الملخّص
دارتْ مادّة هذا البحث حول السؤال المركزيّ التالي وهو يدرس الصورة النمطيّة: ما هي الأسباب التي ساهمتْ في إرباك الأحكام التي صاغها الاستشراقُ حول «الشرق/الإسلام» وهيّأتْ لميلاد وضع ثقافيّ جديد متحرّر مِن أثقال «الصورة النمطيّة»؟. وفَرض هذا السؤال مقاربةً سياقيّة-تاريخيّة توجّهتْ أساسًا إلى النظر فيما بين لحظة اكتمال الصورة ولحظة تفكّكها. وقادنا ذلك إلى جملة مِن النتائج الكبرى منها: أنَّ الصورة لم تكنْ إلّا مُنتَجًا مِن منتجات الثقافة الأوروبّية، وأنَّ الانفلات منها لا يكونُ إلاّ بانقضاء الزمن الذي نشأتْ داخَله. وبدا لنا أنَّ الزمن الأمريكيّ بفلسفته الواقعيّة وقاعدته البراغماتيّة، الناهضَ على بقايا الزمن الأوروبّيّ، استطاع أنْ يَبنِيَ «الآخَر» في ضوء ما تحدّده «المنفعة» الآنَ وهنا. فاشتغل على تشكيل الواقع بدل تشكيل الصورة. ولكنّنا ألححنا على أنّ تحرير «الشرق» مِن «شرقيّته الاستشراقيّة»، لم يُنْهِ تمامًا تراث الصورة لأسباب متعدّدة. وقدّرنا أنّ «الغيريّة» الإيجابيّة تحتاج إلى جهود كبرى حتّى تتشكّل مساحاتٌ ملائمة للتلاقي والتفاهم بين الثقافات والأمم.
الكلمات المفاتيح: استشراق، صورة نمطيّة، شرق، إسلام، تمثيل، أمريكا، خبير، تابع.
مدخل- في التصوّر والمقاربة
نشير بدايةً إلى أنَّ الغرضَ مِن إنجاز هذا البحث ليس الصورةَ في ذاتها. ولذلك، لن يقع التركيز عليها مِن جهة النشأة والتركيب، ولن نخوض في آثارها القيميّة أو الأخلاقيّة، فهذا ممّا دارتْ عليه دراسات كثيرة. ولعلّ النتائج التي أفضتْ إليها وقد تراكمتْ، أوفتْ بالغَرَض. وقد يكون مِن باب التزيّد ادّعاءُ الإضافة إليها إضافة نوعيّة. ونُشيرُ أيضًا إلى أنَّ الاستشراق سيكون جزءًا أصيلًا مِن مادّة هذا البحث؛ نظرًا إلى أنَّ السياقيْن الثقافيّ والتاريخيّ اللّذيْن تشكّلتْ داخلَهما العلاقة بين «الغرب» و«الشرق»، هما الفضاء الذي نَمَتْ فيه مكوّنات الصورة واكتملَ تركيبها وتجلّتْ دلالاتها. ولكنّ الاستشراق في كلّيّته ليس أيضًا مَطْلبًا مباشرًا.
ويجدر التنبيه في هذا الصدد إلى أنَّ التفريق بين ما يمكن تسميتُه بالاستشراق العالِم أو الاستشراق القطاعيَّ، وما يُمْكِن تسميتُه بالاستشراق الثقافيّ الأفقيّ أو العموميّ، مهمّ منهجيًّا ومعرفيًّا. فإذا كان الأوّل قدّم خدماتٍ جليلةً مِن حيث اكتشاف النصوص وتحقيقها ونشرها وتأليف المعاجم والموسوعات وبناء أفق علميّ، فإنّ الثاني الذي نَشَط في مجالِ اقتناص مَشاهدَ أو أخبار تَنتَسبُ إلى عالَم الغريب والعجيب والمدهش والمختلف، ساهم مساهمة كبرى في إنتاج «الشرق المتخيّل» (L’Orient imaginaire). والصورة أسٌّ مَكين فيه. وهذا المجال/ الاستشراق الثقافيّ هو ما سَتُصْرَفُ إليه العنايةُ في بعض مواقع هذه الدراسة.
وأمّا المطلَبُ الذي ترغَبُ هذا الورقة البحثيّة في تحصيله، فيُمْكِن تَحَسُّسُه مبدئيًّا مِن العنوان التفصيليّ: «التشكُّل والأثَر والتصدّع». إنّه يتركّز على المساحة الفاصلة بين لحظتيْن ثقافيّتيْن، تنتمي الأولى إلى الثقافة الأوروبيّة التي ساهم الاستشراق في بناء عقْلها الجمعيّ على نحو هُوَوِيّ (identitaire) في إطار نزعة التمركز على الذات (eurocentrisme)، وتنتمي الثانية إلى الثقافة الأمريكيّة التي كان للخبير (expert) ومراكز البحث (Think Tanks) مساهمات أساسيّة في نحت إستراتيجيّاتها واختياراتها الكبرى، وهي تَخرج إلى العالَم مع خروج أمريكا إليه بعد الحرب العالميّة الثانية قوّةً كبرى تقترحُ/ تفرض نفسها بديلًا عن أوروبّا المنهارة، وتسعى إلى ملء الفراغ أو تدبير الفوضى أو إعادة صياغة العلاقات الدوليّة.
مدار هذه البحث إذاً، هو ما بين لحظة اكتمال الصورة وانغلاقها، ولحظة تَصَدُّع مشروعيّتها وانتهاء مبرّرات استمرارها. وقد يكون التعبير عنه بالسؤال الذي سيرافق مسارَ البحث مساعدًا على تبيّن حدود هذه المقاربة: ما هيَ السياقات والعوامل والأدوات التي أَذِنَ فيها زمنُ «الشرق المتخيّل» بالتوقّف عن أداء الأدوار التي كان ينهض بها، وما هي إمكانات الزمن الجديد لإعادة تشكيل «الشرق» واختراق تراث الصورة؟
هذا يعني أنّنا إزاءَ زمنيْن صِيغَ فيهما للإسلام وضعان مختلفان: وضْعُ صورةٍ، ووضعُ واقعٍ. فارَقَ الإسلامُ عَبْرَ صناعة الصورةِ (La fabrication de l’image) حضورَه المادّيّ والتاريخيّ والروحيّ في تنوّعه وتعقّده وغناه وفقره، وحُكِمَ عليه بأنْ يكون واحدًا وثابتًا عبر عمليّات ترحيل استعاريّ استغرقتْ قرونًا، انسحبَ بها مِن الأرض واستقرّ متخيّلًا في الذهن. وهذا الاستغراق في الزمان تثبيتًا للصورة وإدامةً لسلطتِها، هو الذي جعلَها صورةً نمطيّة (stéréotype)، وعاد إلى الأرض عبْرَ إعادة بناء الواقع، فتحدّد في الزمان وتَعَيّنَ مجالًا جغرافيًّا وسكّانيًّا وثقافيًّا متعدّدًا ومتنوّعًا.
سنعتبِرُ الاستشراق في ضوء الإلماعات السريعة السابقة، بقطع النظر عن الاتّجاهات التي توزّع بمقتضاها على مدارس ومذاهبَ، أقربَ إلى الوحدة منه إلى التعدّد. وسينتج عن هذا الاعتبار نزوعُنا إلى الاشتغال به مِن جهة كونه رؤيةً للثقافة التي نشأ في أحضانها، وللآخر الذي اكتشفه وقدّمه إلى تلك الثقافة. وهو، على هذا الأساس، أوسع مِن «النوادي» الأكاديميّة المتخصّصة. وتأثيرُه يتجاوز الدراسات العلميّة القطاعيّة كالتحقيق والنشر إلى الثقافة إلى العقل الجمعيّ الذي نرجّحُ أنّه استطاع بنجاح كبير أنْ يبنيه أوّلًا، وإلى الآخر الذي نجح أيضًا في تشكيله على النحو الذي ظهر عليه.
- ويحسنُ التنبيه كذلك إلى أنَّ الاستشراق الذي شكّل صورةً للإسلام/ الشرق، هو ذاك الذي يُعْرَفُ بالاستشراق الكلاسيكيّ. وهو بإيجاز ذاك الذي توسّط طور البدايات والمغامرات الفرديّة مِن ناحية، وطور الاستشراق المعاصر الذي حاول أنْ يخرج مِن أسْر المعرفة السابقة له مِن ناحية ثانية.
وأمّا «الصورة النمطيّة»، فتعريفاتها متعدّدة، لكنّ الجامع بينها كما تذكره المعاجم، ثلاثة معانٍ: البناء المسبق (préconstruit) والتكرار (répétition) والثبات (fixité). وأمّا وظيفتها، فتقديمُ الشخصيّة/ الجماعة المدروسة في وضع جوهرانيّ (essentialiste) لا تقبل التبدّل ولا تُقْدِم عليه، وإنْ حاولتْ فشلت؛ لأنّ الأصل ثابت. ويَغْلُبُ على هذه الجوهرانيّة المعنى السلبيّ أو التحقيريّ (sens péjoratif)[2]. وعادةً ما يتصّل بها استتباعًا حُكمٌ وموقفٌ: الحكم المسبق (préjugé) والتمييز (discrimination)[3].
وينبغي الإلحاح في نهاية هذا التقديم على أمر مهمّ: ليس في وارد هذه الدراسة أنْ تسلك سبيل إدانة «مَعَامِل» تصنيع الصورة وتركيبها، أو الإشادة بمَن يحمل مشروعًا لتفتيتها. إنّ غاية ما تقصد إليه هو تفسير سياقات البناء والتفكيك واستحضار الضرورات الثقافيّة والسياسيّة والاقتصاديّة التي ساهمتْ في هذه العمليّة أو تلك. ولنْ يكون استعراضُ وجود «الشرق» في الثقافة الأفقيّة الأوروبّيّة وجودًا هُوَويًّا جوهرانيًّا باعثًا على الشفقة الأخلاقيّة على هذا «الشرق»، فنحن نعلَم أنّ إعادة إنتاج الصورة لم تكن فقط في العقل الجمعيّ الغربيّ الذي ينهل دون حرج أو قلق مِن تراث الاستشراق، ولكنّ «الشرق» نفسه يُعيد باستمرار إنتاج صورتِه التي قُدَّتْ له. هكذا قال بهاء أبو كرّوم، ولا نحسبه مبالغًا: «إنَّ الصفات التي أُعطِيَتْ للشرق، بقي الشرق ينتجها رغم أنّه لم يعترف بصحّتها، وبذلك كان يقترب مِن أنْ يصبح أسير الصورة المعطاة عنه، أو أسير إطارها المعرفيّ المحدّد»[4].
في استثمار التراث الاستشراقيّ وسلطة الصورة
«ما الذي نفكّر فيه في فرنسا خاصّةً، وفي أوروبّا عامّةً، حين يتعلّق الأمر بالسؤال عن العرب والمسلمين والإسلام؟ هل نفكّر في الصحراء والجِمال والبدو؟ أم في بذخ الخلفاء والسلاطين والباشوات..؟ أم في أحياء مئات المدن التي تفيض أسواقها بالسلع العجيبة والبُسُط الغريبة؟ لا. إنّنا نفكّر أيضًا -وههنا تَحضُر الصور الأكثر رعبًا والأكثر قسوة- في يد السارق المقطوعة، وفي رجم الزانية، أو أيضًا في المتعصّب، وفي الملتحِي المتطرّف، وفي الدمويّ، وفي مَن ذبح الفرنسيّين في الجزائر، أو في المُهاجر البائس، أو في الأطفال الغارقين في عالَم المخدّرات»[5].
