البحث في...
عنوان المقطع
الملقی
محتوى المقطع
 أسلوب البحث
البحث عن اي من هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على كل هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على هذه الجملة

عنوان المقطع : تعريف الدين - المحاضرة (1)

الملقی : الشيخ علي ديلان

تاريخ إضافة المقطع : August / 4 / 2022

عدد زيارات المقطع : 159

حجم الملف الصوتي : 48.243 MB

عدد مرات تحميل المقطع : 199

تحميل المقطع الصوتي

محتوى المقطع :
بسم الله الرحمن الرحيم

الحـمد لله ر ِّب الــــعالمــــين والــــصلاة والســــلام عــــلى الــــنبيّ المــــصطفى الأمــــين محــــمّد وآلــــه الــــطيبين الطاهرين المعصومين وبعد...

تمهيد

يـدور الـبحث فـي هـذه المـحاضـرات حـول مـوضـوع (الـديـن)، وسـيتمثّل فـعلاً فـي نـواحٍ مـتعددة:

• إذ سـنبحث عـن (الـديـن) مـن نـاحـية مـفهومـه، وحـدوده الـدقـيقة، والـضابـط الـعلمي فـي تحـديـد مـاهـيّته، وهـو بـــحث يـــرتـــبط بـــالـــجانـــب الـــتصوّري والمـــفاهـــيمي لـــه، وســـتعرف أنّـــه لـــكي يـــتّضح هـــذا المـــفهوم لا بـــدَّ أن نحــدّده ضــمن ضــابــط مــوضــوعــي يــنبغي أن يُــتفق عــليه بــحيث يــمكن لــنا أن نــطبّق هــذا الــضابــط عــلى كــلّ ديــن مــن الأديــان ســواء كــان ديــناً ســماويــاً أو مــخترعــاً، لا أن ُيــعرّف ويُحــدّد الــديــن بــطريــقة تــنطبق على بعض الأديان دون بعض، ولهذا البحث أهمية سوف يأتي ذكرها إن شاء الله تعالى.
• والــناحــية الأخــرى الــتي نــبحثها فــي هــذه المــحاضــرات عــن الــديــن هــي نــاحــية (المــصادر الــديــنية) والمـــنابـــع الـــتي يـــتشكّل الـــديـــن مـــنها، ســـواء كـــان عـــلى المســـتوى الـــعقائـــدي أو الـــقانـــونـــي أو الـــقيمي، فجـــميع هـــذه المســـتويـــات يـــنبغي أن تُســـتلهم مـــن مـــصادر ومـــنابـــع داخـــل الـــديـــن، فـــمثلاً مـــن الـــناحـــية الـعقديـة أنّ هـذا الـديـن لـه أصـول وأفـكار عـقائـديـة، ويـتوجـب أن تـكون هـذه الأصـول والأفـكار مسـتمدّة مــن مــصادر ومــنابــع فــي هــذا الــديــن كــالــقرآن الــكريــم مــثلاً، ثــم كــيف يــمكن لــنا أن نســتفيد مــن هــذه المـصادر سـواء كـانـت هـذه المـصادر آيـات قـرآنـية أو نـصوص روائـية ديـنية؟ وهـكذا فـيما إذا افـترضـنا أن يــــكون هــــذا المــــصدر هــــو الــــعقل وأنّ الــــفكرة المســــتمدّة مــــنه هــــي فــــكرة عــــقلية كــــما هــــو الــــحال فــــي توظيف المصدر العقلي في إثبات -مثلاً- الأفكار العقائدية وما شابهها. فـهنا -فـي الـحقيقة- يـتمّ الـبحث فـي هـذه الـناحـية عـن المـصادر الـتي عـلى أسـاسـها يـتشكّل هـذا الدين، وما هي الآلية الواجب اتّباعها في تحديد هذه المصادر والإفادة منها في فهم الدين؟
• الــناحــية الأخــرى الــتي نــبحثها فــي هــذه المــحاضــرات هــي نــاحــية (لــغة الــديــن) ولا نــريــد مــن لــغة الـديـن الـلغة الـنصوصـية لـلديـن بـمعنى الـلغة الـتي تـمثّلت بـها الـنصوص الـديـنية مـن قـبيل الـلغة الـعربـية أو الـلغة السـريـانـية أو أي لـغة أخـرى، بـل نـريـد مـن لـغة الـديـن هـنا، الأسـلوب أو الـطريـقة الـتي يـتّبعها الــديــن فــي بــيان مــقاصــده، فهــل الــطريــقة الــتي يســلكها الــديــن ويــتّبعها فــي بــيان مــراداتــه ومــقاصــده هـــــي طـــــريـــــقة الأســـــلوب الـــــطبيعي الاعـــــتيادي المـــــتداول فـــــي بـــــاب الـــــكلام والمـــــحاورات، أي إنـــــه يـــــلقي الـــكلمات ويـــريـــد مـــن هـــذه الـــكلمات مـــفاهـــيمها الـــظاهـــرة المنســـبقة إلـــى الـــذهـــن الـــعرفـــي أو أنّ لـــلديـــن أســلوبــاً خــاصــاً مــغايــراً لــلأســلوب الــعرفــي يــتبعه دائــماً فــي نــصوصــه، كــأن يــكون الأســلوب المــتّبع هــو الأســـلوب الـــرمـــزي، فـــعندمـــا يـــذكـــر مـــثلاً كـــلمة مـــن الـــكلمات تحـــمل ظـــهوراً دلالـــياً خـــاصـــاً حســـب وضـــع الــــلغة الــــعربــــية لا يــــكون هــــذا المــــعنى المســــتظهر هــــو المــــقصود، بــــل المــــقصود مــــعنى آخــــر مــــرمــــوز إلــــيه يــتصيّد مــن لــغة الــديــن والأســلوب الــذي يــتّبعه؟ كــما قــيل ذلــك إزاء مــا يتحــدث بــه الــقرآن الــعزيــز عــن الـغيبيّات، فـمن الـواضـح أنّ الـكلام عـن الـغيبيات لا يـكون مـماثـلاً لـلكلام عـن الأمـور المـاديـة والـطبيعية، فإذا ما ذُكِر في القرآن الكريم حديثاً عن الغيبيات قد يُفسَّر هذا بطريقة التفسير الرمزي. لـيس حـديـثنا فـعلاً عـن اخـتيار المـبنى الـصحيح فـي تحـديـد مـاهـية لـغة الـديـن أو الأديـان الأخـرى بـقدر مـا نـريـد أن نـؤكّـد أنّ هـناك خـلافـاً فـي المـسألـة، مـن أنّ لـغة الـديـن هـل هـي لـغة الـكلام والأسـلوب الطبيعي المتّبع في باب المحاورات، أو أن الدين له أسلوب خاص كالأسلوب الرمزي مثلاً؟
