مجال إذا لم يكن المتحدَّى مؤهلًا لدفع التحدي، أو إذا لم ينبغ في جنس العمل الذي أريد أن يتم فيه التحدي.
وكما يقول متولي الشعراوي: «إذا نحن جئنا ببطل العالم في رفع الأثقال وتحدينا به رجلًا عادياً، فلا يعتبر ذلك تحدياً، ولا قيمة لتحدي قوم بما لا يعرفونه، ولا موهبة لهم فيه» (46).
ولذلك رأينا من يرفض أن يكون التحدي البلاغي القرآني (الإعجاز البياني) الذي وُوجهت به العرب شاملًا لغيرهم من الأجناس والأقوام والاءُمم.
يقول عبد القادر عطا ردَّاً على المفسر الكبير ابن عطية: «فقوله: إنّ الحجة قامت على العالم بالعرب، لا يمكن تسليمه على الإطلاق هكذا. إذ لا يمكن أن تكون البلاغة القرآنية الخارقة لبلاغة العرب، هي سبب هداية الترك والفرس قديماً والأوروبيين حديثاً، بل يمكن أن يكون عجز العرب عاملًا مساعداً وعنصراً من عناصر الدعوة عن طريق التفوق القرآني في جميع الميادين» (47).
ويقول حسن أبو العينين: «.. وعند ترجمة معاني القرآن الكريم إلى غير العربية، فإنّ القارى في هذه الحالة لا يدرك الإعجاز البياني والبلاغي واللغوي في آياته، غير أنّ التفسير العلمي للآيات الكونية والطبيعية في القرآن الكريم حسب ما توصل إليه الفكر البشري، هو دعوة مفتوحة للمسلمين وغير المسلمين وغير الناطقين بلغة الضاد للتعرف على أوجه الإعجاز العلمي في القرآن الكريم، وعلى أنه بحق القول الفصل الذي يصلح لكل زمان ومكان إلى قيام الساعة» (48) .
ويقول فوزي حميد: «إنّ إعجاز القرآن يتجلَّى في البراهين البديهية التي يدركها العقل دونما حاجة إلى الغوص في لجج الاستدلال والجدل، لا في بلاغته وحدها التي يقصر إدراكها على العرب، ولكن بما يراه عموم البشر» (49).
________________________________________
(45)معجزة القرآن الكريم، ص 12.
(46)نفسه، ص 8.
(47)عظمة القرآن، ص 84 و85.
(48)من الإعجاز العلمي في القرآن الكريم في ضوء الدراسات الجغرافية والفلكية والطبيعية، ج1، ص 12.
(49)لجغرافية القرآنية برهان خارق على عظمة الخالق، ص 26.
[الصفحة - 266]
وأما من اشترطوا التحدي مع المعجزة، فردّوا بذلك قول القائلين بإعجاز القرآن في ما جاء فيه من أخبار غيبية ماضية ومستقبلية، ومن إشارات علمية، ظانين أنّ عنصر التحدي غير متوفر فيها، فقد غابت عنهم بعض الأدلة التي نرى ـ والله أعلم ـ أنّ التحدي بها واقع.
يقول تعالى: {آلم * غلبت الروم * في أدنى الأرض وهم من بعد غلبهم سيغلبون * في بضع سنين لله الأمر من قبل ومن بعد ويومئذ يفرح المؤمنون * بنصر الله ينصر من يشاء وهو العزيز الرحيم} [الروم/1 ـ 5].
في هذه الآيات إخبار من الله ـ عزّ وجلّ ـ للفئة المؤمنة القليلة المستضعفة بمكة أنّ الله سينصرها، وأنّ آية ذلك أن ينتصر الروم على الفرس في بضع سنين، في حين كانت جميع المؤشرات توحي بأنّ دولة الروم إلى زوال.
فعن عبد الله بن مسعود (رضي الله عنه) قال: كانت فارس ظاهرة على الروم، وكان المشركون يحبُّون أن تظهر فارس على الروم، وكان المسلمون يحبُّون أن تظهر الروم على فارس؛ لأنهم أهل كتاب، وهم أقرب إلى دينهم، فلما نزلت {ألم * غلبت الروم} قالوا: يا أبا بكر إن صاحبك يقول: إنّ الروم تظهر على فارس في بضع سنين. قال: صدق. قالوا: هل لك أن نقامرك (50)؟ فبايعوه على أربع قلائص إلى سبع سنين. فمضت السبع ولم يكن شيء، ففرح المشركون بذلك، فشق على المسلمين.
فذُكر ذلك للنبي (صلي الله عليه و آله و سلم) فقال: «ما بضع سنين عندكم»، قالوا: دون العشرة. قال: «اذهب فزايدهم وازدد سنتين في الأجل» (51).
