البحث في...
عنوان الحوار
إسم المحاور
إسم مجري الحوار
المصدر
التاريخ
ملخص الحوار
نص الحوار
 أسلوب البحث
البحث عن اي من هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على كل هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على هذه الجملة

December / 14 / 2022  |  582الأدب الغربي لم ينجُ من التوظيف في ميدان السيطرة الاستعمارية

الحوار مع :د. علي نجيب إبراهيم
الأدب الغربي لم ينجُ من التوظيف في ميدان السيطرة الاستعمارية

ما الدّور الذي تلعبه الأعمال الأدبيّة والإبداعيّة في بناء الحضارات الإنسانيّة، وكيف بدت صورة الغرب الثقافي في هذا الميدان في سياق توظيفه للفنون والآداب في مجال السيطرة على الآخر؟

هذا السؤال المركَّب بما تفرَّع منه من أسئلة كانت مدار هذا الحوار مع الباحث السوري الدكتور علي نجيب إبراهيم الذي يعمل حاليًا كأستاذ للجماليات في الجامعات الفرنسيّة.

نُشير أنّ للباحث مجموعةً من المؤلّفات في مجال الأدب الفلسفي وله أكثر من خمسة وعشرين كتابًا مترجمًا عن الفرنسيّة.

«المحرّر»


* يمكن لمتابع أعمال النّقد ومناهجه على الساحة العربيّة أن يقبض على التباساتٍ تتعلّق بطبيعة العلاقات التي تنتجها هذه التيّارات العلميّة. وهي علاقات غامضة، ملتبسة، ومولّدة لإشكالياتٍ عند الذّات العربيّة أكثر منها مقدّمة لحلول وتصوّرات ورؤى. وتتركّز هذه الإشكاليّة في علاقتين اثنتين، وهما: أوّلًا: العلاقة بالمناهج النّقديّة الغربيّة الوافدة، وثانيًا: العلاقة بالعمليّة النّقديّة في التّراث العربيّ. كيف يمكن تشريح هذه العلاقة الجدليّة المتعلّقة بالقيام بنوع من الإسقاطات المنهجيّة الوافدة على تراثٍ عربيٍّ له خصوصيّته الحضاريّة المختلفة عن الخصوصيّة الغربية؟

- لا بُدَّ في البداية من الفصل بين النّقد الأدبي في الغرب والنّقد العربي الحديث الوافِد من الغرب أو المُتأثِّر بالنّقد الغربي؛ لأنَّ للعلاقة بين النَّقْدَين سياقًا تاريخيًا وسياسيًّا وثقافيًّا وأدبيًّا. هذا السياق بالِغ التعقيد، ومن الصَّعب أن نُحيطَ بأبعاده المعرفيّة والفكريّة التي وسَمت الفكر العربي الحديث بمختلف تيّاراته ومَشارِبه. ومن ثَمَّ يُساعِدنا هذا الفَصل على تحديد العلاقة بالمناهج الغربية بناء على العلاقة بين «الذات العربيّة» و«الاخَر». فما الذات العربيّة أوّلاً؟ وما الآخَر ثانيًا؟

الحقيقة أنّ هذين السؤالَين تلازَما منذ فجر النّهضة، وشغَلَا أذهان المُفكِّرين والأدباء العرب. لذلك أجِدُ نفسي مُضطرًّا -بُغية الإجابة عليهما إجابةً موضوعيّةً منهجيّةً- إلى التجنّي المُمِضِّ على كمٍّ هائل من مؤلَّفات التنويريّين العرب، والاستعانة بلمحةٍ سرديّةٍ تَعرِض المعروف تاريخيًا على شكل تحليل مُبسَّط لنشوء النَّقد العربي الحديث وعلاقته بالنّقد في الغرب، وتُظهِر كيف انتقلت بعض الأجناس الأدبيّة من الغرب إلى الأدب العربي بمعزِل عن منظومة القيَم الأخلاقيّة والجماليّة التي ولَّدتْها. فلكي نُمارِس النَّقد، يجب امتلاك العقل النَّقدي الذي يُبنى بالتدريج، ولا يُمكِن اكتسابُه هكذا دُفعةً واحدة؛ لأنّه يتطلَّب قاعدةً حضاريّةً ترتكز عليها حركة العلوم، ونظريات الفلسفة، والمنطق، والأدب، وروح المجتمع. 

لا أحد يجهل الآن أنَّ المُناداة بالهوية العربيّة بدأت في القرن التاسِع عشر، وهي الفترة نفسها التي نمَت خلالها النزعات القوميّة في أوروبا، وخصوصًا في ألمانيا. فهل كانت هذه المُناداة نتيجة الاحتكاك بالغرب الذي فجّرته حملة نابليون بونابرت على مصر، أم سبَبًا لهذا الاحتكاك؟ هنا يبرز أمران: سياسي وتربويّ ثقافي.

* كيف ظهرت الأعمال الأدبيّة في ميدان التوسّع الاستعماري بعد سقوط السلطنة العثمانيّة؟

- يتمثَّل الأمر السياسي بالمشكلات الناجمة عن التوسُّع الأوروبي في الولايات العُثمانيّة المُتهالِكة التي تشمل بلاد العرب. ويتمثَّل الأمر التربوي الثقافي في مواجهة هذه المُشكلات وحلِّها عن طريق التكيُّف مع التقنيّات الغربية وقِيَمها الجديدة. وبالتالي، كان لا بُدَّ من بناء مُقوِّمات «الذات العربية» بوسائل هذه التقنيات وعلى رأسها المطبعة التي أتاحت نشر التّراث العربي من جهة، وتأسيس الصُّحُف والمجلّات من جهة ثانية. استغرق هذا البناء قرنًا كاملاً انطلقت خلاله حركة الترجمة والتأليف، وتأسَّست المدارِس، وتتابعت البعثات العلميّة من مصر إلى فرنسا وبريطانيا وأميركا.

