الملخص
للحَوزة العلميّة دورٌ كبيرٌ في الدفاع عن بيضة الإسلام، وفي قيادة مشروع حركة التغيير المعاصرة، وهي الأساس في تحريك السواكن في داخل المناخ الاجتماعيّ والسياسيّ، وتجسّد هذا الدور العظيم في كثير ٍمن المواقف وأهمها، تحشيد الحشود الجماهيريّة وتوفير السلاح لهم ضدّ الوهابية، وفتوى الجهاد لطرد الغزاة الإيطاليين عن ليبيا، والجهاد ضد القوات الروسية الغازية عند قصفهم حرم الإمام الرضا (عليه السلام)، وفتوى مقاومة الاحتلال الإنكليزي للعراق واشتراكهم ضدّه في ثورة النجف 1918م، وثورة العشرين 1920م، ومطالبتهم في تشكيل دولةٍ وحكومٍة عربيّةٍ، ووقوفهم بوجه المدّ الشيوعي، ورفضهم قتل الأكراد ، والإفتاء بحرمة مقاتلتهم.
وتناول هذا البحثُ العديدَ من القضايا المرتبطة بهذا الشأن، وأهمّها دور المؤسّسة الدينيّة في نهاية الحكم العثماني وبدايات الاحتلال الأجنبيّ، ورسمها معالم ثورة العشرين الكبرى في العراق، ودورها في عصرنا الحاضر في دعم العمل المقاوم للاحتلال الصهيوني في فلسطين.
الكلمات المفتاحية: الحوزة العلميّة، محمّد كاظم الخراساني، الجهاد، التنباك، مقاومة الاحتلال، ثورة العشرين.
تعدّ الحَوزة العلميّة وريثة الرسالة المحمدية، وحلقة وصل بين أئمّة أهل البيت وعلومهم، والمؤمنين بهم وسائر المسلمين. وقد جرى التأصيل الشرعي لها في نصوص الأئمة (عليهم السلام) الموثوقة، وسيرتهم العلميّة، فامتدّ تأريخ عطائها من عصرهم إلى عصرنا الحاضر.
اختار الشيخ الطوسيّ مدينة النجف الأشرف دارًا لهجرته عندما خرج من بغداد إثر حوادث السلاجقة في تتبع الشيعة فيها بالتنكيل والتقتيل. فجاور مرقد الإمام علي أمير المؤمنين (عليه السلام)؛ ولأنّ الشيخ الطوسي كان مرجع الشيعة في بغداد بعد وفاة أستاذه الشريف المرتضى، فحين اضطر إلى هذه الهجرة القسريّة، انتقل مركز المرجعيّة معه، وحلَّ أرضَ النجف المقدسة طلاّبُه ومريدو فضله، والتفّ حوله مَن فيها من الفقهاء والطلّاب، ووفد إليها آخرون من حواليها وأطرافها، والبقاع القريبة منها والنائية عنها.
وغدت الجامعة الكبرى للشيعة الإمامية وعاصمة المذهب الجعفري، يتخرّج فيها المئات من المجتهدين والعلماء في كلّ جيلٍ طيلة الألف عام، ومرّت بظروفٍ مختلفةٍ قوّةً وضعفًا؛ لكنّها حافظت على محوريّتها في الحركة الفقهية الحوزوية والجهادية عند الشيعة. غير أنّ الحوزة العلمية في النجف لم تتوقف عن العطاء حتى مع بزوغ نجم حوزة الحلّة، واستمرت في رفد الميدان العلمي عند الشيعة بالعديد من العلماء المرموقين.
من خلال قراءتنا للتاريخ السياسي للعراق والمنطقة، نجد أنّ المؤسّسة الدينية الشيعيّة وعلى رأسها المرجعيّة، هي الأساس في تحريك السواكن داخل المناخ السياسي والاجتماعي، بالشكل الذي يحقّق الاعتدال والإصلاح في المجتمع، وهذا ما نجده من خلال تتبعنا للدور المتميز لهذه المؤسّسة منذ نهايات الحكم العثماني، وبدايات الاحتلال الأجنبي وصولًا إلى دورها في رسم أحداث ثورة العشرين الكبرى كحلقةٍ تتبعها حلقات أُخر، وإلى يومنا هذا في إصدار فتوى صادعةٍ وتاريخيةٍ بمواجهة الفكر التكفيري وقوات الظلام التي هاجمت مدينة الموصل العراقية وما تبعها من تجاوزات على الأهالي الآمنين في مختلف مناطق العراق.
كانت السلطة العثمانيّة في بغداد تحسب للمرجعية في النجف الأشرف ألف حساب؛ كونها كانت تتمتع بمقامٍ دينيّ وسياسيّ كبير ذي قاعدةٍ جماهيريّةٍ واسعة، ويحظى بتأييد رموزٍ إسلاميةٍ عالميةٍ معروفة؛ ولذلك انتهجت حكومة الأتراك سياسة التّغاضي والتّجاهل بنحوٍ عامّ اتّجاه السياسة العامّة للسلطة الدينيّة في النجف الأشرف[2].
وقد عاش الشيعة في العراق في العصر العثماني حالةً من الاستقلال النّسبي، ناشئة من ارتباطهم بالمرجعية الدينية، بما تشكّله من استقطابٍ ثقافيّ وروحي وإدارةٍ ماليّةٍ مستقلّة، تؤدّي وظائفها على خلفية مفهوم صلب للشرعية. ومن جهةٍ أخرى كان تواجد القبائل العربية الشيعيّة على طول نهر الفرات، ضمن تنظيماتٍ عشائريةٍ تقليديّة، سندًا للقيادة الدينية بقوّة السلاح. ومن هنا كانت المدن المقدّسة وما يحيط بها من قبائل ترفض الخضوع للحكم العثماني.
ولا شك في أنّ الصّراع التاريخي على العراق بين العثمانيين والدولة الصّفويّة، ثم بين العثمانيين والدولة القاجارية في إيران، قد ركّز هذا الواقع الخاصّ للعراق. ولمّا بدأت المرجعيّة مسيرتها الجهادية في أوائل القرن التاسع عشر ضدّ الاحتلال العثماني للعراق، كانت قد ورثت إرثًا ثقيلًا من التخلّف والاستبداد. هذا الإرث دفع المرجعيّة إلى قيادة مشروع حركة التغيير المعاصرة بهدف اللّحاق بركب الحضارة الإنسانية المتوثّبة، وقد تحدّد شعار الحركة الإسلامية والوطنية في محاربة المحتل ونيل الاستقلال. ولا شك في أنّ هذه المقاومة ذات النهج الحسيني الأصيل كان لها الحق المشروع للدفاع عن الدين والوطن والنفس، وأنّها انطلقت ضد النهج القاسي للمحتل الهادف إلى تفكيك المجتمع العراقي طائفيًا وعنصريًا وتغريبه عن لغته وتراثه؛ ليتسنى له السيطرة الكاملة على مقدراته وثرواته بعد التحطيم الكامل لكيانه العتيد. ولا ينسى العراقيون مجزرة كربلاء في زمن الوالي العثماني المملوكي سليمان باشا عام 1802 عندما هجم الوهابيون على المدينة بصورةٍ فجائيةٍ وقتلوا الناس في الشوارع وفي داخل البيوت، وخرّبوا قبة الإمام الحسين(عليه السلام) وسرقوا خزائن المرقد ومجوهراته، ولم يتركوا المدينة إلّا بعد أنْ عاثوا فيها الفساد والدمار[3].
وفي عام 1808 شهدت الزيارة الأربعينية في كربلاء مظاهراتٍ جماهيريةً صاخبةً من عموم سكّان العراق، يتقدّمها رجال الدين الأجلّاء الذين قَدِموا من الحوزة العلميّة في النجف الأشرف؛ احتجاجًا على السلطات العثمانية لتقاعسها في صدّ الغزوات الوهابية المتكرّرة على مدن العراق. كما هزّت هذه الاعتداءات حماس الغيارى من أبناء الشعب العراقي، وأجّجت مشاعر الاستياء لأقطاب المرجعية الدينية الذين شدّوا العزم، وأرسلوا أعدادًا كبيرةً من الشباب خريجي المدارس الدينية إلى المناطق الوسطى والجنوبية من العراق بهدف تذكير أفراد العشائر بمعاناة الشعب من جور الاحتلال، وإثارة روح الحماس الوطني في نفوسهم وتحريضهم على التمرّد والعصيان[4].
من جهةٍ أخرى، كان تواجد القبائل العربية الشيعية على طول نهر الفرات، ضمن تنظيمات عشائريةٍ تقليدية، سندًا للقيادة الدينية بقوة السّلاح. ومن هنا كانت المدن المقدّسة وما يحيط بها من قبائل ترفض الخضوع للحكم العثماني... ولا شك في أنّ الصراع التاريخي على العراق بين العثمانيين والدّولة الصّفويّة، ثم بينهم وبين الدولة القاجارية في إيران.. قد ركّز هذا الواقع للعراق... وإزاء التّغيرات التي حدثت في الحرب العالمية الأولى، اكتسحت المنطقة تلك الغزوة الاستعمارية العسكرية، حيث راح الإنكليز يخطّطون لتكوين إمبراطوريةٍ بريطانيةٍ تمتدّ من الهند إلى مصر إلى ممتلكاتهم في شرق أفريقيا. وكان العراق ضمن هذا المخطّط الإنكليزي[5].
