جاءت هذه المحاورة لتضيء على عدّة نقاطٍ مهمّةٍ حول التطور التكنولوجي، أجاب فيها الباحث الإيراني البروفسور أصغر طاهر زاده عن جملة مسائل تمحورت أساساً حول مدى قدرة الإنسان على إدراك الكيفيات التي يفيد منها الإنسانية المعاصرة من وسائل وأدواة التقنية الحديثة دون أن تنساق إلى سلطانها المفضي إلى التشيّؤ والاستلاب والخضوع. وعليه كانت إجاباته تمهيداتٍ لبلورة حلولٍ هادفةٍ لضبط العلاقة بين الإنسان والتقنية، وسبر أغوار الجدليّة القائمة بين العلوم الغربية والعلم الديني.
المحرّر
* بداية نود أن نسألكم من الحجم المقبول للاستفادة من الأدوات والوسائل التقنية بالنسبة إلى الفرد أو المجتمع أو الحضارة بوجه عام؟
- قبل الإجابة عن سؤالكم، أقول في تأييد كلامكم: أجل، إذا أردنا العبور من حضارةٍ إلى حضارةٍ أخرى، ترِد الكثير من الأسئلة في البين، وهي أسئلةٌ تثبت أن الموضوع مورد البحث قد دخل في فضاءٍ من الغموض بسبب غلبة الحضارة الغربية، وأرى بدوري أنّ هذه الأسئلة ما لم تتمّ الإجابة عنها بشكلٍ واضحٍ، لا يمكن اجتياز ثقافة الحداثة. وأما في ما يتعلق بسؤالكم لا بدّ من التدقيق في هاتين المقدمتين، وهما أولاً: إنّ على الإنسان أن يتخلّق بأخلاق الله. وثانياً: إن الله قد أقام نظام الإيجاد والخلق على أساس الأسباب والمسبّبات. وبالالتفات إلى هذا الأمر نعلم أن الإنسان سيصل في نهاية المطاف إلى أنه لا يفكر بأيّ شيءٍ إلا ويتجلى له ذلك الشيء في يوم القيامة. ومن هذه الناحية يتعيّن على الفرد أن يعدّ مقدمات حياته الأخرويّة في هذه الدنيا، وأن يعمل بالتدريج على خفض حاجته إلى هذه المعدات حتى يصل بها إلى الحدّ الأدنى. ومن ناحيةٍ أخرى فإنّ الإنسان ما لم يصل إلى مقام العقل وما دام لا يزال باقياً في مقام النفس، يحتاج إلى الآلة والوسيلة في رفع حوائجه. وقيل في تعريف النفس: (النفس هي الكمال الأول لجسمٍ آليٍّ ذي حياةٍ). وعليه فإنّ مقام النفس هو مقام الحاجة إلى الآلات والأدوات، خلافاً لمقام العقل حيث يعمل الإنسان في ذلك المقام على إيجاد حوائجه دون آلاتٍ أو أدواتٍ. وبعبارةٍ أخرى: إنّ الإنسان في موطن النقص يحتاج إلى أداةٍ وآلةٍ. ولكن حيث لا يعدّ هذا النقص من ذاتيات الإنسان، فإن الحاجة إلى الآلة والأداة لا تكون من ذاتيات الإنسان أيضاً، ويكون في موطن عدم الأداة والآلة. وعليه، بالالتفات إلى أنّ القيامة تمثل مقام أبديتنا، وهناك نعمل على رفع حوائجنا دون الحاجة إلى أداة، ونقضي مآربنا بإرادتنا، علينا أن نحدّد موضع الأدوات في الحياة الدنيوية، وأن نوليّها من الأهمية بمقدار حجمها. وقد رسم القرآن الكريم خصوصية القيامة بقوله تعالى: (تَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ) [البقرة: 166]. لأن طبيعة القيامة بحيث لا يطلب الإنسان شيئاً إلا وخلق له دون أدوات.
عندما لا تكون الحاجة إلى الأداة من ذاتيات الإنسان، ومع ذلك يصبح الإنسان أسيراً ومرتهناً بيد الأدوات، ثم ينتقل إلى القيامة مشحوناً بهذه الصفة فإنّ الأمر سيتطلب منه تحمل مشقّةً لسنواتٍ طويلةٍ حتى يتحرّر من هذه الحالة، وعليه يجب من خلال النظر إلى القيامة أن نرى مدى وحجم ما يجب الاشتغال به من الأدوات والوسائل في الحياة الدنيويّة. إنّ أصحاب الجنّة بسبب اعتمادهم على الله يخلقون ما يريدونه، لأنّهم بواسطة الملكات التي حملوها معهم إلى الجنّة في إطار التوكل على الله، لا يكونون مكبّلين بأصفاد الأدوات. وأمّا أصحاب النار فحيث إنّهم يفتقرون إلى التوكّل على الله، ويعتمدون بشكلٍ مفرطٍ على الأدوات والوسائل الدنيوية، لا يستطيعون أن يفعلوا شيئاً لأنفسهم في عالمٍ تتقطع فيه الأسباب، لأنّ كلّ اعتمادهم على الوسائل الدنيويّة لا على الله سبحانه وتعالى، في حين لا وجود للأدوات والوسائل الدنيوية في ذلك العالم. وفي الحقيقة فإنهم لا يمتلكون اعتماداً وتوكلاً على الله حتى تتمّ تلبية حوائجهم بمجرد طلبها من الله، لأنهم لم يعدّوا العدّة كي يمتلكوا هذه المَلَكات في حياتهم الدنيا.
إنّ من بين مراحل السير والسلوك هي أن يعمل الإنسان على بناء قيامته في هذه الدنيا، وعليه في هذا السياق أن يتجرّد في المرحلة الأولى من الارتهان للأدوات والوسائل، وأن يعمل في المرحلة الثانية على الخلق دون الاعتماد على الأدوات. وقد قيل في ذلك: (العارف يخلق بهمته)، وذلك لأنه قام بتقوية الجانب المتجرّد من وجوده. وكلما غلبت الناحية المادية من وجودنا اشتدت حاجتنا إلى الأدوات والسبل، وفي المقابل كلما قويت الناحية المعنوية من وجودنا، أصبحنا أكثر تحرُّراً من الأدوات.
إننا في يوم القيامة سنواجه ذاتنا الواقعيّة والحقيقيّة بأنفسنا، إنّ القيامة تمثل مقام أبديتنا، إذاً يتعيّن علينا أن نقيّم أنفسنا في هذه الدنيا على أساس قواعد يوم القيامة، كي نتمكن من التعرّف على أنفسنا بشكلٍ صحيحٍ. قال الإمام علي (عليه السلام) بشأن القيامة: «قد ضلت الحيل وانقطع الأمل».
إن هذه الأدوات لا تمثل الرأسمال الأبدي بالنسبة لنا، إنّما رأسمالنا يكمن في التحرّر من هذه الأدوات، فعلينا أن نصل إلى بصيرةٍ يمكن لنا معها أن نقيّم أنفسنا بوصفنا فوق الأدوات والآمال والسُبُل. يقول العرفاء: يتم تزويدك في بادئ الأمر بجناحين كي تطير بهما، ثم يُنتزع منك الجناحان كي تواصل التحليق بدونهما. كما يتم تزويدك بالأسنان والطاقة كي تلتفت إلى وجود هذه الاستطاعة من نفسك، ثم تؤخذ هذه الأدوات منك كي تعثر على مقدرتك على تناول رزقك المعنوي وطاقتك الروحانية دون هذه الأدوات والسُبُل. وفي الحقيقة فإن تجريدنا من هذه الأدوات لا يهدف إلى سلبها منا، وإنما يراد تزويدنا بما هو أسمى وأرقى منها. حيث نستغني عن الأسنان لا أن نستغني بالأسنان. وهذا هو المراد من قول أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام): «استغناؤك عن الشيء، خير من استغنائك به»، لأنّ الاستغناء أسمى من الامتلاك.
إنّ مسار الحياة يبدأ بالحاجة إلى الأدوات والسبل، ويجب أن ينتهي إلى الاستغناء وعدم الحاجة. فإذا بلغت شدّة حاجة الإنسان إلى الأداة والسبل حداً استحوذت على روحه ونفسه على أمد الحياة، لن يكون بوسعه الحصول في الأبدية على حياةٍ مريحةٍ وخاليةٍ من المشقة والعنت. إنّ الذين يبلغون سنّ الشيخوخة ولا يتمكنون من التحرّر من الأدوات والوسائل في مسيرة حياتهم، يبقون رازحين في مرحلة الطفولة. أما شيوخ المدرسة التوحيديّة فيمثلون عالماً معتزلاً فهم أسمى من الدنيا، ناهيك عن أن يكونوا من المبتلين أو المفتتنين بها.