فما مضت السنتان حتى جاءت الركبان بظهور الروم على فارس، ففرح المؤمنون بذلك وأنزل الله تعالى: {آلم * غلب الروم} إلى قوله: {وعد الله لا يخلف الله وعده ولكن أكثر الناس لا يعلمون} [الروم/6](52).
فهل من دليل أقوى على وقوع التحدي، ومن المراهنة بين المتنازعين على وقوع النبوءة وتحققها، وإقرار رسولنا الكريم لذلك التحدي بقوله: «اذهب فزايدهم، وازدد سنتين في الأجل»؟
________________________________________
(50)نقامرك، أي نراهنك.
(51)وقد كان ذلك قبل تحريم المراهنة.
(52)تفسير القرآن العظيم، ج3، ص 408.
[الصفحة - 267]
أمَّا آية التحدي بالإتيان بمثل سورة من القرآن: {وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا فأتوا بسورة من مثله وادعوا شهداءكم من دون الله إن كنتم صادقين} [البقرة/23]، فإن الله يقول قبلها مباشرة: {يا أيها الناس اعبدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم لعلكم تتقون * الذي جعل لكم الأرض فراشاً والسماء بناءً وأنزل من السماء ماء فأخرج به من الثمرات رزقاً لكم فلا تجعلوا لله أنداداً وأنتم تعلمون} [البقرة/21 و22].
فيظهر ـ والله أعلم ـ أنّ السياق القرآني الذي جاء فيه هذا التحدي، يتحدث عن آيات الله في الكون من فرش الأرض، وبناء السماء، وإنزال الماء، وإخراج الثمار، فتأمل ذلك.
بالإضافة إلى ذلك، فإذا كان الله تعالى قد تحدَّى الناس ـ وهو تحدٍّ مطلق ـ بالإتيان بسورة منه، فإنه تحدَّاهم في موضع آخر أن يأتوا بمثل بعضه، يقول تعالى: {أم يقولون افتراه قل فأتوا بعشر سور مثله مفتريات وادعوا من استطعتم من دون الله إن كنتم صادقين} [هود/13]، وتحدَّى الإنس والجن معاً أن يأتوا بمثل القرآن، يقول تعالى: {قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضم لبعض ظهيراً} [الإسراء/88]. وفي هذا دليل على أنّ التحدي قائم بالقرآن كله أو ببعضه أو بجزء يسير منه.
يقول الدكتور شيخون: «والترقي في التحدي من الإتيان بالمثل، أو الإتيان بعشر سور، أو الإتيان بسورة واحدة؛ ليثبت العجز ثبوتاً لا ريب فيه» (53). على أنّ الإعجاز قائم بلفظة «مثل»، وليس هناك ما يدعو إلى قصر المثلية على الجانب البلاغي والبياني وحده دون الوجوه الاءُخر، أو إلى جعل المثلية في جميع المناحي مجتمعة، كما يقول بذلك أبو حيان التوحيدي الأندلسي، والشيخ عبد الحليم محمود (54).
يقول الزمخشري في تفسير قوله تعالى: {من مثْلِه} : «... فإن قلت: وما مثله حتى يأتوا بسورة من ذلك المثل؟ قلت: معناه فأتوا بسورة مما هو على صفته في البيان الغريب، وعلو الطبقة في حسن النظم. أو فأتوا ممن هو على حاله من كونه بشراً عربياً، أو اءُمِّياً لم يقرأ الكتب ولم يأخذ عن العلماء» (55).
________________________________________
(53)الإعجاز في نظم القرآن، ص 14.
(54)انظر: «نظرية الإعجاز القرآني...»، ص 39 و40.
(55)تفسير الكشاف، ج1، ص 104.
[الصفحة - 268]
3 ـ إعطاء العلم الحديث الحجم المناسب له
لقد كان ما أحرزه الإنسان من طفرات في ميادين العلم المختلفة ـ في إطار ثقافة غير الثقافة الإسلامية، وضمن حضارة غير الحضارة الإسلامية ـ مدعاة إلى عزل الإله وتأليه العلم ـ تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً ـ وإلى القول: إنّ العلم والدين ضدان متصادمان لا يلتقيان.
وبما أنّ المسلمين اليوم ـ في الغالب الأعم ـ ناقلون لهذه العلوم الحديثة، وكثير منهم ينقلها محملة بالمضامين الثقافية والحضارية والفلسفية التي أنتجتها، من دون العمل على تنخيلها قصد تبيئتها في عالم مختلف، له خصوصياته الثقافية والحضارية والدينية. ما أدى إلى ظهور النزعات العلمية المادية والإلحادية، أو العلمانية في بلاد المسلمين؛ لذلك فإنّ بحوث الإعجاز القرآني والتفسير العلمي، المنضبطة بقواعده وضوابطه وشروطه الصارمة، تقوم بأكبر الأدوار في مجال وضع العلم في مكانه الطبيعي، وإعطائه حجمه الحقيقي الموافق للقاعدة الربانية والمسلمة القرآنية: {وما أوتيتم من العلم إلا قليلًا} [الإسراء/85].