• ومــــن الــــنواحــــي الــــتي ســــنتناولــــها فــــي هــــذه المــــحاضــــرات، طــــرح أهــــم الإشــــكالــــيات الــــتي يــــنبغي عـــلاجـــها عـــقائـــديـــاً، ســـواء تـــلك الإشـــكالـــيات الـــتي تـــرتـــبط بـــالـــجانـــب المـــفاهـــيمي لـــلديـــن، كـــالإشـــكالـــيات الـتصوّريـة فـي جـملة مـن المـفاهـيم الـديـنية مـن قـبيل مـفهوم الـتوحـيد، ومـفهوم الـعدل، ومـفهوم الـتوكّـل، ومـــفهوم الـــشفاعـــة وغـــير ذلـــك مـــن المـــفاهـــيم، فـــإنـــه مـــا هـــو المـــقصود مـــن هـــذه المـــفاهـــيم؟
إنّ هـــذه بـــعض الــنماذج الــتي وقــع فــيها الــخلاف بــين الــفرق الإســلامــية، فــما هــو مــعنى الــتوحــيد؟ وهــل يــتنافــى هــذا المــفهوم مــع بــعض المــمارســات المــتداولــة بــين عــموم المســلمين والاعــتقادات الــتي عــليها عــلماء وجــمهور الإسـلام كـزيـارة الـقبور والإيـمان بـالـشفاعـة لـغير الله تـعالـى؟ ومـا هـو مـعنى الـعدل؟ وهـل يـمكن لـلإلـه بـما لـه مـن السـلطة الـعامـة المـطلقة أن يـعمل عـلى خـلاف مـوازيـن الـعدل حسـب مـا نـفهمه مـن تـلك المـوازيـن ومـــع ذلـــك يـــبقى مـــتّصفاً بـــصفة الـــعدل أو أن الخـــروج عـــن حـــدود الـــعدل المـــعروفـــة مـــوجـــب لســـلب صـــفة العدل عنه سبحانه؟ نـعم، نـتطرق فـي هـذه الـناحـية إلـى أهـم الإشـكالـيات، سـواء كـانـت المـرتـبطة بـالـجانـب المـفاهـيمي كـما أشـرنـا إلـيه، أو فـيما يـرتـبط بـآلـية قـراءة الـديـن وكـيفية فـهمه، بـمعنى أنـنا بـأي طـريـقة يـمكن لـنا أن نــفهم الــديــن؟ فــمثلاً أنّ المــتعارف عــليه لــفهم الــديــن هــو أن يــكون الإنــسان مــتمكّناً مــن الــلغة الــعربــية، ومـــن أســـالـــيب الـــعرب وبـــلاغـــتهم، وكـــذلـــك يـــدرس شـــيئاً مـــن عـــلم أصـــول الـــفقه، ويـــدرس الـــفقه، ويـــدرس بـعض الـعلوم الـديـنية حـتى يـتمكن مـن فـهم الـقرآن الـكريـم بـالـطريـقة الـتي يـقصدهـا الـقرآن الـعزيـز أو أحــاديــث الــرســول (صــلى الله عــليه وآلــه وســلم) أو مــن فــهم روايــات أهــل الــبيت (عــليهم الســلام) فــما هـي الـطريـقة والآلـية الـصحيحة فـي قـراءة الـديـن وكـذلـك الـنصوص الـديـنية؟ ومـا هـي طـريـقة الـتعامـل والــتوفــيق بــين الــديــن وبــين الــعقل والــعلم؟ وفــي هــذا الــسياق تــُبحث بــعض الإشــكالــيات والمــسائــل، مــثل الـبحث عـن إشـكالـية الـتصادم بـين الـعقل والـديـن؟ والـتصادم بـين الـعلم والـديـن؟ كـيف يُقرأ الـديـن مـثلاً؟ فــينبغي أن تُــعالــج هــذه الإشــكالــيات مــعالــجة جــادة وواضــحة. وظهــرت هــنا رؤى ونــظريــات أجــابــت عــن هـذه الـتساؤلات وتـساؤلات أخـرى كـتلك المـعروفـة بـ(ـنظريـة تـعدد الـقراءات لـلديـن) أو تـعدد الـواقـع الـديـني حسب المفروضات الزمكانية، أو غيرهما من النظريّات التي ظهرت في الآونة الأخيرة. إن الإجــابــة عــن جــملة مــن الإشــكالــيات تــتبع الــوضــع الــعلمي والــثقافــي والــحضاري الــتي تــطرح فـيه، وقـد يـكون جـوابـاً نـافـعاً فـي ظـروف زمـكانـية خـاصـة هـو غـير نـافـع فـي ظـروف أخـرى مـمّا ولّـد مـا عُــرِف مــؤخــراً مــن تــقسيمٍ لــعلم الــكلام إلــى قــديــم ومــعاصــر وكــانــت كــثير مــن الإشــكالــيات المــذكــورة فــي الـكلام المـعاصـر مـوجّـهة إلـى نـفس إلـهية الـديـن وحـقّانـيّته والـبحث عـن مـناشـئه.. هـذا وقـد اخـتلفوا فـي نـفس عـلم الـكلام المـعاصـر مـن جـهة تـعريـفه وتحـديـده، إذ لـيس هـناك ضـابـط محـدّد لـتعريـفه، فـبعضهم يـحصر هـذا الـعلم بجـملة المـسائـل الـتي تـدور حـول الـديـن. واخـتلفوا أيـضاً فـيه مـن حـيث المـنشأ، ومـن حيث الأثر، ومن حيث الشمولية. أمــا نــحن فــنرى بــأن الــفارق الــرئــيسي بــين عــلم الــكلام الــقديــم وعــلم الــكلام الحــديــث، فــي طــبيعة الإشـــكالـــيّات المـــطروحـــة ولـــيس الاخـــتلاف بـــينهما مـــن ســـنخ الاخـــتلاف الـــجوهـــري، فـــلا فـــارق حـــقيقي بـــينهما، فـــإنّ المـــهم والـــغرض مـــن عـــلم الـــكلام بـــقسميه مـــا دام واحـــداً -عـــلى مـــا نـــراه- فـــالـــعلم إذن عـــلم واحد.

