ما هو أثر الميديا وثورة الاتّصالات على النّظام الدّولي وتوازنات القوى، وأيّ دورٍ يتصدّره الإعلام الفضائي في تغييرات أنظمة القيم في المجتمعات العالميّة، وخصوصاً في مجتمعاتنا العربية والإسلامية؟ هذا السؤال المركّب كان مدار حوار مع الباحث في الإعلام المعاصر رفيق نصر الله؛ حيث رأى أنّ الميديا شكّلت الأساس في الغزو الاستعماري الغربي لمجتمعاتنا العربية والإسلامية في العقود القليلة الماضية.
وفي ما يلي وقائع الحوار:
«المحرّر»
* يرى الخبراء إلى ظاهرة الميديا باعتبارها الموجة الرابعة من حروب السّيطرة الغربيّة على العالم العربي والإسلامي، وخصوصاً بعد سلسلة من الحروب وموجات الغزو العسكري والاقتصادي والسياسي والثقافي.. إلى أيّ حدّ يصدق هذا التوصيف على الميديا بما هي ذروة استراتيجيات السيطرة الغربية على العالم؟
- من غير شكّ باتت الميديا المعدّة باتقانٍ إحدى المقدّرات الاستراتيجيّة، التي تشكّل المقدّمات الفاعلة لأيّ حرب أو لإدارة أيّ أزمة على كلّ مستوياتها السياسيّة أو العسكريّة أو الاجتماعيّة، أو في ضرب قناعات مجتمعيّة وتحويل ثقافات.. بل بالإمكان التأكيد على أنّها عصب العصر، والقوّة المحرّكة التي تقف وراء اتّخاذ القرارات ذات الطابع الاستراتيجي.. ولقد أكّدت ما يمكن تسميتها بالحروب الناعمة منذ الربع الأخير من القرن العشرين، وما شهدت من تطوّرات وامتلاك للإمكانيات مع بداية القرن الواحد والعشرين، وتنامي وسائل الاتصال، أكّدت أنّها المكوّن والصانع للقرارات، وقد شكّلت قوّةً متقدّمةً جعلت دولًا كبرى تستغني عن تحريك قوّاتها وأساطيلها في سياق السيطرة لصالح السطوة الإعلاميّة التي بات بإمكانها إعادة تشكيل القناعات في أيّ مجتمع مستهدف، وصناعة رأي عام، وتحويل في الذاكرة، وتبديل في بوصلة الصّراعات، وفرض معطيات ستشكّل مقدّمات للسيطرة عبر استخدام أنماط جديدة من الحروب باتت تُعرف أو تُسمّى بحروب الجيل الخامس.
لقد بات العالم بعد هذه التحوّلات أمام انكشافٍ لا حدود له، وأكّدت التّجارب والتّحوّلات التي شهدها العالم أنّنا أمام سطوةٍ جديدةٍ، وأنّ من يمتلك الميديا المتقدّمة هو من سيمتلك قدرات إضافيّة. بل هو القادر على الانتصار في أيّ معركة يخوضها.. ولقد أظهرت المقدّمات التي سبقت ما سمّي بالربيع العربي، الذي استهدف جزءًا من المنطقة العربية، أظهرت أنّ الميديا وراء كلّ ذلك.
