البحث في...
إسم البحث
الباحث
اسم المجلة
السنة
نص البحث
 أسلوب البحث
البحث عن اي من هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على كل هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على هذه الجملة

المبادئ العامة للعلاقات الدولية في الإسلام

الباحث :  أ.عبّاس ذهيبات
اسم المجلة :  مجلة المنهاج
العدد :  35
السنة :  السنة التاسعة خريف 1425هجـ 2004 م
تاريخ إضافة البحث :  March / 2 / 2015
عدد زيارات البحث :  2279

المبادئ العامة للعلاقات الدولية في الإسلام

أ.عبّاس ذهيبات (*)

إنّ المتفحِّص لأقوال الرسول(صلي الله عليه و آله) وسيرته يجد أنه قد صاغ مبادئ جديدة للعلاقات الدولية، لم تكن معروفة من قبل، وقد أقرَّها القانون الدولي في ما بعد، وأصبحت سارية المفعول في العلاقات بين الدول في أوقات الحرب والسِّلم، ومن أبرز هذه المبادئ ما يأتي:
أولاً: المعايير والقواعد الأخلاقية
إنّ أهم ما يميّز السياسة الخارجية الإسلامية، من غيرها، أنها تضع المعايير الأخلاقية على رأس اهتماماتها، على العكس ممن يرى أنّ العلاقات الدولية لا علاقة لها بالجانب الأخلاقي.
ففي القرون الوسطى ـ كما هي الحال في عالم اليوم ـ "اتصفت الدبلوماسية بمعاني المؤامرات والدسائس والتجسُّس والنشاطات السرية للدبلوماسيين والسفراء" (1) . وغدت العلاقات ترسم على قاعدة المصالح، بعيداً عن المبادئ والقيم، وأصبحت النظرة إلى السياسة الدولية كأنها غابة كبرى تعيش فيها الحيوانات المفترسة، لذلك يتحتم على الساسة أن يتحلَّوا بأخلاق الثعالب حتى يبصروا مواقع الفخاخ.
واستمر السلوك الغربي على هذا النحو، وظهرت فلسفات ومقولات تُسوِّغ هذا المنحى
________________________________________
(*) باحث من العراق
(1) انظر مجلة الفكر الجديد، السنة الثالثة، العدد التاسع، ص279، عن موضوع في الدبلوماسية الإسلامية لجعفر عبدالرزاق.

[الصفحة - 307]


غير السوي وتجذّره ، كالميكيافيللية التي ترى: "أنّ الغاية تبرر الوسيلة"، ومفادها الحصول على المنافع وتحقيق المصالح، بغضّ النظر عن الوسائل المتّبعة، إنسانية كانت أم وحشية، ومهما كانت النتائج المترتِّبة عليها. وكالبراغماتية التي تسوِّغ الظلم والانحراف عن مبادئ الحق والصدق في سبيل الوصول الى النتيجة.
من ذلك كله، نلاحظ اتصاف السلوك السياسي الغربي باللامبدئية، وانعكاس ذلك على تصريحات ساستهم، فعلى سبيل الاستشهاد: كان تشرشل ـ رئيس الوزراء البريطاني في أثناء الحرب العالمية الثانية ـ يردد مقولته المشهورة: "ليس هناك عدو دائم أو صديق دائم. ولكن هناك مصلحة دائمة". ويورد "أمين هويدي" قصة ونستون تشرشل، حينما كان في زيارة إحدى المقابر، فقرأ الكلمات الآتية المحفورة على أحد القبور: "هنا يرقد السياسي العظيم والرجل الصادق"، فعلَّق تشرشل على ذلك: "هذه أول مرّة أرى رجلين مدفونين في تابوت واحد" (2).
ومن الضرورة بمكان الإشارة إلى أنّ بعض قادة العالم وساسته، قد أدرك ـ حديثاً ـ ضرورة إدراج المعايير الأخلاقية والإنسانية في العلاقات الدولية. يقول الرئيس السوفياتي السابق (غورباتشوف) في كتابه الموسوم بـ "البرويسترويكا": "لأول مرّة في التاريخ أصبح هناك حاجة لإدراج المعايير والقواعد الأخلاقية والجمالية الإنسانية في أساس السياسة الدولية، وأنسنة العلاقات الدولية" (3).
وفي عودة إلى أصل المطلب، نلاحظ أنّ للإسلام قصب السبق في تقنين مفاهيم الصدق، والأمانة،والوفاء بالعهود، والرّحمة، والإحسان، والدعوة بالحسنى، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وغيرها من المفاهيم الإسلامية وتطبيقها.
وكان السلوك السياسي الإسلامي، خصوصاً في صدر الإسلام، منسجماً والإطار العام للشريعة وقواعدها وتوجهاتها. ومصداقاً من السُّنة على ذلك، يقول الإمام الصادق(عليه السلام): "كان رسول الله(صلي الله عليه و آله) إذا أراد أن يبعث سرية دعاهم فأجلسهم بين يديه، ثمّ يقول: سيروا باسم الله وبالله، وفي سبيل الله، وعلى ملّة رسول الله، ولا تغلّوا، ولا تمثّلوا، ولا تغدروا، ولا تقتلوا شيخاً فانياً، ولا صبيّاً، ولا امرأة، ولا تقطعوا شجرا ًإلاّ أن تضطرّوا إليها..." (4).
كان ذلك ديدن الرسول(صلي الله عليه و آله) في جميع حروبه، يحدّد قواعد التعامل الدولي في أوقات الحرب، التي هي ـ عادة ـ من أصعب الأوقات،وفيها توضع المبادئ على المحك.
________________________________________
(2) هويدي، أمين، كيسنجر وإدارة الصراع الدولي، ص225 دار الطليعة بيروت ط1.
(3) غورباتشوف، البيريسترويكا، ص200 دار الفارابي ط1.
(4) بحار الأنوار، ج19، ص177.

[الصفحة - 308]


وفي نظرة مقارنة، نجد تعاليم "العهد القديم" المحرَّفة، وهي الدليل الشرعي للسلوك الإسرائيلي اللاإنساني، تقول: "اهلكوا جميع من في المدينة من رجل وامرأة وطفل وشيخ، حتى البقر والغنم والحمير بحدّ السيف، واحرقوا المدينة وجميع ما فيها بالنار" (5) .
أما الصليبيون، فقد دوّن التاريخ ما ارتكبوه من أعمال شنيعة، فقد كتب المؤرخ الراهب (روبرت) يصف ما حدث حين الاستيلاء على القدس: "وكان قومنا يجوبون الشوارع والميادين وسطوح البيوت ليرووا غليلهم من التقتيل، وذلك كاللبوات التي خُطفت صغارها، وكانوا يذبحون الأولاد والشبان والشيوخ ويقطعونهم إرباً إرباً، وكانوا لا يستبقون إنساناً، وكانوا يشنقون أناساً كثيرين بحبل واحد بغية السرعة... وكان قومنا يقبضون على كل شيء يجدونه، فيبقرون بطون الموتى ليخرجوا منها قطعاً ذهبية، فياللشره وحبِّ الذهب! وكانت الدماء تسيل كالأنهار في طرق المدينة المغطاة بالجثث.. ولم يكن بين تلك الجماعة الكبرى واحد ليرضى بالنصرانية ديناً، ثم أحضر "بوهيموند" جميع الذين اعتقلهم في برج القصر، وأمر بضرب رقاب عجائزهم وشيوخهم، وضعافهم، وبسوق فتيانهم وكهولهم إلى أنطاكية لكي يباعوا فيها" (6).
مما تقدم يظهر البون الشاسع بين السلوك الإسلامي السوي، وبين الممارسات اللاإنسانية لساسة النصرانية واليهودية. ما دفع المؤرخين المنصفين، وفيهم غربيون أمثال (غوستاف لوبون) الفرنسي، إلى القول: "إن التاريخ لم يعرف فاتحاً أرحم من العرب" (7).
إنّ هذه الشهادة من مفكر غربي تثبت، بما لا يدع مجالاً للشك، أنّ العلاقات الدولية في الإسلام قائمة على مبادئ الرّحمة، التي تتضمن ـ من دون شك ـ معاني: الصدق، والإحسان، واحترام كرامة الإنسان. ولا تنفصل علاقاته السياسية أو العسكرية ـ بحال ـ عن المبادئ الإنسانية والأخلاقية.
يقول الشيخ محمد مهدي شمس الدين: "إذا وصفنا نظام حكم بأنه (إسلامي) فلا بدّ من أن نشترط ـ نتيجة ضرورية للوصف السابق ـ توافر العنصر الأخلاقي فيه؛ لأنّ الإسلام ومكارم الأخلاق لا يفترقان. فإذا خضع هذا النظام لمبادئ الدين الإسلامي خضوعاً شكلياً، وخالفه في عدم توافر العنصر الأخلاقي فيه كان خارجاً عن الإسلام، فلا يمكن اعتباره إسلامياً" (8) .
ولكون السياسة الإسلامية أخلاقية بالدرجة الأولى، فلم تعرف نظام الاستعمار أو نظام
________________________________________
(5) سفر يشوع، الإصحاح السادس؛ راجع: طلاس، العماد مصطفى، آفاق الاستراتيجية الصهيونية ، ط1.
(6) مجلة قضايا إسلامية، العدد الأول، ص133.
(7) بوطول، غاستون، السِّلم المسلح، ص7، تعريب أكرم دير.
(8) شمس الدين، محمد مهدي، نظام الحكم والإدارة في الإسلام، ص43.