هذا المعطى جزءٌ مِن مقدّمةِ درسٍ أُلقيَ على طلبة الإجازة الفرنسيّة في شعبة اللّغة الأجنبيّة في إحدى المؤسّسات الجامعيّة الفرنسيّة سنة (1999-2000)، محورُه: «أحكام مُسْبَقَة وصور نمطيّة». وإذْ نتّخذه مَدْخَلًا عمَليًّا إلى مقاربة مسألة الإسلام[6] في مرآة الغرب، فلسببيْن: أمّا الأوّل، فهذا المقطَع يَنْسابُ فيه الزمان العربيّ والإسلاميّ القديم والوسيط والحديث والمعاصر. وهو لذلك استوعَبَ على إيجازه «كُلَّ» الآخَر كما يتمثّله. وأمّا الثاني، فهذه مادّة «أكاديميّة» تُصاغ مِن خلالها معرفةٌ يُفْتَرَضُ أنّها علميّة، ويُبْنَى في ضوئها موقف ثقافيّ/ حضاريّ مِن الآخَر، وليستْ رأيًا عابرًا أو خطابًا إيديولوجيًّا يمْكن أنْ يكون معزولًا أو أقلّيًّا. وهو بذلك يتحرّك داخل المخزون المشتَرَك والحيّ في العقل الجمعيّ الأوروبّيّ إزاء عالَم الإسلام الذي تكوّنَ بالتراكم والتقادم. والانطلاق منه يساعد على بلورة معالَم الصورة وآثارها في صياغة هُويّة الآخَر.
سلطة الصورة: تأملاّت في تَرِكَة الاستشراق
الغالبُ على الظنّ أنّ تَرِكَةَ الاستشراق ثقيلةٌ وكثيفة. والميلُ إلى أنَّ الاستشراق انسدّتْ أمامه الآفاق، بعد مسيرة استغرقت زمنًا طويلًا، لجملة مِن الأسبابِ، لا يؤدّي حتمًا إلى القول إنَّ المخيّلة التي صنعَها نَفَدَ رصيدُها. فدلائل كثيرة تُفيد بأنّ فِعْلَها ظلّ قويًّا في بناء الأحكام والمصادَرَات. ونقترح بعض الوقائع والنصوص للوقوف على أثَرٍ تطبيقيّ مِن ذلك.
يروي أبو بكر أحمد باقادر تجربة خاضها لمّا كان طالبًا في الدراسات العليا بقسم العلوم الاجتماعيّة في جامعة أمريكيّة. ومُلَخّصُها أنّ مَدرسة عرضتْ عليه أنْ يلتقيَ تلاميذ فصل مِن فصولها وهم بصدد درس حول العرب والمسلمين. راقته المبادرة. وكان اللقاء. تحدّث إلى التلاميذ، فلقيَ منهم الرضا والاستحسان. وزَيَّنَتْ له نفسه أنْ يعلّمهم بعض الكلمات في الآداب العربيّة والإسلاميّة، مثل: «السلام عليكم»، «كيف حالكم؟». وظنّ أنَّ المراد تحقّق، وقدْ تقبّلوا منه كلّ ما قاله بسرعة وإعجاب. وأحبّ أنْ يطمئنّ إلى أنَّ الحصّة كانتْ ناجحة، وأنَّ لقاء الأنا والآخَر في سياق إيجابيّ يستطيع أنْ يزيحَ مَفاسِدَ الأحكام المسبقة ويفتّتَ معمارَ الصورة المتخَيَّلَةَ. قال: «قبل أنْ أنصرف طلبتُ أنْ يرسموا صورة عربيّ. وبعد أنِ انتهوا مِن رسمهم، جمعتُ الصور. ولدهشتي.. كانت الصور التي رسمها الصغار عبارة عن صورة بدويّ يلبس مرقّعات وخلفه مجموعة مِن الخيام وصحراء قاحلة»[7]. فأين إذاً وقْعُ ما تحدّث إليهم فيهم؟ وكيف تبدّد وهو مازال بينهم، ومازال صدى ما قال يتردّد بين جنبات قاعة الدرس؟ وتساءل في مرارة: «سألت نفسي عندئذ. أفلم يكن مِن المتوقّع أنْ يرسموا صورة لي، أو على الأقلّ أنْ يكونوا قد تأثّروا بالصور والمعلومات التي ذكرتها؟»[8].
وحتّى البترول الذي تربض فوقه الجغرافيا العربيّة والإسلاميّة ويضبط إيقاع العالَم الاقتصاديّ وتُبنَى على أساسه العلاقات الدوليّة، لا علاَمَة تدلّ على أنَّ سلطانَه كان أقوى مِن سلطة الصورة. ظلّ الراعي راعيًا وإنْ غاص في أموال البترول. وظلّ الغربيّ غربيًّا وإنْ أُغرِيَ بالمال الوفير. ها هما يلتقيان فإذا هما يتباعدان. قد تذهب الخيمة إلى غير رجعة. وقد يرتفع مكانها شاهقًا أرقى أنواع المعمار بسبب مضخّة البترول. وقد تتغيّر أشياء كثيرة. وأمّا ما لا يتغيّر، فذاك الذي رسمه الاستشراق ودوّنه. نقصد، مرّة أخرى، الطبيعة والجوهر والأصل.
إنَّ الصورة النمطيّة التي تضافرت لتركيبها حتّى اكتملت عواملُ متعدّدة، هي إذاً المصدرُ الرئيسُ لمَن يتطلّع إلى معرفة الشرق/ الإسلام. ولا شكّ في أنَّ رصد نتائج الدراسات اللاّحقة التي أُجريت ميدانيًّا في حقول متعدّدة؛ كالإعلام[9] والمدرسة[10] والأدب[11]، يُفضي إلى ملاحظة مهمّة، وهي أنَّ كلّ هذه الحقول لم تنفلت مرجعيًّا مِن سلطة تراث الاستشراق[12]. إنّها، مجتمعةً، تقدّم ملامحَ واحدة للشرقيّ، وهي مَلامحُ تَنْقُل إلى المتلقّي باستمرار مشهدًا جغرافيًّا جديبًا، ومجتمعًا بدويًّا متخلّفًا نزّاعًا إلى العنف والجنس والخمول. وليس عجيبًا حينئذ أنْ يَستدعيَ بعضُ الدارسين النظريّة السلوكيّة المعروفة بـ«نظريّة الإشراط الكلاسيكيّ» (conditionnement classique) القائمة على عنصريْ المثير والاستجابة لبيان حدّة التلازم العِلِّيّ أو الشرطيّ بين عبارة الشرق/ الإسلام/ العرب، والصورة التي تَحْضُر مباشرة في الذهن: «بإمكاننا أنْ نلاحظ أنَّ الصورة السلبيّة المتكرّرة للعرب والإسلام، سواء على المستوى الأكاديميّ الراقي أو مع المستوى الجماهيريّ أو حتّى المقرّرات الدراسيّة وقصص الأطفال، جميع هذه الكتابات تؤدّي إلى رسم معالم قالب جامد أو فكرة نمطيّة ثابتة عن العرب، بل ربّما تولّد شعور (بافلوف)... بحيث تبرز في ذهن المتلقّي صورة بشعة معيّنة حالما يُسمع أو يُشاهَد عربيّ»[13].
وقد ساعد على رسم هذه الصورة عواملُ كثيرة، منها الرحّالة الذين قصدوا الشرق. والشرق عندهم، قبل أنْ يتوغّلوا فيه، أرض العجيب والمدهش والخارق واللاّمحدود. فكان الباعث على الهجرة إليه إذاً، هو الرغبة في التعرّف على اللاّغرب؛ أي على المختلف. فإذا كان الغرب موطن العلم والعقلانيّة والتقدّم والإبداع والحريّة، فاللاّغرب هو نقيضه النوعيّ[14]. ومِن الرحّالة نذكر بعض الشعراء والأدباء، مثل نرفال[15] (Nerval) وشاتوبريّان[16] (Chateaubriand) وفلوبير[17] (Flaubert)وهيجو[18] (Hugo). والناظر في كتاباتهم التي وَثّقَت تجاربهم، يقف على مُشْتَرَك بينهم، وهو أنَّ ما التقطتْه عيون هؤلاء، كان على حدّ عبارة سالم حمّيش، «مفعمًا بالتلذّذيّة والسلوك العجائبيّ»[19].
ما نودّ تأكيده في هذا المستوى هو أنَّ الشرق الذي سكن المتخيّل الأوروبيّ، لم يكن إلاّ ذاك الفضاء الفسيح الذي تبارى في نسج خيوطه الأدباء والشعراء والمغامرون، أو تداعى إليه دارسون مسكونون بإنّيّة حضاريّة مغلقة. ولا شكّ في أنَّ عمليّات التصوير والتشكيل قد استغرقت زمناً طويلًا حتّى تجمّعت أقاصي الشرق وأدانيه، فتوحّد واستقام في الخطاب والوعي صورةً نمطيّة: «أربعة قرون والأوروبيّ يرسم الآخر على هواه وبكلّ الألوان التي يختارها»[20]. وبذلك، نجح الاستشراق في اقتلاع «شرقه» مِن التاريخ، فانتفت عنه قوانين التحوّل والتطوّر، وتَمَّ إفقاره، وابتُدعِتْ له صور تلبّي حاجة الغرب وتجيب عن أسئلته وهواجسه ومطالبه[21].
وهكذا، انبنت الذاكرة الجماعيّة الأوروبّيّة على مخزون هائل مِن المعطيات والمعلومات والأخبار والصور التي كانت مُوَجَّهَةً، على معنى «الإشراط الكلاسيكيّ»، نحو اتّجاه واحد، وهو رفض الآخر واحتقاره: «إنَّ أوروبّا القرنيْن التاسع عشر والعشرين صنعتْ أسوأ سلسلة مِن الصور التي لم تُرسَم للشرق مِن قَبْلُ»[22].
وما يمكن الانتهاء ممّا تقدّمَ، هو أنّ التعرّف على «الشرق» لم يَقُدْ إلى تجسير الفجوات بينه وبين الغرب، ولم يساعد على خَلْق مساحاتِ التقاءٍ تعكس الرغبة في فهم الآخَر فهْمًا يُزيل الغموض والريبة. كان سببًا في مزيد الوعي بالأنا المغايرة والمختلفة، وفي تعميق دونيّة الآخَر. وقد عبّر مالك بن نبيّ تعبيرًا حسَنًا عن هذا السلوك، فقال: «الغربيّ لا يَحمل فضائلَه خارج عالَمه هو، فخارجَ حدوده الأوروبيّة لا يكون إنسانًا بل أوروبّيًّا. وهو لا يرى بعد ذلك أناسًا، بل مستَعْمَرِين. فهو يتحرّك ببرجه العاجيّ كما يتحرّك الرحّالة بخيمته، وهو حيثما ذهب -سواء كان صانعًا أو مخبرًا صحفيًّا أو مجرّد سائح في بلد متخلّف- ينشئ -عن قصد أو عن غير قصد- ما يسمّى حالة استعماريّة (situation coloniale)»[23]. وأخيرًا، فسواء أكان دخول الاستشراق في «الشرق» مِن أجل المتعة وقنص الغريب والمدهش أم كان مِن أجل السيطرة وبسط النفوذ، فقد كانت النتيجة واحدة: صناعة الصورة النمطيّة.