والحال أنّ العرب كانوا في القرن التاسع عشر غارقين في ظلُمات الفقر والجهل. لم يُوقِظهم من سُباتِهم صليل السيوف الذي يتحدَّث عنه الحكواتي، بل هدير مدافِع الإفرنج التي تُبشرِّهم بالفرَج القادِم مع حفيد الإسكندر المقدوني، ويوليوس قيصر؛ لكي يُنقِذهم من حُكم المماليك. حمل معه لهذه الغاية مطبعةً وأربعين عالِمًا، ومكتبةً ضخمة بهَرت شيوخ الأزهر وعلى رأسهم مؤرِّخ الحملة الفرنسية عبد الرحمن الجبرتي. أمّا ما بهر محمد علي باشا فكان تنظيم الجيش الفرنسي وسلاحه. لذلك عمَد، عام 1826، إلى إرسال الطلبة من مصر؛ لكي يتخصَّصوا في الهندسة، وبناء الجسور، ويتدرَّبوا على سلاح المدفعيّة. وبذلك أسَّس جيشًا قويًّا أثار مخاوِف الباب العالي، فأسند إلى الإنكليز أمر القضاء عليه. كان على رأس هذه البعثة شيخ أزهري مُتنوِّر اسمه رفاعة رافع الطهطاوي (1801ـ 1873)، سُرعانَ ما أدرك حجم تخلَّف مصر المملوكية بالقياس إلى مدنيّة فرنسا وعلومها المُتطوِّرة. ومع أنّه وصف باريس في كتابه «تخليص الإبريز في تلخيص باريز»، بيَّن أنّ العاصمة الفرنسية، على جمالها، لا تُضاهي القاهرة، وإن كان لا بُدَّ لعاصمة مصر من الأخذ بأسباب الحضارة الفرنسيّة في المدنيّة والعُمران والتعليم والآداب. كما وجد أنّ الحرية عند الفرنسيين ليست شيئًا آخر غير العدل والإنصاف عند المسلمين. وإثْر عودته شرع في تأسيس مدرسة للبنين وأخرى للبنات، وأطلق مشروع التنوير الأوّل في كتابه «المُرشد الأمين للبنات والبنين». ومع الزمن، انتقلت أجناس أدبيّة جديدة إلى مصر وبلاد الشام وعلى رأسها الجنس المسرحي «التياترو»، الشِّعري والنثري، التراجيدي والكوميدي، الذي برع فيه نجيب الحدّاد (1867ـ 1899) تأليفًا وترجمةً. ومع ولادة حركة الشِّعر الحديث، برزت مُشكلة تأقلُم الذات العربيّة (المُسلّحة بِتراثِها الأدبي والديني) مع ظواهر الحداثة الوافدة من الغرب، مع ما تتطلَّبه من التفكير النَّقدي، والانفتاح على العَصْر.

احتلّ الإنكليز مصر سنة 1882، وفي العام 1877، اندلعت الحرب بين روسيا والإمبراطورية العُثمانية. لذلك انصبَّ اهتمام النهضويين بقضايا السياسة. ومع انتشار البعثات التبشيريّة المسيحيّة، في لبنان وسوريا، التي استخدمت اللغة العربية في ترويج أفكارها كما في برامجها التعليمية، بدأت حركة نهضة أدبية كانت نتيجتها توسيع دائرة القُرَّاء، وإحياء اللغة العربية. كما ازدهرت الصُّحُف التي أسّسها وأدارها اللبنانيون المنفيُّون إلى مصر. في هذا السياق، بدأت حركة إصلاح قادها كلٌّ من جمال الدين الأفغاني (1838 ـ 1897) وتلميذه محمد عبده (1849 ـ 1905) من خلال صحيفة «العُروة الوُثقى» التي لخَّص عبّاس محمود العقّاد في كتابه «محمد عبده، عبقري الإصلاح والتعليم» برنامجها في مبدأ عام ينطوي على مبادئ كثيرة، وهو حرب الاستعمار بكل وسيلة مُستطاعة [...] وإزالة أسباب الخِلاف بين الدول الإسلامية؛ لسدّ الثغرات التي يتسلل منها المُستعمِر بين تلك الدول لتأليب بعضها على بعض [...] ومنها ضمّ الصفوف الوطنيّة حيث يعيش المسلمون مع غير المسلمين. وفي الوقت نفسه، انبرى الأفغاني للدفاع عن الإسلام ضدّ المؤرِّخ الفرنسي، وفقيه اللغات الشرقيّة، أرنست رينان (1823 ـ 1892) في المُناظرة المشهورة بينهما. وهنا أشير إلى نقطة مفصليَّة سمّاها محمد كامل الخطيب «المُغامرة المُعقَّدة» في كتابه الصادر بالعنوان نفسه، في دمشق سنة 1976. ولعلّ ذروة التعقيد ماثلة في إدراك الإصلاحيين المُسلمين أنّ الاحتكاك بالغرب الصاعِد يضع العرب في مأزق فكري عويص: فهم مضطرّون، في مخاض إثبات هويّتهم والتحرُّر من الاستعمار، إلى طلب العلوم من المُستعمِرين الإنكليز والفرنسيين. من جملة هذه العلوم الفلسفة وتيّارات الفِكر النقدي التحليلي الذي يضع قضايا السياسة والأدب والدين، وموقفه من الحُكم، وحريّة المرأة موضع تساؤل. مع كلّ ما يُفضي إليه التساؤل، بطبيعة الحال، من مساسٍ بالعقيدة التي رسَّخت في الأذهان أنّ الإسلام دينٌ ودُنيا كما تُفيد الآية الكريمة «وجعلنا لكم شِرْعةً ومِنهاجا». وعليه فإنّ على العرب المُسلمين أن يستفيدوا من العلوم البرّانية كالطب، والهندسة، والزراعة، والصناعة. أمّا تلك العلوم التي تحرِف العقول والقلوب عن جادّة الصَّواب فيُمكِن الاستغناء عنها. طبعًا هذه خُلاصة بسيطة عن المأزق المذكور، ومن المُفيد أن نعود باستمرار إلى «سلسلة حوارات النهضة العربية» التي أشرف محمد كامل الخطيب على إصدارها في وزارة الثقافة؛ لكي نقِف على نِقاش هذه القضايا البالغة الأهمية، التي ما تزال موضِع أخذ وردّ في ثقافتنا العربية الإسلامية المُعاصِرة. وعلى رأس هذه القضايا هويّتنا العربية الإسلامية وعلاقتها بالآخَر، الغازي المُحتَلّ الذي رسم لنا حدودًا سياسيّة قطّعت أوصال المكان الذي يحتضِن «الذات العربيّة الإسلامية». سمّاها دُوَلاً، وسمّيناها بلادًا، وأوطانًا، وأُمَّةً!