• وكـــذلـــك نـــبحث إن شـــاء الله تـــعالـــى فـــي هـــذه المـــحاضـــرات عـــن عـــقلنة الـــديـــن بـــصورتـــه الـــفلسفية الـعامـة بـمعنى هـل أن المـعطيات الـديـنية ولا سـيّما الـعقائـديـة مـنها - لـو جـرّدنـاهـا عـن طـابـعها الـديـني- هـل هـي مـعطيات تـتّسق مـع الـتفكير المـعقولـي الـفلسفي؟ أو أن مـا يـطرحـه الـديـن مـن الــــقضايــــا ذات الــــعلاقــــة بــــالــــجانــــب الــــفلسفي قــــد لا يــــتوافــــق مــــع المــــطروح والــــثابــــت فــــلسفياً؟ وهــــذا هــــو الحــديــث عــن (فــلسفة الــديــن) بــمعنى أنّ فــلسفة الــديــن -الــذي هــو مــفهوم مشــترك بــين مــعانٍ مــتعدّدة- نـقصد بـها فـي المـقام، الـبحث عـن كـون المـعطى الـديـني هـل يـتّسق مـع الـنظام الـفلسفي الـعام أو أنـه قـــد لا يـــتّسق مـــعه بـــل يـــتنافـــى مـــعه؟ فـــإن كـــان يـــتسق فـــبه، وإن كـــان لا يـــتّسق ويـــتنافـــى مـــع المـــعطى الــفلسفي الــعقلي الــبرهــانــي فــلا بــدّ مــن تــوجــيه لهــذه الــظاهــرة -أعــني ظــاهــرة الــتصادم والــتنافــي بــين المعطى الديني والمعطى الفلسفي-.
• وأيـــضاً أنـــه مـــما يـــمكن أن نـــبحث عـــنه فـــي هـــذه المـــحاضـــرات هـــو عـــقد بـــعض المـــقارنـــات كـــنماذج لـلبحث عـن (عـلم الـديـن المـقارن)، حـيث إنّ الـبحث فـي عـلم الـديـن المـقارن، والـبحث فـي نـماذج كـنموذج الــديــن الإســلامــي مــع نــموذج ديــن آخــر، يــفصح عــن تحــديــد أهــم المشــتركــات، وكــذلــك الــفوارق ونــقاط الــقوة والــضعف، ومــوارد الــتأثــير والــتأثّــر بــين الأديــان، وهــذا يظهــر بــطبيعة الــحال نــتيجة المــقارنــة بــين الأديـــان ومـــعطياتـــها، لأنـّــه عـــند المـــقارنـــة تـــتّضح نـــقاط الـــقوة فـــي هـــذا أو فـــي ذاك، وتـــتّضح بـــأن هـــذا مشترك مع ذاك، وبأن هذا قد أثّر على ذاك، وهكذا.
• ومـن الـنواحـي الـتي نـبحثها فـي هـذه المـحاضـرات هـو الـبحث عـن مـدى شـمولـية الـديـن واسـتيعابـه لمـجالات الـحياة، وهـذا الـبحث مـهم جـداً، حـيث يـؤصّـل فـكرة ثـبات الـقانـون الـديـني، فـي بـعديـه الـزمـني الـتاريـخي والمـكانـي الـجغرافـي، وإن الـحلال والحـرام هـو حـلال وحـرام إلـى يـوم الـقيامـة - حـلال محـمد (صـــلى الله عـــليه وآلـــه) حـــلال إلـــى يـــوم الـــقيامـــة، وحـــرامـــه حـــرام الـــى يـــوم الـــقيامـــة - فـــهنا الـــبحث عـــن شــمولــية الــديــن مــن جــهة، وثــباتــه مــن جــهة أخــرى، مــن نــاحــية أنّ لــكلّ واقــعة تحــدث لــلإنــسان لا بــدَّ أن يكون لها حكم في الحقيقة.
• وكـــذلـــك مـــن الـــنواحـــي الـــتي نـــبحث عـــنها الـــبحث عـــن جـــوهـــر الـــديـــن وروحـــه ومـــقاصـــده الـــعليا ومـــرجـــعيّاتـــه الـــقيمية والأخـــلاقـــية وهـــذا الـــبحث أيـــضاً ضـــمن الأبـــحاث المـــهمة، وقـــد اُهـــتمّ بـــه فـــي الآونـــة الأخــيرة وفــي الــوقــت المــعاصــر وقــع الاهــتمام بهــذا الــبحث - الــبحث عــن جــوهــر الــديــن وروحــه - فــمثلاً مــن المــبادئ الــعليا وروح الــديــن هــو الاهــتمام بــالــعدل، الاهــتمام بــمسألــة المــساواة وعــدم الــطبقية، وأن البشـر جـميعاً هـم فـي الـحقيقة عـبارة عـن حـقيقة واحـدة كـلهم مـن آدم وآدم مـن تـراب، وكـلنا قـد خـلقنا من نفس واحدة، لا فرق بين هذا وذاك إلا بميزان الأخلاق والقيم و الامتثال للإله الواحد. هـــذه جـــملة مـــن الـــنواحـــي الـــتي ســـوف يـــتم الحـــديـــث عـــنها أو عـــن مـــعظمها حســـب مـــا يـــتسع لـــه المـــجال فـــي هـــذه المـــحاضـــرات، وكـــما يـــلاحـــظ أن المـــحور فـــي جـــميع هـــذه الـــنواحـــي هـــو الحـــديـــث عـــن الـديـن، فـإن هـذا هـو مـحورنـا فـي الـحقيقة، ولـكن الحـديـث عـن الـديـن مـن زوايـا مـختلفة، فـمرة مـن زاويـة مفهومه وأخرى من ناحية البحث عن مصادره، وثالثة عن لغته، ورابعة عن شموليته، وهكذا.
والـــغرض الأســـاس فـــي مـــا يـــقع الحـــديـــث عـــنه هـــو بـــيان الـــرؤيـــة الإســـلامـــية أو الـــديـــن الاســـلامـــي ومـقارنـة هـذا الـديـن مـع الأديـان الأخـرى، ومـا هـي الآلـية الـصحيحة فـي الـتعامـل مـع هـذا الـديـن سـواء كان على مستوى اكتشاف أصول هذا الدين، ومنابعه، أو على مستوى فهمه. ونشـرعُ فـعلاً فـي تـعريـف الـديـن مـن الـناحـية المـفاهـيمية، فـما هـو الـديـن؟ وهـذا هـو الـبحث الأول الذي نتطرق إليه إن شاء الله تعالى في هذه المحاضرات، حيث يقع التساؤل التالي: ما هو الدين؟