بالالتفات إلى هذه المقدمات، نجيب عن السؤال المتعلق بمقدار الاستفادة من الأدوات والسبل، بالقول: إن ذلك يتوقف على ظروف الأفراد، فالطفل كلّ وجوده متوقفٌ على جسمه، فيجب إذاً أن ينمو جسمه، بيد أنّ المجتمع يتعيّن عليه ـ إلى جانب الاستفادة من البركات والنعم المادية في إطار تلبية حاجاته الدنيويّة ـ ألا ينفصل عن أفكار الحكماء، وعلى الحكماء بدورهم أن يعملوا أبداً على توجيه المجتمع نحو أهدافه العالية. فلا تتم التضحية بالتوجهات المعنويّة أو تجاهلها تحت ذريعة التنمية الاقتصادية. لقد قام الإمام علي (عليه السلام) في فترة حكمه تحت غطاء التنمية بتقديم الله على الساحة الاجتماعية بأروع صورةٍ. هناك في الحكومة الدينية والحكومة غير الدينية سعيٌ إلى توفير الرفاه للمجتمع، إلا أنّ الرفاه المادي لا يشكل المشكلة الأصلية والرئيسيّة للمجتمع في الحكومة الدينية. في المجتمع الديني يعمل كلّ شخصٍ بحسب مرتبته الإيمانية تجاه الحقائق المعنويّة على توظيف الحدّ الأدنى من الأدوات والوسائل، كما ينظر الحكيم إلى الأدوات والوسائل بوصفها حُجباً، ويسعى على الدوام إلى النظر إلى الله بوصفه مسبب الأسباب. إنّ المجتمع الذي يستنير بنور الحكمة الإلهية، لا يعطي أدنى أهمية للأدوات، وقال (رينيه غينون) في هذا الشأن: في التاريخ الماضي كان الناس يفكرون بشكلٍ خاصٍ، وقد عرّفوا الحياة بحيث لم يكونوا بحاجةٍ إلى هذه الكميّة الكبيرة من الأدوات والوسائل، لا أنهم لم يكونوا قادرين على صنعها. فعلى طول التاريخ قامت المجتمعات بصنع الأدوات التي تحتاجها، ولكنّها لم تفسر نمط الحياة لنفسها كما هو حاصلٌ مع المجتمعات الراهنة حيث تتلخص حياتها في الابتلاء بأنواع الأدوات والوسائل، بحيث تحتاج إلى الاستعانة بالتكنولوجيا حتى في فتح أبواب البيوت وإغلاقها.
آمل أن أكون بعد طرح هذه الأبحاث قد استطعت إيضاح هذه المسألة، وهي أنّ الناس هم الذين يقررون اتخاذ نمط الحياة الذي يرغبون به، وأنّ كلّ حياةٍ تخلق احتياجاتها الخاصة، وأنّ مهمة أصحاب المصانع والفنون في كلّ مجتمعٍ تتلخص بشكلٍ عامٍ في تلبية هذه الاحتياجات. إن عالم العلوم التجريبية لم يبادر أولاً إلى صنع المصباح الكهربائي ليفكر بعد ذلك كيف يمكن أن يستفيد منه، وإنما أدرك أولاً حاجة الناس في المدن الكبيرة إلى البقاء مستيقظين حتى ساعاتٍ متأخرةٍ من الليل، ثم عمل على صناعة المصباح الكهربائي لهذه الغاية. وعلى هذه الشاكلة ظهرت سائر الوسائل والأدوات التكنولوجية الأخرى. ويجب أن يتمّ توجيه الاهتمام الأكبر إلى هذه النقطة، وهي عدم نسيان العلاقة بين تعريف الإنسان المادي والحسّي للحياة والسقوط في الاحتياجات المتنوّعة. وفي هذا السياق يأتي تأكيدنا على أنه لو تبلور الاهتمام بالحضارة الإسلامية في مجتمعنا، وتمكن الناس من تعريف أنفسهم في فضاء الحضارة الإسلامية، فإنهم سيعملون على إظهار الحاجات الخاصة بتلك الحياة في ظلّ تلك الحضارة، ويحافظون في الوقت نفسه على تطلّعهم إلى أفق ما وراء الأدوات والوسائل المادية.
يجب التدقيق في تحديد موضع تلك الأدوات والوسائل في شخصية الإنسان. ولتوضيح هذا الأمر يجب الالتفات إلى نقطتين، وهما أولاً: ما هي المرحلة التي يقف الإنسان فيها حالياً من بين المراحل الإنسانية. وثانياً: هل تلعب الأدوات دوراً واحداً بالنسبة إلى جميع الناس. إن الناحية السلبية من التكنولوجيا الغربية ترجح اليوم بالنسبة إلى أكثر الناس على الناحية الإيجابية منها، وقبل أن يتوصلوا بواسطة الأدوات إلى الأهداف التي رسموها لأنفسهم، تعمل التكنولوجيا على صنع الأهداف لهم، وتدفع بهم نحو أهداف الحياة الغربية. في حين لو تمّ تحديد موضع الأدوات في الحياة، يكون لكلّ أداةٍ ـ بالنسبة إلى كلّ شخصٍ وفي إطار تعريفه لحياته ـ معنًى ومفهومٌ خاصٌّ، ومن هنا قد تمثل هذه التكنولوجيا قيمةً بالنسبة إلى مجتمعٍ ما، ولا تمثل أيّ قيمةٍ بالنسبة إلى مجتمعٍ آخر. وهذا كله في ما لو قام الناس منذ البداية بتعريف الحياة وغايتها بالنسبة لهم. ومن هذا المنطلق ذكرنا أنّ دورَ الأدوات رهنٌ بإنسانيّة الفرد والمجتمع. إن المجتمع بمقدار استفادته من الحكماء والهدف الذي يحددونه، لا يكونون مرتهنين للتكنولوجيا، لأنّ الحكيم شخصٌ قد بلغ نوعاً من الوحدة الشخصية، والحكيم المطلق هو الله، وإنّ الأنبياء والأئمة الأطهار (عليهم السلام) هم مظاهر الحكمة الإلهية. يمكن للحكيم ـ من منطلق وحدانيّته الشخصيّة ـ أن يعيّن مقدار الأدوات للمجتمع. ولو ابتعد المجتمع عن الحكماء، يكون في الحقيقة قد ابتعد عن الوحدة الشخصية والانسجام اللازم، وسقط في مغبة التكثر والانفصال، وبالنظر إلى أنّ الكثرة تنافي الوحدة، سيؤدي به ذلك إلى الاضطراب والقلق في روح الفرد والمجتمع، وبالتالي فإنّه سيطلب اللجوء من أداةٍ إلى أداةٍ أخرى، ويرى النجاة، خطأً، في تغيير الأدوات لا في تجاوزها والاستغناء عنها.
إنّ هذه النقطة تثير الاهتمام، وهي أن حياة الناس في المجتمع إذا استحوذت عليها الأدوات، فإنهم سيعيشون في اضطرابٍ دائمٍ، لأنّهم سيعلقون الأمل في كلّ يومٍ على تقنيةٍ جديدةٍ، وإنّ كلّ تقنيةٍ جديدةٍ ستحمل في أحشائها أملاً بتقنيةٍ أخرى أحدث منها، وإنّ عقد الآمال على التقنيات الأحدث يمثل إعلان طلاقٍ مع التقنيات السابقة، وهكذا دواليك. في ظلّ هذا الفضاء لا يمكن لنا أن نعقد الأمل بشيءٍ نواصل به حياتنا حتى نستيقظ في الغد لنواجه منافساً جديداً يخلق فينا حاجةً جديدةً بحيث لا يمكن لنا معها الاقتناع بالتقنية السابقة.
لو لم يمتلك المجتمع تعريفاً منطقياً لنفسه، وأدمن على استخدام الأدوات والوسائل، فحيث إنّ الأدوات لا تنتهي، والمادة قابلةٌ لتغيير صورتها إلى ما لا نهاية له من الصور، فإنها سوف تستحوذ على الإنسان بشكلٍ مطلقٍ وتسلب منه الاستقرار والهدوء والطمأنينة.
* هل يُعدّ ظهور جميع هذه الأدوات المتنوّعة أمراً مرتبطاً بالثقافة الغربية، أم هو استعدادٌ كان موجوداً عند جميع الشعوب على مدى التاريخ؟
- إن جميع الناس يتمتعون بقوة الخيال، ويمكن لكلّ شخصٍ أن يتصوّر صورةً ويسعى إلى تحقيقها في حياته، فإذا لم يكن في البين هدفٌ متعالٍ يضبط سلوك الإنسان، فإنّ الأخيلة المتنوّعة ستدفع الإنسان إلى خلق أعمالٍ متنوّعةٍ، ولكن هذا في حدّ ذاته لا يُعدّ كمالاً. وعندما يتخذ المرء قراراً بتحقيق وتطبيق ما يتخيّله على أرض الواقع، يعمل على مصارعة الطبيعة حتى يصنع الصورة المنشودة له. إنّ الهيولى الأولى أو المادة الأولية قوةٌ محضةٌ وتقبّلٌ صِرفٌ، بمعنى أنها تتقبل جميع الصور. وعلى هذا الأساس يمكن للإنسان أن يفرض على الطبيعة ما لا نهاية له من الصور. يكفي أن يروم الفرد صنع شيء، حتى تكون الطبيعة طوع بنانه، مهما كان الشيء الذي يروم صُنْعه غبياً.
إنّ الشخص الذي لا يرى أيّ قيمةٍ لحياته، ويرى الحياة الدنيا غايةً له، ينفق كلّ عمره كي يترجم ما تخيّله على أرض الواقع وخارج مخيلته. إنّ ما تحقق في الغرب هو اعتباره هذا النوع من الأخيلة تحقيقاً علمياً، ولذلك نلاحظ أنه منذ القرن السادس عشر للميلاد أنفق الغربيون آلاف الساعات من أعمارهم في المختبرات كي ينتجوا ـ باسم التحقيق العلمي ـ ما نعرفه حالياً ودخل في دائرة حياتنا من المعدات والأدوات التكنولوجية الحديثة.
