البحث في...
عنوان التقرير
إسم الباحث
المصدر
التاريخ
ملخص التقرير
نص التقرير
 أسلوب البحث
البحث عن اي من هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على كل هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على هذه الجملة

February / 18 / 2020  |  1299حداثة ضد الحداثة، الغرب في حداثته وما بعد حداثته وأمبرياليته

موريس گنينغ - Maurice Gning المركز الاسلامي للدراسات الاستراتيجية خريف 2019 م / 1441 هـ
حداثة ضد الحداثة، الغرب في حداثته وما بعد حداثته وأمبرياليته

تناقش هذه المقالة للباحث والأكاديمي السنغالي موريس غنينغ إشكالية ما بعد الغرب من زاوية نقد الحداثة بأطوارها المتعدِّدة، ولا سيما في طورها الأمبريالي المعاصر. يبيِّن الكاتب أن الهدف الأساس من هذه الدراسة هو الإضاءة على العلاقة الوطيدة بين “الحداثة”(modernité) و”ما بعد الحداثة” (postmodernité)، وهما تيّاران فكريّان غالبًا ما يُصوَّران باعتبارهما متضادَّيْن.إلَّا أنه يحاول أن - بحسب الكاتب- يثبت أنّ التباين المُدَّعى بين هاتين الإيديولوجيتين هي شكليِّةٌ فقط، ذلك أنَّهما تسعيان خلفَ الغاية نفسها، وهي تنفيذ المشروع الأمبريالي. ولئن كانت الحداثة هي مشروع أوروبا الاستعمارية في حقبة الثورة الصناعية، فإنّ ما بعد الحداثة هي مشروع أميركا الاستعمارية الجديدة (néo-colonialiste) في زمن العولمة. هذه مثل تلك، وكلتاهما ناقلةٌ للفوضى العامّة (chaos universel).

المحرر


في هذه الدراسة، نصُبُّ اهتمامنا على تيّارين فكريّين هما: “الحداثة” و ”ما بعد الحداثة”. هذان التياران كثيرًا ما يُسمَّيان أيضًا “الحداثويّة” (modernisme) و ”ما بعد الحداثويّة” (post-modernisme). غير أن هاتين الكلمتين تُحيلان، عمومًا، إلى الحركات الفنّية المرتبطة على التوالي بالتياريْن الفكريَّيْن “الحداثي”و”ما بعد الحداثي”. ولأجل تجنّب الالتباس مع الأبعاد الفنّية التي تتضمن كلاً منهما، فقد ارتأينا هنا استخدام كلمتيْ “الحداثة”و”ما بعد الحداثة”.

تستمدُّ ”ما بعد الحداثة” معناها من نقدها للطبيعة الأورومركزية (eurocentrique) والهيمنيّة لـ”الحداثة”، فتُزيح أسُسها المعرفيّة لتطرح من بعد ذلك نمطًا جديدًا من الحياةِ والفكر يحترم التعدُّد في الرؤى الكونيّة. وهذا ما قاد شريحة من النُقّاد إلى معارضة هذين الفكرين الغربيّيْن، سواءً في مبادئهما أم في توجُّههما.

بما أنّ”ما بعد الحداثة” قد تأسّست ضد أمبريالية “الحداثة”، وبسبب دحضها لخطابها المُجمِّعُ (totalisant)، فإنّها تُعطي الانطباع بأنها إيديولوجيا تحريريّةٌ. على الرغم من ذلك، فإن النظر الفاحص والأقرب إلى الدقة، يجعلنا نتبيَّنُ أن “ما بعد الحداثة” تندرج في المنطق الأمبريالي نفسه لـ”الحداثة”.

من خلال الحفر في التاريخ، وفي البيئة الجيوسياسة والثقافية، وفي أفكار منظِّري هذين التيارين الفكريّين ونُقّادهما، وبالذات أفكار الماركسيين و”ما بعد البنيويِّين” مثل ليوتار، وديريدا، وفوكو، فإنّ هذا العملَ قد حدَّد لنفسه هدفَ إثباتِ أنّ بين هذين التيارين الإيديولوجيَّيْن علاقةٌ وطيدةٌ جدًّا. فهما في الواقع، رؤيتان أمبرياليتان لا تختلفان، في النظر إلى بعض الحقائق التاريخية سوى في الشكل. بالإضافة إلى ذلك، سوف نرى كيف أنّ نمط الحياة الذي تطرحه “ما بعد الحداثة” يُمثِّل أداةً فعّالةً لفرض رؤيةٍ أُحاديّة ناقلةٍ لفوضًى عامّةٍ، من المرجَّح أنها أسوأ من الفوضى التي سبّبتها”الحداثة”.

“الحداثة”الهيمنيّة ونتائجها الكارثيّة:

“الحداثة” هي تلك الإيديولوجيا الغربية التي وُلدت مع بداية عصر النهضة، وحلّت محلّ إيديولوجيا القرون الوسطى. لقد ساهمت النظريات والاكتشافات العلمية العديدة التي عرفها القرنان الخامس عشر والسادس عشر، في حدوث تغيّرٍ كاملٍ في النظرة الغربية للعالم. ومُذّاك لم تعد الكنيسة الكاثوليكية مع عقائدها “الخاطئة علميًّا”، هي التي يجب أن تقود الفكرَ والفعلَ الإنسانيّين، بل بالأحرى العقل الذي هو الميزة الجوهرية للإنسان.

بفضل نور العقل (raison)، وهو القوّة الرشيدة (bon sens)، الذي قال عنه ديكارت إنه “الشيء الأحسنُ توزيعًا في العالم”، اعتبرت “الحداثة الغربية” أن عليها واجب القضاء على الظلاميّة والجهل. كما أنها بتفانيها في رفض الخضوع، بلا تبصُّرٍ، للعقيدة الوثوقية الجازمة (dogme) وللسلطة، شجّعت حرية الرأي والمعرفة العلميّة، كشرطين ضروريين وحيدين لبناءِ عالمٍ تسودهُ العدالةُ والمساواةُ والحريةُ والانضباط. ذلك العالم، كما صوّرتهُ الحداثة، هو عالمٌ يستطيع فيه الفرد أن يتكامل في شخصيته، وأن يتصالح مع ذاته ككائنٍ عالميٍّ، وبالتالي كـ “ذات- في- العالم (sujet-dans-le-monde)، يشعر أنه مسؤولٌ عن نفسه وعن المجتمع”، حسب تعبير آلان توران (2000TOURAINE,).

إنّ الفكر “الحداثيّ”، من خلال اعتباره أن الاستعمال الصارم للعقل هو السّبيل الوحيد لبلوغ الجنس البشريّ الحالة المُثلى للتقدّم، قد صاغ رؤيته العقلانية قانونًا عامًّا (loi universelle). وبالاتكاءِ على خطابٍ تبريريٍّ، باشر بتسقيط وإبطال واستبعاد جميع الرؤى الكونية الأخرى، بما هي رؤىً غير متوافقةٍ مع المبادئ العقلانية. فلقد اُعتُبرت تلك الرؤى ظلاميّةً وبدائيةً وهمجيّةً ورجعيّة، مثلما اعتُبرت الشعوبُ التي تحملها شعوبًا تتطوّرُ على هامشِ التاريخ. بهذا الصدد، فإنّ الحكم المشهورَ الذي أصدرهُ هيغل (HEGEL, 2007) عن القارّة الأفريقية، لا يحتاج إلى أيِّ تعليق:

“تلك القارة [الأفريقية] ليست ذاتَ أهميّةٍ من وجهة نظر تاريخها الخاصّ، بل من وجهة أنّنا نرى أنّ الإنسان (الأفريقي) يعيش حالةً من الهمجيّة والتوحّش ما زالت تمنعه من الانخراط في الحضارة. ظلَّت أفريقيا منذ العصور المُوغِلة في القِدم، منغلقةً، وبلا علاقاتٍ مع بقية أرجاء العالم؛ إنّها بلادُ الذهبِ، المُنكفِئةُ على نفسها، بلادُ الطفولة [الإنسانيّة]التي ظلَّت، في ما وراء التاريخ الواعي، متّشحةً بلون الليل الأسود”.

هيغل، مفكرُ جدل (ديالكتيك) التاريخ، هو أحدُ أهم المنظِّرين المجسِّدين للتيار “الحداثي”. وجهة نظرهِ حولَ هذه القارة تعكس تمامًا روح هذه الإيديولوجيا التي تقرن أفريقيا بالظلمات، وبعصر الطفولة (الإنسانية)، أو بـ “تابولا رازا” (tabula rasa). بعبارةٍ أخرى، إنها إيديولوجيا تقرن القارة الأفريقية بعذريّة العقل البشري.

إن “الغربَ الحداثيَّ”، في مسعاهُ لتحقيق خلاص المجتمعات (universalité des communautés) اعتقد أنهُ من الضروريّ نقلُ أنوارِ عقلهِ إلى جميعِ الشعوب “التي لا تزال غارقةً في الظُّلمة والجهل”، وأنّه من الضروريّ التعجيل بإدماجها في الحداثة والتاريخ. تلك هي الرؤية التي بُرِّر بها المشروع الاستعماريُّ الغربيُّ “لصالح” الشعوب “الهمجيّة” في أفريقيا، التي وجدت نفسها، بالتّالي، خاضعةً لتمرين “الحضارة”.

بشكلٍ غريبٍ جدًّا، كان للغرب، الذي جاء لـ “حضرنة الهمَج” (civiliser les barbares)، كان له، بشكلٍ جليٍّ جدٍّا انشغالاتٌ أخرى حقيقيةٌ أكثر. إنّ البلدان المكوِّنة للغرب كانت مندفعةً في أغلبها، في مشروع توسيع حيِّزها الجغرافيّ في سياقٍ ماركنتيليٍّ. أسفرت تلك السياسةُ التوسُّعيّة عن ولادة الأمبراطوريات الأوروبية الكبرى للقرنين السادس عشر والسابع عشر، التي تكوّنت في أميركا والمحيط الهادئ. في القرن التاسع عشر، عرفت أغلب تلك البلدان الأوروبية الثورة الصناعية. ولكونها مُصنَّعة وفيها فائضٌ من السكّان، كانت تلك الدولُ بحاجةٍ إلى الموادِّ الأوّليةِ لصناعاتها، وإلى الأراضي لاستيعاب فائضها من السُّكان، وإلى سوقٍ كبيرةٍ لتصريف منتوجاتها الصناعية. لقد ساهم الحراكُ الثوريُّ لـ 13 من المستعمرات الإنگليزية في أميركا، والذي أدّى إلى الاستقلال سنة 1783م، باسم الولايات المتحدة الأميركية، في تسريع تحرير المستعمرات الأخرى في القارّة [الأميركية].

انعطف المستعمرون، بعد خسارتهم لهذه المستعمرات، نحو أفريقيا وآسيا لأجل تجديد بناء أمبراطورياتهم. كانت تلك هي المرحلةَ الثانيةَ من الاستعمار، والتي لخّص دافعَها، الاقتصاديَّ أساسًا، رجلُ الدولة الفرنسيّ جول فيرّي (Jules FERRY) في قوله: “إن السياسة الاستعمارية هي بنت السياسة الصناعية”. وهذا يعني أنّ الأطروحة الإنسانية والإيديولوجية لم تكن سوى غطاءٍ كان الغرب قد أخفى تحته مشروعَه الأمبرياليَّ. على كلِّ حالٍ، فإنّ”رسالة الحضرنة” (mission civilisatrice) قد تبيّن أنّها كانت مَسًّا خطيرًا بكرامةِ الإنسانِ الأسود، وأنها قد جرّدته من جوهره على المستويَيْن الثقافيّ والاقتصاديّ.

انحرافات الماركسية

بالتوازي مع ذلك الخطاب العقلانيّ الذي قُرنَ غالبًا بالرأسماليّة، والذي مَثّل القاعدةَ لإخضاع شعوب أفريقيا وآسيا، ظهرت سرديّاتٌ مُعمِّمةٌ أخرى بإمكاننا أن نُدرج في صفوفها الاشتراكية والماركسية-الشيوعيّة. تلك السرديّاتُ العظمى (métarécits)، وبوصفها خطاباتٍ تقدميّةً، ناقلةً لمشاريعَ تحريريّةٍ للإنسانيّة، هي مُكوناتٌ للفكرِ”الحداثي”، وإن كانت متناقضةً جذريًّا مع توجّهه الرأسمالي.