تعريف الدين

إنَّ الــبحث عــن المــفاهــيم وتــعريــفها لا ســيّما فــي مــجال الأفــكار والأيــدولــوجــيّات، يحــظى بــأهــمية كـبيرة لا سـيّما فـي الـدراسـات المـعاصـرة، وتـتمثّل هـذه الأهـمية مـن جـهات مـتعدّدة نـذكـر بـعضها عـلى ســـبيل المـــثال، مـــن قـــبيل أن يـــكون المـــوضـــوع الـــذي نـــبحث عـــنه والمـــحور الـــذي يـــقع الـــصراع الـــفكري أزاءه مــما يــنبغي أن يــكون محــدّداً مــفاهــيمياً لأنّــه لــو لــم يحــدّد مــوضــوع مــن المــوضــوعــات مــن الــناحــية المـفاهـيمية ولـم يـُعرَّف بـشكل دقـيق سـوف يـقع الاخـتلاف فـيه، فتجـد هـذا الـطرف مـثلاً يـرتـّب أثـراً عـلى هــــذه الــــكلمة غير الــــواضــــحة مــــن الــــناحــــية الــــدلالــــية، والــــطرف الآخــــر يــــرتّــــب أثــــراً آخــــر فــــيقع الــــنزاع والــصراع بــين الــطرفــين، والمــوجــب لهــذا الــصراع فــي الــحقيقة هــو عــدم الــدقـّـة فــي التحــديــد المــفهومــي لــلكلمة لأن المــوضــوع الــذي يــقع فــيه الــبحث لــم يحــدّد بــصورة مــفاهــيمية واضــحة، مــما يــعني أنــنا إذا حــددنــا هــذه الــكلمة دلالــياً وعــرّفــنا هــذا المــفهوم تــعريــفاً دقــيقاً فــإنّــه ســوف يســتلزم اســتبعاد الــتشويــش الـــدلالـــي ومـــن ثـــم عـــدم الـــخلاف الـــذي قـــد يـــنصبّ عـــلى لـــفظ مـــعيّن حســـب مـــا يـــفهمه كـــل طـــرف، فهـــذا الـــطرف يـــفهمه بـــطريـــقة تـــختلف فـــي فـــهمه عـــن الـــطرف الآخـــر فـــيقع الـــنزاع بـــين الـــطرفـــين، وكـــثيراً مـــا يحــدث هــذا، وإذا مــا دقــق فــي الأمــر أكــثر بــين الــطرفــين لا ســيّما إذا كــانا يــبحثان عــن الــحقيقة ســوف يـكتشفان أن مـا وقـع الـخلاف فـيه بـينهما إنّـما كـان لـعدم وضـوح المـوضـوع الـذي وقـع الـنزاع تـجاهـه، وإلّا فـــإنّ هـــذا يـــفهم مـــن الـــفكرة شـــيء وذاك يـــفهم مـــن الـــفكرة شـــيء آخـــر.

وأيـــضاً مـــن المـــوارد الـــتي  نسـتشعر أهـمية هـذا الـبحث فـيها هـو اسـتبعاد - يـعني لمـاذا نـحن نحـدد ونـبحث عـن تـعريـف الـديـن أو نـبحث عـن تـعريـفات الأشـياء بـشكل عـام- الـنماذج الـدخـيلة الـتي يـتخيل دخـولـها فـي المـفهوم المـبحوث مــع أنــها ليســت مــنه، فــإنّ تحــديــد وتــعريــف المــفهوم لــو كــان دقــيقاً لــم تــحصل مــثل هــذه الاشــتباهــات بـــحيث يـــدخـــل عـــناصـــر أو نـــماذج هـــي فـــي الـــحقيقة خـــارجـــة عـــن المـــفهوم، ولهـــذا اهـــتم المـــناطـــقة مـــنذ الــزمــان الــقديــم بــمبحث تــعريــف الأشــياء وكـُـتبت فــي ذلــك مــصنّفات لا حــصر لــها ابــتداءً مــن الــفلسفة الــيونــانــية، ومــروراً بــالــفلسفة الإســلامــية، وانــتهاءً فــي الــحاضــرة الحــديــثة فجــميع الــحضارات الــفكريــة والـــفلسفية والمـــنطقية اهـــتمّت بـــتعريـــف الأشـــياء، ومـــا ذلـــك إلا مـــن أجـــل عـــدم الـــوقـــوع فـــي الـــتشويـــش والخلاف، وحتى لا ندرج مصاديق أو نماذج تحت غير مفاهيمها.

ومــن المــفاهــيم الــتي وقــع فــيها الاخــتلاف بســبب الــتشويــش وعــدم التحــديــد الــدلالــي لــها، مــفهوم المـساواة، ومـفهوم الـعدل، ومـفهوم الـديـمقراطـية، ومـفهوم الحـريـة، ونـحو ذلـك مـن المـفاهـيم الـتي الـتبس فـيها المـقصود بسـبب عـدم التحـديـد والـتعريـف الـدقـيق، فـمثلاً: مـا هـو تـعريـف الحـريـة؟ ومـا هـو تـعريـف الإرهـاب؟ ومـا هـو المـعنى الـدقـيق لـلوطـن؟ فـإنّـه إذا حـدّدنـا تـعريـفاً دقـيقاً لـلإرهـاب مـثلاً فـلا يـقع الـنزاع والاتـــهام المـــتبادل بـــين الأطـــراف حـــيث يـــدّعـــي طـــرف أنّ ذاك إرهـــابـــياً، وذاك الـــطرف يـــقول: أنـــتم هـــم الإرهابيون. فــيعلم أنّ تحــديــد المــفهوم مــن الأمــور المــهمة الــتي تــرفــع الــتشويــش فــي مــقام المــحاورة، وكــذلــك تــرفــع انــدراج بــعض الــنماذج فــي غــير مــفاهــيمها، فــمثلاً أنّ ذاك يــدّعــي بــأنّ هــذه الــفرقــة إرهــابــية لأنــه يــنطبق عــليها عــنوان الإرهــاب والآخــر يــدّعــي عــكس ذلــك، والمــتتبع يــقول: مــا هــو تــعريــف الإرهــاب؟ ومــا هــي حــدوده الــدقــيقة؟

فــإذا مــا عــرّفــنا الإرهــاب فــإنــه ســوف يــتضح مــن يــنطبق عــليه عــنوان الإرهــابــي، ومـن هـو غـير الإرهـابـي، وكـذلـك الـكلام فـي تـعريـف الـديـمقراطـية، وكـذا فـي مـا هـو تـعريـف الحـريـة؟ مـا هــو تــعريــف المــساواة والــعدل؟ ونــحو ذلــك مــن المــفاهــيم الــتي لــم يــتفق عــليها بحــدود خــاصــة إلــى هــذا الزمان.

