البحث في...
عنوان المقطع
الملقی
محتوى المقطع
 أسلوب البحث
البحث عن اي من هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على كل هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على هذه الجملة

عنوان المقطع : مصادر الدين - المحاضرة (3)

الملقی : الشيخ علي ديلان

تاريخ إضافة المقطع : August / 4 / 2022

عدد زيارات المقطع : 169

حجم الملف الصوتي : 13.756 MB

عدد مرات تحميل المقطع : 199

تحميل المقطع الصوتي

محتوى المقطع :
بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله ربَّ العالمين والصلاة والسلام على النبي الأمين محمد وآله الطيبين الطاهرين المعصومين اللهم صلِّ على محمّد وآل محمد...

وصل الحديث في الحلقة الماضية إلى مبحث (مصادر الدين) وذكرنا بأنّ البحث عن المصادر هو ذاته البحث عن المنابع التي يستمدّ منها الدين أفكاره ومواقفه وجميع مضامينه العليا والدنيا، وليس هذا خاصة الأديان بل كل أيدولوجية لا بدَّ أن يكون لها منابع تستمدّ منها متبنّياتها، سواء كانت على المستوى المعرفي أو العقدي أو سواء كانت على المستوى القانوني أو على المستوى القيمي الأخلاقي، وحيث إنه لا يسعنا البحث في أكثر من نموذج لبيان مصادره، سوف نقتصر على ذكر المصادر التي يعتمد عليها الدين الإسلامي في تشكيل منظومته الأيديولوجية.

مصادر الإسلام في تشكّله

الأول: المصدر الإلهي: والذي يعدّ الأهم من بين هذه المصادر التي سوف نذكرها حيث تؤسّس عليه جميع قوانين الإسلام فيما يتعلّق بتنظيم أحوال الفرد مع نفسه، كما في القوانين الإسلامية الشخصية أو بتنظيم أحوال الفرد وتنظيم علاقاته مع الآخرين، سواء كان تنظيم علاقاته مع الفرد الآخر أو مع أسرته أو مع المجتمع أو العالم أو في تنظيم علاقاته مع الطبيعة، فإنّ هذه القوانين إنّما تستمدّ من الإله الخالق الصانع الخبير بأسرار خلقه ومكامن القوة والضعف في مخلوقاته. وقد أعطى القانون الإسلامي لكلّ شيء حكماً خاصاً به، فاستوعب مجالات الحياة الإنسانية عموماً، ومن هذه الجهة يكون المصدر الإلهي هو المصدر الأرقى والأهم من بين هذه المصادر، لما يرفدنا به من القوانين التي اشتمل عليها الدين بما هو أيديولوجية معيّنة، وبما هو قانون ينظّم حياة الإنسان على مستوييه الشخصي والاجتماعي.

تساؤل: ما هي المصادر التي ينطبق عليها عنوان المصدر الإلهي؟ وبعبارة أخرى: عندما نقول بأنّ المصدر الإلهي هو مصدر مهم في تشكيل المنظومة الإسلامية، فبأي شيء يتمثّل هذا المصدر؟

الجواب: يتمثّل هذا المصدر بمنبعين رئيسيين:

المنبع الأول: هو القرآن الكريم: الذي هو روح الإسلام وأساسه المتين، وهو في الحقيقة من المصادر التي لا تحتاج إلى إثبات مسبق، فإنّ كلّ مصدر في أيديولوجية معيّنة، أو في مذهب ما، يحتاج إلى إثبات حتى يكتسب مشروعية في توظيفه لاستخراج أو استنباط قانون معيّن أو فكرة معيّنة، ولكنّ القرآن لا يحتاج إلى إثبات مسبق بل هو يحمل حجّته بنفسه وإثباته في ذاته، وذلك بملاحظة أن القرآن الكريم هو المعجزة الممتدة ما امتدت الحياة، ولهذا بحث عقائدي وكلامي مهم، حيث نثبت فيه أنّ هذا الكتاب العزيز يحمل قيمته بنفسه ويحمل حجيّته بذاته ولا يحتاج من أجل اكتساب المشروعية إلى اعتبار معتبر أو إلى إثبات مسبق، بل هو الذي يحمل إثباته في ذاته وهذه هي طبيعة كل معجزة، فإن المعجزة من شأنها أن تُثِبت لا أنها تُثبَت، فمعجزات الأنبياء (عليهم السلام) تثبت نبوّات الأنبياء وأما المعجزة في ذاتها فلا تحتاج للإثبات، فكذلك إنّ القرآن الكريم بما هو معجزة يحمل حجيّته بنفسه وإثباته في ذاته، وهذه المعجزة سوف تبقى وتتحدّى الإنسان بما وصل إليه من علوم ومعارف، وتتحدّى الإنسان في خطّيه التاريخي الزمني والجغرافي المكاني، وتتحدّى الإنسان في أن يأتي بمثل هذا القرآن أو ببعضه.

