البحث في...
عنوان المقطع
الملقی
محتوى المقطع
 أسلوب البحث
البحث عن اي من هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على كل هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على هذه الجملة

عنوان المقطع : فلسفة الدين - المحاضرة (7)

الملقی : الشيخ علي ديلان

تاريخ إضافة المقطع : August / 6 / 2022

عدد زيارات المقطع : 219

حجم الملف الصوتي : 14.307 MB

عدد مرات تحميل المقطع : 193

تحميل المقطع الصوتي

محتوى المقطع :
بسم الله الرحمن الرحيم

      الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على الرسول الأمين وعلى آل بيته الطيبين الطاهرين المعصومين اللهم صل على محمد وآل محمد…

لا يزال البحث في هذه الحلقات التي تتمحور حول الدين، ووصل الحديث إلى موضوع (فلسفة الدين)، إنّ هذا المصطلح يشير إلى معانٍ متعددة وفق المدوّنات الحديثة، ولكن ما نريده منه في هذه الحلقة وفي هذه الأبحاث هو دراسة تحليلية وتحقيقية في المعطيات العقلية الفلسفية أو المعرفية أو المنطقية المذكورة في النصوص الدينية، فإنّ الدين كما تقدّم عبارة عن مجموعة من المبادئ المعرفية والأفكار الأيديولوجية والقوانين التنظيمية والقيم الأخلاقية، ومن الطبيعي أن تتضمن نصوص الدين جملة من الأفكار المعقولية، سواء كان فيما يرتبط بأبحاث نظرية المعرفة أو بأبحاث الفلسفة، فما يذكره الدين من أبحاث معرفية أو منطقية أو فلسفية، نريد إلقاء الضوء عليه، ومعرفة كيفية التعامل معه، وهل نتعامل مع المعطى العقلي المذكور في النصوص الدينية على أنه معطى عقلي أو على أنه معطى ديني؟

فإذا كان على أساس أنه معطىً ديني فيكون من الأمور التعبدية التي نُسلم به من باب التسليم بالدين، أما إذا تعاملنا مع هذه المعطيات العقلية المذكورة في النصوص الدينية على أنها معطيات عقلية محضة، وهنا قد يقع تساؤل عن مدى التوافق بين هذا الذي يطرح في الدين من أفكار معقولة، وبين ما يطرح فلسفياً وعقلياً ومنطقياً ومعرفياً فهل أن ما هو مطروح من معطيات عقلية في النصوص الدينية تتوافق مع ما هو مطروح في باب المعقول؟ هل أنه ينسجم مع القناعات المشتركة عند علماء المعقول أو أنه ليس إلّا متوافقاً مع بعض رؤى علم المعقول وقد يختلف مع رؤى معقولية أخرى؟

وعليه، فقد يقع سؤال عن مدى التوافق بين التفكير المعقولي والطرح الفلسفي الديني، أي بين ما يفكر به المعقول وبين ما يطرح في الدين من أفكار عقلية؟ وكذلك قد يقع التساؤل عن القواعد المتّبعة فيما كان ظاهره التعارض والاختلاف، لأنّه إذا كان المعطى العقلي المذكور في النصوص الدينية مما نتعامل معه على أساس أنه معطىً عقلي فقد يقع الاختلاف بين ما هو مطروح في باب الأفكار العقلية، حيث سيتعامل مع مفاد النص الديني كأي طرح من الأطروحات العقلية فيقع الاختلاف بين هذا المعطى العقلي الديني وبين المعطي العقلي البشري اللاديني، فكيف نتعامل مع ظاهرة التعارض والاختلاف بين ما يعتقده العقل البشري أو فئة من البشر وبين ما يطرح من أفكار معقولية في النصوص الدينية؟ وهذا البحث في الحقيقة من الأبحاث المهمة ويدخل في موضوع العلاقة بين الدين والعقل الذي أثير بقوة في الحضارة الغربية، حيث تولّد صراع كبير بين الطرفين، بين العقل الذي لا يتقيد بحدود دينية أو اجتماعية أو عرفية وإنّما يكون منفتحاً بشكل كامل على أي أطروحة أو فكرة من الممكن أن تصبح محل قناعة العقل البشري بلا محظور ديني أو اجتماعي أو عرفي أو نفسي أو ما شاكل، وهنا يقع الصراع بين هذا العقل غير المتقيد (العقل المطلق) وبين الأفكار العقلية الموجودة في النص الديني، كما وقع هكذا صراع في الحاضرة الغربية بين عقل مطلق غير متقيد وغير محدود بحدود دينية أو عرفية أو نحوهما وبين الدين المسيحي الذي كان مهيمناً على الوضع الفكري آنذاك في أوروبا بما يشتمل على أفكار تتنافى كثيراً مع الطرح العقلي وإن أُدّعي أن هذه الأفكار هي فوق العقل من قبل المسيحيين.

