البحث في...
عنوان المقطع
الملقی
محتوى المقطع
 أسلوب البحث
البحث عن اي من هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على كل هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على هذه الجملة

عنوان المقطع : لغة الدين - المحاضرة (5)

الملقی : الشيخ علي ديلان

تاريخ إضافة المقطع : August / 4 / 2022

عدد زيارات المقطع : 157

حجم الملف الصوتي : 14.563 MB

عدد مرات تحميل المقطع : 189

تحميل المقطع الصوتي

محتوى المقطع :
بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على النبي الأمين محمد وآله الطيبين الطاهرين المعصومين..

طرحنا في نهاية المحاضرة الماضية سؤالاً مفاده: أية لغة اعتمد القران الكريم من هذه اللغات؟ وأية نظرية سلكها في بيان مقاصده؟ فهل أن اللغة المعتمدة فيه هي اللغة المتعارفة أو اللغة الرمزية أو لغة أخرى غير هذه اللغات التي ذكرناها سلفاً.

ويمكن أن نجمل جوابين على هذا التساؤل:

الجواب الأول: وهو الجواب التقليدي، وذلك بالالتزام بأن لغة الدين -أو لغة القرآن الكريم على وجه الخصوص- تعتمد على نظرية واحدة من النظريات المطروحة، أما اللغة المتعارفة أو اللغة الأدبية الكنائية أو الرمزية أو ما شابه، وهذه الرؤية الأحادية في التفسير وفي اكتشاف مراد القرآن الكريم ونصوص الدين الإسلامي على وجه العموم أو أي دين آخر، أعني أن نلتزم بأن صاحب هذا النص اعتمد لغة موحدة في إفراغ مقاصده، هي الرؤية المنسبقة في ذهنية الباحث حيث يفرضها عادة الصراع الفكري أو التنازع في مسألة ما، فيولّد الصراع حالة من الفعل وردة الفعل، فيتخذ هذا تلك الرؤية ويعتمد ذاك على الرؤية المقابلة مما يجعل هذا الصنف أن يقول: إنّ اللغة المعتمدة هي اللغة المتعارفة، ويرفض مثلاً اللغة الرمزية، أو يقول بأن اللغة المعتمدة هي اللغة الرمزية ويرفض اللغة الأدبية، وهذا النحو من الفعل وردة الفعل هي التي تجعل الذهن محصوراً برؤية موحدة.

كما أنّ هذا النحو من التزام القناعات كاد أن يكون شبه مطرد في غير مسألتنا على المستوى العام وأيضاً على المستوى الخاص، فنجد مثلاً أنّه في نظرية السعادة بعض يختار أنّ النظرية التي تحقق السعادة للإنسان هي توفير المال، وبعض يقول هو الإشباع الغريزي، وبعض يقول هو الاستغراق الروحي مثلاً ونحو ذلك، فهذا يختار رؤية في السعادة، وذاك يختار رؤية مقابل لها، وكأن هناك ضرورة في الالتزام برؤية واحدة، هي التي يدور مدارها عنوان السعادة، أو مثلاً في النظرية الاقتصادية نجد أن جهة تختار النظرية الرأسمالية، و جهة أخرى تختار النظرية الاشتراكية، فإما أن تكون رأسمالياً، وإما أن تكون اشتراكياً، إنّ حالة الصراع هذه، هي التي تدفع فلاناً من الناس إما أن يكون في هذه الجبهة أو في تلك.

وهكذا بالنسبة إلى نظريات العلاقات الاجتماعية، إما أن يختار مثلاً أصالة الفرد أو أن يختار أصالة المجتمع، مع أنه من الممكن أن يكون الفرد مقدّماً في مقام تقنين القانون على المجتمع، وفي موارد أخرى أن المجتمع هو الذي يكون مقدّماً على الفرد، مما يعني أنّ المسألة ليست حدية بمعنى إما أن تختار أصالة الفرد وإما أن تختار أصالة المجتمع، وهكذا نجد الرؤية الأحادية في باب القناعات في علوم الاجتماع والتاريخ والنفس والفلسفة ونحو ذلك.

وكذلك في الجواب على السؤال الذي طرحناه قد يقال: بأن لغة القرآن الكريم اعتمدت نظرية واحدة من هذه النظريات كما في باب اختيار النظرية الاقتصادية أو الاجتماعية أو نحوهما.