إنّ الوعي السياسي الجديد في العراق أخذ يتجسّد عبر مواقف سياسيةٍ جريئةٍ تتواتر على رؤية واضحةٍ للموقف المتّخذ، وأصبحت محاربة الاستبداد مبدأً متكاملًا لدى علماء الدين في الحوزة العلمية الشريفة في النجف الأشرف؛ الأمر الذي دفعهم للتعاون مع حزب (الاتحاد والترقي) التركي ضدّ استبداد السلطان عبد الحميد الثاني، واستمر علاقة التعاون بينهم لمدة ثلاث سنواتٍ «انهارت وانتهت مع بروز سياسة التتريك (الطورانية) التي شرع الاتّحاديون بانتهاجها»[6].
إنّ البدايات الأولى في الوعي السياسي لهذه المؤسّسة ظهر في نهاية القرن التاسع عشر، إذ كان هناك سببٌ أساسٌ لهذا النمو متمثّلًا بالفتوى التي أصدرها السيّد محمد حسن الشيرازي في مدينة سامراء بتحريم منح امتياز زراعة التبغ وبيعه للشركة البريطانيّة في إيران عام (1891)، والتي جاءت لتمثّل تيارًا مضادًّا للنفوذ الأجنبي في إيران، إذ مثّل هذا التصدّي الدور الأساس في التخلّص من الأزمة وتحقيق النصر ضّد المطامح البريطانية[7].
وبناءً على هذه السياسات البريطانية الهادفة إلى الإنقضاض على العراق، وانتزاعه من السيطرة العثمانية، حاول الإنكليز مرارًا التواصل مع الشيعة في العراق بوصفهم أقليّةً في الوسط العثماني السنّي بغية استغلال ضعفهم والظلم الواقع عليهم، لاستمالتهم ناحية مشروعهم الاستعماري. وإحدى هذه المحاولات كانت عام1900، ففي أحد أزقّة سامرّاء أصيب الإمام محمد حسن الشيرازي بحجرٍ طائش ـ وهو صاحب فتوى تحريم التبغ ـ وعندما علم القنصل البريطاني ببغداد بالخبر توجّه إلى سامرّاء لمقابلة الإمام الشيرازي، فرفض مقابلته، وعندما أبلغه القنصل بأنّه مستعدٌ للاقتصاص ممّن أساء له ولو أدّى ذلك إلى إرسال إنذارٍ للحكومة العثمانية، فرفض السيّد الشيرازي عرضه قائلًا: إنّه لا يعتقد بوجود عداء بينه وبين أهل سامرّاء، وإنّ ما حدث كان نتيجة الصّدفة، ولا يرى حاجةً لدسّ أنف بريطانيا في هذا الأمر الذي لا يعنيها، لأنّه والحكومة العثمانية على دينٍ واحدٍ وقِبلةٍ واحدةٍ وقرآنٍ واحد. ولم يسمح الإمام الشيرازي لأزمة الشيعة في ظلّ الدّولة العثمانية أنْ تتحوّل إلى خنجرٍ بريطانيّ يشرخ الوحدة[8]. ولاحقًا وقف الشيعة إلى جانب العثمانيين في خندقٍ واحدٍ للدفاع عن البلاد عندما بدأ الاجتياح الإنكليزي خلال الحرب العالمية الأولى.
لقد أثبت التاريخ ومنذ قرنٍ من الزمن على الأقل وفي تاريخ العراق الحديث أنّ من أهم أولويات المرجعية الدينية، الدفاع عن الوطن، وهو تاريخٌ حافلٌ بهذه المسؤوليات، ومن خلال قراءتنا للتاريخ السياسي للعراق والمنطقة، لا تطالعنا أيّة شائبةٍ في أنّ المؤسسة الدينية الشيعيّة وعلى رأسها المرجعيّة، كانت الأساس دائمًا في تحريك السّواكن داخل المناخ السّياسي والاجتماعي بهدف الإصلاح في المجتمع منذ بدايات العهد العثماني إلى بدايات الاحتلال الأجنبي، مرورًا برسم أحداث ثورة العشرين كحلقةٍ أولى تبعتها حلقاتٌ أُخر، إلى يومنا هذا في إصدار فتوى صادعةٍ وتاريخيّةٍ لمواجهة الفكر التّكفيري وقوّات الظلام التي عبثت بسوريا والعراق وأقطارٍ أخرى.
وتقول المصادر التاريخية إنّه: لمّا بلغ أهل النجف نبأ توجّه الوهّابيين الغزاة عام 1802 نحو مدينتهم أعدّ الزعيم الديني الشيخ جعفر كاشف الغطاء بمساعدة العلماء قوّةً جماهيريةً هيّأ لها السّلاح وما يحتاجون من عدّة الدّفاع عن الأرض، ودفع الغزاة عن النجف، فتمكّن الشيخ جعفر وثلّة من العلماء من دفع القوّة الغازية ودحرها[9]. وقد أصدر المراجع العظام فتوى الدّفاع عن ليبيا عندما غزاها الإيطاليون عام 1911م، وفيها يشحذون الهمم، ويستنفرون المسلمين في كلّ البقاع وخصوصًا مسلمي العراق للدفاع والجهاد وردع المعتدي نقتطف منها ما يلي: «...عليكم أيّها المحامون والمدافعون عن الدين والحافظون لبيضة الإسلام ألا يخفى عليكم أنّ الجهاد لدفع هجوم الكفّار على بلاد الإسلام وثغوره ممّا قام إجماع المسلمين وضرورة الدين على وجوبه.... هذه كفرة إيطاليا قد هجموا على طرابلس الغرب التي هي من أعظم الممالك الإسلامية وأهمها، فخرّبوا عامرها وأبادوا أبنيتها، وقتلوا رجالها ونساءها وأطفالها. مالكم تبلغكم دعوة الإسلام فلا تجيبون؟! وتوافيكم صرخة المسلمين فلا تغيثون؟! أتنتظرون أنْ يزحف الكفّار إلى بيت الله الحرام، وحرم النبيّ والأئمّة (عليهم السلام)، ويمحوا الديانة الإسلامية عن شرق الأرض وغربها، وتكونوا معشر المسلمين أذلّ من قوم سبأ.... فبادروا إلى ما اِفترضه الله عليكم من الجهاد في سبيله، واتّفقوا ولا تفرقوا، واجمعوا كلمتكم، وابذلوا أموالكم، وخذوا حذركم، وأعدّوا لهم ما استطعتم من قوةٍ ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم؛ لئلا يفوت وقت الدفاع وأنتم غافلون، وينقضي زمن الجهاد وأنتم متثاقلون. ﴿فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾».
وقد وقّعها من المراجع العظام والفضلاء والوجهاء في النجف كلٌّ من: محمد كاظم الخراساني، وعبدالله المازندراني، وشيخ الشريعة الأصفهاني، وعلي رفيش، ومحمد حسين القمشة، وخدّام الشريعة الغراء: حسن بن المرحوم صاحب الجواهر، والسيد علي التبريزي، ومصطفى الحسيني الكاشاني، ومحمد آل الشيخ صاحب الجواهر، ومحمد جواد الشيخ مشكور، وجعفر ابن المرحوم الشيخ عبد الحسن، ومحمد سعيد الحبوبي[10].
«... ومع بداية القرن العشرين بدأ علماء الشيعة يشعرون مدى حاجتهم إلى العديد من التصورات والأفكار التي تؤمّن تعاملهم مع مشاكل العصر، التي بدأت تواجه المجتمعات الإسلامية، وخاّصة دول الجوار، وحفزت النقاشات والسجالات حول طبيعة هذه الأحداث والتعامل معها»[11].
وقد مثّل اندحار العثمانيين في العراق ودخول قوات الحلفاء تجدّدَ المشروع الشيعي بقصد استثمار هذه المرحلة، وبناء دولةٍ مستقلّةٍ، وعلى هذا فقد كان الوعي الشيعي حاضرًا في صناعة الواقع العراقي، وصياغة مستقلة حتى تجلّى بظهور العديد من الندوات[12].
كما أنّ موقف المؤسّسة الدينية لم يكن مقتصرًا على تحريك الأحداث السياسية العراقية الداخلية إبّان تلك المدة، بل تعدّى إلى المساندة الإقليمية في الأحداث التي تتعرّض لها المنطقة بأسرها، خصوصًا في عام 1911م، عندما اجتاحت القوّات الروسية شمال إيران إثر الخلاف المائي الحاصل بينهما، وقيام القوات البريطانية باحتلال جنوب إيران، حين برّرت تلك الدولتان بأنّ الهجوم على إيران جاء استنادًا إلى اتفاقية عام 1907م [13]، كما وعمدت القوات الروسية إلى قتل علماء الدين في تبريز وإشاعة الرعب في صفوف الناس[14]، وعندها أعلن علماء الدين في العراق وخاصّةً في النجف الأشرف الجهادَ ضدّ القوات الروسية الغازية، ومنهم الأخوند الخرساني الذي أوعز بنصب الخيام خارج مدينة النجف لتعبئة الجماهير استعدادًا لمواصلة الجهاد ضد الغزاة.
