البحث في...
عنوان المقطع
الملقی
محتوى المقطع
 أسلوب البحث
البحث عن اي من هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على كل هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على هذه الجملة

عنوان المقطع : شمولية الدين - المحاضرة (8)

الملقی : الشيخ علي ديلان

تاريخ إضافة المقطع : August / 6 / 2022

عدد زيارات المقطع : 164

حجم الملف الصوتي : 15.503 MB

عدد مرات تحميل المقطع : 217

تحميل المقطع الصوتي

محتوى المقطع :
بسم الله الرحمن الرحيم

 الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على النبي الأمين محمد وآله الطيبين الطاهرين المعصومين اللهم صل على محمد وآل محمد.

لازال البحث في الحلقات التي تتمحور حول الدين في بعض جوانبه، والحديث فعلاً في هذه الحلقة حول (شمول الدين واستيعابه لمجال الحياة الإنسانية) فقد حظي هذا المبحث بأهمية بالغة، حيث يرتبط بحدود علاقة الله تعالى بعباده، وأنه:

• ما المساحة أو الحد الذي على أساسه يتدخل الله سبحانه وتعالى في سلوك الإنسان؟

• وما مساحة الدين في تنظيم علاقة الإنسان؟ وما هي نوعية هذا التأثير؟ فمتى يقول الله سبحانه لعباده مثلاً افعل هذا ولا تفعل هذا؟

• وما المساحة التي سمح الله تعالى فيها للإنسان أن يفعل ما يشاء؟

• ما أسس ومبررات التدخل الإلهي؟ فلم أن الله سبحانه وتعالى يتدخل من الناحية القانونية في سلوكياتنا جميعاً؟ بناء على أن الدين مستوعب لجميع مجالات حياتنا.

• إذا كان الله سبحانه وتعالى خلق الإنسان حراً وذات إرادة، فلماذا أثبت قانوناً يحدد هذه الإرادة ويحدد توجهات الفعل الإنساني؟ ثم هل تتحدد مساحة التصرف بمسالة الغرض من خلق الإنسان؟ بملاحظة أن الله سبحانه وتعالى قد يُقال لم يخلق الانسان عبثاً ولهواً حتى أنه يقال: إنّ الإنسان ما دام حراً وأن الله تعالى قد خلق فيه إرادة فله أن يفعل ما يشاء، بل هناك غرض إلهي من خلق الإنسان.

إنّ بعض هذه الأبحاث قد تطرّقنا إليها في أبحاث سابقة وبيّنا ما هو موقف القرآن الكريم أو الموقف الإسلامي من الإنسان، وأنه كيف ينظر الله سبحانه وتعالى، والقرآن الكريم بما هو كتاب الله، إلى الإنسان؟ هل أن النظر إلى الإنسان بملاحظة أنه أنضج الحيوانات وليس هو إلا كائن حيواني وقع في سلسلة عليا من هذه الحيوانات الأرضية الطبيعية؟ أو أن نظر القرآن الكريم للإنسان باعتباره خليفة الإله سبحانه وتعالى ويكون منظوراً إليه من قبل السماء نظرة احترام ونظرة هيبة وتقدير ونظرة خليفة وإمام، وعلى هذا الأساس مثلاً كانت هناك قوانين تتناسب مع هذا الشأن العظيم.

فإذن مسألة شمولية الدين لمجالات الحياة الإنسانية أو قل مسألة تدخل الله سبحانه وتعالى من الناحية القانونية في سلوكياتنا نحن البشر مما يرتبط أكيداً بالغرض الإلهي من خلق الإنسان، وكذا يرتبط أكيداً بموقف الله سبحانه وتعالى من الإنسان وأنه ينظر إلى الإنسان نظرة خاصة تختلف عما تنظر إليه بعض الاتجاهات والتوجهات الفلسفية والأيديولوجية للإنسان.

ثم أنّ هناك أُسساً يعتمد عليها مبحث شمولية الدين لجميع سلوكياتنا وهناك آثاراً تترتّب على المبحث أيضاً نشير إلى بعضها على الأقل إن شاء الله تعالى ولكن بعد بيان المقصود من موضوع هذا المبحث الذي هو مبحث شمولية الدين، فنحن عندما نقول: هل الدين شامل لجميع مجالات الحياة؟ نريد بهذه الكلمة شمولية الدين أو مساحة الدين أو استيعابه لسلوكياتنا، فنريد بهذه الكلمة المقدار الذي يفرض فيه الدين أحكامه على الإنسان من الناحية القانونية، ولكي نوضّح مقدار هذا الكلام نقول:

إنّه قد يقع الحديث تارة عن مساحة تدخّل الإله في حياة الإنسان أو الكون تدخّلاً تكويناً، وأخرى يقع الحديث عن مساحة تدخّل الله سبحانه وتعالى في تحديد سلوك الإنسان، وهناك فرق بين أن يتدخل الله تعالى في الكون وفي الطبيعة وفي مجريات ما يحصل من مفردات في عالم الكون والطبيعة والحياة الذي هو نحو من التدخل التكويني، وأخرى يتدخل الله تعالى في تحديد سلوك الإنسان وهو نحو من التدخل التشريعي القانوني، والفرق بين المسألتين واضح لأن المسألة الأولى وهي أن يتدخل الله تعالى في الطبيعة أو في حياة الإنسان وفي الكون  التدخل فيه تدخل تكويني، بينما المسألة الثانية وهو تدخل الله تعالى في تقنين وتنظيم وتحديد سلوك الإنسان تدخل قانوني حيث يفرض على الإنسان سلوكيات خاصة حتى لا يكون الفرد فوضوياً في حركته وسلوكاياته وتعاملاته مع الآخرين، بمعنى أن يفعل ما يشاء وبأي طريقة يشاء، وحتى لا يكون كذلك لا بدَّ أن يحدّد الله سبحانه وتعالى وفق التدخل القانوني ضوابط وقوانين حاكمة، وهذه الضوابط والقوانين تحدّد من أفعال الإنسان وتفرض عليه أيضاً أفعالاً خاصة بمعنى أن عليه مسؤوليات كما أن له حقوقاً وأيضاً له مساحة من حرية التصرف فيما وراء الواجبات والمسؤوليات، فهناك فرق بين التدخل التكويني في الحياة والطبيعة والكون، وبين التدخل التشريعي. والتدخل التكويني ليس محل بحثنا فعلاً في هذه الحلقة، وإنّما هو من أبحاث علم الكلام وقد تطرقنا إليه فيما مضى في مناقشتنا مع الربوبية، ذلك أنّ الربوبية يعتقدون أن الله تعالى خلق الكون ومن ثم تركه على عواهنه.

وأيضاً هذا المبحث يرتبط بنظرية أهل التفويض الكلامية، وممن قال بها من الفرق الإسلامية المعتزلة أن الله أيضاً خلق الكون وتركه.

ما يهمنا فعلاً هو التدخّل القانوني، والتدخل القانوني دائماً يرتبط بفعل الإنسان، وبسلوكياته، ويحسن بنا هنا أن نقول كلمة ترتبط بشكل عام بكل مُقنّن سواء كان هذا المقنن إليهاً أو بشرياً، وهي: إنّ هناك مسألة هي محل اتفاق بين القوانين الدينية والقوانين البشرية، وهي: إنّ البشر قد اتفقوا على اختلاف أيديولوجياتهم إلا الشاذ القليل برفض نظرية الفوضى، أعني: نظرية الحرية المطلقة غير المقيدة بأي قيد لأن نظرية الفوضى أو الحرية المطلقة تنصّ على إباحة كل شيء لكل فرد، وهذه النظرية وفق جميع علماء القانون، ووفق جميع الفلسفات والأيديولوجيات إلا الشاذ النادر منها مرفوضة تماماً لأن مآلها إلى قانون الغابة في المجتمعات والحياة الإنسانية، وإلّا فإنّ كنا نحن قد رفعنا القيود جميعاً ورفعنا أي قانون يحدد تصرفات الإنسان فهذا في الحقيقة لا يعني سوى التقاتل والظلم والفوضى وانهيار الجماعة البشرية بكامل منظمتها الأخلاقية والقانونية والاجتماعية، حيث يصحّ أن يظلم كل فرد كل فرد، ويقتل كل فرد كل فرد، ويسرق ويكذب وكل شيء سوف يكون مباحاً، هكذا كل شيء قبيح سوف يكون مباحاً، ذلك أنّه فرضنا كون الإنسان حراً في تصرفاته، لا يحده قانون، ومن هنا نجد أن القانونيين سواء كانوا من جبهة الدينيين أو من الجبهة غير الدينية تتفق على رفض نظرية الفوضى.

     إذن المعروف بشرياً هو نظرية حاكمية القانون لا نظرية الفوضى والحرية المطلقة في الفعل الإنساني، بل أن النظرية المعروفة بشرياً والمتوافقة مع فطرة الإنسان هي حاكمية القانون وعلى مستويات مختلفة سواء كانت هذه الحاكمية على المستوى الدولي العالمي الأممي أو سواء كان على مستوى القطري كدولة واحدة أو المكاني، أو القبلي العشائري أو أي شيء من هذا القبيل حتى في أعرافنا العشائرية وفي أسرنا وفي داخل بيوتاتنا، ان هناك قوانين موجودة لا أنه كل فرد في هذا البيت يفعل كل شيء، بل هناك قوانين تحدد في داخل الاسرة - حتى لو لم تكن هذه قوانين دينية - هناك قوانين تحدد وتنظم العلاقات القبلية العشائرية العلاقات الاجتماعية والعلاقات الدولية إلى آخره.