******

الجواب الثاني: وهو أن نلتزم برؤية لا أحادية في تشخيص لغة الدين، ومنها لغة القرآن الكريم، حيث إنه لا يصح دعوى اللغة المتعارفة وحدها أو الكنائية وحدها أو الصوفية وحدها كلغة معتمدة في جميع النصوص الدينية أو الإسلامية، بل إن هذا يختلف باختلاف الموضوعات التي طرحت في داخل النصوص الدينية، فقد تكون هذه الموضوعات هي موضوعات غيبية ماورائية، وقد تكون موضوعات مشهودة، وهذه الموضوعات المشهودة، قد تكون موضوعات لعلوم طبيعية، وقد تكون موضوعات ترتبط بالجانب الفكري والعقائدي، وقد تكون موضوعات ترتبط بالجانب القانوني، فهذا يختلف باختلاف موضوعات اللغة المعتمدة.

ومن الطبيعي أن النصوص التي تتحدث عن الغيبيات تختلف في إفادتها وفي توضيح معانيها للمتلقي عن النصوص التي تتحدث عن الجانب القانوني والفقهي، وكذلك أنه يختلف الأمر باختلاف الأغراض الداعية، وليس فقط باختلاف الموضوعات، بل باختلاف الأغراض الداعية لإنشاء النص، إذ قد يكون الغرض الداعي له هو غرض وعظي، وقد يكون الغرض الداعي لإنشاء النص هو غرض تكليفي قانوني إلزامي إما تحريمي أو وجوبي، وقد يكون الغرض الداعي لإنشاء النص هو إثارة الذهن حول عجائب الطبيعة، وبيان قدرة الله سبحانه وتعالى. فإذن الأغراض الداعية لإنشاء النص أيضاً لها دور في اتخاذ الطريقة المعتمدة من قبل صاحب النص.

وأيضاً، إنّ هذا يختلف بحسب درجة استيعاب المتلقي، فقد يكون المتلقي مما يأخذ النص برغبة فيما إذا كان النص أدبياً كنائياَ أو مجازياً، وقد تجد متلقياً لا يأخذ هذا الموضوع من هذه الزاوية بل يحبذ الطريقة المتعارفة أو اللغة المتعارفة.

كذلك الأمر يختلف باختلاف قدرة اللغة الأصلية كاللغة العربية مثلاً على استيفاء تفهيم المقصود، لأن المقصود -كما أشرنا قبل قليل- قد يكون من الأمور الغيبية والماورائية، وقد لا تجد مفردة في اللغة العربية تعبّر عن ذلك الأمر الغيبي.

فإذن وفق هذا الجواب الثاني نحن نلتزم برؤية وبلغات متعددة في تشخيص لغة الأديان، فليست بالضرورة أنّ لغة الأديان يجب أن تكون لغة موحدة، وإنّما هناك لغات متعددة يعتمدها القرآن وتعتمدها النصوص الدينية في بيان مقاصدها، فقد تكون هي اللغة المتعارفة، وقد تكون هي اللغة الأدبية الكنائية المجازية، أو قد تكون لغات أخرى سوف نشير إليها إن شاء الله تعالى بعد قليل.

وهذا الجواب هو الصحيح، حيث لا ينبغي أن نأخذ بعض النماذج من النصوص الدينية في موضوعات معيّنة وموجّهة إلى فئة من المخاطبين مثلاً كأن تكون هذه النصوص الدينية في موضوعات معينة موجهة إلى كذا من الأشخاص، وهي من النصوص التي تتحدّث عن موضوعات غيبية، ونعمّمه على مطلق النصوص الدينية، فالتعميم من خلال النموذج ليس صحيحاً، بل ينبغي أن نلاحظ بإحصاء واستقراء وتتبّع للآيات الكريمة بالتطرّق إلى الموضوعات المختلفة بما يقتضي حال المتكلم مثلاً، فلا يصحّ أن نأخذ نموذجاً واحداً ومن ثم يحصل التعميم من خلاله، وهذا في الحقيقة هو أحد أسباب اختلاف الباحثين، أي الاستغراق في المصداق والنموذج،  فإنّ هذا الاستغراق هو الذي ولّد الاختلاف بين الباحثين في تشخيص لغة الدين، فقد يستغرق هذا في نموذج وذاك يستغرق في نموذج آخر، فيحصل خلاف ويدافع كل واحد عن رؤيته حاملاً الأمثلة التي استوحى منها الدين.

إنّ هذا يدفعنا في الحقيقة إلى التدقيق وفهم اللغة الدينية، وأنّ الأمر ليس مجرّد أمر نرغّبه أو ندّعيه بل أن هذا هو الواقع الذي يتمثّل في نصوص القرآن العزيز، وفي روايات رسول الله (صلى الله عليه وآله) وروايات أهل البيت (عليهم السلام)، فعندما نريد أن ندخل في عملية إحصائية للآيات أو للأحاديث أو للروايات نجد أنّ هناك لغات متعددة يتخذها ويسلكها صاحب النص في بيان مقاصده.