* عندما لا تتمكن المجتمعات الإسلامية من إبداء مقاومةٍ ملحوظةٍ في مواجهة ثقافة الغرب، فما هي النتيجة التي يمكن لنا أن نستخلصها من انتقاد الثقافة التكنولوجية؟
- في تقييمنا للمجتمع الإسلامي ونسبته مع ثقافة الغرب يجب ألاّ نقصر النظر على مجرّد الصورة المستغربة من المجتمعات الإسلامية، ونغض الطرف عن إرادة هذه المجتمعات التي تتطلع إلى الحياة القدسية وإلى ما وراء أهداف الحياة الغربية. إن لدى المجتمعات الإسلامية أهدافها الخاصة، غاية ما هنالك هو أن التصوّر العام لا يرى في الاستفادة من التكنولوجيا الغربية ما يتعارض أو يتنافى مع تلك الأهداف. إن الذي تسعى إليه الأبحاث النقدية في الغرب هو التذكير بهذا الأمر وهو أن هذا لا يتحقق بشكلٍ عام، وقبل أن نتمكن من تطويع التكنولوجيا لأهدافنا، نجد أكثر أبناء شعبنا متأثرين بالثقافة المحمولة إلينا على متن التكنولوجيا الغربية. وحيث ترى المجتمعات الإسلامية قيمةً جوهريةً لأهدافها، فإنها إذا وصلت إلى هذا المستوى من الوعي وأدركت أن الاقتراب من التكنولوجيا الغربية سيقضي على الثقافة الوطنية، فإنها لا محالة سوف تحتاط لنفسها ولن تفرط في استخدام التكنولوجيا، وتبدأ في هذا الشأن بنفسها.
إنّ المسار التاريخي للمجتمعات الإسلامية بحيث إنّها ستدرك الأضرار الثقافيّة المنبثقة عن التكنولوجيا الغربية عاجلاً أم آجلاً. وبطبيعة الحال يجب علينا أن نفصل حساب حكومات المجتمعات الإسلامية ـ التي هي في الغالب عميلة للغرب ـ عن حساب الشعوب المغلوبة على أمرها. والسرّ في ذلك يكمن في أن المجتمعات الإسلامية تتجه نحو التوحيد، رغم أنها ترزح حالياً تحت نير الثقافة الغربية في غفلةٍ تاريخيةٍ. ولا يزال هناك الكثير من المسائل المتعلقة بالثقافة الغربية وأثرها في تحطيم الروح الإسلامية لم يتم طرحها ومناقشتها بشكلٍ صحيحٍ وجاد... وإلا فإن الناس عندما يدركون أن قبح الثقافة والحضارة الغربية لا يكمن في مجرد معاقرة الخمور والإباحية الجنسية فحسب، بل إن روح هذه الثقافة يعارض الطهر والقداسة، سيتخلَّوْن عنها بالكامل ويُطلّقونها طلاقاً بائناً. إذاً يتعيّن علينا ألاّ نتجاهل وفاء وإخلاص المجتمعات الإسلامية للروح التوحيديّة الإسلامية الخالصة. وعلى هذا الأساس عندما نلتفت إلى أن الناس يعيشون حياتهم بمقدار وفائهم وإخلاصهم للثقافة الصحيحة، لا بمقدار ما يتجلى في ظاهر حياتهم، يجب ألاّ يستولي علينا اليأس والقنوط لمجرد مشاهدة بعض الظواهر الغربية في حياتهم، بل يجب أن يحدونا الأمل بتراجعهم عن تلك الحياة.
* مع افتراض النقطة المتقدمة هل يمكن أن يترتب على نقد الغرب في اللحظة الراهنة ـحيث التكنولوجيا الغربية تهيمن على جميع مناحي الحياة ـ تأثيرٌ عمليٌّ وقصيرُ الأمد؟
- نعم يمكن قول ذلك من بعض الجهات، وبشكلٍ عام هناك ثلاثة أنواع من الأشخاص في ما يتعلق بمواجهة الثقافة الغربية، ويمكن بيان هذه الأنواع الثلاثة على النحو الآتي:
النوع الأول: هم أولئك الذين إذا أدركوا نقاط الضعف الجوهرية في الثقافة الغربية، فإنهم يتحلَّوْن بالشجاعة والإرادة الكافية للوقوف في وجه جميع العلاقات الاجتماعية الناتجة عن تلك الثقافة الخاطئة. وهذا الأسلوب أشبه بنهج الأنبياء حيث كانوا يقفون بكلّ وجودهم في مواجهة ثقافة الكفر في عصرهم.
النوع الثاني: هم الأشخاص الذين يتمتعون بقوةٍ وإرادةٍ نسبيةٍ. وهؤلاء عندما يدركون نقاط ضعف الثقافة الغربية، يسيرون على هامش الثقافة السائدة في المجتمع بحيث لا يقعون في مخالبها، ولكنهم في الوقت نفسه لا يرون في أنفسهم إرادة الوقوف في وجهها، وهؤلاء سيتمكنون في نهاية المطاف من إنقاذ أنفسهم.
النوع الثالث: الناس العاديون الذين يدركون أنّ هذه الثقافةَ قبيحةٌ، ولكنهم لا يمتلكون القدرة على مواجهتها. إن هؤلاء في الوقت الذي يعبرون عن وفائهم وإخلاصهم لثقافتهم الأصيلة، إلا أنهم لا يستطيعون اختيار طريقٍ آخر غير الطريق الذي رسمته الثقافة الغربية أمامهم، أو أن يُبدوا مقاومةً في مواجهة أزواجهم وأولادهم الذين اختاروا لأنفسهم نمطاً غربياً في الحياة. ولكنهم في واقعهم غير منبهرين بتلك الثقافة. وهذه الجماعة متى ما سنحت لها الفرصة للخلاص من الثقافة الغربية، فإنهم سيبادرون إلى اغتنامها وتخليص أنفسهم وأهليهم؛ لأنّ الثقافة الغربية لم تستحوذ عليها إلى الحدّ الذي يتنكرون معه لدينهم. إن سرّ هؤلاء يكمن في طلب شيءٍ آخر، على الرغم من أنهم لا يرون من الناحية العملية مؤشراً محدداً على ذلك الطلب.
وفي قبال هذه الشخصيات الثلاثة، يمكن تصوّر شخصٍ رابعٍ يتماهى مع ثقافة الغرب بالكامل وينصهر في تلك الثقافة تماماً. إن هذا الشخص لا يكتفي بتبني التكنولوجيا الغربية فقط، وإنما يضيف إلى ذلك الإيمان بالثقافة التكنولوجية أيضاً، وحيث إنّ روح الثقافة الغربية تعارض القداسة، لا يسعه البقاء وفياً ومخلصاً للثقافة التوحيدية، وسوف ينفصل حتماً عن الثقافة التوحيدية. إن المشكلة الرئيسة التي تعاني منها المجتمعات الإسلامية تتلخص في هذا النوع الرابع من الأشخاص الذين هم على الرغم من قلتهم، إلا أن القائمين على الثقافة الغربية وساسة الغرب يتخذون منهم أذرعاً لبسط سيطرتهم على جميع شؤون العالم الإسلامي. إنّ نقد الثقافة الغربية لا يضيّق الخناق على هذا النوع من الأشخاص ويمنعهم من النشاط في المجتمع فحسب، بل ويمثل مشعل هداية أمام الجماعات الأخرى كي يتلمسوا طريقهم للخروج من معضلة الحياة الغربية. إن المجتمعات التي تمكنت من إنقاذ نفسها من شخصية النوع الرابع، قد عملت على تخليص نفسها من الاستئصال التاريخي وانعدام الهوية.
* لو قام علماء الكيمياء باكتشافاتهم في إطار الرؤية التوحيدية، هل كان ذلك يُحدث فرقاً في النتيجة عن اكتشافاتهم التي تمّت في إطار الرؤية غير التوحيدية؟
- لا بدّ من الالتفات إلى أن العالم من وجهة نظر القائل بأنه عبارةٌ عن آياتٍ إلهيةٍ، يختلف ـ بشكلٍ جوهريٍّ ـ عن وجهة نظر العالم الكيميائي الذي يعتبر أنّ العالمَ عبارةٌ عن عناصرَ ميتةٍ لا تكمن من ورائها أيّ إرادةٍ مقدسةٍ. ففي الرؤية الثانية يسمح الإنسان لنفسه بجميع أنواع التصرّف في الطبيعة وعناصرها، وإن النتيجة المترتبة على هذا التصرف المنفلت هي ما نراه من الواقع الراهن حيث تعاني البشرية من التلوث الطبيعي الكارثي، كما قام هذا العلم بصنع عقاراتٍ اضطرت معها الولايات المتحدة الأميركية إلى إقامة مشروعٍ يمتد لخمسين سنة من أجل القضاء على التداعيات والتبعات السلبية التي ترتبت على الأدوية الكيميائية على أمد قرنين من الزمن.