إنّ هذا الكتاب العزيز الذي يعدّ المرجعية الأساسية للدين الإسلامي هو أحد المصادر المهمّة في تشكّل هذه المنظومة الدينية العليا.

المنبع الثاني: هو الحديث والرواية فيما جاء عن النبي (صلّى الله عليه وآله وسلم) والأوصياء (سلام الله عليهم) من بعده على كلام مذكور في الكتب العقدية والأصولية فيما هي وظيفة النبي (صلّى الله عليه وآله) والأئمة (عليهم السلام)؟ فهل أن وظيفة النبي (صلوات الله عليه وآله) هي بيان القانون الإلهي فقط من دون أن يكون له حقّ ممارسة التشريع والتقنين، فيكون حقّ التشريع منحصراً بالله سبحانه وتعالى أو أن النبي (صلوات الله عليه وآله) له وظيفتان مما يرتبط بهذا الجانب: وظيفة بيانية حيث يبيّن أحكام الله سبحانه وتعالى، ووظيفة تشريعية حيث يقنّن و يُشرّع، وأنّ هذا الحق ثابت له (صلوات الله عليه وآله) بتخويل من الله سبحانه وتعالى. فالله تعالى الذي هو المصدر الأول في التشريع يعطي حقّ التخويل للنبي (صلّى الله عليه وآله) في التشريع باعتباره (صلى الله عليه واله وسلم) يملك صلاحية ذلك؟ وهنا كلام وقع بين علماء المسلمين وكذلك الأمر في الأئمة (عليهم الصلاة والسلام) هل أنهم يشتركون مع النبي (صلى الله عليه وآله) في وظيفته أو أنهم لا يشتركون في ذلك، وإنّما مهمتهم بيان الأحكام الشرعية الإلهية أو الأحكام التي جاءت عن النبي (صلى الله عليه وآله)؟

وعلى كل تقدير، إنّ المصدر الإلهي يتمثّل بهذين النوعين الرئيسيين، القرآن الكريم وكذلك الحديث والرواية، فكلّ من القرآن وكذلك الحديث والروايات التي يمكن التعبير عنها - بالسنّة- يعدّ مصدراً أساسياً فيتشكّل المنظومة الدينية الإسلامية، فنستمدّ من القرآن وكذلك من السنّة رؤيتنا العقائدية وإن كانت بعض الرؤى العقائدية لا تثبت إلّا من طريق آخر غير طريق المصدر الإلهي أو مصدر السنّة، ولكن مع ذلك من الممكن إذا ما استنطقنا القرآن الكريم فإنّه يعطي رؤية أو نظرية في بيان أمر عقائدي فنقول: إنّ العقيدة الفلانية في القرآن الكريم بهذا المعنى، وتلك العقيدة وفق رؤية القرآن الكريم مرفوضة، وهذه العقيدة وفق رؤية القرآن الكريم مثلاً مرضية ومقبولة وهكذا، فالقرآن الكريم يعطي رؤى عقائدية ورؤى فقهية قانونية، ويعطي رؤى مثلاً قيمية أخلاقية، وهكذا الحديث و الرواية.