إنّ الـبحث عـن مـفاهـيم الأشـياء فـي الـحقيقة لـيس بـالـضرورة أن يـكون متيسّـراً وواضـحاً بـل قـد يــــكتنفه الــــغموض، أو قــــد يــــكون المــــفهوم ذات عــــمق دلالــــي، ويــــحتاج إلــــى تــــأمـــّـلات حــــتى نهــــتدي إلــــى تعريفه بشكل دقيق.

ومــن المــفاهــيم الــتي وقــع الــبحث والــخلاف فــيها -فــي الــحقيقة- مــفهوم الــديــن، ولــم يــكن قــد بُـحث عــن تــعريــف لهــذا المــفهوم -رغــم أنّ الــتديّــن ووجــود الأديــان مــمتدّ فــي عــمق الــوجــود الإنــسانــي- بــشكله الــرســمي المــعروف إلا فــي الــقرون الأخــيرة. نــعم كــانــت هــناك تــعريــفات لــلديــن وكــان هــناك بــحث لــغوي عـنه، فـيما هـو مـعنى الـديـن؟ هـل هـو مـن إدانـة أو دان أو مـن كـذا... وكـلام فـي الـلغة عـن شـرح مـفردة الــديــن، كــما ان هــناك كــلامــاً فــي تــعريــف الــديــن لا ســيما فــي الــحاضــرة الــكلامــية الإســلامــية، ولــكن كـبحث مـطروح عـلى المسـتوى المـدرسـي، والاهـتمام بـه ووقـوع الـخلاف فـيه كـثيراً إنـما وجـد فـي الـقرون  الأخــيرة عــندمــا انــبثقت كــثير مــن الــتساؤلات مــن الــجانــب الــغربــي حــول الــفلسفة والــديــن والــسياســة وغـير ذلـك، يـعني عـقب الـثورة الـكبرى فـي أوروبـا، وربـما أن ولادة الـبحث عـن تـعريـف الـديـن كـان فـي الــــقرن الــــثامــــن عشــــر المــــيلادي بــــعد ظــــهور الاتــــجاهــــات الأيــــديــــولــــوجــــية المــــتبايــــنة هــــناك، ووجــــود عــــلماء اجــتماع وأنــثروبــولــوجــيا وفــلسفة مــمن كــان لــهم مــوقــف ســلبي مــن الــديــن، نــتيجة لــردة فــعل مــن الــديــن المــسيحي، هــذا الأمــر دفــعهم لــدراســة الــديــن ومــناشئ الــديــن وتــعريــفه، فــبحثوا عــن الأديــان ومــاهــيّة الـديـن، إلّا أنـّه كـما أشـرنـا لـم يـحصل الـتوافـق عـلى مـدلـول مـعيّن بـل نجـد أكـثر الـتعريـفات الـتي صـدرت عــن عــلماء اجــتماع، وعــلماء نــفس، وعــلماء أنــثروبــولــوجــيا، وفــلاســفة وغــيرهــم.. لــم تــكن ذات مــوضــوعــية وإنـّما ينسجـم الـتعريـف مـع قـبليات الـباحـث، فـإن كـان لـه مـوقـف سـلبي مـن الـديـن عـرّف الـديـن بـطريـقة ســلبية، وإن كــان لــديــه مــوقــف إيــجابــي مــن الــديــن عــرّف الــديــن بــطريــقة إيــجابــية وهــكذا.

وبــعض آخــر ذهــب - كــما هــو رأي كــثير مــن الــعلماء- إلــى صــعوبــة تحــديــد الــديــن بــل ربــما اســتحالــة تحــديــد الــديــن عــــلى مــــا ســــيأتــــي إن شــــاء الله الإشــــارة إلــــيه.

ومــــمن اهــــتمّ بهــــذا الــــشأن مــــن الــــعلوم:

• عــــلم الاجــــتماع: بـاعـتبار أن الـديـن يـدخـل بـعض مـوارد واهـتمامـاتـه وكـذلـك عـلم الأنـثروبـولـوجـيا، ومـن الـواضـح أن هـؤلاء (عـلماء الأنـثروبـولـوجـيا) يهـتمّون بـالأديـان بـشكل كـبير، فـهؤلاء أيـضاً حـاولـوا تـعريـف الـديـن.
• عــلم الــنفس: بــاعــتبار أن الــديــن يــمثل ثــقافــة بشــريــة، فــما هــو مــنشأ هــذه الــثقافــة؟
• عــلم الــفلسفة: لاســيّما الحــديــثة.
• علم الــتاريــخ.
• وغـــير ذلـــك مـــن الـــعلوم.
إذن لـــيس الـــبحث عـــن تـــعريـــف الـــديـــن هـــو خـــاصـــة عـــلم الـــكلام بـــل هـــناك عـــلوم مـتعددة أبـدت وجـهة نـظرهـا فـيه، وكـان لـكل حـقل مـن هـذه الـعلوم نـظرة فـي تـعريـف الـديـن تـتناسـب مـع مـجال اخـتصاصـه، فـمثلا تجـد بـعض عـلماء الـنفس مـمن لـديـه مـوقـف سـلبي مـن الـديـن يـعرّفـون الـديـن بـأنـه انـعكاس لانـفعال نـفسي مـعين، بـينما بـعض عـلماء الأنـثروبـولـوجـيا (دوركـهايـم) يـرفـضون تـعريـف وتحـديـد لـلديـن ويـركـزون عـلى الـجانـب الـوظـيفي والـقيمي لـلديـن، يـعني لا بـدّ أن نـركـز عـلى وظـيفة الـديـن وتـأثـير الـديـن فـي المـجتمع، وهـل أن تـأثـيره إيـجابـي أم سـلبي، فـينبغي أن نهـتم بـالـجانـب الـوظـيفي لـه لا بـالـجانـب الـتعريـفي، فـليس مـن المـهم أن يـكون لـه تـعريـف أو لـيس لـه تـعريـف، فهـذا لـيس أمـراً مـهماً عــند هــؤلاء، بــل أنــه يــجب أن نهــتم بــماذا يــؤثــر الــديــن. هــؤلاء أصــحاب المــدرســة الــوظــيفية يــقولــون: إن الـــديـــن لـــيس مـــن المـــهم تـــعريـــفه، وبـــعضهم يـــقول أنـــه مـــتعذر تـــعريـــفه، ولـــكنهم عـــلى كـــل تـــقديـــر يهـــتمون بالجانب التأثيري والقيمي. وعــلى كــل تــقديــر مــن المــناســب جــداً قــبل بــيان المــواقــف وتــعريــفات الــديــن أن نــذكــر الــخصائــص التي على أساسها يتقوم الدين. (وبــعبارة أخــرى): هــناك مجــموعــة أمــور إذا تــحققت تــحقق عــنوان الــديــن، ونــريــد أن نــبحث فــي الإجــابــة عــلى هــذا الــتساؤل: مــا هــي الأمــور الــتي مــتى مــا تــحققت تــحقق عــنوان الــديــن بــغض الــنظر عـن أن يـكون هـذا الـديـن هـو ديـن نـاضـج كـالـديـن الاسـلامـي مـثلاً أو أنـه ديـن بـدائـي كـالأديـان الـبدائـية المــوجــودة فــي المــجتمعات الــبدائــية، وهــناك جــملة مــن الــعناصــر مــتى مــا تــوفــرت تــحقق عــنوان الــديــن، فتساؤلنا في الحقيقة الآن في استيضاح الخصائص التي على أساسها يوجد الدين.

الــخصائــص التي على أساسها يتقوم الدين

هــناك عــدة اتــجاهــات فــي بــيان ذكــر الــخصائــص، ولــكن نــحن نــذكــر مــا نــراه مــناســباً وصــحيحاً اخـــتصاراً لهـــذا الـــبحث، فـــنحن نـــرى وجـــود أمـــريـــن إذا تـــحققا تـــحقق عـــنوان الـــديـــن وإذا انـــتفى واحـــد مـنهما انـتفى هـذا الـعنوان، وكـل مـا عـداهـما مـما يـذكـر بـعنوان أنـه مـن الـخصائـص، فـهي أمـور فـرعـية ولواحق على أصل ماهية الدين، فما هما هذان العنصران؟

الـــعنصر الأول: المـــقوم لـــتحقق عـــنوان الـــديـــن هـــو الاعـــتقاد بـــوجـــود كـــائـــن مـــاورائـــي مـــيتافـــيزيـــقي يـــــتّصف بـــــالـــــقوة والإعـــــلائـــــية عـــــلى مـــــحتوى الـــــكون بـــــحيث يـــــكون لـــــه الـــــتأثـــــير عـــــلى مجـــــريـــــات الـــــواقـــــع المـحسوس، وإلا لـو فـرضـنا مـثلاً أن هـنالـك أيـدلـوجـية لا تـعتقد بـوجـود كـائـن مـاورائـي مـن هـذا الـقبيل، فـلا يـمكن أن نـنعت هـذه الأيـدلـوجـية بـأنـها مـن الأديـان، فـإن الـفارق بـين الأيـدلـوجـية الـديـنية والأيـدلـوجـية غـير الـديـنية أن الأيـدلـوجـية الـديـنية فـي الـحقيقة تـتقوم بـالاعـتقاد بـوجـود كـائـن مـاورائـي مـيتافـيزيـقي لـه قوة وأعلائية تسلطية على الكون.

 الــــعنصر الــــثانــــي: المــــقوم لمــــاهــــية الــــديــــن أن هــــناك نــــحو ارتــــباط بــــين البشــــر وبــــين هــــذا الــــكائــــن

المــيتافــيزيــقي، وأن نــوعــية هــذا الارتــباط مــرجــعها إلــى عــبوديــة الــفرد وأُلــوهــية المــيتافــيزيــقيا، وتســتبطن هــــذه الــــعبوديــــة تــــطبيق وامــــتثال وطــــاعــــة أوامــــر الآلــــهة، وكــــذلــــك إجــــراء الــــطقوس والــــشعائــــر مــــن أجــــل مرضاتها، والتكفير في حال خرق بعض قوانينها وعصيانها.

وبـعبارة أوضـح : ان الـعنصر الأول هـو عـنصر اعـتقادي، والـعنصر الـثانـي هـو عـنصر قـانـونـي، تــنظيمي يــنظم عــلاقــة الانــسان بــالآلــهة، وهــذان الأمــران لازمــان فــي كــل الأديــان، فــلو افــترضــنا بــأن الـــعنصر الأول مـــوجـــود وهـــو الاعـــتقاد بـــوجـــود كـــائـــن مـــاورائـــي مـــيتافـــيزيـــقي، ولـــكن لـــيس هـــناك عـــنصر ثــان، أعــني لا يــوجــد هــناك ارتــباط قــانــونــي تــنظيمي بــين البشــر وبــين الله ســبحانــه وتــعالــى، وكــنا مــثلاً نــمتلك ثــقافــة مــعينة عــن الاعــتقاد الألــوهــي، فــلا يــقال عــن هــذه الــثقافــة بــأنــها ديــن مــن الأديــان، فــمثلاً المـــذهـــب الـــربـــوبـــي يـــعتقد بـــأن هـــناك إلـــهاً ولـــكن لا يـــعتقد بـــالـــعنصر الـــثانـــي (ارتـــباط بـــين البشـــر وذلـــك الـكائـن المـيتافـيزيـقي) بـمعنى أن يـكون هـناك ارتـباط قـانـونـي فـقهي تـنظيمي يـنظم عـلاقـة الإنـسان مـع ربـّه بـعبادة، بـصلاة، بـزكـاة، بـحج، بسـلوكـيات عـامـة وبسـلوكـيات خـاصـة أسـريـة اجـتماعـية، سـلوكـيات شـــخصية بـــينه وبـــين نـــفسه، فـــأي قـــانـــون تـــنظيمي بـــين الله والبشـــر وفـــق هـــذا المـــذهـــب غـــير مـــوجـــود.

