البحث في...
عنوان المقطع
الملقی
محتوى المقطع
 أسلوب البحث
البحث عن اي من هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على كل هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على هذه الجملة

عنوان المقطع : مصادر الدين - المحاضرة (4)

الملقی : الشيخ علي ديلان

تاريخ إضافة المقطع : August / 4 / 2022

عدد زيارات المقطع : 153

حجم الملف الصوتي : 13.770 MB

عدد مرات تحميل المقطع : 192

تحميل المقطع الصوتي

محتوى المقطع :
بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على النبي الأمين محمد وآله الطيبين الطاهرين المعصومين..

لا يزال البحث في هذه الحلقات حول الدين من نواحٍ متعددة وقد جرى الحديث عن بعض منها، وبحثنا في هذه الحلقة حول (لغة الدين) والمقصود منها في هذه الأبحاث، هو: (نمط وطريقة يعتمدها صاحب النص في بيان مقاصده)، وليس المراد من اللغة هنا من قبيل كون اللغة هي العربية في قبال اللغة الإنجليزية ونحو ذلك، وإنّما المراد من اللغة في هذه الأبحاث هو الأسلوب الذي يعتمده صاحب النص أو الطريقة التي يعتمدها في بيان مقاصده ومرادته، مثلاً أن تكون الطريقة التي يعتمدها صاحب النص - سواء كان نص ديني أو غيره كما في النص الشعري أو النص الأدبي أو ما شابه - هي الطريقة المتعارفة في التواصل البشري أو تكون الطريقة المتبناة هي طريقة الرموز والإشارات لأنه عندما يتحدّث بكلمات رمزية تشير إلى معانٍ أخرى غير ظاهر هذه الكلمات حسب الطاقة الدلالية في اللغة الاعتيادية. أنّ لكلّ صاحب نصّ هناك طريقة معتمدة في تفهيم مقاصده، فالطريقة المعتمدة المتعارفة - الذي سوف يأتي الحديث عنها إن شاء الله تعالى بعد قليل - هي طريقة كل إنسان عندما يتحدث بأسلوبه العام التي ينظر فيها إلى الكلمات حسب دلالتها اللغوية، وهذه الكلمات تكشف عن معانٍ من الممكن استظهارها من هذه الألفاظ بسهولة دون عناء وتكلّف، بخلاف الذي يتحدّث بطريقة الرموز حيث يشير بها إلى معانٍ أخرى، وهؤلاء الذين يتبنّون طريقة الرموز أعم من أن تكون هذه الرمزية متمثّلة بصياغات وكلمات أدبية أو أن تكون هذه الرموز مثلاً متمثلة بأحرف أو نقوش أو علامات لا تحمل في داخل اللغة معنى مفهوم كما يحدث ذلك في بعض العلوم الزائفة غير الحقيقية من قبيل مثلاً ما يُعرف بعلم السحر الذي غالباً ما يستخدم فيه رموز ليس لها في داخل اللغة العربية معنى مفهوم.

كذلك تستخدم الرمزية على مستوى العلامات كأن يكون هذه العلامة رمز لوزارة معينة أو مؤسسة معينة أو اتجاه وحزب معين وهكذا، وأحيانا تكون الرموز عبارة عن كلمات لفظية ولكنها تشير إلى معنى آخر كما سيأتي إن شاء الله تعالى بيان بعض الأمثلة في ذلك.

النتيجة: إنّ المراد من اللغة والطريقة التي يعتمدها صاحب النص في بيان مقاصده مثلاً هل هي الطريقة المتعارفة في الحوار والتداول والتواصل البشري، أو أنها طريقة أخرى يتبناها الباحث؟ هذا بشكل عام، ولا أريد من اللغة هنا ما يتعارف إطلاق هذه اللفظة أعني اللغة العربية أو اللغة الإنجليزية أو الفرنسية أو نحو ذلك.