إذن، لا بدَّ من فرض القانون لكي يأخذ كل ذي حق حقه، وهناك اختلاف بعد هذا الاتفاق، اختلاف في طبيعة القوانين المفروضة على الفعل البشري، حيث ان هذه القوانين المفروضة على الفعل البشري تختلف كما هو واضح من دولة إلى أخرى، من مكان إلى آخر، من قبيلة إلى ثانية وهكذا، وهذا الاختلاف سببه الأسس المعتمدة في تقنين القانون، وكذا الأعراف المتبعة والتقاليد والثقافات، فهذه بمجموعها تؤثر على اختلاف القانون، ففي أوروبا مثلاً هناك قوانين تتناسب مع الشأن الأوروبي ومع ثقافاتهم، وفي الشرق مثلاً أن هناك قوانين تتناسب مع ثقافاتهم وأعرافهم ومع تقاليدهم وأديانهم.

ومن هذه الأسس المعتمدة في تقنين القانون مثلا أصالة الفرد - على ما أوضحنا في محاضرات سابقة- أو أصالة المجتمع. وهناك فلسفات تتدخل في تقنين القانون، وهناك أيديولوجيات تؤثر في تقنين القانون. فإذا كان الذي يريد أن يقنن ينطلق من أيديولوجية دينية يختلف عما إذا لم تكن أيديولوجيته دينية، وهذا أمر معروف بين فقهاء القانون، حيث تتدخل عوامل كثيرة ومعقدة في سن القوانين، وهذا هو السبب في الاختلاف العظيم بين القوانين في الدول الشرقية عنها في الدول الغربية أو الدول المحافظة على الدول غير المحافظة، ولكن بما أنا لا نبحث شرح رؤية القوانين المسنونة وفق الفلسفات القانونية البشرية، وإنما حديثنا ينحصر فعلاً في القانون الديني من حيث طبيعة هذا القانون وجهة شموليته واستيعابه لمجالات الفعل الإنساني، وخلود هذا القانون واستيعابه الزمكاني.

وعليه، فما هي طبيعة القانون الديني؟ هل هو شامل مكانياً لجميع السلوك البشري سواء كان الفرد يعيش في أوروبا أو أمريكا أو شرق الأرض أو ما الى ذلك؟

حيث البحث في طبيعة هذا القانون وشموليته لكل مكان، وهل هو شامل زمانياً ومستوعب لجميع السلوك البشري لا في زمان واحد فحسب بل في جميع الأزمنة، فهو ممتد زمانياً ومكانياً، تاريخياً وجغرافياً ومستوعب لجميع مجالات الفعل الإنساني.

أما الحديث عن طبيعة هذا القانون الديني المستوعب لجميع مجالات الحياة الإنسانية، فمن الواضح أن القانون الديني المفترض هو القانون الإلهي الموجه إلى البشر عبر أنبيائه سبحانه وتعالى، ويتوجب حسب هذا الافتراض أن هذا القانون الديني هو قانون إلهي، وأنّ القانون الديني ذات مصالح كامنة فيه، وهذه المصالح قد تبدو واضحة في حالات، وقد لا تبدو كذلك في حالات أخرى، وإنما المصالح مرة تكون واضحة وأخرى لا تكون كذلك بالنسبة إلى المتلقي البشري لأن حصر التشريع في الإله سبحانه وتعالى العالم الحكيم الخالق العارف بأسرار الخلق ومكامن القوة فيه والضعف يقضي بعدم ضرورة الوقوف على جميع ملكات قوانينه ما دام قد تمت إحالة السلطة التشريعية بالإله العليم الحكيم.

 إذن، ليس بالضرورة أن نحيط بكل ما يعرفه هذا العليم، وبكل يفهمه هذا الحكيم، بل قد يكون الحكيم قد اطلع على أسرار الخلق سن عليه القانون وفق الأصلح وليس بالضرورة أن نكون مطلعين على جميع ما يصدر منه من قوانين.