[الصفحة - 309]


الاحتلال العسكري أو نظام الحماية العسكرية ولم تأخذ به. والشريعة الإسلامية ـ نفسها ـ لم تألف أساليب الاستعمار الحديث بالتدخل في اقتصاديات الدول الأخرى عن طريق الضغط، وفرض النفوذ، والتهديد، والوعيد بالاحتكام إلى وسائل الإكراه والقوة.
ثانياً: احترام العهود والمواثيق
العهد: هو ما يتفق رجلان أو فريقان من الناس على التزامه بينهما لمصلحتهما المشتركة، فإن أكّداه ووثّقاه بما يقتضي زيادة العناية بحفظه، والوفاء به، سمّي ميثاقاً، وإن أكّداه باليمين بخصوصاً سمّي يميناً.
والمعاهدات ـ وطبقاً للقانون الدولي ـ تعقد بين الدول والمنظمات الدولية، أما في الإسلام فإنّ عقد العهد قد يكون من أحد الأفراد العاديين الراشدين، كما في الأمان. وقد يكون من قائد الجيش المفوض إبرام الصلح مع العدو، أو من حاكم الدولة. أما الأمان فهو عقد يفيد ترك القتل والقتال مع الحربيين (9).
وقد مارس الرسول(صلي الله عليه و آله) السياسية بمفاهيم مثالية قد لا يستوعبها الناس في هذا العصر، مع أنه عاش الواقع، ومارس "فن الممكن"، فتحالف مع المشركين، كما في حلفه مع خزاعة، وتعاقد مع اليهود في خبر الصحيفة، فلم ينقض عهداً، ولم يغدر بعدو (10).
أما في ما يتعلق بالعلاقات الدولية، فيمكن عدّ كتاب الصلح الذي كتبه الرسول(صلي الله عليه و آله) مع يوحنا حاكم أيلة، مثالاً على ذلك. إذ تعهد لهم بأنهم وسفنهم وقوافلهم البحرية في أمان الله ورسوله. كما أنّ الذين يمرّون من تلك المنطقة قادمين من الشام واليمن والبحر، هم بدورهم سيكونون آمنين. ويجب أن يتعهد أهل أيلة على أن يدفعوا الدّية لأهالي المقتولين، وأن لا يحرموا الآخرين من دخول مياههم الإقليمية، ولا يغلقوا الطرق المائية والبحرية بوجه الآخرين (11).
ولو راجعنا سيرة الرسول الأكرم(صلي الله عليه و آله) وجدنا أنه كان يفي بوعوده ومعاهداته، ولا ينقضها طالما يلتزم الطرف الآخر بها، على سبيل المثال: "إنّ الرسول الأكرم(صلي الله عليه و آله) وعد المشركين )في( ضوء معاهدة صلح الحديبية، بتسليمهم الأشخاص الذين يفرّون من مكّة إلى المدينة. وبعد عقد المعاهدة دخل المدينة شخص مسلم يدعى أبا بصير، كان قد هرب من مكة. وإثر ذلك بعث المشركون شخصاً إلى الرسول الأكرم(صلي الله عليه و آله) طالبين منه أن يسلمهم
________________________________________
(9) الزحيلي، د. وهبة، العلاقات الدولية في الإسلام، ص136.
(10) عرموش، قيادة الرسول، ص205.
(11) النص الكامل للمعاهدة مدوّن في مجموعة الوثائق السياسية التي جمعها محمد حمد الله، ص117 ـ 118.

[الصفحة - 310]


ذلك الشخص.
فقال(صلي الله عليه و آله) لأبي بصير: نحن عاهدنا هؤلاء القوم بتسليم الهاربين إليهم، وإنّ ديننا لا يسمح بالغدر ونقض المعاهدات، إذهب معهم وسيجد الله لك حلاً. فقال أبو بصير: هل تسلمني إلى المشركين يا رسول الله ليأخذوا ديني مني؟! فقال له الرسول: يا أبا بصير، يجب أن نفي بوعدنا. إذهب معهم وكن على يقين بأنّ الله ـ تعالى ـ سينقذك ومعك سائر المستضعفين" (12).
وفي هذا السياق، نجد للرسول(صلي الله عليه و آله) أحاديث تدعو إلى الوفاء بالعهود، منها: "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليف إذا وعد". وقال أيضاً: "يجب على المؤمنين الوفاء بالمواعيد والصدق فيها" (13).
يقول العلاّمة الطباطبائي في الميزان: "وليس ذلك، إلاّ لأنّ العهد والوفاء به ممّا لا غنى للإنسان في حياته عنه أبداً، والفرد والمجتمع في ذلك سيّان، وإنّا لو تأمّلنا الحياة الاجتماعية التي للإنسان وجدنا جميع المزايا التي نستفيد منها، وجميع الحقوق الحيويّة الاجتماعية التي نطمئن إليها، مبنية على أساس العقد الاجتماعي العام، والعقود والعهود الفرعيّة التي تترتب عليه، فلا نملِّك من أنفسنا للمجتمعين شيئاً، ولا نملك منهم شيئاً إلاّ عن عقد عملي، وإن لم نأت بقول، فإنّما القول لحاجة البيان، ولو صح للإنسان أن ينقض ما عقده وعهد به اختياراً؛ لتمكّنه منه بقوة أو سلطة أو بطش أو لعذر يعتذر به، كان أوّل ما انتقض بنقضه هو العدل الاجتماعي، وهو الرّكن الذي يلوذ به ويأوي إليه الإنسان من إسارة الاستخدام... وإذا قايست بين ما جرت عليه سنّة الإسلام من احترام العهد، وما جرت عليه سنن الأمم المتمدّنة وغير المتمدّنة، ولا سيما ما نسمعه ونشاهده كلّ يوم من معاملة الأمم القوية مع الضعيفة في معاهداتهم ومعاقداتهم، وحفظها لها ما درّت لهم أو استوجبتها مصالح دولهم، ونقضها بما يسمّى عذراً، وجدت الفرق بين السنّتين في رعاية الحقّ وخدمة الحقيقة" (14).
على هذا الصعيد، من حق الدولة الإسلامية عقد المعاهدات المختلفة مع الدول الأخرى، سواء أكانت لأغراض ثقافية أم اقتصادية أم عسكرية، شريطة أن تُراعى مصلحة الإسلام، وأن لا تتضمن هذه المعاهدات ما يتناقض وأصول الدين، وأركان الإسلام، فتصبح باطلة عملاً بالحديث المروي عن الرسول(صلي الله عليه و آله) : "كل شرط ليس في كتاب الله فهو باطل".
________________________________________
(12) عن مقالات المؤتمر الثالث للفكر الإسلامي الذي عقد في طهران عام 1405 هـ ، ص252.
(13) بحار الأنوار، ج77، ص149.
(14) الطباطبائي، محمد حسين، الميزان في تفسير القرآن، ج5، ص159، مؤسسة الأعلمي بيروت ط5.