إن عالم الكيمياء الذي يسعى إلى التعرّف على قوانين عالم الوجود والتوصّل من خلالها إلى بعض النتائح، يختلف عن الكيميائي الذي لا يؤمن بوجود نواميس في العالم، وبذلك يختلف توجههما إلى العالم ولا تكون نتائج أعمالهما واحدة. لقد تمخض علم الكيمياء عن الأسمدة الكيميائية التي أخرجت التربة الهولندية بعد خمسين سنة من الخدمة حيث أصبحت غيرَ قابلةٍ للحياة، الأمر الذي دعا السلطات الهولندية إلى إصدار قانون يحظر بموجبه استخدام الأسمدة الكيميائية في عموم البلاد إلى الأبد.
إذا كانت هناك نظرةٌ من قبل العلماء إلى نواميس العالم، فإن ذلك سيؤدي إلى الاقتصاد في استهلاك الطاقة واستثمار الطبيعة في إطار الأهداف الإنسانية، وبذلك لن يعمل على تحطيم الطبيعة، ولا يضطر بعد ذلك إلى صرف كل هذا الوقت الثمين من أجل القضاء على تبعات إساءة استغلال الطبيعة لتلبية مآربه الدنيوية. وتكمن المشكلة الكبرى في أننا نرى التعاطي مع الأدوات عملاً، ولا نعتبر ذكر كلمة التوحيد (لا إله إلا الله) عملاً. إن أعمارنا هبةٌ إلهيةٌ، ويجب علينا في هذه الحياة أن نعمل على تطهير قلوبنا وتزكية أنفسنا. عندما يتمّ تجاهل تزكية النفس، سوف يتم إنفاق وقتٍ طويلٍ من أعمارنا في تغيير الطبيعة، وفي ظلّ هذه الأوضاع يفقد الإنسان هويته من الناحية العملية.
إن مراد أولئك الذين يقولون: «إنّ العلم الحديث علمانيٌّ»، هو أن العلم الحديث لا ينظر إلى الجهات المعنوية الجارية في الوجود، لأنّ العلم عبارة عن وحدة وزن وقياس، وما لا يمكن قياسه أو وزنه لا يمكن أن يكون متعلقاً لذلك العلم. صحيح أنهم يقولون أن العلم لا شأن له بالدين أو اللادينية، ولكن يجب الالتفات إلى أن العلم حيث يكون غريباً عن الدين، فإنه سوف يؤدي إلى نفي الدين من الناحية العملية، وسوف يتخذ موقف المنكر للدين لا محالة. وفي هذه الرؤية لا تكون نتيجة العمل في إطار الرؤية التي تنظر إلى الإنسان والطبيعة بوصفهما من الأمور المقدسة، شيئاً واحداً.
إن غاية العلم في الرؤية الغربية ـالأعم من زاوية الكيمياء أو الفيزياء وغيرهماـ هي بسط السيطرة على الطبيعة والتصرّف فيها، وهذا على النقيض تماماً من الثقافة الدينية التي يتم فيها توظيف العلم من أجل إدراك واكتشاف الحقيقة والتواصل معها. عندما يكون الهدف هو السيطرة على العالم والتصرّف فيه، فسوف يتمّ إنكار جميع العلاقات بين معرفة العالم والأخلاق، في حين لو كانت الرؤية التوحيدية هي الأساس، لما أمكن لهذا النوع من العلوم أن يستمر بهذه الهوية، لأن شرائط ظهور هذه العلوم تقضي على الاعتدال الضروري واللازم في الحياة البشرية.
إن الانتشار السريع للعلم الحديث في الحضارة الغربية في ضوء الاتجاه إلى العالم المحسوس، إنما أمكن منذ أن تعرّض العلم الإلهي للهجوم، بحيث إنّ ما نراه اليوم في العلوم الحديثة إنّما قام على أساس الماديّة أو إنكار الحكمة الدينية في الحدّ الأدنى، ولذلك يمكن القول: إن ظهور هذا النوع من العلوم في العالم الإسلامي غير ممكنٍ أبداً. وبهذا التحليل يجب القول: إن العجز في صنع التكنولوجيا الحديثة هو عين الكمال.
عندما يفقد الإنسان هويته ومفهومه، فإنّه بدلاً من العيش في أحضان الطبيعة من أجل التقرّب من الله، يتحوّل كلّ همّه إلى تغيير الطبيعة من أجل إثبات هويته. في هذه الرؤية ستكون وجهة العلم ـالأعم من علم الكيمياء والفيزياء وغيرهماـ هي الذهاب إلى محاربة الطبيعة، وأن ينهمك الإنسان في هذه الحرب على أمد الحياة إذا أمكن تسمية ذلك (حياة)، وينفصل عن حياته الحقيقية المتمثلة بالتقرّب إلى الله. وعلى كلّ حالٍ يمكن القول اعتماداً على ما تقدم بيانه باختصار: لا شك في أنّ علم الكيمياء من وجهة نظرٍ توحيديّةٍ، ليس هو العلم المعروف حالياً بـ (علم الكيمياء).
* ألن يتعرّض الشخص الذي يريد التماهي مع الأوضاع التقنية للعالم المعاصر إلى الانسحاق تحت عجلاتها؟
- لا بدّ بطبيعة الحال من الانسجام والتناغم مع الأدوات الراهنة في العالم. من ذلك على سبيل المثال: إذا كانت المسافة بعيدةً جداً يجب استخدام السيارة، ولا يمكن الاكتفاء بركوب الخيل والحمير والبغال. ولكن الكلام هو أن عليكم ألاّ تنظروا إلى السيارة بوصفها نعمةً مطلقةً، بحيث يتم تجاهل التبعات التي ترتبت على اختراع السيارة. عندما نلتفت إلى هذه الناحية سوف لا نعطي الأدوات والتكنولوجيا الراهنة أكبر من قيمتها الحقيقية، ونقتصر في استخدامها على حدود الحاجة، ولا تكون التكنولوجيا غاية مطمحنا. وفي هذه الحالة لن نتجاهل الأضرار التي تلحقنا من ناحية هذه الوسائل والأدوات، والأهم من ذلك ألاّ نعتبر ملاك تنمية وعدم تنمية المجتمع في وجود وعدم وجود الوسائل والأدوات.
إن الماكنة ـ على حدّ تعبير بعض العلماء ـ قد ساهمت في القضاء على الترابط الأسري وصلة الرحم والإحسان إلى الوالدين. وقد تحول التواصل الصحيح والطبيعي والإنساني إلى مجرّد علاقاتٍ عابرةٍ وغير طبيعيةٍ. إننا في العالم المعاصر لا نمتلك علاقاتٍ اجتماعيةً ولا نتواصل مع الآخرين. إن نمط الحضارة الراهنة بحيث لا نعمل على الاستفادة من الفرص، وإنما نعيش على الدوام هاجس المستقبل، وإن قلوبنا في اللحظة الراهنة تخفق على مستقبل لم يحن أوانه، وبالتالي فإننا لا نستفيد من لحظتنا الراهنة، ثم حيث نواجه المرحلة القادمة نحمل معنا ذات القلق. بمعنى أن حياتنا بأجمعها تغدو عبارة عن عدم استقرارٍ متواصلٍ، ولا تتوفر على فرص الحياة.
صحيح أننا لا نستطيع في اللحظة الراهنة أن نتخذ خطوةً محددةً ومباشرةً، بيد أننا إذا تعرّفنا على الحضارة الإسلامية، وناقشنا روح ومنشأ الحضارة الغربية، فإن الطريق إلى الانفصال عن الحضارة الغربية من جهة، والاقتراب من ظروف تحقق الحضارة الإسلامية من جهةٍ أخرى سوف ينفتح بالتدريج. والأهم من ذلك هو تقوية روح المقاومة في مواجهة الإعلام الداعي إلى تغريب المجتمع أكثر فأكثر.
ومن خلال مقاومة الإعلام الداعي إلى مزيد من الاغتراب، تتجلى في أذهاننا معتقداتٌ جديدةٌ، وندرك أننا إذا سمحنا لأنفسنا بأدنى غفلة، فإننا سنفقد جميع مدخراتنا التاريخية المعنوية العظيمة، ويتمّ القضاء على سرّ بقائنا وهويتنا، وهي الهوية التي فتحت لنا الطريق إلى سماء المعنوية، وتفتح أفئدة الناس على الحقائق اللامتناهية، كي نعيش أحياءً ضمن تلك الحقائق.