ودعوى أن هذه الأفكار هي فوق العقل أمر رفضه أتباع الطرف الأول وهم طرف العقليين واتهموا الدين المتمثل بالمسيحية بالضعف، ومن ثم قالوا بأن الدين المسيحي هو في الحقيقة من اختراع أتباع الأديان وهو بشري محض وليس إلهياً.

هذا نحو من الصراع في أوروبا قد حدث بين الطرف العقلي والطرف الديني، وقالوا بأن بعض المعطيات العقلية التي يتحدث عنها الدين، تتنافى مع العقل البشري القطعي أو تتنافى مع الوضوح العقلي، وهناك أمور قد تصطدم مع البداهة العقلية مما هو مذكور في النصوص الدينية المسيحية، فأثار هذا صراع كبير بين الطرفين، بين الفلسفة العقلية (الفلسفة البشرية) ممن يتخذ العقل مصدراً له في أفكاره من دون أن يتقيد بحدود عرفية أو محظورات اجتماعية أو دينية، وبين أتباع الأديان.

ونريد من هؤلاء الذين قالوا بمركزية العقل وأنه المنطلق، والمنتهى، والأساس، هم الذين يجعلون من العقل ومن التفكير العقلي الأداة الموضوعية الوحيدة في الوصول إلى الحقائق.

وفي الحقيقة، أن المسيحية وقعت في نقاط حرجة إزاء إشكاليات طرحت من قبل جبهة العقليين، حيث وجهت إلى الدين المسيحي ولم تتمكن الاتجاهات المسيحية على اختلافها من علاج هذه الإشكاليات موضوعياً، وكان الجواب الحاضر عند المسيحيين في تلك الحاضرة وفي ذلك الزمان عادة هو أن المعطى الديني هو معطى فوق العقل، ولا يزال هذا النمط من التفكير موجود بين أتباع الدين المسيحي، فمعروف أنهم يقولون بأن هذا هو فوق العقل من قبيل فكرة (التثليث المقدس) مع أن أصحاب الاتجاه العقلي يقولون بأن هذا يتنافى مع العقل لا أنّه فوق العقل، فهناك فرق بين أن يكون الشيء فوق العقل وبين أن يكون الشيء منافياً للعقل، والفارق بإجمال وباختصار أن ما يكون فوق العقل هو أمر ممكن غايته نحن لا ندركه، وأما الذي يتنافى مع العقل فهذا أمر مستحيل الاعتقاد به ومرفوض وفق مساحة القناعة البشرية.

وأياً كان، فإنّ المسيحيين فرّقوا بين المعطى العقلي والمعطى الديني، وجعلوا المعطى الديني هو سنخ من المعارف الفوق عقلية دائماً، فكل معطى عقلي مذكور في النصوص الدينية يتنافى مع العقل الصريح أحالوه إلى منطقة فوق العقل وجعلوه من الأمور الغيبية، وقالوا بأن هذا أمر لا ندركه.

