البحث في...
عنوان الحوار
إسم المحاور
إسم مجري الحوار
المصدر
التاريخ
ملخص الحوار
نص الحوار
 أسلوب البحث
البحث عن اي من هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على كل هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على هذه الجملة

October / 13 / 2020  |  986على علم الاستغراب أن يكون عادلاً ومتجاوزاً للإستشراق السلبي

الحوار مع :أ. د. إدريس هاني
على علم الاستغراب أن يكون عادلاً ومتجاوزاً للإستشراق السلبي

يتساءل الدكتور إدريس هاني حول مجموعة من الإشكاليات المعرفية التي تمسُّ قضايا جوهريّة في ميدان التأسيس لعلم الاستغراب، أبرزها: المنهج الذي ينبغي أن يعتمده المفكِّرون والباحثون العرب والمسلمون للقيام بهذه المهمة النهضوية. ومنها أيضًاً ألا يكون هذا العلم ردة فعل على الاستشراق الأمر الذي سيؤدي إلى مخاطر معرفيّة جمّة. أما التحدِّي الكبير برأيه فيكمن في أن يكون علم الاستغراب وفيّاً للمعرفة، وعادلاً في الحكم، ومتحرراً من ردود الفعل، ومتجاوزاً لمعاثر الاستشراق. وفي ما يلي وقائع الحوار:


* ما الغرب برأيكم وما معناه؟

ـ يبدو السؤال بديهيًّا، لكنه في الحقيقة يعتبر سؤالا إشكاليًّا بامتيازٍ. نحن والغرب متّفقون تماماً على أنّه سؤالٌ إشكاليٌّ. ذلك لأنّه يسائل بنيتين على كثيرٍ من التصادم لكن في الوقت نفسه هناك ما هو أبعد من كون الغرب امتدادًا لأوراسيا وله أكثر من رابطة بالشّرق بالمعنى الجيوبوليتيكي للعبارة، بل الحقيقة هي أنّ الشّرق المختلف عن الغرب والذي يشكّل اختلافًا بنيويًّا كبيرًا هو الشرق الأقصى، أي حينما نقطع نهر الهند كما عبّر عن ذلك هيغل في «العالم الشرقي»، حيث كل أوروبيٍّ منذ القرون السالفة لا يرى أي اختلافٍ جذريٍّ أثناء الرحلة إلى الشرق، لكن يبدأ الاختلاف الجذري حينما نصل إلى هناك حيث الهند والصين وما شابه. لعل هذا هو الذي جعل طه حسين في «مستقبل الثقافة في مصر» يعتبر مصر والمنطقة تنتمي إلى الغرب لا إلى الشرق. في الوثائق التاريخية القديمة، كتأريخ هيرودوت مثلًا، يكون شرقنا جزءًا من الغرب وإنما فقط هناك حدودُ صدعٍ حضاريةٌ سميّ بموجبها عالم ما بعد أثينا بالبربر، وهي أسماء وصف بها أيضًا الجزءُ، من الغرب، غيرُ الخاضع لسلطة روما. كانت تطلق على بلاد الغال أيضًا، مصر القديمة ملهمة الحضارة الإغريقية. صور ومضيقها الذي كان له دورٌ كبيرٌ في تلاقح حضارات حوض البحر الأبيض المتوسط. هذا ناهيك عن أنّ الغرب اليوم هو من الناحية الروحية امتدادٌ للمسيحية واليهودية التي هي إرثٌ روحيٌّ للشرق.

ومن هنا تبدو الإشكالية، حيث حينما نتحدث عن الغرب بوصفه الآخر نتحدث عن ميلاد الغرب الجديد، غرب الحداثة الذي ترافق مع غربٍ قطع مع تاريخه قبل أن يقطع مع الآخر، عن غربٍ صَدَم الشرق بقوّة التقنية والتنظيم والثورات العلمية وجملة الإنجازات التي تلخصِّها صدمة الحداثة. لكن هذه الصدمة ازدادت آثارها وتعمقت جروحها حينما حدث الصدام والاستعمار والهيمنة وكل ما هناك من تداعياتٍ تجعل العلاقة بين الغرب والشرق علاقةً محكومةً بشروط التفوق والهيمنة. هناك حيث عمليات التحدِّيث أخفقت وأحيانًا تظل محدودةً ومرتهنةً للتبعية في مستوياتها المختلفة: مستوى التبعية في العلاقة بين الغرب والعالم الثالث برمته، ولكنْ ثمة مستوًى آخرُ من التبعية المقنّعة إن صحّ التعبير، أي تبعية الدول الصناعية الجديدة نظرًا لحاجاتها لاستكمال برنامج التطوير والتنمية. إنّه نظامٌ سياسيٌّ واقتصاديٌّ دُوليٌّ يكرّس العلاقة غير المتكافئة بين الغرب والشرق تصل إلى حدّ استعمال الثقافة في سياق القوة الناعمة للإخضاع. هنا يصبح الغرب إشكاليةً نظرا لتمأسُس العلاقة معه على قواعد التحكم والإلغاء والتبعية. هنا نعني بالغرب إمكانيةً، وصورةً، ونموذجًا للتقدم، لكنه نموذجٌ غيرُ محايِدٍ. أي إنّ كل شيءٍ في هذه العلاقة المتوتّرة يجري بحسابات الابتزاز الحضاري، أي ليس من حقك أن تنمو أو تستعير مقوِّمات التقدُّم من دون شروط التبعية. يحدث هذا في التقنية والثقافة. هذا الغرب صدمنا ولا زال يصدمنا، يصدم حتى نخبنا التي لا تملك التفكير بالغرب ضدّ الغرب. نحن أمام غربٍ إشكاليٍّ لم يتخلَّ عن نزعته الأصولية في موضوع العلاقة مع الآخر. وهذه العلاقة غير المتكافئة ليست خصوصيةً جغرافيةً بل هي مشكلةٌ تتعلق بمنطق القوّة. جزءٌ منها يتعلّق بمنطق الإمبراطورية. ومنطق الإمبراطورية حيثما كان فهو يلغي الآخر. إنّ مشكلة الشرق مع الغرب لا سيما شرقنا الأوسط هي، إذًا، مشكلة الموقف المتوتّر الذي تُفرزه علاقة الإمبراطورية بالأطراف. بمعنًى آخر: هي معضلة الطغيان والقوة والاستكبار سمِّها ما شئت.