يُمكننا أن نُضيف إلى الاشتراكية وإلى الماركسية-والشيوعيّة، خطاباتٍ أخرى، ستنحرف سريعًا، للأسف، عن خطوطها الإيديولوجية لتتحول إلى أدواتٍ استبداديّةٍ حقيقيّةٍ، هدفها الوحيد هو تحقيق الأهداف المُدمّرة المشؤومة لأصحابها. لقد أدّت إلى ولادة أشنع الأنظمة الشموليّة الاستبداديّة، التي لم يسبق للعالم أن عرفها طيلة تاريخه، مثل النظام الستاليني في الإتحاد السوفياتي، والنظام النازي في ألمانيا، اللذيْن كانا مشؤوميْن على البشريّة جمعاء.

تلك النظريّات المُتِّسمةُ بعمقٍ بسِمتَيِ الهيمنةِ والعنف، والقائمةُ على مقاييسَ لإقصاءِ قسمٍ معيَّنٍ من الأفراد والطبقات الاجتماعية، تلك النظريات كانت هي المرتَكز الإيديولوجيّ لأعمالٍ إباديّةٍ مجنونةٍ من قبل ألمانيا النازيّة،  والـ”الگُولاگ” (Goulags) التي أباد فيها النظامُ الشموليُّ السوفياتيُّ 10 ملايينِ إنسانٍ، بالذات من المعارضين لنظام ستالين الاستبداديّ. عِلاوةً على ذلك، فإنّ السياسة التوسّعية لتلك الأنظمة الديكتاتورية، وخصوصاً النظام النازيّ الألمانيّ، كانت أحد أسباب اندلاع الحرب الأكثر دمويّةً وتقتيلًا في تاريخِ البشرية، وهي الحربُ العالميةُ الثانيةُ، التي قُدِّرت الخسائر البشريّة فيها بأكثر من 60 مليون قتيلٍ.

كوارثُ الاستعمار، وولادةُ الأنظمة الشمولية الاستبدادية التي خلّفت نتائجَ مأساويةً، وفظاعاتُ الحربين العالميتين الأولى والثانية، التي تفاقمت بسبب استعمال أسلحة الدمار الشامل المُنتَج المباشر لتقدم العلم والتقنية، والتدميرُ المتصاعد للبيئة التي تتعرّض لتلوثٍ مستمرٍّ، والحربُ الباردةُ بين القوتيْن العظميَيْن الأميركية والسوفياتية، والسباقُ في إنتاج السلاح النووي الذي يعرّض، بشكلٍ مستمرٍّ، الحياة على الأرض للخطر، كان هذا، باختصارٍ الحصادَ الثقيلَ للحداثة الذي لوّث نقاء صفحة تقدّمها التكنولوجي الهائل، ما سبّب شعورًا عامًّا بإحباطٍ عميقٍ. وهذا ما يظهر في هذا الجدول القاتم الذي صاغه روزنو (ROSENAU, 1992:5):

“دخلت الحداثة التاريخ كقوة تقدميةٍ واعدةٍ لتحرير البشرية من الجهل واللَّاعقلانية، ولكن يمكن للمرء أنْ يتساءل بسهولةٍ عمّا إذا كان هذا الوعد قد تم الوفاء به. والآن نجد في سجلِّ”الحداثة”، الحربين العالميتيْن، وصعود النازية، معسكرات الاعتقال والإبادة الجماعية، الاكتئاب في جميع أنحاء العالم، و]الحروب المدّمرة والدموية جدًّا [... هيروشيما، وفييتنام، وكمبوديا، والشرق الأوسط...، واتساع الفجوة بين الأغنياء والفقراء. وهذا مايجعل أيَّ إيمانٍ بفكرة التقدم أو الإيمان بالمستقبل مشكوكًا فيه].

وكما لفتَ الانتباهَ المدافعون عن الماركسية، الذين يشيرون بإصبع الاتهام إلى الروح الرأسمالية، فإن المجازر المرتبطة بالحروب وبأعمال الإبادة التي قامت بها الأنظمة الشمولية في القرن العشرين قد تسبّبت في “قطيعةٍ نوعيةٍ في المسار التاريخي للحضارة الرأسمالية”. وبشكلٍ شبه سحريٍّ، يبدو أنّ الهمجيّة، في شكلها الأسوأ، قد انبثقت من نمط الحضارة الذي كان الغرب يفرضه على الشعوب المنعوتة بالهمجية. يبدو أن تيودور أدورنو(ADORNO) قد أدرك ذلك جيدًا، إذ وصف المجازر النازية بأنها “همجيّةٌ تندرج في جوهر الحضارة نفسه”.

في سياق البحث عن التقدّم، تحت قيادة الغرب العقلاني وهديه، وصلت البشرية إلى تلك الأحداث المأساوية التي أفقدت “الحداثة” كلّ مصداقيّةٍ. وأدّى ذلك الفقدان إلى “قطيعةٍ معرفيةٍ” (rupture épistémologique) حسب تعبيرغاستون باشلار. يجب، إذًا، تصوّر العالم بشكلٍ مغايرٍ، وإعادة التفكير في القرن الحادي والعشرين، وفي أسس الحضارة نفسها، وفق رأي (المؤرخ) أونزو ترافرسو(Enso TRAVERSO). ينبغي ابتكار أفكارٍ جديدةٍ، لأنّ “الأفكار هي التي تحكم العالم”، كما قالت جاكلين روس (Jacqueline RUSS). لكن هل بقي للغرب الشجاعة والقوة لابتكار إيديولوجيَّاتٍ جديدةٍ قابلةٍ بعدُ للتطبيق على البشرية جمعاء؟ كلُّ شيءٍ يدفع إلى الاعتقاد بأن هذا الأمر أصبح أضعفَ احتمالًا. لقد اكتفى بجني نتائج إخفاق الحداثة؛ إنه إخفاقٌ اتخذه الغرب، على الرغم من ذلك، نقطة انطلاقٍ لتأسيس نماذجَ إرشاديةٍ (paradigmes) جديدةٍ، أي رؤيةٍ كونيةٍ سمّاها “ما بعد الحداثة”، التي يُعرّفها أحد منظِّريها الأوائل والأشهر، جان- فرانسوا ليوتار، بأنها “وضع المجتمعات التي خاب أملها في الحداثة”. وبالتالي، فإن هذا التيار الفكري الجديد يندرج في سياق منطق الإدانة والرفض للأسس المعرفية لـ”الحداثة”.

النّقدُ”ما بعد الحداثويّ” للقواعد الأساسية لأمبريالية “الحداثة”:

لا تقتصر “ما بعد الحداثة” على ملاحظة التفسّخ الذاتي لمُثُل “الحداثة”. يشرّح المفكرون “ما بعد الحداثيون” الخطابَ النّاظِمَ لهذا التيار الإيديولوجي (“الحداثة”) من أجلِ كشف طبيعته وغرضه. إحدى النتائج الهامّة التي نجمت عن تحليلاتهم، هي أنّ”الحداثة مشروعٌ ذو هدفٍ أمبرياليٍّ في جوهره”. وكما يؤكّد تورنبال (TUTNBELL 2010:6) فإنّ “مفكري”ما بعد الحداثة” يؤكدون أن العقلانية ليس لها أسسٌ ثابتةٌ، وهي نفسها ليست سوى واحدةٍ من السرديات الموجودة. ومن ثَمّ، فقد بيَّنوا أنّ التنوير ليس مشروعًا عامًّا للنهوض بالمعرفة، وإنما هو أداةٌ للسلطة”.

يعتبر المفكرون “ما بعد الحداثيون” أنّ الإيديولوجيا العقلانيّة ليست سوى سرديةٍ مسيحيّةٍ لا أساسَ آخرَ لها سوى الرغبة، غير المعلنة، في السيطرة. بالنسبة إلى هؤلاء المفكرين فإنّ التسلط الذي يتضمّنهُ الخطاب “الحداثوي” موجودٌ في جوهر القاعدة التأسيسية لهذه الإيديولوجيا، أي موضوع العقلانية. هذه الذات المستقلّة، التي تؤسس وجودَها على وعيها الخاص، تفترض مبدئيًّا أنّ العالم الخارجي هو موضوعٌ يحتّم عليها الواجبُ الفعل فيه. يعتبر “ما بعد الحداثويون” أن هذه “العلاقة الذات-الموضوع، في صلب الحداثوية، هي التي أنتجت علاقة “المُسيطِر المُسيطَر عليه” (dominant-dominé)، و”السيّد ـ العبد”(maître-esclave) (37، KOM).

تلك الرغبة الهيمنيّة للذات “الحداثية” كان قد عبّر عنها بوضوحٍ أحدُ آبائها المؤسِّسين، ريني ديكارت(DESCARTES)، لمّا ألزم “الذات العقلانية” بأنْ تكون “سيدًا ومالكًا للطبيعة”.

إن المشروع الطامح لتملّك العالم كان قابلًا للتحقّق إلى الحد الذي جعل “الحداثويين” يعتبرون أن العقل قادرٌ على إدراك الحقيقة، والوصول إلى معرفةٍ تجريبيةٍ وموضوعيةٍ وعامةٍ. هذه هي، بالذات، المُسلَّمة القاعديّة التي صوّب عليها “ما بعد الحداثيون” سهام نقدهم. انطلاقًا من رؤية أن العالم متنوّعٌ ومُنقسمٌ “ومتغيّرٌ”، رفضوا الرؤية الوجودية التي تعتبر أن الذات العقلانية قادرةٌ على الوصول إلى معرفةٍ موضوعيةٍ بالواقع الخارجي. إضافة إلى ذلك، وبناءً على أفكار نيتشه وفرويد، أنكروا أيّ استقلاليةٍ للذات التي اعتبروها محكومةً بقوًى نفسيّةٍ، وببنًى خارجةٍ تمامًا عن سيطرتها. لا يمكن للذات الوصول إلى حقائق الأشياء، ولا يمكنها بالتالي تكوين معرفةٍ موضوعيةٍ ومحايدةٍ. كلُّ معرفةٍ هي، إذًا، نسبيّةٌ، وهذا ما ينسف كل رؤيةٍ مُجمِّعة (conception totalisante) للعالم.

هذا النقد الموجَّه للذات “الحداثية” كان في صميم أعمال فكرية لمثقفين فرنسيين من اختصاصات مختلفة، جُمعوا تحت اسم عامٍّ، هو”ما بعد البنيويون”(post-structuralistes). يُمثّل جاك ديريدا وميشال فوكو وجان بودريار، وجان-فرانسوا ليوتار وجاك لاكان ورولان بارت وجيل دولوز، أهمَّ]المفكرين[“ما بعد البنيويين”، أو المدافعين عما يُسمّيه العالَمُ الإنغلوساكسونيُّ بـ “النظرية الفرنسية” (French theory)، ويُعتبر هؤلاء المفكرون، خطأً أو صوابًا، الممثلين للتيار”ما بعد الحداثي”. لقد كانت المبادئ “ما بعد البنيوية”، دائمًا، نواة الفكر “ما بعد الحداثي”.

من خلال الهجوم على مزاعم الذات العقلانية بأنها مستقلةٌ وشفّافةٌ، ومنطقية، وموضوعيةٌ، وعامةٌ، اقتلع “ما بعد البنيويون”، في البداية، الخطاب “الحداثي” من “قاعدته الأساسية”، ثم أفرغوه من مادته الجوهرية، للوصول في النهاية إلى إبطاله. بل أكثر من ذلك، لقد حرصوا على بيان أن الإبستمولوجيا (علم المعرفة) “الحداثية”، من خلال تحويلها افتراضاتٍ ذاتيةً خالصةً إلى قواعدَ عامةٍ (règles universelles)، قد انكشفت حقيقتها بوصفها أداةً سلطويةً. وهكذا صبّوا جهدهم بقوة على تفكيك تلك الإيديولوجيا. ويندرج مشروع ديريدا وفوكو في سياق هذا المشروع التفكيكي.

ينطلق ديريدا، تمامًا كما يفعل أقرانهُ “ما بعد البنيويون”، من مجموعةٍ من الوقائع التي تنسف الأساس نفسه للفكر “الحداثي”. أوّلًا، هو لا يعتبر أنه توجد حقائقُ خارجَ اللغة، وبالتالي، فإن اللغة هي، بامتيازٍ، الوسيلة التي بواسطتها تقوم الذات بتصوّر الواقع والتعبير عنه، في سعيها للتأثير فيه. من جانبه، يؤكد نيتشه “أنّ كلّ فكرٍ واعٍ متعذِّرٌ من غير مساعدة اللغة” (MARTON, 2012:227). والحال أنّه يستفاد من تحليلات العديد من المفكرين، بمن فيهم نيتشه نفسه، أنه”بالنظّر لتعذّر إدراك الشيء في ذاته، فإنّ الكلمات عاجزةٌ عن مطابقة الأشياء ذاتها”.