وبملاحظة أن أي دين تتمثل رؤيته العقائدية والقانونية من إلزامات وحقوق وطقوس وشعائر دائماً بنصوص لفظية من قبيل ما موجود في الدين المسيحي في كتاب الإنجيل أو الدين اليهودي في كتاب التوراة وبعض الكتب الأخرى أو الدين الإسلامي في كتاب القرآن الكريم وبعض الكتب الأخرى النصية التي تعبّر عن الدين، وهذه الرؤية الدينية أو رؤية المنظومة الدينية بشكل عام غالباً ما تتمثّل بنصوص لفظية، تدفع الباحث إلى أن يتوجه نحو هذه النصوص وأن يفهمها وفق آليات من شأنها أن تكشف المعنى المقصود للمتكلم، بغض النظر عن كون المتكلم إلهاً أو نبياً أو إماماً أو من أتباع الأديان وهكذا، فلا يمكن أن نفهم مقصود المتكلم ما لم نفهم الطريقة التي يعتمدها في كلامه، فهل أنه يعتمد الكنايات والمجازات؟ هل يعتمد لغة الرموز؟ هل يعتمد الطريقة المتعارفة يعني ظواهر الألفاظ ودلالتها على المعاني؟ أو يعتمد طريقة أخرى خاصة به، فلا بدَّ أن نعرف الطريقة التي يتّبعها صاحب هذا النص للكشف عما يريده، ومعرفة هذه الطريقة أو نفس هذه الطريقة هي التي نعبّر عنها فعلاً بلغة الدين أو بلغة النصوص.

وقبل الدخول في نظريات لغة الدين أو لغة النصوص يحسن بنا أن نشير إلى أن النموذج الذي سوف يتم التركيز عليه هو النص الديني الإسلامي، ومعرفة اللغة الدينية الإسلامية مع الإشارة إلى غيرها أحياناً، حيث تكون متمثلة بنص القرآن العزيز، بأي لغة كانت ُمعتمدة، سواء لغة الترميز أو اللغة العادية أو ما شابه.

وأيضاً مما ينبغي أن نلفت النظر إليه مما يوجب وقوع الالتباس هو التمييز بين لغة الدين ولغة أتباع الدين، أعني المتدينين، بين الأسلوب والطريقة التي يعتمدها الدين في بيان مقاصده، وبين الطريقة التي يعتمدها المتدينون بهذا الدين في بيان مقاصدهم، أي لا بدَّ أن نفرّق - بعبارة أوضح - بين النص الإلهي ونصوص المصادر الدينية الأصلية المتمثلة بالإله أو النبي أو الأوصياء، وبين اللغة التي يتبعها ويسلكها أتباع الأديان، كما في التوجّهات التي تحصل داخل الدين، مثل الفرق المتعدّدة التي لديها بعض المناهج والآليات الخاصة بهم في تفسير الدين.

وأياً كان، لا بدَّ أن نفرّق بين لغة ما هو ديني وما هو من أتباع، فقد تختلف لغة الدين عن لغة الأتباع، فمثلاً إذا كان النصّ الديني يتّبع الطريقة المتعارفة عند عامة الناس في مقام التفهيم، قد تجد أنّ لغة أتباع الدين تسلك طريقة أخرى في بيان مقاصدها ومقاصد الدين. وعلى سبيل المثال يقول تعالى: (ومن أظلم ممن منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه وسعى في خرابها) فهنا بحسب ظاهر هذه الآية الكريمة إذا قلنا بأنه لغة الدين ولغة القرآن الكريم هي اللغة المتعارفة في مقام التواصل مع الناس، فيكون المراد من (مساجد الله سبحانه وتعالى) هي المساجد المعروفة ببيوت الله، لأن هذا هو الظاهر من الآية الكريمة، ولكن بعض أتباع الدين وبحسب طريقتهم ولغتهم في بيان المقاصد يدّعون أن مساجد الله هي قلوب المؤمنين (ومن أظلم ممن منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه) يعني من منع القلوب أن يذكر فيها اسم الله تعالى، فيفسّرون المساجد الإلهية بقلوب المؤمنين وهذا الذي ُيعرف - كما ستأتي الإشارة إليه إن شاء الله تعالى - باللغة الإشارية أو اللغة الرمزية أو اللغة الصوفية.

ومن هنا نقول لا بدَّ من هذا التفريق الذي نجده ضرورياً حتى لا يلتبس الأمر على المتلقّي فيعكس لغة الأتباع على لغة الدين، فإنّ لغة الأتباع قد تعطي انطباعات في ذهن المتلقي توهمه أن هذه -في الحقيقة- هي لغة أصل الدين.