* أين يقع الغرب، ما هي حدوده الجغرافية والثقافية؟

ـ هنا تبدو الجغرافيا متحوّلةً، فالغرب يمتدّ حيث تمتدّ التبعية. اليوم هناك جغرافياتٌ داخل الجغرافيا الغربية نفسها. هناك تمدداتٌ جيوستراتيجيةٌ داخل الغرب وخارجه. الهيمنة الأمريكية مثلًا على أوروبا اقتصاديًّا وثقافيًّا. حديثٌ مستمرٌّ في أوروبا عن خطر الأمركة، أمركة الثقافة والسياسة والقانون والثقافة. هناك تنافسٌ كبيرٌ بين القوى الاستعمارية التقليدية. الغرب مشتركٌ هنا لكن السياسة الفرنسية لها أجنداتٌ قوميةٌ خاصّة كما هو شأن بريطانيا أو ألمانيا. صحيحٌ أن الغرب قد يمتد حيث يمتدّ الاستعمار، وهنا نتحدث عن امتداد الغرب في رينيون الأفريقية أو غواديلوب الأمريكولاتينية، لكنه أيضًا امتدادٌ للنفوذ الفرنسي لا البريطاني أو الهولاندي أو الإسباني. في الغرب جغرافيا واحدةٌ لكن لو تحدثنا بلغة ماكندر هناك جغرافياتٌ سياسيةٌ متعددةٌ. كذلك داخل الغرب نفسه هناك اتجاهاتٌ متعددةٌ بعضها مناهضٌ للغرب وناقدٌ لنزعته الأمبراطورية وآخرُ ناقدٌ للحداثة نفسها طلبًا لأفقٍ جديدٍ لغربٍ بات يشعر على الأقل في نظر عديدٍ من نخبه بأنه بلغ الباب المسدود وبأنّ الحداثة فقدت عناصر البقاء وهي تسلّم المفاتيح لمستوياتٍ جديدةٍ من الحداثة أو ما بعد الحداثة لها منظورٌ مختلفٌ للعقل والإنسان والآخر والبيئة والتاريخ والمادة وغيرها. نحن أمام غربٍ يتفكّك ضمن إطارٍ لا زالت القوة السياسية والعسكرية والاقتصادية تضمن استمراريته كنسقٍ، ولكنه يجري بوتيرةٍ سريعةٍ أكثر من الشرق في اتجاه التّفكّك. هذا التفكّك هو فرصةٌ تاريخيةٌ سيستعيد فيها الغرب سلطة السؤال المستبعد عن جملة ما يقع في إطار اللاّمفكّر فيه.

* من أين يبدأ الغرب: ممّا قبل اليونان، من الفترة اليونانية والرومانية، من القرون الوسطى، من عصر الأنوار أو منٍ جميعها؟

ـ الغرب أو أوروبا الوسيطة هي ميلادٌ آخرُ عن أوروبا ما قبل الوسيطة، وكذلك أوروبا الأنوار مختلفةٌ تمامًا ولكنها مدينةٌ للعصر الوسيط. هذه امتداداتٌ تاريخيةٌ كلها حاضرةٌ في البنية العميقة لغربٍ وجب ألّا ننظر إليه من زاوية القطيعة التاريخية فحسب، بل إنه البنية العميقة الممتدة خلال كل هذه الحقب. قد تظهر تلك التجليات في الموقف السياسي الإمبراطوري باعتبار أنّ مجال السياسة والحروب يفضح البنيات العميقة أكثر مما قد يظهر في المشهد الفكري الذي هو أيضًا مدينٌ ولو في مستوى الحنين إلى صور من الماضي الغربي. إن الغرب هو بالفعل حصيلة هذا المزيج التاريخي. القطيعة التاريخية كالقطيعة الإبستيمولوجية، أو ربما أكثر منها، لا تعني نهاية الماضي ومحوه وإنما تعني إعادة توزيع مقومات النسق ووظيفته. فالغرب غربٌ يستمد فرادته من كل هذا التاريخ. أليس هيغل قد منح للجغرافيا قيمةً تصنيفيةً. أليس هناك حديثٌ عن جغرفة العقل والفكر والثقافة؟ هناك من يرى الرأسمالية خاصيةً أوربيةً. هناك من يرى الديمقراطية ثقافةً غربيةً. هناك، اليوم، دعواتٌ لإعادة التموضع داخل الجغرافيا التقليدية للغرب ومحاربة الهجرة باعتبارها خطرًا على الثقافة الغربية، هذا محتوى فكرة صدام الحضارات لهنتنغتون.

* كيف يجب أن تكون نظرتنا الاستراتيجية تجاه الغرب؟

ـ هي كيف ينظر الغرب لنا؟ وأقصد الغرب السياسي الذي يرهن هذه العلاقة لنوعٍ من المؤسَّسات الدقيقة وغير المفتوحة، والقائمة على بنياتٍ تواصليةٍ عموديةٍ لا يحضر فيها الإنصات لنبض وحاجيات البلاد العربية ومعظم بلاد العالم الثالث، استراتيجية العالم الثالث التي أخفقت في المجالات كلها بما فيها الثقافية. فاليونسكو لا زالت، كما يرى الكثير من الخبراء من العالم الثالث، لا زالت تدير الثقافة في العالم على أساس الهيمنة للقيم المسيحية واليهودية فقط. كما نجد ذلك مثلًا عند أحد موظّفيها القدامى عالم المستقبليات المغربي الدكتور مهدي المنجرة وغيره. هم يطالبوننا بألّا ننتقي، لأنّ الغرب يقدّم نفسه كحداثة مجردةٍ، ولكنه في الحقيقة ليس حداثةً مجردةً، إنما هو بنيةٌ تاريخيةٌ متجدّدةٌ. حتى الآن لا أحد يجرأ على أنْ يميّز بين ما هو غربٌ وما هو حداثةٌ، أي بين الصيرورة التاريخية للتّقدم وبين نسق القيم التي اختارها الغرب قبل الحداثة وبعدها ولم يتخلَّ عنه. الغرب هو ثقافةٌ وأحاسيسُ وموروثٌ وتقاليدُ. الحداثة هي هذا الحدث نفسه الذي جرى في بيئةٍ تلك هي بنيتها. ومن الطبيعي أن يشعر العالم الثالث والشرق بخطر هذا الخلط لأنّه يبحث عن إنجاز حداثته داخل بنيته، وهو أمرٌ شديدُ التعقيد. لقد أخضع الغربُ الآخرَ دائمًا لرؤيته الاستراتيجية. كلّ شيء يجري بحساباتٍ سياسيةٍ، لأنّ الثورة السياسية وما رافقها من هيمنةٍ على الثقافة نفسها هو أهم حدثٍ في الغرب الحديث. حتى الحرّية هي سلوك له تجليّاته ولكنها ليست مستقلةً عن السياسة. لا شيء يشذّ في الغرب عن السياسة، ولكن السلطة في الغرب تجري وفق أنساقٍ مقنعةٍ للمستهلك إن صحّ التعبير.