وبما أن اللغة ليس بإمكانها أن تُترجم الواقع بشكلٍ ملائمٍ، فإنّ”ما بعد البنيويين” لا يرون فيها سوى كونها أداةً في خدمة مصالح هؤلاء أو أولئك، لا سيما أنها محكومةٌ ببنًى تتعالى عن الذات نفسها. ديريدا، وهو معضّدٌ بهذا المبدأ، يُخضِع الميتافيزيقا الغربية للتحليل النقدي لكي يزيح القناع عن المبادئ الإيديولوجية التي تحملها. وذلك من أجل الوصول في النهاية إلى إثبات أنها في جوهرها تتّسم بالمركزية العقلية (اللوغومركزية(logocentrisme -، أي أنها قائمةٌ على مركزية العقل (logos) أو العقل المنطقي الغربي.

يحدد هذا العقل المنطقي عددًا معيّنًا من المعايير، ثم يقوم، بواسطتها، بتعريف نفسه، وبتشخيص ذاته، ثم، بالنتيجة، التميُّز عن باقي أشكال التفكير. طرح الغرب عقلانيته على أنها حقيقةٌ مطلقةٌ، من خلال تعديتها من القيمة التجريبية إلى القيمة المعيارية، أي من “كونها نقدًا لما هو كائنٌ إلى كونها نقدًا لما يجب أن يكون، بالنظر إلى ما هو كائن (2000:3TIMMERMANS,). يلفت المفكرون “ما بعد الحداثيون” الانتباه إلى أن مرور الذات العقلانية من القيمة التجريبية إلى القيمة المعيارية كان ناتجًا من سعي الغرب إلى إقامة نظامٍ معيّنٍ في العالم، “بعد أن فرّغه من كل تماسكٍ وجوديٍّ مستقرًّ” (BAUDRILLARD, 2012:36)، وأعاد إدخاله في الفوضى البَدْئية الفوكُووِيّة(chaos original foucauldien)، بواسطة الكوجيتو(cogito) الديكارتي الذي كان قد اقتلعه من قاعدته الميتافيزيقية ثم، لاحقًا، من ركيزته الدينية.

الحداثة بما هي تشطير للوجود

إن رسالة نظْم في العالم (ordonnancement du monde)، وبعبارةٍ أخرى، إنّ رسالة السيطرة التي اضطلعت بها “الحداثةُ”، تعني الفصل بين العناصر المكوِّنة للوجود، والتمييز بينها، وترتيبها (hiérarchiser) دائمًا وفق خطّة عملٍ قائمةٍ على المنهج التجريبي. يوضح بودريار ذلك بشكل جيد جدًّا (BAUDRILLARD, 2012: 36):

“لقد وجب، إذًا، على ديكارت للوصول إلى الذات المستقلة والتي هي المقياس لكل شيءٍ، أن يصوغ نوعًا من السيرورة التنظيمية، قائمةٍ على التفريق، والتقسيم، والفصل، والإقصاء. من الظُّلمة الأوّلية التي يُغرِق فيها الشكُّ المُفرِط (doute hyperbolique) جميعَ الموجودات. كان يجب على ديكارت، ونقول هذا بشكلٍ تبسيطيٍّ جدًّا، أن يعمد إلى التمييز بين المادة غير العضوية والمادة العضويّة، ثم أن يصوغ سلسلةً ثانيةً من التفريقات بين النباتي والحيواني والإنساني؛ثمّ مع الوصول إلى الإنساني، وجب عليه أن يقوم بتمييزاتٍ جديدةٍ بين شعور (وعي، عقل/ conscience) الإنسان وجسمه الذي ينسبه إلى المادة، ثم ومن خلال تمييز الإنسان النائم (وبالتالي الفاقد للوعي والشعور) والمجنون (العاجز عن استعمال عقله) عن الإنسان المستيقِظ المتمتّع بالعقل (القادر، بالتالي، على القيام بتجربة الكوجيتو). إنّ الذات الديكاريتية، بما هي عقلٌ (logos)، تنهل من العقل الإلهي (Raison Divine)، وهي بذلك قريبةٌ جدًّا من الله في الترتيب العظيم للكائنات”.

حسب ديريدا، إن مثل هذا الترتيب (hiérarchisation) يخترق التاريخ الفلسفي الغربي من أوّله إلى آخره من خلال الأولوية التي يوليها للمفهوم الحامل والمديم لمركزية العقل (logocentrisme) على حساب ذلك المفهوم المضادّ له، والذي، وللمفارقة، يعطيه المعنى. مثلًا، في نصٍّ مندرِجٍ في السجل العقلاني، “الأبيض” يُعلَى من شأنه، بشكلٍ منهجيٍّ، حيث (يُضادُّ) مع “الأسود”، و”المركز” (centre) مع الطّرَف (périphérie) و”الحضارة”(civilisation) مع “الهمجية” (barbarisme) و”الغنيّ” مع “الفقير”، و”النظام” مع “الفوضى”، و”المستقِرّ”، مع “غير المستقِرّ” و”المتجانس” (cohérent) مع “غير المتجانس” (incohérent)،إلخ. يعتبر ديريدا أن هذه المقابلة (المضادّة) الثنائية (binaire) خدّاعةٌ، بما أن أحد طرفيْها لا يمكن تصوّره، ولا يمكن أن يوجد من دون مقابِله. فضلًا عن ذلك، فإن الكلمة فاقدةٌ للمرجعية الذاتية (n’est pasautoréférentiel)، فتأويلها مفتوحٌ على احتمالاتٍ عدةٍ وليس جامدًا.

إن تفصيل معنًى على حساب آخر، يعني تقديم الرأي الشخصي حول العالم إلى الواجهة، بشكلٍ تعسّفيٍّ. حسب الرؤية الدِّيريديّة، تلك هي خطيئة الغرب التي لم يكفَّ عن اقترافها منذ أمدٍ طويلٍ، والتي يجب التعجيل بالتطهّر منها. ذلك هو الغرض الذي يحدّده ديريدا لبرنامجه التفكيكي الواسع، والذي يتمثّل في ملاحقة آثار اللوغوس في الكلمات التي تكوّن البنية الأساسية للفكر الغربي، من أجل تفكيك المنطق التراتبي الذي يتضمّنه، وهدْمه، وكشْف لا تجانسَه وتناقضَه واللّامعنى الذي يقود إليه، وكلَّ الذاتية التي تتعلّق به. وهو يُفقد الكلمات سكونها الإيديولوجي، ويلعب على مرونة معانيها، بنقله المتواصل لتلك المعاني عبر زحلقاتٍ دلاليةٍ (glissements sémantiques). وبفعله هذا يفتح الطريق لآفاقٍ متعددةٍ من الدلالات كاشفًا، وهادمًا في الوقت نفسه، لخديعة اللوغوس (l’imposture du logos). إن اللوغوس الغربي، ونظرًا لفقدانه الكفاءَة المرجعيةَ، لا يُتقن سوى خلق واقعه الخاص، أي ذاتيّته الخاصة، مع ادعاء أنه موضوعيٌّ، وأنه يرتكز على منهجٍ علميٍّ منزَّهٍ عن الخطأ.

بالنسبة إلى فوكو بالذات، تلك الحقيقة العلمية ليست فقط تخطِئ، بل هي، في جوهرها، موقِعةٌ في الخطأ. فوكو،     متكئاً - مثل ديريدا- على الارتيابية(scepticisme) نفسها إزاء اللغة في قدرتها على التعبير عن الواقع، يعتبر أن الخطاب العقلاني للتيار “الحداثي” لا يملك أيَّ أساسٍ موضوعيٍّ. ومنهجه النَّسَبيّ (الجينيالوجي - (généalogique، الذي يُقرّبه من نيتشه، سمح له باستنتاج أنّ كل عصرٍ يُنتج خطابًا متجانسًا انطلاقًا من مجموعةٍ من معارف ذلك العصر، يسميها “الإبيستام” ((épistémè. بعبارةٍ أخرى، كلُّ عصرٍ يُنشئ إطارًا عامًّا ينتشر في خضمّه الخطاب المعياري الذي يحدد ما يجب أن يُقال وما يجب أن يُفعل. إنّ الحداثة، بما هي خطابٌ إيديولوجيٌّ قائمٌ على العقلانية، تمثّل أحد الأزمنة الإبستمية (moments épistémiques) للغرب.

ثم يوضح فوكو أن “الإبيستامات” متغيرةٌ، وظرفيةٌ، واتفاقيةٌ، وذاتيّةٌ. والهدف الوحيد من وجودها هو تنظيم الفوضى التي هي جوهريةٌ في الوجود البشري، وأن تَفرض بالتالي النظام، وبذلك فإنها ناقلةٌ للسلطة. ويوضّح أن هذا الخطاب المعياري ينبثق من الطبقة الحاكمة. هذه الطبقة، بتعريفها لحدود المعرفة، وفي غير براءةٍ من مصلحةٍ أنانيةٍ، تفرض معاييرها وتوطّد سلطتها كطرفٍ وحيدٍ مالكٍ للحقيقة، التي يجب على الجميع الخضوع لها. مَن يملكْ تلك الحقيقة يملكْ، في الوقت نفسه، السلطةَ. ويُعبّر فوكو، في كتابه “المراقبة والمعاقبة”(Surveiller et Punir) عن تلك العلاقة الجدلية بين المعرفة والسلطة، عبر تلك الصياغة المشهورة:

“لا وجود لعلاقةِ سلطةٍ من دون تكوينِ مجالٍ معرفيٍّ، كما لا وجود لمعرفةٍ لا تفترض ولا تُكوّن، في الوقت نفسه، علاقاتِ سلطةٍ”.

بالنظر إلى ذلك، فإن المعرفة المرادفة للحقيقة، في العصر الحديث، هي، كما سيقول ليوتار لاحقًا، متأصلةٌ في اللعبة العلمية. إنّ العلم، في مسيرته المنهجية والموضوعية، هو الذي يُثبت صدق أيِّ خطابٍ.

وعبر منظار هذا “الإبيتسام” القائم على أرضية العقلانية، همّش الغربُ جميعَ الخطابات الخارجة عن إطاره النظري، ثم عرّضها للسخرية، مُقترفًا بذلك عدوانًا ثقافيًّا حقيقيًّا، ما زالت الشعوب-الضحية تحمل آثاره. ومن المفيد القول أن المعاينة التي تنضح مرارة، والتي قدّمها إيمي سيزار(Aimé CESAIRE) في كتابه “خطابٌ حول الاستعمار” (2004، CESAIRE)، تعطينا فكرةً أدقًّ عن ذلك:

“أنا أتكلم عن مجتمعاتٍ قد أُفرغت من ذواتها، وعن ثقافاتٍ قد قُتلت ومُثِّل بجثثها، وعن مؤسساتٍ قد لُغمت، وعن أراضٍ قد صودرت، وعن أديان قد اغتيلت، وعن أعاجيبَ فنّيةٍ قد دُمِّرت، وعن إمكانياتٍ خارقةٍ للعادة قد أُزيحت. يَحْشون رؤوسنا بوقائعَ، وبإحصائياتٍ، وبكيلومتراتٍ من الطرق الممدودة، ومن القنوات المبنيّةِ، ومن طرق السكك الحديد المُقامة. أنا أتكلم عن آلاف الرجال الذين راحوا ضحايا في إقامة خط السكة الحديد بين الكونغو والمحيط الأطلسي، أنا أتكلم عن أولئك الذين، وأنا أكتب الآن، هم منهمكون في حفر ميناء أبيدجان بأياديهم، أنا أتكلم عن الملايين من الناس الذين جُرِّدوا من آلهتهم، ومن أرضهم، ومن عاداتهم، ومن حياتهم... جُرِّدوا من الحياة، ومن الرقص ومن الحكمة”.

لقد كشف فوكو، بتحليله للأوضاع التاريخية لنشأة الخطابات الإيديولوجية، عن جوهرَها الهيْمنيَّ(essence hégémonique) وخصوصاً عن طابعَها التعسفيَّ. كما بيّن أيضًا كيف أن تلك السلطة، الجلية في جميع المستويات الاجتماعية، وفي كل مناحي الحياة، ومن خلال اندماجها في اللغة، هي متضمَّنةٌ في، ومدعومةٌ مِن قِبل، منظومةٍ قويةٍ من المؤسَّسات، تخلق، وتُقصي، وتسيطر على عددٍ من المجموعات المسماة بـ”الأقليات”(minorités).