[الصفحة - 311]


هذا وقد قامت بين دولة الإسلام وبين غير المسلمين معاهدات حسن جوار أو موادعة، فقد عاهد الرسول بني مدلج ليؤمِّن الطرق التي يسلكها جيش المسلمين، لمحاربة أعدائه، كما صالح يوحنا بن رؤبة، صاحب أيلة، على الجزية وكتب له كتاباً، وذلك إبّان الإعداد لغزوة تبوك، ليؤمّن الرسول(صلي الله عليه و آله) حدود بلاد المسلمين من الروم في المنطقة القريبة من بلاد الشام.. ويمكن للمسلمين أن يدفعوا إلى عدوهم مالاً مقابل الأمان والموادعة، وذلك عند الضرورة القصوى، وقد كادت مثل هذه الحالة تتم في عهد الرسول(صلي الله عليه و آله) بعد معركة الخندق، حيث وجد النبي(صلي الله عليه و آله) أنه يمكن رأفة بالمسلمين في المدينة، وحماية لهم من أذى المشركين، أن يدفع لأعدائه ثلث نتاج يثرب من التمر، غير أنّ الرسول عدل عن هذا الموقف حين أنس من الأنصار القوة والرغبة في الدفاع عن مدينتهم (15).
وقد أجاز الإسلام نقض المعاهدات في عدّة حالات، منها:
1 ـ إذا ظاهر المعاهد عدوّاً للمسلمين وناصره عليهم.
2 ـ إذا خاف المسلمون من المعاهدين خيانة للمعاهدة.
أما في حالة نقض المعاهدة فيجب الرّد على المشركين بقوة وقسوة، كما نصّت عليه الآيتان: 56 و57 من سورة الأنفال. وفي الآية (4) من سورة التوبة إشارة ضمنية إلى إمكانية إقامة العلاقات الدولية مع الدول غير الإسلامية.
وبمقتضى الآية الأخيرة يجب الوفاء بالعهود حتى نهاية المدّة المحدّدة في متن العقد، فإذا انتهت جاز عدم تجديدها أو إنهائها. يقول تعالى: { إِلاَّ الَّذِينَ عَاهَدتُّم مِّنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنقُصُوكُمْ شَيْئًا وَلَمْ يُظَاهِرُواْ عَلَيْكُمْ أَحَدًا فَأَتِمُّواْ إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ (16) .}
ولم تكن المعاهدات في الإسلام حبراً على ورق، ولا وسيلة لخداع العدو عند الإحساس بالضعف، ليتم نقضها عند الشعور بالقوة، كما هو الشأن عند الدول غير الإسلامية المعاصرة، أو تلك الدول التي يحسب حكامها على المسلمين أنفاسهم، كالطاغية صدام ـ الرئيس العراقي السابق المنبوذ ـ الذي أبرم معاهدة عام 1975م مع شاه إيران، ثم عاد ونقضها ومزّق ما وقّعه بالأمس أمام شاشات التلفاز! ثم عاد واعترف بها من جديد بعد حرب ضروس استمرت ثمانية أعوام، وحصدت الأخضر واليابس، وجعلت من اقتصاد البلدين الجارين قاعاً صفصفاً.
وهنا كان من الضروري الإشارة إلى أنّ الإسلام قد سبق إلى مبدأ مثالي في التعامل
________________________________________
(15) مكي، د. محمد كاظم، النظم الإسلامية، ص268.
(16) سورة التوبة، الآية 4.

[الصفحة - 312]


الخارجي، وهو "مبدأ النَّبذ"، تحرُّزاً من الغدر في حالة نقض الصلح أو العهد مع الأعداء.
والنَّبذ: معناه الإعلام بنقض العهد. وهو مبدأ قرآني أشارت إليه الآية: { وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِن قَوْمٍ خِيَانَةً فَانبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاء } (17).
والمعنى، إذا كان بينك يا محمد وبين قوم عهد، وعلمت يقيناً أنّهم خائنون بظهور أمارات قاطعة على أنّهم يضمرون الغدر، ويتخذون من العهد ستاراً يدبّرون من ورائه المكر السيّئ، إذا كان كذلك فالق إليهم عهدهم، واعلمهم أنك قد نقضته، بحيث تكون أنت وهم في العلم بالنقض سواء، ولا تبدأهم بقتال قبل أن تعلمهم بذلك، كي لا تُنسب إلى الغدر والخيانة (18).
وفي نهاية هذه الفقرة يمكن القول: إنّ الإسلام، من خلال السيرة النبوية الشريفة، يحترم المعاهدات والالتزامات الخارجية، ولا يبغي من ورائها سيطرة ولا تملُّكاً ولا استعماراً، ولا يتخذ منها وسيلةً لإذلال الشعوب والدول وإخضاعها، بل يحرّم كل معاهدة تهدف إلى شيء من هذا الطغيان، إنّه ينسف من الأساس مبدأ ميكيافيللي: "الغاية تبرر الوسيلة".
ثالثاً: عدم الاعتداء
إنّ الإسلام دين مبدئي يُحرّم الاعتداء على الآخرين، سواء على المستوى الفردي أم الجمعي. ومن يدرس أسباب غزوات الرسول(صلي الله عليه و آله)، يجد أنّها كانت لردّ اعتداء خارجي أو داخلي أو لإحباط نية اعتداء. وما إن يجد الرسول الأكرم(صلي الله عليه و آله) من عدوٍّ ميلاً للسلام إلاّ بادر إلى تشجيع هذا الميل، وسعى حثيثاً إلى الارتباط مع العدو بصلح أو هدنة أو معاهدة وما إلى ذلك.
يقول محمود شيت خطاب: "إنّ دراسة أسباب غزوات الرسول(صلي الله عليه و آله) بروح محايدة بعيدة عن الهوى، تثبت أنّ المسلمين لم يعتدوا على أحد؛ لأنّ الله لا يحب المعتدين" (19).
وعليه، فمن الطبيعي أن يذم الإسلام الحروب العدوانية، أما حروبه فكانت دفاعية، إمّا لرّد اعتداء فعلي أو لردع اعتداء مستقبلي. فلو تقصّينا أسباب التوتر في العلاقات الدولية الإسلامية مع الدولتين الرومية والفارسية، لوجدنا أنّ هاتين الدولتين قد رفضتا الاعتراف بالدولة الإسلامية الفتية، ولم تستجيبا لدعوات الرسول(صلي الله عليه و آله) السِّلمية التي بعثها إلى زعيمي الدولتين.
________________________________________
(17) سورة الأنفال، الآية 58.
(18) مغنية، الشيخ محمد جواد، التفسير الكاشف، ج3، ص399، دارالعلم للملايين.
(19) انظر: خطّاب، محمود شيت، الرسول القائد، ص474.

[الصفحة - 313]


ومما يثير الاستغراب أنّ كسرى، كان يعدّ الرسول(صلي الله عليه و آله) أحد رعايا دولته: "قيل: بعد أن مزّق كسرى الكتاب قبل أن يعلم ما فيه، قال: يكتب إليّ بهذا وهو عبدي" (20).
ثم أرسل عامله على اليمن ليأتيه برأس الرسول(صلي الله عليه و آله)، وقد ردّ الله تعالى كيده إلى نحره، بعد أن لقي كسرى حتفه على يد ابنه، مع ذلك استمر الفرس في الإغارة على القبائل العربية المجاورة لهم بعد أن أعلنت إسلامها، وانضوت تحت سيادة الدولة الإسلامية.
أما الروم، فلم يشأ النبي(صلي الله عليه و آله) محاربتهم ابتداءً، ولكنهم احتكموا إلى السيف، وتعاونوا مع نصارى الشام بغية التصدي لإيقاف المدّ الإسلامي الجارف، الذي أخذ يكتسح حدودهم الجنوبية، فأخذوا يقتلون كلّ من أسلم من القبائل العربية الخاضعة لسيادتهم، ومن ضمن القتلى أحد أمراء الغساسنة (فروة بن عمرو الجذامي)، الأمر الذي أشعل فتيل الحرب في تبوك، التي تفادى الروم هزيمتها بانسحابهم (التكتيكي) إلى داخل حدودهم. كما قتلوا من قبل سفير الرسول(صلي الله عليه و آله) ـ وهو (الحارث بن عمير الأزدي) ـ إلى عظيم بصرى. وكان هذا العمل الشنيع سبباً لاشتباك قوات الدولتين الأول في مؤتة.
من ذلك كله نخرج بنتيجة يقينية هي أنّ حروب النبي(صلي الله عليه و آله) ضد هاتين الدولتين كانت من أجل ردّ الاعتداء، وإحباط النوايا العدائية.
من جهة أخرى، نلاحظ أنّ رسول الله(صلي الله عليه و آله) يُحرّم الاعتداء على الأبرياء من رعايا الدول غير الإسلامية. إنّه يمنع قتل النساء والصبيان والرهبان والشيوخ والعميان والزمنى ونحوهم، إلاّ أن يكونوا أنفسهم مقاتلين؛ لأنّ القتال هو لمن يقاتل المسلمين، ويصدهم عن إظهار دين الله، فمن لم يمنع المسلمين من إقامة دين الله لم تكن مضرة كفره إلاّ على نفسه.
فلم يكن القصد من الحروب الإسلامية إجبار الناس على الدخول في الإسلام، كما يزعم بعض المستشرقين، ولا العامل الاقتصادي بسبب الجفاف أو الجوع في الجزيرة العربية، كما ظنّ البيزنطيون والساسانيون الأولون، وإنّما كان الهدف الأسمى هو إعلاء كلمة لا إله إلاّ الله، التي تستبطن التحرر من كل العبوديات الأرضية. ومن الشواهد التاريخية على ذلك: قال ربعي بن عامر مبعوث المسلمين إلى الفرس لرستم قائد الفرس قُبيل موقعة القادسية: إنّا لم نأتكم لطلب الدنيا، ووالله لإسلامكم أحبّ إلينا من غنائمكم.
________________________________________
(20) انظر: الأحمدي، مكاتيب الرسول، ص92.