ونريد الآن أن نذكر بعض النظريات مما يتسع له مجال المحاضرة، التي طرحت إما على أساس أنها النظرية الأوفق في تحديد لغة الدين، وأنها أنسب النظريات في تشخيص اللغة التي يتبعها والطريقة التي يسلكها في بيان مقاصده، أو أنه تكون النصوص الدينية تطبيقا للغة عامة وطريقة معينة كطريقة المجاز والكناية التي هي طريقة متبعة في إبراز المقاصد ومتعارفة على المستوى الأدبي من شعر وقصص ونحوهما.

إذن، ما هي حقيقة اللغة الدينية - وبمعنى آخر - الطريقة التي اعتمدها صاحب النص الديني؟ هنا عدة نظريات:

النظرية الأولى

وهي نظرية اللغة المتعارفة، وأعني بها الطريقة والأسلوب المتداول عند أهل العرف في باب المحاورات وتبادل المعلومات الدارجة. فأنا عندما أتحدث مع الناس أتحدث بطريقة يفهمني الناس، من دون أن يكون هناك تكلفات ورموز وإشارات ومجازات وكنايات، وإنما ُيفهم كلامي بطريقة واضحة بلا كلفة زائدة عما يحتمله الوضع اللغوي والاستعمالي لهذه الألفاظ، فحين أقول: (شاهدت أسداً) فهذا يعني أنه قد وقعت عيني على رؤية حيوان زائر من دون أن يكون هناك نحو من التكلّفات والالتواءات الدلالية.

نعم إذا نصبت قرينة وقلت: (رأيت أسداً يرمي) فسوف يتلقّاها المتلقّي بحسب الأسلوب والتواصل المتعارف بيني وبينه حين نصب القرائن، بأني رأيت إنساناً شجاعاً.

هذه اللغة هي التي نعبّر عنها باللغة المتعارفة وهي قائمة على أساس العمل بالدلالة الظاهرة من المفردات والجمل، فلفظة الأسد تدلّ على الحيوان الزائر، أو تدلّ على معنى آخر إذا كانت هناك قرينة واضحة تصرف الدلالة إلى غير المعنى اللغوي الظاهر.

وهكذا عندما نقول: (رأيت شجرة) فالمعنى الظاهر هو أني قد شاهدت شجرة، أو قلت: (شربت لبناً) فتدلّ على شرب اللبن ولا تشير أو ترمز إلى شيء آخر، فلست متحدّثاً بطريقة إبهامية، ولا بطريقة الألغاز، وإنّما أتحدّث بطريقة متعارفة متداولة، وهذا هو المراد من اللغة المتعارفة، وهي لغة لا يجد السامع أي كلفة في فهم مقصود المتكلم منها، ولهذه اللغة المتعارفة قسمان رئيسيان:

القسم الأول: اللغة المتعارفة الدارجة عند الناس في تعاملاتهم الحياتية وهي مبنية - أقصد الطريقة التي يعتمدها المتكلم في بيان مراده - في كثير من الأحيان على عدم الدقة في نقل المعلومات، إلا أن ذلك لا يؤثر على نقل المعنى المقصود فمثلا إذا اردت أن أحكي فكرة فقد أزيد فيها في مقام الإيصال أو أنقص ولكن مع الاحتفاظ بالمعنى الذي يراد إيصاله. فهذه اللغة المتعارفة في حياة الناس نعبر عنها بـ(اللغة المتعارفة الدارجة) وهذا من قبيل حديث الصديق مع صديقه، الأب مع أسرته، التاجر مع زبائنه وهكذا، وكما يلاحظ هي لغة لا يؤخذ فيها عنصر الدقة.