الثاني: المصدر العقلي: أما المصدر الآخر فهو المصدر العقلي، ويعد هذا المصدر من المصادر العامة بخلاف المصدر الإلهي السابق فيعدّ من المصادر الخاصة بالأديان الإلهية أو المصدر الخاص بالدين الإسلامي الذي هو محل بحثنا، أما المصدر العقلي فهو من المصادر العامة المعتمدة عند الإنسان، وإن كان هناك خلاف معرفي واضح بين المدارس المعرفية في شأن العقل والاعتماد عليه إلّا أنّه على تقدير اعتبار العقل وحجيّته لا ينحصر بفئة دون أخرى، أو بدين دون آخر، بأيديولوجية دون أخرى، بمذهب دون آخر، بل على تقديره يكون معتبراً من دون انحصاره بفئة، بخلاف المصدر الإلهي فهو معتمد عند الأديان الإلهية خاصة. وتمام الكلام في ذلك يحال إلى أبحاث ما يُعرف بعلم ونظرية المعرفة، ويظهر هناك أنّ جميع الأيديولوجيات والمذاهب الفكرية من الصعوبة أن تتخلّى عن هذا المصدر في بناء أفكارها إلا وفق ضوابط وشروط خاصة جداً.



ومن هنا، فإنّ التأصيل العقدي في كل دين أو أيديولوجية يعتمد عادة على التأصيل العقلي ابتداءً، فالعقيدة الإسلامية مثلاً تعتمد في إثبات أصول الدين، كإثبات وجود الله سبحانه وتعالى على المصدر العقلي، فلا يصحّ أن نجيب عن سؤال: ما هو الدليل على وجود الله؟ بالقول: إن الله سبحانه وتعالى قال في كتابه المجيد: (فاعلم أنه لا إله إلا الله).

نعم، يمكن إثبات نبوّة النبي (صلى الله عليه وآله) وإثبات الوجود الإلهي عن طريق المعجزات التي منها القرآن الكريم، بمعنى انه بعد إثبات أن القرآن الكريم معجزة إلهية يمكن عن طريقها إثبات أنّ هناك إلهاً وأنّ هناك مرسلاً منْ قبل الإله، ولكن بغضّ النظر عن الجانب الإعجازي لا يمكن التمسّك بآية قرآنية في إثبات الوجود الإلهي فنقول مثلاً: إنّ الله موجود لأنّه هو الذي ذكر ذلك في كتابه الكريم. إنّ العقيدة الإسلامية تعتبر المصدر العقلي من المصادر المهمة في إثبات كثير من الأمور العقائدية، وكذا في استكشاف القانون الفقهي الديني عبر بعض الملازمات العقلية الحتمية، وذلك من قبيل:

إذا كان الشيء واجباً شرعاً وكان يعتمد على مقدّمة لا بدَّ من المجيء بها، كالصلاة فإنّها واجبة ولهذه الصلاة مقدمة التي هي الوضوء، ولا يمكن تحصيل الامتثال الإلهي للصلاة إلا عبر الوضوء، فالعقل يقول ما دام الوضوء هو مقدمة لهذا الواجب، فالوضوء واجب لأن مقدمة الواجب واجبة، وهذه من الملازمات الحتمية العقلية على كلام مذكور في أبحاث علم أصول الفقه الديني، فبناء على أن - مقدمة الواجب واجبة - وأن العقل هو الذي يثبت ذلك، فهنا سوف نستكشف عبر هذه الملازمات وجوب الوضوء، أو أن الحج واجب والسفر طريق للوصول إلى تلك الديار المقدسة ومقدمة للوصول إليها، ومقدمة الواجب واجبة إذن السفر يكون واجباً لأن مقدمة الواجب واجبة، فهنا عن طريق هذه الملازمات العقلية نستطيع أن نستكشف الحكم الشرعي بالمقدمات ونقول بأن المقدمات واجبة.

كذلك إذا ورد نهي عن عبادة من العبادات فقد يقال: ما دام هناك نهي عن هذه العبادة كنهي الله تعالى عن الصلاة في أرض مغصوبة، فيقال بأن النهي عن العبادة يقتضي فسادها لأن العبادة من شأنها أن تُقرب الإنسان فإذا نهى الله تعالى عن عبادة فهذا النهي يبعد الإنسان فكيف تكون هذه العبادة التي من شأنها أن تقرب هي منهي عنها؟ بل تكون والحال هذه مبعدة، والمبعد لا يمكن ان يكون مقرباً، والعقل هو الذي يحكم بذلك، وليس هذا اعتباراً تشريعياً من قبل العقل حتى يقال بأنه كيف ُيشرع العقل و ُيقنن؟ فالعقل لا يشرع ولا يقنن وإنما يستكشف عبر الملازمات العقلية، حكم الشارع، فهو يستكشف الحكم الشرعي، وكذلك عندما يحكم بفساد العبادة المنهي عنها فإنه يستكشف فساد هذه العبادة لا أنه يحكم على هذه العبادة بالفساد. ومن المناسب أن نقول: إن هذا العقل الذي تعتمد عليه الأيدولوجيات وكذلك يعتمد عليه الإسلام في بعض قوانينه، يقسم إلى قسمين معروفين - العقل النظري والعقل العملي-.