في تلك الفترة، كانت الشعوب العربية تجِد في الدولة العثمانية قوّةً إسلاميّةً يحكمها خليفة من سلالة النبي. ومع ذلك، بدأت الدعوة إلى وجوب الاعتراف بالحقوق العربية في دولة الخلافة، وبأن تُجعَل اللغة العربية، لغة القرآن الكريم، لغة رسميّة ثانية إلى جانب اللغة التُركيّة. حتى إنّ بعض المُثقّفين العرب ذهب إلى المُطالَبة بأن تكون الإمبراطورية العثمانيّة تركيّة عربيّة. غير أنّ إثبات الهويّة العربية رجَّح كفَّة المُنادين بالانفصال عن الإمبراطورية العثمانيّة؛ بغيةَ تمييز العرب عن غيرهم من القوميّات. وخصوصًا أنّ الأتراك أنفسهم كانوا قد بدأوا يُعزِّزون هويَّتهم القوميّة، ويُطلقون حملة تتريك واسعة النِّطاق. لذلك اقتضت بنية الهوية إحياء جذورها الضاربة في «التراث العربي الإسلامي» بمُكوّناته الدينيّة المختلِفة. كما اقتضت تحقيق مخطوطات التّراث وفقًا للمنهج التاريخي الذي يُصنِّف الأدب في عصورٍ: الأدب الجاهلي، والأدب الإسلامي، والأدب الأُمويّ، والأدب العبَّاسي ...الخ. والسؤال الذي يفرض نفسه هنا: إذا لم يكُنِ «المنهج التاريخي» مُجرَّد تصنيف قائم على التعاقُب الزمني، بل هو عِلْم يُثبِت حقائق التاريخ، ويكشِف المُغالَطات التاريخية، ويُميِّز النصوص الحقيقية الموثَّقة عن النصوص الموضوعة الزائفة، فهل نعُدُّه علمًا برّانيًّا أم عِلْمًا جوّانيًّا؟

* في مقابل الزحف الثقافي الاستعماري على بلادنا كيف ترون إلى المواجهة الثقافية من جانب المفكرين والأدباء العرب والمسلمين؟

- لو عُدنا إلى كتُب النهضويِّين في تاريخ الأدب، لوجدنا أنَّهم نسجوا على منوال المُستشرقين الذين اعتمدوا قواعِد المنهج التاريخي في التصنيف بحسب العصور المُتتابعة؛ إذ لا يخفى أنّ جرجي زيدان (1861 ـ 1914)، على سبيل المِثال، تأثَّر، في كتابه «تاريخ آداب العرب»، بمنهج كارل بروكلمان (1868 ـ 1956) في كتابه «تاريخ الأدب العربي». غير أنّ طه حسين (1917 ـ 1973) طبَّق الشكّ المنهجي في نصوص التّراث العربي الإسلامي. وبنى على هذا الشكّ مشروعه التنويري الثاني بعد مشروع الطهطاوي. ولعلّ قصّته مع محمد مندور (1907 ـ 1965) أن تكشِف لنا جانبًا من جوانِب التعاطي مع المناهِج الغربيّة في الأدب والنقد. أصرَّ طه حسين على إيفاد مندور الذي كان قد حصل على إجازة في الحقوق، إلى جامعة السوربون، لكي يحضر إجازة في اللُّغات الأوروبية القديمة (اليونانية واللاتينية) وفي الأدب المُقارَن، وخلال ذلك، يحضر دروس المُستشرقين الفرنسيّين وينتفِع بمنهجهم، ويُحضِّر بإشراف أحدهم أطروحة دكتوراه. فحصل على الإجازة المطلوبة سنة 1939، لكنّ ظروف الحرب العالمية الثانية منعته من الحصول على درجة الدكتوراه. ولمّا عاد وأراد التدريس في قسم اللغة العربية، رفض طه حسين طلبَه على الرغم من دعم عميد كلية الآداب أحمد أمين. فلماذا رفض؟ أغلب الظنّ أنَّ سبب الرفض ليس عدَم الحصول على الشهادة، بل عدَم اكتساب المنهج الذي تُتيحه درجة الدكتوراه. وللسبَب نفسِه، رفض طلبَ مندور التعليم في القسم نفسه، بعد حصوله على الدكتوراه من جامعة فؤاد الأوّل. كان طه حُسين يُريد شكلَ المنهج وخلفيّته الفلسفيّة النقدية المبنيَّة على الشكّ الديكارتي. ولا نعرِف إنْ تلقّى مندور رسالة طه حُسين كما ينبغي. لكنّنا نُرجِّح ذلك في ضوء عنوان كتابٍ هامّ ألّفه مندور بعنوان «النقد المنهجي عند العرب»، وفي ضوء لقَب «شَيْخ النُّقّاد» الذي أُطلِق على محمّد مندور؛ إذ يشي العنوان واللَّقَب بما يُشبِه «الخُصومة المنهجيّة» بين شيْخ النُّقّاد و«عميد الأدب العربي».