في عوامل تفكيك الصورة: بحث في السياقات والمآلات
يهدف هذا القسم مِن البحث إلى تَتَبُّعِ العلامات الدالّة على أنّ زمن الاستشراق الكلاسيكيّ الذي يتحمّل العبء الأثقل في صناعة الصور النمطيّة، لم يَعُدْ قادرًا على تأمين الحاجات التي كان يوفّرها للثقافة التي نشأ داخلها؛ نظرًا إلى أنَّ وقائعَ جَدّتْ في العالَم وشرعتْ في تغيير بعض الأحكام والمصادرات والسياقات التي سُجنتْ بمقتضاها كثيرٌ في الثقافات داخل أسْيِجَةِ السلبيّة والعجز والثبات. ونقترحُ تناولَها في مستوَيَيْن: مستوى التحوّلات الخارجيّة، ومستوى التحوّلات الداخليّة. ولا ريبَ في أنّها كثيرة، ولذلك ارتأيْنا أنْ ننتخِبَ منها ما نظنّ أنّه كان أكثر تأثيرًا مِن غيره في زحزحة «ثقافة الصورة» لصالح «ثقافة الواقع».
المستوى الأوّل: التحوّلات الخارجيّة
أ. لحظة مؤتمر باندونغ
انعقد هذا المؤتمر سنة 1955. وواكبت أشغالَه إليه تمثيليّاتٌ معتَبَرة لعدد مِن الدول[24]. وكان مجرّد انعقاده إيحاءً بأنّ «الشرق» وسائر اللّاغرب يُمْكن أنْ يُعلن عن وجوده كيانًا فاعلًا وصاحبَ رأي وقرار. وينبغي لفتُ النظر هنا إلى أمر مهمّ، وهو أنّ هذا المؤتمر انعقد في سياق تاريخيّ وسياسيّ جديد. فقد نجحت كثير مِن حركات التحرّر الوطنيّ في افتكاك استقلال أوطانها مِن قبضة الاستعمار وإرباك اطمئنان المركزيّة الأوروبيّة إلى سياساتها التقليديّة وتقليص مجالات هيمنتها، وأظهرتْ أنَّ «الشرق» ليس واحدًا، وأنَّ سلبيّتَه ليستْ طبيعيّة أو جوهرانيّةً. إنَّه متعدّد في جغرافيّته وشعوبه وثقافاته وأحلامه وإرادته. وبدأ الشرق التاريخيّ/ الأرضيّ يزحف على المساحات التي بسطها الاستشراق للشرق المتخيّل ويُطيحُ، في حدود الممكن، بالصورة، ويقهَرُ «أقانيم» المستشرق، ويتمرّد على قَدَرٍ سُطِّرَ له تسطيرًا. والناظر في المبادئ العَشْرَة التي صاغها هذا المؤتمر، يقف على عزم الدول الأفريقيّة والآسيويّة الممثَّلَة فيه على أنْ يكون لها موقع في الأرض لا يختلف عن المواقع التي اتّخذَتْها لنفسها شعوب وأمم أخرى.
وقد لخّص إدوارد سعيد، بهذه المناسبة، التحوّلاتِ التي وضعت الاستشراق أمام مصيره كما يلي: «ومع انعقاد مؤتمر باندونغ... كان الشرق بأكمله قد حصل على استقلاله السياسيّ عن الإمبراطوريّات الغربيّة، وبدأ يجابه تجسيدًا آخر للقوى الإمبرياليّة متمثّلًا في الولايات المتّحدة الأمريكيّة والاتّحاد السوفياتيّ. ووجد الاستشراق نفسه الآن عاجزًا عن تميّز «شرقه» في العالم الثالث الجديد، ويواجه شرقًا جديدًا ومسلّحًا سياسيًّا»[25].
يُمْكِنُ القولُ إنَّ النضال والتحرير والاستقلال كانت مقدّماتٍ ضروريّةً لإجبار الاستشراقُ الكلاسيكيّ على مراجعة بعض أطروحاتِه التي سلبَ بها الشرقَ وجوده الفعليّ وأحاله إلى مجرّد خزّان لتمثّلاته. فها هي الشعوب التي قُدّر لها في ظلّ المعرفة الاستشراقيّة أنْ تكون محكومة وخانعة ومستسلمة وعاجزة في أصل تَكوّنها الأوّل عن الحراك الإيجابيّ سياسيًّا وثقافيًّا، تتحدّى سلبيّتها وفاعليّة غيرها. إنّها ليستْ، كما رآها إرنست رينان، مجرّدَ «تخطيط بقلم رصاص» غير قابل للاكتمال. ولا ريبَ في أنّ بناء الدول الوطنيّة مَثّلَ المنجَزَ الميدانيّ والتاريخيّ الدالّ على أنّ «آخَرَ» الغرب بدأ يصنع هو أيضًا تاريخه ومعقوليّةَ وجوده.
ولم يَمْض مِن الوقت على تاريخ انعقاد مؤتمر باندونغ أكثرُ مِن ستّ سنوات حتّى شهد العالَمُ ميلاد «حركة دول عدم الانحياز» (1961). وإذا أضفْنا تسمية أخرى، وهي «العالم الثالث» التي تمّ إطلاقها أوّل مرّة عام 1952 في إطار تصنيف غير تقليدي لتقسيم العالَم، تأكّد ما كنّا بصدد بيانه، وهو أنّ الأحكام الكلّيّة والتجميعيّة والاختزاليّة في طريقها إلى الانهيار. وسواء أكانت التسمية «حركة عدم الانحياز» أم «العالم الثالث»، فهي في كلّ الأحوال تسمية ذات دلالة مهمّة. إنّها تُعلِنُ عن الاختفاء العمَليّ والقانونيّ للتسمية الرائجة «الشرق». والراجح أنّ في اختفائها انتصارًا للتاريخ على اللّاتاريخ، وللمتعدّد على المطلق، وللمتغيّر على الجوهر.
ب. مِن أنور عبد الملك مدشّنًا مشروع تفكيك الصورة إلى إدوارد سعيد مفكّكًا بنية الاستشراق
تُعتبر دراسة أنور عبد الملك «الاستشراق في أزمة»[26] (L’orientalisme en crise) فاتحة زمن نقديّ مفصليّ في تاريخ الاستشراق. كانتْ زمنيًّا أسبق مِن قراءة إدوارد سعيد المُبهِرَة والأكثر شهرة «الاستشراق» بخمس عشرة سنة[27]. وقد نبّه فيها إلى المآزق التي يحياها الاستشراق. والأهمّ مِن ذلك، أنّه دقّق في المآزق الفكريّة والأخلاقيّة التي نتجت عن أطروحاته، ودعا في ضوء النتائج التي خلُصَ إليها إلى ضرورة البحث عن أفق جديد للتعامل مع الآخر.
استطاعت هذه الدراسة وما جاء في سياقها أن تَنْفذ إلى الطبقات التحتيّة للخطاب الاستشراقيّ، وأنْ تتعامل معه باعتباره بنية مغلقة لها منطقها الخاصّ وقوانينها الذاتيّة التي تتحكّم فيها. وربطتْ ربطًا موضوعيًّا بين المعرفة والاستعمار. وتوقّف أنور عبد الملك عند النقاط التي بدتْ له سببًا في بناء الآخَر بناءً هُوويًّا.
وتأتي أطروحة إدوارد سعيد «الاستشراق» (1978) لتذهبَ بالمقدّمات النقديّة التي وضعها أنور عبد الملك إلى آفاقها القصيّة. لقد تمكّن، وهو يشتغل على مادّة «ثقافيّة» غزيرة، مِن إعادة تركيب مكوّنات الخطاب الاستشراقيّ وتبيُّن الخلفيّة الحضاريّة التي يصدر عنها. وأقام ما يشبه المحاكمة الأكاديميّة للاستشراق.
لقد أحاطتْ أطروحة إدوارد سعيد ببنية الاستشراق الكلاسيكيّ، وتوسّعتْ في فهْم الصلات التي تربط هذا الاستشراق بقطاعات أخرى، وعَمَدتْ إلى التعامل معه باعتباره معرفةً لها تاريخ وسياق. وما كان لهذه المعرفة إلاّ أنْ تكون كما كانتْ. فالسياق المعرفيّ والتاريخيّ الأوروبّيّ كان يغذّيها ويمدّها بزوايا النظر التي تُمَارَسُ مِن خلالها قراءة «الشرق». لذلك، أدرج إدوارد سعيد الاستشراق في باب اتّصال الأمم بعضها ببعض في ضوء ما وُضع له مِن مقدّمات وترتيبات. وهو، في العموم، تجربةٌ محكومة، لا فقط بمعايير التقدّم الأوروبيّ، بل كذلك بتضخّم الإحساس بالانتماء إلى حضارة شديدة التمركز حول نفسها وحول إيمانها بصدقيّة أحكامها. ومِن النتائج الكبرى التي انتهى إليها، النظرُ إلى الصورة النمطيّة مِن جهة كونها جزءًا أصيلًا مِن مُخرَجات ذاك السياق المعرفيّ والتاريخيّ الذي نشأ داخلهُ الاستشراق. وبناء على ذلك، لا يمْكنُ الإطاحة بالصورة إلاّ عبر تفكيك الثقافة التي تحتضنها وتدافع عنها.
ثانيًا- التحوّلات الداخليّة: مئويّة الاستشراق: احتفال أم نعي؟
- عَقَدَ القائمون على الاستشراق مؤتمرًا لهم سنة 1973. وهو لقاء دوريّ سنويّ عرف انطلاقَتَه سنة 1873. إنّه لقاءُ المئويّة إذاً. والمُتَوَقَّعُ احتفاليّةٌ كبرى كما تجري العادة، فتُستَعْرَضُ الفتوحات والمكاسب وتُرسَمُ الأهداف والمشاريع المستقبليّة، لكنّ الأمر لم يكنْ كذلك. يقول برنارد لويس: (Bernard Lewis) «كانت مناسبةً جيّدة لإعادة النظر في طبيعة المؤتمر ووظائفه»[28]. والظاهرُ مِن قوله تواضُعٌ علميّ. وأمّا حقيقتُه، فبدتْ لنا أشْبَهَ بنعيٍ للاستشراق، وتبشيرٍ بميلاد معرفة بديلة. ويُمْكنُ الانتباه إلى ما في المفردتيْن اللّتيْن دارَ عليهما النعيُ/ التبشيرُ: «طبيعة» و«وظيفة» مِن دلالات. فلو اقتصرتْ «إعادة النظر» على «وظائف» الاستشراق، لَكان الأمر مقبولًا ومعقولًا. فالعلوم والمعارف إنّما تتطوّر دومًا بالمراجعة والتعديل والتصحيح، لكنّ الدعوة إلى «إعادة النظر» في «طبيعة» الاستشراق، هي التي تَلفتُ النظرَ أكثر مِن العبارة الأولى. فطبيعة الشيء أصلُه ومأتاه وهويّته. وحين يَطالُ التغييرُ الوظائفَ ويتجاوزها إلى الطبيعة، تكون النتيجةُ الحكمَ على الشيء بالانتفاء. وحين تمتدّ المراجعةُ إلى جوهر المعرفة الاستشراقيّة نفسها؛ أي إلى العقل الغربيّ الذي أسهمت هذه المعرفة في تشكيله، فذاك يعني أنّ المطلوبَ هو إنشاءُ معرفة أخرى، وإنتاجُ رؤًى جديدة لدراسة الآخَر.