وعندما قصفت القوات الروسية مرقد الإمام علي بن موسى الرضا (عليه السلام) اجتمع علماء الدين في مدينة الكاظمية، وهم السيد مهدي الحيدري، والشيخ مهدي الخالصي، والسيد إسماعيل الصدر، والسيد عبد الله المازندراني، والشيخ فتح الله الأصفهاني، والشيخ محمد حسين النائيني، والسيد علي الداماد، والسيد مصطفى الكاشاني، والسيد محمد تقي الشيرازي المقيم في سامراء[15].
هذه المواقف المشرّفة للمؤسّسة الدينية وخاصّةً المواقف السياسية لم تأتِ من فراغ، بل كانت بداياتها متمثلةً بنمو الحركة الإسلامية في المدن الشيعية المقدسة، إذ شكّلت هذه المدن الاتجاه الفكري السياسي والرئيس خلال المدة الممتدة بين أوائل القرن العشرين حتى الاحتلال الإنكليزي للعراق عام 1914م، حيث تمثّل ذلك النمو بعددٍ من المظاهر السياسية والفكرية للتيارات التي تولّدت عنها، وكانت النجف وكربلاء وعلى الرغم من أهميّة المدن الشيعية الأخرى قد شكّلتا المركز القيادي الأساسي للحركة الإسلامية ومظاهرها الفكرية وتياراتها.
وفي هذا الوقت قام كبار علماء المسلمين الشيعة بإصدار فتوى تدعو إلى الجهاد ومقاومة الاحتلال الإنكليزي، وتأييد العثمانيين في الحرب على الرغم من أنّهم كانوا على يقين بأنّ العثمانيين لا يمثّلون الوجه الإسلامي الصحيح إلّا أنّ شرّهم أهون عليهم من خطر الإنكليز الكفّار[16]، حيث قاموا بتعبئة سكّان المدن والعشائر، وحثّهم على الجهاد، وتنظيم تطوّع المجاهدين وقيادتهم إلى جبهة الحرب[17].
وعبر هذين التطوّرين المهمّين دخلت المؤسّسة الدينية حقبةً جديدةً ومفصليّةً من تطوّرها السياسي والفكري الذي امتدّ نحو عقدٍ من الزمن كانت المواجهة المسلّحة هي السمة البارزة لهذه الحقبة. وقد سجّل المؤرّخون مواقف علماء الشيعة، والمراجع العظام في الدفاع عن الدولة العثمانية رغم قناعتهم بطائفيّتها الحمقاء، وعنجهيّتها القومية، لكنّهم أمام الغازي الأجنبي أعلنوا الجهاد المقدّس، وتوجّهت الجموع الزاحفة إلى البصرة للدفاع عن الوطن، وشاركت القيادة المرجعية في المسيرة، وكان في طليعتهم العلماء الأعلام من النجف.. وكان لهم موقفٌ مشرّفٌ في الدفاع عن الوطن[18].
كانت بريطانيا تدرك مسبقًا أنّها ستواجه مشكلةً كبيرةً في العراق، هي موقف علماء الشيعة من احتلال العراق؛ إذ إنّها كانت تدرك أنّ علماء الشيعة لا يمكن أنْ يتقبلوا الاحتلال البريطاني، وذلك من خلال المواقف التي تبنّوها إزاء الاحتلال الاستعماري للأقاليم الإسلامية، وتصدّيهم لأيّ محاولةٍ استعماريّةٍ تستهدف كيان المسلمين السياسي[19].
كان للفتوى التي أصدرها السيّد الشيرازي في 23/1/1919 الأثر العميق في نفوس الأوساط الشيعية وأوساط المعارضين للاحتلال الأجنبي، وقد تطابقت مع عددٍ من الآيات القرآنيّة التي نصتّ على أنْ يطيع المسلمون أولي الأمر منهم، وتعدُّ هذه الفتوى هي الأولى خلال السيطرة البريطانية الفعلية على العراق، إذ أعطى فيها السيّد الشيرازي رأيًا علنيًا ضدّ البريطانيين الأمر الذي أضفى على الحكم الوطني مباركةً دينية، وكان لهذه الفتوى انعكاسٌ ايجابيٌّ كبيرٌ في نفوس الناس، وبذلك توازن موقف العلّامة الشيرازي في كربلاء مع مواقف رجال الدين في النجف[20].
وكانت أولى المواجهات المسلّحة هي التي قادها واشترك فيها رجال الدين والعلماء الشيعة ضدّ الاحتلال، والتي شكّلت تجربةً مهمةً ومتقدّمةً لمواجهتينِ مسلّحتينِ هما ثورة النجف عام 1918م، وثورة العشرين عام 1920م، وجدّد السيد اليزدي دعوته للجهاد في خطبة ألقاها في صحن الإمام علي(عليه السلام) حرّض فيها الناس على الدفاع عن البلاد الإسلامية، وأكّد وجوب ذلك حتى على الفتى العاجز بدنًا[21].
لقد كانت مدينة كربلاء في مقدّمة المدن العراقية التي استجابت لحركة الجهاد التي قادها العلماء الأعلام حيث إنّ اجتماعًا كبيرا عُقد في المدينة حضره كبار رجال الدين، كان في مقدّمتهم السيّد إسماعيل الصدر الذي سار بالحاضرين إلى صحن الإمام الحسين(عليه السلام).
أمّا في مدينة الكاظمية فقد كان لها الموقف المشرّف بالوقفة الأصيلة في الدفاع عن بيضة الإسلام والمسلمين، إذ برز فيها مجتهدان كبيران هما السيّد مهدي الحيدري والشيخ مهدي الخالصي قادا الدعوة للجهاد، وأشرفا على تطوّع المجاهدين، فقد بادر الأول بعد احتلال الفاو إلى إرسال برقياتٍ إلى النجف وكربلاء وسامراء عبّر فيها عن رغبته في الاجتماع بهم، ويقصد رجال الدين لبحث أمر الاحتلال فضلًا عن مساهمته الفعّالة في حثّ الناس على الجهاد من خلال المنبر في الصحن الكاظمي الشريف[22].
أمّا الشيخ مهدي الخالصي فقد أصدر حكمًا شرعيًا أوجب فيه على المسلمين (صرف جميع أموالهم في الجهاد، حتى تزول غائلة الكفر، ومن امتنع عن بذله وجب أخذه كرها)[23]. هذا فضلًا عن أنّه أصدر رسالةً عنوانها: (السيف البتّار في جهاد الكفّار)، تعرّض فيها إلى مسألة الجهاد في الإسلام وما يترتّب على الأمّة الإسلامية للقيام بشروطه وقواعده وأركانه[24].
وقد لقت فتاوى العلماء استجابةً واضحةً وكبيرةً من قبل عامة الناس في العراق، حيث انضمّ العديد من الأهالي إلى صفوف المجاهدين، وهذا الأمر يدلّل على عمق الترابط بين الناس ومقلَّديهم داخل المؤسّسة الدينية التي كانت الموجِّه الأوّل للأحداث والقائد الأوحد للعمليات الجهادية. هذا فضلًا عن أنّ الصرخة الجهادية لم تنطلق من كربلاء أو النجف وحدهما بوصفهما مركزًا للمؤسسة الدينية، بل إنّ الصرخة كانت في وقتٍ واحدٍ بجميع مدن العراق ذات النفَس الشيعي، وإنْ دلّ هذا الأمر على شيء فإنّه يدلّ على عمق الترابط الروحي والعقائدي بين رجال الدين والعلماء وطلبتهم، خاصةً أنهم أكثر الناس إدراكا لعظم المسألة التي تحيط بأفكارها وطموحاتها الاستعمارية في جسم العراق وأهله.
ولم تكن مدينة سامراء بعيدةً هي الأخرى عن الروح الجهادية التي اكتنفت مدن العراق من النجف وكربلاء والكاظمية إذ كان لها دورها المشارك والفعّال الذي جاء على لسان السيّد محمد تقي الشيرازي الذي أوجب محاربة الكفّار الإنكليز، وأرسل نيابةً عنه نجله محمد رضا إلى الكاظمية للانضمام إلى المجاهدين.
وعلى أيّ حالٍ نجد أنّ مشاركة رجال الدين والعلماء تمثّل وجهين الأول المشاركة المباشرة في أغلب المعارك التي شنّها المجاهدون ضد الجيش البريطاني. أما الوجه الثاني تمثّل بالوجه الإرشادي والتوجيهي لزعماء العشائر الذين يقودون المجاهدين في عشائرهم[25].
ولبيان الدور الأساس لرجال الدين والمؤسسة الدينية إبّان ثورة النجف لا بدّ من الرجوع قليلًا للأسباب والدواعي التي أوجبت على المؤسّسة الدينية اعتناق ذلك الدور، إذ شكّلت النجف ومنذ بداية الاحتلال الأجنبي للعراق مركزًا أساسيًا لحركة الجهاد، حيث أقام زعماؤها المحلّيون إدارةً ذاتيةً لتسيير شؤون المدينة، وهي إدارةٌ كانت أشبه بحكومةٍ مؤقّتةٍ، وخلال تلك السنتين الأخيرتين التي تمتّعت بهما المدينة بوضعٍ مستقل[26].