في ضوء النظريات “ما بعد البنيوية”، وبالذات الدِّيريدية والفوكُووِيّة، التي تديم عادةَ إعادة النظر في القيم المؤسِّسة لـ”الحداثة” التي شادها “مفكِّرو الشك”(penseurs du soupçon)، ماركس، ونيتشه، وفرويد، في ضوء ذلك يمكننا القول، مع هابرماس، أنّ العقل “قد كُشف عنه القناع سواءً كذاتيّةٍ مخضِعةً مع كونها نفسِها خاضعةً، أم كإرادةٍ للتحكّم الوظيفي”.

كوارث الحداثة البَعدية

بعد الكشف الملموس لحدود “الحداثة”، عبر الكوارث العديدة التي تسبّبت بها، يكون قد تمّ تفكيكها على صعيد الأفكار بالذات، وإبطالها نهائيًّا. أبدل “ما بعد الحداثيون” عموميةَ (كونيّة) الحداثة الكاذبة، وموضوعيّتَها المزعومةَ،  أبدلوها بالنسبيّة (relativité)، أي بتعدّد الذاتيات (pluralité des subjectivités)، أي بالحقائق المتغيّرة حسب وجهات النّظر المتعدّدة. بفعلهم هذا، أفسحوا في المجال مباشرةً للخطابات الطّرَفيّة (périphériques)، التي كان يتمّ إبطالها وإقصاؤها سابقًا، كما أفسحوا لها في المجال لتثبت حقائقَها وتفسيراتِها للواقع وأن تُرجّحها على غيرها.

إن نظريّةُ”ما بعد الاستعمار” (théorie post-coloniale)، التي قامت بإعادة تفسير التّاريخ، تمثّل، بلا شكٍّ واحدًا من أشهر الخطابات الطَّرَفيّة. لقد هاجمت هذه النظريّة مدفوعةً، جزئيًّا، من التّيّار “ما بعد البنيوي- ما بعد الحداثي” الجديد، ومغّذاةً بالفكر التفكيكي لفرانز فانون(Frantz FANON)، وإدوارد سعيد، هاجمت بشكلٍ خاصٍّ، الحداثة الغربيّة التي اعتبرتها خطابًا “عِرْقيًّا- مركزيّا” (ethnocentrique)، و”أورومركزيًّا” (eurocentrique) و”استعمارَوِيًّا”(colonialiste). ويفضّل المدافعون عنها القيام بإعادة قراءةٍ واضحةٍ لثقافة المستعمرات السّابقة انطلاقًا من نماذجَ إرشاديّةٍ خاصّةٍ بشعوبها، في سياق نظرةٍ نقديةٍ للحالة الاستعمارية ونتائجها على الشعوب التي كانت ضحيّةً لها. كما نلحظ إلى جانب ذلك ظهور ذاتيّاتٍ أخرى وازدهارها، مثل الحركة النّسويّة وحركة الـ “LGBT” (أيْ: السحاقيّون/Lesbiens، واللّوطيون/Gays، والثنويّون-الجنسيّون /Bisexuels، وعابرو الأنواع/Trangenres)، الذين كانوا سابقًا، مُقصَيْن من السّرديّات “الحداثيّة” الكبرى. وهكذا، فإنّ مضاعفة (تكثير) الخطابات تدلّ على نهاية الرّؤية الأحادية لـ”الحداثة”، وعلى الطّابع التحريري وغير المتجانس (hétérogène) للفكر “ما بعد الحداثي” الذي خَلَفَها.

مبادئ ما بعد الحداثة المقاومة للأمبرياليّة:

“ما بعد الحداثة” هي التيّار الفكري المسيطِر في زماننا المعاصر. لكن ليس لـها، إلى اليوم، تعريفٌ مُجمَعٌ عليه، ومن أسباب ذلك تعدد المجالات التي تنطبق عليها. ومع ذلك، فإنّ مبادئها العامة معروفةٌ جيدًا. هذه المبادئ تتميز بأنها مقاوِمةٌ (معادِيةٌ) للأمبريالية، لأنها ترفض أيَّ خطابٍ حاملٍ لمبدأٍ معياريٍّ عامٍّ. في هذا المضمار يوضّح تيمّارمانز (TIMMERMANS, 2000:32) ذلك على النحو التالي:

“كان المشروع الأساسي للفكر “ما بعد الحداثي”، إذًا، هو عدم السعي للتركيب الممتنع بين الموضوع والذات، وبين الوقائع والمعايير، أو بين المعرفة والفعل. إنه لا يسعى إلى أن يُرجع أنماطَ حياةٍ، وأنماطَ فعلٍ، وأنماطَ شعورٍ، مختلفةً جوهريًّا، إلى قانونٍ واحدٍ يحكم معرفتنا”.

ان مثل هذا الرفض لكل قانونٍ مُجمِّعٍ (totalisante)، وهذا التأكيد على تعدد وجهات النظر يجدان قاعدةً لهما في المبدأ “ما بعد الحداثي” الأكبر الذي يفيد بأنه “لا توجَد حقائقُ مطلَقةٌ، بل تُوجد احتمالاتٌ غيرُ محدودةٍ لتفسير الواقع”.ٍ هذا الخطاب الذاتي للمركز (discours subjectif du centre)، من المناسب مقابلته (مُضادّته) بخطاب الأطراف(discours des périphéries)، التي هي، كما ينصّ إدوارد سعيد، في كتابه “الاستشراق”(Orientalism) ليست سوى صنيعةٍ للغرب. تحتفل “ما بعد الحداثة” بانفجار المركز الغربي وتفتتح عصر اللَّامركزية، عصر وفرة المراكز، التي تمتلك كلها الأهليّةَ نفسهاِ، موجِدةً بذلك، كما يؤكّد نْكُولوفُووِي(NkoloFoé) (FOE, 2008:150) “عالَمًا متعدِّد المراكز”. الأمرُ، إذًا، بأيدي تلك الشعوب، التي كانت في ما مضى أطرافًا، والمعترفِ بها من الآن فصاعدًا كمراكزَ. الأمر بأيديها لإعادة التفسير، ولإعادة كتابة وقائعها (جمع واقع) المحرّفة، بل المجحودة) المُنْكَرة /réalités niées)، من خلال إبراز عناصرها الثقافية الحقيقية إلى الواجهة، وتقييم الخطاب الاستعماري أو العنصري وتفكيكه، من أجل الانطلاق بصفاءٍ نحو بناء المستقبل، بعد التحرّر، والتصالح مع ذواتهم. أليس هذا هو الأساسَ لكل الحركات والخطابات التحريرية أو المقاوِمة الخاصة بالشعوب المستعبَدة؟ يمكننا ذكر أمثلةٍ عديدةٍ لمعارك التحرير من أجل استقلال الشعوب المستعمَرة في العالم، وحركات الحقوق المدنية في الولايات المتحدة الأميركية، والخطاب حول الزنوجة للثالوث “سنغور ـ سيزار ـ داماس” (SENGHOR-CESAIRE-DAMAS)، والنضال ضد التمييز العنصري في جنوب أفريقيا، و”ما بعد الاستعمارية”كنظريةٍ وكأدبياتٍ، و”الأفرومركزية” (Afrocentrisme).

الفكر “ما بعد الحداثي” ليس متضامنًا مع الشعوب الضحايا للسيطرة الاستعمارية  فحسب، بل أيضًا مع جميع الجماعات المُقْصاة، والمحكوم عليها انطلاقًا من وقائعَ خارجيةٍ (réalités exogènes). إنها حالة النساء اللواتي خُدعن فوقعن في فخِّ عالَمٍ رجاليٍّ، وكنّ يسعين للتحرّر من نير السيطرة الذكورية؛ ما أدّى إلى ولادة الحركة النسوية. إنها أيضًا حالة المثليين الجنسيّين الذين تعترف لهم “ما بعد الحداثةُ” بسلوكٍ جنسيٍّ مقبولٍ، وتُقرّ كفاحهم، وتساند سعيهم من أجل الاعتراف على المستوى الدولي. باختصار، إنّ هذا التيار الفكري يولي اهتمامًا خاصًّا بكل الجماعات المسماة بـ”الأقليات”، التي لا زالت تئنّ تحت السيطرة مهما كان شكلها.

كلُّ شعبٍ له ثقافته الخاصة، وكل جماعةٍ لها ثقافتها الخاصة، لذا لا يمكن فهم أي ثقافةٍ ارتكازًا على قواعدَ ومسلّماتٍ غريبةٍ عنها، بل يجب فهمها انطلاقًا من نماذجها النظرية الخاصة. العالم متعددٌ ثقافيًّا (multiculturel)، ومتعددٌ دينيًّا ومذهبيًّا (multiconfessionnel)، ومتعددٌ لغويًّا(multilingue)، إنّه متنوع ثقافيًّا.(culturellement pluriel)S   وهكذا تذهب “ما بعد الحداثة” إلى أبعدَ من الرصد المبسَّط لتعدد الثقافات، ولتكثّر السرديّات الصغيرة، (foisonnement des petits récits)، كما عبّر ليوتار. إنها تنادي بضرورة قيام حوارٍ بين الجماعات الثقافية. هذه المطالبة بقيام الحوار بين الثقافات، المسمّى، عادة بـ”البينية الثقافية” (interculturalité)، ضروريةٌ من أجل تحقيق التعايش السلمي بين الشعوب والأديان والأعراق، بين الناس الذي يجب عليهم، لا أن يقبلوا بعضهم بعضاً على ما فيهم من اختلافاتٍ وخصوصياتٍ فحسب، بل أن يصلوا أيضاً إلى حدّ الاندماج في ما بينهم. إننا في صميم فكرة سنغور، “التّهجين الثقافي” (métissage culturel)، فكرة حضارة العالميّ(civilisaton de l’universel)، لا الحضارة العالمية (civilization universelle)، أيْ فكر التلاقي بين الثقافات العديدة والمتنوعة.

هذه الحضارة أنتجت إنسانًا جديدًا، الإنسان العالمي، المواطن العالمي (cosmopolite)، الذي هو، في الآن نفسه، متجذرٌ في ثقافته ومنفتحٌ على جميع الثقافات الأخرى، وذلك لأنه نتاجٌ لمجموعةٍ من الوقائع (جمع واقع) غير المتجانسة، والمتضادة أحيانًا، هذا الإنسان الجديد هو عَبْر ثقافيٌّ (transculturel)، معقَّدٌ وهجينٌ، كما تشهد كتابات هومي بهابها (Homi BHABHA)، أحد أهم أعمدة النظرية ما بعد الاستعمارية. الهوية الإنسانية ليست معطًى ساكنًا، بل متحرِّكًا وديناميكيًّا، إنها حصيلةُ مرجعياتٍ متغيّرةٍ جدًّا.

يولي تيار “ما بعد الحداثة” أهميةً خاصةً جدًّا لهذا المواطن العالمي. إنّه يهتم، خاصةً، برفاهيته المادية، هنا على الأرض لأنه، كما قال نيتشه، لا وجود لحياةٍ أخرويةٍ. في غياب الحقائق المتعالية، أصبح الإنسان “ما بعد الحداثي”هو المقياسَ لجميع الأشياء. لكلٍّ حقيقتُه، كما يُقال عادةً. أن تعيش يعني أن تختار الاستمتاع، وأن تغتنم الإمكانيات العديدة التي يُتيحها العالم ذو الثقافة العالية جدًّا (الفائق ثقافي -hyperculturel)، و”ما بعد الصناعي” (post-industriel). من الآن فصاعدًا، المنع ممنوعٌ. وحسب ليبوفتسكي ((LIPOVETSKY “تمثل “ما بعد الحداثة” الزمنَ التاريخيَّ المحدَّدَ، حيث جميع الكوابح المؤسِّسية التي كانت تُضادُّ التحرّر الفردي، تتفكّك وتختفي، مُفسحةً في المجال للتعبير عن الرغبات الشخصية، وعن النموّ الفردي، وعن الاعتداد بالنفس” (Foé, 2008:23).

هذه الرؤية المُتْعِيّة (hédoniste) والانتقائية (éclectique) لـ”ما بعد الحداثة” تعتبر الفرد كائنًا حُرًّا، ومَرْكزًا صُغرويًّا (micro centre) وذاتيةً غيرَ قابلةٍ للضّبْط (subjectivité insaisissable). هذا هو السبب في كونها تتبنى موقفًا ليّنًا تجاهه، يجب إطلاق العنان له ليُوجّه هو حياتَه في ظل المبادئ العليا للتسامح واللين. من المناسب، إذًا، خلق الإطار المؤسِّسي الملائم لتمكينه من الاختيار ومن النموّ من دون إعاقته لاختيارات الآخرين.