وتُنهي الاحتفاليّةُ أشغالَها بأخطَر قرار في تاريخ الاستشراق، وهو القرار الذي نقترح أنْ نضعه تحت عنوان: «التصديق على وفاة الاستشراق». وأمّا محتواه، فتختزله التسمية البديلة التي وقع اعتمادُها: «المؤتمر الدوليّ للعلوم الإنسانيّة في آسيا وأفريقيا الشماليّة». ولا شكّ في أنّها تسميةٌ مفصِحَةٌ عن تحوّل جذريّ، هو، في نظرنا، أقربُ إلى الانقلاب على الاستشراق منه إلى مراجعته. ويُمْكن تَبيّنُ ذلك كما يلي: لم يعد الشرقُ في كلّيّته وواحديّته موضوعًا للبحث. وهذا أمر مهمّ يدفع إلى الاعتقاد بأنَّ الدراساتِ الغربيّةَ المنشغلةَ بـ«الشرق» على النحو الذي كانت عليه، فقدت ما به، تظلّ مدخلًا وحيدًا إلى فهم الآخر. ولذلك خلص هذا المؤتمر إلى ضرورة تجريد المستشرق مِن القوّة المعرفيّة التي كانت تضعه حليفًا أو مرشدًا أو مستكشفًا بالاستباق للسياسيّ والعسكريّ والمبشّر والتاجر ولكلّ مَنْ كان مسكونًا بهوى الشرق وطلاسمه وسحره وكنوزه. فها هو الشرقُ الذي صنعه المستشرق تخييلًا وتمثيلًا وخلقًا[29] يختفي مِن التسمية الجديدة، ويحلّ في مكانه الآخرُ متعدّدًا: «آسيا وأفريقيا الشماليّة». وحين يتوارى الشرق، تختفي بتواريه المبرّراتُ التي جاءت به مفردًا منمّطًا. ويُفْتَرَض كذلك أنْ تتوارى معه محصّلة الأحكام والمواقف التي صارت بالتراكم والتقادم ثقافة تتحكّم في العلاقات بين أوروبّا وآخَرها. ستحلّ «العلوم الإنسانيّة» إذاً محلّ «الاستشراق». فلا شرقَ ولا استشراقَ ولا مستشرقَ. إنّنا إزاء آخَرَ متعدّدٍ موضوعًا، وعلوم إنسانيّة جهازًا بحثيًّا.
- وقد نفهم مِن الصفة «الدوليّ» في المركّب النعتيّ «المؤتمر الدوليّ» حصول وعي لدى القائمين على «المئويّة» بأنّ أوروبّا نفسها ينبغي أنْ تتّجه نحو أفق ثقافيّ جديد يقع فيه التخلّي عن عمليّات الاستبناء والتملّك التي كانت تمارسها، وتفسح لغيرها المجال لمشاركتها في الفهم والتفسير وإقامة العلاقات بين الأمم والحضارات وفق مناويل جديدة.
- لا شكّ في أنّ الهويّة الجوهرانيّة، وهي تَشْرَع في التشظّي فتُضحي هُويّات، ستوفّر مساحات أكبر للفهم والتواصل. فهذا «الشرق» الذي ستخرج مِن أحشائه هُويّاتٌ متعدّدة بفضل «العلوم الإنسانيّة»، يُنتظر أنْ يترك مكانه للممكن والتاريخيّ والثقافيّ.
والتأمتْ في السنة نفسها أشغالُ ندوة في روما تحت عنوان لافت: «في الهامش.. الغرب وآخروه»[30] «En marge: l’Occident et ses autres» . و«الآخَر» حسَبَ هذه الصيغة (ses) لم يعد واحدًا. وهذه علامة تفيد بنشوء ذاك الوعي النقديّ الذي وقفنا عليه في «نعي» الاستشراق. صحيحٌ أنّ شيئًا مِن تَرِكَةِ الاستشراق مازال رابضًا في زوايا معيّنة مِن هذا الاتّجاه النقدي بدليل أداة الاستبناء والتملّك والاستحواذ «ses»، لكنّ مداخلةً في الندوة لروجيه دادون (Roger Dadoun) استطاعت بجدارة أن تفكّ نفسها مِن هذا التملّك المتسلّل إلى اللّاوعي. لقد صاغ لبحثه عنوانًا إشكاليًّا طريفًا: [31]«?Mais quel Occident? Quels autres». هذان السؤالان أدخلاَ يقينَ المعرفة الاستشراقيّة علمًا وموضوعًا في دائرة الشكّ أو الارتياب.
ومع ذلك، نودّ أنْ نقول في هذا السياق إنّه مِن الضروريّ ألّا نبالغ في التفاؤل. فالذهاب المتسرّع إلى أنَّ استبدال مصطلح «الاستشراق» بمصطلح «المؤتمر الدوليّ للعلوم الإنسانيّة في آسيا وأفريقيا الشماليّة»، يَكْفَلُ القيام بعمليّة صعبة ومعقّدة تتمثّل في تجاوز قرون طويلة وقاسية مِن مراكمة صناعة الصورة والتخييل دون الأخذ بعيْن الاعتبار ضرورة اختراق الثقافة نفسها التي صاغها الاستشراق؛ قد لا يوصِلُ إلى المأمول. فقد تكون مئويّة «النعي» مدخلًا إلى إنقاذ تلك الثقافة، وليس سبيلًا إلى تجاوزها. لذلك نرى أنّه طالما لم يقع تخطّي الاستشراق موضوعًا ومنهجًا وهدفًا لإنشاء معرفة ما-بعد استشراقيّة، يعسُر توقُّعُ انقلاب نوعيّ ومثمر.
أبرزُ ما يمْكن الاحتفاظ به أو استخلاصُه ممّا تَقدّم، هو أنَّ مؤشّرات اختفاء «الشرق المتخيّل» علامةٌ دالّة افتراضيًّا على الشروع في تجاوز ثوابت القراءة الاستشراقيّة الكلاسيكيّة. فلم يعد الشرق واحداً[32]، ولم يعد يتحدّد بأنّه اللّاغرب. وقِسْ على ذلك شأنَ هويّة الآخَر الضبابيّة والكلّيّة، فهي الأخرى آخذةٌ في الاختفاء؛ لأنَّ شروط استمرارها بدأتْ تتهاوى. وأمّا السؤال الذي ينبغي ألّا يغيب في هذا السياق غير المستقرّ، فهو: هل سينشأُ عن ذاك الاختفاء (المُحتَمَل/ المفتَرَض) معرفةٌ بديلة ونوعيّة يعود فيها «الشرق» إلى التاريخ والواقع ويتحرّر فيها مِن الصورة؟
حول إمكانات الانتقال مِن نقد العقل الاستشراقيّ إلى بناء مقدّمات جديدة للتعامل مع الآخَر
أ. عُسْر التحوّل مِن داخل الثقافة الأوروبّيّة
يقول محمّد أركون في إشارة صريحة إلى أنَّ زمن «الاستشراق الكلاسيكيّ» قد توقّف: «تحليل الخطابات الاستشراقيّة التي أُنتِجتْ قبل مرحلة الاستقلال، لم يعد له إلاّ أهمّية تاريخيّة لِمن يريد مثلًا أنْ يحدّد نظام الفكر الذي تنتمي إليه»[33]. ويميلُ إلى أنّ الفاعلين الغربيّين اليوم في مجال المعرفة، ليسوا أولئك المستشرقين. وليس إلّا التسمية هي ما يُذَكِّرُ بذاك الزمن. ويرى، في ضوء المتغيّرات الحاصلة، أنّه أصبحَ ممكنًا انتظارُ «مجيء الوقت الذي يتعاون فيه الباحثون المسلمون وأولئك الذين نستمرّ في تسميتهم بالمستشرقين بسبب عدم وجود كلمة أخرى لوصفهم بها»[34]. وقد تكون اللّقاءات التي تنعقد تحت عنوان «الحوار الإسلاميّ-المسيحيّ» تجسيدًا عمليًّا لهذا الأفق.
ولكنّ إدوارد سعيد يعتقد مِن جهته بأنّ أثَر الاستشراق ما زال سائدًا في الثقافة الغربيّة: «منذ نهاية القرن الثامن عشر، على أقلّ تقدير، وحتّى يومنا هذا، سيطر على ردود الفعل الغربيّة نحو الإسلام نوعٌ مِن التفكير المبسّط في جوهره ما زال بإمكاننا أنْ نسمّيه الاستشراق»[35]. صحيحٌ أنّ قولَه: «ما زال بإمكاننا أنْ نسمّيه الاستشراق» يتضمّن اعترافًا خفيًّا بتراجع هذا الأثَر، غيرَ أنَّ الاطمئنان إلى أنّ زمن الاستشراق قد انسحَبَ لصالح زمن آخَر، ليس حاصلًا عند إدوارد سعيد.
يختزل هذان الموقفان الاتّجاهات الكبرى في قراءة ما بعد الاستشراق الكلاسيكيّ. والاختلاف بينهما متوقَّعٌ؛ نظرًا إلى الاختلاف في زاوية النظر إلى الموضوع. ونحن نميل إلى أنّ استبدال معرفة قديمة بأخرى جديدة، يمثّل تحدّيًا كبيرًا نفسيًّا ومعرفيًّا؛ لأنَّ الأمر يتعلّق باختبار مدى القدرة على الانفلات مِن ضغط المعرفة الاستشراقيّة الرائجة مِن جهة، ومدى حضور وعي فعّال «بالفرق بين معرفة بالشعوب الأخرى تنهض على الفهم والتعاطف والدراسة الدقيقة، والمعرفة التي تكون رافدًا في حملة شاملة المقصد منها إثبات الذات»[36] مِن جهة ثانية.
ب. في تلاشي زمن الصورة: البراغماتيّة الأمريكيّة
- نقد إدوارد سعيد أسماءً لامعة لأنّها لم تمارس دورهَا الأصيل، وهو الوقوف في وجه الظلم. قال: «المؤكّد أنَّ مِن بين الكوارث الفكريّة في التاريخ، ما نراه الآن مِن حرب إمبرياليّة مدمّرة افتعلتها مجموعة صغيرة مِن المسؤولين الأمريكيّين... ضدّ بلد مِن العالم الثالث (العراق) يعاني أصلًا مِن الديكتاتوريّة والدمار، وذلك على أساس إيديولوجيّ يتلخّص بالسيطرة على العالم وموارده. وقد نجح هؤلاء في تمويه غايتهم هذه بفضل التبرير والدعم الذي لاقوْه مِن مستشرقين خانوا أمانتهم العلميّة»[37]. وذكر تعيينًا وحصرًا برنارد لويس وفؤاد عجمي.
- لكنّ هذا النقد لم يكن، في تقديرنا، مؤسَّسًا على الربط الموضوعيّ بين دعم هؤلاء الذين «خانوا الأمانة» والواقع الثقافيّ الذي تبلور فيه. إنّنا لا نرى هؤلاء مستشرقين. فهم لا ينتمون إلى زمن الاستشراق. إنّهم جزء مِن الإدارة الأمريكيّة؛ لأنّهم مستشارون فيها. إنّهم يؤَمّنون «المشورة» مِن موقع آخَر، هو على وجه التدقيق موقع «الخبير». وههنا يكمن الفرق بين وظيفة المستشرق ووظيفة الخبير، وفي هذا السياق ينبغي البحث عن خصائص الزمن الجديد.
كان قرارُ الولايات المتّحدة الأمريكيّة الخروجَ مِن «السياسة الانعزاليّة» والإسهامَ في رسم السياسات الدوليّة بدءًا بالانخراط في وقائع الحربيْن العالميّتيْن، ومرورًا بالحرب الباردة، وانتهاء بفرض سلطانها دولةً إمبراطوريّة ذات إستراتيجيّة هيمنيّة، يحتاج إلى إسناد في التصوّر والتخطيط والاستشراف. وتحسنُ الإشارة في هذا الصدد إلى أنّها دخَلتْ العالَم وهي متخفّفة مِن الحمولة الثقافيّة التي كانت ترزح تحتها «أوروبّا الاستشراقيّة». لقد جاءت إليه في هيئة المنقذ أو المخلّص أو المدافع عن حقّ الشعوب في الحريّة وتقرير المصير[38].