قام السيّد الشيرازي بتعزيز القيادة الدينية في معارضة المشاريع الإنكليزية ومقاومة الاحتلال، وحلّ بعض المشاكل التي تواجهها حركة المقاومة الإسلامية، وذلك قبل أنْ يتّخذ موقفًا حازمًا وحاسمًا للبدء بمواجهةٍ شاملةٍ ومسلّحةٍ ضدّ الاحتلال، حتى يتمكّن من تحقيق وإنجاح جميع السبل القادرة على تحقيق النجاح في الحالة الثورية، كما جعل بشكلٍ أكبر من المؤسسة الدينية عامل جذبٍ لجميع أنظار أبناء الشعب، وتمكّن من حلّ المسألة المهمّة الخاصّة بالتناحر والصراع بين العشائر، عن طريق خلق التآلف والتقارب في الوجهات المختلفة بالشكل الذي يمكّن من خلال ذلك الاستفادة منهم في مقاومة المحتل.
إنّ التحوّل في موازين التأثير الذي حدث كان من خلال علماء الشيعة ومؤيّديهم من رؤساء العشائر في العراق. وفي الوقت نفسه، ثمّة صلة لا انفكاك عنها مع العالم العربي المتّسع إلى ما وراء حدود العراق؛ جعلت هذه الصّلة ما يحدث في العراق أمرًا يهمّ العرب إلى حدٍّ كبير، وما يحدث للأقطار العربية مصدرًا لإلهام العراقيين[27].
وعلى الطرف الآخر للعراق، وبالمقابل في لبنان وسوريا، كان هناك علّامتان مجتهدان كبيران من أساطين العلم والاجتهاد خرجا من رحِم الحوزات العلمية في النجف وكربلاء وغيرهما: المجتهد العلّامة الكبير السيّد عبد الحسين شرف الدين في جبل عامل بلبنان، والمجتهد العلّامة الكبير السيّد محسن الأمين في سوريا. فقد أعلن السيّد شرف الدين يعلن الجهاد ضد الاحتلال الفرنسي بقوله: «.. وكان استقبالنا للاحتلال الفرنسي استقبالًا صاخبًا محتجّا يواجهها بالرفض والمصارحة والميل عنها ميلًا لا هوادة فيه ولا لين»[28]. كان السيّد شرف الدين راسخ اليقين، دائب الحركة يدور مع المحتلين مدافعًا أو مطاردًا، وعندما أفتى بالجهاد ضدّهم حكموا عليه بالإعدام وطاردوه، ولم يتزحزح عن مواقفه المبدئية قيد شعرة. وكان يردّد دائمًا أينما حلّ: «الهاشمي لا تعصب سلماته ولا تقرع جنباته... فكيف يلين الهاشمي لحادث، أو يلبس لباس الخوف، حاشا حفّاظ بني الحسين»[29]. تزامن انفجار الثورة في جبل عامل سنة 1920م، ضدّ الاحتلال الفرنسي مع انفجار الثورة في العراق في العام نفسه ضدّ الإنكليز. وما أنْ اندلعت الثورة في جبل عامل حتى تزامن أيضًا إصدار الفتاوى في النجف الأشرف من المراجع الكبار بضرورة التصدّي للاستعمار الإنكليزي في العراق[30]. ثم اندفع المستعمر الفرنسي بحقده، وحكم على السيد شرف الدين بالإعدام، ثم خفّفه إلى النفي وأحرق داريه ومكتبته العامرة بنفائس المخطوطات والكتب.
أمّا في سوريا فإنّ المجتهد الكبير السيّد محسن الأمين العاملي قد تصدّى في العام نفسه 1920م. لقيادة الحركة السياسية الكبيرة في سوريا، التي كان لها الأثر البالغ في توطيد عرى الوحدة الوطنية في مقاومة الاحتلال الفرنسي، وقد استطاع من خلال ذلك أنْ يجسّد صورة القائد الإسلامي الذي يحمل هموم الأمة، ويدافع عن قضاياها، ويعيش مضحيًا من أجلها، فغدا رمزًا من رموز التحرير في العالم الإسلامي، كما اشتهر بمواقفه الوطنية والإسلامية المشرّفة، ودفاعه عن القضايا العربية في وجه الانتدابين الإنكليزي والفرنسي[31].
وكما كافح في سبيل استقلال سوريا فإنّه لم ينسَ فلسطين حين أطلق فتواه الجهادية يستصرخ الأمة قائلًا: «...أيّها العرب، أيّها المسلمون: إنّ لكم في فلسطين تراثًا، وإنّ لكم في كلّ غورٍ وحزَنٍ دمًا عُجن به ترابها، واختلط به ماؤها ونباتها، وإنّ أربعة عشر قرنًا زاخرًا بالمفاخر والمآثر تحدق بكم اليوم، وأمجادًا من عليا معدٍّ ونِزار، ترفرف أرواحٌ في آفاقكم تستفزّ عزائمكم، وتستصرخ نجدتكم»[32]. ومن فتاواه التي أصدرها في سنة 1928 م، كتابًا تحت عنوان: (التنزيه لأعمال الشبيه) حول الممارسات العنيفة والدموية في أيام عاشوراء يستنكر فيه تلك الممارسات، وأيّده عددٌ من العلماء في النجف، ولكن الشيخ محمد حسين كاشف الغطاء وقف في مواجهة قرار الحكومة العراقية بحظر الشعائر الحسينية، ودافع عنها قائلا: «إنّها أعظم رموز المذهب الشيعي، وإنّها ضروريةٌ لوجوده، وحذّر من أنْ تقييدها سيؤدّي إلى اختفاء التشيع كله»[33].
يبدو من خلال المطالعات للتأريخ السياسي وما تتناقله كتب المؤرّخين ومقالات الباحثين أهميّة ثورة العشرين التي قادها جهابذة العلماء في مدينتي النجف الأشرف وكربلاء حيث نزل إلى ميدان الجهاد معظم عشائر الجنوب، بقيادة العلماء، واستمرّ هذا العطاء بثوراتٍ وحركاتٍ لم يهدأ العراق معها حتى يومنا هذا.
فالدستور الإنكليزي الاستعماري لثورة 1920م، وإبعاد الغالبية السكانية، لا يُبعد النجف الأشرف عن القيادة الثورية، ولا يُطفئ شعلتها الجهادية، وستبقى النجف قبلة المسلمين، ومحطّ المراجع العظام والعلماء، والشعب الثائر مهما جار عليها الزمن؛ لأنّ حمايتها بحاميها وهو سيّد الوصيين وإمام المتقين أمير المؤمنين الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام)، فهو حامي بيته ومَن يلوذ به والله المعين.
وحول مواقف النجف السياسية: فإنّ المرجع الأعلى الميرزا محمد حسن الشيرازي قاد الحركة الوطنية في إيران من مقرّه في سامراء ـ العراق، وأفتى تلك الفتوى المشهورة بتحريم استعمال التنباك.
وكذلك في بداية الحرب العالمية الأولى، رأى مجتهدو النجف الأشرف في هجوم الإنكليز على العراق تدخّلًا سافرًا على وطنهم، فأفتوا بالجهاد فانخرط الشعب في أثرهم بقيادة المجتهد العالم السيد محمّد سعيد الحبوبي ومعه كتائب العلماء وطلاّب النجف وساروا مدجّجين بالسلاح إلى ساحات القتال في معركة (الشعيبة) وغيرها، ملبيّن نداء الجهاد ضد البريطانيين.. وقد جاء النّداء بعد فترةٍ وجيزةٍ من اعتداء الأتراك على بيوت شيوخ بارزين كانوا يقبعون في سجون الأتراك.. لكن هؤلاء استُبِقوا بفرض الجهاد ضدّ البريطانيين؛ لكونهم قواتٍ غير مسلمةٍ يقاتلون ضد العثمانيين المسلمين، وإنْ كانوا ظَلَمَة[34].
وبعد الاحتلال الإنكليزي للعراق وإعلان الانتداب، دعا المرجع الأعلى الشيخ ميرزا محمد تقي الشيرازي ـ من مقرّه في كربلاء ـ الشعب العراقي لمقاومة الاحتلال والثورة على الانتداب، فهبّ الشعب حاملًا سلاحه، فكانت الثورة العراقية الكبرى التي أرغمت المحتلين الإنكليز على إعلان الحكم الوطني، وقد أكّدت هذه الثورة على التلاحم الجماهيري الديني والعشائري (القبائل)، ممّا أوجد تفاعلًا قويًّا شدّ هذه الجبهة ضدّ الاستعمار، وتصميمًا صادقًا على محاربة العدو مهما كانت قوته، وقد أفتى السيد الشيرازي بأنّ «مطالبة الحقوق واجبة على العراقيين، ويجب عليهم في ضمن مطالبتهم رعاية الأمن والسلم، ويجوز لهم التوسّل بالقوة الدّفاعية إذا امتنع الإنكليز عن مطاليبهم». وطلب بتشكيل حكمٍ عربيّ إسلاميّ دستوريّ متحرّرٍ من الاستعمار في العراق، وأصبحت الثورة رمز البطولة الوطنية العراقية في سبيل الدفاع عن الأمة والأرض من أجل غزوٍ أجنبيّ محتل[35]. وتوفّي الشيخ الشيرازي فقاد الثورة خلفه الشيخ فتح الله النمازي المعروف. بشيخ الشريعة، وقد كانت العشائر في العراق تقف مع صوت المرجعية، وكان هذا العامل من جملة العوامل التي جعلت ثورة العشرين تنجح في دحر الاستعمار البريطاني حيث كان لفتوى المرجع الديني الميرزا محمد تقي الشيرازي أثرٌ كبيرٌ في ابن العشيرة وشيخها حيث يعدّها واجبًا مقدّسًا يلتزم به، وبهذا الترابط القوي بين الشعب والمرجع تفجّرت الثورة، وتألّقت تقدمًا، وأنزلت ضرباتها على المستعمر الذي حاول بمخططاته وضع كثيرٍ من الحواجز بينهما، وبذل الأموال لشراء ضمائر بعض ذوي النفوس الضعيفة واستدراجها إليه.