وما زاد من حِدّة هذه المُشكِلة أنّ التفكير النّقدي يستدعي وضْع التّراث نفسه موضِع تساؤلٍ وشكّ. حينئذٍ ستجِد أنّ الاعتقاد العفوي بالحقيقة التاريخيّة دليلٌ على عقْل عامّي بسيط لا يُفكِّر. من ناحية أُخرى، تطلَّب تجديد مناهِج النّقد الذي نادى به طه حسين إيفاد طلبَةٍ إلى الغرب للتخصُّص في هذا المجال. لذلك أُوفِد السيِّد قُطب (1906 ـ 1966) إلى الولايات المُتّحدِة الأميركية سنة 1948 للحصول على درجة الاختصاص في التربية وأصول المناهِج. وبعد عودته ألَّف كتابه المشهور «النقد الأدبي، أصوله ومناهجُه»؛ حيث صدّرَه بالإهداء الآتي: «إلى روح الإمام عبد القاهر، أوَّل ناقِد عربي أقام النّقد الأدبي على أسسٍ علميّةٍ نظريّة، ولم يطمِس بذلك روحه الأدبية الفنيّة، وكان له من ذوقه النّافِذ، وذهنه الواعي ما يُوفِّق بين هذا وذاك، في وقتٍ مُبكِّر، شديد التبكير»].

فإذا علِمنا أنّ الإمام عبد القاهر الجرجاني (1009 ـ 1078) استمرار لمدرسة الجاحظ، صاحب كتاب «البيان والتبيين»، ومؤلِّف كتاب «دلائل الإعجاز» في القرآن الكريم، أدْركْنا أنّ السيّد قُطُب يُعرِّف النّقد بالقياس إلى النقد العربي القديم، وإلى مجموعة من المناهج التي عرفها خلال دراسته في أميركا. حيث يقول: «وظيفة النقد الأدبي وغايته، كما أوضحتُها في هذا الكتاب، تتلخَّص في: تقويم العمل الأدبي من الناحية الفنيّة، وبيان قيمته الموضوعيّة، وقِيَمه التعبيريّة والشُّعوريّة، وتعيين مكانَه في خطّ سَيْر الأدب، وتحديد ما أضافه إلى التُّراث الأدبي في لُغتِه، وفي العالَم الأدبي كلّه، وقياس مدى تأثُّره بالمُحيط، وتأثيره فيه، وتصوير سمات صاحبه، وخصائصه الشعورية والتعبيريّة، وكشف العوامل النفسيّة التي اشتركت في تكوينه والعوامل الخارجية كذلك».

لكنّه لم يتقيَّد، في تعريفه، بمنهجٍ مُحدَّد رُبّما لإدراكه أنّ قواعد المنهج السديد تتكوَّن من تحليل نصوص الأدب العربي الحديثة، الشعرية منها والنّثرية. ومن ثَمّ خصَّص القسم الثاني من كتابه لِعَرْض مناهِج النقد الأجنبية (المنهج الفنّي، والمنهج التاريخي، والمنهج النفسي، والمنهج التكامُلي)، ووصْفِها، دون أن يفصِّل النصوص على قياسِها: «هذا ولم اُرِد أن أحمل «النقد العربي» على مناهِج أجنبيّة عنه، لها ظروف تاريخية وطبيعيّة غير ظروفه، بل آثرتُ أن أتحدّث عن هذه المناهِج في محيط النقد العربي في القديم والحديث، فإذا اضطررتُ إلى الاقتباس من مناهِج النقد الأوروبي كان هذا في الحدود التي تقبلها طبيعة النقد في الأدب العربي، وتنتفِع بها وتنمو بها نمّوًا طبيعيًا، بعيدًا عن التكلُّف والافتعال».