لا خلافَ بين المتخصّصين في العلاقات الدوليّة عامّة، وفي قضايا الهيمنة على نحو محدّد، حول ثابتٍ إستراتيجيّ مفاده أنَّ الولايات المتّحدة ترى المنفعة المعيار الذي لا يعلو عليه معيار آخرُ في ترتيب أولويّاتها في العالَم. وهذا ما يُسهّل عليها التعامل مع أكثر الأوضاع تعقيدًا. إنَّ القاعدة الذهبيّة التي تحتكم إليها، هي أنّه لا يوجَد خصم دائم ولا صديق دائم. لا ثابتَ في هذه القاعدة إلاّ المصلحة[39]. ولا عجبَ حينئذ أنَّ الولايات المتّحدة الأمريكيّة، وفي هذا السياق حصرًا، «لم تنطلق في تعاملها مع العالم العربيّ مِن رؤية إيديولوجيّة أو عقائديّة، وإنّما مِن رؤية براغماتيّة عمليّة واضحة لمصالحها في العالم العربيّ في إطار رؤية إستراتيجيّة أكثر وضوحًا لمصالحها الكونيّة»[40]. وههنا ميزة هذا الزمن الجديد.
ت. الثينك تانكس وبناء عقل المنفعة
تناغمًا مع القاعدة البراغماتيّة، شَرَعتْ «جماعات التفكير والرأي» في البروز. وشيئًا فشيئًا تحوّلت إلى مؤسّسات كبرى تنهض بأدوار أساسيّة[41]، وأُطلِقَ عليها مصطلح: الثينك تانكس (Think Tanks). وهو مِن المصطلحات القليلة في العلوم الاجتماعيّة التي يكتنفها غموض شديد[42]، بل إنّها تستعصي على الترجمة[43]. وهو، فوق ذلك، لم يدخل مجال التداول العامّ والأكاديميّ خارج الولايات المتّحدة الأمريكيّة[44]، إلاّ بعسر شديد. وأمّا الاتّجاه الغالب على التعريف به، فهو ما تحيل عليه كلمة تانك (Tank) مِن معاني الإناء المُعَدِّ لحمل مادّة ما[45]، وما تحيل عليه كلمة «ثينك» مِن دلالة على الفكر. والحاصل منهما مجتمعتيْن الدلالةُ على «فضاء للتفكير» أو «جماعة تمارس التفكير».
اصطحبَ الزمن الجديد فاعلًا جديدًا إذًا، وهو الثينك تانكس. وأهمّ ما يميّزه أنّه ذو هويّة مؤسّسيّة تقوم على دعامتيْ المال وإنتاج الأفكار لتحصيل منفعة مباشرة آنيّة أو بعيدة المدى. ولا شكّ في أنَّ استبدال «القيمة/ الثقافة» بـ«المنفعة»، هو ما يعطي لهذا الزمن بعضَ خصائصه. فقد فرَض على «قادة الرأي» أنْ يكونوا في خدمة هذه الفلسفة العمليّة[46]. ويكفي الاطّلاع على حَجم نسيج المؤسّسات البحثيّة في الولايات المتّحدة حتّى تُفهم دلالة تسليع الفكرة مِن ناحية، وطغيان ثقافة المنفعة مِن ناحية ثانية[47]. والخبراء في هذا السياق ليسوا أفرادًا أو «مثقّفين تقنيّين»[48]، وليسوا أيضًا «مستشرقين أمريكيّين». إنّهم متخصّصون في قضايا العالَم ويُستَقْدَمون مِن كلّ جهات الدنيا، ما أثبتوا للمشغِّلَ المهارات المطلوبة. فقد يكون الخبير عربيًّا أو هنديًّا أو يابانيًّا أو إفريقيًّا أو أوروبّيًّا. وما يُدْعَى إلى إنتاجه ليس صورة الآخَر غير الأمريكيّ، أو تشكيل معرفة أفقيّة للشعب الأمريكيّ حول نفسه وآخَره. فذاك شأن انقضى بانقضاء زمن المستشرق.
وظيفة الخبير ليس تشكيلَ الصورة، وإنّما إعادة تشكيل الواقع وترتيب الفرضيّات وإعداد التوصيات. وهو لا يكون خبيرًا إلاّ داخل مؤسّسة يلتزم بأهدافها فيما يُنتج مِن معرفة/ بضاعة ويأخذ مقابل[49]. لا هوّيّةَ له خارج المؤسّسة. إنّها هي مِن تَهَبُه صفتَه، بل هويّته. وإذْ يكون الخبير «مثقّف» الزمن الأمريكيّ المعولَم، فلا يُتوَقّعُ إذاً أنْ يُرَى منه ما يُخالف المبادئ التي ينهض عليها هذا الزمن. فالثينك تانك مُنتجٌ وبائع. الفكرة عنده سلعة. والسلعة مال. وما هذا بمستغرب في سياق الثقافة المجتمعيّة الأمريكيّة. وفي هذا الصدد يقول هيرب بركويتز (Herb Berkowitz) المتنمي إلى واحدة مِن أشهر مؤسّسات الفكر الأمريكيّة (Heritage Foundation (The إنَّ إنتاج الفكرة وطباعتها ليسا إلّا نصف المهمّة، وإنَّ «ما يبقى هو بيع الأفكار»[50].
ث. من سلطة الصورة إلى سلطة الواقع
اعتبرت الولايات المتّحدة الأمريكيّة، وقد انبسطت أمامها جغرافيّة العالَم، أنَّ الإضرار بمصالحها في المنطقة العربيّة، لا يمكن أنْ يواجَه إلاّ بالقوّة. ويأتي على رأس تلك المصالح منابعُ النفط الوفيرة[51]. والسباق بين القوى الصناعيّة والعسكريّة مِن أجل السيطرة عليه يبرّره أنّ هذه الطاقة يمكن أنْ تتسبّب في مصاعب دوليّة إنْ لم تكن بين أيدي الأقوياء[52]. لذلك كان التحكّم في منابعها سبيلًا إلى السيطرة على أسواقها العالميّة والإمساك بأسعارها وإدراجها في عجلة الاقتصاد. وما كان تأمين النفط هدفًا في حدّ ذاته. إنّه مكوّن مِن مجموع عناصرَ للسيطرة وضمانةٌ كبرى في معركة الهيمنة على العالَم. على هذا النحو، إذاً، كانت الولايات المتّحدة الأمريكيّة تنظر إلى الشرق الأوسط[53]. كان فضاء جاذبًا بما فيه حقيقةً وواقعًا، وليس بما يحيل عليه مِن أبعاد غرائبيّة وسحريّة.
هذه الرؤية الإستراتيجيّة للعلاقات الدوليّة القائمة على «المنفعة» قد تتعارضُ مع الأطروحة التي تروّجها الولايات المتّحدة الأمريكيّة عن نفسها: الخروج إلى العالَم بعد سياسة انعزاليّة طويلة لِلتبشير بالحرّيّة والديمقراطيّة، ومساعدة الشعوب على نيل حقّها في تقرير مصيرها. وقد لا يترتّب عن هذا التعارض الذي تتفوّق فيه المنفعة على القيمة سوى خطاب تبريريّ. فمَن يتأمّل مثلًا ما جاء على لسان وزير الخارجيّة الأمريكيّ الأسبق (Henry Kissinger) وهو يستعرض إمكانيّة التوفيق بين مبدأيْ «المثاليّة» و«الواقعيّة» في رسم السياسة الخارجيّة لبلده، يتنبّه إلى ضرب مِن الغموض وهو يبحث عن تقاطع بينهما. ويَظهر في هذه المحاولة تَمرُّدٌ للبراغماتيّ على المثاليّ فيما يشبه اعترافًا مضمرًا بأنّ «المثاليّة» ليست إلّا غشاء شفّافًا لا يقدر على إخفاء العمق النفعيّ في السياسة الخارجيّة الأمريكيّة.
وصورة «الرمال المتحرّكة» التي استشهد بها كيسنجر لبيان خطورة عزل أحد المبدأيْن عن الآخَر، تؤكّد أنَّ ترويج القيم الأمريكيّة ليست رسالة تحظى بالأولويّة المطلقة. لذلك كان يبحث عن مسوّغ، وإنْ كان ضعيفًا، للدفاع عن التوازن بدل المفاضلة: «المفاضلة بين «المثاليّة» و«الواقعيّة» هي تعبير عن خيار زائف. فكما أنَّ الأمر يحتاج إلى التمسّك بالمُثل في الظروف الواقعيّة، فإنّ الواقعيّة ذاتها تتطلّب سياقًا يمكن فيه لقيمنا الوطنيّة أنْ تصبح ذات معنى. والفصل بين الاثنين، «المثالية» و«الواقعية»، يعرّضنا لمخاطر بناء السياسة على رمال متحركة»[54]. ورغم إمعانه في الدفاع عن التوازن بينهما، لا يمنع نفسه مِن التصريح بأنّ الولايات المتّحدة الأمريكيّة تحتاج إلى «تركيب كيميائي» عجيب، وهو «المثاليّة براغماتيّة»: «الأهمّ على الإطلاق، يجب على الولايات المتّحدة تطوير فهم حازم لمصالحنا القوميّة الإستراتيجيّة... على الولايات المتّحدة أنْ تسعى لسياسة تقرن ما بين تصميمنا على حماية مصالحنا القوميّة مِن ناحية، وترويج القيم التي جعلت أمّتنا عظيمة مِن ناحية أخرى... وهذه السياسة القائمة على «المثاليّة البراغماتيّة» هي السياسة التي تقدّم أفضل طريقة لمواجهة التحدّيات»[55]. والحقيقة إنَّ هذا المزْج، وإنْ كان عجيبًا، فهو معقول في خطاب إستراتيجيّات الهيمنة.
ما ينبغي تأكيده في هذا المستوى، هو أنّه كان ثمّةَ باستمرار رؤيةٌ إستراتيجيّة لكيفيّة التعامل مع المنطقة العربيّة باعتبارها رصيدًا عاليَ الجودة: «الهدف الإستراتيجيّ للولايات المتّحدة في الخليج هو أنْ تضيف إلى وفرة الاحتياط المعروف، وإلى ضآلة تكاليف الإنتاج، أمرين أساسيّين: القدرة على توجيه سلّم الأسعار، والقدرة على إعادة استثمار عائدات النفط في دائرة الاقتصاد الأميركيّ»[56].
خاتمة
نتائج وآفاق
أوّلًا- النتائج
ما ننتهي إليه هو أنّ الأفكار الأساسيّة التي شدّتْ منطقَ هذا البحث وهو يحاول الإحاطة بالصورة بين لحظتيْ التركيب والتفكيك نُجْمِلُه في الآتي:
أ. وفّر جزء مِن المعطيات التاريخيّة التي تجمّعتْ في هذه الدراسة ما أكّد وجود مقوّماتِ التباعد النفسيّ والثقافيّ بين «الشرق» موضوعًا بحثيًّا، و«الاستشراق» ثقافةً «تمثيليّة»[57]. ورأينا، بناءً على ذلك، أنّه قد ترسّبتْ في الذاكرة الجماعيّة للطرفيْن أحداث كثيرة أضحتْ بالتقادم متخيّلًا أو خزّانًا، يمدّ الحاضر بصور نمطيّة وأحكام مغلقة تسدّ المنافذ حتّى لا تتكوّنَ مساحاتٌ للتقاطع والتعايش. وذهبنا إلى أنّه لم تُبْذَلْ جهود حقيقيّة في إطار مشاريع ثقافيّة كبرى للتخفيف مِن سطوة هذا المتخيّل القابع في جوف الثقافة الأوروبّيّة نفسها. والقرائن التي تشير إلى أنّ هناك دومًا رغبة في الاستحواذ والهيمنة كثيرةٌ. ولذلك كان اللّجوء، في الغالب، إلى تفسير أسباب عدم نشوء إمكانات حقيقيّة للفهم يعتمد في المقام الأوّل على ذاك المتخيّل[58].