إن كثيراً من الباحثين أسقطوا الصراع العقلي الديني في الحاضرة الغربية بين جبهة المسيحية وبين جبهة الفلاسفة بعنوانه العام على حاضرتنا الدينية الإسلامية، وحاولوا أن يخلقوا صراعاً وهمياً بين الفلسفة أو الأيديولوجية الحرة، وبين كل الدين ، فقالوا بأن هناك صراع وتنافٍ وتضاد بين العقل وبين الدين الإسلامي، فكما أنّ هناك صراعاً في القرون السابقة في الحاضرة الغربية بين المسيحية والفلاسفة، كذلك في الحاضرة العربية الإسلامية هناك صراع بين الدين الإسلامي وبين الفلسفة أو بين الدين الإسلامي وبين جبهة العقليين، وهذا النحو من الصراع في الحقيقة هو استحداث واختلاق اخترعه بعض الباحثين، وربّما أن كثيراً من الباحثين ممّن ليس لديهم ميولات دينية سحبوا هذا الصراع وأسقطوه على حاضرتنا الإسلامية وقالوا بأن ما نمر به نحن في هذه العصور هو الذي كانت تمر به أوروبا في العصور السابقة، وأحدثوا عراكاً مختلقاً بين العقل والدين الإسلامي واستشهدوا لفكرة أن العقل والدين يصطدمان ويتعارضان بل أن العلم أيضا يصطدم مع الدين بفكرة أن هذا الصراع قد حدث في الحاضرة الأوروبية، فإن الذي حدث في أوروبا هو عين ما يحدث في عصورنا التي نحن فيها، وهذا النحو يعد من تعميم النموذج الواحد أو المعدود على نماذج أخرى مختلفة، فإن النموذج المنظور لديهم له ظروفه وأسبابه ولفلاسفته أعرافهم وتقاليدهم ومزاجاتهم النفسية الخاصة، كما أنّ الأفكار والصراعات المتضمنة فيه نتاج حضارة معينة، فكيف يمكن أن يقاس ذلك بحضارة مختلفة تماماً مع الحضارة التي نعيش فيها، فهو يرتبط بتعميم النموذج، فهناك نموذج واحد وأنت تعممه على باقي النماذج من دون أن يكون هناك مبرر وكأنه إذا كانت المسيحية أو اليهودية أو أي دين آخر في صراع مع العقل في زمان فلا بدّ أن تكون جميع الأديان كذلك في جميع العصور والأجيال، كما لا يمكن إذا كان في زمان ما أن هناك إشكالية موجودة على دين معين أن كل دين يحمل هذه الإشكالية فإنّ هذا نموذج ولا يصحح ان نعممه على باقي النماذج الا مع وجود ما يبرره من قيود وشروط مكثفة.

على كل حال فإنّ بعض المعطيات والقضايا التي تناولتها النصوص الدينية، مما ينحصر إثباتها في الوحي وفي التعبد الديني، وهذا أمر لا ينكر في الحقيقة وكثير من الأمور الدينية على مستوى الطقوس والشعائر والعبادات هي أمور تعبدية.  كما أن هناك بعض المعطيات ينحصر إثباتها بالعقل، ونحن في الحقيقة ليس حديثنا مع القسم الأول يعني النصوص والمعطيات التعبدية المذكورة في النصوص الدينية، وإنما كلامنا حول المعطيات العقلية المذكورة في النصوص الدينية، وهي معطيات مدركة من قبل العقل، وفي نفس الوقت نجد أن الدين قد تطرق إليها، وهذا هو البحث الذي نعني به بعنوان فلسفة الدين وبالأحرى أن نسميها (الفلسفة في الدين، أي الفلسفة التي تطرقت لها النصوص الدينية) فكيف نتعامل مع هذه المعطيات العقلية المذكورة في النصوص الدينية مع كونها معطيات عقلية؟ فمثلاً من الأمور العقلية التي تطرّق إليها الدين هي حصول الفساد الكوني عند افتراض آلهة ثانية، فإن كان هناك آلهة غير الله سبحانه وتعالى لحصل الفساد الكوني: (لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا) وهذا أمر عقلي تطرق إليه الإسلام، وكذا من القضايا العقلية ضرورة ألّا يشبه الإله شيء (ليس كمثله شيء).

هناك قضايا عقلية تطرق إليها الدين فيما يرتبط بوجود الله سبحانه وتعالى، وفيما يرتبط بصفاته سبحانه، وفيما يرتبط ببعض القضايا المنطقية -سوف نشير إليها إن شاء الله تعالى – ونتعامل مع هذه القضايا على أنّها معطيات عقلية، ومن هذه الجهة، هل يحق لنا أن نناقشها؟ وكيف أنه إذا حدث خلاف بين المعطى العقلي المذكور في القرآن الكريم مثلاً أو في الروايات أو في النصوص الدينية، وبين المدركات العقلية البشرية اللادينية.