نعم هذه القوانين الإلهية الدينية على العموم لا تصطدم مع الفطرة الإنسانية والبناءات العقلائية العامة ولا تصطدم أيضاً مع مدركات العقل القيمي الأخلاقي، وليس عندنا قانون يصطدم مع الجانب القيمي والأخلاقي كأن نجيز الظلم أو جرح مشاعر الاخرين أو النيل منهم أو إيقاع الفرقة بينهم أو يجيز النفاق، فلابد أن يكون هذا القانون الديني غير مصطدم مع الفطرة الإنسانية، كما انه ليس عندنا قانون يحرم الزواج بين الجنسين المتخالفين لأن الزواج يتناسب مع الفطرة البشرية، فالرهبنة في الإسلام حرام بشكل أكيد لأنها تصطدم مع الفطرة البشرية، وليس عندنا قانون يتنافى مع البناءات العقلائية التي يعمل بها جميع العقلاء والناس وهكذا، فهذه الصبغة الإلهية في التشريع هي الأساس في الاختلاف الجوهري بين القانون الديني والبشري على أن يكون القانون مصطبغاً بصبغة إلهية والله سبحانه وتعالى عندما قنّن هذا القانون نظر إلى مصالح العباد والمفاسد فحكم وألزم العباد بالعمل بهذا القانون أو الزم العباد بترك هذا الشيء.

إنّ الله سبحانه وتعالى في الحقيقة بما أنه عالم حكيم فيؤشر هذا على وجود مصالح في قوانينه قد تغيب عن الوعي الإنساني والفهم البشري، بينما القوانين المدنية الوضعية البشرية لا بد أن تكون واضحة لدى علماء القانون.

أما بالنسبة إلى الجمهور بشكل عام قد لا تكون أسرار هذه القوانين ومصالحه ومفاسده واضحة لديهم، ونحن كشعوب لا نعرف لماذا علماء وفقهاء القانون الوضعي البشري قد حكموا بهذا القانون؟ لكن علماء وفقهاء القانون البشري يعرفون ذلك، كذلك نحن الجمهور البشري لا نعرف لماذا الله سبحانه وتعالى قنن هذا القانون.

فيكون الفارق بين القانون الديني والقانون المدني الوضعي البشري هو أن القانون الديني وإن كان بعضه معروف المصالح والمفاسد إلا أن بعض القوانين الأخرى غير معروف المصالح والمفاسد، وإنما نطمئن بوجود مصالح فيها أو مفاسد، بملاحظة أن الله سبحانه وتعالى العالم الحكيم المطلع على أسرار الخلق هو الذي حكم به، بينما بالنسبة إلى الواضع البشري من علماء القانون فهم يعرفون أسرار هذه القوانين، وهذه نقطة اختلاف بين القانون الإلهي والقانون غير الإلهي البشري. بينما نقطة التوافق بينهما أن الشعوب عادة وهذه الجماهير لا تعرف أسرار هذه القوانين وإنما يحال الأمر فيها إلى أهل الاختصاص.

على كل تقدير، إن قوانين الأديان الإلهية ذات مصالح ومفاسد بمقتضى أن القانون قانون إلهي وحينئذ  نطرح تساؤل إزاءها، وهو: هل جميع الأديان لديها قوانين مستوعبة لجميع مجالات الحياة الإنسانية أو لا؟ وهنا نؤكد كما هو واضح أن الأديان الالهية ليست جميعها ذات رسالات شمولية واستعابية زمانياً ومكانياً، بل في هذه الأديان الإلهية رسالات قد تكون مكانية محصورة في مكان معين ومنها مثلاً فيها رسالات قبلية مرتبطة بعشيرة هذا النبي والرسول، ومنها أنها رسالات زمانية ترتبط بزمان معين ولا تمتد إلى جميع الأزمنة، ومنها غير ذلك كما أن في قسم من هذه الأديان كالدين الإسلامي ما ينص على الشمولية والمكانية والخلود الزماني بحيث تتوجه الدعوى لكل إنسان، ويتوجه القانون لكل فرد أينما كان، وفي أي زمان صار وهذا الاختلاف في الحقيقة بين الأديان يعني بعض الأديان تكون خاصة لقوم، وبعضها لمكان وبعضها لكذا، وبعضها شامل لكل زمان ومكان، وبعضها في زمان دون زمان، وهذا الاختلاف يتبع خطة الله تعالى في خلقه وهي تختلف باختلاف ظروف وملابسات الزمان فإن مراعاة الظروف والملابسات من الأمور المهمة المنظورة في دعوى الأنبياء (عليهم السلام) وإرسال الرسل ومسألة التبليغ، ولذا فإن الأنبياء (عليهم السلام) قد تجد أنهم في زمان واحد ولكن لديهم دعوات مختلفة قانونياً في أماكن متفرقة يعني حسب الظروف والملابسات في كل مكان، فيكون هذا مرسل إلى هؤلاء من قومه، وذاك مرسل إلى غيرهم ولكل له قانون، وثالث من الأنبياء اصلاً غير مرسل أساساً بل يكون نبياً ويعبد الله سبحانه وتعالى بينه وبين ذاته ونفسه، وهذا الاختلاف إنما يتبع الاختلاف في الظروف والملابسات فيما يقدره الله سبحانه وتعالى من مصلحة.