* ما هو سبب تغيّر التقنية واتباع الناس لهذا النمط من الحياة؟ وبعبارةٍ أخرى: لِمَ تتخذ الحياة والتقنية شكلاً جديداً على الدوام، وتتخلى عن أنماطها القديمة؟
- إن الإنسان يعمل دائماً على رسم بعض الأهداف لنفسه، ويسعى جاهداً إلى تحقيق تلك الأهداف، وربما حالفه النجاح في ذلك وقد لا يحالفه. إننا نعتبر العالم وسيلةً للوصول إلى أهدافنا، فإذا تمّ إعداد تلك الوسيلة ـ بمعزل عن الأدوات والوسائل العادية في التاريخ البشريـ على أساس أهدافٍ وغاياتٍ خاصّة، فسوف تظهر بوصفها تكنولوجيا خاصة بتلك المرحلة. إن جذور الصورة الخاصة لتلك التكنولوجيا تعود إلى الأهداف التي آمن بها الناس في تلك المرحلة الزمنية. لقد أفرط الإنسان الغربي بعد عصر النهضة في نزعته الانبساطية، وأخذ يعمل على توظيف كلّ طاقاته من أجل تلبية هذه النزعة. وفي هذه الأجواء يأتي اهتمام الإنسان بالتكنولوجيا بوصفها هدفاً في الحياة. إنّ الإنسان الغربي أخذ منذ ذلك الحين يرى مفهومه ومعناه في صنع التكنولوجيا المنشودة له. وبعبارةٍ أخرى: إنّ التكنولوجيا بمفهومها المعاصر قد دخلت التاريخ منذ أن تغيّرت رؤية الإنسان إلى نفسه، ولم يعد يبحث عن ذاته في السير نحو عالم القدس والمعنى. وفي الرؤية الجديدة أخذ العالم المحسوس يكتسب أصالةً بالنسبة إلى الإنسان الغربي بشكلٍ مفرطٍ، ومن هنا أصبحت الوسيلة والأداة التي تساعده على بسط سلطته وسيطرته على العالم المحسوس غاية ومطمحاً له، وأضحت التكنولوجيا هي الغاية. إذا كانت رؤية الإنسان إلى نفسه بحيث تحتمّ عليه أن يحفظ نفسه من انحرافات النفس الأمّارة، ولا يمكن ذلك إلا من خلال السير في الذات لا في الخارج، فإن خيارات هذا الإنسان بشكلٍ عامٍّ هي عبارةٌ عن الموضوعات المعنوية، وليست الوسائل التي تشكل عناصر بسط السلطة والسيطرة على العالم. إن مثل هذا الإنسان العاقل يعمل على توظيف ذكائه من أجل تعاليه الروحاني، في حين كان عصر النهضة يمثل مرحلة توظيف ذكاء العباقرة من أجل صنع الوسائل والمعدات للسيطرة على الطبيعة. في المراحل السابقة كان أصحاب الأخيلة الجامحة يطمحون إلى الطيران، ولكنهم لم يمتلكوا الذكاء والاستعداد الكافي لتحقيق هذا الطموح، لأن المفكرين والعلماء كانوا يعملون في الغالب على توظيف فكرهم في موضوعاتٍ يغلب عليها الطابع الإلهي والإنساني. وأما في المرحلة الجديدة فقد عمد العباقرة ـ وجلهم من أصحاب النزعة الانبساطية ـ إلى تلبية مطامحهم العادية والخيالية، فأنتجوا الحضارة الغربية.
لقد جاء تغيير التقنية منذ عصر النهضة من تغيّر تحليل وتعريف الإنسان لنفسه. فقد كان للناس قبل عصر النهضة تقنيتهم التي تتناسب مع مرحلتهم، ولكنهم حيث كانوا في تلك المرحلة أكثر انطواءً على ذواتهم وكانوا يسعون إلى الحفاظ على أصالتهم الروحانية، لم يكونوا يعمدون إلى صنع مثل هذه الوسائل والمعدات الجبارة. لقد كان إنسان ما قبل عصر النهضة على قدرٍ من احترام وتقديس القيَم الإنسانية بحيث لم يكن على استعداد للتضحية بكنوزه المعنوية من أجل تحقيق رغباته المادية. فلم يكن على استعدادٍ لكي ينفق أربعين سنة من عمره في المختبرات، لكي يكتشف عدداً من عناصر المادة. لقد عملت الثقافة الغربية من خلال تأصيلها للمادة وعالم الحسّ بحيث قوّضت منظومة القيَم حتى أخذت تعتبر العلماء الكبار هم اليوم أولئك الذين ينفقون ثماني عشرة ساعة من يومهم في المختبرات. في حين أن هذا النوع من الحياة مصحوبٌ بنوعٍ من الغفلة عن الذات السامية.
وكما تقدّم أن ذكرنا فإن تأصيل المادّة قد ترك تأثيره على البنية النفسية للإنسان المعاصر بحيث تم تحديد قواه الإدراكية بحدود إدراك الظواهر المادية. إلى الحدّ الذي قال معه (رينيه غينون): «في الحقيقة لم يبق هناك من سببٍ يقبل معه الإنسان بوجود شيءٍ لا يستطيع تصوّره من طريق الحس والإدراك لا من طريق العقل». وقد بلغ الأمر مرحلةً تمّ معها إخراج جميع الموضوعات المقدسة والمثاليّة من دائرة اهتمامه، بحيث إنّه حتى إذا لم ينكرها يتمّ تهميشها، حتى تعدّ من الأمور الاستثنائية.
* هل يمكن اعتبار التقنية نوعاً من العلم الذي يمكن له إيضاح بعض المجهولات لنا؟
- إنّ التقنيةَ عبارةٌ عن آثار نوع من الرؤية إلى الإنسان والكون، حيث تم صنع وتصوّر الأدوات والوسائل بفعل تلك الرؤية، وحيث إنّهم في اختراع تلك الوسائل قاموا بالتحقيق في إمكانات الطبيعة فقد أطلقوا على نشاطهم صفة (العلم)، في حين كانت الطبيعة ولا تزال تمتلك آلاف الآلاف من الإمكانات التي تمّ تجاهلها والغفلة عنها في تلك الرؤية. وعليه فإن العلم الذي يعني فتح درجة من مراتب الحقيقة الخافية عنا، غير موجودٍ في الحضارة التي أنتجت التكنولوجيا. إن التقنية من خلال تصرّفها في الطبيعة، تضع نظام عالم المادة في ظروفٍ خاصّة، حتى إذا كان لنا علمٌ بقدراتٍ أكبر للطبيعة، لا يمكن عدّ الظروف الجديدة بوصفها أفضليةً للحضارة الغربية. كنا في مرحلةٍ من الزمن نعيش الانسجام مع الطبيعة وكنا نقيم جدران البيوت من الطين والتبن، وكنا نتعايش مع ذلك الجدار الطيني بوصفه جزءاً من حياتنا، وإذا انهار هذا الجدار بعد مدّة، عدنا إلى إقامته من جديدٍ وبكلّ يُسرٍ دون الإضرار بتوازن الطبيعة. ولكننا نعتزم في وقتٍ آخر بناء جدارٍ يصمد إلى الأبد، فنلجأ عندها إلى بناء جدارٍ من الآجر والإسمنت ونستعيض عن التوازن الطبيعي القديم بتوازنٍ جديدٍ، هذا في حين أننا إذا أردنا تقويض الجدار الإسمنتي فإننا بالإضافة إلى الجهد الكبير الذي سننفقه في تحطيم هذا الجدار، لن نستطيع إعادة مواده إلى حالتها الطبيعية، ولن يكون بمقدورنا استعمالها في بناء جدارٍ جديدٍ، وهذا يؤدي بدوره إلى ظهور اضطراباتٍ وهواجس كبيرةٍ تنعكس على روح الإنسان؛ لأنه صعّب الحياة على نفسه وجعلها غير قابلةٍ للتحمّل. فلو كان الجدار الطيني يتعرّض لضررٍ أمكن إصلاح الوضع بإضافة شيءٍ من الطين والتبن وينتهي الأمر عند هذا الحد، ثم نواصل حياتنا بهدوء. في حين أنه في الرؤية الغربية واعتماداً على التكنولوجيا والمعدات المهولة انقطعت الصلة القديمة بين الإنسان والطبيعة، ولم يعد يتم توظيف مواد الطبيعة لخدمة الإنسان بتلك السهولة، وإنما يتمّ إخضاعها بقوة التكنولوجيا.
عندما تنفصل روح الإنسان عن الطبيعة، تبدأ المعدات والأدوات المهولة بمحاصرته والضغط عليه بمخالبها، ويتفشى الاضطراب الروحي الناشئ عن التعايش مع هذا النوع من التكنولوجيا التي صُنعت من أجل القضاء على الطبيعة. هذا بالإضافة إلى أن التكنولوجيا الغربية ذاتها ـ بسبب تحديثها المتواصل لحظة بلحظةـ تعمل على طرد المسنين من النساء والرجال وإخراجهم من دائرة الحياة، حيث تحوّلهم إلى مجرّد كائناتٍ عاجزةٍ لا تجد لنفسها إمكانيّة العيش في ظلّ الظروف الجديدة.
إن جوهر العالم الحديث حيث يدار ويمضي قدماً على أساس أخيلة الناس، فهو بحيث يعمل في كلّ لحظةٍ على صنع شيءٍ جديدٍ، إذ حلّ الخيال محلّ العقل، تكمن الجذور النفسيّة للثياب والأواني الجاهزة ذات الاستعمال الواحد، في أنّ الإنسان المعاصر لم يعد يتقبل كينونته وأخذ يتجه نحو جزر الواق واق، وفي هذا الإطار يمكن تحليل عصر السرعة الذي يحكم العالم الراهن. إن ما نراه من السرعة والاستعجال الذي أضحى جزءاً من ماهية وذات الحضارة المعاصرة يعود إلى أنه يسعى إلى الهروب من ذاته وماضيه بأقصى سرعته، بحيث لا يعود هناك من شيءٍ يمكن أن يعيده إلى الماضي أو يربطه به.