وبعبارة أخرى بين المعطى العقلي المذكور مثلاً في القرآن الكريم، وبين المدرك العقلي من قبلك أنت الذي تفكّر بعقلك خالصاً من دون من أن تتبع الدين، نعم، إذا حصل هناك توافق بين العقل والدين فلا مشكلة، ولكن إذا حصل هناك تصادم واختلاف فما هو العمل؟

    الجواب على هكذا سؤال يتم على فروض:

الفرض الأول: هو أن يكون المعطى العقلي بديهياً واضحاً، وهذا المعطى العقلي البديهي الواضح هو بعينه مذكور في النص الديني أيضاً بصورة جزمية قطعية، يعني لا إشكال بأن الدين أيضاً أعتقد به، فإذا كان المعطى العقلي واضحاً بديهياً لا شك فيه، ونفس هذا المعطى العقلي الواضح البديهي موجود في النص الديني، فيحصل هناك توافق بين المعطى العقلي وبين النص الديني.

نعم إذا افترضنا أن هناك اختلاف وتضارب بين المعطى العقلي البديهي الواضح وبين النص الديني الجزمي القطعي على أمر فكانت النتيجة بأن المعطى الديني القطعي يصرح بنتيجة (أ) بينما المعطى العقلي يصرح بنتيجة عكس (أ)، أي: ي: أيلو افترضنا بأنه وفق المعطى الديني يستحيل إثبات شريك لله سبحانه وتعالى، ولكن مثلاً نفترض وفق المعطى العقلي أنه لا إشكال في ذلك، فإذا كان هذا المعطى العقلي من الأمور البديهية الواضحة والمعطى الديني يصرح بشكل جزمي وقطعي خلاف الوضوح العقلي، فهنا ما هو العمل؟ يعني صار هناك اختلاف بين المعطى العقلي البديهي وبين النص الديني الذي يجزم بخلاف المعطى البديهي العقلي ما هو العم؟

الفرض الثاني: أن يكون المعطى العقلي أيضاً بديهياً ولكن هذا المعطى العقلي البديهي يصطدم مع النصّ الديني، ولكن النصّ الديني الذي يصطدم به المعطى العقلي البديهي الواضح بمستوى من الدلالة ليس قطعياً كأن يكون ظنياً من قبيل مثلاً أن المعطى العقلي البديهي الواضح يقول: إنّ واجب الوجود يستحيل أن يكون له عينان ويدان، ولنفرض أن هذا من المعطى العقلي الواضح، ولكن كان لدينا ظهور قرآني أو روائي أو أي نص ديني ليس بمستوى من الجزم والقطع، وهذا الظهور القرآني أو الظهور النصي الديني يفيد بأن الله سبحانه وتعالى له عينان مثلاً وله يدان فما هو العمل؟ هنا يحصل تصادم بين المعطى العقلي الواضح وبين النص الديني غير القطعي كأن يكون ظنياً ما هو العمل في ذلك؟

الفرض الثالث: أن يكون المعطى العقلي ليس واضحاً بمعنى أنه ليس بديهياً، وإنما يكون استنتاجياً. المعطى العقلي هو قطعي ولكنه استنتاجي، يعني فكّر فيه البشر ملياً حتى وصل إلى نتيجة والبشر بعضهم مع البعض الآخر عادة يختلفون في هذه الأمور الاستنتاجية النظرية، فكان هذا المعطى العقلي استنتاجياً نظرياً، والعقل وفق الاستنتاج النظري هذا مثلاً يفيد نتيجة هي تخالف ما هو مذكور في النص الديني القطعي، فالفرض الثالث يبيّن أنّ النصّ الديني يصرّح بكذا رؤية تصريحاً قطعياً، ولكن هذا يتنافى مع المعطى العقلي الاستنتاجي النظري.