أما بالنسبة إلى الدين الإسلامي - وهو ما يهمنا الكلام عنه هنا - الدين المستوعب لجميع مجالات الحياة الإنسانية الزمكانية وذلك لاعتبارات قد شرحنا بعضها من أهمها خاتمية الدين وخلوده، وهذه الخاتمية والخلود يلازم أن نهاية المشروع الإلهي مع الإنسان بهذا الدين الخاتم من غير فرق بين إنسان وآخر ومن غير فرق بين جماعة وأخرى، وهذا يتطلب سعة الدين المذكور بحيث يكون شامل لكل زمان ومكان، وإلا فكيف يكون دين الإسلام هو الدين الخاتم وأنه هو الخالد من دون أن يكون مستوعباً لجميع مجالات الفعل الإنساني؟ عندما تكون هناك خاتمية لنبوة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فهذا معناه أنه لا نبي بعد النبي (صلى الله عليه وآله) لا في الجزيرة العربية ولا في آسيا ولا في أمريكا، ولا في أوروبا، ولا في أستراليا إلى آخره، فهنا نحن نمنع دعوى النبوة بعد النبي (صلى الله عليه وآله) مما يستدعي أن تكون هذه الرسالة مستوعبة لجميع مجالات الحياة الإنسانية، وقد تسأل عن مضمون هذه السعة والشمولية في دين الإسلام كيف تكون؟ وما هي مضامينها؟ والجواب في الحقيقة أن الشمولية والاستيعاب لمجالات الحياة الإنسانية تتأتى ضمن أمور:

الأمر الأول:  تتأتى على الأحوال الشخصية للفرد التي ترتبط بالفرد الإنساني بزيد من الناس مثلاً، وذلك في القوانين التي ترتبط بالزينة والتجمل واحترام الذات وعدم إهانتها بكلام أو فعل أو لبس، ولهذا في القانون الاسلامي لا يجوز للإنسان أن يلبس لباس يوجب إهانته، فالله سبحانه وتعالى وفق الإسلام يريد من الإنسان أن يكون محترماً في مجتمعه ويحرم على الإنسان أن يؤذي شخصه ويهين ذاته أمام الآخرين، كذلك أنه يحرم على الإنسان أذية الذات والإضرار بها الضرر الكبير، وايضاً الدين الإسلامي يأمر الإنسان أن يقي نفسه من الأمراض المؤذية والمبادرة إلى علاج الذات فيما إذا كانت هذه الأمراض تفتك بالإنسان وتضره ضرراً بليغاً، وأيضاً  مما يرتبط بالقضايا والأحوال الشخصية للإنسان هو الانفتاح على العالم الخارجي وعدم الانغلاق النفسي فهذه أمور ترتبط بالأحوال الشخصية للإنسان. وهكذا الإسلام يتدخل في هذه الشؤون وغير ذلك من الأحكام المرتبطة بالجانب الشخصي الإنساني سواء كان فيما يرتبط بزيه ونظافته وباحترام ذاته وبعدم إهانته أمام الآخرين وبالتحرز من أذيتها أو من الأمراض.

الأمر الثاني: الذي يرتبط بسعة الإسلام وشموله وسعة القانون الديني وشموله هو ما يرتبط بالأحوال العبادية وذلك من ممارسة الطقوس والشعائر الدينية والعبادية كالصلاة والصيام والحج وزيارة الأولياء الصالحين لاستذكار مواقفهم وأرواحهم الزكية ونحو ذلك من الأمور العبادية فهذه الأمور أيضاً يتدخل القانون الإسلامي به وينظم علاقة الإنسان مع ربه ومع أولياء الله سبحانه وتعالى.

الأمر الثالث: فيما يرتبط باستيعاب القانون الإسلامي لمجالات الحياة البشرية هو الذي يرتبط بالأحوال والشؤون الأخلاقية حيث إنّ الإسلام يحث على طهارة النفس البشرية من الخبث والرذيلة، ويحث الإنسان على الأخلاق الحسنة وحب الآخرين كما نحب لأنفسنا ونكره للآخرين ما نكره لأنفسنا وغيرها من الأحاديث الكثيرة المتواترة في بيان الجوانب الأخلاقية والقيمية للذات البشرية.