* هل يُعدُّ تأسيس علم الاستغراب ضرورةً لا بدّ منها أم إنّه ترفٌ فكريٌّ؟

ـ قد يكون ترفًا فكريًّا بقدر ما نعتبر الاستشراق ترفًا فكريًّا. ولكن الحقيقة هي أنه لا بدّ من أن ننجز فهمنا للغرب كما حاول الغربُ أن ينجز فهمه لنا. الفرق هنا أنّنا نحاول أن نفهمه لكي نتحرّر قدر الإمكان من هيمنته الإمبريالية. لكنّ الغربَ حاول، عبر الاستشراق، أنْ يفهمنا لكي يُخضعنا أكثرَ. علم الاستشراق، في بداياته الاستعمارية، هو علمٌ إمبرياليٌّ، بينما وجب أن يكون علم الاستغراب علمًا تحرُّريًّا. لكن هذا يعني أنه لا بدّ من أن نؤسس لعلمٍ يتفادى أخطاء الاستشراق.. وقد يمرّ الاستغراب من المشوار نفسه لأن فهم الغرب عرف في بيئتنا مستوياتٍ من المعرفة ليست كلّها في مستوى فهم الغرب. كما ظهرت من داخل الاستشراق محاولاتٌ لنقد نزعته التصنيفية وانتقائيته، كذلك يحدث هذا مع الاستغراب وينبغي أن يحدث هذا وصولًا إلى اللحظة التي يستقيم فيها هذا العلم على أرضيةٍ معرفيةٍ صلبةٍ على الأقل يتمّ فيها التمييز بين الموقف الإيديولوجي والموقف المعرفي. نحتاج إلى علم استغرابٍ يكشف لنا عن المضمون الحقيقي للغرب الثقافي أو السياسي أو الاستراتيجي يمكّننا من التمييز بين أبعاده ومستوياته المختلفة. إنما يبدو الفارق هنا في العلاقة غير المتكافئة. فالغرب المتفوق يرى نفسه أهلًا لدراسة مجتمعاتٍ تبدو له متخلفةً، لكن هل سنكون مقنعين إذا نهضنا بمعرفةٍ عن الغرب من داخل بيئةٍ موسومةٍ بالتخلف الثقافي والاقتصادي والسياسي؟ هنا تكمن المغالطة، فالغرب لم يعد ظاهرةً مغلقةً. توجد، في ما وراء البحار، خبراتٌ قادرةٌ على تفكيك الغرب وبناءً استراتيجيًّا للتقدم خارج عوائق الغرب. المشكلة هي أنّ هناك فرقٌ بين الغرب المتقدم والغرب في علاقته مع تخلفنا، فهو يسعى للإعاقة لأنّ هذه الإعاقة هي التي تكرس التبعية والتفوق. أن يكون الغرب متقدمًا لا يعني أنه يريدنا أن نكون متقدمين وإلاّ أين سيجد الأسواق، أي سيجد ساحات افتعال الحروب لبيع الأسلحة وخلق الهشاشة لمزيدٍ من الارتباط بمؤسسة الديون والاستغلال والمستحقات. التنمية اليوم فرصةٌ ومناورةٌ وليست شيئًا معطًى. الإصرار على التقدّم خارج شروط التبعية يُعتبر، في الدوائر الغربية، ضربًا من المروق السياسي. التنمية والتقدّم اليوم لهما صلة بالمؤسسات والعلائق ومصير الثروة وقنوات الرساميل والسوق وليسا موقفًا نظريًّا.

* ما هي السبل لتأسيس علم الاستغراب، وما هي المقدِّمات والآليات؟

ـ لكي نكوّن معرفةً بالغرب وجب أن نتفادى، في نظري، كلّ الأخطاء المنهجية والإيديولوجية التي وقع فيها الاستشراق. بهذا المعنى أريد أن أؤكِّد على أنّ الاستشراق يمكن أن يشكّل قاعدةً صلبةً في الخبرة المنهجية للاستغراب. يكمن الإشكال في النقد الإيديولوجي للغرب وهو يشبه النقد الإيديولوجي للشرق، أي حينما تصبح الغايات والصور النمطية تحجب الآفاق المنهجية الحيوية لتكوين هذه المعرفة. نتحدث اليوم عن صورة شرقنا في مرآة الغرب، فهل يا ترى سنتفادى أن نكرر الأخطاء ذات ونحن نقرأ الغرب في مرآتنا؟ نعم لا بدّ في نهاية المطاف من رؤيةٍ في المرآة، غير أنني أقصد النظرة المسبقة والنمطية التي تحجب عنّا الوجوه والهوامش المستبعدة داخل الغرب نفسه. وأعتقد أنّ التحيّز الإيديولوجي لا إشكال فيه في ذاته، بل يكمن الإشكال في سياق هذا التحيّز وميقاته. أيْ إن التحيّز الإيديولوجي حينما يصبح موجّهًا في عملية الاستكشاف والتحليل تكون مشكلته حينئذ في كونه احتلّ وظيفة المعرفة. فالتحيز الإيديولوجي حينما يأتي في مرتبةٍ ثانيةٍ ولا يفكّ أواصره بالتغذية المعرفية يكون تحيّزًا طبيعيًّا. وتبدو معضلة المنهج هي ذاتها سواءً أتعلق الأمر بالاستشراق أو بالاستغراب، لأنّ الإشكال هنا له علاقةٌ بالموقف والرؤية والمعرفة بالآخر. ففي الدرس الاستشراقي كنّا أمام جدلٍ حادٍّ حول المناهج المعتمدة، لقد اتضح أنّ هناك انتقادًا واسعًا لعملية الاختزال التي اعتمد فيها الباحثون مناهجَ محدودةً كالفيلولوجيا أو التاريخانية كما لاحظ ذلك أركون مثلًا. بل هناك من حاول استئناف تجربةٍ معرفيةٍ بالشّرق تتجاوز النزعات التاريخانية، بالخوض من داخله من خلال موقفٍ فينومينولوجيٍّ أعتقد أنّه قد خفف من غلواء النزعات الأخرى التي كرّست فهمًا تصنيفيًّا أنتج الجهل بالشرق. وتفاديًا لتكرار المعضلة ذاتها، أعتقد أنه لا بدّ من مقاربةٍ فينومينولوجيةٍ للغرب أيضًا، لأنّ هذه الرؤية تؤجّل، على الأقل، الحكم قليلًا إلى حين القبض على ماهية الأشياء. الغرب حدثٌ، بل هو حدثٌ كبيرٌ ومعقّدٌ، يتداخل فيه ما هو تاريخيٌّ وما هو بنيويٌّ، وهذا يفرض مقاربةً استراتيجيةً للغرب، أيْ نظرةً شموليةً غيرَ تجزيئيةٍ.