وفي توضيح أنّ ما توصل إليه الإنسان، من خلال الجهد والبحث والمثابرة العلمية، لا يعدو أن يكون اكتشافاً لنواميس وسنن وقوانين أودعها الله في هذا الكون المخلوق، ينبغي أن تقود في النهاية إلى توحيد الخالق. واءُسوتنا ـ في ذلك ـ في إبراهيم (عليه السلام) عندما رجع بالكواكب والنجوم والشمس والقمر التي جعلها قومه آلهة تعبد من دون الله، فوضعها في حجمها المناسب لها، وبرهن بالدليل الحسي المعقول أنها مخلوقات ـ هي نفسها ـ ولا تصلح أن تكون آلهة تعبد؛ لعدم توافر الأوصاف الدالة على الألوهية فيها، يقول تعالى: {وكذلك نُري إبراهيم ملكوت السماوات والأرض وليكون من الموقنين * فلما جن عليه الليل رأى كوكباً قال هذا ربّي فلما أفل قال لا أحب الآفلين * فلما رأى القمر بازغاً قال هذا ربّي فلما أفل قال لئن لم يهدني ربي لأكونن من القوم الضالين * فلمّا رأى الشمس بازغة قال هذا ربي هذا أكبر فلما أفلت قال يا قوم إني بريء مما تشركون * إني وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض حنيفاً وما أنا من المشركين} [الأنعام/76 ـ 79].
________________________________________
[الصفحة - 269]
خاتمـــــة
لعله، بعد كلّ هذا، تبين لك أنّ القرآن الكريم معجز من أوجه متعددة، فلا ينبغي بحال أن نقصي منها الوجه العلمي للإعجاز، فإنّ من إعجازه العلمي ألا تختلف مقرراته وإشاراته الكونية مع ما تم الجزم والقطع بأنه حقائق علمية ثابتة، وقوانين وسنن ربانية منظّمة لملكوته الواسع، مصداقاً لقوله تعالى: {أفلا يتدبرون القرآن ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافاً كثيراً} [النساء/82].
يقول حبنكة الميداني معلقاً على هذه الآية: «فدلّ بهذا على أنّ أي كتاب علمي وتوجيهي وخبري عن الماضي والحاضر والمستقبل، وعن حقائق غيبية، لا يمكن أن يخلو من الاختلاف، إلا أن يكون منزلًا من عند الله، ولا يمكن أن يكون من تأليفٍ بشريٍّ. فكون القرآن خالياً من الاختلاف، وجه من وجوه الإعجاز الدال على أنه من عند الله، ولكن لا يكتشف ذلك إلا المتدبِّرون له» (56).
ثم إنّ التفسير العلمي للقرآن الكريم من شأنه أن يقدم شروحاً لعدد من الآيات لم يكن بالإمكان إدراك معناها، وفهم مغزاها إلا بعد التقدم الهائل الذي عرفته العلوم التجريبية في العصر الحديث، بما لم يكن متاحاً للمسلمين الأوائل. وبالتالي فلبحوث الإعجاز العلمي أكبر الأدوار في تقريب معاني القرآن الكريم، وتفهّم آياته، قصد تدبره والتلذذ به، والتفكير في الخلق، طاعة للخالق.
يقول الزركشي، في «البرهان في علوم القرآن»: «من لم يكن له علم وفهم وتقوى وتدبّر، لم يدرك من لذة القرآن شيئاً».
ويقول ابن جرير الطبري، كما جاء في «معجم الأدباء»: «إني أعجب ممَّن قرأ القرآن، ولم يعلم تأويله كيف يلتذ بقراءته؟» (57).
وأيّاً كان وجه الإعجاز في القرآن: بيانيَّاً أو علميَّاً أو تشريعيَّاً...، وأيّاً كانت تسميتنا للتوافق الذي يحصل، من الحين إلى الحين، بين الآيات القرآنية وحقائق العلم الثابتة، فإنّ ذلك ينبغي أن يقودنا إلى اليقين بصدق رسالة نبينا محمد (صلي الله عليه و آله و سلم) ، وبمصدرية القرآن الإلهية، ومن ثم يقودنا إلى العمل بمقتضى ما جاء في هذا الكتاب الكريم، الذي لا يخلق على كثرة الرد ولا تنقضي عجائبه، وذلك بتحكيمه في جميع شؤون حياة المسلمين، من خلال تحليل حلاله، وتحريم حرامه، والتخلق بأخلاقه، وتطبيق أحكامه.. حتى تتحقق لنا السعادة في الدنيا، وننال الفوز في الآخرة.
________________________________________
(56)براهين وأدلة إيمانية، ص 275.
(57)انظر: «تدبر القرآن» لسلمان بن عمر السنيدي، كتاب المنتدى لمجلة البيان الصادرة في الرياض، ص4.
[الصفحة - 270]