إذن، الذي يدفعنا إلى تصحيح فكرة تعدّد اللغة الدينية هو هذا المعنى، إضافة إلى أن كون الدين ليس قطعة شعرية أو قطعة نثرية أدبية، إذ ليس هو مجرد كلمة أو مقال حتى يقال: إنّه يعتمد لغة موحّدة بل أن الدين منظومة من الأفكار والقوانين والمعارف، وهذه الأفكار والقوانين والمعارف متشكّلة بطريقة معقّدة، ومتمثّلة بنصوص فائقة الكثرة، فلا يناسب أن يتعامل مع الجميع بنظرة واحدة، مع ملاحظة أنّ الدين يشتمل على أفكار وقوانين، وجوانب معرفية، ومع تعدّد الأغراض والأهداف في إنشاء هذه النصوص -كما أشرنا إليه قبل قليل- فقد تكون مثلاً الأهداف وعظية، وقد تكون الأهداف إرشادية، وقد تكون قانونية فقهية، وقد تكون الأهداف تنبيهية إلى عالم الطبيعة والغيب وهكذا، وكل مقام له غرضه الخاص كما له خصوصياته.

إنّ اللغة الدينية المعتمدة في النصّ الديني القرآني أو الروائي الحديثي بالمعنى الذي ذكرناه -الذي هو التعدد- أسلوب عقلائي مستحسن، فإنّ العقلاء هم الذين يقولون: إذا كنت تتحدّث وتريد مثلاً أن تثير مشاعر الآخرين وتصنع هيبة في داخل نفوسهم، فيناسب أن تتخذ أسلوب الأدب، وإذا كنت تريد أن تتحدّث في جانب قانوني فقهي إلزامي تحريمية أو وجوبي فيناسب أن تكون اللغة المعتمدة هي اللغة المتعارفة (الأسلوب العقلائية).

إنّ هذا هو الذي يدفعنا إلى الاعتقاد أيضاً بأن القرآن الكريم اعتمد لغات متعددة، وهذا بالإضافة إلى كونه عقلائياً هو المتجسد فعلياً في آيات الكتاب العزيز حسب ما تفرضه -كما أشرنا- الموضوعات المختلفة والغايات المتباينة، ولا يعني هذا أن جميع النظريّات المطروحة في بيان وتشخيص لغة الدين لا بدَّ من توظيفها، فإنّ بعض النظريّات في لغة الدين أصلاً لا يصحّ توظيفها بالمرة، وبعض النظريّات من الممكن أن توظف في لغة الدين، وهذا يتبع تتبّعنا واستقراءنا للآيات الكريمة، لموضوعات القرآن الكريم، فمثلاً اللغة الصوفية لا يصحّ أن تعتمد في فهم الدين، لأنّ هذه اللغة الرمزية لا علاقة فيها بين اللفظ بما يحمل من طاقة دلالية، وبين المعنى المرموز إليه، فحيث إنّه لا علاقة بذلك فلا يمكن اعتماد هذه اللغة الصوفية الرمزية في بيان الدين وفهم الدين، وإنّما غاية ما هنالك أن اللغة الصوفية تُطرح كاحتمال مقيّد بألف قيد وقيد، وإلّا لو أننا فتحنا باب اللغة الصوفية سنفتح باب الاحتمالات غير المبرّرة في تفسير الدين، ونحن قد ذكرنا بعض الأمثلة الغريبة التي على أساسها يفسّر الصوفية القرآن العزيز، وعلى هذا الأساس فإنّ اللغة المتعارفة - اللغة الشائعة الملاحظة للنص القرآني- اللغة المتعارفة التي هي إحدى اللغات وإحدى النظريات في تفسير النصوص، هذه اللغة هي اللغة الشائعة والمستوعبة للقرآن الكريم وهي المنسجمة مع أهداف القرآن العامة من ناحية أنّ القرآن الكريم كتاب هدى للناس وبينات قال تعالى: (هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان) وكذلك أن الله سبحانه وتعالى قال: (إنا جعلناه قرآناً عربياً لعلكم تعقلون) إذن كون الكتاب العزيز هو كتاب هداية للناس يناسب أن يتحدث مع الناس باللغة التي يفهمونها والتي يعتمدونها - ولا أقصد أيضاً- من اللغة هي مثلاً لغة عربية أو لغة إنجليزية أو لغة فارسية أو ما شابه، وإنّما أريد من اللغة الأسلوب الذي يعتمده الكاتب أو صاحب النص في بيان مقصوده.