والمقصود من العقل النظري هو العقل الذي يدرك ما هو موجود وكائن وثابت كأن يدرك وجود الله سبحانه وتعالى، ويدرك قوانين الرياضيات، وكل شيء له ثبوت واقعي ممكن الادراك فيدرك بالعقل النظري كالرياضيات والعلوم الطبيعية والقضايا الفلسفية والمسائل المنطقية، فان كل هذا من مدركات العقل النظري. والمقصود من العقل العملي هو الذي يدرك ما ينبغي أن يسلكه الإنسان أو يتركه، فالعدل مما ينبغي فعله والظلم مما ينبغي تركه، ونحن عن طريق العقل النظري أو من خلاله نثبت جميع الأفكار الفلسفية والعقدية العقلية الموجودة والمثبتة في الدين الإسلامي كإثبات وجود الله سبحانه وتعالى مثلاً.

وأما بالنسبة إلى العقل العملي الذي هو إدراك ما ينبغي على الإنسان أن يفعله او يتركه كالصدق والكذب مثلاً، فهو وسيلة إثباتية لكثير من القوانين الفقهية المعتمدة في الإسلام. ففي قانون الإسلام من الممكن أن نعتمد على العقل العملي مثلاً في ادراكه لعمود المحسنات والمقبحات، فالعدل حسن والظلم قبيح، الصدق حسن والكذب قبيح، الوفاء حسن والخيانة قبيحة وهكذا ويمكن ان نستكشف أن رؤية الشارع المقدس موافقة للمدرك العقلي العملي، فنقول ما حكم به العقل يحكم به الشرع، وفق هذه الملازمة. وعليه يكون العقل العملي وسيلة إثباتية لقوانين فقهية قيمية كثيرة معتمدة في الإسلام.

وكذا إن العقل العملي مما نستفيد منه في إعطاء رؤية حول طبيعة الأخلاق والقيم في هذا الدين الحنيف وربما إن شاء الله تعالى سوف تأتي الإشارة إلى بعض النماذج في ذلك. فعندما نقول: إن الإسلام يعتمد على العقل العملي في الجانب القيمي والأخلاقي فإنّ هذا يقتضي أن نصنع نوعاً من التوازنات فيما بين المصالح والمفاسد ومن ثم نبُت بالحكم النهائي.

كذلك العقل والشارع يقول: إن الكذب قبيح والصدق حسن ولكن في مقام الموازنات قد تتغير الاحكام كأن يكون الصدق مؤدياً إلى مهلكة إنسان والكذب يؤدي إلى نجاته فيكون الأمر مردد بين الكذب القبيح ونجاة الإنسان الحسنة، فمن خلال التوازنات نعطي رؤية ونظرية معينة في هذا الجانب. ولكن بما أن العقل البشري محدود من حيث الإدراك والاستيعاب وله قناعات، تختلف باختلاف قوة الذكاء ومقدار النباهة وسعة الاستيعاب ووفرة المقدمات ونحو ذلك مما له تأثير على النتاج العقلي، فنحن نحتاج إلى قيود لهذه القوة العاقلة حتى تستطيع أن تستكشف الحكم الشرعي، وإلا فلا يمكن أن ُيقال: إن كل من لديه قوة عاقلة يمكن من خلالها أن يستكشف الأحكام الشرعية.

فإذن، بما أن العقل هذا شأنه من الاختلاف فلا بدَّ أن يقيّد ويحدّد ببعض القيود  والحدود في مقام استكشاف الحكم الشرعي، وإنّما نفرض عليه بعض القيود والحدود حذراً من توظيف العقل في غير محله فمثلاً أنه إذا لم نقيّده يؤدّي بنا إلى طريقة الاستحسان والقياس في استنباط الحكم الشرعي، وهذا ليس صحيحاً كما هو ثابت في أبحاث علم أصول الفقه، كأن نقيس موضوعاً على موضوع آخر له حكم شرعي، ونسحب الحكم الشرعي من موضوع إلى موضوع آخر يشابهه، فهذا قياس وهو باطل في الشريعة الإسلامية لا سيّما وفق مدرسة أهل البيت (عليهم السلام) كذلك أنّ الاستحسان العقلي أيضاً مرفوض وقد وردت في ذلك نصوص دينية تُشنّع على من يستخدم طريقة الاستحسان والقياس.