لكنَّ الذي حصل منذ بداية سبعينيات القرن العشرين، أنّ إيفاد الطلبَة العرب للتخصُّص في مجالات النقد الأدبي الحديث ومناهجه المختلِفة، استمرّ حتى الآن، دون أن يُفضي إلى تأسيس منهجٍ عربيٍ في نقد الأدب؛ لأنّ الموفدين الذين يُفترَض أن يتمثَّلوا المناهِج الغربيّة، ويعتمِدوا ما يصلح منها للتطبيق على أدبنا العربي الحديث والقديم، اكتفوا بنقلها كما هي، وطبّقوها تطبيقًا آليًّا يقصُر عن بيانِ خصائص النصوص، الفنيّة، والتعبيرية والجمالية. ولا أعرف ما الذي جنيناه، على الصَّعيد النَّقدي والفكري، من البنيوية والسيميائية، والتفكيكية، ومن «المنهج الأسطوري» الذي نقده الدكتور وهب روميّة وكشف عيوبَه، ووجد فيه علائم ثقافة عربيّة مأزومة، وحداثةٍ مُموّهة؟! بغية تكوين فكرة واضحة عن دقائق نقد هذا المنهج، يُستحسَن الرجوع إلى كتابه الهامّ «شِعرنا القديم والنقد الجديد» (سلسلة عالَم المعرفة، عدد 207، الكويت 1996). وإذا شئنا الانطلاق في نقد المناهج الغربية الوافِدة، فسوف نجِد في هذا الكتاب الأسس المنهجية المتينة لهذا المشروع الفكري الضخم.

غير أنّي أقول بأسفٍ شديد: ما يزال واقع النقد العربي الحديث، بعد صدور هذا الكتاب برُبْع قَرن، بائسًا إلى حدٍّ بعيد. فهو، بدل أن يحفِّز على قراءة النصوص الأدبية من خلال بيان مواطِن جمالها، وتميُّزها في التعبير، يُنفِّر القارئ من اختزال النصّ المدروس إلى مجموعة من المُعادلات والخطوط البيانيّة، والأسهم التي تربط بينها. نعم، القارئ ينفُر من أغلب كتب النقد الأكاديمي الوصفي والتقني، كما ينفر من النقد الصحفي. ولا أعرف موقِفَه من نقد المُجاملة الذي ينتشر على صفحات التواصُل الاجتماعي انتشار النار في الهشيم. 

* رغم أنّ النّقد الأدبي يعمل على «النص» المفترض أن يكون «بشريًّا» نجد أنّ الكثيرين حاولوا إعمال هذا النقد في النص الديني الإسلامي رغم أنّه ليس بشريًا، وبالتالي هو يخضع لاعتبارات أخرى. إلى أيّ حدّ تعتبرون أنّ مناهج النقد الأدبي صالحة للاستعمال على النص الديني، لا سيّما أنّ النّص الديني الإسلامي يختلف عن النص الديني المسيحي باعتبارات ترتبط بمصدر النص؟

- سأبدأ بمناقشة الجزء الأوّل من السؤال الذي يُثير مُشكِلة تحتاج إلى التوضيح؛ إذ يستحيل أن يشتمِل النصّ اللُّغويّ غير لُغة البشر، ما دام منطوقًا بلغة مُعيَّنة ومكتوبًا بحروفها الأبجديّة. ومن المُسلَّمات أنّ اللُّغة وسيلة تعبير واتّصال بين بني البشر. أوَ لَم يُعرِّفها ابن جنّي بأنّها مجموعة من الأصوات يُعبِّر بها كلّ قومٍ عن أغراضهم؟ إذًا اللغة شيء محسوس ودنيويّ إذا شئنا. أمّا النصوص المُقدَّسة التي تُمثِّلها أسفار العهد القديم، والأناجيل الأربعة، و«القُرآن الكريم»، فكانت موضوع دراسة فقه اللُّغة، وعلم المعاني، وعلم التأويل.

كانت حالة النصّ القُرآني موضوع جدَل نقدي وفلسفي مُعقَّد لن أخوض فيه. بل أكتفي بالإشارة إلى أنّ الإمام عبد القاهر الجرجاني طبَّق منهجَه النقدي التحليلي الفنّي بالاعتماد على مفهوم «الإعجاز» الأسلوبي؛ إذ أبرزَ الدلائل على فرادة التعبير في القرآن. هذه الفرادة هي التي أقنعت الناس بأنّ ما يتلوه عليهم الرسول من آياتٍ موحاة هي كلام الله. فآمنوا بالدين الجديد، وتحمَّلوا تبعات هذا الإيمان، وقاتلوا في سبيله. وهكذا انتشر الإسلام بقوّة اللُّغة لا بِحَدِّ السَّيف. ونتيجة ذلك، تعدَّدت شروح القُرآن ضمن إطار «أسلوبه المُعجِز» الذي لا يتطرَّق إلى أيِّ جانب من شأنه المساس بثوابت العقيدة التي أقرّتها المذاهِب الأربعة. فهل تُمثِّل الشروح مناهِج نقدية؟

أظنُّ أنّ مُعظم الشروح تقوم أوّلاً على قواعد اللغة العربية ونحوها، وثانيًا على فهْم المذاهب للنصّ القرآني والأحاديث النبوية. وإذا أضفتُ أنّ النّقْل أكثر من العَقل في هذه المذاهِب، جاز القَول إنّ شروح القرآن لم تنطلِق من عَقْل نَقدي بمعنى المصطلح المنهجي. سألفِت النَّظر هنا إلى أنّ السيِّد قُطب قدَّم شرحًا هامًّا للنصّ القُرآني عنوانه «في ظلال القُرآن». وأعتقد أنّه اعتمد منهجًا وصْفيًّا بلاغيًّا في التفسير. والمنهج الوصفي موضوعيّ ومُريح.