[الصفحة - 314]


وقال عبادة بن الصامت للمقوقس: إنّ رغبتنا وهمتنا في الله واتّباع رضوانه، وليس غزونا لعدونا ممَّن حارب الله لرغبة في دنيا، ولا طلباً للاستكثار منها؛ لأنّ غاية أحدنا من الدنيا أكلة يأكلها، يسدّ بها جوعه لليله ونهاره، وشملة يتلحفها؛ لأنّ نعيم الدنيا ليس بنعيم، ورخاؤها ليس برخاء، إنّما النعيم والرخاء في الآخرة (21).
وعليه، فالقصد هو دفع العدوان، والتمكن من نشر الإسلام لتحرير الإنسان. وبكلمة جامعة، فالمسلمون لا يعتدون، ولكن لا يقفون مكتوفي الأيدي أمام العدوان، وهو حق طبيعي يقرّه العرف والقانون الدولي.
رابعاً: العالمية
ليس خافياً على أحد أنَّ الرسالة الإسلامية هي رسالة عالمية، لم تقتصر على أمم معينة { تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا } .(22) { وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا كَافَّةً لِّلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا } (23).
ومن هنا يتّجه الإسلام إلى جميع الشعوب والأقوام على صعيده العقدي والتشريعي، من دون الحاجة إلى إلغاء انتماءاتهم القومية أو العرقية، فهو يحلُّ مشكلة القوميات بالجمع بينها على صعيد إنساني، والرّبط بينها في تصور واحد للوجود، ومفاهيم مشتركة في الحياة، وبذلك ينسّق بينها، ويوجهها نحو التعارف والتعاون الإنساني، وهذا ما تشير إليه بوضوح الآية الكريمة: { يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا } (24) . والعلاقة بين الشعوب والأقوام علاقة مساواة إنسانية لا علاقة استعلاء وسيادة، وهدف كل قومية ليس إعلاء نفسها على غيرها في صراع بين القوميات، بل هو هدف إنساني مشترك بينها.
ولما كان الإسلام أشمل دائرة من الأديان الأخرى، كالمسيحية التي لا تتعدى دائرتها النصائح، تطلّب الأمر أن تكون نظراته السياسية أبعد نطاقاً، لذلك سعى الإسلام لتشكيل حكومة عالمية، رسالتها إصلاح العالم. يقول الأستاذ عبد القادر عودة: "الأصل في الشريعة الإسلامية أنّها شريعة عالمية لا مكانية، ولكن لما كان الناس جميعاً لا يؤمنون بها، ولا يمكن فرضها عليهم فرضاً، فقد قضت ظروف الإمكان، أن لا تطبق الشريعة إلاّ على البلاد التي يدخلها سلطان المسلمين من دون غيرها من البلاد.. ولهذا نستطيع أن نقول: إنّ الشريعة
________________________________________
(21) الزحيلي، د. وهبة، العلاقات الدولية في الإسلام، ص128.
(22) سورة الفرقان: الآية 1.
(23) سورة سبأ، الآية 28.
(24) سورة الحجرات، الآية 13.

[الصفحة - 315]


الإسلامية في أساسها شريعة عالمية، إذا نظرنا إليها من الوجهة العلمية، ولكنها في تطبيقها شريعة إقليمية، إذا نظرنا إليها من الوجهة العملية" (25).
من هذا المنطلق نقرّر أنّ الإسلام يسعى في علاقاته الدولية إلى تشكيل دولة عالمية، وهو مطلب حضاري أخذت أصوات بعض السياسيين والفلاسفة المعاصرين ترتفع للدعوة إليه، منهم الفيلسوف الإنكليزي "برتراند راسل" الذي دعا في كتابه "الآمال الجديدة" إلى السلام الدائم من خلال إقامة الحكومة الواحدة في العالم.
وهذا هو أصل المعتقد عند الشيعة، التي تنتظر الإمام المنتظر، ولقد طرح الشيعة هذا الأمر في زمن لم تكن قد وُجدت فيه الولايات المتحدة الأمريكية، ولا الأمم المتحدة، وفي زمن لم تخطر فيه ببال أحد إمكانية الوصول إلى الحكومة العالمية الواحدة.
إنّ الأهداف الرئيسة للإسلام على المستوى العالمي، تتلخص في:
1 ـ إبلاغ العالم بالتوحيد على أساس الوحي ونبوّة الرسول(صلي الله عليه و آله).
2 ـ الإيمان بكرامة الإنسان، وخلافته التي أودعها الله فيه لإعمار الأرض.
3 ـ محاربة الأفكار العنصرية والقومية وممارساتها بين شعوب الأرض.
4 ـ جعل الناس أمة واحدة في الغاية إذا تحققت أهداف الإسلام.
5 ـ محاربة الظلم والجور وإقرار نظام العدل والقسط على أسس الأخوّة.
6 ـ السعي إلى إقامة حكومة عالمية تتأسس على تعاليم الشريعة وقوانينها (26).
ونتيجة للمهمَّات العالمية التي تضطلع بها الرسالة الإسلامية، كان سلوك الرسول السياسي، يتصف بالعالمية. وفي هذا الصدد كان رسول الله(صلي الله عليه و آله) يؤكد: "لا يبقى على ظهر الأرض بيت مدرٍ ولا وبر إلاّ أدخل الله عليهم كلمة الإسلام" (27).
وفي هذا السياق تقع على المسلمين مسؤولية العمل على خلق مجتمع عالمي، ينسجم مع توجهات الإسلام، يقول المرحوم محمد إقبال: "إنّ المسلم لم يُخلق ليندفع مع التيار، ويساير الرّكب البشري حيث اتجه وسار، بل خُلق ليوجّه العالم والمجتمع والمدنية، ويفرض على البشرية اتجاهه، ويملي عليها إرادته؛ لأنه صاحب الرسالة، ولأنه المسؤول عن هذا العالم وسيره واتجاهه" (28) .
خامساً: قواعد العدل والإحسان
________________________________________
(25) التسخيري، الشيخ محمد علي، نظرة في العلاقات الدولية على ضوء القرآن، من مقالات المؤتمر الثاني للفكر الإسلامي في طهران، ص12.
(26) مجلة الفكر الجديد، السنة الثالثة، العدد9، ص294.
(27) محمد الري شهري، ميزان الحكمة، ج4، ص518، عن كنـز العمال، ح32163.
(28) الندوي، أبو الحسن، ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين، ص9 دار الكتاب العربي بيروت.

[الصفحة - 316]


الأصل الأولي في السياسة الإسلامية مبني على الإحسان، كما أنه مبني على العدل. الإحسان إلى كل أحد إلاّ من سعى في الأرض ليهلك الحرث والنسل، فإنّ لسيّئته جزاء مثلها:
{ لا يَنْهَاكُمُ الله عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ } (29).
حيث نُهي النبيّ عن التولّي، والارتباط بمن قاتل المسلمين وآذاهم، أما مَن لم يقاتلهم ولم يؤذهم، ولم يصدّهم عن سبيل الله، ولم يبغها عوجاً، فلا نهي عن البرّ والإحسان والإقساط إليه، بل هو أمر محمود؛ ليروا عدل الإسلام وإحسانه، ويعيشوا في ضوء قسطه وبرّه.
والقرآن الكريم قد ربط بين الرّسالات الإلهية وإقامة العدالة الاجتماعية في قوله تعالى: { لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ } (30).
وهناك أحاديث عديدة تُروى عن رسول الله(صلي الله عليه و آله) في هذا السياق، منها:
"أول من يدخل النار أمير متسلّط لم يعدل" (31) .
"وعن أبي هريرة، وعبدالله بن عباس قال: خطبنا رسول الله(صلي الله عليه و آله) قبل وفاته، وهي آخر خطبة خطبها بالمدينة، حتى لحق بالله عزّ وجلّ... فقام أميرالمؤمنين عليّ بن أبي طالب(عليه السلام) فقال: بأبي أنت وأمّي يا رسول الله ما منزلة أمير جائر معتد لم يصلح لرعيّته، ولم يقم فيهم بأمر الله تعالى؟ قال: هو رابع أربعة من أشد الناس عذاباً يوم القيامة: إبليس، وفرعون، وقاتل النفس، ورابعهم الأمير الجائر" (32).
ولم يحدثنا التاريخ أو كتب السيرة بأنّ النبي(صلي الله عليه و آله) قد تجاوز حدود العدالة قيد أنملة، بل تعدى أفق العدالة والإنصاف إلى رحاب الإحسان والتفضل على أعدائه. وخير شاهد على ذلك: إحسانه للقرشيين عندما فتح مكّة.
"إنّ قواعد العدل والمقابلة بالمثل، تقتضي بأن يقتصّ منهم، لكونهم قتلوا بعض المسلمين، وفتنوا بعضاً آخر عن دينهم، وأذاقوهم أشدّ العذاب، وصادروا أموال المؤمنين، والمهاجرين إلى المدينة، وهمّوا بقتل الرسول(صلي الله عليه و آله)، وجمعوا الجموع لحرب المسلمين في مواقع كثيرة، ولكن النبي(صلي الله عليه و آله) ـ مع ذلك كلّه ـ عفا عنهم وأحسن إليهم، عندما قال لهم:
يا معشر قريش، ما ترون أني فاعل بكم؟ قالوا: خيراً! أخ كريم وابن أخ كريم. قال: فإني أقول كما قال يوسف لإخوته: لا تثريب عليكم اليوم، إذهبوا فأنتم الطلقاء" (33).
________________________________________
(29) سورة الممتحنة، الآية 8.
(30) سورة الحديد، الآية 25.
(31) الري شهري، ميزان الحكمة، ج6، ص90.
(32) بحار الأنوار، ج76، ص359 ـ 367.
(33) انظر: خطّاب، محمود شيت، الرسول القائد، ص341.