إذن عندما نقول: إنّ العقل يستكشف الحكم الشرعي فهناك ضوابط وموازين إذا اقتفاها العقل والتزم بحدودها وقيودها تمكّن من استكشاف الحكم الشرعي، لا اختراع حكم من ذاته، وإنّما يستكشف حكماً شرعياً.

وهنا كلمة لا بأس بذكرها، وهي أن العقل في المجال العقائدي يعد حجة معتمدة في نفسه ولا يحتاج إلى مشروعية من قبل أي جهة مفروضة ولو كانت شرعية، فهو حجة في ذاته لا يحتاج لكي يكتسب مشروعيته إلى جهة فوقه، هي التي تعطي مشروعية لهذا العقل، بل الله سبحانه وتعالى أعطى قوة عاقلة للإنسان، وهذه القوة محترمة عند الإله ومنظور إليها عنده سبحانه، وهي أمر وقوة تكوينية في ذات الإنسان قد سجّلها الله تعالى وأودعها في وجودنا، بمعنى أن الله سبحانه وتعالى احترم هذه القوة بما له من حكمة في خلقه.

فإذن العقل في المجال العقائدي هو الحجة المعتمدة في نفسه فإذا أراد أن يثبت وجود الله سبحانه وتعالى من خلال بعض البراهين فلا يقال: من أين اكتسب العقل مشروعية وصلاحية الإثبات؟ وما ذلك إلّا لأن العقل مثلاً حجته ذاتية، ولا يحتاج لاكتساب مشروعيته إلى حجة أخرى، وفقا لما أودعه الله تعالى الخالق فينا، فلا يعطي سبحانه وتعالى القوة العاقلة للإنسان وفي نفس الوقت يقول: أنا لا أسمح لك أن تستخدم هذه القوة. نعم، في المجال التشريعي والقانون الديني وإصابة حكم الله سبحانه وتعالى يحتاج العقل إلى اكتساب مشروعية من قبل الدين، فالعقل إذا أراد أن يعطي قوانين من عندياته لابد أن يكون مخولاً من قبل الله سبحانه وتعالى في ذلك ويكتسب مشروعية الاعتبارات القانونية من قبله تعالى، وإلا كان دخوله في هذا المجال في غير محله لأن العقل ليس محيطاً بجميع أسرار خلق الإنسان ولا أنه مدرك لواقع احتياجات الإنسان  فبالتالي إذا أراد أن يعتبر أحكاماً من عندياته لابد أن تكون هذه الأحكام مرفوضة ما لم يأتِ بتقنين من الشارع وإمضاء منه بقبول إدراكات العقل، ومن أجل هذا قلنا آنفا: إنّ مذهب أهل البيت(عليهم السلام) يرفض طريقة الاستحسان والقياس، لأنّها طريقة تعتمد على العقل من دون أن يكتسب مشروعية من الشارع. ولكن إذا كانت وظيفة العقل مجرد استكشاف الحكم الإلهي عبر بعض الملازمات التي أشرنا إليها قبل قليل وضمن بعض القيود بما لا يعدّه مصدراً في التشريع وإنما مستكشفاً للتشريع فهذا أمر لا بأس به كما مثلنا له بمقدمة الواجب واجبة، وهكذا.

هذا وقد أُعتني بمصدر العقل في الكتاب العزيز رغم أن العقل لا يحتاج إلى اكتساب مشروعية وإنما هو حجة في نفسه، في آيات كثيرة وكذا في الروايات المروية عن النبي (صلّى الله عليه وآله) وأهل البيت (عليهم السلام) وهي روايات كثيرة ومعروفة ومنتشرة، فالنصوص الدينية تعظّم من شأن العقل والأمر فيها واضح ومعلوم، هذا كله فيما يرتبط بالمصدر الثاني وهو المصدر العقلي.