الأمر الرابع: التي تتضمنه سعة القانون الإسلامي هو فيما يرتبط بالأحوال الأسرية وذلك في القوانين التي تنظم علاقة الزواج والطلاق وعلاقة الزوج بزوجته وأسرته وعلاقة الأسرة برب الأسرة والزوجة بزوجها وكيفية التعامل من الطرفين وتحديد الحقوق والواجبات وآداب الأسرة وما إلى ذلك مما هو مذكور في القانون الديني وفي الآداب والأخلاق الإسلامية.

الأمر الخامس: مما يرتبط بسعة القانون الإسلامي هي فيما يتعلق بالأحوال الاجتماعية من قبيل الأمر الذي يتعلق بالتكافل الاجتماعي ومساعدة الفقراء من خلال الكفارات أو النفقات أو الفدية أو زكاة أو الخمس أو قضاء الحوائج مثلاً في غير الموارد الاقتصادية، وقضاء حوائج المؤمنين، وحلّ النزاعات الاجتماعية، مثلاً تقنين علاقة الصداقة مواصفات الصديق الحسن والسيئ، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وهكذا من الأحوال والقوانين التي تنظم العلاقات الاجتماعية.

الأمر السادس: مما يرتبط بسعة القانون الإسلامي هو الذي يتعلق بالأحوال العامة فيما يرتبط بكيفية استثمار الأرض والطبيعة والموارد الاقتصادية المخزونة في الطبيعة، والثروات المائية، والحفاظ على البيئة والحيوانات وتعاملنا معها وتعاملنا مع الطبيعة وكل ذلك يرتبط بالأحوال العامة. وفي كل واحد من هذه الأمور الستة هناك قوانين مكثفة وتفصيلات متعددة، وأن كل جزء من جزئيات حياة الفرد الإنساني له حكم في شريعة الإسلام بمعنى أن يكون للقانون الإسلامي موقف ومساحة، وأن سعة القانون في السلوك الإنساني وإن كانت في معظمها هي الإباحة والسعة وحرية الاختيار، إلا أن في موارد السعة هناك ما تكون أموراً مستحبة ومحببة عند الإله أن تُفعل، وهناك أمور مكروهة عند الإله وأن الله يكره أن تُفعل، فهناك مساحة كبيرة فيها سعة وحرية الاختيار للإنسان.

   وما عدا مساحة السعة هناك مساحة إلزام، ونريد من الإلزامات الأمور الواجبة أو الأمور المحرمة ومساحة الإلزام نسبياً قليلة إذا ما قسناها مع جميع الأحكام الإسلامية، وقد رصدت الأحكام الإسلامية سواء كانت الوجوبية أو التحريمية في الفقه الإسلامي وما عدا ذلك يكون الإنسان فيها في سعة. والسعة القانونية المذكورة لا تختص بزمان أو مكان كما ذكرنا بل أن سعة القانون الإسلامي بحيث يستوعب مجالات الحياة الإنسانية شاملة لكل زمان ومكان كما ذكرنا، ولكن قد يُثار بعض الإشكاليات على ذلك نذكر بإيجاز بعضاً منها ونجيب بإيجاز عليها، ومن هذه الإشكاليات نذكر إشكاليتين مشهورتين:

 الإشكالية الأولى: إنّ النصوص اللغوية محدودة من حيث الزمكان فلها دلالات تاريخية، ونقصد من هذه النصوص اللغوية ج بشكل عام أي نص لغوي، أو أي قطعة شعرية، أو أي نص أدبي سواء كان في اللغة العربية أو في اللغات الأخرى، فكل نص أدبي إنما ترتبط دلالاته في الزمان الذي ولد فيه هذا النص، ولهذا قد يكون اللفظ في زمان يحمل معن؛ وفي زمان آخر يحمل معنى آخر مثلاً لفظ الطهارة في زمان رسول الله (صلى الله عليه وآله) قد يقال: إنه بمعنى النظافة لأن الطهارة بمعنى النظافة لغة ولكن في زمان الإمام الباقر(عليه السلام) والإمام الصادق (سلام الله عليه) وبعده من الأئمة (عليهم السلام) الطهارة تعني الطهارة المصطلحة (الطهارة الشرعية) التي نعرفها الآن في الفقه الديني، وقد يكون اللفظ في زمان يحمل دلالة لكنه في زمان آخر يحمل دلالة أخرى هذا واضح عند علماء اللغة. ومن هنا فإن الدلالة اللغوية للنصوص تختلف من زمان إلى زمان آخر، وإذا كانت دلالة النص تختلف من زمان إلى زمان آخر فهذا يعني أن أحكام هذه النصوص ومداليلها تختلف بحسب الزمان فما يدل عليه النص في ذلك الزمان غير ما يدل عليه النص في هذا الزمان مما يعني أن الأحكام الإسلامية إنما هي حبيسة ما تدل عليه النصوص في تلك الأزمنة ولا يصح أن نقول بأن هذه النصوص الإسلامية تدل في هذا الزمان على أحكام ولكن نحن نبسط المفاد الموجود في الزمان القديم كزمان أئمتنا (عليهم السلام) زماننا هذا.