القسم الثاني: من اللغة المتعارفة هي اللغة المتعارفة القانونية الدقية : وهي لغة وأسلوب واضح لا إجمال فيه، ولا ترميز، وهي تشبه من هذه الناحية اللغة الدارجة إلا أن اللغة المتعارفة القانونية تفترق عن اللغة المتعارفة الدارجة بكون اللغة المتعارفة القانونية لغ ًة دقيقة جداً، ليست مشتملة على التساهل في التعبير، بل كل كلمة لها دور في بيان المقصود، ولا يمكن فيها الزيادة أو النقيصة، يعني كل شيء يكون فيه حساب، فإذا كانت هناك نحو زيادة او نقيصة فسوف تؤثر في بيان المعنى المقصود، وهذا مثل اللغات العلمية فعندما تريد أن تكتب بحثاً في علم الفيزياء، او الكيمياء، او في علم الاجتماع، او الاقتصاد، او الفلسفة فينبغي أن تكون اللغة المتبعة هي اللغة القانونية، بمعنى أن الألفاظ تدل على معا ٍن ظاهرة واضحة لا لبس فيها ولا إجمال ولا رموز، وأنها قانونية، بمعنى أنها تأخذ طابعاً علمياً دقياً، فلا يمكن ان تستخدم -وأنت تتحدث في علم الفيزياء أو في علم  الكيمياء مثلاً- المجازات والرموز الدلالية. كذلك مثلاً لغة وطريقة كتابة الدستور والقانون، والشهادة أمام القضاء ونحو ذلك مما يتوجب فيه أن يكون طريقة إبراز المقصود واضحة من جهة ودقيقة من جهة أخرى.

إنّ كثيراً من الباحثين يجدون أن لغة القرآن الكريم هي لغة متعارفة قائمة على أساس الأخذ بما هو متداول في عرف المحاورات، وليس القرآن الكريم مشتملاً على الرمزيات أو الأمور الباطنية، ونحو ذلك.

وهذا رأي كثير من الباحثين، وإنّما جعل هؤلاء الباحثون القرآن الكريم ذات لغة متعارفة، فذلك بحكم أن هذا الكتاب هو كتاب هداية للناس فلا يناسب لغة الرموز والإشارات، وكذلك أن المخاطب في القرآن الكريم هو جميع الطبقات لا فئة خاصة منهم، وبالتالي أن هذا يعطي دعوى أن القرآن الكريم إنما يتخذ في إبراز مقاصده ومراداته، الطريقة المتعارفة المتداولة بين الناس.

نعم هذا لا ينطبق بالضرورة على باقي كتب الأديان، فقد تعتمد بعض الأديان لغة أخرى سوف نشير إليها إن شاء الله تعالى.

والخلاصة: هو أن تكون اللغة المعتمدة عند صاحب النص هي اللغة المتعارفة والمتداولة بين الناس.

 النظرية الثانية

وهي لغة الإشارة (اللغة الرمزية) وتُعرف أيضاً باللغة الصوفية، وهذا النمط من اللغات هو نوع من الأساليب المتّبعة لإبراز المقاصد النفسية ولكن بطريقة غير مألوفة، وغير واضحة، فهو يذكر اسماً ولكن يريد به معناً آخر، ويذكر كلمة أو لفظ، ولكن يريد به خلاف المقصود الظاهر. كما رأينا كلمة - مساجد الله تعالى - في الآية الكريمة يريد به القلوب، كلمة (اقتتلت طائفتان) يريد به الصراع بين القوة العاقلة في الإنسان، مع القوة الشيطانية، وهذا النحو من التفسيرات بعيد عن طاقة اللفظ الدلالية، فعندما نقول هناك لغة إشارية أو لغة رمزية نريد به هذا المعنى، وكثير ما يتبع المتصوفة والاتجاهات الباطنية هذه اللغة، بسبب أن هؤلاء ذات توجهات باطنية، وأفهام غير مستساغة في العرف العام، فإنه خشية الكشف عن توجهاتهم الباطنية وآرائهم غير المألوفة يحاولون أن يتبعوا أسلوباً ترميزياً يشير إلى معا ٍن بعيدة عن النص الدارج، ولهذا كثير من المتصوفة أشبه بمنظمات سرية لا يكشفون عن مراداتهم غير المأنوسة لدى العرف الذي يعيشون فيه، سواء كان عرفاً دينياً أو عرفاً عاماً أو عرفاً خاصاً بفئة داخل الدين دون فئة أخرى، فيحاول هؤلاء أن يتحدثوا بلغة الرموز التي لا يفهمها إلا هم.

وكذا أنّ هؤلاء اعتمدوا هذا الأسلوب في فهم القرآن الكريم وبالتالي فهم يدّعون بأن القرآن الكريم اعتمد لغة الإشارات ولغة الرموز فيتكلّم القرآن الكريم بكلام ولكنه يشير به إلى معنى أجنبي عن هذه الكلمة المذكورة ويعبر عنه التفسير بالإشارة، كأن هذا اللفظ يشير إلى شيء آخر غير الذي أنت تستظهره منها.