وأصبحت مدينة النجف الأشرف ـ حينذاك ـ غرفة عمليات الثورة، جهادًا ومصدرًا للبطولة والفداء حتى سرت الثورة إلى جميع محافظات العراق، والجنوبية بالذات.
وللدين الدّور الأساس في قيام الثورة؛ لأنّ بذور التشيّع في فكرة التحرّك الثوري مدعاةً لتكون الانطلاقة شيعية، وإنْ انضمّ إليها شخصياتٌ سياسيةٌ ودينيةٌ غير شيعيةٍ لما فيها من أصالةٍ عقائدية، وصدقيّةٍ في المسيرة. وممّا يدلّل على ذلك صدقية الثورة، ونبل الأخلاق العالية واتّباع التعاليم الإسلامية وفتاوى المراجع والعلماء، حُسْن معاملة أسرى الحرب البريطانيين بفتوى من المجتهد البارز شيخ الشّريعة إلى حرّاسهم، مبيّنا أنّ المعاملة الحسنة للأسرى (واجب دينيّ ومدنيّ وإنسانيّ). وقد استُخدمت هذه الفتوى لدحض خطاب آرنولد ويلسون في 30 آب 1920م، إلى شيخ الشريعة[36].
كان لدور العلماء ـ كما أشرنا ـ في تعبئة الجماهير للثورة أثره الكبير في الإستجابة لهم فالشيخ مهدي الخالصي والسيد هبة الدين الشهرستاني، كانا حلقة الوصل بين القيادة وبين علماء الدين في الكاظمية وجماهيرها، كما أنّ السيّد أبا القاسم الكاشاني كان حلقة الوصل بين القيادة وإيران، والميرزا أحمد الخراساني كان الحلقة بين القيادة وجماهير وعشائر النجف الأشرف، والأخيران كانا حلقة الوصل مع عشائر الفرات الأوسط.
إنّ منهج الإمام الشيرازي في القيادة كان يعتمد على الشورى، ومن هنا فقد شكّل في البداية مجلس شورى للعلماء، كما شكّل فيما بعد وعلى أثر فتواه بجواز حمل السلاح ضدّ الإنكليز مجلسًا لإدارة الحرب ضدّ القوات الإنكليزية، يتشكّل من رؤساء العشائر الثائرة، ومن الوجهاء وكبار زعماء الثورة[37]، كما كان منهج الإمام الشيرازي في الثورة قد تميّز بما تميّزت به الحركة الثورية الإسلامية في ذلك الوقت من المبادئ الثلاثة:
الرفض المطلق للاستعمار، ولمهادنته.
الوحدة الإسلامية.
الاعتماد على الفكر الإسلامي في الحركة.
كما كان الإمام الشيرازي منذ توليه الزعامة الدينية والسياسية، قد سعى عبر توجيهاته ووكلائه، ورسله، إلى تهيئة الأرضية الشعبية لتفجير الثورة بوجه الإنكليز، وقد أصدر عدة فتاوى حدّد فيها واجب الشعب في قضيّة الاستفتاء وفي حرمة التعاون مع السلطات المحتلة. ولم يكن الإمام الشيرازي تنقصه الشجاعة في إصدار فتوى يُلزم فيها الشعب بوجوب حمل السلاح، إنّما كانت حكمته تقتضي أنْ يجعل الفتوى كفّ مسلّط على رأس الإنكليز دون استخدامه. إلاَّ في الحالات التي تُفقد فيها جميع الآمال والحلول[38]. وانتشرت الفتوى على نطاقٍ واسعٍ في كلّ مكانٍ مع مبعوثين خصوصيين من علماء الدين لتحريض الجماهير على حمل السلاح ومقاومة القوات الإنكليزية بالقوة، وكان بعض العلماء والخطباء والشخصيات الدينيّة من أقدر الناس على تعبئة الجماهير من أمثال أبو القاسم الكاشاني، والسيد صالح الحلي، والسيّد محمد الصدر[39].
ويلاحظ أنّه من الأمور المعروفة أنّ الزعامة الدينية الشيعية في العراق التي أدّت دورًا خطيرًا في تفجير وتأجيج ثورة 1920م الوطنية، كانت تنطلق في تفكيرها السياسي من منطلقٍ دينيّ إسلاميّ عامٍ لا يختصّ بطائفةٍ مذهبيةٍ معينة، شيعية أو سنية، ولا بفئةٍ إثنيةٍ دون أخرى، عربية أو كردية أو تركية أو غيرها.
لقد ذهب علماء الدين الشيعة، العرب منهم والإيرانيون على رأس قوافل المجاهدين إلى ساحات القتال في الشعيبة، وغيرها لمحاربة القوات البريطانية[40].
يقول الأستاذ عبد الحليم الرهيمي: «في مدينة النجف قام عددٌ كبيرٌ من العلماء بأدوارٍ مهمّةٍ في حركة الجهاد، وكان أبرزهم المجتهد محمد سعيد الحبوبي، وأنّ السيد الحبوبي قام بدور رئيسي في الثورة، حيث كان أول من بادر إلى قيادة مجموعات المجاهدين والتوجّه بهم إلى الجبهة، وقد التفّ حوله عددٌ من العلماء في النجف الأشرف وكربلاء والكاظمية الذين قاموا بدورٍ فعّالٍ في تعبئة عشائر الفرات الأوسط وحثّها على الجهاد»[41].
أمّا ما يخصّ موقف علماء الدين، فإنّ من أسباب الثورة واندلاع لهبِها في نظر الكثير من الباحثين والمؤرّخين هو مواقف رجال الدين. ولا يخفى أنّ المجتهدين من علماء الشيعة الإمامية، هم مرجع جميع أبناء هذه الطائفة في تلقّي الفتاوى والأحكام الدينية، وهم يعتقدون أنّ علماءهم نوّاب أئمتهم فلا يخالفون لهم أمرًا، ولا فتوى، ولا حكمًا من الأحكام الشرعية[42].
والنجف أوّل مدينةٍ عراقيةٍ فكّرت بالتخلّص من الاستعمار البريطاني، بالنظر لما قد تشبّعت من روح الحرية والنزوع إلى الديمقراطية، بسبب ما كانت تتلقاه من دروسٍ متواصلةٍ عن فلسفة نهضة الإمام أبي عبد الله الحسين بن علي (عليه السلام)، وبسبب كونها مهد العلماء ومركز الروحانية؛ ولذا فقد اهتمّ بها الحاكم الملكي العام اهتمامًا عظيمًا[43]. ولثورة العشرين أهمية خاصّة، إذ إنّ 130م، ألف ثائرٍ من الفلّاحين والبدو وسكّان المدن، شهروا السلاح في وجه أقوى دولةٍ إمبرياليةٍ في ذلك الحين، وقاتلوا قواتها المتفوقة عددًا وعدّةً لأكثر من خمسة أشهرٍ بشجاعٍة لم يسبق لها مثيل[44].
بعد ثورة العشرين كانت من مطالب مراجع الدين وزعماء الثورة تأسيس دولةٍ عربيةٍ وحكومةٍ عربية، لكن السياسة البريطانية حاولت أنْ تتلاعب بهذه الإرادة العراقية، عن طريق تمرير معاهدة انتدابٍ تُبقي العراق تحت الانتداب البريطاني... وتنبّه المجتهد الأكبر الشيخ مهدي الخالصي إلى هذه اللعبة الخطيرة؛ فأصدر فتواه الشهيرة بتحريم المشاركة في الانتخابات، وجاء فيها: (من دخل أو تداخل أو ساعد فيه فقد حادَّ الله ورسوله، ومن يحادَّ الله ورسوله فإنّ له نار جهنم خالدًا فيها، ذلك الخزي العظيم). وأيّد هذه الفتوى مرجعان دينيّان من مراجع الدين في النجف الأشرف، هما: السيّد أبو الحسن الموسوي الأصفهاني، والشيخ ميرزا محمد حسين الغروي النائيني، وقد كان لهذا الموقف السلبي من الانتخابات أثره الكبير في إحجام الجماهير عن المشاركة، وكان ردّ الفعل البريطاني نفي العلماء المعارضين لسياستهم إلى خارج العراق[45].
إنّ الانتفاضات التي قام بها الشعب العراقي، كانت انطلاقتها من المدن المقدسة ابتداءً من النجف الأشرف. وللنجف دورٌ خاصٌّ في ثورة العشرين حيث دفعت بسريانها ضدّ الاستعمار البريطاني خلال 1920 و1924 و1926 و1927 و1928م والانتفاضة الجبارة التي حدثت خلال الأعوام 1935 ـ 1938م والتي سجّلت أحداثًا مجيدةً في تاريخ النضال التحرري للشعب العراقي[46].