وقد عمدوا باسم العلم إلى صنع نوعٍ من التكنولوجيا بحيث يتمكنون من الاستجابة لخيالاتهم، وهذا غير العلم بذلك المعنى الذي يستطيع الإنسان بواسطته أن يتعرّف على حقائق الوجود، ويعمل من خلال تواصله مع الحقائق الثابتة في الوجود على تعزيز شخصيته وتوسيع آفاقها وأبعادها.
* بالنظر إلى أنّ كلّ وسيلةٍ وأداةٍ تحمل معها ثقافتها الخاصة، ولا مندوحة لنا من استعمالها، كيف يجب علينا الاستفادة منها بحيث نكون في مأمنٍ من تداعياتها الثقافية وتأثيراتها السلبية؟
- يجب الالتفات ـ كما ذكرتم ـ إلى أنّ كلّ وسيلةٍ تجلب معها ثقافتها الخاصة، وإن هذا الالتفات والإدراك يمثل الخطوة الأولى للتقليل من التداعيات الثقافية والآثار السلبية للتكنولوجيا الغربية. على كلّ واحدٍ منا أن يدرك كيف أمكن لركوب الحافلات أن يخلّ بالتوازن الطبيعي الذي كان يحكم العلاقة القائمة بينه وبين أبويه، حتى يتمكن من الاستفادة من وسائط النقل ويواصل ركوب الحافلات دون أن تخضع قراراته في الحياة لضغطٍ تفرضه عليه ثقافة ركوب الحافلات. عندما ندرك أن ابتعاد البيوت عن بعضها ليس بالشيء الذي يمكن تدراكه بواسطة ركوب الحافلات، بل إن جوهر الإيمان بركوب الحافلات هو الذي فرض علينا هذا النمط من الحياة، سوف نقبل على ذلك بمزيد من الضبط والسيطرة، ونصل بتداعياتها وتبعاتها إلى الحدّ الأدنى. عندما أصبحت ثقافة ركوب الحافلات جزءاً من حياتي، فإنها قبل أن تساعدني على تفقد والديّ أكثر من ذي قبل، فرضت عليّ مسائل جديدةً لم أكن أعاني من همومها قبل أن ترتبط حياتي بركوب الحافلات. على الإنسان أن يدرك أنّه قد وقع في ظروف فرضت عليه العيش تحت ضغط التكنولوجيا الظالمة، ولا يمكنه رفع ذلك الضغط من خلال الاستمرار بهذه التكنولوجيا، وفي هذه الحالة سوف تتمّ السيطرة على استخدام التكنولوجيا. تماماً كما لو تسلل طعامٌ لذيذٌ وشهيٌّ إلى نظامنا الغذائي، بحيث ننسى معه نظامنا الغذائي القديم، فنجد أنفسنا من جهةٍ قد فقدنا إمكانية إعداد ذلك الطعام البسيط القديم، ونجد أنفسنا من جهةٍ أخرى نحتاج إلى الطعام الجديد، إذاً نحن مضطرون إلى تناول الطعام الجديد. ولكننا إذا انتبهنا إلى التبعات السلبية والأضرار التي يشتمل عليها الطعام الجديد، فإننا في الوقت الذي لا نمتنع عن تناوله بالمرة، نأخذ جانب الاحتياط ولا نفرط في استهلاكه والثناء على جودته. وهكذا الأمر بالنسبة إلى استخدام التكنولوجيا الغربية، فنحن نعتقد أن عدم الاستفادة منها في المرحلة الراهنة يُعدّ عملاً خاطئاً، وأنّ امتناعنا عن استخدامها يعني توقيعنا على وثيقة موتنا، ولكن علينا في الوقت نفسه أن نلتفت إلى الآثار السلبية المترتبة على هذه الثقافة. وهذه المرحلة من أكثر مراحل اختيار الشعب دقةً حيث تكون قد بلغت مرحلة الوعي والإدراك والنضج الفكري، فلا تختار العزلة بشكلٍ اعتباطيٍّ وغير مدروسٍ، ولا تحرم نفسها من أهدافها السامية.
لقد قرأت نصاً كتبه هنديٌّ أحمرُ من السكان الأصليين في أميركا، قال فيه: «إنكم لا تعلمون ما هو الكنز الذي أخذوه منا. لقد كانت قبائلنا تتحاور مع الطبيعة، وكانوا يفهمون الطبيعة، وكانت الطبيعة تفهمهم، ولم تكن حياتهم أجنبيةً عن عالم الطبيعة، ولذلك لم يكونوا يشعرون بالسأم أو الضجر من تلك الحياة، ولم تحصل لديهم رغبةٌ اعتباطيةٌ تجذبهم للتوجه خارج بيئتهم، ولم يكونوا يعانون من ضعة النفس والروح؛ حتى جاءت الحضارة الجديدة وجردتنا من كل ذلك، ولم تعوضنا بشيءٍ». إنّ روح الإنسان تعرف بلاشعورها أبعاداً من الحياة تجهلها ثقافة الحداثة، ولذلك لا يمكن للإنسان الحديث أن يتعايش مع ذاته.
في الظروف المثالية لا معنى لاختيار التكنولوجيا الغربية، ولكن الشيء الوحيد الذي يمكننا القيام به في الظروف الراهنة هو أن نقلّل من استخدامها ما أمكن، ولا ننظر إليها نظرة إعجابٍ وانبهارٍ. وفي نهاية المطاف ستدركون أن الانفصال عن التكنولوجيا وإن كان يتسبب لنا ببعض المشاكل، إلا أن قيمة الأبعاد المعنوية التي سنحصل عليها بفعل الابتعاد عن التكنولوجيا، أكثر بكثير من الأشياء التي سنفقدها بسبب الانفصال التدريجي عن التكنولوجيا. ولا بدّ من الالتفات بطبيعة الحال إلى أن هذا النوع من الرؤية يرتبط بالاختيار الشخصي بشكلٍ عام، وعلينا ألاّ نتوقع من الناس ـ دون أن نأخذ ظروفهم واستعدادهم الروحي والفكري بنظر الاعتبار ـ أن يتنكروا للتكنولوجيا الغربية فجأةً وبجرّة قلمٍ، فإذا كنت من الذين يقضون مآربهم اليومية من خلال استخدام الوسائط النقلية ـ على سبيل المثال ـ لا أستطيع ولا يحق لي أن أنتقد استخدامك لهذه التكنولوجيا، وذلك أولاً: لأن الكثير من الوسائل التكنولوجية في الوقت الراهن قد ارتبطت بحياتنا اليومية بحيث لم يعد بالإمكان فصل الحياة عنها أو فصلها عن الحياة. وثانياً: هناك اختلافٌ في نوع الحياة وظروف الأشخاص، بحيث لا يمكن تعميم وصفةٍ واحدةٍ على الجميع.
* كيف يمكن توظيف التكنولوجيا الحديثة في خدمة الدين؟
- أن تكون في صُلب الطبيعة فهذا يمثل عين الحياة الدينيّة. ولذلك فإن الإسلام لم يطلب منا أن ننفصل عن المجتمع وعن الطبيعة. إن لزواج النبي الأكرم (ص) من القداسة ما لتهجده في غار حراء أيضاً، ولذلك لم ينقطع الوحي الإلهي عن النبي بعد زواجه. إنما الشيء المهم في البين هو أن نتمكن من إدارة التكنولوجيا بحيث لا يضعف ارتباطنا الروحاني مع العالم المقدّس، ولا يتغلب الطابع التكنولوجي على طابعنا القدسي. فلو تعاطينا مع التكنولجيا بهذا الحذر، فإننا سنعمل في البداية على استخدامها بالمقدار الضروري، ثم نحدث تقنيةً تعمل على إبقائنا في متن الطبيعة وتساعدنا في الوقت نفسه على الحياة بشكلٍ رغيدٍ، لا أن نعمل على مواجهة الطبيعة ومحاربتها. وفي ظلّ هذه التكنولوجيا والحضارة لن تتأثر روح الإنسان بمساوئ وآفات التكنولوجيا، بل يمكن توظيف التكنولوجيا عندما نحسن استخدامها في تطوير وازدهار الحياة الإنسانية. وفي ظلّ هذه الرؤية تعد كلّ خطوةٍ ومجهودٍ يقوم به الإنسان سعياً نحو الغاية المعنوية والمقاصد الروحية. في حين أن التعاطي والتعامل بالتقنيات الجديدة تسلب الإنسان طاقته الروحية، وتبتليه بأنواع الاضطرابات، ومن هنا يقال أنّ الأجواء التكنولوجية الغربية تتعارض مع المعنويات.
إن ماهية هذه التقنية حيث لا تكون في صُلب الطبيعة، فإنها توشك على ارتكاب كارثةٍ في أيِّ لحظةٍ، وأنت بوصفك مهندساً عليك أن تتنبأ بوقوع الحادثة قبل أوانها، لتعمل بعد ذلك على رفعها، ومن هنا تكون بشكلٍ عام في اضطرابٍ دائمٍ، ولا يمكنك التركيز من الناحية الفكرية. بمعنى أنك ستخرج عن وحدتك التي تمثل وسيلة ارتباطك بالوحدة المطلقة.