الفرض الرابع: وهو أن يكون المعطى العقلي استنتاجياً، وهو يخالف النص الديني ولكن النص الديني لم يكن بمستوى من القطع بل كان بمستوى ظني أو أقل من ذلك. فهذه فروض أربعة نكتفي بها، وهناك فروض أخرى كثيرة لكن نكتفي بهذه الفروض.

مناقشة الفروض



مناقشة الفرض الأول: أما بالنسبة إلى الفرض الأول وهو أن يكون المعطى العقلي واضحاً بديهياً وهو يتصادم مع النص الديني الذي يصرح بأنّه يصطدم مع العقل البديهي تصريحاً جزمياً قطعياً. ففي هذا الفرض إذا حصل التنافي بين العقل والدين فهنا نجزم أولاً بأنّ هناك تصادماً في الحقيقة قد حصل بين العقل وبين الدين، لماذا؟ لأن كلا المصدرين واضحان جداً حسب الفرض في معطيهما، فبالنسبة إلى العقل كان هذا أمراً بديهياً، كأن يقول العقل: الواحد لا يساوي ثلاثة هذا العقل، وبالنسبة إلى النص الديني فلنفترضه يقول بأن الواحد هو ثلاثة كما هو الحال في فكرة (التثليث المسيحية) الواحد يساوي ثلاثة، فهنا تصادم المعطى العقلي البديهي الذي هو الواحد لا يساوي ثلاثة مع المعطى الديني الذي يصرّح تصريحا واضحاً لا يقبل التأويل بأن الواحد يساوي ثلاثة، فما هو الموقف الذي يجب أن يتبع؟

بعض الاتجاهات يقدّم الدين على العقل كما هو الاتجاه المسيحي عموماً، فهم يقدّمون في مثل هذا المقام الدين على العقل -كما أشرنا قبل قليل- بأنّهم يقولون بأن هذا فوق العقل لأنّ الدين يعتبرونه هو علم الله سبحانه وتعالى، وأما العقل فهو قوة محدودة في الإنسان، ويتوجّب أن يقدم علم الله على علم الإنسان، وهذه مغالطة في الحقيقة لأنه نحن نقول: إنّ هذا ليس فوق العقل وإنّما يتنافى مع العقل كيف أنه واحد ويساوي ثلاثة.

أما الاتجاه الآخر وهو المشهور ولا سيّما في الساحة الإسلامية وخصوصاً في الفرقة الإمامية الإثنا عشرية (أعزها الله) هو أن العقل يقدم على الدين بل هذا الاصطدام بين العقل البديهي وبين الدين القطعي يثبت أن هناك خللاً في الدين وذلك بملاحظة أن العقل مصدر أساسي ومهم وعظيم في بناء الأفكار، فكيف إذا كان المعطى العقلي بديهياً من قبيل الكل أعظم من الجزء، ومن قبيل واحد زائد واحد يساوي إثنين، ومن قبيل أن وجود الشيء لا يجتمع مع عدمه، ومن قبيل أن الشيء لا يخرج من العدم، وغيرها من هذه الأمور الواضحة البديهية، فكيف أنه يمكن لدين أن يصرح بخلاف ذلك، فلا يمكن التلاعب في مدركات العقل البديهي الواضحة فإذا ما اصطدم الدين مع هذه المعطيات العقلية البديهية فهذا يكشف عن خطأ في هذا الدين هذا بالنسبة إلى الفرض الأول.