هذا هو المبدأ الأساس لـ “ما بعد الحداثة” الذي يضمّ أغلب المؤسسات الدوليّة والمحليّة. إنها مؤسساتٌ تَحكم مرونة العقل، وتضع نموّ الفرد في صلب اهتماماتها، وتريده نموًّا يتحقق من خلال اختياره الحرّ. كمثالٍ على ذلك، نذكر الإصلاحات الكبرى في التعليم العالي الجارية في العديد من الجامعات الأفريقية، والتي هي مستوردةٌ من الغرب، إنّها مُمْلاةٌ من هذا الفكر “ما بعد الحداثي”. إنّ اللغة الكمبيوترية، الـ LMD”” (لغة معالجة البيانات / (Langage de Manipulation des données)، كما تمّ تصوّرها وابتكارها، لا تفرض شيئًا على الطالب بخصوص مسيرته (العلميّة). عليه هو أن يختار بنفسه، وأن يبني ملفّه الشخصيّ انطلاقًا من كمّ المعلومات المتوفّرة. ألسنا نقول، عادةً، إنّ هذا نظامٌ مرنٌ يشجّع حركية الطلاب؟ مبدئيًّا، إنّ لطالب قادرٌ على التحرك، على الصعيد الداخلي والخارجي ضمن هذا النظام.

الكلام نفسه يُقال عن الإصلاحات التربوية (البيداغوجية) المتعلّقة بالنظام. إنّ “مقاربة الدرس” (approche cours)، التي كانت تسمح للمدرّس بأن يكون “سيدًا ومالكًا” لدرْسه، هي مقاربةٌ باليةٌ. نحن، الآن في عصر “مقاربة الكفاءة”(approche compétence)، المسمّاة غالبًا”مقاربة البرنامج”(approche programme)، والتي تتطلب أن تُعرّف المؤسسة التربوية برنامجَها التكوينيَّ وأن يعمل المدرِّسون بشكلٍ جماعيٍّ في سياقٍ”ما بعد حداثيٍّ” يتميّز بتعدّد الاختصاصات (multidisciplinarité) وتداخل الاختصاصات (interdisciplinarité)، وعبر-الاختصاصات (transdisciplinarité)، الذي يخلط الحدود بين مجالات المعرفة. هذا النظام التربوي (البيداغوجي) المطبَّق حاليًّا في العديد من البلدان أَفقد المُدرِّسَ مركزيته (محوريته). لم يعُدِ المدرس هو “السيدَ الذي يَعرف كلَّ شيءٍ”، والذي يجب على المتلقِّين انتظار كل شيءٍ منه بشكلٍ سلبيٍّ. لقد اُختُزل المدرِّسُ في مجرد دليلٍ. وأعُطي الكلامُ، من الآن فصاعدًا، إلى أولئك الذين كانوا سابقًا في الطرف (périphérie)، أي المتلقِّين الذين كانوا خاضعين لقانون المدرِّس. في ما عدا النظام التربوي، يمكننا تلمّس آثار المبدأ “ما بعد الحداثي” في إبطال علاقات القوة، وذلك في العديد من الميادين في مجتمعنا المعاصر.

باسم نسبية الأشياء، وباسم الضرورة العاجلة الحوار الثقافي، وباسم حرية الاختيار، توصي “ما بعد الحداثة” بالتسامح وباحترام الانفتاح على الآخرين. إنها ترفض الروح الوثوقية الجازمة (esprit dogmatique)، والأحكام القيمية والانطواء الهُوَوِيّ. وعلى مستوى الدولة، تمجّد الديموقراطيةَ وحريةَ التعبير والتنقّل، وتُدين كلَّ مسعًى ديكتاتوريٍّ، وكلَّ مسٍّ بالكرامة والنزاهة الإنسانيّتيْن. نحن في عصر حقوق الإنسان، وحقوق الطفل، وحقوق المرأة، وحقوق جميع الجماعات المتضرّرة الأخرى، وحق البيئة، ومن ضمنها “الحقّ في التعلّم”(apprenat). هذه الحقوق الممنوحة غالبًا بكرم مفرِطٍ، ينبغي أن تدفع إلى التفكير أكثر حول غاية “ما بعد الحداثة”، خصوصاً حين نعلم أنه “لا يوجد تحريرٌ من دون شكلٍ جديدٍ من الاستقلال” (CHARLES, 2006:4).

 المسكوت عنه حول المقاومة ”ما بعد الحداثية” للأمبريالية:

إن التيار “ما بعد الحداثي، في رفضه المنهجي لليقينيات الغربية لـ”الحداثة”، ينكشف، مبدئيًّا، حاملًا لمشروعٍ تحريري للشعوب وللجماعات المضطهدة، من خلال نظرياته التفكيكية المتعددة. يضع هذا التيارُ في خدمة الجماعات المسيطَر عليها أدواتٍ تحليليةً كفيلةً بإعادة النظر في المركز المعرفيّ(centre épistémologique)، أي الفكر الأمبريالي للغرب، حتى تستعيد تلك الجماعات كرامتها المهانة.

على الرغم من أن البعض من الشخصيات الرمزية (figures emblématiques)، والتي تكون أغلبها في مدرسة المستعمر، قد أتقنت، جزئيًّا، الاستفادة من هذا السلاح الفكري لإدارة النضال في الدفاع عن المستعمرات القديمة ضد الهيمنة الأجنبية، على الرغم من ذلك، فإنه من البديهي، اليوم، أنّ العدو ما زال موجودًا ومتربِّصًا. لقد رسّخ سلطته بشكلٍ عميقٍ، وخرج من أوساط المستضعفين، من بين أولئك الذين يقوم عليهم أمل التحرير، كما قال المثقف الكيني نْگُوجيوا تيونگُو (Ngugiwa THIONGO). على منوال الأمل الذي زرعته “شمس الاستقلالات”(soleil des indépendances)، الذي ترك مكانه سريعًا لظلمات “زوال الإغواء”(désenchantement)، فإنّ نهاية “الإيديولوجيا العقلانية الخانقة” بعيدة عن أن تكون مرادفةً للتحرر بالنسبة إلى الشعوب التي عانت من ويلاتها. في الواقع، وقد يبدو هذا غريبًا جدًّا، إنّ”ما بعد الحداثة”، التي احتفلت بموت “الحداثة”، والتي تُغري بأمل نهاية الاضطهاد والديكتاتورية الفكرية، والعقلية الوثوقية الجازمة (الدوغمائية)، والسلوك الهيمنيّ، تجسّد، ربما أكثر من التيار “الحداثي” الفتّاك، كلَّ تلك الشرور التي شرحتها وأدانتها. أيْ أنّ الأمر وصل إلى حدٍّ من المفارقة (الغرابة) والغموض، ما قاد إلى دخول أيِّ محاولةٍ للتعريف، غالبًا، في نفقٍ مسدودٍ. إنّ مفارقة الفكر “ما بعد الحداثي”، المنيعة، التي يتعذر تجاوزها، والتي تكسوه بكل حلل الفكر التحريري، تُقرأ من خلال مبادئه الأساسية.

في ما يخص المبادئ المتضادّة، لهذا الفكر المعاصر، يمكننا ذكر المبدأ المتعلق بفكرةٍ منتشرةٍ جدًّا، وهي أنّ “أفول النُّظم الكبرى يعني أن “ما بعد الحداثوية” (post-modernisme) ليست مدرسةً فكريةً، ولا إيديولوجيا ـ  بما أنها تقوم بنقد الإيديولوجيَات” (LAFAYE : 4).

قبل كل شيءً، وإذا ما رجعنا إلى سياق نشأة “ما بعد الحداثة”، وإلى أفكار “ما بعد البنيويّين” الذين كانوا قد وضعوا أسسها، فسوف نجد أنها “لا تدافع عن أي قيمةٍ معينةٍ”. إنها ترفض كلَّقيمةٍ جوهريةٍ (valeur essentialiste)، وتفضّل عليها النسبية، واللَّاتجانس، وتعدّد وجهات النظر. إنها تُقرُّ بصحة الخطابات الأخرى، وفي الوقت نفسه تُنسِّبها (تصفها بالنسبية). هي تراها خطاباتٍ صحيحةً وخاطئةً معًا؛ وبالنتيجة، لا يمكنها أن تكتسب أيّ قيمة مُشرعِنة (valeur légitimante). وبهذا فإن التيار “ما بعد الحداثي” يُفرِّغ الخطابات الإيديولوجية الأخرى من جوهرها، أكثر من كونه يُقرّ بشرعيتها. الدين، الذي هو بطبعه يتّسم بالوثوقية والجزم، لا يُفلت من “العين التنسيبيّة”(œuil relativiste) لهذا الفكر. وهكذا، فإن العقائد الدينية تُختزل إلى سردياتٍ صغيرةٍ (petits récits) أو إلى سردياتٍ صُغروية (micro récits) تماماً مثل كل إيديولوجيا أخرى، لتصبح بالتالي بلا معنىٍ وبلا قيمٍ إلا عند من يعتنقها بإرادته.

غير أنه، وعلى غرار الذات الديكارتية التي تشك في كل شيء سوى في ما يجعلها تشك، فإن “النسبويّة ما بعد الحداثية”(relativisme postmoderne) تنسّب كل شيء، ما عدا نسبويتها الخاصة، وكما يقول “ماكري” فإنّ “ما بعد الحداثوية تفرض النسبوية على كل شيء(...) لكنّها لا تُنسِّب أبدًا مبدأَها الخاصَّ”(MAKRI, 2013). إنها تطرح نسبويّتها كنوعٍ من الحقيقة الأولى، تمامًا مثل الكوجيتو، أيْ كحقيقةٍ ثابتةٍ لا ريب فيها، وكقيمةٍ معياريةٍ تصوغ انطلاقًا منها رؤيةً كونيةً جديدةً. إنها نوعٌ من العدمية، حيث أنّ كلَّ اعتبارٍ آخر سوى اعتبارها، هو اعتبارٌ فارغٌ وخاطئٌ.

إن الفكر “ما بعد الحداثي”، أكثر من كونه إيديولوجيا، يمكن اعتباره “إبيستامًا” جديدًا معاصرًا. بل يذهب “ماكري” (MAKRI: 2013) إلى أبعد من ذلك عندما يصفها بالعقيدة الوثوقية الجازمة (dogme)، ويذكر، بنبرةٍ ساخرةٍ، مبدأ “العقيدة ما بعد الحداثية”(foi postmoderne). ها نحن، إذًا، في مربع الانطلاق، في البداية النيتشوية: الغربُ، الفارغُ ثقافيًّا، وفاقدُ الإغواء (désenchanté)، لكنِ القويُّ بمبادئه “ما بعد الحداثية” الجديدة وبتِقانته المتطورة جدًّا، هذا الغرب في مواجهة “عالمٍ ثالثٍ” مختَزلٍ، ثقافيًّا واقتصاديًّا وسياسيًّا، في تعبيره الأدنى.

وهكذا تُفتح صفحةٌ جديدة من السيطرة، لكن في سياقٍ مختلف كليًّا عن ذلك السياق الذي وُلد فيه “الخطاب الأمبريالي الحداثوي”، وانتشر. نحن نعيش في عصر نهاية الحرب العالمية الثانية، ونهاية الحرب الباردة، أي عصر نهاية عالم ثنائي القطبية ونشأة نظامٍ عالميٍّ جديدٍ أحاديِّ القطبية حول قوةٍ وحيدةٍ، الولايات المتحدة الأميركية. في الواقع، إنّ أميركا، التي خرجت منتصرةً مرتين، من الحرب العالمية الثانية أوّلًا ومن الصراع الإيديولوجي ضد الاتحاد السوفياتي ثانيًا، قد أصبحت، كما كتب زبيغنيو بريزينسكي(Zbigniew BREZINSKI)”أوّل قوةٍ عالميةٍ حقيقيةٍ”. ولكون الحياة هي صراعًا أبديًّا بين القوى، فإنّها  تتمسّك، في هذه الظروف المناسبة جدًّا لها، بتعزيز قيادتها العالمية وتثبيتها.