ب. وانتهى بنا البحثُ استتباعًا إلى أنَّ مُعِيقات الانتقال مِن «زمن الصورة» إلى «زمن الواقع»، لم يمنع الإقرارَ بأنَّ مصطلح «الشرق» بحمولته الناهضة على «التمثيل» و«التخييل» قد تفتّتَ. ولكنْ، وقعَ التنبيه على أنَّ هذا الإقرار هو تقريبًا نصف الحقيقة. ولذلك كان السؤال الآتي يلاحق شطر الحقيقة الغائب: هل رافقَ تفتُّتُ المصطلح تفتّتَ «الشرق» نفسه داخل العقل الجمعيّ الأوروبيّ؟ أيْ، هل ساعد هذا التفتّت على إنتاج معقوليّة جديدة للآخر مِن ناحية، وعلى تحوُّلٍ عميق في قراءة الغرب نفسَه مِن ناحية أخرى؟
ت. وحاول البحث أنْ ينتخبَ جملة مِن الوقائع مِن داخل الثقافة المنتجة للصورة ومِن خارجها للإجابة عن ذلك السؤال. والذي استقرّ مِن النتائج بيّنَ أنَّ ما أُنجِزَ مِن نقد لبنية «ثقافة الصورة»، رغم أهمّيته، لم يحقّق إلاّ نجاحاتٍ محدودةً في اختراق الثقافة العموميّة والأفقيّة. وكان التفسير الذي رجّحْناه، هو أنّ تلك الأعمالَ أعمالٌ مفرَدة لم ينتظمها مشروع جماعيّ أو مؤسّسيّ. ومِن هنا، بدا إحداثُ تغيير عميق في بنية العقل الأوروبيّ أمرًا بعيد النوال.
ث. وقدّرْنا، في ضوء ذلك، أنّ «ثقافة الصورة» لا يمكن اختراقها اختراقًا فعليًّا إلاّ بتعطيل فاعليّة الزمن الذي يحتويها. ورأيْنا أنَّ الأحداث التي جدّتْ بدءًا مِن الحربيْن الكونيّتيْن، زعزعتْ الثقة في الزمن الأوروبيّ وهيّأتْ لميلاد الزمن الأمريكيّ. وشدّدنا في هذا الإطار على أمر رأيناه مهمًّا، وهو أنَّ الزمن الجديد الذي قام على «المنفعة»، اشتغل صُنّاعُه في الأرض والحاضر، فتناءتْ الصورة بما فيها مِن مدهش وغريب وخارق، واستُدْعِيَ «الشرق» منزوعًا مِن «شرقيّته»، فجاء متعدّدًا أفضيةً وثقافاتٍ وأممًا.
ج. ولكنْ، هلْ تحرّر «الشرق الاستشراقيّ» بمجرّد تفكيك صورتِه؟ وهل أنتجَ «زمن المنفعة» الموغل في «الوَضْعَنة» قواعد راسخة للتعامل مع مسألة «الغيريّة» (altérité) مِن منظار آخَر؟. لم يقع التوسّع في الإجابة؛ لأنَّ المطلوب في هذه الورقة يقف دونه. ونعتقد بأنّ استكمال البحث فيه، كفيل بتوفير قراءة ما بعد استشراقيّة لموقع الإسلام في الزمن الأمريكيّ.
ثانيًا- الآفاق
أ. يقترح هذا البحث الانخراطَ القويّ فيما يُعْرَفُ بالدراسات «مابعد الكولونياليّة»؛ نظرًا إلى النقص الفادح في المنتج المعرفيّ العربيّ والإسلاميّ في هذا المجال[59]. وتتأتّى أهمّية هذا التوجّه مِن كونه الأقدر عِلْميًّا على الإطاحة لا فقط بالصورة، بل أيضا بكامل تَرِكَة العصر الكولونياليّ. ومصطلحُ «السرديّات الكبرى»[60] (metanarrative (Grand Narratives الحامل لمعنى النظريّات الكبرى لسيرورة التاريخ[61]يوفّر مادّة غزيرة، ولكنّها غير صادقة للأطروحات الهُوويّة التي روّج لها العقل الكولونياليّ. فالهويّات ينفصل بعضها عن بعض انفصالًا نهائيًّا يقوم على التفريق بينها في النوع، وليس في الأداء والوظيفة. ولا ريبَ في أنَّ الانخراط في مشروع مقاوم لهذه السرديّات، ليس فقط مطلبًا علميًّا، بل هو كذلك التزام حضاريّ.
ب. تُعتَبَر أطروحة «التابع» (subaltern) التي تطوّرتْ إلى قطاع أكاديميّ تخصّصيّ (Studies Subaltern) على يد باحثين هنود، مِن أهمّ الفروع المتولّدة عن الدارسات مابعد الكولونياليّة[62]. وهي مُوجَّهة أساسًا نحو البحث في آثار «العقل الإلحاقيّ» الأوروبيّ في هويّات الشعوب التي خضعتْ للهيمنة الاستعماريّة. ولا شكّ في أنّ اختيار مصطلح «التابع» مهمّ مِن حيث أدائه النقديّ، انطلاقًا مِن مراقبة «الندوب» التي تركها المستعمر في الهويّات التي انتهكها وسَلَبها القدرة على الوعي بوجودها. ونظنّ بأنَّ العربَ والمسلمين في حاجة ماسّة إلى دراسات في «التابع»؛ لأنّها دراسات في التحرّر مِن سطوة تراث الصورة.
ت. قد تكون الملتقيات العلميّة التي تجمع أكاديميّين مسلمين وغربيّين أساسيّة لبناء جسور التواصل بين الحضارتيْن، ولكنّ حركة الهجرة إلى البلدان الأوروبّيّة تستطيع هي أيضًا أنْ تساهم في صياغة وضع جديد للمسلم. ولذلك، وَجبَ تجهيز المهاجرين المندمجين جزئيًّا أو كلّيًّا في ثقافة الدول المضيفة بثقافة عالية الجودة في مجاليْ الدين والدنيا. ونكاد نجزم بأنَّ انعدام هذه الثقافة ييسّر السبل إلى استرجاع سريع ومُبَرّر لثقافة الصورة. والتنظيمات العنفيّة ومشاهد التخلّف البادية عليها لا تُخطئها العين وتعرفُها الذاكرة.
لائحة المصادر والمراجع
العربيّة والمعرّبة
أركون محمّد، تاريخيّة الفكر العربيّ الإسلاميّ، (بيروت: مركز الإنماء القوميّ، 1986).
باقادر أبو بكر أحمد، «صورة العرب في بعض الكتابات الغربيّة»، المنهل، عدد 471، السنة 55، (أفريل- ماي 1989).
بشاري محمّد، صورة الإسلام في الإعلام الغربيّ، (دمشق: دار الفكر، 2004).
برقاوي أحمد، «أصول الوعي الأوروبيّ بالآخر»، الفكر العربيّ المعاصر، عدد 122/123، (صيف 2002).
حسني عايش ، «الهويّة المغلوطة أو صورة العرب المشوّهة في الكتابات الشعبيّة في الغرب»، المجلّة الثقافيّة، الجامعة الأردنيّة، عدد 29، (1993).
حمّيش سالم، الاستشراق في أفق انسداده، (الرباط: المركز القوميّ للثقافة العربيّة، 1991).
الرميحيّ محمّد، النفط والعلاقات الدوليّة، سلسلة عالم المعرفة، عدد52، (الكويت: المجلس الوطنيّ للثقافة والفنون والآداب، أفريل 1982).
سعيد إدوارد،
الاستشراق: المعرفة-السلطة-الإنشاء، ترجمة: كمال أبو ديب، (بيروت: مؤسّسة الأبحاث العربيّة، 1984).
تغطية الإسلام، ترجمة: سميرة نعيم خوري، (بيروت: مؤسّسة الأبحاث العربيّة، 1983).
السمّاك محمّد، إستراتيجيّة الربط العربيّة بين النفط والسياسة، (بيروت: مركز الدراسات الإستراتيجيّة للبحوث والتوثيق، 1991).
قبّاني رنا، أساطير أوروبيّة عن الشرق، ترجمة: صباح قباني، (دمشق: دار طلاس للدراسات والترجمة، 1998).
الطائي معن (وآخرون)، «الفضاءات القادمة.. الطريق إلى بعد مابعد الحداثة»، (القاهرة: مؤسسة أروقة للترجمة والدراسات والنشر، 2012).
أبو كرّوم بهاء، الممانعة وتحدّي الربيع، (بيروت- لندن: دار الساقي، 2013).
مايلا جوزيف ومحمّد أركون، مِن منهاتن إلى بغداد: ما وراء الخير والشرّ، (بيروت: دار الساقي، 2008).
نافعة حسن، «وجهة نظر في تطوّر الرؤية الأمريكيّة تجاه العالم العربيّ»، السياسة الدوليّة، يوليو، 2003.
ابن نبي مالك، فكرة الإفريقيّة الآسيويّة في ضوء مؤتمر باندونغ، ترجمة: عبد الصبور شاهين، (بيروت: دار الفكر المعاصر/ دمشق: دار الفكر، 2001).
نوشي اندريه، الصراعات البتروليّة في الشرق الأوسط، ترجمة: أسعد محفّل، (بيروت: دار الحقيقة، 1971).
الأعجميّة
Abd-el-Malek Anwar,«L’orientalisme en crise», Diogène, n°44, (1963).
Abelson Donald, Think Tanks and U.S foreign policy: an historical view, U.S Foreign Policy Agenda, vol.7, n° 3, (2002).
Alberto Asor Rosa (et coll.),En marge:l’Occident et ses «autres», (Paris: Aubier Montaigne, 1978).
Andrew Rich, «War of ideas: why mainstream and liberal foundations and the think tanks they support are losing in the war of ideas in American politics », Stanford Social Innovation Review, Vol.3, n°1, (2005).
Antonius Rachad (Sous la direction de), La représentation des arabes et des musulmans dans la grande presse écrite au Québec.
https://www.ieim.uqam.ca/IMG/pdf/Arabes_Musulmans_Presse_ecrite_2.pdf.
Bessis Sophie,L’Occident et les Autres: histoire d’une suprématie, (Paris: La Découverte, 2003).
Boisaubert Léa, Stéréotypes et préjugés,
http://www.mahj.org/documents/stereotypes_prejuges.pdf.
Brisson Thomas,La critique arabe de l’orientalisme en France et aux États-unis. Lieux, temporalités et modalités d’une relecture, in: Revue d’anthropologie des connaissances,Vol. 2, n° 3, (2008).
Carpentier-Tanguy Xavier, ThinkTanks: un concept made in USA, (http://management.journaldunet.com/dossiers/040435thinktanks/think_tanks.shtml).
Conrad Philippe, «Histoire et géopolitique du pétrole dans le golfe arabo-persique», in: Clio, octobre, 2002.
Farouki Nayla, Les Deux Occidents, (Paris: Les Arènes, 2004).
Ghareeb Edmund, Split Vision: The Portrayal of Arabs in the American Media, (Washington: The American-Arab Affairs Council, 1983).
Ghernaout Souad, Les stéréotypes arabes dans la culture occidentale et Française en particulier.
www.chevrel.pagesperso-orange.fr/dossiers/ghernaout1.htm.
Goodman John, What is a Think Tank?,National Center for Policy Analysis: (www.ncpa.org).
Haass Richard, “Think Tanks and U.S foreign policy: a policy-marker’s perspective”, U.S Foreign Policy Agenda, vol.7, n° 3, (2002).
Hentsch Thierry, La vision politique occidentale de l’Est méditerranéen, (Paris: Minuit, 1987).
Lewis Bernard, Le retour de l’islam, (Paris:Gallimard, 1985).
Nasr Marlène, Les Arabes et L’Islam vus par les manuels scolaires français, (Paris:Khartala, 2001).