يـحكى عـن بـعض أنـهم قـالـوا بـأن عـنوان الـديـن يـطلق عـلى بـعض الأديـان الـتي لا تـعتقد بـالأمـر الأول يـعني لا تـعتقد بـوجـود الـكائـن المـاورائـي وتـعتقد هـذه الاتـجاهـات بـأن هـناك قـانـونـاً إلا أنّـه لـيس قـانـونـاً تـنظيمياً بـين الله سـبحانـه وتـعالـى والبشـر، وإنّـما هـناك قـانـون تـنظيمي أخـلاقـي يـنظم عـلاقـة الإنـسان مـــع نـــفسه ومـــع الآخـــريـــن ســـواء كـــان مـــع أســـرتـــه أو مـــجتمعه أو الـــعالـــم، فـــمثلاً يـــقال: إذا كـــان هـــناك قـانـون أخـلاقـي يـنظم عـلاقـة الإنـسان مـع نـفسه ومـع الآخـريـن فهـذا يـكفي بـأن يـنعت بـاسـم الـديـن، وإن لـم يـعتقد هـذا الإنـسان بـوجـود قـوة مـاورائـية، كـما أنـه يـقال مـثلاً ذلـك فـي الـديـانـة الـبوذيـة الـقديـمة بـأنـهم لا يـــــعتقدون بـــــوجـــــود الآلـــــهة لأنـــــه يـــــحكى عـــــن بـــــوذا أنـــــه لـــــم يـــــكن الـــــهياً، فـــــبعضهم قـــــال أنـــــه لا أدريـــــاً، وبـعضهم قـال بـأنـه ملحـد وبـعضهم قـال أنـه كـان يـعتقد بـوجـود إلـه، وهـناك كـلام فـي كـونـه مـمن يـعتقد بــإلــه أو لا يــعتقد بــإلــه، وكــيف كــان، فــإن بــوذا أنــشأ جــماعــة وأعــطى قــوانــين وســار وفــق نــظام أخــلاقــي مــعين فــسميت بــعد ذلــك مجــموعــة تــعالــيمه بــالــديــانــة الــبوذيــة، رغــم عــدم اعــتقادهــم بــوجــود الله - هــكذا يــحكى- ولــكن فــي الــحقيقة هــذه مجــرد حــكايــة لا يــدعــمه الاعــتبار الــعلمي حــيث لا يــطلق اســم الــديــن على مجرد القوانين والأخلاق التي تواضع عليها البشر. وعـليه، فـإذا كـان الـبوذيـون فـعلاً يـتمسكون فـقط بـالـقوانـين دون الاعـتقاد بـالآلـهة فـلا يـطلق عـليها بـــأنـــها ديـــن، وإنـــّما هـــي اتـــجاه أخـــلاقـــي خـــاص، بـــيد أن قـــسماً كـــبيراً مـــن الـــبوذيـــة الحـــديـــثة يـــعتقدون بالآلهة، والآلهة متمثلة ببوذا وهذه البوذية غير البوذية القديمة.

وعـلى كـل تـقديـر فـنحن فـي الـحقيقة نـرى لـزوم هـذيـن الـعنصريـن، عـنصر الاعـتقاد بـوجـود الـكائـن المــاورائــي وعــنصر الــقانــون الــتنظيمي بــين البشــر وهــذا الــكائــن المــاورائــي المــيتافــيزيــقي، فــلو انــتفى أحد هذين العنصرين سوف ينتهي عنوان الدين. إذن الدين يتقوم بهذين الأمرين، وهذا بشكل عام.

أمـــا مـــاهـــي رؤيـــة المـــتكلمين المســـلمين فـــي هـــذه المـــسألـــة؟ فـــنقول:

إذا كـــان مـــقصود المـــتكلمين المســـــــلمين فـــــــي تـــــــقسيم الـــــــديـــــــن إلـــــــى أصـــــــول وفـــــــروع بـــــــأن مـــــــرجـــــــع الأصـــــــول عـــــــندهـــــــم إلـــــــى الاعـــــــتقاد بـالمـيتافـيزيـقيا، وأنّ مـرجـع فـروع الـديـن هـو الاعـتقاد بـالـتنظيم والـعلاقـة بـين المـيتافـيزيـقيا والبشـر فـهو كــلام صــحيح و ينسجــم تــمامــاً مــع مــا ذكــرنــاه، وإلا لــو كــان مــرادهــم الحــديــث فــي خــصوص الإســلام فهـذا يـختلف عـمّا نـحن نـريـده هـنا فـنحن فـي الـحقيقة إنّـما نتحـدث عـن الـديـن بـشكل عـام لا عـن الـديـن الإسـلامـي بـشكل خـاص، يـعني أنـه إن قـيل: إن أصـول الـديـن عـند عـلماء الـكلام الاسـلامـيين لـيس هـو مجـــرد الاعـــتقاد بـــالمـــيتافـــيزيـــقيا وإنـــما الاعـــتقاد بـــالمـــيتافـــيزيـــقيا والاعـــتقاد مـــثلاً بـــالـــنبوة والمـــعاد والـــعدل والامــامــة مــثلا، فهــذا حــديــث عــن مــقومــات الــديــن الاســلامــي لا مــقومــات الــديــن بــما هــو ديــن الــشامــل لجميع الأديان، وحديثنا عن الدين العام لا الدين الإسلامي بالخصوص.

إلـــى الآن، أوضـــحنا الـــنواحـــي الـــتي ســـوف نـــبحثها فـــي هـــذه المـــحاضـــرات، وبـــيّنا أيـــضاً أهـــمية  الــتعريــف بــشكل عــام، وقــلنا: إن الــديــن وقــع فــيه الــكلام فــي تــعريــفه وأوضــحنا الــخصائــص والمــقومــات لهـذا الـديـن وأنـها تـتمثل بـأمـريـن، وذكـرنـا هـذه الـخصائـص قـبل بـيان تـعريـف الـديـن، فـإذا تـعرفـنا عـلى خـــصائـــص الـــديـــن ومـــقومـــاتـــه، ومـــا بـــه يـــتحقق، فـــيجب أن يـــكون تـــعريـــفنا لـــه لا يخـــرج عـــن مـــسار تـــلك الـخصائـص.