فمثلاً قوله تعالى: (إن الملوك إذا دخلوا قرية أفسدوها وجعلوا أعزت أهلها أذلة وكذلك يفعلون) فالآية القرآنية واضحة وتشير إلى أن الملوك والسلاطين إذا دخلوا قرية صنعوا الخراب، فالذين يكونون أعزاء فيها يصبحون أذلة حسب الظاهر من ألفاظها، وهؤلاء يفسرون هذه الآية القرآنية بتفسيرات أخرى، فقد نسب إلى أبي يزيد البسطامي هذا المتصوف المعروف أن الآية تعني : أن الملوك بمعنى المعرفة، فليس المراد من الملوك الملك أو السلطان وإنّما المراد منها هي المعرفة، والمراد من القرية ليست القرية (المكان المعين)، وإنما المراد منها هو القلب، بمعنى: الملوك إذا دخلوا القرية بمعنى (المعرفة اذا دخلت القلب) أفسدته لأنهم يعتقدون أن المعرفة الحقة هي معرفة الكشف القلبي والشهودات الباطنية وكثير ما يضادون هذه المعارف الحصولية التي يتبعها الفلاسفة والمتكلمون، فالملوك والقرية في هذه الآية تشير إلى معنى في الحقيقة بعيد عن الطاقة الدلالية للفظ، وهذه اللغة الإشارية والرمزية يعتمد أصحابها على بعض التجارب الباطنية والوجدانية وهو معروف لدى المتصوفة، وهذه التجارب على العموم تجارب يحومها التخيلات والأوهام والأفكار الغريبة غير المستندة إلى أساس موضوعي، ولا يوجد عند هؤلاء في الحقيقة ما يثبت مدعياتهم إلا زعمهم أن هذا نتاج الكشف والشهود الإلهي، وأن الله سبحانه وتعالى كشف لهم الحقائق، وهي مجرد دعاوى غير مشفوعة بدليل وغير مقترنة بمؤيدات، وإنما هي عبارة عن دعاوى شخصية يشهدها السالك المتصوف ويدعي على أساسها أنه يفسر الدين بحسب مشاهداته الشخصية والوجدانية.

نحن بحسب البحث العلمي نقول: إنّ (المتصوف) سواء كان مصيباً أو مخطئاً في كلامه لا ينبغي أن يجعل ويصنف ضمن العلوم الصحيحة والموازين الموضوعية، لأن الموازين الموضوعية ترفض مثل هكذا ادعاءات، ولا بدَّ أن تكون الادعاءات مشفوعة بما يساعد على طرحها العقلائي، أما أن إنساناً يشهد في تخيّلاته الداخلية معنى معيّناً، قد انقدح في ذهنه عندما سمع هذه الآية من أن الملوك بمعنى المعارف والقرية بمعنى القلب فلا يمكن المصير إلى مثل هذه التفاسير، وإلا لكان كل إنسان من الممكن أن يدّعي أنه قد شاهد - في شهوده وفي كشفه وفي أحواله الوجدانية الباطنية - معنى ما فلا يستقيم حالٌ في الحقيقة، ولا تُبنى فكرة على فكرة أخرى.

هذا، وقد استخدمت اللغة الترميزية في القصص الأسطورية، كما هو الحال في الأساطير القديمة، فالكلمات فيها تعبير عن رموز معينة، وفق آراء ونظريات بعض علماء الاجتماع والأنثروبولوجيا ومن ثم تساءلوا عن كيفية نشوء هذه الرموز؟ وهل أنه واقعاً عندما أُنشئت هذه القصص الأسطورية كانت أشخاصها عبارة عن رموز معينة؟ ومن ثم كيفية حصول هذا الترميز في اللغة الاسطورية؟

أياً كان، إنّ الذي يشهده الواقع الفعلي بأن هذه القصص الأسطورية وعلى الأقل قسم منها يشتمل على رموز وعلامات خاصة، فمثلاً إذا ذكر حيوان له جناحان فهذا يرمز إلى بعض المعاني المنظورة لهم، ومثلاً إذا ذكر اللون الأحمر فإنّه يرمز إلى كذا، وهكذا.

كذلك تستخدم اللغة الترميزية بالمعنى الأعم من الألفاظ والرموز وغيرهما في شعارات المؤسسات العظمى أو الصغيرة أو المؤسسات التجارية أو المراكز الرياضية وكذلك في المباني الحكومية.