مناقشة الفرض الثاني: إنّ الرأي المعروف فيه هو حمل النصّ الظنّي الديني على العقل القطعي البديهي ما دام العقل قطعياً بديهياً وواضحاً لا يقبل الشك، فهنا نحمل النص الديني الظني على العقل القطعي، وهذا النوع من الحمل هو المتعارف عقلائياً فمثلاً أنه يقول تعالى:( وجاء ربك والملك صفاً صفاً) العقل من جهة يحكم - ولنفرض بأن العقل البديهي يحكم وليس العقل الاستنتاجي -  يحكم بأن الإله لا يصح أن يجيئ ويذهب، لا يصح أن يكون مجسماً، لا يصح أن يكون محدوداً، العقل هكذا يقول، وبالنسبة إلى الآية القرآنية تقول: (وجاء ربك والملك صفاً صفاً) قد يقال بأن ظاهر الآية أن الله يجيء ويذهب، فهنا يحصل تصادم بين الظهور القرآني والعقل القطعي، فلابد من حمل الظهور القرآني على العقل القطعي وتفسير الظهور القرآني والظنّي بطريقة تنسجم وتتلاءم مع العقل القطعي فيقال: (وجاء ربك والملك صفاً صفاً) يعني وجاء أمر ربك أو أي شيء من هذه التأويلات والتفسيرات، وكذا من قبيل أن العقل يقول كما ذكرنا ولنفرض أن العقل القطعي البديهي يقول بأن الإله لا يصحّ أن يكون جسماً، بينما القرآن الكريم يقول: (الرحمن على العرش استوى) فكيف ذلك؟ هل يصحّ أن الرحمن يستوي على العرش بهذا المعنى الجسماني كما هو الحال في الملك أو لا؟ نقول: إنه ما دام هذا ظهور قرآني وظهور ظني فلا بدَّ أن نتصرّف في هذا الظهور بطريقة تنسجم مع البداهة العقلية.

وعلى كل تقدير، إذا كان العقل بديهياً وافترضنا بأن هناك ظهوراً قرآنياً يتنافى مع هذا العقل البديهي لا بدَّ أن نتصرّف ونفسّر الظهور القرآني الظنّي بطريقة تتلاءم وتنسجم مع العقل البديهي فإن ظواهر النصوص القرآنية الظنية المخالفة للبداهة العقلية أو الوضوح العقلي من المؤكد أن القرآن الكريم فيها استخدم أساليب لغوية وبلاغية أو تنظيرية من باب التوضيح والتنظير وذلك من أجل إفادة المقصود، وليس المعنى في القرآن الكريم نفس أخذ المدلول الحرفي، ومن كان في هذه أعمى يعني فهو في الآخرة أعمى، فلا يمكن التمسك بالمداليل الحرفية للألفاظ.

ومن هذا القبيل أيضاً ما ثبت في العلوم الطبيعية على نحو الحقيقة العلمية التي لا ريب فيها ولا شك، وكان مصادماً بدلالة ظنية دينية فهنا أيضاً إما أن نحمل الدلالة النصية الظنية على الحقيقة العلمية، وإما أن تكون الدلالة أصلاً في الحقيقة منصرفة عن المفاد الظاهري وتتحدّث عن جانب بلاغي مثلاً الذي هو من قبيل (ومن كان في هذه أعمى) يعني لا تتحدث عن شخص أعمى البصر، وإنما تتحدث عن أمر آخر وهو أعمى البصيرة هذا بالنسبة للفرض الثاني.

مناقشة الفرض الثالث: وهو أن يكون المعطى العقلي استنتاجياً، وقلنا بأنه في الأمور الاستنتاجية عادة ما يحصل اختلاف بين العقول البشرية، فلنفرض بأن المعطى العقلي الاستنتاجي يصطدم مع النص الديني، فإذا كان النصّ الديني قطعياً فهنا رأيان في الحقيقة:

الرأي الأول: هو تقديم القطعي الديني على العقل الاستنتاجي النظري، وذلك لأن نظر العقلي الاستنتاجي ما دام يعتمد على الاستنتاجات وهي بشكل عام غير مضمونة المطابقة مع الواقع فيكون الوثوق بالقطع الديني أرجح منه وذلك لأنّ الدين إنّما يمثّل معطيات إلهية، والمعطى الإلهي مقدّم على الاستنتاجات البشرية.