Oueslati Béchir (coll.), le traitement de l’islam et des musulmans dans les manuels scolaires québécois de la langue française.
http://www.chereum.umontreal.ca/publications_pdf
Roussillon Alain,«Le débat sur l’orientalisme dans le champ intellectuel arabe: l’aporie des sciences sociales», in: Peuples méditerranéens, n° 50, (1990).
Said Edward,«L’orientalisme: 25 ans plus tard», Le Monde diplomatique, 26 septembre (2003).
Slakta Denis,«Stéréotype: Sémiologie d’un concept», in : Le stéréotype: crise et transformations; Actes publiés sous la direction d’Alain Goulet, (Caen: Centre de recherche sur la modernité, Université de Caen, 1993).
Vitkus Daniel, “Early Modern Orientalism: Representations of Islam in Sixteenth and Seventeenth Century Europe”, in: Western Views of Islam in Medieval and Early Modern Europe: Perception of Other (Edited by David Blanks and Michael Frassetto), (New York: St. Martin’ Press, 1999).
[1][*]-أستاذ الفكر العربيّ الحديث والمعاصر (تونس).
[2]- Denis Slakta: «Stéréotype: Sémiologie d’un concept», in: Le stéréotype: crise et transformations; Actes publiés sous la direction d’Alain Goulet, (Caen: Centre de recherche sur la modernité, Université de Caen, 1993), p. 35- 46.
[3]- تقول ليا بوازوبار (Léa Boisaubert):
«le stéréotype apparaît comme une croyance, une opinion, une représentation, concernant un groupe et ses membres, alors que le préjugé désigne l’attitude adoptée envers les membres du groupe en question. On peut donc dire que le stéréotype du noir, du maghrébin ou du juif est l’image collective qui en circule et l’ensemble des traits que l’on lui attribue, alors que le préjugé est la tendance à juger favorablement ou défavorablement un noir, un maghrébin ou un juif par le seul fait de son appartenance de groupe. A cela s’ajoute la composante comportementale qui résulte du fait de discriminer un noir, un maghrébin ou un juif, sur la base de son appartenance à une catégorie, sans rapport avec ses capacités et ses mérites individuels», Stéréotypes et préjugés, (www.mahj.org/documents/stereotypes_prejuges.pdf), p. 4.
[4]- بهاء أبو كرّوم، الممانعة وتحدّي الربيع، (بيروت- لندن: دار الساقي، 2013)، ص33.
[5]- Ghernaout Souad, Les stéréotypes arabes dans la culture occidentale et Française en particulier, Maîtrise de Français Langue Étrangère, 1999 -2000.
www.chevrel.pagesperso-orange.fr/dossiers/ghernaout1.htm
[6]- نستخدم في مستهلّ هذه الدراسة عبارة «الإسلام في مرآة الغرب» وليس «صورة الإسلام»؛ لأنَّ الصورة تركيب ناشئ في صلب العقل الغربيّ، وليستْ مُنتقِلَةً إليه. فالغرب إذاً هو مَنْ بنى للإسلام الصورة التي ستكون بالتقادم، والتراكم معطًى قد يبتعد عن المعطى الأصليّ (الإسلام)، وقد يتقاطع معه.
[7]- أبو بكر أحمد باقادر، «صورة العرب في بعض الكتابات الغربيّة»، المنهل، عدد 471، السنة 55، (أفريل- ماي 1989، ص308-309.
[8]- أبو بكر أحمد باقادر، «صورة العرب في بعض الكتابات الغربيّة»، م.س، ص309.
[9]- من الدراسات التي انشغلتْ بصورة العرب والمسلمين في الإعلام:
محمّد بشاري، صورة الإسلام في الإعلام الغربيّ، (دمشق: دار الفكر، 2004).
Edmund Ghareeb, Split Vision: The Portrayal of Arabs in the American Media, (Washington: The American-Arab Affairs Council, 1983).
Rachad Antonius (Sous la direction de), La représentation des arabes et des musulmans dans la grande presse écrite au Québec, (Rapport de recherche Présenté à Patrimoine canadien, Juillet 2008).
https://criec.uqam.ca/upload/files/Arabes%20Musulmans%20Presse%20ecrite%202.pdf.
[10]- راجع: الدراستيْن المتميّزتيْن:
Marlène Nasr, Les Arabes et l’Islam vus par les manuels scolaires français, (Paris:Khartala, 2001).
Béchir Oueslati (coll.), le traitement de l’islam et des musulmans dans les manuels scolaires québécois de la langue française.
http://www.chereum.umontreal.ca/publications_pdf/Rapport%20Islam%20Qu%C3%A9bec%2023%2003%202010.pdf.
[11]- اُنظر على سبيل المثال: HayatteLakraâ», La femme-musulmane et la littérature».
من الأسئلة التي انشغلت بها حياة الأقرع هذان السؤالان:
«Comment le voile et le harem, thèmes chers aux orientalistes, ont-ils été reconfigurés après le 11 septembre pour justifier la guerre contre le terrorisme et pour servir le discours islamiste?Est ce que la femme-musulmane, silencieuse du temps des orientalistes et des islamismes iraniens et afghans ose enfin prendre la parole pour déconstruire les stéréotypes et pour s’affirmer»?
ويحسن الانتباه إلى ترجمتها مصطلح Muslimwoman بمصطلح femme-musulmane، وتكمن أهمّيّة المقتَرَح في «المطّة» (tiret) التي جمعتْ بين مفردتيْن، إحداهما للنوع والأخرى للدين، فصارتا وحدةً واحدة بدلالة اصطلاحيّة كتلك التي في المصطلح الإنجليزي:
«une femme-musulmane est une identité religieuse singulière et une identification féminine qui recouvre la diversité nationale, ethnique, culturelle, historique, voire même philosophique».
(dialnet.unirioja.es/descarga/articulo/4943606.pdf).
MounaAlsaid, L’image de l’orient chez quelques écrivains français (Lamartine, Nerval, Barrès, Benoit).
وهذا البحث أطروحة دكتوراه في الآداب والفنون، ناقشتْها صاحبتُها سنة 2009 في: (Université lumière, Lyon2)
[12]- اُنظر مثلًا مقال أبي بكر أحمد باقادر «صورة العرب في بعض الكتابات الغربيّة»، مرجع سابق.
[13]- م.س، ص323. وراجع في هذا السياق: رنا قبّاني في كتابها أساطير أوروبيّة عن الشرق، ترجمة صباح قباني، (دمشق: دار طلاس للدراسات والترجمة، 1998). وراجع كذلك مقال أحمد برقاوي «أصول الوعي الأوروبيّ بالآخر»، الفكر العربيّ المعاصر، عدد 122/ 123، (صيف 2002).
[14]- تُعتبر محاضرة أرنست رينان (Ernest Renan) الشهيرة «الإسلام والعلم» نصًّا مرجعيًّا حول الموقف المغلق مِن الإسلام وعلاقته بالعلم والعقلانيّة والفلسفة.
[15]- جيرار دي نرفال (1808-1855) أديب فرنسيّ دوّن رحلتَه نحو الشرق في تأليف عنوانه Voyage en Orient. ومِن أهمّ البلدان التي زارها: مصر التي خصّها بفصل وسَمَه بـ: Les femmes du Caire، ولبنان التي كتب عنها فصلًا تحت عنوان: Druses et Maronites، والقسطنطينيّة التي أفْرَدَها بفصل Les nuits de Ramazan.
[16]- فرنسوا رينيه دي شاتوبريان (1768-1848) أديب وسياسيّ ودبلوماسيّ فرنسيّ. خصّص لرحلة نحو الشرق تأليفًا عنوانهItinéraire de Paris a Jérusalemاستجمع فيه ملاحظاته وانطباعاته وذكرياته. وأمّا أبرز الأماكن التي زارها فهي: لبنان وتركيا وفلسطين ومصر وتونس.
[17]- غوستاف فلوبار (1821-1880) يُعدّ مِن أشهر الأدباء الفرنسيّين. دوّن مغامرتَه في الشرق في نصوص كثيرة جُمِعت تحت عنوان: Voyage en Orient. وقد امتدّت رحلته مِن 1849 إلى 1851، وشملت مصر وسوريا وفلسطين.
[18]- فكتور هيغو (1802-1885). شاعر وروائيّ وسياسيّ فرنسيّ. رغم أنّه لم يزر الشرق، كتب عنه صورًا ومجازات، وأصدر حوله أحكامًا بناء على ما كان يُذاع مِن أخبار تتعلّق بهذا الفضاء الغرائبيّ. ويُعتَبَرُ ديوانُه Les orientales مِن أشهر ما أُلِّفَ شعرًا في هذا الموضوع.
[19]- سالم حمّيش، الاستشراق في أفق انسداده، (الرباط: المركز القوميّ للثقافة العربيّة، 1991)، ص19.
[20]- أحمد برقاوي، «أصول الوعي الأوروبيّ بالآخر»، مرجع سابق، ص36. وبالإمكان أنْ نعود بصناعة مُتَخَيّل أوروبيّ للإسلام والمسلمين إلى العصر الوسيط: اُنظر على سبيل المثال:
Suzanne Akbari, Imagining Islam: “The Role of Images in Medieval Depictions of Muslims”, in Scripta
Mediterranea, vol. XIX- XX, (1998- 1999).
[21]- ننصح هنا بالعودة إلى:
Daniel J. Vitkus, “Early Modern Orientalism: Representations of Islam in Sixteenth and Seventeenth Century Europe”, in: Western Views of Islam in Medieval and Early Modern Europe: Perception of Other (Edited by David Blanks and Michael Frassetto), (New York: St. Martin’ Press, 1999). p. 207- 230.
[22]- Thierry Hentsch, La vision politique occidentale de l’Est méditerranéen, (Paris: Minuit, 1987), p.183.
[23]- مالك بن نبي، فكرة الإفريقيّة الآسيويّة في ضوء مؤتمر باندونغ، ترجمة: عبد الصبور شاهين، (بيروت: دار الفكر المعاصر/ دمشق: دار الفكر، 2001)، ص43-44.
[24]- واكبتْ أشغالَه تسعٌ وعشرون دولة أفريقيّة وآسويّة. ومِن أهمّ ما يُسَجَّلُ في هذا الصدد الاتّفاق على أنْ تتبنّى هذه الدول ما صار يعرف بـ»الحياد الإيجابيّ»، راجع عن هذا المؤتمر على سبيل المثال مالك بن نبيّ في كتابه فكرة الآسويّة-الإفريقيّة، مرجع سابق.
[25]- إدوارد سعيد، الاستشراق: المعرفة-السلطة-الإنشاء، ترجمة: كمال أبو ديب، (بيروت: مؤسّسة الأبحاث العربيّة، 1984)، ص72.
[26]- Anwar Abd-el-Malek, «L’orientalisme en crise», Diogène 44, 4e trimestre, (1963), 109- 142.
[27]- للتوسّع والمقارنة راجع على سبيل المثال:
Alain Roussillon, «Le débat sur l’orientalisme dans le champ intellectuel arabe: l’aporie des sciences sociales», in: Peuples méditerranéens, n° 50, (1990), 7- 39.
ThomasBrisson, «La critique arabe de l’orientalisme en France et aux États-unis. Lieux, temporalités et modalités d’une relecture», in: Revue d’anthropologie des connaissances,Vol. 2, n° 3, (2008), p. 505- 521.
[28]- نحيل على الفصل الذي خصّصه برنارد لويس للاستشراق في كتابه:
Bernard Lewis, Le retour de l’islam, (Paris:Gallimard, 1985), chap. La question de l’orientalisme.
فقد تعرّض فيه إلى الظروف الحافّة بانعقاد هذا المؤتمر وبما دار بين المؤتمرين مِن نقاشات وآراء حول مستقبل الاستشراق.