فهذه اللغة هي اللغة المتعارفة التي يتحدّث بها زيد مع صديقه، والأب مع أولاده، التاجر مع زبائنه، فمثلاً يقول الله سبحانه وتعالى: إنّ هذا الكتاب الذي أنزلناه: (هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان) وكذلك قال: ( إنا جعلناه قرآناً عربياً) أنتم تفهمونه، وأنا أتحدث في القرآن لا باللغة الرمزية التي لا تفهمونها، لأنه أيّ فائدة أن يكون الكتاب قد نزل بلغة عربية وهو يتحدث بلغات رمزية لا يفهمونه ولا يعقلونه؟ بل الكتاب العزيز يقول: (إنا جعلناه قراناً عربياً لعلكم تعقلون) أي إنكم تفهمون هذا الكتاب العربي وليس أنه فقط كتاب عربي بل إن هذا الكتاب العربي قد اتخذ أسلوب اللغة المتعارفة لهذا أنتم تعقلون ما هو موجود في هذا الكتاب.

كذلك أنه قال تعالى:( لتكون من المنذرين بلسان عربي مبين) وكيف يصح أن يكون من المنذرين بهذا اللسان العربي ما لم يكن اللغة المعتبرة في هذا اللسان العربي هي اللغة المتعارفة، إلى غيرها من الآيات القرآنية الكثيرة التي تبيّن أن النص الديني أو نص الكتاب العزيز بشكله العام يعتمد على اللغة المتعارفة من خلال إبراز النصوص وتفهمها للآخرين حسب الظواهر، ولكن هذا لا يعني أن بعض أجزاء الآيات القرآنية أو بعض الآيات القرآنية لا تحتاج إلى توضيح وتفسير، بل أن القاعدة العامة أصلاً في اللغة المتعارفة أنها تتلقّى بحسب ظواهرها، ولكن أحياناً حتى لو كان هذا الكلام له ظواهر قد تخفى بعض حيثياته وخصوصياته مما تستدعي إلى نحو من التفسير، وهذا دارج حتى في حياة العقلاء وباب المحاورات بين الناس، ولهذا قال سبحانه وتعالى :(وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل لهم ولعلهم يتفكرون) إذن نحن أنزلنا إليك الذكر هذا من جهة، لتبين للناس ما نزل إليهم من جهة أخرى، لا أنه تنقله لهم بل توضحه وتبينه لهم، وعندما تبين هذا للناس فإن هذا التفسير الذي توضحه للناس ينسجم جداً مع الكلمات المذكورة في هذا الكتاب لا أنه هو تفسير رمزي بعيد عن الطاقة الدلالية للألفاظ.

فإذن أنت لا زلت في دائرة اللغة المتعارفة، غايته أن بعض الحيثيات والخصوصيات قد لا تكون واضحة تحتاج إلى تفسير وعندما يتم التفسير لا يجد المتلقّي أن هناك كلفة وبينونة بين التفسير وبين النص الكتابي بل يجد أن هذا التفسير ينسجم تمام الانسجام مع النصّ الكتابي القرآني.

كذلك قال سبحانه وتعالى: (كما أرسلنا فيكم رسولاً منكم يتلو عليكم آياتنا ويزكيكم ويعلمكم الكتاب والحكمة) فهنا يعلمكم الكتاب والحكمة يعني: إنّ الله تعالى قد أرسل هذا الرسول وتلى عليكم آياته، يعلّمكم من هذا الكتاب ويعلّمكم الحكمة، فإنّ التعليم بعد إنزال هذا الكتاب، وهذا أيضاً إشارة إلى أن التفسير أحياناً يكون مطلوباً حتى في دائرة اللغة المتعارفة رغم أنها لغة متعارفة، لكن قد تخفى بعض الخصوصيات مما تحتاج إلى إماطة القناع وبالتالي توضيحه وتفسيره من قبل النبي (صلى الله عليه وآله) أو أوصيائه.

إذن: فالقاعدة العامة في اللغة المتعارفة هو التلقي الواضح كما قال تعالى :(أفلا يتدبرون القرآن ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافاً كثيراً) هذه هي اللغة العامة، وهذه هي القاعدة في اللغة المتعارفة هو أنك إذا تدبرت القرآن سوف تفهمه ولهذا قال تعالى: (أفلا يتدبرون القرآن ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافاً كثيراً) يعني هم لوجدوا فيه اختلافاً كثيراً من دون الاستعانة.

والشاهد على اعتماد القرآن اللغة المتعارفة هو ان تتبع آيات القرآن وملاحظتها فإن بعضاً مما مذكور في القرآن الكريم واضح الاعتماد على اللغة المتعارفة سواء كانت تحتاج إلى تفسير أو لا تحتاج إليه.