الرأي الثاني: وهو تقديم المعطى النظري الاستنتاجي العقلي -إذا كان قطعياً طبعاً- على المعطى الديني، وهذا من قبيل تقديم ما يقطع به العقل من تجرد الذات الإلهية، ويقول بأن الذات الإلهية مجردة، بمعنى أنها ليست مجسمة، ليس فيها لحم ولا شحم، فهو ليس أمراً مادياً أو جسمانياً هذا وفق المعطى العقلي الاستنتاجي بينما النصوص الدينية قد يقال بأنها تفيد التجسيم لله سبحانه وتعالى. فكيف نتعامل مع العقل القطعي الذي يقول بأن الذات الإلهية يجوز فيها التجسيم، وروايات التجسيم المنسوبة زوراً على نبي الإسلام (صلى الله عليه وآله وسلم) مع أن المعطيين قطعيان كيف ذلك؟

قد يقال: لا بدَّ من تقديم الحكم العقلي القطعي وإن كان استنتاجياً على النص الديني وهذا هو الرأي الثاني. نعم نحن لا نعتقد بصحة صدور المعطى الديني الذي هو رائج في كتب بعض الفرق الإسلامية والتي تؤكد بأنه هناك تجسيم للذات الإلهية وأنه يُرى يوم القيامة، وأنه يجيء ويروح، وأنه ينزل إلى السماء ويصعد إلى آخره، هذا كله لا نعتقد به بالمرة، ولا نعتقد بأصل صدوره، ولكن نحن على سبيل الفرض نقول بأن هذا معطى قطعي من باب الفرض.

مناقشة الفرض الرابع: وأما الفرض الرابع: وهو أن يكون المعطى العقلي استنتاجياً قطعياً، بينما المعطى الديني ظنياً، ومن الواضح هنا وفق كثير من الأقوال هو تقديم المعطى العقلي الاستنتاجي على النص الظني، لأنّ للنصّ ظهور ظنّي، فنفسّر النصّ حينئذ بما ينسج مع العقل القطعي الاستنتاجي.

وعلى العموم إنّ الرأي العام التي تلتزم به الفرقة الحقّة من أتباع أهل البيت (عليهم السلام) هو التوافق بين العقل والوحي وأنهما لا يصطدمان لأن الوحي معطى إلهي، وأما العقل فهو خلْق الله سبحانه وتعالى، وأن الله تعالى لا يثبت حكماً من جهة ويخلق قوة في الإنسان مثلاً تتنافى مع أحكامه منافاتاً يقينية أبداً، أو أن البديهيات العقلية لا يمكن أن يرفضها الوحي لأن الله تعالى هو الذي أوجد القوة العاقلة في الإنسان، وهو الذي جعلها تدرك بوضوح هذه البديهيات، فكيف أنه يتنافى الوحي والمعطى الإلهي مع ما خلقه، بل قد أثبتنا في أبحاث خاصة التوافق بين العقل القطعي والنص الديني اليقيني، والحقيقة العلمية غير المشوبة بالشك، وقلنا بأن هذه الأمور الثلاثة يتوافق بعضها مع البعض الآخر، وأما ما يثار من إشكاليات في بعض الأديان فينبغي أن لا يعمم على الأديان الأخرى لأن تعميم النموذج أسلوب جدلي صرف لا يمت إلى الموضوعية بصلة.

وأما من ناحية تطبيقيه فنقول: إنّ هناك نماذج كثيرة ذات صلة بالمعقول المنطقي، وبالمعقول الفلسفي، وبالمعقول الكلامي، وبالأمور العقلية الصرفة قد ورد الحديث عنها في النصوص الدينية ونذكر منها على سبيل الإيجاز بعض الأمثلة:

المثال الأول: إنّ القرآن الكريم قد تمثّل فيه الاعتماد منطقياً على المنهج الاستقرائي، في إثبات الأشياء، سواء تلك الاشياء تتعلق بإثبات الموجودات الماورائية كوجود الله سبحانه وتعالى أو بالموجودات الأرضية.

   أما فيما يرتبط بإثبات وجود الله سبحانه وتعالى فهو من قبيل جميع الآيات التي تحثّ الإنسان على النظر في السماوات والأرض والجبال والطير والنظام وإتقان الخلق وما شاكل، حيث يمكن من خلال ذلك كلّه التوصّل لإثبات الخالق الصانع، ومن الواضح أن هذا النحو من الحثّ والدفع للإنسان بأن يتدبر وينظر في السماوات، وينظر في خلق الله، وينظر إلى إتقان صنع الله وينظر إلى نظام الله سبحانه وتعالى في خلقه، هذا هو في الحقيقة عبارة عن أمر الله سبحانه وتعالى للإنسان بأن ينتهج المنهج الاستقرائي للتوصل لإثبات عظمة هذا الخالق، وحكمة هذا الصانع وإثبات وجود ذلك العالم الماورائي المسؤول عن هذا النظام كله.