[الصفحة - 317]


مما تقدم، نستكشف أنّ العدالة هي أصل أولي في التعامل السياسي الإسلامي، وفي العلاقات بين الأفراد والتجمعات، ولها أولويّة في التعامل الدولي.
سادساً: المساواة
إنّ المساواة التي أعلنها الإسلام تشتمل على جميع عوامل النهوض والارتقاء، وتحتوي على جميع وسائل التعاون والتآزر والتآلف، والإنسانية في حاجة لها أكثر من حاجتها إلى غيرها من مقومات الحياة؛ لأنّها توطّد دعائم السِّلم في الأرض، وتقضي على أسباب الاعتداء والخصومات، فإنّ الحروب بين الدول، والعداوات الناشئة بين الأفراد والجماعات إنّما تنشأ على الأكثر، وتتولد في الغالب من الفروق البارزة بينها، ومن تعالي بعضها على بعضها الآخر، ومن تظاهر آخرين بالجاه والاعتبار. وللقضاء على هذه الفوارق نادى الإسلام بالمساواة، ودعا إلى الصفاء والوئام، حتى لا يبقى في النفوس أثر للحزازات (34).
ففي هذا الصدد، قال الرسول الأكرم(صلي الله عليه و آله): "النّاس سواء كأسنان المشط" (35).
وفي هذا التشبيه الفذّ يُلمح النبي(صلي الله عليه و آله) إلى معنىً سام شريف، فكما أنّ المشط يفقد فائدته إذا لم تستو أسنانه جميعاً، فكذلك المجتمع لا يؤتي فائدته الاجتماعية وهي التكامل إذا لم يستو أفراده جميعاً في الحقوق والواجبات (36).
ولقد أسلفنا القول: إنّ الدولة الإسلامية ذات منظار عالمي، تنظر للناس كأعضاء في أسرة واحدة كبيرة، وتحاول أن تصهرهم في بوتقة العقيدة، بغض النظر عن انتماءاتهم الوطنية أو القومية. وليس أدلّ على ذلك من إرسال الرّسول(صلي الله عليه و آله) رسائله إلى زعماء العالم من دون تفريق بين الرّومي والفارسي والقبطي والحبشي أو غيرهم، وكانت أكثر كتبه تحمل عبارة: "سلام على من اتبع الهدى"، بغضّ النظر عن كون المخاطَب عربياً أو أعجمياً.
ولا يخفى أنّ المساواة في الخطاب تكشف عن رغبته في إقامة علائق الأخوة مع جميع المخاطبين.
ثم "إنّ الغاء التمايز العنصري الذي رفع شعاره الإسلام، يحقّق التعايش السِّلمي بين جميع الشعوب، ويحطم الفوارق والامتيازات التي لا تزال موجودة بأجلى مظاهرها" (37).
يقول الأستاذ حبيب: "إنّ الإسلام هو الدّين الوحيد الذي ما زال في قدرته أن ينجح
________________________________________
(34) يعقوب، المحامي أحمد حسين، النظام السياسي في الإسلام، ص225، مؤسسة أنصاريان قم ط2.
(35) الري شهري، ميزان الحكمة، ج10 ص241؛ (عن كـنـز العمال ح24822).
(36) انظر: شمس الدين، نظام الحكم والإدارة في الإسلام، ص30.
(37) انظر: المحامي أحمد حسين، النظام السياسي في الإسلام، ص305.

[الصفحة - 318]


نجاحاً باهراً في تأليف العناصر والأجناس البشرية المتنافرة في جبهة واحدة أساسها المساواة؛ وإذا وُضعت منازعات الشرق والغرب موضع الدّرس، فلا بدّ من الالتجاء إلى الإسلام" (38) .
ويقول جواهر لال نهرو: "إنّ نظرية الأخوّة الإسلامية، والمساواة التي كان المسلمون يؤمنون بها، ويعيشون فيها، أثرت في أذهان الهندوس تأثيراً عميقاً، وكان أكثر خضوعاً لهذا التأثير البؤساء، الذين حرّم عليهم المجتمع الهندي المساواة والتمتع بالحقوق الإنسانية" (39) .
سابعاً: المقابلة بالمثل
إنّ مبدأ المقابلة أو المعاملة بالمثل هو أساس فكرة التبادل الدبلوماسي. فالدول ـ عادةـ تحدّد طبيعة علاقاتها بالدول الأخرى حسب معاملة تلك الدول لها سلماً أو حرباً. وهذا المبدأ معترف به في العلاقات الدولية، وفي القرآن الكريم إشارة صريحة إليه في قولـه تعالى: { الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُواْ عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ } (40).
لقد خاف المسلمون أن يبدأهم المشركون بالقتال في الشهر الحرام، فأذن الله لهم بقتال المشركين، وبيّن أنّ المحظور هو الاعتداء بالقتال من دون المدافعة ـ أي الدفاع ـ ،وعليه يكون معنى: الشهر الحرام بالشهر الحرام، أنّ مَن استحلّ دمكم ـ أيها المسلمون ـ في هذا الشهر، فاستحلوا أنتم دمه فيه، "والحرمات قصاص"، أي إنّ من ينتهك حرمات الله يُقتصّ منه، ويعامل بمثل فعله، وهذا أصل عام يقطع كلّ عذر يتذَّرع به من ينتهك الحرمات.. فشرط العقوبة أن تكون مماثلة لجناية المعتدي من دون زيادة أو نقصان، وهذا هو القصاص في حقيقته .
ولو نرجع إلى السِّيرة، نجد أنّ أول صدام مع قريش كان في جمادى الآخرة قبل غزوة بدر بشهرين، وقيل: في رجب عندما تعرض المسلمون لقوافل قريش التجارية القادمة من الشام بقيادة أبي سفيان،وقد قام بعملية التعرض هذه سرية عبدالله بن جحش. وهذا العمل، وإن كان في الظاهر تعرضيّاً، فهو في الحقيقة كان من قبيل القصاص والمقابلة بالمثل؛ لأنّه جاء بعد سلسلة طويلة من الاعتداءات القرشية، والحصار الاقتصادي، والمعروف أنّ الحصار
________________________________________
(38) المصدر نفسه، ص203.
(39) المصدر نفسه، ص203.
(40) سورة البقرة: الآية 194.