 وعلى كل تقدير، هي تعتمد على اللغة المتعارفة، وإن كان كما ذكرت أنها في حالات قد تحتاج إلى بعض التفسير، والموضوعات التي تعتمد اللغة المتعارفة، هي من قبيل:

أولاً: الموضوعات العقائدية: وهي من الموضوعات التي تتناسب مع اللغة المتعارفة، وليس من الصحيح التحدث فيها بلغة المجاز، والكنايات والبديع وغيره، بل إن الموضوعات العقائدية كالنصوص الحاكية عن وجود الله سبحانه وتعالى وعن التوحيد وكذا عن صفات الله سبحانه وتعالى وحكمته، والنصوص الحاكية عن غاية إرساله للنبوات مثلاً، كل ذلك في الواقع لا بدَّ أن يطرح وفق اللغة المتعارفة، فلا يصحّ أن يستعمل فيها باب الكنايات والمجازات.

كذلك أنه يلحق بهذه الأمور العقائدية الآيات التي تأمر بالتدبر بعجائب خلق الله سبحانه وتعالى، من الكائنات الطبيعية والأحيائية مثل خلق السماوات والأرض، خلق الجبال، وخلق الإبل فهذه الآيات أيضاً ليس فيها باب الرمزية والكنائية والمجازية، نعم ربما قد يحتاج إليها أحياناً لكن لا بشكل أن يكون متمحضاً في اللغة المجازية، وإنما بشكل يكون مفهوم بحسب اللغة المتعارفة عند الناس.

ثانياً: الموضوعات الطبيعية العلمية: حيث يتمّ الحديث فيها عن خلق الله سبحانه وتعالى للسموات والأرض والأفلاك والكائنات الحية ومراحل الخلق الكوني أو الأحيائي مثلاً فخلق الإنسان عندما كان نطفة إلى علقة إلى آخره ونحو ذلك. نعم لا بدَّ أن يقتصر فيها على القدر الواضح منها باعتبار أن القرآن الكريم عندما يتحدث عن موضوعات علمية لا بدَّ أن يقتصر في هذا الموضوع العلمي الذي حكاه القرآن الكريم على القدر المتيقن والواضح منها، من دون الدخول في إكساب الآية القرآنية أمراً  لم تذكره، بحيث أعكس أو أسقط قناعاتي الخاصة على هذه الآية القرآنية الكريمة، وقد تكون هذه القناعات خاطئة تأتت مما ذكره علماء الطبيعة، فمثلا أقول: إن آية قرآنية قد تشير إلى معنى معين  كأن تشير إلى أنّ الشمس تتحرك، أو الأرض تتحرك، وليس فيها زيادة على هذا المعنى، فلا يصحّ أن آتي بمعطيات العلم الحديث الذي هو قد يتغيّر من وقت إلى آخر وأُسقطه على القرآن الحكيم، فهذا الأسلوب الذي يعتمده كثير من الباحثين ليس أسلوباً صحيحاً في تفسير آيات الكتاب العزيز، بل ينبغي أن يقتصر فيها على القدر المتيقن والواضح منها.

نعم، لا بأس أن يقال -على سبيل الاحتمال-: (إن الآية قد تشير إلى هذا المعنى) ولكنه ليس بأمر جزمي. أما انه يصرح ويجزم بأن القرآن العزيز يشير إلى هذه الحقيقة العلمية أو إلى هذا المطلب العلمي أو تلك النظرية العلمية هذا ليس أسلوباً صحيحاً في التفسير.

ثالثاً: الموضوعات القانونية: التي يعبّر عنها باصطلاح الدين (الموضوعات الفقهية) من قبيل الأحكام العبادية، كما في مثل الآيات التي تتحدث عن الصلاة، عن الصيام، عن الزكاة، عن الحج، عن الطهارة وكذلك من قبيل الأحكام المالية كالآيات التي تتحدث عن الديون والإرث أو من قبيل الأحكام الجزائية كعقوبة السارق أو الزاني أو القاذف أو غيره أو الأحكام التنفيذية الاجتماعية كالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وغير ذلك، فإن هذه ينبغي أن تصاغ بلغة متعارفة، لا بلغة رمزية أو أدبية متمحضة.