الثالث: المصدر الفطري: والمقصود من الفطرة هي ذات الوجود التكويني للإنسان، هذا الإنسان المركب من وجود ماورائي، ومن وجود طبيعي، فكل ما يدخل في كينونة هذين الوجودين، الوجود الماورائي والوجود الطبيعي، هو الذي نقصده من الفطرة، فهو ذاك الوجود التكويني للإنسان وما يشتمل عليه من قوى، سواء كانت قوة عاقلة أو قوة الرغبة او نحو ذلك، والمقصود من كون الفطرة مصدرا في الدين، هو أن مقتضيات الفطرة ولو في حدود ما تقتضيه القوة العاقلة وما تقتضيه قوة الرغبة سواء كانت الرغبة في الأكل أو الشراب أو الجنس، أمور مفروضة على الإنسان في تفكيره، ومفروضة عليه في تقنين قوانينه، وبالتالي لا يصح أن يتبنى الإنسان أي قضية منافية للنظام الإدراكي الفطري الذي لديه كأن يعتقد بجواز اجتماع النقيضين، لأن هذا خلاف نظام إدراك الفطرة عند الإنسان الذي ينفر ولا يقبل باجتماع النقيضين، وكذلك انه لا يقبل بجواز أن يخرج شيء من العدم ويوجد الشيء من العدم، فإن هذا النظام الادراكي العقلي يرفض ذلك. وكذلك، لا يصح أيضاً أن ُيسن أي قانون خلافا لفطرة، مثلاً لا يصحّ أنّ نسن قانوناً بمسمّى عدم جواز الزواج أو عدم جواز الأكل والشراب أبداً، فإنّ هذا لا يصحّ في الحقيقة، لأن هذا خلاف الفطرة والرغبة التكوينية عند الإنسان للجنس المخالف، وللشراب وللأكل فلا يصحّ أن يأتي بقانون ويقول بحرمة الزواج، ومن أجل هذا حرّم الإسلام الرهبانية لأنّها خلاف الفطرة البشرية. كذلك حرّم الإسلام السلوكيات المنافية لاحترام الشخص لذاته؛ لأن حب الذات واحترامها أمر فطري، وبالتالي لا يجوز أن يهين الانسان ذاته أمام الآخرين، بل يظهرها بالمظهر اللائق ومن هنا جعل الشارع قيوداً في الزي والملبس بالحد الذي لا يوجب الإهانة. فالإسلام يريد من الإنسان أن يحترم ذاته وأن يحترم مقتضيات فطرته. ولهذا الإسلام لا يجيز أذية الإنسان نفسه فضلاً عن قطع جزء مهم من بدنه أو قتل ذاته كأن يهلك نفسه بانتحار، فكل ذلك مادام منافياً للفطرة فلا يجوز.

إنّ المصدر الفطري هو مصدر مهم في تشكّل المنظومة الدينية، بل يعدّ أشبه بدستور تكويني لا يصحّ مخالفته، كما أنّ هذا المصدر يعدّ من المصادر المعتبرة والمعتمدة عند فقهاء القانون بشرياً لا فقط فقهاء القانون الديني. نعم الاختلاف بيننا وبينهم في كيفية استفادة القانون من الفطرة، فكيف أنه يمكن أن نستفيد القانون منها؟ فمثلاً أن يكون الإنسان حراً في حركته وسلوكه وفكره هذا أمر فطري، يعني أن تكون حراً تتحرك كيف تشاء تعمل كيف تشاء وتفكر كيف تشاء هذا أمر فطري، يجده الإنسان بينه وبين نفسه أمراً واضحاً ومن مقتضيات وجوده التكويني والفطري، ولكن لا يمكن أن يسنّ قانون تشريعي يطلق العنان لفكر الإنسان ويقول له فكر بأي شيء، وأسلك أي شيء وأفعل أي شيء... بل يتوجّب تحديد هذه الفطرة بحدود خاصة. أصل الفطري شيء موجود في دخيلتنا، ولا بدَّ أن نسنّ قانوناً يتوافق مع أصل الفطرة الإنسانية كأن يتوافق مع حرية الإنسان في سلوكه، ولكن لهذا السلوك أيضاً حدود فلا يصحّ أن يسلك سلوكاً منافياً لطبيعة فطرية أخرى ثابتة في دخيلتنا والتي هي مثلاً حب الإنسان لذاته والتي بمقتضاه التنفر من إهانة الذات وحينئذٍ لا يمكن أن أُغلّب الجانب الفطري الأول على الجانب الفطري الثاني، بل لا بدَّ أن أُقيد هذا الجانب الفطري بذلك الآخر، ومن ثم يحصل قانون في نهاية المطاف ينسجم مع جميع القوى الفطرية عند الإنسان.