وفـي الـحقيقة سـوف نسـتعرض بـعض الـتعريـفات المـطروحـة لـلديـن بـاعـتبار أن الـديـن لـه تـعريـفات كـثيرة تـربـو عـلى الخـمسين تـعريـفاً، وبـعض هـذه الـتعريـفات نـاشـئة مـن ردود فـعل نـفسية أو أنـها تنسجـم مـع قـبليات الإنـسان، وبـعضها تـعريـفات مـوضـوعـية وعـلى كـل تـقديـر نـحن لا بـدّ أن نـعرض الــتعريــف عــلى الــخصائــص الــتي ذكــرنــاهــا، فــكل تــعريــف لــلديــن لا يشــتمل عــلى أحــد هــذيــن المــقومــين فلابد أن يرد.

اذن، يـجب ان نسـتبعد كـثيراً مـن الـتعريـفات الـتي هـي ردود أفـعال عـن الـديـن المـسيحي، والـتي جـــــعلت الـــــبعض يـــــقول: إن الـــــديـــــن لا عـــــلاقـــــة لـــــه بـــــمفردات الـــــحياة الـــــثقافـــــية والـــــعلمية بـــــعد مـــــشاهـــــدة الاســتغراق الــروحــي والانــغماس الــباطــني فــي الــديــن المــسيحي وانــه غــير مــلتفت لــتنظيم عــلاقــة الــفرد بــــالــــحياة الــــعامــــة، فــــمثلا فــــولــــتير كــــان ُيــــعرف الــــديــــن بــــأنــــه مــــن صــــنع الــــدهــــاة المــــاكــــريــــن مــــن الــــكهنة والــقساوســة كــما هــو المــلاحــظ، وهــذا إن كــان يــنطبق عــلى بــعض الأديــان أو بــعض المــتديــنين فــإنــه لا يـــنطبق عـــلى جـــميع الأديـــان وإنـــما يـــنطبق عـــلى مـــشاهـــدات أو مشهـــد رآه فـــولـــتير، وان هـــذا الـــنموذج الـذي رآه فـولـتير عـممه إلـى بـاقـي الأديـان فـلا يـصح مـنه أن يـعنون مـفهوم الـديـن بـما تـلقوه وفـهموه مـن الـــديـــن المـــسيحي بـــالـــخصوص، إلا الـــلهم إذا كـــانـــوا يـــقصدون حـــصراً فـــي تـــعريـــفهم خـــصوص الـــديـــن المسيحي، ويـناسـب أن نـذكـر هـنا مـوقـفين رئـيسيين تـجاه تـعريـف الـديـن، مـن نـاحـية أن الـديـن هـل لـه تـعريـف أو ليس له تعريف؟

المـــوقـــف الأول: وهـــو المـــوقـــف الـــذي يـــرفـــض أن يـــكون لـــلديـــن تـــعريـــف، إمـــا لـــعدم إمـــكانـــية تـــعريـــفه بـــاعـــتبار أنـــه مـــن المـــفاهـــيم الـــتي كـــلما حـــاولـــنا أن نـــؤطـــرهـــا أو نحـــددهـــا بحـــدود دقـــيقة خـــرجـــت بـــعض الأديـان مـن الحـد المـطروح، وبـالـتالـي لا يـمكن لـنا تـعريـفه كـما هـو الـحال فـي مـفهوم الحـريـة، إذ كـلما أردنـا أن نُـعرف الحـريـة سنجـدهـا لا تـنطبق عـلى بـعض نـماذج الحـريـات، فـإمـا أن يـقال: إنّ الـديـن لا يـمكن تـعريـفه أوأنـه مـن الـصعوبـة تـعريـف الـديـن، وقـد يـكون مـمكناً إلّا أنـه يـحتاج إلـى اسـتقراء جـميع المــكونــات الــديــنية وهــذا أمــر خــارج عــن الــقدرات الــطبيعية لــلإنــسان أو قــد يــقال بــأنــه أصــلاً لا نــحتاج إلــى تــعريــف الــديــن بــل يــنبغي أن نهــتم بــالــجانــب الــوظــيفي مــنه كــما نــقلنا ذلــك عــن المــدرســة الــوظــيفية، والـتي يـلتزم بـها (دوركـهايـم) حـيث يهـتمون بـالـجانـب الـوظـيفي والـتأثـير لـلديـن أكـثر مـن الاهـتمام بـتعريـف الدين، هذا أحد الموقفين، وخـلاصـته:  أنـه يـرفـض أن يـكون لـلديـن تـعريـفاً إمـا لأنـه مـن المسـتحيل تـعريـفه أو لـصعوبـة تـعريـفه  أو أن تعريفه ليس بذات فائدة.

المـوقـف الـثانـي: وهـو المـوقـف الـذي يـؤمـن بـضرورة الـتعريـف لـلديـن، وأنّـه لا بـدَّ أن نـتصوّر الـديـن لمـا يــــترتــــب عــــلى تــــعريــــفه مــــن آثــــار مــــهمّة عــــلى الــــصعيديــــن الإلــــهي والإلــــحادي بــــحيث يــــصنّف بــــأن هــــذا صـاحـب ديـن أو لـيس كـذلـك، أو يـقال مـثلاً فـي شـأن بـعض الاتـجاهـات كـالـربـوبـية بـأنـها ديـن أو لـيس بــديــن، أو الــبوذيــة ديــن أو لــيس بــديــن، حــتى يــمكن الــتعامــل مــع هــذه الأيــدولــوجــيات أو المــذاهــب كــما نتعامل مع الأديان أو نتعامل معها باعتبارها توجّهات فكرية مثلاً. إذن المـــوقـــف الـــثانـــي هـــو مـــوقـــف يـــلتزم ويـــعتقد بـــضرورة تـــعريـــف الـــديـــن، فـــإذا أوضـــحنا وجـــود مـوقـفين مـن تـعريـف الـديـن، فـنقول:

نـحن نـلتزم بـالمـوقـف الـثانـي أعـني أنّ الـديـن مـمكن تـعريـفه، بـل لا بـدَّ مــن تــعريــفه وتحــديــده لمــا أشــرنــا إلــيه فــي بــدايــة هــذه المــحاضــرة مــن أهــمية تحــديــد المــفاهــيم الــتي يــقع الكلام والخلاف فيها.
 
فروع المركز

فروع المركز

للمركز الإسلامي للدراسات الإستراتيجية ثلاثة فروع في ثلاثة بلدان
  • العنوان

  • البريد الإلكتروني

  • الهاتف