[الصفحة - 319]


الاقتصادي يُعدّ من الوسائل التي يلجأ إليها المتحاربون ضد خصومهم.
أما غزوات الرسول(صلي الله عليه و آله) وحروبه الأخرى، فكانت لا تخرج عن نطاق هذا المبدأ، فهي إما لنقض عهد كما حصل مع يهود بني قينقاع في المدينة، ومشركي قريش في نقض صلح الحديبية، وإمّا كانت لردّ العدوان كما في غزوة أحُد والخندق، أو لشن حرب وقائية، كما كان الأمر مع الروم والفرس بعد استعدادات الدولتين الواسعة النطاق؛ لاحتواء ـ ومن ثم القضاء على ـ الدولة الإسلامية الفتية، فكان الرّد الإسلامي ـ في جميع تلك الحالات ـ مشروعاً في باب المقابلة بالمثل.
ثامناً: الإعلام قبل الإقدام
وهو مبدأ يتميز به السلوك السياسي الإسلامي من غيره. فقد أثبت التاريخ أنّ المسلمين لم يشنوا حرباً إلاّ بعد الإعلام والدعوة بالحجة والبرهان، واتباع أسلوب الحوار وسيلةً سلمية لحلّ الخلافات. وقد جاء في كتاب الكافي للمرحوم الكليني عن الصادق(عليه السلام) قوله: "قال أميرالمؤمنين(عليه السلام): بعثني رسول الله(صلي الله عليه و آله) إلى اليمن، فقال: يا علي لا تقاتلن أحداً حتى تدعوه إلى الإسلام، وأيم الله لئن يهدي الله ـ عزّ وجلّ ـ على يديك رجلاً خير لك مما طلعت عليه الشمس وغربت، ولك ولاؤه يا علي" (42) .
ومن يتدبَّر في مكاتيب الرسول(صلي الله عليه و آله) يلاحظ أنه يكرّر عبارة: "أدعوك بدعاية الإسلام"، وخصوصاً في رسالتيه إلى كسرى وقيصر، تطبيقاً لهذا الأسلوب السامي.
قال ابن عباس: "ما قاتل رسول الله(صلي الله عليه و آله) قوماً قط إلاّ دعاهم"، رواه أحمد والبيهقي وأبو يعلى والطبراني والحاكم (43).
كما أوصى الرسول(صلي الله عليه و آله) معاذ بن جبل وصحبه، حينما أرسله لفتح اليمن، فقال: "لا تقاتلوهم حتى تدعوهم، فإن أبوا فلا تقاتلوهم حتى يبدأوكم، فإن بدأوكم فلا تقاتلوهم حتى يقتلوا منكم قتيلاً، ثم أروهم ذلك، وقولوا لهم: هل إلى خير من هذا السبيل، فلئن يهدي الله على يديك رجلاً واحداً خير مما طلعت عليه الشمس وغربت".
وقال الإمام عليّ بن أبي طالب(عليه السلام) يوم خيبر: يا رسول الله نقاتلهم حتى يكونوا مثلنا (أي مسلمين)؟ فقال: "على رسلك حتى تنـزل بساحتهم، ثم ادعهم إلى الإسلام، فوالله لئن يهتدي بك رجل واحد، خير لك من حُمر النَّعم"، أخرجه البخاري ومسلم وأحمد (44).
________________________________________
(41) الشيخ مغنية، التفسير الكاشف، ج3، ص499.
(42) الكليني، محمد بن يعقوب، الكافي ج5، ص28 ح4 وص36 ح2؛ وعنه الحرّ العاملي، محمد بن الحسن، وسائل الشيعة، ج11، ص30.
(43) انظر: العلاقات الدولية في الإسلام، مصدر سابق، ص38.
(44) المصدر نفسه، ص39.

[الصفحة - 320]


وقد استند الفقهاء إلى تلك الأحاديث، وأفتوا بوجوب الدعوة لمن لم يبلغهم الإسلام: "قال الحنفية والشافعية والحنابلة والإمامية والأباضية: تجب الدعوة لمن لم يبلغهم الإسلام، فإن انتشر الإسلام وظهر كلّ الظهور، وعرف الناس لماذا يُدعون؟ وعلى ماذا يُقاتَلون؟ فالدعوة مستحبة تأكيداً للإعلام والإنذار، وأدلتهم الجمع والتوفيق بين الأحاديث السابقة من الأمر بإبلاغ الدعوة" (45) .
واستناداً إلى ما تقدم، يمكننا القول: إنّ الإسلام قد سبق القانون الدولي إلى تقرير مبدأ إعلان الحرب.
وعليه، فإنّ ما تتميز به العلاقات الدولية الإسلامية من غيرها، كونها تنظر إلى عملية التوعية والإيضاح كرسالة إلهية ومبدأ ضروري، يجب الالتزام به قبل القيام بأية خطوة عسكرية أو سياسية أو غيرها تجاه الدول الأخرى. أما ما نجده من السياسة الماكرة القائمة ـ بالفعل ـ فهو اعتماد هذه السياسة التوضيحية ـ بوصفها مناورة سياسية ـ فإذا لزم الأمر، قُلبت الحقائق، وتغيرت الموازين (46).
وفي هذا الإطار، قال البارون ميتشيل دي توي: "إننا نعلم تاريخ مبدأ إعلان الحرب في العصر الحالي، إذ هو كقاعدة دولية لم يتحقق إلاّ في سنة 1907م في مؤتمر لاهاي الثاني، وهو مبدأ من مبادئ الفروسية، ولكن لا أثر له في القرون الوسطى الأوروبية، بل إنّ جذوره متغلغلة في الشرق الإسلامي" (47) .
تاسعاً: المرونة
إنّ عظمة النبوَّة السياسية التي لا تدانيها عظمة، هي في حسن استعمال اللين في محله والعنف في محله. فقد كان(صلي الله عليه و آله) يتحلَّى بالمرونة، التي هي من أبرز صفات السياسي الناجح، فهو يتعامل مع الخصوم حسب طبيعتهم ونفسياتهم، وقد يتنازل عن بعض الأمور الشكلية، أو الأقل أهمية، في سبيل تحقيق أهداف أكثر أهمية في المستقبل.
فعلى سبيل المثال، حين رفض سهيل بن عمرو أن يكتب "بسم الله الرحمن الرحيم"، وحين كتب اسم رسول الله(صلي الله عليه و آله) على الصحيفة. ورفض سهيل بن عمرو اسم رسول الله، وأعلن عن إلغاء المعاهدة في ما لو ذكر! وحين تضمنت "الصحيفة" بنوداً مجحفة، منها: عدم السماح للمسلمين بدخول مكّة ذلك العام، وأنّ عليهم أن يعودوا في العام القابل،
________________________________________
(45) المصدر نفسه، ص39.
(46) التسخيري، نظرة في العلاقات العدولية على ضوء القرآن، مصدر سابق، ص89.
(47) العلاقات الدولية في الإسلام، مصدر سابق، ص42.

[الصفحة - 321]


ومنها: من جاء إلى المدينة من أهل مكة مسلماً ردّه رسول الله(صلي الله عليه و آله) ومن جاء من المسلمين إلى مكة مشركاً لم يردّه المشركون.
تلك البنود والشروط المجحفة جميعها قبلها الرسول(صلي الله عليه و آله)، مع المعارضة التي أبداها "عمر بن الخطاب"، وفق كلمته التي ردّدها مراراً: "فلم نعطى الدَّنية في ديننا؟!".
كان النبي(صلي الله عليه و آله) يوازن بآفاق أبعد وآماد أرحب. وهل من هزيمة أعظم من قبول قريش المصالحة وبعثها وفداً بذلك؟ قريش قبل عام واحد، تحاصر المسلمين مع من جيّشت من العرب. وتأتيهم من فوقهم ومن أسفل منهم، وهي اليوم تبعث وفداً للمصالحة مع المسلمين على مشارف مكّة. إنّه نصر ساحق ولا شك. والنصر الآخر هو أن تقف مكّة على الحياد، وتقف الحرب في جزيرة العرب، وتُفتح أبواب الجزيرة أمام المدّ الإسلامي. إنّه نصر ساحق ولا شك أن يعود المسلمون في العام القادم، ويدخلوا مكّة باعتراف رسمي، وحماية رسمية من دون أن يتعرض لهم أحد بسوء.. وأن تفتح قريش صفحة جديدة مع المسلمين، وتعترف بكيانهم ودولتهم. من أجل ذلك كله، كان رسول الله(صلي الله عليه و آله) ماضياً في خطته، لا يراوده فيها أدنى شك. نلحظ ذلك من خلال إجابته الواضحة والصارمة لعمر بن الخطاب:
"أنا عبدالله ورسوله، ولن أخالف أمره، ولن يضيّعني" (48) .
ومن المصاديق الأخرى لمرونة النبي الأكرم(صلي الله عليه و آله)، في علاقاته مع الآخرين في السِّلم أو الحرب، أنّه يضع أمامهم عدّة خيارات، ليختاروا أحدها. ومن يرصد العلاقات الدولية المعاصرة، يجد أنّ الدول ـ خصوصاً المستكبرة ـ تضع أمام الطرف المقابل خياراً محدّداً إما الحرب أو الاستسلام من دون قيد أو شرط، وهما خياران أحلاهما أمرّ من الآخر.
قال بريد: "كان رسول الله(صلي الله عليه و آله) إذا أمّر أميراً على جيش أو سرَّية أوصاه في خاصته بتقوى الله ومَن معه من المسلمين خيراً.. ثم قال: وإذا لقيت عدَّوك من المشركين، فادعهم إلى ثلاث خصال أو خلال، فأتيهنّ ما أجابوك فاقبل منهم وكُفّ عنهم: ادعهم إلى الإسلام، فإن أجابوك فاقبل منهم وكفّ عنهم، فإن أبوا فسلهم الجزية، فإن أجابوك فاقبل منهم وكفّ عنهم، وإن أبوا فاستعن بالله عليهم وقاتلهم" (49) .
ومبدأ المرونة يلاحظ أيضاً في التخطيط الإسلامي بصورة واضحة، بحيث "نجد التخطيط الإسلامي يلحظ عنصر الخلود الزماني، ويتجاوز الاختلافات المكانية
________________________________________
(48) انظر: الغضبان، منير محمد، المنهج الحركي للسِّيرة النبوية، ج3، ص19.
(49) راجع: العلاقات الدولية في الإسلام، مصدر سابق، ص42.