* يبدو التوجّه السائد يقضي بإقصاء الدين عن الحضور في التيارات الأدبيّة والفكر النّقدي تماشيًا مع ما هو سائد في العلوم الطبيعيّة، ويمكن إرجاع ذلك إلى أنّ النّظريّة النّقديّة الحديثة والمعاصرة هي نتاج الحضارة الغربية، وما تعنيه من دلالات تتصل في كون الحضارة الغربية تأسّست على العلمانيّة أو اللا دينيّة، والتي تقصي الدين عن الحياة المدنية، وتنتصر لكل ما هو «إنساني دنيوي أرضي»؛ كيف يمكن التوفيق بين اقصاء الدين من جهة، وبين إعمال مناهج النقد في التراث الديني، أي بين إعمال مناهج دنيوية في تراث ما بعد دنيوي؟

- ليس من الضروري التوفيق بين إقصاء الدين من جهة، ونقد التراث الديني من جهة ثانية؛ لأنّ التراث الديني شيء، والعقيدة الدينيّة والإيمان شيء آخر لا علاقة له بالنّقد؛ لأنّ النقد قائم على الشكّ، والشكّ نقيض الإيمان. ثُمَّ ما معنى التراث؟ التراث مجموعة نصوص وصلت إلينا من أسلافنا. ومنها نَعرِف عاداتهم وتقاليدهم، وفنونهم. نعرِف كيف كانوا يُفكِّرون، ويُمارسون شعائرهم، ويُحيون أفراحهم، ويُعبِّرون عن أفراحهم. كما نعرِف الشريعة التي ساروا عليها، من خلال نصوص معروفة. لكنّ هذه النصوص تنطوي على الثمين كما تنطوي على الغثّ وغير المنطقي. لذلك يقتضي السعي وراء معرفة الحقيقة، أن نتحقَّق من صحّتها التاريخية والمنطقيّة والعقلية. كما يقتضي البحث عن تفسيرٍ موضوعيٍّ لمعانيها العميقة لا السطحيّة.

* كانت مقولة: إنّ النّقد الأدبي هو نتاج فكرة محوريّة الحضارة الغربية، مقولة صحيحة، فكيف يمكن تقييم مدارس النقد الأدبي الغربي من منظور العنصريّة والاستعلاء؟ وإلى أيّ مدى ساهم الفلاسفة وعلماء الاجتماع والأديان في الغرب في ترسيخ هذه الاستعلائيّة والعنصريّة؟

- للنقد الأدبي في الغرب تاريخٌ يمتدّ من القرن السابع قبل الميلاد حتى الآن. لذلك لا نستطيع أن نُصنِّفه إيديولوجيًا، ونربطه بالمركزية الأوروبية، ومنظورها العنصريّ.

 أجل! بعض التيارات الفكرية الغربية تنطلق من أفكار عُنصريّة، ولكنّها غريبة عن النقد الأدبي. ومن ثَمّ نتساءل: هل نجِد آثار الاستعلاء الغربي عند أفلاطون وأرسطو، وهوراس، وبوالو، وهيبوليت تين، وامبرتو ايكّو، وجيرار جينيت، ورولان بارت، وغيرهم كثير...؟

* هل يمكن الحديث عن موضوعيّة في العمليّة النقديّة بحيث يتجرّد الناقد عن كلّ الميول الثقافيّة والتربويّة والنفسيّة والاجتماعيّة؟ أم إنّه يصعب فصل الموضوعي عن الذاتي، لا سيّما وأنّ العملية النّقديّة هي عمليّة ذوقيّة بامتياز؟

- حين ينبني النّقد على منهج نَقدي عِلمي مُجرَّد عن الميول الذاتيّة، يعتمِد مبادئ وقواعِد مسوَّغة منطقيًا ومَعرفيًّا. في هذه الحال، تُفضي عملية التحليل النَّقدي إلى نتائج موضوعية بالضرورة. حتى النقد الانطباعي يُمكِن أن يكون موضوعيًّا حين يدرس الأساليب الشعرية أو النثرية التي تُثير الحساسية الجمالية في النصوص. كدراسة عناصر الصورة البلاغية اللافتة التي وصف امرؤ القيس من خلالها سُرعة حِصانه (مِكرٍّ مِفَرٍّ...). يُضاف إلى ذلك أنّ الذوق نفسه موضوع نقدي. فالأدب إنّما يعكِس ذوق المجتمع في مرحلة تاريخية مُعيَّنة. ولا يُمكِن أن نفهم هذا الذوق ونكتشِف أبعاده إلّا من خلال النصوص التي عكستْهُ. ومن هنا تنبع أهمية المنهج التاريخي في النقد الذي يُراعي تطوُّر الظواهر الثقافية والفنية والأدبية ضمن سياقها الزمني المُحدَّد. وتلوح أيضًا ملامح المنهج الاتّباعي (الكلاسيكي) القائم على مُحاكاة القُدماء بوصفهم مثلاً أعلى يُحتذى في كلِّ شيء.

* شهدت مذاهب النّقد الأدبي نقاشات حادة ترتبط بالمنهج بل وبالمفهوم أيضًا، وقد دفعت هذه النّقاشات إلى توجيه سهام النقد للنظريّة البنيويّة، وأدّت بالتالي إلى ظهور نظريات أخرى لعلّ أبرزها الشعريّة. لقد كان الناقد الفرنسي من أصل بلغاري تزفيتان تودوروف من أبرز ممثلي النّظرية الشعريّة، ورغم أنّه ينتمي إلى ما سمّي بحركة «النقد الجديدة» (التي جاءت لإعادة النّظر في أنماط التعامل مع النص الأدبي وفهم الظاهرة الأدبية بشكل عام) فقد أعاد النظر في حركة «النقد الجديدة» والموروث الشكلاني.