بعد أنْ أظهرت ثورة العشرين كوامن المجتمع العراقي، ارتأت الإدارة الاستعمارية البريطانية تشكيل حكومةٍ وطنية الشكل، يمكنها اكتساب بعض التأييد الشعبي لتخفيف حدّة المعارضة العراقية، وسحب البساط من تحت أقدام الوطنيين والاستقلاليين الشيعة. وإذا كانت ثورة العشرين مشروعًا سياسيًا بأدواتٍ عسكريةٍ غير منظّمةٍ وغير مدروسة لم تعطِ ثمارها، رغم الإنجازات التكتيكية الكبيرة والضربة القوية التي وجّهتها للوجود البريطاني، وفي العموم، كانت حركةً قصيرة الأجل لم تصل إلى حدّ الاستثمار السياسي بالنسبة للشيعة، رغم تأثيرها العميق في مستقبل العراق الموحّد[47].
لم يختلف موقف علماء الدين من حركة مارس/ آذار عام 1941م التي قام بها رشيد عالي الكيلاني، ففي هذه الحركة أصدرت حكومة الثورة في عام 1941م كراسًا حوى صور فتاوى علماء النجف وكربلاء والكاظمية وبغداد ومعظمها بخطوطهم الشريفة، دعت أبناء العراق إلى نصرة حركة مارس/ آذار والرفض للنفوذ البريطاني[48]. ولاشك في أنّ الأحداث الجسام التي مرّت بها المرجعية منذ حرب الجهاد وحتى ثورة النجف وثورة العشرين، قد جعلها تركز على مهمتها الرئيسة، وهي المهمة العلمية والشرعية التي من أجلها قامت واستمرت عبر القرون، ولم يكن ذلك بسبب الضغط السياسي الذي مورس عليها من قبل الحكومات الحليفة لبريطانيا؛ لأنّنا نجد لها حضورًا سياسيًا في ثورة العشائر في الفرات وسوق الشيوخ سنة 1935 وثورة مارس/ آذار سنة 1941[49]م.
ولم تغفل الحوزة العلمية عن قضايا الأمة، وقد رافقت كلّ االقضايا والمحن التي مرّت بها الأمة الإسلامية فناصرتها بما يمليه الشرع والواجب كالقضية الفلسطينية، فمنذ عام 1931م، حينما حضر الشيخ محمد الحسين كاشف الغطاء مؤتمر القدس، وحتى نكبة 1948م وما تلاها من حروب قامت مع الكيان الصهيوني الغاصب. واستمرّ العراق بعطائه حتى كانت اتفاقية بورتسموث 1948م، التي أحبطها الشعب بثورته ومزّق اتفاقيتها[50].
وامتدّت أعوام الجهاد حتى عام 1956م، عندما قام العدوان الثلاثي البريطاني والفرنسي والإسرائيلي، على مصر، فكان الشعب العراقي يقف بالمرصاد لحكومة العراق فتظاهر مستنكرًا، وسقط الضحايا في رصاص نوري السعيد، وكان للنجف موقفٌ مشرّفٌ بشجب هذا الإعتداء، فخرجت تظاهرات في الشوارع والأسواق، واستمرّ الإضراب في النجف أسبوعًا كاملًا اتخذ العنف طابعًا له، فعمدت السلطة إلى القوة، وأطلقت النار على بعض المتظاهرين في مرقد الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام)، فقُتل اثنان، ولم تتوقّف إلّا بعد سقوط النظام الملكي في 14 تموز 1958م، إضافةً لتأييدها لحركات التحرر العربية في ليبيا والجزائر والمغرب العربي وغيرها[51].
وها هو طودٌ شامخٌ من رجالات الحوزة العلمية في الجانب الآخر، في لبنان، إنّه السيّد عبد الحسين شرف الدين يطلق صرخاته للجهاد والاستشهاد على أرض فلسطين للملوك وللرؤساء العرب. وها هو يهيب بملوك العرب المجتمعين في عمّان قبل النكبة بقليلٍ بنداء، بل بفتوى مدوية: «... الآن، وقد أسفر الصبح لكلّ ذي عين، وأعلن الطائرون إلى الظلّ والماء، تردّدهم في خوض المحنة ودفع الكارثة، أروا الأمّة ما عودتموها عليه ـ بني هاشم ـ من هبوبكم للأخذ بكظمها كلّما ارجحنّت الخطوب، وابتسموا لها في ثنايا ليلها الفاجع على مفترق الدروب. وليس ذهاب فلسطين فاجعًا، لولا أنّه ذهابٌ لريح العرب وعزّ الإسلام، وكرامة الإنسان المُسترَقّ في غد هذا الشرق القريب»[52]. ثم أعقب النداء ببرقية إلى الملك عبد الله ملك الأردن في اليوم الذي أعلن اليهود فيه قيام دولة إسرائيل وذلك على أثر انعقاد مؤتمر عمّان لإنقاذ فلسطين: «كرامة العرب الجريحة تنظر إلى مؤتمركم من مأساةٍ لاموضع فيها للصبر. تنَمُّرُ الصهاينة يتحدّى رسالة القرآن. انبعثوا على بركة الله بذات محمد. الشعب العربي يجيش بثورةٍ ضارية، فكونوا من وراء تضحيته، يكفكم الله عدوان شُذّاذ الآفاق»[53].
ثم راح السيّد شرف الدين يطلق الفتوى تلوى الأخرى يحثّ الأمة على القتال والإستشهاد من أجل فلسطين: «أيّها العرب، أيّها المسلمون: هذا شهر المحرم الدّامي الذي انتصرت فيه عقيدةٌ وبُعث فيه مبدأ. ألا إنّ قتلة الحسين (عليه السلام)، بِكْر في القتلات، فلتكن قدوتنا فيه بِكرًا في القدوات. ولنكن نحن من فلسطين مكان سيّد الشهداء من قضيته. ليكون لنا ولفلسطين ما كان له ولقضيته من مجدٍ وخلود. أيّها العرب أيها المسلمون: لقد حُمَّ الأجل وموعدنا فلسطين. عليها نحيا وفيها نموت. والسلام عليكم يوم تموتون شهداء، ويوم تبعثون أحياء»[54]. وفي أواخر أيامه كان السيّد شرف الدين قد شارف على التسعين من عمره وقد وقع العدوان الثلاثي على مصر فأطلق فتواه من إذاعة الشرق الأوسط في القاهرة مدوية، إلى علماء الدين في العالم الإسلامي، جاء فيها: «...أناشد إخواني في الله تعالى علماء الدين في كلّ مكانْ أنْ يقولوا كلمتهم، فتدوي صارخةً توقظ النائمين، وتدفع الواقفين إلى الدفاع عن معقلٍ هو أعزّ معاقلنا تحت راية الحق... وأهيب بالجميع... إلى الاشتراك في معركة المصير هذه، وإعلان الحرب على الاستعمار.... ألا وإنّ الاستعمار الغربي يغزونا في عقر دارنا، معتديًا غاشمًا. ألا ومن مات دون حفنةٍ من تراب وطنه مات شهيدًا»[55].
مرت المنطقة والعراق بالذات بعد نكبة فلسطين بمتقلباتٍ كثيرةٍ سادتها انعطافاتٌ سياسيةٌ واجتماعيةٌ عديدة، وما رافقه من موقف المرجعية في الدفاع عن الوطن وإبعاد يد الأجنبي عنها، كذلك حرمة الاقتتال الداخلي بين المسلمين وأبناء الوطن الواحد، كالفتوى التي أصدرها السيّد المرجع الحكيم في حرمة مقاتلة الأكراد، وحرمة غزو البلدان المجاورة مثل الكويت.
وفي عام 1959م، وعندما كان المدّ الشيوعي في العراق قد تفاقمت تصرفاته، امتدت الهجمة الشيوعية لتطال التيار الديني والمرجعية في النجف، وبدأت حالةٌ من المواجهة في النجف بعد وضع علامة (لا) على دُور علماء الدين بغية مهاجمتها ليلًا[56].
إنّ هذه النماذج من المواقف التي وقفتها النجف الأشرف بمراجعها العظام وعلمائها الأعلام وشعبها المتفاني، جعلتها تكون غرفة عمليات للمجاهدين للانطلاقة الأولى للثورة ابتداءً من سنة 1917م، بِدء الحركة الجماهيرية ضدّ الاستعمار الإنكليزي، وامتدادًا إلى جميع الأحداث والانتفاضات والحركات التي مرّت على العراق الأبي حتى يومنا هذا.
وفي قمّة صعود المدّ (الماركسي) في العراق، وما شهده من انتهاكاتٍ فاضحةٍ للقيم الدينية والأخلاقية، انبرت المرجعية الدينية بفتوى شجاعة بأنّ «الشيوعية كفرٌ وإلحاد»، رافقتها مواقف في كربلاء المقدسة، من لدن المرجع الديني الراحل الميرزا السيد مهدي الشيرازي بمواجهة الإلحاد وتبيين معالم الرموز المقدسة والنماذج العظيمة، عبر إطلاق مشروع الاحتفال العـالمي بذكرى مولد الإمــام علي بن أبي طالب(عليه السلام) في الثالث عشر من شهر رجب، وتكرار البرنامج كلّ عام، ودعوة الأدباء والشعراء والشخصيات الدينية والسياسية لحضور هذا المهرجان الكبير في كربلاء المقدسة. وكانت أول تجربةٍ ناجحةٍ لهذا المهرجان عام 1960[57]م.