وأما بالنسبة إلى اعتماد المنطق الاستقرائي في إثبات الأمور الأخرى غير الماورائية من قبيل ما حثّ به القرآن الكريم على التتبّع والاستقراء لأجل الاتعاظ بالأمم السابقة، مثلاً قال تعالى:( قل سيروا في الأرض ثم أنظروا كيف كان عاقبة المكذبين) فهذا نحو من الحث على التتبع الاستقرائي فيما يرتبط بعلم الآثار، ومن ثم اكتشاف ما حلّ بالمكذّبين. أو من قبيل قوله سبحانه وتعالى؛ (قد خلت من قبلكم سنن فسيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين) هذا إذا كان من أجل الاتعاظ.

 أو إذا كان من أجل معرفة النشأة كأن يقول الله سبحانه وتعالى :(قل سيروا في الأرض فانظروا كيف بدأ الخلق) وغير ذلك مما يدل على اعتماد طريق الاستقراء كمنهج منطقي معتمد في القرآن العزيز، وقد أشار إلى هذا المعنى أيضاً الشهيد الصدر (رحمة الله عليه) في كتابه ( المرسل والرسول والرسالة) وكذلك في كتابه العظيم (الأسس المنطقية للاستقرار) وأشار رحمة الله عليه ولعله في آخر صفحة منه أيضاً إلى أن القرآن الكريم قد اعتمد المنطق الاستقرائي في إثبات وجود الله سبحانه وتعالى من خلال الأمر بالتدبر والنظر إلى السماوات والأرض وما شاكل. هذا نموذج في الحقيقة من باب ما ذكر في القرآن الكريم من المعقول المنطقي.

وأما من ناحية المعقول المعرفي فنجد أن القرآن الكريم اعتمد على المبادئ المعرفية والتي هي أمور صارمة وحتمية حقيقية خلافاً لبعض النظريات الضعيفة المطروحة في بعض أروقة أو في بعض مدونات علماء الفيزياء التي أنكرت هذه المبادئ المعرفية من قبيل استحالة خروج الأشياء من العدم، فالقرآن الكريم يستنكر هذا المعنى، ويقول :(ام خلقوا من غير شيء أم هم الخالقون) فإن هذا يلزم منه الدور المستحيل بمعنى أن يكون زيد قد خلق نفسه، وبعبارة أخرى أن يكون(أ) قد خلق (ب) وأن يكون (ب) قد خلق (أ) هذا الدور مستحيل، في الحقيقة القرآن يقول هذا مستحيل (أم خلقوا من غير شيء) أنهم وُجدوا من العدم هذا أيضاً مستحيل. فالقرآن الكريم يعتمد على جملة من المبادئ المعرفية، وهذا نموذج من المعقول المعرفي.

ونموذج آخر، يرتبط بالمعقول الكلامي من قبيل إثباتات توحيد الله سبحانه وتعالى: (لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا) وهذا له تصويرات في علم الكلام، فهنا أن القرآن الكريم اعتمد على بعض المعقول الكلامي، كما أنه اعتمد على بعض ما يرتبط بأحكام العقل العملي مثلاً من قبيل أنه يقرر أن الله عادل وليس بظالم، يعني وفق العدل الذي يفهمه البشر، وهو ما ينبغي أن يُفعل أو ما ينبغي أن يُترك وهكذا حديث الله سبحانه وتعالى عن صفاته. ونحن إنّما حصرنا نماذج النص الديني بالقرآن الكريم وإلّا لو تعدّينا على ما جاء في النصوص الدينية الأخرى غير القرآن الكريم كما في نهج البلاغة وأحاديث احتجاج أئمة أهل البيت (عليهم السلام) على الآخرين لعثرنا هناك على نماذج كثيرة وكثيرة.
 
فروع المركز

فروع المركز

للمركز الإسلامي للدراسات الإستراتيجية ثلاثة فروع في ثلاثة بلدان
  • العنوان

  • البريد الإلكتروني

  • الهاتف