أميركا اليوم هي الرافع الأول لراية الديموقراطية. هذه المستعمرة الإنگليزية السابقة التي انتزعت استقلالها بعد حرب تحريرية، والملتزمة بمكافحة الاضطهاد، كما يشهد بذلك الدور الاستراتيجي الذي لعبته في الحركة الواسعة لتصفية الاستعمار وفي إسقاط الامبراطوريات الأوروبية الكبيرة، والتي هي أحد البلدان المؤسِّسة لمنظمة الأمم المتحدة، التي هدفها الأعظم المعلن هو الحفاظ على السلام العالمي، أميركا هذه، لا يمكنها، بالتالي الاندفاع في عملية غزوٍ استعماريٍّ مفتوحٍ جديدٍ. والحلّ هو أن تعمل، تحت ذريعة تفوّقها، على أن تفرض، تكتيكيًّا، “إيديولوجيَاها الرأسمالية” على بقية العالم بتواطؤٍ من شركائها الغربيين، خصوصاً المملكة المتحدة [بريطانيا] وفرنسا وألمانيا.

تمثّل الرأسمالية، هذا المذهب الليبرالي القائم على الملكية الفردية والسوق الحرّة، تمثّل نمطًا للحياة مرتكِزًا على السعي وراء المنفعة الشخصية، والذي نتيجته الطبيعية “الفردانية”(individualime). نمطُ الحياة هذا جاءت به “الليبرالية الاجتماعية الثقافية” (libéralisme socio-culturel)، وهي التيار الفكري المتمحور حول الفرد الذي يسعى هذا الفكر إلى تحريره من بعض الوصايات الوثوقية الجازمة (الدوغمائية)، والذي يقرّ له بحقوقٍ غير قابلةٍ للتفريط ويؤمّنها له، مثل الطهارة (propreté) والحرية. مثل هذا الفكر، الذي يعارض تأثير السلطة ويشيد بالحرية والفردانية، ليس بإمكانه أنْ يأمل أنْ يزدهر بشكلٍ جيّدٍ سوى في بيئةٍ حيث تُهجر المبادئ التقليدية للحداثة، ومعها جميع المؤسسات الناظمة للحياة الاجتماعية. هذه النهاية للسرديات العظمى (métarécits) والفراغ الإيديولوجي الذي تُخلّفه، والنسبوية السائدة في هذا العصر، تمنح دفعًا جديدًا لليبرالية الأميركية، والتي ستسمَّى “الليبرالية الجديدة” (النيوليبرالية/(néo-libéralisme التي يعرّفها جوينيي باتريك (Juignet PATRICK, 2015) كما يلي:

“في أيامنا هذه، اتخذت الليبرالية شكلًا مختلفًا، يمكننا أن نسميه النيوليبرالية. هذا المذهب ينادي بالتخفيض الأقصى لدور الدولة إلى جانب تنمية دور السوق في جميع الميادين. على الصعيد الاجتماعي الثقافي (socio-cultrel) هي إيديولوجيا فردانيةٌ ومُتْعِيّةٌ (hédonique) تهدف إلى زيادة الحقوق الفردية وإلى تحرير (لَبْرَلة) الأخلاق (liberalization des mœurs). إنها تضخّم من شأن المنفعة الأنانية على حساب الواجب الجماعي والقيم العامة. وهذا يستتبع ازدراءً للقيم التقليدية، ما يؤدي إلى تغيّرٍ في الأخلاق وفي العلاقات الاجتماعية. وهكذا تم الانتقال من فلسفةٍ كليةٍ ومتّزنةٍ، إلى إيديولوجيا تعمل على تجذير بعض خطوط الليبرالية، وعلى محو أخرى. نحن ننعت هذه الصيغة [من الفلسفة] بالنيوليبرالية، لتَميُّزها عن الفلسفة الكلاسيكية التي ظلّت ثابتةً على قيمها التقليدية”.

إنّ الأمرَ الهامَّ في هذا التعريف للنيوليبرالية، هو أنّه يستعيد، بدقّةٍ، المعطيات الأساسية لـ”ما بعد الحداثة” التي وصفناها في ما سبق. ومع ذلك، فليس من المدهش معرفة أنّ أميركا كانت مختَبر الفكر “ما بعد الحداثي”، من خلال الاستقبال والتشجيع، في سنوات الـ 80 [من القرن العشرين] لأغلب المفكرين “ما بعد البنيويين” الفرنسيين، مثل فوكو ودولوز وديريدا على سبيل الذكر لا الحصر، والذين كانت هي السببَ في شهرة نظرياتهم “ما بعد البنيوية”، المعروفة بـاسم”النظرية الفرنسية” (French Theory)، بينما كانت مجهولة تقريبًا في فرنسا.

يمكن، إذًا، اعتبار ما بعد الحداثة اسمًا مستعارًا (prête-nom)، للنيوليبرالية. إنّ استراتيجيا التسمية هذه مكّنت أميركا، بذريعة تشجيع مبادئ الحرية، والتعدُّد، والتسامح، والانفتاح، المتنزعة بشكل ذاتي من النظريات التفكيكية، مكَّنتها من فرض رؤيتها النيوليبرالية، وتعميمها على إنسانية لا تزال تعيش حالة الحداد على موت المعالِم الإيديولوجية.

وفق هذا المنظور، ينظر عددٌ كبيرٌ من المراقبين إلى “ما بعد الحداثة” كـ “خديعة”(imposture) وكـ “كذبة فكرية” (mensonge intellectuel)، وكـ “مابعد- حقيقة” (post-vérité)، أو أيضًا كـ “خطاب دعاية” (discours de propagande). كان توميسلاف سونيك (Tomislav SUNIC) أكثر دقّةً لما اعتبر أنها هي أميركا و”الأميركانوية” (américanisme)، أي أنها تيارّ يعمل على إعلاء فكر “الإنسان الأميركي” (Homo americanus)،أو ما اصُطلح على تسميته بـ “نمط الحياة الأميركي” (American way of life)، الذي يعتبره أيضًا النظام الإيديولوجي الأميركي القائم على الحقيقة الأحادية.”ما بعد الحداثة” ليست، إذًا، مختلفةً كثيرًا عن “الحداثة”.

التحرُّر من الخطابات الكبرى

من آثار المرحلة الـ”ما بعد الحداثية” أنها حرَّرتنا من الخطابات الكبرى، ولكن في الوقت نفسه صالَحتْنا مع المبادئ “الحداثية”، ولهذا لن ننخدع بادعاءاتها، فهي لم تُبطل “الحداثة” في شيءٍ” (CHARLES, 2006:54).

بالنسبة إلى الفيلسوف الأميركي فريدريك جيمسون (Frederic JAMESON)،”الحداثة”و”ما بعد الحداثة” ليستا سوى صيغتيْن ثقافتيْن صاحَبَتا وتصاحبان الرأسمالية في مراحلها المختلفة.”ما بعد الحداثة”، بالنسبة إليه، هي الروح لما يسمّيه “الرأسمالية المتأخرة أو الرأسمالية متعددة الجنسية، أو رأسمالية الاستهلاك” التي تميّز المجتمع”ما بعد الصناعي” الخاضع لـ”الاستهلاكوية” (consumérisme) ولـ”التسويق” (Marketing). إنها بذلك تمام الحداثة وامتدادها، في شكلٍ أكثرَ تطوّرًا. وهكذا نفهم سرّ تكاثر المصطلحات، مثل “الحداثة الجديدة” (النيوحداثة/ néo-modernité) و”الحداثة الفائقة”(hypermodernité / modernité hypertrophiée)، و”الحداثة القصوى” (ultra-modernité)، وما “ما فوق الحداثة” (sur-modernité)، كل هذه المصطلحات التي تُذْكر، عمومًا إلى جانب “ما بعد الحداثة” (post-modernité).

بينما فرضت الإيديولوجيا”الحداثية” نفسها، في الماضي، في بلدان “الطَّرَف” عبر إرساء الاستعمار، نجد أنّ الإيديولوجيا “ما بعد الحداثية”، تُحقّق لنفسها المقبولية، اليوم، في تلك الأصقاع نفسها، بتواطؤٍ من العملاء المتملِّقين (thuriféraires) من كل جانبٍ، لكن خصوصًا بفضل عبقرية التكنولوجيات الجديدة للإعلام والاتصال (Nouvelles Technologies de l’information et dela Communication – NTIC)، التي ألغت، افتراضًا على الأقل، الحدود بين الأمم، ونجحت في مهمة تحويل العالم إلى قريةٍ عالميةٍ. نحن فعلًا في زمن العولمة، زمن المبادلات الاقتصادية والثقافية بين مختلف الأمم، لكنّ هذه المبادلات غيرُ عادلةٍ، بالنظر إلى التفاوت في القدرات الثقافية والسياسية والاقتصادية. من نافل القول، أنْ نُذكِّر بأنّ تلك الأمم خاضعةٌ جدًّا لسيطرة البلدان المتطورة. لكن يجب إذا ما أردنا أن نعرف البضاعة التي يُصدّرها الغرب، وأميركا خصوصًا، أكثر من غيرها، وبشكلٍ مجّانيٍّ، إلى”بلدان الجنوب”، بل وإلى جميع أنحاء العالم، نجد أن “الثقافة ما بعد الحداثية” تحتل الصدارة بكل تأكيدٍ.

لكي نسلّم بأن “ما بعد الحداثة” هي، واقعًا، الميزة الأساسية لمعاصرتنا (contemporanéité)، ليس علينا سوى التمعّن في الطريقة التي ينتهجها هذا التيار الفكري لتشكيل المجتمعات المعاصرة، “إنه يوجّه بشكلٍ متصاعدٍ أنماطَ الفعل في عالَمٍ معقَّدٍ، ويعكس أكثر فأكثر الأشكال اليوميّة من الحياة الاجتماعية” (SEGIN, 2016:6).

إنّ “ما بعد الحداثة” ملموسةٌ في الحياة اليومية للناس وتقود البحث العلمي في جميع الميادين، في الطب، وعلم الاجتماع، والتربية، والألسنية (linguistique)، وعلم الإنسان (الإناسة /anthropologie)، والفلسفة، والتسويق، والرياضيات، والأدب، وذلك على سبيل الذكر لا الحصر.”هل بإمكاننا الإفلات من ما بعد الحداثة”؟ تتساءل ماريا ديلاباريار (Maria DELAPERRIERE, 20011)، التي أشارت إلى أنّ”ما بعد الحداثة” قد اخترقت بقوةٍ المشهدَ الثقافيَّ لأوروبا الشرقية، القلعةِ السابقةِ للشيوعية، والتي ظلت، طويلًا، في منأًى عن هذه الظاهرة الثقافية الغربية.

لا يشهد توسّع هذا التيار على المستوى العالمي على قابلية الاقتباس لدى الشعوب اعتنقت مبادئه، بقدر ما تدلّ أكثر على قوة المكر وفن الخداع اللذين استطاعت بهما البورجوازية الأميركية، وبفضل مواتاة الظروف التاريخية، أن تُدرج هذه الرؤية الكونية في القوالب المفاهيمية مثل “ما بعد الحداثة” و”العولمة”.

هذان النموذجان الإرشاديان (Paradigmes)، لا يمكن الفصل بينهما بسهولةٍ، لأن أحدهما يتضمّن الآخر، ويبيّن نكولوفووي (NkoloFoé) العلاقة بينهما، بشكلٍ غيرِ مباشرٍ، على الشكل التالي:

“لصالح الظاهرة واسعة المدى التي تُمثِّلها العولمة، لا على المستويَيْن الاقتصادي والسياسي فحسب، وإنما أيضًا على المستويَيْن التاريخي والثقافي، ولأجل إعطاء اسمٍ للعصر الحالي، زادت بعضُ اتجاهات الفكر البورجوازي جزءًا إضافيًّا إلى التاريخ العامّ [للبشرية]. وهكذا سوف تَدخل البشريةُ، بعد حِقَب ما قبل التاريخ، والتاريخ، و”ما قبل الحداثة”، و”الحداثة”، سوف تدخل في دورةٍ تاريخيةٍ- ثقافيةٍ(historico-culturel)، هي دورة “ما بعد التاريخ” أو، بشكلٍ أعمَّ، دورة “ما بعد الحداثة”.

العولمة أداة ما بعد الحداثة

أن تكون “ما بعد الحداثة” هي “إيديولوجيا العولمة” أو أن تكون العولمة هي “أداة ما بعد الحداثة” (tremplin de la postmodernite))، هذا، بلا ريبٍ، أمرٌ هامٌّ. في المقابل، ما يبدو لنا أكثرَ أهميّةً هو أن نرى كيف أنّ مفهومَيْ”ما بعد الحداثة” و “العولمة”، تمامًا كما كان مفهوما “الحداثوية”(modernisme) و”العمومية” (الكونيّة) (universalime) في زمانهما، يمحوان كل خصوصية (particularisme)، وكل ذاتية وكل أصلٍ (provenance)، ويُعطيان الانطباع بانتمائها إلى الإنسانية، إلى العالم الذي قلَبه تقدُّم العلم التقني (technoscience) رأسًا على عقب. ومع ذلك، فإنه بقدر ما أنّ العقل الأداتي لـ “الحداثوية-العمومية”(post-modernisme-universalisme) قد كُشف عنه القناع وأُدين في النهاية، بقدر ما أن غايةَ نسبوية “ما بعد الحداثوية-العولمة”(post-modernisme-mondialisation) مكشوفةٌ ومرفوضةٌ.