[29]- هذه عبارات كانت تدلّ باستمرار على أنّ المستشرق كان يتحرّك فوق جغرافيا مِن ابتداعه، ويتنقّل بين صور وأفكار وأحكام يصطنعها اصطناعًا في غير علاقة بالبشر والتاريخ والقيم. والعبارات التي ذكَرْنا تعود في الترتيب الذي جاءت فيه إلى تيري هانتش في كتابه: الشرق المتخيَّل، وإلى إدوارد سعيد في كتابه الشهير الاستشراق، وإلى الترجمة الفرنسيّة لكتابه التي أضافتْ العنوان الفرعيّ: (L’Orientcréé par l’Occident) لعنوان الكتاب الأصليّ.
[30]- Alberto Asor Rosa (et coll.), En marge: l’Occident et ses «autres», (Paris: Aubier Montaigne, 1978).
[31]- Roger Dadoun, «Mais quel Occident?Quelsautres?», pp.11- 26.
[32]- لاحظ رمزيّة صيغة الجمع الواردة في عنوان كتاب صوفيا بسّيس:
Sophie Bessis, L’Occident et les Autres: histoire d’une suprématie, (Paris: La Découverte, 2003).
وفي عنوان كتاب نايلة فاروقي Les Deux Occidents دلالات أخرى، ولكنّها في السياق نفسه.
Nayla Farouki, Les Deux Occidents, (Paris: Les Arènes, 2004).
[33]- محمّد أركون، تاريخيّة الفكر العربيّ الإسلاميّ، (بيروت: مركز الإنماء القوميّ، 1986)، ص114.
[34]- م.ن، ص269.
[35]- إدوارد سعيد، تغطية الإسلام، ترجمة: سميرة نعيم خوري، (بيروت: مؤسّسة الأبحاث العربيّة، 1983)، ص36.
[36]- إدوارد سعيد، مِن مقاله:
«L’orientalisme: 25 ans plus tard», Le Monde diplomatique, 2003.
[37]- م.ن.
[38]- نحيل هنا على مبادئ الرئيس ويلسن الشهيرة.
[39]- تتردّد هذه الصيغة على أكثر مِن لسان لكبار المسؤولين الأمريكيّين. قالت كوندوليزا رايس (Condoleezza Rice) في أثناء زيارتها لليبيا في الأشهر الأخيرة مِن ولاية الرئيس بوش الابن: «ليس للولايات المتّحدة أعداء دائمون... عندما تكون بعض البلدان مستعدّة للقيام بإصلاحات ذات توجّه إستراتيجيّ، لا تملك الولايات المتّحدة إلاّ أنْ تتجاوب معها»، مِن مقال:
Kadhafi..l’année du «roi des rois» à la présidence de l’UA, in: «Les Afriques», n°62, du 12 au 18 février (2009)
[40]- حسن نافعة، وجهة نظر في تطوّر الرؤية الأمريكيّة تجاه العالم العربي، مجلّة السياسة الدوليّة، يوليو، 2003.
[41]- راجع على سبيل المثال:
Donald Abelson, “Think Tanks and U.S foreign policy: an historical view”, U.S Foreign Policy Agenda, an Electronic Journal of the U.S department of State, vol.7, n° 3, (2002).
وقد اقترح تصوّرًا يقوم على تقسيم زمني ووظيفيّ يتكوّن مِن أربعة أجيال:
1- Think Tanks as policy research institutions.
2- The emergence of government contractors.
3- The rise of advocacy Think Tanks.
4- Leagacy-based Think Tanks.
وأمّا ريتشارد هاس (Richard Haass) فاستخدم عبارة «موجة» (wave) لتقسيم ثلاثيّ. راجع ذلك في مقاله:
Richard Haass, “Think Tanks and U.S foreign policy: a policy-marker’s perspective”, U.S Foreign Policy Agenda, vol.7, n° 3, (2002), p.5-6.
[42]- قال عنها كزافييه تانجي (Xavier Tanguy): «هذه العبارة الأنجلو-سكسونيّة تحتفظ في فرنسا بغموض الدلالة». اُنظر مقاله:
Xavier Carpentier-Tanguy, “Think Tanks : un concept made in USA”,Le Journal de Net, avril 2004,http://management.journaldunet.com/dossiers/040435thinktanks/think_tanks.shtml
[43]- قيل عنها إنّها كلمة «مطّاطة وغير قابلة للترجمة»: «plastique et intraduisible». والمقابِلات التي اُقترِحتْ لم تكن في الغالب قادرة على استيعاب دلالاتها. فقد ظهرتْ عبارات مِن قبيل:
boites à idées, boites à pensées, réservoir de pensée, groupe d’experts, centre de reflexion, espace de réflexion, laboratoire d’idée.
[44]- ثمّة رأي شاذّ مفاده أنّ أوّل ظهور للثينك تانكس كان في بريطانيا، وحجّته أنّ كفاح بعض البريطانيّين ضدّ الرقّ بزعامة توماس كلاركسن (Thomas Clarkson) أدّى إلى تأسيس أوّل مركز رأي في العالم في 22 ماي 1878 تحت عنوان: «Committee for the Abolition of the African Slave Trade».
[45]- نجد لدى المترجمين (إلى الفرنسيّة) عبارات مِن قبيل: réservoir, bouteille, citerne, contenant
[46]- راجع على سبيل المثال:
Michael D. Rich, RAND:How Think Tank interact whith the military, U.S Foreign Policy Agenda, an Electronic Journal of the U.S department of State, vol.7, n°3, (2002), p. 22 -25.
[47]- بلغ عددها سنة 2013: 1828 مؤسّسة.
[48]- راجع حول تسليع الفكرة مثلًا مقال جون غودمان:
John C. Goodman, “What is a Think Tank?”, National Center for Policy Analysis: www.ncpa.org
وخاصةّ الفقرة الموسومة بـ:«Marketing ideas» والفقرة الموسومة بـ:.«Intellectual Entrepreneurs»
[49]- Derai, Thinks, 103.
[50]- نقلًا عن رايش أندرو (Rich Andrew) مِن دراسته:
«War of ideas: why mainstream and liberal foundations and the think tanks they support are losing in the war of ideas in American politics», Stanford Social Innovation Review, Vol.3, n°1, (2005), p. 25.
ويذكر رايش في هذا الصدد أنّ مؤسّسة (The Heritage Foundation) أنفقتْ على الإعلام والاتّصال سنة 2002 ثلثَ ميزانيّتها التي تُقَدَّر بـ: 33 مليون دولار.
[51]- أنهى فيليب كونراد (Philippe Conrad) مقالة له عن تاريخ النفط وصراع الشركات العالميّة عليه عنوانها: « Histoire et géopolitique du pétrole dans le golfearabo-persique » كما يلي:
«La région du Golfe – où se trouvent les deux tiers des réserves de pétrole connues et 31% des réserves de gaz – demeure un enjeu majeur pour l’hyper-puissance américaine : même si son économie ne dépend plus guère du pétrole de cette région, elle entend à terme contrôler le plus largement possible la production et la commercialisation d’une source d’énergie demeurée vitale et susceptible de fournir à la future Europe ou à la Chine de demain les moyens qui pourraient leur permettre de contester l’hégémonie du nouvel Empire mondial», in: Clio, octobre, 2002.
[52]- عن التنافس مِن أجل الاستحواذ على النفط مَنابعَ وأسواقًا يمكن العودة إلى: اندريهنوشي، الصراعات البتروليّة في الشرق الأوسط، ترجمة: أسعد محفّل، (بيروت: دار الحقيقة، 1971).
[53]- نحيل لمزيد التوسّع على: محمّد الرميحيّ، النفط والعلاقات الدوليّة، سلسلة عالم المعرفة، عدد 52، (الكويت: المجلس الوطنيّ للثقافة والفنون والآداب، أفريل 1982). اُنظر الفصل الثاني: الولايات المتّحدة والنفط.. القوّة والقدرة والحاجة.
[54]- صحيفة الاتّحاد الإماراتيّة، 10/ 04/ 2011.
[55]- صحيفة الاتّحاد الإماراتيّة، م.س.
[56]- محمّد السمّاك، إستراتيجيّة الربط العربيّة بين النفط والسياسة، (بيروت: مركز الدراسات الإستراتيجيّة للبحوث والتوثيق، 1991)، ص11.
[57]- عبارة «مِرجل الأحقاد» التي وصف بها نعوم تشومسكي الشرق الأوسط وجعلها عنوانًا للفصل السابع مِن كتابه: الهيمنة أم البقاء.. السعي الأمريكيّ إلى السيطرة على العالَم» تنطبق انطباقًا بارعًا على ما يربض في تجاويف هذه المنطقة مِن تعقيدات ومشكلات.
[58]- يقول جوزيف مايلا (Joseph Mayla) عن أحداث الحادي عشر مِن سبتمبر 2001: «إنّ خطاب المخيّلة (imaginaire) هو الذي أصبح سريعًا سيّد الوقف. إنَّ الرمزيّة التي جاء بها الحدث سحقت الحدث. كما لو أنَّ نوعًا ممّا وراء الحدث، قد جرف الحدث ليُظهر تحته تلك الطبقة القصصيّة-التاريخيّة (mythico-historique) المطمورة منذ أمد بعيد، والتي يقال إنّها الصراع المتجدّد أبدًا بين الغرب والإسلام. وهاتان الكلمتان جاء فكر ما، تبسيطيّ أو ماكر، بحسَب الظروف... ليبذل كلّ ما بوسعه ليُظهرهما كقطبيّتيْن متناحرتيْن ترسمان بنية الخوف مِن الآخَر»، محمّد أركون وجوزيف مايلا، مِن منهاتن إلى بغداد: ما وراء الخير والشرّ، دار الساقي، بيروت، 2008، ص10.
[59]- من الأسماء القليلة: إدوارد سعيد وهشام جعيط ومحمّد عابد الجابري.
[60]- «السرديّات الكبرى هي ذلك النمط مِن الخطابات التي تتمركز حول افتراضاتها المسبقة، ولا تسمح بالتعدديّة والاختلاف حتّى مع تنوّع السياقات الاجتماعيّة والثقافيّة، فضلًا عن أنّها تنكر إمكانيّة قيام أيّ نوع مِن أنواع المعرفة أو الحقيقة خارجها، وتقاوم أيّ محاولة للتغيير أو النقد أو المراجعة. تقف تلك الخطابات أو السرديّات الكبرى خارج الزمن، ولا تسمح بالشكّ في مصداقيّتها، وتصرّ على أنّها تحمل في داخلها تصوّرات شموليّة للمجتمع والثقافة والتاريخ والكون. ودائمًا ما تكون السرديّات الكبرى ذات طبيعة سلطويّة وإقصائيّة تمارس التهميش ضدّ كل أنواع الخطابات الأخرى الممكنة»، نقلًا عن: معن الطائي(وآخرون): «الفضاءات القادمة..الطريق إلى بعد مابعد الحداثة”،(القاهرة: مؤسسة أروقة للترجمة والدراسات والنشر، 2012).
[61]- يبدو أنّ فرانسوا ليوتار (François Lyotard) كان أوّل مِن أذاع هذا المصطلح في كتابه:
Jean-François Lyotard, La Condition postmoderne : Rapport sur le savoir, (Paris: Minuit, 1979).
[62]- يعود الفضل في نشأة هذا الفرع مِن الدراسات مابعد الكولونياليّة إلى مجموعة مِن الباحثين الهنود في سبعينيّات القرن العشرين. وتُعَدّ دراسة جاياتري سبيفاك (Gayatri Chakravorty Spivak): «هل يمكن للتابع أنْ يتكلّم» (Can the subalternspeak?) واحدة مِن الدراسات المؤسِّسة. نُشرتْ هذه الدراسة في كتاب جماعيّ:
Marxism and the Interpretation of Culture ,(Chicago: University of Illinois Press, 1988), pp. 271- 313.