 إنّ اللغة المتعارفة التي ذكرنا بعض موضوعاتها مع الإشارة إلى شواهدها في الكتاب العزيز قد أنكرت من قبل بعض الاتجاهات الإسلامية التي لم تعتمد على ظواهر الكتاب العزيز وهو رفض للغة المتعارفة، لأن من أهم نماذجها هو الاعتماد على ظاهر الكتاب الكريم، يعني أنّ القرآن الكريم بحسب نصوصه اللفظية له ظواهر، فهل أن هذه الظواهر معتمدة أم غير معتمدة؟ بعض الاتجاهات الإسلامية لم تقبل الأخذ بظواهر الكتاب العزيز، وإنّما قالت لا يمكن الوصول إلى مرادات الكتاب العزيز إلا عبر نصوص حديثية أو روائية تفسره، وهذا الذي ذهب إليه الاتجاه الإخباري فبعض الأخباريين التزموا بأن الكتاب العزيز بحسب ظواهره ليس بحجة، وإنما إذا أردنا أن نعتمد على ظواهر الكتاب العزيز فإنما نعتمد عليه من خلال روايات الأئمة (عليهم السلام) أو أحاديث رسول الله (صلى الله عليه وآله) المعتمدة لأن هذا الكتاب (لا يمّسه إلا المطهرون) وهم المعصومون (عليهم السلام).

هناك اتجاه معاكس في الحقيقة، وهو أن نجمد على هذه الظواهر والتزم بهذه الظواهر إلى حد كبير، مما يعني أن كل ما نطق به القرآن الكريم نأخذ بظاهره، وإن كان هذا الذي ذكره القرآن الكريم بعنوان اللغة الأدبية لا بعنوان اللغة المتعارفة وهؤلاء وقعوا في مشكلة التجسيم.

اذن، فهنا رأيان متعاكسان، رأي رفض الأخذ بالظواهر، ورأي التزم وجمد على الأخذ بظواهر الكتاب، والرأي الصحيح كما ذكرنا بأن الظواهر معتمدة ولكن كل بما يناسبه، فهناك ظواهر معتمدة لها موضوعات معينة، وهناك ظواهر إلا أنها في حقيقتها تعبيرات أدبية مجازية من قبيل (يد الله فوق أيديهم)، فلا بدَّ من ملاحظة ما يتلقّى كظاهر قرآني، هذا كلّه بالنسبة إلى اعتماد القرآن الكريم على اللغة المتعارفة.

أما بالنسبة إلى اعتماد القرآن الكريم اللغة الأدبية الكنائية والبلاغية فهو أمر لا يحتاج إلى شاهد، بل أنّ هذا هو أمر القرآن الكريم وشأنه، وقد تحدّى القرآن الكريم بلغاء العرب وفصحائهم ببلاغته وأدبيته بشكل واضح، وقد يحصل الخلط فيُتخيل أنّ التعبير الأدبي المجازي هو المقصود حرفياً - كما أشرنا قبل قليل إلى المجسمة- حيث يتصورون بأن هذا التعبير المجازي هو المقصود من قبل الله سبحانه وتعالى، ما دام هو ظاهر( يد الله فوق أيديهم) فما دام له ظهور فنأخذ بهذا الظهور ونجمد عليه، وهذا الرأي ذهبت إليه المجسمة وقالت : بأن لله يداً، وبأن لله عيناً، وبأن لله ساقاً، وبأن الله يجئ ويروح، وهكذا. فكل وصف ذكره الكتاب الكريم عن الله سبحانه وتعالى جمد عليه مع أن هذا في الحقيقة لغة أدبية وليس لغة متعارفة، وهم كأنما أنكروا أن تكون هناك لغة مجازية على هذا المستوى فما يتحدث به سبحانه وتعالى عن صفاته وافعاله وما شابه فهو حديث عن المعنى الحرفي جداً، وصنفوه تحت اللغة المتعارفة مع أنها لغة أدبية.

وأيضاً مما ينبغي أن نشير إليه، أن الكتاب العزيز أو بشكل عام النصوص الدينية قد سلكت لغة أخرى في بيان المقاصد، تتأتى هذه اللغة عندما تضيق اللغة العربية الأصلية عن بيان المقصود، كما في مخاطبة الجمادات والأمور الطبيعية مثلاً قال سبحانه وتعالى:( يا أرض ابلعي ماءك ويا سماء أقلعي) فهنا أن الله تعالى خاطب الأرض بأنها تبلع الماء أو أن السماء تقلع، فهذا خطاب للطبيعة وخطاب للجمادات. فبحسب الظاهر من هذه الآيات القرآنية بأن الله يتحدث وفق اللسان المتعارف كأنك تتحدث مع زيد مع أن هذا الخطاب هو خطاب -إذا صح التعبير عنه- بأنه خطاب تكويني، خطاب وجود لوجود لا أنه كالخطاب الموجود بين زيد ومولاه من الإنسان بل أنه خطاب تكويني نحن لا ندركه ولا نفهمه وهو عبارة عن أمر تكويني.