إذن، فالرمزية أمر داخل في حياة الإنسان، ولكن هل أن الدين أتخذ هذه اللغة في الكشف عن مراداته؟ وهل كان أسلوب التعامل مع أتباعه وفق هذه الطريقة، أو لا؟

يمكن تقسيم الاتجاهات في اللغة الرمزية -وفق النظرية الثانية- إلى اتجاهين رئيسين:

الاتجاه الأول: ممن يستخدم هذه اللغة الرمزية هو الاتجاه الباطني الصوفي وقد ذكرنا بعض النماذج والأمثلة عليه.

الاتجاه الثاني: هو الاتجاه الأدبي حيث قد فسّر بعض جملة من آيات القرآن الكريم على أساس اللغة الرمزية الأدبية من قبيل ترميز قصص الأنبياء (عليهم السلام) فمثلاً من هو المراد من آدم (عليه السلام) أبو البشر الذي سجدت له الملائكة، هل هو شخص معيّن حقيقي أو أنه يرمز إلى طبيعي الإنسان؟

وبعبارة أخرى: هل المسجود له هو آدم أبو البشر أو أنه يشير إلى الإنسان بالمعنى العام؟ إذا قلنا بأن القرآن الكريم اعتمد اللغة الرمزية يكون لمثل هذه التفسيرات وجه في الحقيقة وسوف يفتح لها باب في الكشف عن مراد النصوص، وأما إذا قلنا: إنّ القرآن الكريم اعتمد الطريقة المتعارفة عند الناس بحكم أنه كتاب هداية لهم، فيقال مثلاً: إنّ آدم المسجود له هو نفسه آدم أبو البشر وليس أنه رمز للإنسان بالمعنى العام.

وبعضهم فسّر هذه القصة بكاملها على أساس أنّها قصة رمزية وليست قصة حقيقية، بل تشير إلى معانٍ أخرى غير المعاني الظاهرة فيكون للسجود معنى، ولآدم معنى، وخطاب الله تعالى مع إبليس يشير إلى معنى، ونفس إبليس له معنى رمزي، وهكذا.

النظرية الثالثة

 وهي اللغة الأدبية الكنائية المجازية التي تكون قائمة على أساس الكنايات والمجازات والبديع والمحسنات اللفظية ونحو ذلك، وهي طريقة معتمدة كثيراً في الأشعار وبعض أنواع القصص.

قال الشاعر: (وإذا المنية أنشبت أظفارها) ... فشبه الموت، وحلوله بدن الإنسان بالسبع الذي يفترسه، فكأن المنية لها أظافر ومخالب. أو مثلاً (ينام بإحدى مقلتيه ويتقي بأخرى المنايا فهو يقضان نائم) فكأنه يقظ ونائم وهو من التصوير الأدبي.

وهذا النوع من الأساليب إنّما يتخذه صاحب النص الأدبي كالشاعر مثلاً بهدف إثارة التخيلات الذهنية وبهدف إثارة المشاعر النفسية التي يهدف إليها الباحث، ويريد أن يستثير الذهن وخيال الإنسان، ويريد أن يحفز نفسية الإنسان ويقوي إرادته أو يعيده الأمل أو ما شابه مما يتناسب مع غرض الكاتب أو الشاعر، و ُيستخدم أيضاً هذا الأسلوب في مجال الخطابة والدعاية والإعلام للتأثير على سلوك الجمهور.

الآن قد تسأل: ما الفرق بين هذه اللغة الأدبية الكنائية المجازية وبين اللغة الرمزية؟

والجواب: الفرق بينهما من حيث طبيعة العلاقة بين اللفظ وما يدل عليه، فإنه في اللغة الأدبية المجازية الكنائية لا بدَّ من وجود علاقة مبرّرة بين اللفظ وما يدل عليه، فمثلاً عندما أستخدم لفظ (الأسد) وأريد به الإنسان الشجاع لا بدَّ أن يكون هناك مبرّر للاستعمال، وهو أنه بين الأسد الحيوان الزائر والإنسان الشجاع هناك صفة مشتركة التي هي الشجاعة، هذه الشجاعة هي التي بررت توظيف لفظ الأسد واستخدامه في الإنسان الشجاع، أما في اللغة الرمزية فلا توجد فيها هذه العلاقة، وإنما كما ذكرت عند الحديث عن اللغة الرمزية أن لا يكون هناك أصلاً طاقة دلالية للفظ في الدلالة على هذا المعنى المرموز إليه والمشار إليه، بل إنما يستنتجه الباحث من خلال تجارب يعيشها بينه وبين نفسه، وربما هي في غالبها أوهام يتخيلها، وإلا فأين الملوك من المعرفة، وأين اللبن من العلم، وأين مساجد الله تعالى من القلب.