وفي مرحلة الستينيات من القرن الماضي، امتازت المرجعية بإرادتها القويّة؛ إذ وقفت ضدّ كلّ المؤامرات، فعمد آية الله السيّد محسن الحكيم المرجع الأعلى الشروع بزيارة العتبات المقدّسة، واستمرت زيارته شهرًا كاملًا، وقد شعرت دوائر الاستكبار، بمغزى هذه الزيارة وعرفت قوة تأثير المرجعية في أوساط المجتمع العراقي، وفي عام 1964م عُقد مؤتمرٌ بدعوةٍ من عبد السلام عارف للحصول على فتوى شرعيةٍ تسوّغ مقاتلة الأكراد، وقد وجّهت دعوةٌ إلى علماء النجف للحضور فيه إلا أنّهم قاطعوه، وحضر المؤتمر من غير العراقيين شيخ الأزهر آن ذاك، وأصدروا فتاوى مفادها أنّ الأكراد بغاةٌ يجوز قتالهم، وردًّا على ذلك دعا السيّد الحكيم إلى عقد مؤتمرٍ في كربلاء، أعلن فيه فتواه التي حرّم بها قتال الإخوة الأكراد، كان ذلك أواخر 1964م، فقد زرعت هذه الفتوى حبًّا بين الأكراد والعرب لموقف المرجعية النبيل والشجاع الذي حفظ به دماء المسلمين دون النظر إلى نوعية المكوّن المذهبي، كما أصدر فتاوى تاريخيةً وسياسيةً منها حرمة الإنتماء إلى الحزب الشيوعي، وعند وصول البعثيين إلى السلطة عام 1968م كانت هنالك مواجهاتٌ مع مرجعية السيّد الحكيم، وقد تجنّب حزب البعث الاحتكاك المباشر مع المرجعية، وخاصّة أنّ المرجعية كان لها تأثيرٌ واضحٌ وقويٌّ على إرادة الجماهير، فعمد الحزب لتشويهٍ في سيناريو مملوء بالكذب والأباطيل هو اتهامه أحد أولاد المرجع الكبير السيّد الحكيم وهو السيّد الشهيد يوسف الحكيم بالجاسوسية لزعزعة الثقة بين أوساط الجماهير وعزل المرجعية عنها[58]. وأصدر السيّد محسن الحكيم فتاوى بدعم العمل المقاوم لليهود في فلسطين والدفاع عن المقدّسات الإسلامية في القدس، وموقف الإمام الخميني في هذه القضية كان مبكّرًا منذ بدايات تحرّكه السياسي في الحوزة (1963م)، وكان موقفًا مميزًا بين أقرانه المراجع والمجتهدين، وتجاوز التعاطف مع القضية ليصل إلى مساندة المجاهدين ماليًا من خلال الحقوق الشرعية.
وفي الختام: إنّ النجف الأشرف شارك بجامعته العلمية وحوزته الدينية، وبكلّ ثقله وإمكاناته الفكرية، شعوبنا العربية الإسلامية المحنَ التي مرّت بها، وسجّل في كلّ قضيةٍ مصيريةٍ لهذه الأمة، طوال العقود المنصرمة موقفًا مشرفًا أملاه عليه الواجب الأخوي، والغيرة العربية، بدايةً من القضية الفلسطينية، ومرورًا بالجزائرية، والتونسية، والمغربية، والسورية، والمصرية، وأخيرًا الكويتية. وسجّل ذلك كلّه ـ بكلّ فخرٍ واعتزاز ـ في صفحات تاريخ هذا البلد العربي العراقي جهادًا، وفكرًا.
إنّ الشيعة عندما ثاروا قبل ثورة العشرين واستمروا في ثورة العشرين وما بعدها، وطردوا المستعمر الانكليزي شرّ طردةٍ من بلاد الرافدين فاشترك الشعب مع قيادته العلمائية المتمثلة بالمرجعية الرشيدة... دفعوا ثمن ذلك العمل البطولي؛ حيث نفذ ما سنّه الإنكليز من دستورٍ طائفيّ بغيضٍ مدركين أنّ كلّ حاكمٍ يستلم زمام الحكم في العراق يسارع إلى تطبيق الدستور ليتجاهل الأغلبية السكانية في الوقت الذي يصرّح الملك فيصل الأول مؤسّس الدولة العراقية في مذكراته التي أصبحت وصيةً بعده بقوله: «إنّ الضرائب على الشيعي، والموت على الشيعي، والمناصب للسُنّي، ما الذي هو للشيعي؟»[59].
المرجعيّة العليا للشيعة في العالم، تلك المؤسّسة الدينية والعلمية المستمرة بالقرب من ضريح الامام علي(عليه السلام) منذ نحو ألف عام، والتي ارتبط حضورها بتاريخ العراق الحديث وبالتحديد منذ الحرب العالمية الأولى ارتباطًا وثيقًا حتى أنّه لا يمكن لأيّ باحثٍ في هذا التاريخ إلّا أنْ يجعلها قطب الرحى في كلّ ما عاشه العراق ودول عدة، وبالتحديد إيران، من أحداث وتطورات. والحديث عن دور النجف التاريخي وارتباط الشيعة الروحي والسياسي بها يحتاج بطبيعة الحال إلى أنْ يُفرد له فصلٌ خاصّ، ولكن لا بدّ من الإشارة ولو لِمامًا، إلى أنّ هذه المرجعية، التي أجبرت عام 1896م شاه إيران على إلغاء امتياز التنباك مع الإنكليز بعد الفتوى الشهيرة للمرجع الميرزا حسن الشيرازي، والتي أيّدت نظام (المشروطة) في إيران عام 1907م (أي اقامة ملكية دستورية)، وقادت عام 1915م الحرب ضد القوات البريطانية إلى جانب الأمبراطورية العثمانية، والتي فجّرت عام 1920م الثورة المشهودة ضد الإحتلال البريطاني، هي اليوم في واقع لا يسمح له بالاضطلاع بأدوارٍ كبرى تضاهي أدوارها التاريخية هذه. والمعلوم أنّ المراجع أنفسهم هم الذين كانوا يرسمون أدوار مرجعية النجف ويمسكون بيد واحدةٍ المرجعية الروحية والزعامة السياسية. ولعلّ آخر هذه المراجع التي توفّر لها أداء هذا الدور كان السيّد محسن الحكيم (توفي عام 1970م)، فهو منذ أنْ ثُنيت له وسادة المرجعية أواخر عقد الخمسينات، بعد وفاة المرجع الشهروردي، دخل في سجالٍ حادٍّ مع العهود التي تعاقبت على حكم العراق، وآخرها عهد حكم البعث. وقد بلغت درجة صدامه معه أنْ أفتى في أواخر أيامه بتحريم الإنتساب إلى هذا الحزب، أو التعامل معه. وقد كان هذا العداء، الذي سبقته سلسلة صداماتٍ داميةٍ سببًا في اندفاع حزب البعث العراقي لاحقًا إلى محاصرة المرجعية الشيعية والقضاء على دورها وحضورها، والذي بلغ ذروته عام 1980م بإعدام المرجع الشيعي السيّد محمد باقر الصدر وبعده مئات العلماء. وأيًّا كان الأمر، فبعد عام 1980م تركّزت فاعلية المرجع السيّد الخوئي الذي خلف السيّد الحكيم، في سدّة المرجعية على الصمود لإبقاء ما تيسّر من الحوزة العلمية، على أساس أنّه خيرٌ من زوالها.
لائحة المراجع والمصادر
المصلح الإسلامي السيد محسن الأمين-الناشر: المستشارية الثقافية الإيرانية في دمشق1992.
الأسدي، صادق غانم -المشروع السياسي والجهادي للحوزة العلمية في العراق.
الأزري، عبد الكريم- مشكلة الحكم في العراق، ط لندن 1991.
بحر العلوم، السيد محمد- النجف الأشرف والمرجعية الدينية- مجموعة بحوث ومقالات.
الجبوري،كامل سلمان - النجف الأشرف وحركة الجهاد- مؤسسة العارف للمطبوعات- بيروت- ط1-2002.
الغرباوي، ماجد- الشيخ محمد حسين النائيني (منظّر الحركة الدستورية) - مؤسسة الأعراف للنشر- ط1- 1999.
الحسني، عبد الرزاق- الثورة العراقية الكبرى- بيروت- 1978 - ط4.
الرهيمي، عبد الحليم - تاريخ الحركة الإسلامية في العراق (1900 ـ 1924)- ط1 _الدار العالمية للطباعة والنشر- بيروت، 1985.
الساعدي، كريم محمد حاتم- الغزوات الوهابية على الأضرحة المقدسة في كربلاء والنجف خلال القرن التاسع عشر الميلادي- موقع موسسة النور للثقافة و الأعلام- 29/10/2014.
السراج، عدنان ابراهيم - الإمام محسن الحكيم - دار الزهراء - بيروت 1993.
السيد شرف الدين،عبد الحسين- بغية الراغبين ـ الدارالإسلامية- بيروت ط1.
بغية الراغبين المخطوط.
الشريفي، أحمد باقر علوان- كربلاء بين الحربين العالميتين- رسالة ماجستير- معهد التاريخ العربي والتراث العلمي للدراسات العليا- بغداد2004
صاغية، حازم - صراع السلام والبترول في إيران- بيروت- دار الطليعة- ط1 -1978.