كذلك أنه من قبيل قول الله سبحانه وتعالى: (إنا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها….) فهنا أن الله سبحانه وتعالى بحسب ظاهر القرآن أعطى لهذه الموجودات الطبيعية بعض صفات الكائنات الحية لأنه بعد أن عرض الأمانة على السماوات والأرض والجبال أبين أن يحملنها، كان هناك نحو من الرفض فهل أن هذا الرفض يفسر بحسب التفسير الذي نحن نفهمه كما أنك عندما تعرض شيئا على زيد وتقول له نريدك أن تتحمل هذه الأمانة يا زيد، وزيد لا يقبل ويرفض؟ هل أنه من هذا القبيل أو بشيء نحن لا ندركه ولا نتصوره؟ هل أنه وجودي تكويني؟ أو أنه من نمط آخر؟ هذا أمر لا نفهمه.

 قلت: قد تضيق اللغة عن بيان المقصود الحقيقي الواقعي، فالله سبحانه وتعالى يصيغ الآيات بطريقة هي أقرب إلى واقع اللغة ولكن في نهاية المطاف الإنسان يفهم أن هذه الامانة عرضت على هذه الموجودات الطبيعية الا ان هذه الموجودات الطبيعية مثلاً لم تقبل هذا الحمل. ولكن بأي طريقة حصل هذا الخطاب والجواب فهذا أمر لا نتصوره ولا نفهمه، وبطريقة لا نفهمها لأنه غيب بالنسبة لنا.

كذلك في قوله سبحانه وتعالى: (يسبح لله ما في السماوات وما في الأرض) فما هو نمط وحقيقة هذا التسبيح فهذا أيضاً من الأمور الغيبية بالنسبة لنا، كأن الله يبين بأن هذه الموجودات الطبيعية تسبح كما أنت أيها الإنسان تسبح، ولكن بأي طريقة تسبح نحن لا نفهم هذه المعنى فقد تسلك طريقة أخرى في بيان المقصود الديني هي غير اللغة المتعارفة، وهي غير اللغة الأدبية المجازية، كما أنّها غير اللغة الرمزية الصوفية، فقد تكون هي مثلاً رمزاً إلى معنى آخر وأن كنت -أنا- لست متفاعلاً مع اللغة الرمزية في عموم القرآن الكريم، وعليه يكون هذا النحو من الاباء له مناسبات اللغة الرمزية، بل حتى لو لم يكن هناك مناسبات أو كانت تلك المناسبات بعيدة، فتصح لغة الرمز، وقد يقال: ان مثل إباء السماوات والأرض والجبال أو تسبيح السماوات والأرض، له نحو من المناسبات الخفية على أذهاننا.

   على كل تقدير، هذا نحو من اللغة هي غير اللغة المتعارفة وهي غير اللغة الأدبية، هي لغة من نمط آخر اعتمدها القرآن الكريم في بيان الحقائق الماورائية والغيبية.

كذلك أنه اعتمدت هذه اللغة في باب توصيف السلطة الإلهية من قبيل مثلاً العرش والكرسي أو علمه سبحانه وتعالى باللوح المحفوظ وهكذا، فإن لم يكن هذا التعبير مجازياً- العرش والكرسي- فهو قد اعتمد على لغة أخرى في بيان الأمور الغيبية.

إذن القرآن الكريم قد يعتمد اللغة المتعارفة كما أوضحنا في جملة من الموضوعات وقد يعتمد اللغة الأدبية في موضوعات معينة، وقد يسلك طريقة أخرى في مقام البيان الأمور الغيبية كما أوضحنا ذلك عبر بعض الآيات والموارد القرآنية.

وهناك لغة معتمدة في القرآن الكريم ليس لنا إليها من سبيل إلا عبر النبوة والإمامة، وقد تدل عليه روايات كثيرة من أن للقرآن الكريم ظاهراً وباطناً، وللبطن ظهراً، وأن للقرآن ظهر وبطن أو سبعة أبطن على اختلاف صياغة هذه الروايات بأن القرآن الكريم له ظاهر وباطن، وللباطن قد يكون هناك باطن، وللباطن سبعة أبطن، فمثل هذا الباطن ليس لنا اليه من سبيل بل أن يكون عبر النبوة والإمامة ولا يصح من مدعٍ يدعي بأنه يعرف هذه الأبطن القرآنية فهذا الأمر منحصر سبيله بأصحاب الرسالات وأوصيائهم (صلوات الله عليهم أجمعين) هذه أيضاً لغة معتمدة في القرآن الكريم، ولكنها ليست لها - كما قلنا - من سبيل إلا عبر النبوة والإمامة.