وقد استعملت اللغة الأدبية المجازية في الكتب الدينية عموما وفي القرآن الكريم على وجه الخصوص، مثلاً (يد الله فوق أيديهم) هنا استخدمت اللغة الكنائية الأدبية المجازية بمعنى أن يد الله فوق أيديهم تعني رعاية الله وقوة الله أو ناصرية الله. ومثلاً (تجري بأعيننا) أي بنظرنا ورعايتنا، وهذه الآيات تشير إلى المعاني بطريقة المجاز. ومثلها يقع الحديث غالبا في الصفات والأفعال الإلهية.

وهناك جماعة رفضوا اللغة المجازية في القرآن الكريم واعتمدوا على ظواهر ألفاظ الكتاب العزيز، وجمدوا عليها، ورفضوا حتى الأسلوب المجازي، مع أن المجاز المشروط بالقرينة يكون من قسم الظاهر إلّا أنهم تركوا المجازات وتمسّكوا بالمعنى الحرفي لهذه الكلمات، فآل بهم الأمر إلى مذهب التجسيم، فقالوا بأن الله له يد وبأن الله له ساق (كشف عن الساق) الله له عين (تجري بأعيننا) بحسب ما يرونه مما ورد في الكتاب العزيز من الألفاظ التي قد استخدمت مجازاً، وفي غير مقام التوصيف لصفات الله وإنّما في مقام التوصيف لعناية أو رعاية إلهية، مثلاً (يد الله فوق أيديهم) بمعنى أن الله يدعمهم مثلاً.

على كل حال، نكتفي بهذه النظريات الثلاث معرضين عن بعض الرؤى والنظريات التي تنطلق أحياناً من منطلقات معرفية وفلسفية سابقة كالتي من قبيل النظرية الوضعية الحسية المادية الإلحادية التي تذهب إلى إفراغ النصوص الدينية من المعنى، تلك النصوص الحاكية عن الماورائيات، والتي دائما ما يفرغونها عن المعنى ويجعلون مثل هذه الألفاظ والنصوص مجرد نقوش خطية والفاظ لسانية لا تعبر عن معنى مقصود، وإنما هي عبارة عن أوهام وخيالات، وهذا في الحقيقة طرح ينسجم مع مبنى يعتقده أصحاب المدرسة الوضعية، وهؤلاء متطرفون في الالتزام بهذا المذهب المعرفي الحسي، وليس أنهم فقط ينكرون الكائنات الماورائية بل لا يعترفون بكل قضية تتحدث عن كائن ما ورائي فيرفضون كونها قضية، فعندما تقول: النفس البشرية مثلاً كذا يقولون: هذه ليست قضية في الحقيقة، لأنك تتحدث عن كائن ما ورائي. وهذا المذهب يدعي ان النصوص الدينية عبارة عن ألفاظ فارغة من المعنى، اي أن هذه الألفاظ ليست لها دلالات على معا ٍن حقيقية.

وعلى العموم، نحن نغض النظر عن هذا التفسير لأن البحث في هذا التفسير يستدعي بحث أسبق في مناقشة المباني والأسس المعرفية لهذه المدرسة. والآن نتساءل عن اللغة التي يتبعها القرآن الكريم في بيان مقاصده ومرادته، ما هي؟ فهل هي اللغة المتعارفة كالنظرية الأولى أو اللغة الرمزية كالنظرية الثانية أو اللغة الأدبية المجازية كالنظرية الثالثة أو أن هناك لغة أخرى غير هذه اللغات المذكورة. هذا ما سيأتي البحث عنه إن شاء الله تعالى في الحلقة القادمة والحمد لله رب العالمين.
 
فروع المركز

فروع المركز

للمركز الإسلامي للدراسات الإستراتيجية ثلاثة فروع في ثلاثة بلدان
  • العنوان

  • البريد الإلكتروني

  • الهاتف