 وقد يقال: إنّ هذا النص الدلالي الذي صدر في القران أو من النبي (صلى الله عليه وآله) أو صدر من أئمتنا (عليهم السلام) إذا كان قد صدر في زمان كان له مدلول وله مدلول آخر في زمان آخر، ففي كل زمان له مدلوله، فيتوجب ان نعمل على أساس مدلوله وفق اختلاف المدلول، الذي يتبع اختلاف الزمان واختلاف الظروف فما كان يستفاده أصحاب الأئمة (عليهم السلام) من أحكام فهذا خاص بهم وما نحن نستفيده من أحكام فهذا خاص بنا بعد مئتين سنة أو بعد ألف سنة، فغيرنا يستفاد حكماً آخر من هذه النصوص اللغوية. نعم، فلكل زمان له أحكامه لأن النصوص في كل زمان لها دلالات خاصة بذلك الزمان، فتختلف دلالات النصوص. والمحصل من هذه الإشكالية ما دامت أن النصوص اللغوية تختلف من زمان إلى زمان آخر حسب اختلاف الظروف. فإذن النص الديني بما أنه نص لغوي ويحمل دلالات مختلفة ففي كل زمان له دلالة يختلف عن زمان آخر، فالنص واحد ولكن الدلالات مختلفة والمداليل مختلفة هذه هي حصيلة إشكالية

والجواب على هذه الإشكالية: إنّ هناك فرقاً بين الدلالة اللغوية للنص وبين الحكم المستفاد من هذه الدلالة فمثلاً لو افترضنا - مع أن هذا فيه تفصيل- أن الدلالة النصية تاريخية بمعنى أن هذا النص اللغوي الديني يحمل مدلولاً خاصاً بحكم شرعي كأن يكون الوجوب مثلاً أو أنه جاءت رواية أو آية بحرمة أكل لحم الخنزير، فهذه لها دلالة وفق ذلك النص القرآني أو النص الديني الروائي أو الحديثي، ففي هذا الزمان نفرض بأن هذا النص قد لا يدل على الحرمة بل يدل على الكراهة مثلاً - هكذا نفرض - ولكن نحن إنما نكون مأمورين في الحقيقة بالأخذ بما يستفاد من هذا النص اللغوي الذي ولد فيه ذلك النص عندما قال الإمام (عليه السلام) مثلاً أو قال الله تعالى أو الحديث بأن لحم الخنزير حرام، وهذه الصياغة اللغوية تدل على الحرمة وإن كانت الصياغات مختلفة.

هناك فرق بين الدلالة النصية حتى لو كانت تاريخية وبين المدلول الذي دلت عليه هذه الدلالة النصية الذي هو الحكم المدلول، فالمدلول الذي هو الحكم ثابت بغض النظر عن دلالة النصوص عليه غايته أنه في ذلك الزمان قد صيغت الدلالة النصية بصياغة فأفادت هذه الحرمة وفي هذا الزمان نحتاج إلى صياغة أخرى لكي نفيد هذه الحرمة، وفي زمان ثالث قد نستفيد دلالة ثالثة ورابعة وعاشرة، لكن المقصود أنه - العبرة - بما نستفيده في زمان صدور النص، فصدور النص في زمانه كان يفيد الحرمة فيكون حلال محمد (صلى الله عليه وآله) حلال إلى يوم القيامة وحرامه حرام إلى يوم القيامة بغض النظر عن الصياغة النصية التي دلت عليه، وأنها قد تختلف من زمان إلى زمان آخر. فالمعيار هو في استفادة الحرمة أو الوجوب أو الاستحباب أو الكراهة أو الإباحة، والمدار في استفادة هذه الأمور الخمسة في عصر صدور النص، فإذا كان النص قد صدر في زمان الإمام الباقر (عليه السلام) لابد أن نلاحظ أنه ماذا نستفيد من هذا النص في زمان الإمام الباقر (عليه السلام)، وإذا كان النص في زمان الإمام الرضا (عليه السلام) لا بدَّ أن نعرف ماذا نستفيد من هذا النص في زمان الإمام الرضا (عليه السلام) هذه إذن الإشكالية الأولى وهي إشكالية ضعيفة.