هناك أساليب في فهم القرآن الكريم هي من الأساليب الخاطئة ينبغي أن نشير إليها، ولكن على سبيل العجالة إتماماً لهذه الحلقة نذكرها بإيجاز، ومن هذه الأساليب هي:

مواكبه الحداثة فيعتمد - هذا الذي يريد أن يفسر القرآن - على مسألة تطويع القرآن الكريم وتطبيقه على المعطيات العلمية الحديثة أو النتاج العلمي الإنساني الحديث، ويطبق القرآن على ما يقوله علماء الاجتماع أو علماء الاقتصاد أو علماء النفس أو علماء الطبيعة من الفيزياء من كيمياء إلى آخره، ويحاول أن يتماشى مع العلوم الطبيعية وأن يجعل المحور هو العلوم الطبيعية، ويجعل القرآن الكريم مرن بشكل كبير من هذه الناحية، فيستفيد من لفظة هنا ولفظة هناك، وقرينة هنا وقرينة هناك في سبيل تطويع القرآن الكريم على العلم الحديث، هذا النحو من المنهج ليس صحيحاً، لأنه لم يعتمد على لغة معينة في فهم مرادات القرآن الكريم، لانه يتوجب أن يكون القرآن الكريم في مقام فهمه هو المحور لا أن يكون العلوم الطبيعية هي المحور، بل كما قلت: قد نستفيد من بعض العلوم الطبيعية أو الحقائق العلمية الحديثة في فهم الكتاب العزيز، لا أن يكون هو المحور والكتاب العزيز يدور مدار ذلك المحور هذا ليس تفسيراِ للقرآن الكريم، بل ليس تفسيراً لأي نص سواء كان قرآن أو رواية أو حديث أو سواء كان نص لإنسان عادي أو الإنسان مفكر أو فيلسوف أو ما شابه، ليس من الصحيح أن أطوع نصه وأجعله مرناً، يمتد ما امتدت معطيات العلم ويتقلص ما تقلصت معطيات العلم، هذا النحو من المنهج منهج مرفوض في الحقيقة.

كما أنه أيضاً من الاساليب المرفوضة في فهم الدين وفي فهم القرآن العزيز هو نظريات تُستحدث في سبيل التخلص من بعض الأفكار التي يجدها الباحث محرجاً بالنسبة إليه أمام المعطى الإنساني العام، فيذهب ويفسر القرآن وفق تفسيرات هي غير مرغوبة ومرفوضة أصلاً بحسب روح الإسلام وروح القرآن الكريم، كما يذكر بعض الباحثين مثلاً بما يسمى بنظرية المعنى والمغزى بأن القرآن الكريم له معنى في هذه الآية القرآنية كمثل آية الحجاب، ولكن مغزاه وهدفه فهو كذا، فبالتالي يريد أن يساوي المرأة المسلمة في هذا الزمان بحسب زيها وملبسها واحتشامها و سترها وفق الموجود المعتاد، يعني لا إشكال في أن تكون سافرة بالمعنى المتعارف لكلمة السفور مثلا تخرج رقبتها أو يدها أو شيء من أرجلها أو ما شابه ذلك، بل يعد ذلك حجاباً لأنه لم ينظر إلى القرآن الكريم في مسألة الحجاب إلا بحسب ما يتناسب مع ذلك العصر، وإلا المغزى من ذلك هو أنه متى ما انتشر الإسلام، وتميزت المرأة المسلمة عن المرأة الكافرة فلا حاجة إلى هذا الحجاب، وكذلك مسألة الإرث للمرأة حيث قدر بالنصف وهذا بحسب المعنى، وإلا المغزى أن المرأة حيث لم تكن تملك أصلاً من الإرث شيئاً، فالقرآن أعطى النصف لها ورفض نزع الحقوق منها ويريد منا أنه عندما يستحكم الإسلام أن يكون لها إرث حالها حال الذكر.

هذه النظريات في الحقيقة استحسانية ذوقية لا شاهد عليها من الكتاب العزيز، فهناك مناهج معتمدة في تفسير القرآن الكريم وهناك لغات متعددة اعتمد عليها القرآن الكريم في بيان مقاصده لابد أن نلتزم وفق الموازين الموضوعية في فهم مقاصد الكتاب العزيز.
 
فروع المركز

فروع المركز

للمركز الإسلامي للدراسات الإستراتيجية ثلاثة فروع في ثلاثة بلدان
  • العنوان

  • البريد الإلكتروني

  • الهاتف