أمّا عن المقدّمات والآليات فهذا يتطلّب استيعابًا. سأعود لفكرتي عن الإستيعابية التي قد تجدها في كتابي «العرب والغرب» الصادر في نهاية التسعينيات. أقصد بالإستيعابية حينئذ أن نفهم الغرب بعيدًا عن الانتقاء، تكوين معرفةٍ شاملةٍ. هذا يتطلّب إيجادَ ما يشبه قاعدة بياناتٍ ورصدًا لكل التيارات الكبرى في شتّى الحقول المعرفية. فأنت الآن تتحدّث عن ستة قرونٍ من تاريخ الأفكار، بل أرى أنّ القرن الوسيط الأوربي هو الرحم الأساسي الذي وجب أن نرصد من خلاله ولادة الغرب الحديث. كان ذلك رأيي قبل سنواتٍ، لكنني لا زلت أطوّر الرؤية الاستيعابية تلك حيث أنظر إليها اليوم بوضوحٍ أكبر. يتعلق الأمر هنا بحركة البندول الذي يقطع مجال تاريخ الأفكار ويرسم حدود التردّدات الأساسية. إن كل عمليةٍ ارتكازيةٍ في حركة البندول تقتضي انطلاقًا من أقصى اليمين إلى أقصى الشمال ثم يبدأ البندول بقطع كل تفاصيل مجال التردد يمينًا ويسارًا إلى أن يتواسط. هنا الوسطية لا تعني تموضعًا بين أقصيًيْن بل تعني استيعاب كلا المجالين التردديين. فالتواسط هو حالة احتمارٍ معرفيٍّ واستيعابٍ تقتضي خفر سواحل المعرفة. هنا أعتقد أنّ تاريخ الأفكار قضيةٌ استراتيجيةٌ في تحقق الاستيعابية. هذا في حدّ ذاته يتطلب منّا إعداد هذا «التينك تانك» المعرفي مع وجود الاقتصاد في عملية التصنيف بحيث تراعي المحطات الاستراتيجية وترصد آباء المعرفة المؤسسين في الدرجة الأولى. أعني هنا بالغرب كل هذه الكتلة بأطروحاتها ونقيضها. فالعملية النقدية تتوقف على هذه الاستيعابية.

* ما هو تقييمكم للتيارات أو المراكز أو الأشخاص الناقدة للغرب في العالم الإسلامي والعربي؟

ـ حتى الآن نستطيع القول بأنّنا في البداية ولم نقطع المشوار الكامل في تكوين معرفةٍ شاملةٍ بالغرب. نعم نتحدّث عن زوايا من الفهم تتعلق بقضايا معيّنةٍ، وفي الغالب مجزوءةٍ. نعم نستطيع أن ننتقد السلوك الغربي حينما يصبح عدوانًا أو همجيةً في علاقاته مع الآخر. كل هذا حصل فيه تراكمٌ مهمٌّ، وهو أيضًا يتطلّب جهدًا لإعادة تقييمه وتقويمه. وهذه مهمّة علم الاستغراب الإضافية وهي إعادة نقد نقد الغرب على أسسٍ جديدةٍ ومتينةٍ. وأعتقد أنّه حتى الآن هناك محاولاتٌ ذاتُ طابعٍ فرديٍّ ومبادراتٌ شخصيةٌ تتعلّق بمفكِّرين حاولوا تقديم مشاريعَ وُفّقوا في جوانبَ وأخفقوا في أخرى. اكتسى هذا النقد طابعًا صراعيًّا. وفي الصّراع نكوّن رؤيةً مسرفةً إمّا في اتجاه اليسار أو في اتجاه اليمين: أي إمّا أن تكون نظرتنا للغرب عدميةً، أو نَخضع له وللقيم التي يفرضها كونيًّا. أمّا بالنسبة إلى التّيارات، فهذا في الواقع غير موجودٍ بصورةٍ واقعيةٍ. هناك تياراتٌ لا تصدر عن تجربةٍ جماعيةٍ كما هو جارٍ في الغرب نفسه، بل هناك عملية اتّباعٍ وتحيينٍ لأفكارٍ قدّمها شخصٌ، وعجز أتباعه عن أن يكونوا حوله تيّارًا يستطيع أن يجدد ويثري تلك الأفكار. لدينا الكثير من المشاريع التي ألفت في مجال نقد الغرب بعضها يعلن تحيّزه المسبق لكن يستند إلى أدواتٍ تحليليةٍ علميةٍ وبعضها ذو طابعٍ بروباغانديٍّ. سنجد أمثلةً كثيرةً على امتداد العالم العربي والإسلامي من الهند إلى إيران إلى تركيا إلى البلاد العربية. كلها قاربت الغرب من منظورٍ معيَّنٍ، وسيكون من الإسراف أن نرمي بها إلى البحر، بل المطلوب إنجاز قراءةٍ داخل هذه النصوص قراءةً استيعابيةً. وحتى لا ننسى قضية المراكز المعنية بتقديم المعرفة، نقول أنّ دورها لا زال، إلى حد الآن، ضعيفا، وبعض المراكز تقدم الغرب من زاويةٍ خاصّةٍ. كان من الضروري أن تسبق كل هذه المحاولات ملحمةٌ للترجمة. إنّ الأمم التي تسعى لتجاوز التّأخر تنجز ثورةً في الترجمة بناءً على تصورٍ استراتيجيٍّ للترجمة. حتى الآن هناك كلاسيكياتٌ غربيةٌ غيرُ مترجمةٍ إلى العربية، هذا فضلًا عن فوضى الترجمة المبنية على الارتجال. مراكزنا حتى الآن لا تملك خريطةَ طريقٍ في مجال ما ينبغي ترجمته وكيف يجب ترجمته.

* ما هو تقييمكم للتيارات أو المراكز أو الأشخاص الناقدة للغرب في الغرب؟

ـ نقد الغرب الذي تنهض به اتجاهاتٌ من داخل الغرب نفسه هو أكثر قوةً وعمقًا من نقد الغرب الصادر من خارج الغرب. نعم يمكنني القول أنّه توجد، في هذا الهامش، إمكانياتٌ هائلةٌ تصلح لنقد الغرب ولكنها قلّما تُستثمر في برنامجٍ معرفيٍّ دقيقٍ. فنقد الغرب الذي أفرز تيار ما بعد الحداثة مثلًا هو نقدٌ استراتيجيٌّ يستهدف أسس الحداثة ومؤسساتها. وهنا أريد التمييز بين نقد الغرب ونقد الحداثة. هناك ومن داخل الحداثة من ينتقد الغرب لا سيما في سلوكه السياسي والاقتصادي والثقافي تجاه الآخر، مثل ما قدمه نيتشه، فوكو، دريدا، ليفي شتراوس وما قدمته مدرسة فرانكفورت، ماركوز، آدرنو وصولًا إلى هابرماس، وما قدمه نُقّاد الغرب الرأسمالي والغرب الإمبريالي. فلا زال الغرب محلّ نقدٍ من داخل الغرب. ويتميز النقد الغربي الداخلي بمتانة الأدوات المعرفية والميتودولوجيا لنقد الغرب. كما أنّ المراكز هي مدارسُ متينةٌ. فمدرسة فرانكفورت هي مدرسةٌ واتجاهٌ بكل ما تعني الكلمة من معنًى. لم تنتج المنطقة العربية مراكزَ من هذا الحجم وبالجدية والاستمرارية والحسّ الاستراتيجي النقدي لهذه المدرسة. لقد حدثت انقلاباتٌ برادايميةٌ في علومٍ كثيرةٍ كانت غربيةً كلاسيكيةً سرعان ما تحولت إلى علومٍ ثوريةٍ. حصل هذا في السوسيولوجيا بكل فروعها. الغرب هو أطروحةٌ ونقيضُ أطروحةٍ، لكن المشكلة هي أنه يقدَّم لنا حتى الآن على أنه أطروحةٌ فقط.