سؤالنا: هل يُمكن أن تقدّموا لنا بداية نظرة عامّة حول أسس النّظرية الشعريّة؟ وما هي أهمّ إنجازات تودوروف هنا، لا سيّما أنّه قد عُرف عنه انتقاده للفكر الغربي في النقد الأدبي؟

- تقوم أسس النّظريّة الشعريّة على دراسة نظريّة الأدب وخصائص الأجناس الأدبية كالتراجيديا، والكوميديا، والشِّعر، والملحمة، وغيرها. وتجدر الإشارة هاهُنا إلى أنَّ نظريّة الأدب الحديثة هي التربة التي أنبتت الشعريّة بمنهجها الحديث ودفعتها إلى التكامُل حتى إنّها تكاد ـ في نظر كثيرٍ من الدارسين الذين لا مجال لذكرهم في هذا المقام ـ تُطابِقها وتحِلَّ محلَّها. ورُبّما كان في هذا نصيبٌ كبير من الصواب، من دون أن يعني أنَّ قطيعةً حقيقيّة قد تمَّت بين القديم والحديث في النظريات الأدبيّة؛ إذ يُثبتُ الواقع أنَّ نوعًا من الاتِّصال ما يزال يمُدّ جسورًا مرئيّةً أو غير مرئيّةٍ بين نظريّتَي أفلاطون وأرسطو ومُختلف التيّارات الشِّعرية الحديثة والمُعاصرة.

أمّا تزفيتان تودوروف (1939 ـ 2017) فهرب من الحكم الشيوعي في بلده بلغاريا، ومن النقد الماركسي. وخصوصًا من نظرية «أندريه جدانوف» (1896 ـ 1948) ومبادئ الواقعيّة الاشتراكية. في البداية، اتّبع المنهج البنيوي، ومن السهل الاطّلاع على ما كتبه في مجال «الشِّعرية»، وخصوصًا في كتابَيه «الشِّعرية» (دار طوبقال، 1987)، و«شعرية النّثر» المنشور في باريس سنة 1971. حيث يُعرِّف موضوع الشعرية بأنَّه استنطاق «خصائص هذا الخطاب النوعي الذي هو الخطاب الأدبي». بغيةَ معرفة القوانين العامّة التي تُنظِّم ولادة كلّ عمل أدبي، وتُفسِّر سِرَّ أدبيّة الأدب. ومن ثَمَّ يشرح علاقة الشعرية بِمختلف طرائق دراسة الأدب كالتأويل والألسنيّة وغيرهما، لينتقل، من بعدُ، إلى مراحلها الأساسيّة في تحليل النصّ الأدبي انطلاقًا من المظهر الدلالي بمجموعتَي عناصره المُشتركة: الحضوريّة والغيابيّة، ومن مستويات الكلام، ومن المظهر اللفظي كالصيغة والزمن والرؤى والأصوات، والمظهر التركيبي الذي يشمل بُنى النصّ الخاضعة للنظامَين المنطقي/الزمني والنظام المكاني. 

وأمّا موقفه من البنيوية فقد عبّر عنه في مقالة نشرها في مجلّة «الشِّعرية» سنة 1977، بعنوان «ما البنيوية؟»، وفي كتاب «نقد النقد» الذي يُمارس فيه نوعًا من النقد الذاتي.

* يُشتهر عن تودوروف مقولة: موت الأدب. فما المقصود بموت الأدب؟ وما علاقة هذه المقولة بمقولة موت المؤلف لرولان بارت خاصّة أنّ الأخير كان أستاذًا لتودوروف؟

- مقولة «موت الأدب» ليست من مقولات تودوروف. في الواقع، ألَّف تودوروف كتابًا بعنوان «الأدب في خطر» وهو يُقارِن بين مرحلتَين من قراءة الأدب وتدريسه: مرحلة جيله، ومرحلة جيل أولاده الذين تعلّموا في فرنسا حيث لاحظَ أنّ برامج التعليم تُهمِّش الأدب تهميشًا عبثيًّا، وتقتصر على تعليم تاريخه، وأجناسه. ويرى أنّ من المستحيل أن تُفضي هذه البرامج إلى عِشق الأدب. ومع ذلك، لا يتبنّى وجهة نظر مُتشائمة، بل يرى أنّ الأدب يزيد معرفتنا بالإنسان والعالَم بشرط ألّا تكون مناهج تدريسه غاية في ذاتها. إذًا، تودوروف لا يُعلِن موت الأدب، بل يُحذِّر من خطورة المناهج السيِّئة في تدريسه.

أمّا رولان بارت (1915 ـ 1980) ـ الذي أشرف على أطروحة تودوروف لنيل شهادة الدكتوراه ـ فنشر سنة 1968 مقالاً بعنوان «موت المؤلِّف» يقول فيه: لم يعُد المؤلِّف وحدَه هو الذي يضمن المعنى في نصِّه. وعليه الآن أن يُخلي مكانَه للقارئ الذي يُعيد كتابة النصّ. وهكذا تقتضي «ولادة القارئ» «موتَ المؤلِّف» لِصالح عملية الكتابة ذاتها.