إنّ الثنائيَّ”ما بعد الحداثة-العولمة” يمثَّل اليوم بـ “الرأسماليّة المُعوْلَمة”(capitalism globalisé)، وبالسلطة بلا شِرْكة لأميركا الرأسمالية التي، إلى جانب نشرها بذكاءٍ لنمطها في التفكير والحياة عبر العالم، تنجح بدهاءٍ في احتواء كل فكرٍ مخالفٍ لفكرها. هنا تكمن مناسَبة مفهوم “الشمولية الناعمة” (totalitarisme mou) الذي أطلقه سونيك (SUNIC) على هذه الاستراتيجيا الأميركية.

لقد تم، كما يبدو، اجتثاث شرّ التيار “الحداثي” من العالم، كما يشهد على ذلك الاعتراف الرسميّ باستقلالية البلدان التي كانت خاضعةً للاستعمار. أمّا في ما يخص “أخاه ـ عدوه الصغير”(petit frère-ennemi)، التيار “ما بعد الحداثي”، فإنه يبدو أنّ أمامه أيامًا جميلةً. لا نعرف كيف يمكن للإنسانية أن تتخلّص بيسرٍ من الفكر الأحادي الأميركي الذي يتخفّى خلف لبوس “ما بعد الحداثة”. إن “الإيديولوجيا الأميركية”، التي تزحف بوجهٍ مُقنَّعٍ، قد أتمّت انتشارها العميق في جميع أصقاع العالم، مدعومةً بمنظومةٍ مؤسَّسيّةٍ قويّةٍ تُملي خطة سير التاريخ المعاصر. هل هذا يعني أننا لا يمكننا، بالتالي، سوى القبول بأطروحة “نهاية التاريخ”(fin de l’histoire) للفيلسوف وعالم الاقتصاد الأميركي فرنسيس فوكوياما(Francis FUKUYAMA)؟.. من هذا المصطلح يجب أن نفهم مزاعم النصر النهائي لـ”الديموقراطية الليبرالية الأميركية”، التي ترسّخت بانهيار جدار برلين، والتي أنجزت نهاية صراع الإيديولوجيات التي كانت تحدّد إيقاع تطوّر البشرية.

بإمكاننا التصريح، في ما يخص “ما بعد الحداثة” بأنّ”المهمة قد انتهت”. لقد لعبت في التاريخِ دورًا مُكرّرًا. لقد أنجزت بنجاحٍ مشروعَ السيطرةِ الذي أسّستهُ الحداثة عبر التظاهر بنقدها. لقد نصَّبت نفسها الشريكَ والناطقَ الرسميَّ لمن لا منبرَ لهم، وللدول المُضطهَدة، قبل أن يكتشفوا وجهها الأمبرياليّ الحقيقيّ. لكن، وكما جرت العادةُ دائمًا، لا يتنبّه الناس للشرِّ، إلا بعد تغلغله في أعماق حياتهم. ويتكشّف، اليوم، أنّ العلاجاتِ المقترحةَ، من قِبَل الفكر “ما بعد الاستعماري”، و”الأفرومركزيّة”، ومُختلف الشخصيات المستقلّة التي تتكاثر، والتي تتطوّر في جميع الميادين، غيرُ فعّالةٍ. إنّ ضحايا السيطرة وكلَّ المتعاطفين مع قضيّتهم ما زالوا ضعفاء جدًّا لاحتواء هذا الماردِ الجليِّ والخفيِّ في الآن نفسه، لكنْ، على الأقلّ، المعروفِ والمُعادِ تسميتُه باسمه الحقيقي: “الاستعماروية الجديدة”(.(néo-colonialisme

إنّ”ما بعد الحداثة هي إيديولوجيا الاستعمار الجديد”، التي ترافقها من خلال حيلٍ ماكرةٍ. إنّها “تُعزّز رِقَّ الرأسماليّة، وأهدافَها” (YVES. 2015) لأجل ذلك، خلّفت الحماسة التي أثارتها في المستعمرات السّابقة، سريعًا شعورًا باليأس والإحباط. يصفُ أمبرواز كوم (AmbroiseKOM, 1997: 24) خيبة الأمل الكبرى هذه بالقول:

“في الحقيقة إنّ انتصار “ما بعد الحداثة”هو حدثٌ يبعث على السخريّة بما لا يُضاهى. وذلك لأنه يُمكِّن من إعادة الاعتبار لحضاراتٍ وثقافاتٍ، كان الغربُ، رافعُ لواء الحضارة اليوم، هو نفسُه من دمَّرها. لقد انطلت الخدعة على شعوب القارّة (الأفريقيّة) فانخرطت بكثافةٍ في الحضارة الجديدة على أمل أن تُخرجهم من الحضيض. بينما نرى، اليوم، أن كل شيءٍ يشير إلى أن الشكّ قد استوطن بإحكامٍ في النّفوس. لقد أدّى النّظام التّربوي والاجتماعي والسياسي والاقتصادي إلى غرق القارّة الأفريقية في حالةٍ غيرِ مسبوقةٍ من الاضطراب الاجتماعي والسياسي والاقتصادي، وتسبّب في فوضًى عارمةٍ”.

إنْ كان للتيار “ما بعد الحداثي” هذا المقدارُ الكبيرُ من التأثير في المؤسسات الأفريقية، إلى درجة أنْ خلق فوضًى شاملةً، فإنّ ذلك راجعٌ إلى أنّ توجّهَه غيرُ قابلٍ للتصالح مع الثقافة الأفريقية التي انتهى به الأمر إلى ابتلاعها. أوّلًا إنه فكرٌ غريبٌ تمامًا عن أفريقيا، بسبب إطاره “الحيِّزي-الزمانيّ”(spatio-temporel) بالنشأة. يؤكد ليوتار بوضوحٍ منذ مُقدمة كتابه “الوضع ما بعد الحداثي” (LaCondition Postmoderne) (1979)، وهو الكتاب الذي يُؤرَّخ به لميلاد الفكر “ما بعد الحداثيّ”، يؤكد بوضوحٍ أن “موضوع دراسته هو وضع المعرفة في المجتمعات الأكثر تطوُّرًا”. وثانيًا، لقد وُلِد هذا الفكر في وضعٍ حيث كانت تلك “المجتمعات الأكثر تطورًا”تجتاز “أزمةَ معنًى” حقيقيّةً، أي وضع انهيار الأخلاق الغربيّة. وحاصل الكلام، لقد وقع تحرُّرٌ جديدٌ.

“ما بعد الحداثة هي، بحقٍّ، الحامل لتلك الثقافة العدميّة”(culture nihiliste) التي تحتفل بموت القيم الكلاسيكية، والعقائد (dogmes) والأوثان النيتشوية المزيّفة حيث يُصبح الانسانُ معيارَ ذاته، في غياب معالمَ خِلاقيّةٍ (repère saxioligiques) وقيمٍ معياريّةٍ، يَفقدُ الممنوعُ (المحرَّم) معناه، ويُصبحُ كلُّ شيءٍ جائزًا، بما في ذلك الرغبات الموغِلة في الشذوذ. المثلية الجنسية، والسعي الجنوني وراء الربح والمال والمُتع المتنوِّعة، وحبُّ الظهور، والنرجسية إلخ.، تُمثّل جُزءًا لا يتجزأ من المشهد الثقافيّ الجديد الذي ترسمه “ما بعد الحداثة”.

يجب أن نلفت الانتباه إلى أنّ القارة الأفريقية، وعلى الرغم من الحضور الطويل للاستعمار على أراضيها، والأضرار الثقافيّة التي سبّبها، لم تتجرّد بشكلٍ كاملٍ من قِيمها التقليديّة. لقد مُزجت هذه القيم بالقيم الغربية الجديدة، لتُنتج ثقافةً جديدةً هجينةً يَسبح في غمراتها، الآن، الأفريقيُّ”ما بعد الاستعماري”.

إنّ هذا الأفريقيَّ، نصفَ المُحدَّث (à moitié modernisé)، هو الذي يعود إليه الغربُ مرّةً أخرى ويَعرض عليه نمطَ الحياةِ الجديدَ”ما بعد الحداثيَّ” الذي وصفناه في ما سلف. أغلبُ مبادئ هذه الحضارة الجديدة كانت قد أخذت شكلها في أفريقيا. هذا ملموسٌ خصوصاً عند الشباب الذين، لرغبتهم في كل جديدٍ، يُفتنون بكلّ ما تُوفّره السوقُ المُعوْلَمةُ و”التكنولوجياتُ الجديدةُ للإعلام والاتصال” (NTIC)، الموجِّهاتُ الأولى للثقافة “ما بعد الحداثيّة”. هناك انتشارٌ للروح الاستهلاكية المُفرِطة. والروابطُ العائليّةُ والتضامنُ، ركيزتا المجتمع الأفريقي، تتراجعان تدريجيًّا أمام الفردانيّة. وروحُ التنافس الاجتماعي صارت فاقعةً أكثر. والسلطةُ الأبويّةُ، التي كانت في ما مضى مرعيّةً جدًّا، تفقد شيئًا فشيئًا ضَبْطها للشّباب الّذين صاروا يتمتّعون بقسطٍ من الحريّة، ويُوجِّهون حياتهم وفق نماذجَ من اختيارهم. تبقى “المثليةُ الجنسيةُ”، “الانحرافُ” الجنسيُّ لـ”ما بعد الحداثة”، والمعترفُ بها من قِبل المنظمة العالمية للصحة كسلوكٍ جنسيٍّ طبيعيٍّ، تبقى هي وحدها التي لم تلقَ، بعدُ، صدىً مؤيِّدًا في أفريقيا. هذا ما كتبته حورية بوثلجة (NUNES,2017:6) قائلة:

“لقد حان الوقت، لكي نفهم، وبشكلٍ نهائيّ، أنَّ الإمبرياليَّة - بجميع أشكالها- تُوحِّشُ(ensauvage) السُّكّان الأصليين: ردّت مجتمعاتُ الجنوب على “الدُّوليّة اللّوطيّة” (ILGA: المؤسسة الدّوليّة للمثليّين والمثليّات ومزدوجي التوجّه الجنسي والمتحوّلين جنسيًّا وثنائيّي الجنس)، ردّت بفيضٍ من الكراهيّة تجاه المثليّين الجنسيّين. إضافةً إلى ذلك فإنّ عموميّة (كونيّة) المثلية الجنسية  universalité de l’homosexualité) غير مسلَّمٍ بها: هذا المفهومُ “الغربيُّ” لا يمكن أن يلائم العالميْن العربي والأفريقيّ”.دإنّ الضّغوط  التي تمارسها أميركا، المشجِّعُ الأوّل لـ”ما بعد الحداثة”، على البلدان الأفريقيّة لإلغاء تجريم المثليّة الجنسيّة لم تؤتِ ثمارها بعدُ. غير أنّ المعركة ضدّ هذا السلوك وضدّ محاولات منع تجريمها شبهُ ميؤوسٍ من ربحها في أفريقيا. بل الأمر أدهى، فالخشية من خسارة المعركة حقيقيةٌ. ففي دولة جنوب أفريقيا، مثلًا، قد حُسم الأمر، فالدستور هناك يحمي الأقليّات الجنسيّة. وفي السنغال، كما أيضًا في العديد من بلدان القارّة [الأفريقيّة]، بدأ المثليّون الجنسيّون المُسمَّوْن في اللُّغة المحلِّيّة للبلاد بالـ”گُوردجيجين” (goordjigeen)، بدأوا يخرجون إلى العلن؛ إنّهم يُقيمون احتفالاتِهم بشكلٍ سرّيٍّ، لكنّهم لا يتردّدون أحيانًا في الاحتفال بشكلٍ عامٍّ. لم نشهد إلى الآن اتّخاذَ أيِّ إجراءٍ سياسيٍّ حكيمٍ لفهم حجم الظاهرة ومحاولة احتوائها.