* هل الغرب كتلةٌ واحدةٌ سياسيًّا وثقافيًّا واجتماعيًّا بحيث إما أن نأخذه ككلٍّ أو نتركه ككلٍّ أو يمكن تفكيكه وأخذ الجيد وترك السّيء؟

ـ كما قلت آنفًا، إنّ الغرب أطروحةٌ ونقيضُها، فهو متعددٌ، ومستوياتٌ في الخطاب مختلفةٌ. ربما يتظاهر بالوحدة السياسية، بالتحالفات التي تنطوي على تناقضاتٍ مهولةٍ، تحالفاتٍ اقتصاديةٍ وعسكريةٍ تهوّن من عمق التناقض في مجال الرؤية نفسها. العادات والتقاليد مختلفةٌ وإن كانت هناك وحدةٌ عامةٌ تؤطّر تجربة المجتمعات الغربية. هناك تفاصيلُ كثيرةٌ. ولأنّنا نتحدّث عن علم الاستغراب فإننا نؤكد على أننا لا زلنا في البداية، نحاول أن نفهم الغرب من خلال ما قدمه عن نفسه، لكن هناك مرحلةٌ حاسمةٌ يجب أن تنهض بها الدراسات الاستغرابية، وأرى أنها دعوى أُطلقها من هذا المنبر وأعتقد أنّ لها أكفّاء إن ارادوا وهي الخروج من حالة الانكماش، والجبن المعرفي، والذهاب إلى حيث هم والقيام بدراساتٍ سوسيولوجيةٍ وأنثربولوجيةٍ بما أنّ هذه الأخيرة وسّعت من مجال دراستها لتشمل عادات المجتمعات التي اعتبرت خارج اختصاص الأنثربولوجيا. يجب على علم الاستغراب أن يخوض في أبحاثٍ ميدانيةٍ أيضًا، تهتمّ بدراسة البنيات الاجتماعية الغربية وتناقضاتها وأنساقها وأساطيرها الجديدة، تمامًا كما فعل الغرب في نظاق الأنثربولوجيا مع دولٍ أخرى، وتمامًا كما فعل في محاولاته الاستشراقية. هناك فقط سيظهر لنا كم هو الغرب مختلفٌ ومتناقضٌ. سندرك نقاط قوته ونقاط ضعفه. سندرك ميوله العقلية والنفسية. سندرس عاداته وتقاليده. حينئذ سنستطيع أن ندرك ما هو له وما هو للكون، أي حدود الكوني وحدود الخصوصي في هذه التجربة.

* ما هو جوهر الغرب.. لا سيما لجهة الأسس والمباني التي اعتمدها الغرب في عملية التقدم في فتراتٍ مختلفةٍ؟

ـ لديّ تصوُّرٌ مختلفٌ عن مفهوم التاريخ والبنية، ومنذ سنواتٍ أعلنت المصالحة بينهما. وذلك هو ما يجعلنا نتحدّث عن البنيات باعتبارها كاشفةً عن التطوّر نفسه. إنني لا أعتقد أنّ للغرب جوهرًا، بل أراه حصيلة تحوّلاتٍ وترسّباتٍ تاريخيةٍ شكّلت بنياتٍ يمكن عبر تفكيكها الوصول إلى الهوية المركّبة للغرب. لقد اعتمد الغرب على كل ما حاولت أن تقوم به أممٌ وحضاراتٌ سابقةٌ، لكن الغرب استطاع أن يحقق تقدّمه من خلال ثوراتٍ اجتماعيةٍ انتصرت للعلم والحرية والملكية الخاصة. كانوا مجتمعاتٍ فيوداليةً تعيش أقوى أشكال البؤس. ثم في مرحلةٍ ثانيةٍ ساعدتهم القوة واكتشاف المدفعية لتطويق منجزاتهم والتحكم بما وراء البحار، وكان تقدم علم الجغرافيا أمرًا أساسيًّا في الهيمنة الغربية على الأرض. ظهر الفارق الحضاري كبيرًا، لأنّ الغرب احتكر ما عبرت عنه أسطورة بروميتيوس اليونانية بالنار المقدسة. لقد احتكر سرّ التقنية ولا زال يحرس هذه الفوارق بين الشمال والجنوب اقتصاديًّا وعسكريًّا وسياسيًّا. لقد نتج عن ذلك أن العالم دخل في ظاهرة التنمية المعاقة وفرض وضعية التبعية التي تعني أنك ستكون حديثًا ولكن على هامش مركز الغرب، كأسواقٍ لتصريف السلع ومرافئَ لتصريف النفايات. بتعبيرٍ آخرَ، حينما يقول هنتنعتون مثلا أنه لا يمكننا أن نكون مثل الغرب فلأنه يرتكز على فكرة جوهرانية الهوية الغربية بينما المسألة تاريخية تتعلق باستراتيجيا حماية الفارق بين الغرب وغيره، وهو فارقٌ وظيفيٌّ تستعمله الإمبريالية في سياق ربط الجنوب بالشمال بعقد التبعية، ومقتضاه ما أسميه بفعل التخليف المستدام (sous ـ développement durable). اليوم، كل الأمم تملك إمكانيات التقدم وتتوفر على مواردَ بشريةٍ تمكّنها من التطوّر غير أنّ مؤسسة الغرب السياسية والاقتصادية والعسكرية ستعتبر ذلك تهديدًا لأمنها القومي، ومن هنا تبدأ الحروب الممنهجة التي تستهدف ثني هذه الأمم الطموحة عن إرادة التقدم وبرامجه لتعود إلى البرنامج التقليدي الممنوح برسم التبعية، أي أن تكون دُولًا تعيش على المساعدات الاقتصادية والتقنية والعلمية والثقافية الغربية. إنه نمطٌ من الفيودالية الحضارية حيث الجميع يساهم في بقاء الحضارة الغربية، ولكن يساهمون فيها كعبيدٍ لا كشركاء.