* يجري الكلام على الحرب الناعمة كمعادل للميديا، إذا ما تمّ النّظر إلى الطريقة التي تتمّ فيها عمليات السيطرة التي تمارسها المركزيّة الغربيّة وخصوصاً الأميركيّة على الدول والشعوب؟
- عمدت مؤسّسات غربيّة وتحديدًا أميركيّة إلى قراءة الواقع الاجتماعي للعديد من المجتمعات العربية والإسلاميّة، وراحت تعمل على إعداد نوع من الحرب الناعمة كامتداد للميديا، التي شكّلت أساس هذه الحرب. فراحت تعمل على إعداد المصطلحات وتبديلها وتعميم نوع من القناعات، ومن ثمّ استخدام وسائل ضغط على هذه المجتمعات من خلال عمليات تخريب داخليّة؛ لتمزيق المجتمعات عبر استخدام هذا النّمط من الحروب الناعمة، وبخلق المبرّرات لها، وهي تستند على أوهام افتراضيّة تنطلق من شعارات تطال تحريك ما يسمّى المجتمع المدني أو الحريات والديمقراطيات وحقوق الإنسان وغير ذلك، وتشكيل جمعيّات وفرض مشهديات واستخدام الشاشات ووسائل التواصل وتحريك الساحات والشوارع. وكلّها ستؤكّد فيما بعد أنّها كانت شعارات افتراضيّة تسوقها هذه الحرب الناعمة، ولا تستند على وقائع إلّا فرض الأهداف المعدّة.. ومن الطبيعي أن تستخدم مثل أنماط هذه الحرب استخدام وسائل مختلفة من الضغط والحصار الاقتصادي، وتشويه القناعات وشيطنة القوى المضادة. وشكّلت الحالات التي سجّلت على الساحة اللبنانيّة بعد حرب 2006 نموذجًا واضحًا لهذه الوسائل ولهذه الحرب؛ من خلال استهداف المقاومة وبيئتها وشخوصها، ومحاولة تفكيك المجتمع من حولها؛ بإثارة كلّ التناقضات والحساسيات الطائفية والمذهبية، وتمزيق المجتمع اقتصاديًا وثقافيًا لتكون كلّ هذه الوسائل بديلًا لأيّ حربٍ عسكريّةٍ غير مضمونة النتائج.
* تنال شعوب العالمين العربي والإسلامي القسط الأكبر من عمليات التحكم والهيمنة لجهة إعادة تشكيل وعيها وتوظيفه في حروب التجزئة والانقسام، إلى أي مدى تلعب الميديا ووسائل التواصل في تسعير هذه الحروب؟
- كان واضحًا أنّه أعدّت للعالمين العربي والإسلامي الميديا، التي عملت الكثير من المؤسّسات الأميركية على توفيرها؛ لتشكّل مقدّمات لتمزيق العالمين.. كان واضحًا أنّ هذه الميديا وهذا النّوع من الحروب النّاعمة ستستفيد من الواقع السياسي والاجتماعي والطائفي القائم في العالمين العربي والإسلامي، ومن غياب النّظم الديمقراطيّة. فراحت تعمل على إثارة ما يُسمّى بثقافة الأقليات والنعرات الطائفيّة والمذهبيّة، ومن ثمّ في محاولة لتمزيق القناعات، وكيّ الوعي والذاكرة، ومحاولة إلغاء الشخصيّة الوطنيّة وضرب منظومة القيم والمبادئ والثقافات الموروثة والأيديولوجيات.
سعت هذه الميديا وهذه المحاولات إلى تخريب العقل، ومطاولة الذاكرة، وضرب جوهر الصراع العربي –الاسرائيلي، ومن ثمّ إلى خلق عدوّ جديد، وفرض أوهام ومبرّرات لرسم التحوّلات الجديدة. ومن المؤسف أن حيّزًا كبيرًا من المجتمعات العربيّة والإسلاميّة قد وقع في كمين هذه الحرب، وشهدت مجتمعات عديدة حروبًا داخليّةً وتشظي على الصّعد العديدة، ليس لأنّ قوّة هذه الحرب وأدواتها تمتلك القدرات فعلًا على التأثير في ظلّ غياب ميديا مضادّة، بل لأنّ المجتمعات المستهدفة كانت تعاني من تناقضاتٍ عديدةٍ في البناء السياسي والاقتصادي والثقافي.
* ثمّة فرضيّة تقول: إنّ الميديا التي أنجبتها الحداثة الغربيّة في السنين الأخيرة ليست بريئة من الغايات السياسية، خصوصاً وأنّ ما يسمّى مجتمع الإعلام العالمي الذي يقادُ منذ عقود من جانب الطبقة المسيطرة في أميركا، بات يلعب دوراً محورياً في تفعيل تسعير الأزمات وقيادة الحروب. كيف ترون إلى هذه الفَرَضِية؟
- كان واضحا أنّ التبدّلات التي أحدثتها العولمة ستشكّل الميديا إحدى الأدوات التي ستستند إليها هذه العولمة في تسويق أهدافها والتحوّلات التي سيشهدها العالم على الصّعد كلّها: السياسية والاقتصادية والثقافية تحديداً.
ولعلّ ما ستشكّله الحالة الحداثويّة الغربيّة من نتائج وانعكاسات لا بدّ وأن تكون الميديا الجديدة أولى إفرازاتها.