الطريحي، محمد سعيد- المرجعية الدينية وقضايا العالم الإسلامي: الغزوالإيطالي للقطر الليبي وحرب طرابلس سنة 1911
عودة، جهاد- تقدير الأزمة الاستراتيجية في العالم العربي- الناشر:المكتب العربي للمعارف.
العلوي، حسن- الشيعة والدولة القومية في العراق1914- 1990- دار الثقافة للطباعة والنشر- قم، إيران. 29.
عبد الدراجي، عبد الرزاق- جعفر ابو التمن ودوره في الحركة الوطنية في العراق- (بغداد 1978)، رسالة ماجستير مقدمة إلى جامعة بغداد
الغرباوي،ماجد- الشيخ محمد حسين النّائيني(منظّر الحركةالدستوريّة)- ط1- مؤسسةالأعراف للنشر 1999
الكركولي - دراسات في عشائر العراق- 1995.
كاظم، عباس محمد - ثورة 1920- دار التنوير- ط1 بيروت.
كوراني،محمدأمين - الجذور التاريخية للمقاومة الإسلامية في جبل عامل- دار الهادي- بيروت-ط2 ـ 2005
كاشف الغطاء النجفي، الشيخ محمد الحسين - الآيات البينات في قمع البدع والضلالات- دار المرتضى، بيروت ـ لبنان
كمال الدين، محمد علي(تقديم علي الخاقاني)- معلومات ومشاهدات من الثورة العراقية لسنة1920 - ط العراق 1971.
ل. ن كونلوف( ترجمة عبد الواحد كرم)- ثورة العشرين الوطنية التحررية في العراق -دارالحرية للطباعة ـ بغداد-1971.
الكاتب،أحمد- المرجعية الدينية الشيعية -.. آفاق وتطور- ط/2العراق2007- ص11-12.
محبوبة،جعفر- ماضي النجف وحاضرها- دارالأضواء- ط2- 1986
النفيسي،عبدالله- دور الشيعة السياسي في تطورالعراق الحديث- ترجمة دار النهار، بيروت 1973.
الوردي، علي- لمحات اجتماعية من تاريخ العراق الحديث- قم- انتشارات الشريف الرضي- 1413هـ- ط1.
موقع وكالة أنباء براثا- ثورة العشرين في العراق والمرجعية الدينية فيها.
مجلة كلية التربية الساسية للعلوم التربوية والإنسانية- العدد/22 / جامعة بابل آب/2015م ص 527.
مجلة الموسم- العدد السادس- بيروت- 1990 - ص 381- 382.
مجلة العلم النجفيه-المجلد السابع- الجزء السادس- تشرين الثاني 1911- ص249.
ثورة العشرين (عباس محمد كاظم):سلسلة نحو حضارة إسلامية- عدد18/1984
مجلة الهدى الشهرية،11/9/2014. -30-
[1]. متخصص في التاريخ الإسلامي / لبنان.
[2]. النفيسي، عبدالله. دور الشيعة السياسي في تطورالعراق الحديث. ترجمة دار النهار. بيروت 1973. الكتاب هو رسالة دكتوراه مقدمة إلى جامعة كمبردج 1972.( الصفحات الأولى من الكتاب ـ بتصرّف-).
[3]. الساعدي، كريم محمد حاتم- الغزوات الوهابية على الأضرحة المقدسة في كربلاء والنجف خلال القرن التاسع عشر الميلادي . موقع موسسة النور للثقافة و الأعلام. 29/10/2014.
[4]. الكركولي . دراسات في عشائر العراق. 1995.
[5]. كاظم، عباس محمد . ثورة العشرين: سلسلة نحو حضارة إسلامية ـ عدد 18/ 1984 ص: 120.
[6]. ماجد الغرباوي، الشيخ محمد حسين النائيني (منظّر الحركة الدستورية) ، ص: 63.
[7]. صاغية، حازم . صراع السلام والبترول في إيران، ص: 85-86.
[8]. الرهيمي، عبد الحليم . تاريخ الحركة الإسلامية في العراق ـ ص: 128 عن علي البازركان . الوقائع الحقيقية في الثورة العراقية.
[9]. محبوبة، جعفر. ماضي النجف وحاضرها ،ج1، ص: 326.
[10]. (العدد/22 مجلة كلية التربية الساسية للعلوم التربوية واإلنسانية / جامعة بابل آب/2015م، ص: 527 (محمد سعيد الطريحي، المرجعية الدينية وقضايا العالم الإسلامي: الغزو الإيطالي للقطر الليبي وحرب طرابلس سنة 1911 . مجلة الموسم. العدد السادس. بيروت. 1990 ـ ص: 381 . 382؛ مجلة العلم النجفيه. المجلد السابع. الجزء السادس. تشرين الثاني 1911. ص: 249.
[11]. عودة، جهاد. تقدير الأزمة الاستراتيجية في العالم العربي، ص: 147.
[12]. م. ن. ص: 148.
[13]. الشيخ محمد حسين النّائيني (منظّر الحركة الدستوريّة). م. ن. ص: 47.
[14]. الوردي، علي . لمحات اجتماعية من تاريخ العراق الحديث ، ج4 . ص: 57 ـ 59.
[15]. الشيخ محمد حسين النّائيني (منظّر الحركةالدستوريّة)، م. ن، ص: 65.
[16]. الرهيمي، عبد الحليم . تاريخ الحركة الإسلامية في العراق (1900 ـ 1924)، ص: 163.
[17]. م. ن. ص: 164.
[18]. لمحات من تاريخ العراق. م. ن-ج4. ص: 147-148.
[19]. الجبوري، كامل سلمان . النجف الأشرف وحركة الجهاد، ص 8.
[20]. الشريفي، أحمد باقر علوان. كربلاء بين الحربين العالميتين، ص 48.
[21]. لمحات اجتماعية من تاريخ العراق الحديث . م. ن. ج4. ص128-131.
[22]. عبد الدراجي، عبد الرزاق. جعفر ابو التمن ودوره في الحركة الوطنية في العراق. (بغداد 1978)، رسالة ماجستير مقدمة إلى جامعة بغداد. ص40ـ42.
[23]. م. ن. ص 41.
[24]. تاريخ الحركة الإسلامية في العراق (1900 ـ 1924). م. ن. ص 167.
[25]. الحسني، عبد الرزاق. الثورة العراقية الكبرى، ص 55.
[26]. دور الشيعة السياسي في تطوّر العراق الحديث ـ م. ن. ص 63 ـ 130.
[27]. ثورة 1920. م. ن، ص49.
[28]. شرف الدين، السيد عبد الحسين . بغية الراغبين المخطوط. ص62.
[29]. من مخطوطات السيد شرف الدين، ص5 (نسخها ونقلها ولده المرحوم السيد جعفر شرف الدين).
[30]. كوراني، محمد أمين(صاحب البحث)-الجذور التاريخية للمقاومة الإسلامية في جبل عامل، ص148.
[31]. المصلح الإسلامي السيد محسن الأمين، ص167
[32]. م. ن. ص170.
[33]. كاشف الغطاء النجفي، الشيخ محمد الحسين . الآيات البينات في قمع البدع والضلالات، ص 10 . 11.
[34]. ثورة 1920 . م. ن . ص161.
[35]. العلوي، حسن. الشيعة والدولة القومية في العراق 1914 1990،ص97.
[36]. ثورة 1920 . م. ن. ص190.
[37]. كمال الدين، محمد علي (تقديم علي الخاقاني). معلومات ومشاهدات من الثورة العراقية لسنة 1920م، ص 100.
[38]. م. ن. ص 284.
[39]. م. ن. ص 287.
[40]. م. ن. ص 299.
[41]. الرهيمي، عبد الرحيم. تاريخ الحركة الإسلامية في العراق، ص 165.
[42]. م. ن ص 165.
[43]. م. ن . ص 40.
[44]. ل. ن كونلوف ( ترجمة عبد الواحد كرم). ثورة العشرين الوطنية التحررية في العراق ، ص 267.
[45]. بحر العلوم، السيد محمد. النجف الأشرف والمرجعية الدينية. مجموعة بحوث ومقالات، ص90.
[46]. ثورة العشرين الوطنية التحررية في العراق. مصد رسابق. ص 270.
[47]. م. ن ص 270.
[48]. الشيعة والدولة القومية في العراق1914. 1990. م. ن ص189-190.
[49]. م. ن. ص 203.
[50]. موقع وكالة أنباء براثا. ثورة العشرين في العراق والمرجعية الدينية فيها.
[51]. السراج، عدنان ابراهيم . الإمام محسن الحكيم، ص203.
[52]. السيد شرف الدين . بغية الراغبين، ص461.
[53]. م. ن. ص461.
[54]. السيد شرف الدين. مخطوطة بخط ولده السيد جعفر شرف الدين. ص31.
[55]. بغية الراغبين. م. ن، ص322.
[56]. الشيعة والدولة القومية في العراق1914. 1990. م. ن . ص: 219.
[57]. مجلة الهدى الشهرية،11/9/2014.
[58]. الأسدي، صادق غانم -المشروع السياسي والجهادي للحوزة العلمية في العراق. ص3.
[59]. الأزري، عبد الكريم. مشكلة الحكم في العراق، ص 4.