[الصفحة - 322]


والعنصرية وأمثال ذلك، ولذا نجده في جانب كبير من تخطيطه مرناً مرونة حكيمة، بعيداً عن أية ميوعة. فبتركه لمنطقة المباحات بشكل أولي ليملأها ولي الأمر طبق مصلحة الأمة، حقّق مرونة لا نجد مثيلها في أي نظام آخر.
وعلى هذا، يجب أن يلحظ هذا الجانب تماماً عند ملاحظة موقف الإسلام من تنظيم العلاقات الدولية العامة" (50) .
عاشراً: الاستقلالية أو الاعتماد على القدرات الذاتية
وتتمثل بالقدرة على اتخاذ القرار بصورة مستقلة عن تأثير الآخرين، والحيلولة دون تدخلهم في شؤون الدولة الإسلامية، والاعتماد على الذات في القضايا المصيرية.
وكشاهد على ذلك، يذكر المقريزي في "إمتاع الأسماع": "لفت نظر الرسول(صلي الله عليه و آله) ـ في معركة أحُد ـ كتيبة خشناء لها زجل ـ أي صوت وجلبة ـ فسأل: ما هذه؟ فقالوا: هؤلاء حلفاء (عبدالله بن أبي سلول) من اليهود! فقال(صلي الله عليه و آله):" لا نستنصر بأهل الشرك على أهل الشرك" (51) .
نستكشف من هذا الموقف النبوي ضرورة اعتماد المسلمين على قواهم الذاتية؛ لأنّ الاستعانة بالآخرين قد توقعنا في شراك التبعية لهم، وبالتالي مصادرة إرادتنا وقرارنا الحرّ، وتكبيل أيدينا بقيود ثقيلة.
بطبيعة الحال، هذا الموقف النبوي، وهو عدم الاستعانة بالمشركين، يُحمل على أساس امتلاك المسلمين لعوامل القوة والقدرة، أما إذا كانوا قلّة مستضعفة، فيمكن لهم الاستعانة بأهل الشرك، بدليل أنّ النبي(صلي الله عليه و آله) صاغ بنود "الصحيفة التي نظمت العلاقات بين المسلمين من أنصار ومهاجرين وبين يهود المدينة. وقد نصَّت على مبدأ الدفاع المشترك، المعَّبر عنه آنذاك "التناصر"، وكذلك نصّت على التشاور في الأمور التي تعود بالمصلحة على الجانبين.
إقرأ هذه الفقرة من الصحيفة: ".. وأنّ على اليهود نفقتهم... وأنّ بينهم النصر على من حارب أهل هذه الصحيفة، وأنّ بينهم النصح والنصيحة والبرّ دون الإثم..." (52) . ففيها إشارة صريحة إلى ما ذهبنا إليه، وإن كان قد نصّت الصحيفة على الاستقلال الاقتصادي للمسلمين عن اليهود في هذا البند: "وأنّ على اليهود نفقتهم، وعلى المسلمين نفقتهم".
________________________________________
(50) نظرة في العلاقات الدولية على ضوء القرآن، مصدر سابق، ص279.
(51) السّمان، محمد بن عبدالله، العقيدة والقوة معاً، ص10 منشورات دار الجيل ط1.
(52) راجع: الحسني، هاشم معروف، سيرة المصطفى، ص279 دار القلم ط3.

[الصفحة - 323]


على كل حال، للاستقلال عدّة مصاديق منها: الاستقلال الثقافي الذي يضعه الإسلام في قمة الصَّدارة، وكذلك الاستقلال السياسي والاستقلال الاقتصادي وأيضاً العسكري.
الحادي عشر: مبدأ الحياد الإيجابي
عُرف مبدأ الحياد بوصفه نظاماً قانونياً حديثاً، ولكنه، بوصفه واقعة مادية سياسية، معروف قديماً. ولقد أشار القرآن الكريم إلى الحياد ضمنياً، وأقرَّ حياد صنفين، من الذين أظهروا الإسلام في مكّة ولم يهاجروا إلى المدينة، دار الإسلام الوحيدة آنذاك، والصنفان هما:
أ ـ صنف طلب اللجوء إلى قوم بينهم وبين المسلمين عهد في المهادنة وترك القتال. ويعدُّ هؤلاء مسالمين ويأمنون من الأسر أو القتل.
ب ـ صنف يتحرَّجون من أن يحاربوا المسلمين، أو يحاربوا قومهم مع المسلمين، فجاؤوا إلى النبي(صلي الله عليه و آله) يطلبون منه الرّضا بالوقوف على الحياد، لا معه ولا عليه. إنّ مثل هؤلاء يتركون أيضاً، لا يُقتل ولا يُؤسر أحد منهم، لأنهم غير محاربين.
يقول تعالى في هذا الصدد: { فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ... فَلاَ تَتَّخِذُواْ مِنْهُمْ أَوْلِيَاء حَتَّىَ يُهَاجِرُواْ فِي سَبِيلِ الله فَإِن تَوَلَّوْاْ فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدتَّمُوهُمْ وَلاَ تَتَّخِذُواْ مِنْهُمْ وَلِيًّا وَلاَ نَصِيرًا * إِلاَّ الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَىَ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُم مِّيثَاقٌ أَوْ جَآؤُوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أَن يُقَاتِلُوكُمْ أَوْ يُقَاتِلُواْ قَوْمَهُمْ وَلَوْ شَاء الله لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقَاتَلُوكُمْ فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْاْ إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَمَا جَعَلَ الله لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلاً } (53).
وخير شاهد يفسر هذه الآية، ما جاء في مجمع البيان: "أنّ جماعة من ـ قبيلة ـ أشجع، جاءوا إلى النبي(صلي الله عليه و آله) وقالوا له: إنّ دارنا قريبة من دارك، وقد كرهنا حربك، وحرب قومنا، وأتينا لنوادعك، فقبل منهم ووادعهم. فرجعوا إلى بلادهم" (54) .
وفي الكافي بسند تام؛ حيث روي عن علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن أحمد بن محمد بن أبي نصر، وعن أبان عن الفضل أبي العيان، عن أبي عبدالله(عليه السلام) في قول الله عزّوجلّ: { أَوْ جَآؤُوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أَن يُقَاتِلُوكُمْ أَوْ يُقَاتِلُواْ قَوْمَهُمْ } قال: نزلت في بني مذحج؛ لأنّهم جاؤوا إلى رسول الله(صلي الله عليه و آله)، فقالوا: إنّا قد حصرت صدورنا أن نشهد أنك رسول الله فلسنا معك ولا مع قومنا عليك، قال: قلت كيف صنع بهم رسول الله؟ قال: وادعهم إلى
________________________________________
(53) سورة النساء، الآيات 88 ـ 90.
(54) راجع: التفسير الكاشف، مصدر سابق، ج2، ص403.