من هنا يمكن مطاولة العديد من التحوّلات التي ستشهدها مجتمعات عديدة في العالم، وليس على مستوى عالمنا العربي والإسلامي الذي ظلّ خارج هذه التحوّلات، إنّما مجرّد ضحيّة لها.
ولهذا استثمرت الولايات المتحدة الأميركية كلّ إمكانياتها في توظيف هذه الميديا؛ لضرب نظم ومجتمعات. ولعلّ مجرّد العودة إلى بداية نجاح ذلك يتجلّى في الحملات الإعلاميّة التي استمرّت لسنوات في ضرب الاتّحاد السوفيتي؛ ليشكّل ذلك مقدّمات لما سيحصل من انهيار لهذه الإمبراطورية، ولانهيارات سريعة في منظومة هذا الاتحاد وانفصال الدول وتقزيمها.
صارت الميديا إحدى علامات ما خلّفه زمن العولمة، ولكن وفق ما تريده القوّة التي تمسك بعصب هذه العولمة لا كما يجب أن تكون لتشمل الكرة الأرضيّة.
ستظلّ هذه الميديا قادرةً على إحداث التحوّلات ما لم تنشأ قوّة ميديا مضادّة قادرة على إحداث نوع من الممانعة، وهو ما يحتاج إلى توفير المقوّمات التي تحتاجها هذه الميديا.
* سادت في الوسط الفكري الأوروبي أطروحة تقول إنّ الإرهاب ليس شيئاً يُذكر من دون وسائل الإعلام.. ما يعني أنّ وسائل الإعلام بأشكالها كافّة شريكة في صناعة الإرهاب الذي يجتاح البلاد العربية والإسلامية منذ تفجيرات مركز التجارة العالمية في نيويورك عام 2001- كيف ترون إلى هذه الأطروحة؟
- كان واضحًا أنّ الخلاف كان قائمًا حول تحديد مفهوم الإرهاب، منذ ما قبل أحداث 11 سبتمبر 2001، بين من سعى إلى اعتبار أيّ عمل مقاومٍ أو عمل وطنيّ أو ثورات محقّة، وبين من يريد توظيف المصطلح في وصم ذلك باعتباره أعمالًا إرهابيّة؛ لأنّه يتنافى مع مصلحتها، ولهذا استهدفت الولايات المتحدة الأمر باعتباره أعمالًا إرهابيّة، وظلّت ترفض اعتبار كلّ ما كانت تقوم به اسرائيل من مجازر ضدّ الفلسطينيين أو العرب على أنّها أعمال إرهابيّة.
بعد أحداث سبتمبر كان واضحًا أنّ المصطلح سوف يستخدم لتوجيه اتّهامات نحو جهات عديدة وعواصم ونظم، سواء ما سيعطي المبرّرات لاحتلال أفغانستان أو بعد ذلك في التمهيد وإيجاد المبرّرات ولو المزيفة لاحتلال العراق. ومن ثمّ لما ستعمد إليه الإدارة الأميركية من اعتبار أيّ شكل من أشكال المقاومة على أنّه عمل ارهابيّ، وراحت تصنّف قوى مقاومة على أنّها منظمات إرهابية..
ومع بروز الإرهاب في المنطقة المتمثّل بداعش وغيرها، ظلّت الوسائل الإعلاميّة الأميركيّة تتردّد في تصنيفها على أنّها منظّمات إرهابيّة. كان واضحًا أنّ الميديا الغربيّة أرادت استخدام هذا المصطلح لضرب مشروعيّة المقاومة في المنطقة. ولهذا سعت إلى القيام بحملاتٍ من ميديا منظّمة؛ لفصل مشروعيّة المقاومة عن أحقّيتها. وهو ما استخدمته على مدار العقدين الماضيين ولا تزال.
* مع اجتياح جائحة كورونا العالم بأسره، حصل ما يشبه الزلزال الذي لم تتوقف ارتداداته العميقة على شعوب العالم، وعلى المجتمعات الغربية بوجه خاص. كيف ترون إلى النتائج المترتبة على الجائحة، وكيف تعاملت الحكومات الغربية معها خصوصاً لجهة التنصّل من مسؤولياتها في المجال البيئي وتوظيف الميديا ووسائل التواصل لمصلحة الشركات الكبرى؟
- ربّما فوجئ العالم بجائحة الكورونا ويمكن القول إنّ بدايات ظهور هذا الوباء جعل العالم في وضع شبه مترنّح نحو كيفيّة التعاطي مع وباء لم يكن الكثيرون يعتقدون أنّه سيصل إلى هذا المدى من الانتشار.