* هل يمكن الدخول في سجالٍ أو حوارٍ متكافئٍ مع الغرب؟ إذا كان الجواب «نعم» فما هي الآليات والمقدِّمات؟ وإذا كان «لا» فما هو السبب؟

ـ في الوضعية الحالية لا يبدو أنّ السجال ولا حتى الحوار سيكون متكافئًا مع الغرب، وفي مثل هذه الحالة وجب العمل لجعله حوارًا قويًّا وذلك عبر امتلاك رؤيةٍ ومشروعٍ عن الذّات ووعيٍ بالآخر يرقى إلى الاستيعاب. هناك أكثر من مستوٍى يجعل هذا الحوار غيرَ متكافئٍ، حيث الموضوع يتعلق بمواقع القوّة وتحكّم الجيوستراتيجيا وحركة الرأسمال. في هذه المستويات سنجد الجواب أوضحَ لأنّ المعرفة لا تنفصل عن هذه الحقيقة. ومثل هذا الحوار لا يبدو متكافئًا حتى في مستوى الحوار الغربي ـ الغربي نتيجة التفاوت في القوة والرهانات والنفوذ. كيف سيكون الحوار متكافئًا بين إسبانيا وأمريكا، وبين بريطانيا وإيطاليا من وجهة نظرٍ استراتيجيةٍ. أمام العالم العربي والإسلامي الكثير ليفعله كشرطٍ لتحقيق مستوًى من مستويات الحوار المتكافئ وهو تكوين فهمٍ استراتيجيٍّ وامتلاك استراتيجيا للفهم. ففي ظلّ تفكّك العالم العربي والإسلامي، لا يمنحه موقعه في مجمل المؤشّرات العالمية اليوم إمكانية الحوار المتكافئ. يجب التذكير، دائمًا، بأنّ العالم يخضع لنظامٍ إمبرياليٍّ بأساليبَ دقيقةٍ، ولا يمكن في ظلّ الإمبريالية الحديث عن حوارٍ متكافئٍ، لكن من الممكن الحديث عن مقاومةٍ معرفيةٍ أيضًا تنطلق من حسابات واستحقاقات التنمية الذاتية والحق في النمو والتقدُّم. يبقى أن في جملة مواقع المقاومة لمشاريع الهيمنة تحتل المقاومة المعرفية الموقع الأساسي.

* هل توجد نقاطٌ مشترَكةٌ في ما بين العالم الإسلامي والعربي وبين الغرب؟

ـ لقد كان الاهتمام طيلة السنوات السابقة على بيان الفروق بين العالم العربي والإسلامي وبين الغرب، وكان الحديث كلما أوغل في تشخيص تلك الفروق كلما ازدادت حدّة الاختلاف، غير أنّ وجود مشتركاتٍ مع الغرب أيضًا يدخل في استراتيجيا الفهم. فلا ننسَ أنّ القاعدة الأساسية لهذا المشتركات، والتي يجب أن تشكل قاعدةً لاستراتيجيا الفهم هي الدائرة الإنسانية. ففي نهاية المطاف لا بدّ أن تحضر هذه القاعدة. ثم إذا كانت الثقافة تختلف في بعض مستوياتها، ففعل الثقافة ذاتها وحاجة الإنسان إليها وطريقة استجابته للتحدي تعزز من وحدة المشترك الإنساني. فالثقافة هي الطبيعة الثانية للإنسان وهي في نشأتها تعزز ذاكرة المشترك، ولكن أيضًا مصير البشرية مرتبطٌ بعضه ببعض، الميل إلى العدالة، أهمية القيم على اختلاف توزيعها، العقل، التنمية، النزعة الكونية. نحن أمام مشتركٍ داخل التنوع. بل إنّنا نتنازع أكثر حول المشترك لأنّ الخلاف حول المختلف هو أقلُّ حدّةً. نتصارع على ما نحن مشتركين فيها. يحاول الغرب عبر وسائل التحكم والهيمنة احتكار المشترك. الغرب كان دائمًا ينظر إلى الشرق كخطرٍ لأنه كان يعتبر نفسه معرَّضًا للغزو الآسيوي عبر التاريخ، كما تُعزز ذلك الجغرافيا السياسية ووجهة نظر «ماكندر» أيضًا، وأن أوروبا هي، في نهاية المطاف، امتدادٌ لآسيا. إنّ أوروبا قامت بالمستحيل لكي تختلف عن الشّرق، لكي تؤسِّس لهويتها. إنّ الحديث عن الكوني والخاص في سجالنا الدائم مع الغرب تجاوز إحدى أهمّ الحقائق التي شكّل غيابها عائقًا للفهم، أعني مشكلة الخصوصية المحلية والغرب الكوني. إنّها مقارنةٌ تتطلّب الكثير من التّأمّل. سأقول شيئًا يتعلق بوجهة نظري في جدل الكونية التي يحيط الغرب بها نفسه والخصوصية التي يختفي خلفها مجالنا العربي والإسلامي. لقد اعتبرت دائماً أنّ الخصوصية هي تجسّد الكوني نفسه في المجال. التشخّص يقتضي التخصّص، لأنّه لا يوجد في العالم سوى الجزئي، ولكي يتحقّق الكلي في الواقع، في الأعيان وجب أن يتشخّص، ولا شكّ أن الجزئية والخصوصية شأن للمتشخّص. وهنا تحدثت عن استحالة تحقق الكوني الذي هو عنوانٌ للكلي الذي لا يوجد إلاّ في الذهن ويتم تعقّله كجزءٍ من الكليات. أعتقد أنّ هذه الرؤية أنقذت الكثير من الأفكار التي تشبتت بالخصوصية دون أن تجد لها تفسيرًا موضوعيًّا، أي إنّ رفض الكونية مثل تحقّقها في الواقع الخارجي مسألةٌ ليست اختياريةً. هذه هي فكرتي التي تحدثت عنها ولا زلت أطورها واقتبسها آخرون ليس آخرهم طه عبد الرحمن. لكن من الإضافات التي سأضيفها هنا هي أنّ الغرب كان أوّل من رام تأسيس هويته الخاصة بعد أن رسم حدودًا ضدّ أصوله الآسيوية. لقد مارس خصوصيته واصطنع لغاتٍ متولدةً ومشتقةً ولا زال ينشئ من داخل هويته العامة هوياتٍ صغرى: الهوية الفرنسية والهوية الألمانية والهوية الأنغلوساكسونية والهوية الإسبانية. إنه في زمن التفوق المدني يحاول أن يستعمل الكونية كاستراتيجيا إمبرياليةٍ ليس إلاّ. ساعده على ذلك الاستعمار وسياسات الضّم الثقافي التي كانت محاولةً لإبادة الهويات وعدم الاعتراف بها. وقد حاول هنتنغتون في صدام الحضارات أن يعزّز هذه الهوية الخاصة مذكِّرا الغرب بأنه هويةٌ خاصةٌ لا حضارةٌ كونيةٌ. ولا زالت أوروبا حين تستنفذ أغراضها تعود إلى الشّرق. لا يستطيع الغرب أن يستمر من دون علاقةٍ مع الشرق، لكنها علاقةٌ ظلت متوترةً على الرغم من حاجة الغرب للشرق اليوم وغدًا. اليوم حتى على صعيد الجغرافيا الاستراتيجية نتحدث عن التوجه نحو آسيا والمجال الأوراسي. الجغرافيا تتحدث عن كثيرٍ من المشترك. أوروبا مدينةٌ للشرق في كل شيءٍ، لأنّه هو من اكتشفها، هو من أطلق عليها إسم أوروبا، هو من صدّر لها الأديان والمعابد، وهو من يعزّز وجودها واستمرارها حتى كقوةٍ من خلال الطاقة. هو من يشكّل الآخر التنافسي الذي من خلاله يقوم الغرب ويستمر. يحتاج الغرب للشرق حتى كهامشٍ لا يستطيع المركز أن يستمر من دونه. حين تُغلق الأسواق تُغلق المصانع.