[الصفحة - 324]


أن يفرغ من العرب ثم يدعوهم فإن أجابوا وإلاّ قاتلهم (55).
ولا بدّ من التنويه بأنّ الإسلام يؤمن بالحياد، إذا اقتضت المصلحة الإسلامية ذلك. كأن تكون قوة المسلمين ضعيفة، بحيث لا تسمح لهم بالوقوف مع طرف ضد الطرف الآخر، وإلاّ إذا امتلكت الدّولة الإسلامية القوَّة والقدرة، فلا يمكن لها أن تقف مكتوفة اليدين قبال الظلم الذي يعانيه المستضعفون: "لا يمكن لها أن تسكت تجاه شعب يتعرض للظلم والقهر تحت ذريعة الحفاظ على العلاقات والمصالح المتبادلة مع النظام السياسي القائم في ذلك البلد، فصوت الحقّ، يجب أن يعلو على المصالح الذاتية والآنية" (56) .
وعليه، فليس في الإسلام حياد سلبي أو مبدأ "الوقوف على التل أسلم". بل، هناك حياد إيجابي، بأن نقف مع جبهة الحقّ والعدل حسب القدرة والاستطاعة، ولو من الناحية العاطفية، كما وقف المسلمون عاطفياً في صدر الإسلام مع الروم في حربهم مع الفرس، وكلاهما عدو وقتذاك، لا لشيء إلاّ لكون الرومان من أهل الأديان، علماً بأنّ العرب المشركين وخصوصاً القرشيين قد انحازوا إلى الفرس.
الثاني عشر: مبدأ الرَّدع
ذاع مبدأ الرّدع واشتهر في العلاقات الدولية حديثاً في أعقاب الحرب الباردة بين الدولتين الاستكباريتين: الولايات المتحدة، والاتحاد السوفياتي قبل انحلاله، خصوصاً بعد أن امتلك الطرفان ترسانة تدميرية هائلة ومتوازنة، وهو ما أطلق عليه: حالة "توازن الرّعب". وغدا من المتعذّر على أحدهما استعمال أسلحته التدميرية ضد الطرف الآخر؛ لأنه سيُقابل بالمثل، وهذا معناه التدمير المتبادل الشامل، وحينئذٍ يرتدع الطَّرفان عن الاستعمال الفعلي لأسلحتهما خوفاً من العواقب المدمرة.
يقول هنري كيسنجر، أحد أهم مهندسي السياسة الأمريكية: "تستند سياسة الرَّدع على مقاييس سيكولوجية، إذ تستهدف منع العدوان من خلال إقناع المعتدي بالمخاطر التي يحتمل أن تصيبه"(57) .
ولو أننا بحثنا في مصادرنا المعرفية، فسنجد أنّ لمفهوم "الرَّدع" جذوراً تاريخية في صدر الإسلام. والقرآن الكريم قد أشار إليه وإن لم يطلق عليه ما اصطُلح حديثاً عليه بـ"الرّدع" بل أطلق عليه مفهوم "الرَّهبة".
________________________________________
(55) الحائري، السيد كاظم، الكفاح المسلح في الإسلام، ص47 ط1.
(56) مجلة الفكر الجديد، مصدر سابق، ص302.
(57) كيسنجر، د. هنري، مفهوم السياسة الخارجية الأمريكية، ص23.

[الصفحة - 325]


ومن يتدبّر عميقاً في قوله تعالى: { وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ الله وَعَدُوَّكُمْ } (58) ، يجد أنّ إعداد القوة في الإسلام من أجل إرهاب الآخرين وردعهم عن التعرض للمسلمين، وليس إعداد القوة هدفاً بحد ذاته. فالآية تقول: "ترهبون"، ولم تقل: "تحاربون" أو "تدمرون" وما شابه ذلك، وفي ذلك إشعار واضح على المدّعى.
ولقد فتشتُ في التفاسير عن تفسير لهذه الآية يدعم وجهة نظري في أنّ لمفهوم الرّدع الذي برز مؤخراً في العلاقات الدولية المعاصرة، جذوراً تاريخية، فوجدت ضالتي في التفسير الكاشف للشيخ محمد جواد مغنية، إذ يقول في هذا الصدد: ونقف قليلاً عند قوله تعالى: { تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ الله وَعَدُوَّكُمْ } ؛ لأنه ينطوي على مبدأ يحفظ المجتمع الإنساني من الفوضى، ويردع الطغاة الأقوياء من التلاعب بحياة الناس واستغلالهم. وهذا المبدأ هو وجود قوة في قبضة أهل الحق والعدل، يردعون بها أهل الظلم والباطل،ويُخضعونهم لحكم الله وشريعته، التي تدعو الناس جميعاً إلى أن يعيشوا طبقاً لقانون الحياةوسننها، ولا ينحرف عنها أحد، فإذا راودته نفسه بالميل والانحراف أرغمته القوة على الرِّجوع إلى تلك السنن والقوانين.
ولو أنّ أرباب العقول والمتخصصين بحثوا عن السبب لمشكلات الحياة وويلاتها لوجدوه في ضعف القوة الرادعة عن العدوان، واستفحال القوة المعتدية. ويكفي مثالاً على ذلك القوة التي تملكها الولايات المتحدة، وتستغلها في السلب والنهب من دون رادع أو زاجر إلاّ نضال الشعوب العزلاء.
يقول "نيكولاس سبيكمان" في كتابه الاستراتيجية الأمريكية في السياسة العالمية: "مسموح لنا نحن الامريكيين بكلّ أشكال الجبر والقسر بما فيها حروب الدمار، أن نملي إرادتنا ونفرضها بالقوة على الذين لا قوة لهم".. ولا سر لهذا التعاظم من أعداء الله، والجهر بالعدوان على عياله وعباده من غير مبالاة، إلاّ عدم الخوف والرّهبة من القوة الرادعة التي تجعل كلمةالله هي العليا، وكلمة الباطل هي السفلى (59).
وهناك آية أخرى نستشف منها مفهوم الرّدع، وهي قوله تعالى: { فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِم مَّنْ خَلْفَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ } (60) .. والخطاب هنا للنبي(صلي الله عليه و آله)، بيَّن الله فيه حكم الكفار، وأنه إن ظفر بهم فليقس عليهم، حتى يتّعظ بهم غيرهم ممن تراوده نفسه بالخيانة
________________________________________
(58) سورة الأنفال، الآية 60.
(59) التفسر الكاشف، ج2، ص500 ـ 501.
(60) سورة الأنفال، الآية 57.

[الصفحة - 326]


والغدر. بطبيعة الحال هذه الآية تدل على المطلوب لو فسرنا عبارة: "فشرِّد بهم من خلفهم" بأنّ المراد من خلفهم "غيرهم"، كما ذهب إلى هذا الرأي الشيخ مغنية (61).
تجدر هنا الإشارة إلى أنّ الرسول(صلي الله عليه و آله) قد استهدف في جميع غزواته تحطيم معنويات أعدائه، بل إنه كان يستهدف تحطيم المعنويات أكثر مما يستهدف تحطيم القوى المادية؛ لأنه كان يطمح دائماً إلى عودة أعدائه إلى الصراط المستقيم والهداية، فحرص على بقائهم أحياء رجاء هدايتهم: "اللَّهم اهدِ قومي فإنهم لا يعلمون" (62).
وهكذا نجد أنّ الرسول(صلي الله عليه و آله) كان يلوّح باستعمال القوة من أجل ردع أعدائه حتى يعيدوا حساباتهم، ويسعى قدر الإمكان إلى تجنّب الحرب وويلاتها.
وكتب السيرة تروي أنّ المسلمين عندما وصلوا إلى تبوك، وعلموا أنّ الرّوم قد انسحبوا منها إلى داخل بلادهم، في هذه الحال آثر الرسول(صلي الله عليه و آله) الانسحاب، وكان بإمكانه تعقّب القوة المنسحبة، وإيقاع الخسائر الفادحة في صفوفهم، فما أيسر القتال مع عدو منسحب. فقد أدركت القيادة الرومية المخاطر المحتملة، بعد أن وصلتها الأخبار عن انتصارات الرسول(صلي الله عليه و آله) المتتالية في معاركه مع قريش وحلفائها.. "فتجسدت لديهم المخاطر وقدّروا أنّ محمداً لو انتصر في هذه المعركة سوف لا يقف عند حدّ، وستتبعها انتصارات أخرى، وبالتالي قد تتعرض الامبراطورية الرومانية بكاملها لغزو هذا الجيش الذي زودته الانتصارات بكلّ أسباب القوة، وأصبح يفكر فيه، وحينما يدخل المعركة لا يتصور غيره" (63).
ولأخذ الرسول(صلي الله عليه و آله) بمبدأ الرّدع أو التلويح باستعمال القوة نجد أنه: "يقتصر في حروبه على أقل قدر ممكن ترتفع به الضرورة، ويلتزم بضبط النفس الكامل والواعي حتى في أحلك اللحظات وآخرها. ولهذا لم يستطع الباحثون إيصال القتلى في حروب النبي(صلي الله عليه و آله) طيلة عشر سنين، والتي تعد بعشرات الحروب والسرايا، لم يستطيعوا إيصالها إلى الألف قتيل. رغم أنّ هذه الحروب كانت تتجه نحو تهيئة الجو لبسط النفوذ الإسلامي على مختلف أرجاء الجزيرة العربية، ويتعداها إلى غيرها مما حولها" (64).
________________________________________
(61) انظر التفسير الكاشف، ج3، ص499.
(62) الرسول القائد، مصدر سابق، ص469.
(63) الحسني، هاشم معروف، سيرة المصطفى، ص650.
(64) انظر: المنهج الحركي للسِّيرة النبوية، مصدر سابق، القسم الأول، ص133.

[الصفحة - 327]

 
فروع المركز

فروع المركز

للمركز الإسلامي للدراسات الإستراتيجية ثلاثة فروع في ثلاثة بلدان
  • العنوان

  • البريد الإلكتروني

  • الهاتف