إذا لم تكن خيارات الإنسان في تعاملٍ مع الطبيعة، وتكون تلك الخيارات كلاً على الطبيعة، فإنها ستمثل جثماناً ثقيلاً على روح الإنسان، بحيث تعيقه عن ممارسة وظائفه الأساسية. إن من أسباب اعتبار الشيخوخة في المرحلة الجديدة مساوِقةً للمرض أن المواجهة الدائمة مع الطبيعة سوف تؤدي بعد فترةٍ إلى عجز الإنسان عن إدارة الجسد، وسوف ينهار التناغم بين روح الإنسان وجسمه.
والخلاصة هي أن الحياة الدينية تعني أن ندرك أن الله الحكيم قد خلق العالم على أحسن شكل، كي يتمكن الإنسان من عبادة الله في متن الطبيعة، وإذا كان الدين وسيلةً ليقيم الناس ارتباطاً صحيحاً مع الكون والإنسان، فإنّ التقنية الجديدة والتكنولوجيا الحديثة ليست في خدمة الحياة الدينية، بل إنها تقف في مواجهة النظام الإلهي الحكيم، وعليه يجب ألاّ نتوقع من التكنولوجيا الحديثة ـ بشكل عام ـ أن تكون في خدمة الدين.
* هل يمكن أن يكون للتكنولوجيا المناسبة دورٌ في حضور الدين في المجتمع، وهل يمكن أن يكون من بين مهام ومسؤوليات علماء الدين إبداء الحساسية في ما يتعلق بأنواع الأدوات والوسائل المطروحة في المجتمع؟
- عندما نلتفت إلى أنّ كلّ ثقافةٍ تختار نوعاً من أنواع الحياة، وتصنع بعض الأدوات والوسائل بما يتناسب وذلك النوع من الحياة، يكون الجواب عن هذا السؤال بالإيجاب، ويتعيّن على العلماء عندها ـ حقياً ـ أن يحملوا هاجس المسؤولية الثقافية تجاه الوسائل والأدوات، كي لا تتعرّض دائرة ظهور الدين إلى الحرج، بل يُوجِد المجتمعُ ظروفَ وشروط التأسيس للدين في وجوده وكيانه. إذا كنت تعتبر الحياة مهلةً، فسوف تنتخب أداةً ووسيلةً خاصةً لتحقيق نتائج تلك المهلة، وإذا كنت تنظر إلى الحياة بوصفها مجرد فراغٍ، فسوف تختار نوعاً آخر من الأدوات لملء هذا الفراغ. هذه هي طبيعة الإنسان، فإنّه إن واجه فراغاً فإنه سيعمل على إمضاء الوقت ولن يسعى إلى الاستفادة من أوقات فراغه، وأما إذا كانت هناك مجرد مهلة، فإنه سيُحسن الاستفادة منها. هناك هدفٌ كامنٌ في مفهوم المهلة، حيث يجب العمل من أجل تحقيق هذا الهدف، ومن هنا فإن ذلك النوع من البيوت التي نبنيها على طِبق ثقافة إمضاء الأوقات يختلف عن نوع البيوت التي نبنيها من أجل تقوية العبودية في أيام المهلة. من الواضح أنّ نوع العمارة يتوقف على نوع الثقافة، وأنّ ثقافة المهلة تختلف عن ثقافة الفراغ. وإن التكنولوجيا الراهنة إنما هي لغرض إمضاء أوقات الفراغ، لا لتوظيفها بما يتناسب وأيام المهلة.
لقد تبلورت ثقافة عصر النهضة على أساس الاتجاه القائل: كيف يمكن لنا أن نواصل الحياة من دون دين؟ ضمن هذه الرؤية اتخذت الحياة معنًى آخر، ومن هنا ظهرت ثقافة إمضاء أوقات الفراغ في هذه الحياة الدنيا، وتم صنع أنواع التكنولوجيات تلبية لهذه الغاية. في هذه الثقافة تضمحل مشاعر الإنسان تجاه مسؤولياته الإلهية، وتقوى نزواته إلى إشباع غرائزه، ومن هنا فقد تقدم ذكرنا أن التكنولوجيا الغربية ليست وسيلةً حياديةً، وإنما هي تمثل تجسيداً لثقافةٍ تسعى إلى الاستيلاء على العالم في إطار إشباع أهوائها ونزواتها النفسية. وفي هذا الإطار لا بدّ من الالتفات إلى أن هذه الثقافة ـ خلافاً لما تدعي ـ ليست حياديةً تجاه الدين، ولذلك فإنّ التكنولوجيا المرتبطة بها لا تتمتع بالحيادية تجاه الدين أيضاً، بل تفرض نفسها على روح وجوهر كيان الأفراد بحيث تدفع بالدين ليبقى بعيداً وعلى هامش الحياة.
لا بدّ من الالتفات إلى أنّ تنمية هذا النوع من التكنولوجيا مقرونةٌ بالثقافة التي تتخذ موقف الإنكار للدين، وعليه كيف يمكن تصوّر ألاّ يكون لعلماء الدين ـ الذين يحملون هموم الدين ـ هاجسٌ وقلقٌ تجاه دور التكنولوجيا الغربية في تهميش الدين؟
لا شك في أننا لم ننس أنّ الإنسان في مرحلته التوحيدية المتقدمة حيث كان يروم تغيير نفسه ليكون جديراً بالقرب من الله، قد أخذ يعدّ الأدوات المناسبة لتلك الحياة في إطار تحقيق هذه الغاية. في حين تحوّل تصوّر الإنسان لنفسه في المرحلة الجديدة إلى ضرورة تغيير العالم بشكلٍ يتناسب مع أهوائه، وعمد إلى صنع وسائله الخاصة حيث لم يبقَ لتعالي البشر محلٌّ من الإعراب. في المرحلة التي غفل الإنسان عن ذاته الأصيلة وعن الله، وعدم اعتباره العالم مظهراً لحكمة الله وقدرته، بدأت التكنولوجيا الحديثة بالظهور، والثابت أن هذه التكنولوجيا هي غير التكنولوجيا البشرية التي ترى العالم مخلوقاً لله ومهداً لظهور حكمته، وتنظر إلى الطبيعة بوصفها منطلقاً للتعالي المعنوي، وبالتالي فإنّ الوسائل التي تصنعها لا تهدف إلى تغيير ذاته، ولا تصبّ في إطار الإيمان بالطبيعة التي صنعها خالقٌ حكيمٌ، وفي هذا السياق ظهرت وسائل ومعداتٌ مهولةٌ ساهمت في تحطيم الطبيعة. في صلب هذه التكنولوجيا تمّت الغفلة عن أمرين، الأمر الأول: الإنسان الذي يتعيّن عليه الوصول في مهلة الحياة على الأرض إلى الصعود الروحاني، والأمر الآخر: الله الذي خلق الطبيعة بوصفها مهداً لكمال الإنسان، ولذلك يجب عدم التوجه إلى محاربة الطبيعة، وإلا فإن الله سينتقم.
* يقال أنّ خصوصيّة التكنولوجيا الحديثة واختلافها عن الطبيعة تكمن في تعقيدها. وعليه نطرح السؤالين الآتيين:
أولاً: هل تكنولوجيا الحضارة الجديدة معقّدة، وإذا كانت كذلك، هل يعدّ تعقيدها امتيازاً لها؟
ثانياً: هل يمكن القول أن النظام الطبيعي بسيطٌ وسطحيٌّ بالقياس إلى التكنولوجيا الحديثة والمتطوّرة؟
- لا بدّ من الالتفات أولاً إلى أن التعقيد بمعنى الوهم غير التعقيد بمعنى الكمال. ومن نماذج ذلك أسلوب الأنبياء حيث كانوا يرسخون تعاليم الغيب في قلوب الناس بشكلٍ خاص، ويكشفون لهم عن أسرار ذلك العالم، لا أن يحبسوه في تضاعيف الدنيا. وكانت نتيجة هداية الأنبياء (عليهم السلام) تتجلى على شكل سير الإنسان نحو التضاعيف العميقة من وجوده، فيصل إلى مراحل الازدهار والكمال، وعليه يحتوي الإنسان ـ بهذا المعنى ـ على بعض التعقيدات، بيد أن الوصول إلى تلك التعقيدات يعد تكاملاً روحياً، في حين أن تعقيدات الدنيا بمعنى الخوض في أمور يفرضها على الدنيا بحسب أوهامه وأخيلته ستؤدي به إلى الذبول والانهيار.
وفي الحقيقة فإن التعالي نحو عالم الغيب ينطوي على حيرةٍ بحيث إنّ الروح في مواجهتها مع خالق العالم تقع في حيرةٍ بحيث تقول معها بكلّ وجودها: ( لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ ) [الشورى: 11]. في هذا النوع من الالتفات إلى العالم المتعالي، يمكن العثور على ملاذٍ آمنٍ للنفس وغاية أنسٍ للروح، وإن الإنسان يبحث في ذلك العالم عن وطنه الأصلي، في حين لا تعتري الإنسان مثل هذه الحالة عند المواجهة مع تعقيدات التكنولوجيا.