* أي غرب ننتقده: الشعب، الحكومة، النظام والمؤسّسة؟

ـ نقد الغرب كنقد كل ظاهرةٍ هو متعددٌ. فالنقد المعرفي يجب أن يَطال كل شيءٍ كما يطال كل شيءٍ عندنا. إذا كان النقد هو وسيلةً لتكوين معرفةٍ وتشخيص الدّاء فهذه مهمةٌ عامةٌ تطال كل شيءٍ. غير أنّ النقد إن كنا نقصد منه مواجهة الغرب فحتمًا تظل الشعوب تابعةً لنظام المعرفة والسياسة، وهي في هذا الإطار ليست موضوعًا للمواجهة لأنّ ظاهرة الهيمنة لا تقتصر على علاقة الغرب بغيره بل حتى الشعوب الغربية واقعةٌ في ظلّ هيمنة هذا النمط، فالإمبريالية تنطلق من دائرة الهيمنة الداخلية قبل الخارجية. والرأسمال يلعب دورًا في الأنماط الداخلية بشكلٍ أكبرَ بحيث لا مجال للفكاك منه. فالثورة على الهيمنة هي أيضًا من آمال الشعوب الغربية. أما الحكومات فهي تابعةٌ للنسق ولا يمكن أن تفعل أكثر مما ينبغي أن تفعله. سيكون دائمًا من الخطأ أن نحمّل حكومة فلان أو فلان كل مسؤولية السياسة التقليدية للغرب تجاه الآخر. الحكومة هي في النهاية تنفيذٌ لبرنامجٍ سياسيٍّ يتعلق بالتدبير الحكومي لا بتغيير النسق التقليدي للغرب. يحصل أن يكون لهذا الرئيس أو ذاك أثرٌ على صعيد السياسة الخارجية أقلُّ حدّةً، ولكن لا يمكنه تجاوز النّسق. وعليه فالنقد الاستراتيجي يجب أنْ يتّجه ناحية النظام والمؤسسة التاريخية الغربية. يجب نقد النظام الإمبريالي، النظام المعرفي، نظام السلطة والمعرفة والبنيات. هذا هو النقد الاستراتيجي للغرب.

* ما هي الكتب التي تقترحون مطالعتها للباحث الإسلامي ـ عربية أو أجنبية ـ  ليقف على جوهر الغرب بما فيه من محاسنَ وسلبياتٍ؟

 ـ أعتقد أنّ ما نحتاجه هو مقارباتٌ منهجيةٌ لفهم الغرب. ولتحقيق ذلك أتحدث عن استيعاب التراكم المتنوع في هذا المجال والذي يتعلق بفهم الغرب في كليته: معرفيًّا وسياسيًّا واقتصاديًّا وثقافيًّا وأدبيًّا وفنّيًّا. فهناك يكمن الكثير من التفاصيل التي تضعنا أمام حقيقة الغرب. كتاب «إدوارد سعيد»، «الاستشراق»، هو أيضًا يمكن تصنيفه ككتابٍ في الاستغراب. على الأقل الغرب في نظرته للشرق. وحتى يقوم بهذا الإنجاز فقد سافر في نصوصٍ عديدةٍ في الأدب والفكر والسياسة، لأنّ الغرب كتلةٌ متعددةُ الأبعاد تمامًا مثل الشرق. من هنا يجب الحديث عن حقبٍ، عن المنتوج الثقافي الغربي في حقبةٍ ما. وهذا المنتوج قد لا يفي سوى بجزءٍ من الرؤية لغربٍ في حقبةٍ ما. قد يكون هناك جانبٌ من الصواب في ما أكد عليه أركون، فهو يرى أنّ مهمة الإسلاميات التطبيقية وفهم الدين بشكل عامّ تتطلب استيعاب أربعة قرونٍ من الإنتاج الغربي. قد نطالع بعض كلاسيكيات الغرب في عصر النهضة أو عصر التنوير لكن هذا لا يكفي لتكوين الصورة كاملةً عن غربٍ متحوِّلٍ. قد تكون منتوجات مدرسة فرانكفورت مهمّةً، ولكن لن تكون كذلك حتى ندرك الأسس التي ينهض عليها هذا النقد والأسباب والسياقات. فهم المنقود قبل النقد. المعرفة بالغرب تتطلب استيعاب هذا التراكم. حتى الموسوعة لا تكفي وحدها. بعضهم، ومن خلال قراءاتٍ في «قصة الحضارة» لـ «ويل ديورانت»، يظنّ أن ذلك كافٍ لاستيعاب العالم والغرب معه. الغرب يعني معرفة منتوج العصر الوسيط والمدرسانيين وتحقيق النصوص ثم النهضة بكل تداعياتها ثم الأنوار ثم منتوج العصر الصناعي للقرن التاسع عشر وصولًا إلى القرن العشرين والتيار النقدي. لكل مرحلةٍ رموزٌ وأساتذةُ تفكيرٍ وكلاسيكياتٌ خاصّةٌ بها. محاسن الغرب متلبّسة بسلبياته. فعل الانتقاء صعبٌ. والحل يكمن في الاستيعاب وتأويل الغرب حدثًا ونصًّا وعقلياتٍ.

* من هم الأشخاص الذين يمكن أن يستفاد منهم مباشرةً أو عن طريق كتاباتهم في تأسيس علم الاستغراب من العرب ومن العالم الإسلامي أو غيرهم؟

ـ كانت هناك محاولةٌ منهجيةٌ للدكتور «حسن حنفي»، وهو مطلّع على أهم المحطات في تاريخ الأفكار الغربية كما تجلّى ذلك في مجمل ترجماته لنصوص العهد السكولاستيكي، مثل نصوص القديس توما الأكويني والقديس أنسيلم وأعمالٍ أخرى تعرّف ببعض الفلسفات كفلسفة فيخته وصولًا إلى كتابه «مقدماتٍ في الاستغراب»، وقد تناولته بالعرض والنقد في كتابي: «العرب والغرب: أية علاقة، أي رهان»، ومع اهتمام بالتراث لدى حنفي لا يقلّ أهميةً. قراءة حنفي للغرب هي خليطٌ من العرض والأحكام. هي مقدمةٌ تتطلب مزيدًا من العمل. أعمال إدوارد سعيد هامةٌ في ما يتعلق بدراسة الذهنية الغربية في الهيمنة الثقافية. تظل الأعمال التأسيسية على مستوى الترجمة لكلاسيكيات الفلسفة الغربية لعبد الرحمن بدوي وزكريا إبراهيم ذاتَ أبعادٍ تعريفيةٍ. كانت هناك محاولاتٌ في الاتجاه نفسه نهضت بها مجلة «مداراتٌ فلسفيةٌ» في المغرب، حيث قدّمت الكثير من النصوص عبر الترجمة كان الغرض منها فهم النصوص الغربية مباشرةً وبعيدًا عن التّأويل قام بها كلٌّ من محمد سبيلا وعبد السلام بنعبد العالي ولفيفٌ من نظرائهم. مع كلّ ذلك نرى أنّ مشاريع فهم الغرب ونقد الغرب لا زالت في بواكيرها، والغالب عليها هو تقديم الغرب وفق موقفٍ مسبقٍ يؤثّر على عملية الفهم. علم الاستغراب غايته فهم الغرب، موضوعه الغرب وبالتالي سيكون علمًا متنوعًا. الكل قد يفهم الغرب على نحوٍ ما ثم يأتي الموقف، أي الإيديولوجيا والنقد الإيديولوجي، وهو مرحلة للأسف سبقت مشروع فهم الغرب. سبقت الإيديولوجيا العلمَ. مهمة علم الاستغراب اليوم هي استرجاع السلطة للعلم والفهم أوّلًا. الإيديولوجيا حين تسبق العلم وتحلّ محلّه أو تستغني عنه تصبح كارثةً.