كذلك من الأمور الفطرية تلبية الرغبة الإنسانية، ولكن لا يمكن أن نقنّن قانوناً يفيد الإباحية الكاملة، من دون قيد أو شرط، وعلى هذا أيضاً المدارس القانونية، غايته أنّ كان هناك اختلاف بيننا وبينهم ففي نوعية تلك الحدود والقيود، فالإسلام يفرض هذه الحدود بالمقدار الذي فرضته الشريعة المقدسة كأن يقول إن هذه الرغبة الجنسية إنما تكون محدودة بحدود العلاقة المقدسة وهي علاقة الزواج وأما ما دون ذلك فإنه غير صحيح ومرفوض بينما للمدارس القانونية الأخرى رأي آخر.

هذه أهم المصادر المعتمدة في تشكل الدين وهناك توافق فيما بين هذه المصادر، وهذا التوافق -أعني التوافق بين النص الديني والعقل والفطرة- يتمثّل بعدم حصول المضادات بينها، كما أن بين المصادر الثلاثة، على ما علمنا قبل قليل علاقات تفاعلية يعني إما أن تكون استكشافية كما لاحظنا بأن العقل يستكشف الحكم الشرعي مثلاً أو علاقات تأسيسية كأن يكون مثلاً النصّ الديني يؤسّس والفطرة والعقل تحدد، أو علاقات تقييدية، وهكذا.

إذن هناك توافق بين هذه المصادر وهناك تفاعل بينها، ويتوجب أن نفرّق بين ما ذكرناه سلفاً من هذه المصادر بعنوان أنّها (مصادر) يتشكّل منها الدين، وبين أساليب فهم الدين -الذي سوف يأتي بعض الحديث عنه إن شاء الله تعالى في الموضوع القادم في الحلقة القادمة- فمثلاً أنه من الأساليب:

أولاً: الاعتماد على الأصول العقلائية الجارية في فهم النصوص، كأصل البناء وفهم ما يبدو ويظهر من كلام المتكلّم، فأنا عندما أتحدّث بحديث وأنت تسمعني في كلامي هذا، فإنّ هناك ظهورات لهذه الألفاظ التي أنطقها، وهذه الظهورات معتمدة عند العقلاء. فكل إنسان عندما يتكلّم بكلام فظاهر كلامه أنه يريد معاني هذه الألفاظ، وهذا أمر معتمد عند العقلاء، وهذه الأصول العقلائية في الحقيقة أصول جارية في فهم النصوص الدينية أيضاً وليست حكراً على الكلام العام.

ثانياً: من الأساليب في فهم الدين واستكشافه، الاعتماد على السلوك الجمعي الديني من قبل المتدينين، وهذا السلوك الديني لأمر معين كاشف عن رأي المعصوم (عليه السلام) ويعرف هذا في علم أصول الفقه بـ(سيرة المتشرعة) حيث يكون هناك سلوك جمعي من قبل المتشرعة والمتدينين على أمر في زمان المعصوم (عليه السلام) بما يكشف أنّ هذا الأمر قد تُلقي من قبل المتدينين من المعصوم (عليه السلام).

ثالثاً: ومن الأساليب في فهم الدين الاعتماد على إجماع أهل العلم المختصين لا سيّما المعروفين بالتقوى مثلاً أو بالعدل، وليس الإجماع المذكور بذات قيمة في نفسه بل بما هو كاشف عن رأي المعصوم (عليه السلام).

هذا، وهناك أساليب خاطئة في فهم النصوص الدينية سنشير إليها إن شاء الله تعالى في الموضوع القادم والذي سوف نعقده حول لغة الدين إن شاء الله تعالى، والحمد لله رب العالمين.
 
فروع المركز

فروع المركز

للمركز الإسلامي للدراسات الإستراتيجية ثلاثة فروع في ثلاثة بلدان
  • العنوان

  • البريد الإلكتروني

  • الهاتف