* إذا نظرنا إلى النقد الغربي وجدنا أنّه يتمّ الترويج له عبر شعارات: المنهجيّة العلميّة، والموضوعيّة، ونزاهة الباحث وحياده، وسلامة إجراءاته، ومتانة المنهجية ذاتها. ما يدفع النقاد العرب، تبعًا للغرب، لرفض الطرح الديني أو أيّة نقاشات تنطلق من منهج ديني لتقييم النّص. فيما تُحيلنا الممارسات النقديّة الأدبية الغربية إلى انحيازات عديدة للمركزيّة الفكريّة الغربيّة بشكل عام، وكلّ ما يتّصل بها من أسس معرفيّة ولاهوتيّة ولغويّة وقوميّة بشكل خاص، لا سيما ما يختص بالتراث اليهودي-المسيحي. برأيكم ما هو سبب تمسّك بعض النقاد العرب بهذه المنهجية، وهذا الانحياز للمدارس الغربية؟

- لا ينجِم استبعاد الطرح الديني دومًا عن الانحياز إلى المناهِج الغربيّة. بل ينجِم عن تجنُّب إقحام العقيدة والمذاهِب في مجال النَّقْد.  فمعايير المنهج الديني، إذا سلّمنا بإمكانيّة وجود هذا المنهج، لا تصلُح لنقد نصوص الأدب، حتى لو كان مضمونها دينيًا؛ سبب ذلك أنّ هذه المعايير ستقوم على مبدأ التضادّ بين الخير والشرّ، والصالح والطالِح، والحلال والحرام، والثواب والعِقاب، والبشري والإلهي.

وبعبارة أخرى، ذلك كلّه يندرِج ضمن إطار «أسلمة» أو «نَصرنة» النَقد الأدبي، على غِرار أسلمة العلوم التي يأتي في سياقِها كتاب «فلسفة العلوم بنظرة إسلاميّة» لأحمد فؤاد باشا (القاهرة 1984)؛ حيث جاء فصلُه الأوّل بعنوان «في نظريّة المعرفة وأسلمة التفكير العِلمي». لمَ لا. ولكنّ ما ينطبق على التفكير العِلمي لا ينطبق على التفكير النّقدي، مع أنّ العقْل واحد. لاحظ مثلاً أنّ السيِّد قُطب لم يُجانِب الموضوعيّة في كتابه «النقد الأدبي». بينما دأب أخوه محمد قُطب (1919 ـ 2014) على أسلمة العلوم الإنسانية داعيًا إلى تأسيس علم نفس إسلامي، وعلم اجتماع إسلامي، وإلى عدَم الإفادة من المناهِج الغربية المُشابهة بحجّة أنّها نشأت في سياق حركات مُعادية للدين.

ألّف هذا الباحث المُسلِم، الذي كان يُعلِّم في الجامعات السعوديّة حتى مماته ـ حوالي أربعين كتابًا من وجهة نظر العقيدة الإسلامية، لفتَ نظري منها «قضيّة التنوير في العالَم الإسلامي» أرجع فيه تخلُّف الأمة الإسلامية إلى أمراض العقيدة وأمراض السلوك. وصنَّف التنويريّين في فئتَين: فئة حسَنيِّ النيَّة كالطهطاوي وتلامذته، وفئة المُحدَثين الحريصين على إبعاد أُمّتهِم عن الإسلام، وعلى نبذ الدين على غرار الأوروبيِّين في عصرٍ مختلِف عن العصر الحالي الذي يعيشه المُسلِمون.

والآن لو قرأنا هذا النصّ الذي يقول فيه: «ونقاشُنا هو مع هؤلاء المُحدَثين، لا مع الأجيال الأولى التي عاشت فترة انتقال، حملت شيئًا من ملامح القديم وشيئًا من ملامح الجديد (كما يحدث دائمًا في فترات الانتقال) بينما تبلور الوضع الآن مع التنويريّين المُعاصرين فصار خطًّا واضحًا مناوئًا «للدين» أو في القليل راغبًا في تحجيمه ـ إن عجزوا عن إزالته ـ بحيث يُصبح كتالدين الكنسي في الغرب: علاقة بين العبد والرَّب، محلّها القلب، ولا صِلة لها بواقِع الحياة!»، لَوجدنا أنّه لا يُحدِّد مناهِج هؤلاء المُحدَثين الذين يضمّون نُقّادًا ماركسيين، ونفسانيين، وبنيويّين، وأصحاب منهج التفكيك، وغيرهم.

أما إذا قرأتَ هذا المقطع: «الخطأ الرئيسي في منهج هؤلاء هو عدَم إدراكهم الفرق بين حال الأمّة الإسلامية اليوم وحال أوروبا في عصورها الوسطى المُظلِمة، التي لم تجِد لنفسها مخرجًا إلّا بنبذ الدين [...] ومناداتهم من ثمّ بأنّ عِلاج الأمّة الإسلاميّة يجب أن يكون هو العِلاج ذاته الذي استخدمته أوروبا من قبل، وأودى بها إلى القوّة والتمكين»، فسوف تجِد فيه جوابًا على سؤالِك. أمّا أنا فأقول باستحالة أسلمة النقد الأدبي. ولو كانت أسلَمتُه مُمكِنة لَأَسلمه السيِّد قُطب، ومصطفى صادق الرّافعي، وغيرهما من نُقّاد المرحلة الثانية من النهضة العربيّة.

 
فروع المركز

فروع المركز

للمركز الإسلامي للدراسات الإستراتيجية ثلاثة فروع في ثلاثة بلدان
  • العنوان

  • البريد الإلكتروني

  • الهاتف