* ما هي المخاطر التي تكمن في عملية تأسيس علم الاستغراب؟

ـ لا شكّ في أنّ كل عملية توليدٍ للمفاهيم وتأسيسٍ للعلوم تعترضها تحدّياتٌ كبيرةٌ وتحيط بها إشكالياتٌ عديدةٌ، ولن يكون علم الاستغراب بمنأًى عن هذا التحدّي، بل سيكون عرضةً لمستوياتٍ عديدةٍ من تلك المخاطر. وكما ذكرنا سابقًا فإنّ مخاطرَ كثيرةً سيواجهها علم الاستغراب كسؤال المنهج والموضوعية ودور الإيديولوجيا ومشكلة التحقيق والاستيعاب وطغيان النزعات ما قبل تأسيس العلوم. فمنهجيًّا نحن ندرك أنّ هناك إشكالية تتعلق بتعريف العلم وموضوعاته ومسائله التي تتقاطع مع علومٍ أخرى. ومنها كما ذكرت سابقًا عن مثال كتاب إدوارد سعيد، «الاستشراق»، فهو يصلح أيضًا لعلم الاستغراب. فتداخُل العلوم من حيث أغراضُها ومسائلُها يفرض تحدِّيًا في تأسيس علومٍ مستقلةٍ. نذكر أيضًا مخاطر النظرة التجزيئية والآنية والإسقاطية، في ظل الفوضى التي يعرفها المشهد العربي والإسلامي على مستوى إنتاج الخطاب. سيكون التحدِّي الكبير هو كيف يمكننا تأسيس علم استغرابٍ بينما لا توازيه عملية تطوير أو إعادة تأسيس التراث. كيف نستطيع كتابة تاريخٍ للأفكار الغربية بينما لا زال تراثنا تتنازعه الغواية ذاتها والمنهجية نفسها في تصنيف الملل والنحل. وفق أي منهجيةٍ سيتم هذا التأسيس؟ هل بناءً على مناهجنا؟ ما هي هذه المناهج؟ هل على مناهج الغرب نفسه؟ ما هي هذه المناهج؟ هل معها معًا؟ ما هي حيثيات هذا الجمع والتقاطع؟ إذا كان تأسيس علم للاستغراب للحكم عليه قبل فهمه ستكون تلك من المخاطر التي تجعل مهمته صعبةً. إذا كان تأسيس علم الاستغراب كمقابلٍ للاستشراق وكردِّ فعلٍ عليه ستكون تلك من المخاطر. فالاستغراب يجب أن ينهض كعلمٍ وفيٍّ للمعرفة، عادلٍ في الحكم، متحرِّرٍ من شحنات ردود الفعل، ومتجاوِزٍ للاستشراق.

* هل الغرب في أزمةٍ (ثقافيةٍ، اجتماعيةٍ، اقتصاديةٍ) وهل أوشك على الانهيار؟ وهل تيار ما بعد الحداثة يُعدُّ إرهاصًا؟

ـ نعم الغرب في أزمةٍ، لكنه يتميّز بديناميّته وقدرته على إعادة إنتاج نفسه عبر عمليات النقد. ربما قد نتحدث عن الانهيار حينما نوسّع من مفهوم الأزمة. نعم، من الناحية الأنطولوجيا نستطيع أن نتحدث عن أزمةٍ كونيةٍ نتيجة انتشار النمط الغربي الذي وسمته الكثير من محاولات نقد الغرب من داخل الغرب بفلسفات الباب المسدود والانهيار وموت الإنسان. حين ننظر نظرةً استشرافيةً متينةً نستطيع أن نرى معالم هذا الانهيار على الأمد البعيد حيث لا أحد يملك تفاصيلَ عمّا يمكن أن يقع، لكنّ المؤشراتِ واضحةٌ: وضعية المعرفة والثقافة والاقتصاد والبيئة والسياسة والحرب. لا شكّ في أن الغرب لن يستطيع أن يستمرّ وفق هذا النمط. لا الطبيعة أو البيئة ولا الدماغ البشري سيتحمّل هذه الوتيرة من التخريب الممنهج. تيار ما بعد الحداثة هو جزءٌ من هذا الغرب يحاول أن يرى العالم وفق نظرةٍ مختلفةٍ. يحاول رجّ الأسس والبنيات الغربية لصالح رؤيةٍ ممكنةٍ واستعادة الهامش بعد هذا القمع القديم من المركز. إنها محاولةٌ لإعادة توزيع الأولويات، منح الهامش فرصةً لاستخراج إمكانياتٍ مختلفةً. ما بعد الحداثة هي محاولةٌ لحل الأزمة ولكن بأسلوبٍ أكثرَ ثوريةً نتيجة قوة النقد الذي لم تستطع الحداثة إلغاءه وإن استطاعت استبعاده بقوة وغلبة مؤسساتها. الغرب ثقافيًّا هو في مرحلة نقدٍ، بل أوج النقد. إنّ الرؤية الغربية للعالم باتت غيرَ قادرةٍ على تحقيق الإشباع العقلي والسلام الروحي. المجتمع الغربي يتحرك ضمن هندسةٍ مصطنَعةٍ واستهلاكيةٍ قوّضت الكثير من إمكاناته الإنسانية. اقتصاديًّا نحن في زمن انهيار الموازنات وتراجع عالم الوفرة وهناك تحدياتٌ تفرض نفسها: التنافسية، الديمغرافيا، الحرب، الندرة واستنفاذ الطاقة. الغرب اليوم قلقٌ، وتقدّمه واقعٌ في شروط قانون القصور الذاتي. يستعمل قوته التاريخية القديمة بينما هو الآن في مرحلة انزلاقٍ خارج نطاق التحكم.

 
فروع المركز

فروع المركز

للمركز الإسلامي للدراسات الإستراتيجية ثلاثة فروع في ثلاثة بلدان
  • العنوان

  • البريد الإلكتروني

  • الهاتف