الإشكالية الثانية: وتفيد هذه الإشكالية بأن القوانين حسب ما يستفاد من بعض أهل الاختصاص تختلف باختلاف البشر الموجه إليهم هذا القانون فمثلاً أنه في أوروبا لا بدَّ أن تكون هناك قوانين تختلف عن قوانين التي تشرع في العراق مثلاً لاختلاف كل بلد حسب أعرافه وتقاليده وأسسه المعتمدة ونحن أيضاً لدينا أعرافنا وتقاليدنا وأسسنا المعتمدة في إنشاء القانون، ولا يمكن أن يكون هناك قانون شامل لكل زمان ومكان - هكذا قد يقال- كيف يمكن فرض قانون أبدي؟

     والجواب على هذه الإشكالية يتمّ بأمرين:

الأمر الأول: دعوى ضرورة اختلاف القانون بين الجماعة وأخرى ليست صحيحة بل يمكن أن يكون هناك قانون مشترك بين البشر وإذا لم يمكن تطبيقه في بعض المجتمعات لبعض الموانع فإن هذا لا يعني أن العيب في القانون غايته أن هذا المجتمع يحتاج إلى ارتقاء أفضل، ويمكن ان تُقنن بعض القوانين الخاصة بهذا المجتمع الذي يحتاج إلى ارتقاء والتي لا تتنافى بقدر الإمكان مع القانون الأساس، وهذا أيضاً أمر متفق عليه بين فقهاء القانون حيث إن المعتمد عند فقهاء القانون جميعاً سواء كانوا إسلاميين أو غير إسلاميين، على أن بعض المجتمعات تحتاج إلى تهيئ أكثر حتى تتقبل بعض القوانين المدنية مثلاً فدعوى أنه لابد أن يكون هناك قانون لكل مجتمع دعوى غير صحيحة، بل من الممكن أن تكون هناك قوانين ثابتة ومشتركة من قبيل كون الإسلام يحرم بعض الأمور كالخمر ولحم الخنزير ويحرم الغيبة والزنا ولواط والزواج المثلي إلى آخره فهذه محرمات من الممكن أن نقول أنها أحكام عامة. الآن بعض المجتمعات تجيزها، وفي نفس الوقت نقول: أن هذه ليست ضرورة بحيث أن المجتمع لا يمكن أن يتخلى عنها، بل من الممكن أن نثقف المجتمع ولو لفترة معينة على استقبال مثل هذا القانون، فيكون هذا القانون قانوناً عاماً مشتركاً.

   هناك بعض القوانين قد لا تتقبل من قبل بعض المجتمعات وتواجه إشكالية كبيرة كمسألة الحجاب مثلا فهنا من الممكن أن تسن بعض القوانين التي لا تتنافى مع مسألة الحجاب كأن يفرض الحجاب في الشارع مثلاً، أما في البيوتات فحيث يكون هناك نحو من الاختلاط بين العوائل فان المشرع لا يتدخل في هذا الشأن تنفيذيا بقدر ما يوجه بحرمة خلعه تشريعيا أو قد يقال بأن الحجاب ما دام أنه أمر شخصي وهذا المجتمع لا يتحمل إيجاب الحجاب في هذا الوقت بالتحديد ويحتاج إلى برهة من الوقت حتى يتهيأ فنحن ما علينا إلا أن نبلغ القانون الإسلامي بقدر الإمكان ونثقف المجتمع على القانون الإسلامي من دون أن يكون هناك إرغام له حتى يتهيأ بعد ذلك ويتقبل هذه الفكرة، وهذا قد يكون علاجاً مؤقتاً والأمر في كل ذلك بيد من بيده هذه الأمور.

الأمر الثاني: وهو أنه لو افترضنا كما هو واقع الحال أن القانون الديني لا يمكن تطبيقه بالمرة في بعض المجتمعات فيقال: إن القانون الديني الإسلامي كغيره من القوانين لديه قوانين أولية وأخرى ثانوية طارئة وهذه في الحقيقة نحو من الاستيعاب الشامل للحالات الاعتيادية والحالات الطارئة، ففي الحالات الاعتيادية هناك قوانين نطبقها على جميع البشر فإذا ما رأينا بعض المجتمعات لا تتقبل فكرة الحجاب مثلاً فهناك قوانين طارئة مثلاً أنه من الممكن أن نستبدل هذا القانون بهذا القانون، وهذا القانون الطارئ إنما يقدر بالقدر الذي يراه الإمام المعصوم (عليه السلام) أو المخول من قبله.
 
فروع المركز

فروع المركز

للمركز الإسلامي للدراسات الإستراتيجية ثلاثة فروع في ثلاثة بلدان
  • العنوان

  • البريد الإلكتروني

  • الهاتف