لكن، وكما يتمّ التّعاطي من قبل قوّة السطوة الماليّة العالميّة والصراع على النّفوذ ومحاولة الاستثمار في الأزمات الكبرى ضمن لعبة المصالح، سرعان ما بدأنا نلحظ نوعًا من ميديا تحاول استثمار الواقع، فركزت الميديا الأميركيّة على اتّهام الصين بأنّها تتحمّل تبعات ذلك، وتريد توظيف الأمر في سياق الصراع الصيني - الأميركي الاقتصادي. ثم بدأت تحوّلات أخرى تتعلّق بمن هي الجهة التي ستنجح في ايجاد اللّقاح المناسب..
بدا في الأمر أخطر من ذلك عندما ترنّحت منظّمات كبرى أمام الوباء، وتحديدًا ما بين الاتّحاد الأوروبي والولايات المتحدة، التي أغلقت على نفسها متناسية كلّ ما يربطها مع الاتّحاد الأوروبي، ليس عسكريًا فقط، بل ربّما إنسانيًا، وأيضًا داخل منظومة الحلف الأوروبي نفسه؛ حيث نشأ نوع من الشوفينيّة والإقليمية، وأغلقت الحدود على بعضها. حتى إنّ نوعًا من الميديا ساهم في انغلاق أقاليم على ذاتها في الدولة نفسها، وهذا يعود إلى الميديا المتناقضة التي رافقت عمليّة انتشار هذا الوباء.
* إلى أيّ مدى ساهم استخدامنا كعرب ومسلمين للإعلام الإلكتروني والتلفزة الفضائية، في الحفاظ على القيم الأخلاقية والهوية الوطنية في بلادنا؟
- يطاردنا السؤال: هل امتلكنا فعلًا في عالمنا العربي القدرة على امتلاك ميديا قادرة على المواجهة ومحاولة صناعة رأي عامّ محصّنٍ، وأن نكون أيضًا شركاء في هذا الصراع الأممي عبر الميديا واستخداماتها؟
ربما نعترف بأنّنا لم نصل بعد إلى ما نصبو إليه، وإلى اعتبار الميديا إحدى المقدّرات الاستراتيجيّة، التي تكاد تكون بمستوى القدرات العسكريّة والحصانة المجتمعية؛ لمواجهة كلّ أشكال وأنماط الميديا والحروب الناعمة، التي لا تزال قادرة على إحداث الكثير من الأهداف. في صفوفنا، ونتيجة لاعتبارات عديدة، ثمة تجارب حصلت تعطينا القدرة على أن بإمكاننا صناعة ميديا وفق طموحاتنا وتتوازن مع الصّراع الذي نخوضه.
لا يمكن لثورات أن تنجح بدون ميديا متقدّمة، ولا يمكن حتى لمقاومة أن تفرض خياراتها وتعكس انتصاراتها بدون هذه الميديا. وأيضًا لا يمكن استكمال أيّ انتصار على الآخر بدون امتلاك هذه الميديا، التي تحتاج إلى قدرات وخبرات وإمكانات وتطلعات معاصرة.
أعطي مثالًا هنا على ما جرى عام 2006، أوّلًا عبر الصورة عندما تم استخدام مشهديّة ضرب الدبابات الاسرائيليّة في وادي الحجير، وتأثير ذلك على العدو وعلى مجتمع الكيان الصهيوني. وثانيًا لحظة الإعلان عن ضرب المدمّرة ساعر، وما ترك ذلك من استخدام لميديا (اللحظة) ومن رفع لمعنويات جمهور المقاومة وانعكاس سلبيٍّ على العدو.
إنّ بالإمكان إنشاء منظومة ميديا متقدّمة، لكن الأمر لا يمكن أن يقوم وفق المتداول والموروث من استخدام عناصر بشريّة لا تمتلك الإمكانات العقلية والخبرات والوعي السياسي الاستباقي وإنشاء منظومة متكاملة من هذا الوعي.
الميديا تحتاج لميديا مضادة لها، وربّما هناك إمكانيات لو توفّرت لامتلكنا القدرات في التأثير على الآخر، وفي خرق قناعاته، وفي توفير نوع من الأمن الإعلامي للبيئة التي يجب أن تكون محصّنةً فعلًا..