تتضاءل الفوارقُ الثّقافيّةُ التي تفصل أفريقيا عن الغرب نظرًا إلى أنّ”ما بعد الحداثة” قد بسطت مِجسّاتها (tentacules).العديد من العوامل تلعب دورًا أساسيًّا في ترسيخ هذه الأمبرياليّة الثقافيّة، منها الضغوط الأمنيّة، ووسائل الإعلام، وتواطؤ أصحاب القرار السياسيّ الأفارقة الّذين أغلبهم مترابطون في ما بينهم بشكلٍ جليٍّ. تكشف المبادئ “ما بعد الحداثيّة” مثل التّعدّد والتّنوّع وحوار الثّقافات، الّتي يُتَغنّى بها، تكشفُ خواءَها الدّلاليَّ وخداعَها. إنّ الأمرَ يتعلّق بقوّتَيْن غيرِ متكافئتين وبشكلٍ سافرٍ؛ لذا يتعذّرُ، منطقيًّا، حصول حوارٍ بينهما. إنَّ القويَّ هو الّذي يُحدِّد قواعد اللُّعبةِ دائمًا لمصلحته، ولا البتّةَ لمصلحةِ الآخرين.

يفقد “الفضاء الثالث” (troisième espace)لـ (HomiBHABHA)، أي “الفضاء الهجين” (espace hybride)،  وفضاء الحوار، يفقد هذا الفضاءُ لا تجانسه (hétérogénéité)، ويُصبح فضاءً مُجانَسًا (homogénéisé) ومُغرّبًا (occidentalisé). نحن نشهد اليوم، في المستعمرات السّابقة، والتي أُعيدت تسميتها، تعسُّفًا، بـ”الدُّوَل الشّريكة”، ما اُصطلِحَ على تسميته بـ”عمليّة إبادةٍ ثقافيّةٍ” حقيقيّةٍ. وكما يؤكّدُ مارسال گُونسالف (Marcel Gonçalves) (1983: 387) فإنه “إذا ما هَضمتْ (ابتلعت /(digérer) ثقافةٌ ما ثقافةً أُخرى، لا يَنتج فقط تحطيمٌ لعناصرَ ثقافيّةٍ، بل ولا لمنظومةٍ ثقافيَّةٍ وحسب، وإنّما يمتدُّ القتل ليشمل حتّى روحَ الشّعب. إنَّ ما يحصل فعلًا هو شكلٌ من أشكال الإبادة العرقيّة (ethnocide)”.

الخاتمة

“الحداثةُ”و”ما بعد الحداثةُ” هما تيَّاران فكريّانِ غالبًا ما اعتُبرا مُتقابليْنِ (متضادَّيْنِ) في المبادئ والتَّوجُّهات. هذا متعلِّقٌ بالخصوص بكون “ما بعد الحداثة”، الّتي ولدت على إخفاقِ الوعودِ التَّحريريَّة لـ “الحداثة”، قد أعلنت منذُ البدايةِ معارَضَتَها الشديدةَ للمُسلَّمات الحداثيَّةِ مثل العقلانيَّة والعموميّة (الكونيّة)، اللَّتيْن أبطلت صِحَّتَهُما وكشفت أهدافَهما الأمبرياليَّةَ، بالاستلهامِ خصوصاً من مفكِّري الاختلاف والمفكِّرين التَّفكيكيّين المسمَّيْنَ أيضًا بـ”ما بعد البنيويِّين”.

إضافةً إلى ذلك، فإنَّ “ما بعد الحداثة”، بإظهارِ نفسِها “حسّاسةً” (allergique) تجاه كلِّ مشروعٍ للسَّيطرةِ، ولكلِّ اعتبارٍ “عرق- مركزيّ” (إثنومركزي /(ethnocentrique)، ولكونِها متضامنةً مع الشُّعوبِ و”المجتمعات” المُستَغلَّة (المُستعبَدة asservis)، قد أعلنت عن ساعة نهاية الاضطهاد. لقد شجَّعت، كرفيقِ دربٍ، بروز الأقليّات العرقيّة، الّتي وفّرت لها منابر للتَّعبير عن نفسها عبر العالم، من دون أن ننسى المستعمرات السّابقة المُستقلّةَ حديثًا.

 على الرغم من التزامها البارز بمكافحة الظُّلمِ و”الأورومركزيّة”، وبتشجيع تعدُّد الآراء، من أجلِ بناءِ عالمٍ عادلٍ يسوده القسط والتّنمية عبر حوار الثقافات، على الرغم من ذلك، فإنَّ “ما بعد الحداثة” لم تنجح في وقف ظلم الأمبرياليَّة وشرورها، وذلك لأنَّها نفسَها تجسِّدُ السّيطرة الّتي تدّعي مكافحتَها، بل إنّها تُجسّدها في شكلها الأشنع.

في الواقعِ، إنَّ “ما بعد الحداثة” هي “الرّؤيةُ الأمبرياليَّةُ الجديدةُ للولايات المتّحدة الأميركيّة” الّتي، وبفضل تضافر ظروفٍ تاريخيَّةٍ مواتيةٍ، ارتقت إلى رتبةِ القوَّةِ العالميَّةِ الأولى، بل كانت مضطرّةً إلى تغييرِ قواعدِ اللَّعبِ للحفاظ على هيمنتها العالميَّة، في مواجهة قوًى منافسةٍ كالصّينِ والاتّحاد السّوفياتي. لقد أخفت، إذًا، سياستها “النّيوليبراليّة” تحت تسمياتٍ تبدو محايدةً ظاهرًا، مثل “ما بعد الحداثة” و”العولمة”، الوجهين لعملة واحدةٍ، واللّتين تقومان تمامًا على مبادئ “النيوليبراليّة”، مع شعارٍ أساسيٍّ هو “حريّة الاختيار في عالمٍ متعدِّدٍ ومعولَمٍ في الآن نفسه”. لا تختلف “ما بعد الحداثةُ”، في الجوهرِ، عن “الحداثة”، فهي تكمِّل مشروعَها في السيطرةِ باستعمالِ حيلٍ في منتهى البراعة والدِّقة.

إنّ”الحداثةَ” هي “أوروبا الصّناعيّة والاستعماريّة” الّتي انطلقت لغزو العالم، بعد الاكتشافات العلميّة والتّقنية لعصر النهضة. وإنّ “ما بعد الحداثة” هي “أميركا ما بعد الصّناعيّة وما بعد الاستعماريّة”، قائدة المؤسّسات الدّوليّة، والمعاضَدةِ من شركائها الغربيين. إنّها هي أميركا التي تجتاح العالم المعاصر، بعد انتصارها التَّاريخي على الشّيوعيّة السّوفياتيَّة، الذّي تَجسّد في انهيار جدار برلين سنة 1989. إنّ الرّؤية القديمة التي صنعها الإنسانُ الغربيُّ لنفسهِ لم تتغيّر أبدًا. العقيدةُ نفسُها كانت ولا تزال سائدةً من”الرّقّ” إلى “ما بعد الاستعمار”مرورًا بـ “الاستعمار”. لقد نجح الغرب في ترسيخ الفكرة نفسها وتغذيتها في أشكالٍ متجدّدةٍ وتحت مجموعةٍ من الأسماء المُختَلَقةِ للإمعانِ في التَّمويه باسم “واجبهم” الأمبريالي تجاه الآخرين. فالغربُ يصنع التاريخَ، ثم يَهدمهُ، ثم يُعيد صنعَه. ويبدو أنّ التّاريخَ الجاريَ قد وصل إلى نهايته مع نظامٍ نيوليبراليٍّ تمّ إدراجه بشكلٍ بارعٍ ودائمٍ في الثقافة العالمية، مع ضررٍ فادحٍ يصيب اليومَ المُستَعمَرين الجددَ، الّذين مازالوا ضحايا للتّاريخ. إذا كانت “الحداثةُ” قد أرست الفوضى في أفريقيا وفي كلّ البلدان الخاضعة للسيطرة عبر العالم، فإنّ “ما بعد الحداثة” قد شادت الفوضى في نمط الحياة، مسبِّبةً بذلك حالةً عامّةً من الشكّ في الحضارةِ، وانزعاجًا كبيرًا منها.

المراجع

1. Allard-Poesi, F.  et Perret V. (1998). «Le postmodernisme nous propose t-il un projet de connaissance ? » in Cahier, num 263, Mai.

2. Atangana. J. (1973). Chemins d’Afrique, Coll. «Point de vue», Yaoundé, Clé.

3. Balutet, N. (2014). «L’identité au temps de la postmodernité : de l’usage du concept d’hybridité » http://teteschercheuses.hypotheses.org/1141, consulté le 17 décembre 2017.

4.Baudrillard, M. (2012). La notion du sujet chez les poststructuralistes et sa mise en scène dans une série photographique, Thèse soutenue à l’université du Québec à Montréal, septembre.

5. Beti, M. (1957). Mission terminee. Paris: Buchet/Chastel.

6.  Boizette, P. (2013). «Introduction à la théorie postcoloniale », http://www.revue-silene.com/images/30/extrait_174.pdf, consulté le 20 décembre 2017.

7.Boisvert, Y. (1995). Le postmodernisme. Montréal :ةditions du Boréal. 8. Boltanski, L. et Chiapello, E. (1999).

8. Le nouvel esprit du capitalisme. Gallimard : NRF Essais.

9.  Brune, F. (2003). De l’idéologie aujourd’hui. Paris :éditions Parangon.

10. Césaire, A. (2004). Discours sur le colonialisme. Paris :Présence africaine.

11. Charles, S. (2006). « De la postmodernité à l’hypermodernité » in Philosophie, Revue d’Idées, vol 8, num 1.  12. Coulibaly, L. (1983) L’Autorité dans l’Afrique traditionnelle. Dakar: NEA.

13. De la perrière, M. (2011). « Peut-on échapper à la postmodernité » in Sociétés. 2 num 112.

14. Fanon, F. (1952). Peau noire, masques blancs. Paris: Seuil.

 15. ……….  (1960). Les Damnés de la terre. Paris: Maspero.

16. Foé, N. (2008). Le Postmodernisme et le nouvel esprit du capitalisme sur une philosophie globale d’Empire. Dakar : CODESRIA.

17. Gonçalves, M. (1983). « Angola, métissage culturel» in Spiritus, num 93.

18.Habermas, J. (1988). Les discours philosophiques de la modernité. Paris : Gallimard.

19. Hegel, F. (2007). « La raison dans l’histoire ». (httt://www.mondediplomatique.fr/2007/11/HEGEL/15275), consulté le 27 décembre 2017.

20. Kom, A. (1997). «Culture africaine et enjeux du postmodernisme ». file:///Users/macbook/Downloads/27756-1-28442-1-1020100706%20(1).pdf, consulté le 15 décembre 2017.

21. Lafaye, C. G. «Esthétique de la postmodernité » in Centre Normes, Société, Philosophies http://nosophi.univ-paris1.fr, consulté le 29 novembre 2017.

22. Lyotard, J. F. (1993). Le postmodernisme expliqué aux enfants. Paris : Editions livre de poche.

23. ……………. (1979). La condition postmoderne, rapport sur le savoir. Paris : Edition de Minuit.

24. Marton, S. (2012). « Le problème du langage chez Nietzsche : La critique entant que création » in Revue de métaphysique et de la morale. Presses Universitaires de France, 2, num 74.

25. Makri, Y. (2013) « Islam et postmodernisme » https://www.cilecenter.org/fr/articles-essays/islam-etpostmodernisme-la-question-incontournable-du-sens/, consulté le 15 décembre 2017.

26. Nunes, A. (2017). «Le postmodernisme ne casse pas des briques» in Négatif, bulletin irrégulier-Juillet, num 24.

27. Pisani, E. (1996). «Quelques réflexions pour une critique de la potsmodernité» in Aspects sociologiques, vol 4, 1-2, mai.

28. Segin,  T. (2012). Le Postmodernisme une utopie moderne. Paris :l’Harmattan.

29. Timmermans, B. (2000). «Postmodernisme et postcriticisme» in Réseaux, ULB, vol 88-89-90.

30. Touraine, A. (2000). Crيtica de la modernidad. Mexico : FCE. 

31. Turnbull, Nick. (2010). “Postmodern and Rationality” in Association Revue internationale de philosophie Jan. num 251.

32. Yves (2015). «Le postmodernisme, nouvelâge de l’obscurantisme» http : //.www/cntaittoulouse.l’autre.net/spip.php ?article672, consulté le 07 janvier 2018.

 
فروع المركز

فروع المركز

للمركز الإسلامي للدراسات الإستراتيجية ثلاثة فروع في ثلاثة بلدان
  • العنوان

  • البريد الإلكتروني

  • الهاتف