إنّ الإنسان الواهم يجلب على نفسه من الاحتياجات المتنوّعة بحيث يضطر معها إلى إعداد أنواعٍ مختلفةٍ ومتعددةٍ من الوسائل والأدوات من أجل الحصول عليها، علّه يحصل على ما يلبّي ذلك النوع من احتياجاته، وبذلك يعمل على توريط نفسه في أنواع الوسائل والأدوات المعقدة التي يحتاج التواصل معها إلى إنفاق الكثير من الوقت، ومن العجيب أن يعدّ إنفاق سنواتٍ من العمر من أجل الارتباط مع تلك الأدوات امتيازاً وكمالاً، لا خسارة. من ذلك على سبيل المثال أن ظهور الكمبيوتر في حياة الإنسان قد جاء معه بعددٍ هائلٍ من البرمجيات بحيث يحتاج التعامل معها إلى إنفاق الكثير من الأعوام من أجل التخطيط لمعرفة كيفية الارتباط بهذه الأجهزة والتعرّف على طرق معالجتها، في حين لم يحصل الإنسان من هذه الأجهزة على زيادةٍ في الكمال، وإنّما زاد من عدد التواضعات والمعلومات والأرقام لا أكثر. من ذلك ـ على سبيل المثال ـ إذا زاد عدد شوارع المدينة سوف نضطرّ إلى زيادة معلوماتنا بشأنها، ولكن يجب ألاّ نعد ذلك علماً وكمالاً حقيقياً. إن كثرة الأرقام والأعداد حبستنا ضمن جدرانٍ عاليةٍ من المعلومات، في حين أن علم الأنبياء بشكلٍ خاصٍ والمعارف الدينية بشكلٍ عامٍ ليست من هذا القبيل. إن هذا النوع من التعقيدات التي تعود في الغالب إلى كثرة الأمور المتوازية، يختلف عن تعقيدات أسرار عالم الغيب، وفي الحقيقة فإن هذا النوع من التعقيد إنما هو تعقيدٌ وهميٌّ وغيرُ حقيقيٍّ. وقد روي عن الإمام علي (عليه السلام) أنه قال: «العلم نقطة كثرها الجاهلون».
* ما هو شكل الدور الذي يلعبه الدين في مواجهة العالم الحديث؟
- في ما يتعلق بقبول الدين هناك ثلاث نقاطٍ يجب آخذها بنظر الاعتبار كي يتضح أيّ دينٍ يمكنه صيانة المتدينين من آفات الحداثة. النقطة الأولى: أن نتقبل الدين بوصفه وسيلةً وأداةً لرفع احتياجاتنا الدنيوية، وهذا النوع من التدين ما هو في الحقيقة إلا إدارة للدنيا، ولكنها إدارةٌ سليمةٌ للدنيا. النقطة الثانية: أن ننظر إلى الدين بوصفه حقيقةً متعاليةً، فنؤمن به من أجل الحصول على التعالي والتكامل الذي يمكن في ضوئه ممارسة السلوك السليم في الحياة الدنيا أيضاً. النقطة الثالثة: بعد اعتناق الدين من أجل التعالي والتكامل، نمهّد الأرضية لتوجيه الآخرين نحو الدين.
وبعد اعتناق الدين بشكلٍ جيّدٍ، وتوصُّلنا إلى تجزئةٍ وتحليلٍ صحيحٍ للثقافة الغربية، سيكون التعاطي مع مظاهر الثقافة الغربية منتجاً ومؤثّراً أيضاً. والجواب المنشود لنا عن هذا السؤال يكمن في كيفية انتقال المجتمع من روح الحداثة إلى الروح الدينية، وهي مسألة بالغة الدقة والحساسية. إذ ينبغي من جهةٍ الحفاظ على روح الدين إلى جانب ظاهر الدين، ومن ناحيةٍ أخرى فإنّ الانتقال من روح الحداثة يحتاج إلى بديلٍ مناسبٍ، ولا يمكن تحقيق ذلك بجرّةٍ من قلم، وإنما ينبغي توفير الأرضية للبديل المناسب بشكلٍ تدريجيٍّ، يبدأ من التربية والتعليم حتى يصل إلى الإنتاج والتصنيع، وعليه يجب توجيه المجتمع للخروج من جوهر العلمانية المهيمنة على التعليم والتصنيع وهدايته نحو المعنويات. إننا نحتاج إلى سنواتٍ من البرمجة والتخطيط كي نتمكن من بناء منظومةٍ تعليميةٍ نعرّف الإنسان من خلالها بوصفه خليفةَ الله، أو أن نحدث تصنيعاً يُنتج لنا ما نحتاجه في التعامل مع الطبيعة لا في مواجهتها. إذا أراد الدين أن تكون له كلمته مع أفراد المجتمع، وأن يمدّ لهم يد العون كي يتجاوزوا المشاكل، فعليه أن يأخذ جميع المستويات الإنسانية بنظر الاعتبار، وأن يحافظ على ارتباطه بأدوات العصر بنحوٍ من الأنحاء. من ذلك ـ على سبيل المثال ـ أنه لا يمكن القول للناس بأن عليهم أن يُبعدوا عن أذهانهم فكرة امتلاك البيوت الخاصة، وأنّ عليهم أن يشتركوا ـ كما في السابق ـ في السكن في منزلٍ واحدٍ من خلال الحفاظ على روح التآخي والتفاهم. وبطبيعة الحال يجب إيضاح ضعف هذا التصور القائل بأنّ الناس قد ابتلوا بالنزعة الفردانية، بيد أنه لا بدّ من تدارك هذا النقص في مساحةٍ جديدةٍ، لا من خلال العودة إلى الماضي؛ إذ لا يبدو ذلك عملياً في الوقت الراهن.
إن الناس يدركون الحقائق، وإن مجرّد إدراك الحقائق وتصوّرها يكفي في اعتبارها من الاحتياجات الضرورية، ثم السعي إلى تلبيتها. إن تكن هناك تكنولوجيا أو وسيلة تصوّر الناس أنهم يستطيعون بواسطتها حلّ مشكلةٍ محددةٍ من مشاكلهم فإنهم سوف يسعون إلى الحصول عليها. إن التصوّر والتصديق من الناحية الفلسفية ليسا من الأمور الاختيارية، وإنما العمل على طبق ذلك التصوّر هو الذي يدخل ضمن حدود اختيارات الإنسان. فعلى سبيل المثال عندما شاع استخدام الوسائط النقلية، كان تصور ركوب الحافلات والاستفادة من هذه التكنولوجيا لقطع المسافات الطويلة يخطر في أذهاننا لاإرادياً. فعندما حلّ تصور الحافلات وأدرك الفرد أن بإمكانه قطع المسافات الطويلة بواسطة الحافلات، لم يعد بإمكان أقدام الإنسان أن تحمله في قطع هذه المسافات.
وعليه فقد اتضح أنك لا تستطيع أن تمنع الناس من تصور الشيء الذي يمكن تصوره بوصفه حقيقةً خارجيةً، وعلى ذات المنوال لا يمكن منع الناس من تصوّر الذهاب إلى المناطق الراقية في المدن أو في الضواحي وبناء البيوت والقصور فيها والانتقال إليها بسرعةٍ فائقةٍ عبر استخدام الحافلات. فهذا التصور يحصل من تلقاء ذاته لأنه متحققٌ في الخارج. وبطبيعة الحال فإنّ هذا التحقق الخارجي مصحوبٌ بتبعاتٍ جانبيةٍ، من قبل الازدحام والاختناقات المرورية وما إلى ذلك. والآن بوصفك مديراً يجب عليه التخطيط للمجتمع والمحافظة عليه من السقوط في آفات الحداثة، هل يمكنك تجاهل حضور ظاهرة التنقل عبر الحافلات، والتخطيط بمعزلٍ عن هذه الثقافة؟ كلا قطعاً. ومن ناحيةٍ أخرى تدركون أن التكنولوجيا الغربية تحمل معها ثقافةً غربيةً، إذاً يمكن تجاوز التكنولوجيا الغربية عبر إبدالها بالتقنية المحلية والوطنية، حتى يتغلب بالتدريج تصوّر التقنية البديلة على تصور التقنية السابقة ويتجه الناس نحو التقنية الجديدة. وبطبيعة الحال فإن الناس إذا التفتوا إلى آفات هذا التصوّر وحسنات التصوّر الآخر، فإن عملية اختيارهم سوف تتمّ بشكلٍ أيسر. إن دور الدين يتمثل في توجيه الأنفس إلى التقنية التي تنسجم مع فطرة الإنسان وروح الطبيعة.
إن نظرة الذين يمثلون المرجعية العلمية والعملية للناس إلى الظواهر، هي بحيث يستشعرون التكليف والمسؤولية تجاه كيفية إيضاح وظيفة جمع المسلمين مع هذه الظواهر في هذا العصر، بحيث يتمكنون من العيش في العالم الحديث ضمن رعاية الأصول الإسلامية. إنك بوصفك شخصاً واحداً قد تستطيع التخلي عن الكثير من الظواهر الحديثة، ولكنك لا تستطيع فرض هذه الرؤية على جميع المسلمين. إن عامة الناس بحيث إذا قيل لهم: حيث إن التكنولوجيا الغربية مقرونةٌ بالثقافة الغربية، فإنها سوف تصدّكم عن الإسلام، وعليه يجب عليكم عدم استخدام التكنولوجيا الغربية، سيتنكرون للإسلام. إذ لا يسعهم تصور التكنولوجيات الحديثة وسهولة استخدامها، ويتمكنون مع ذلك من التخلي عنها.
يتم في الأبحاث الفلسفية تناول موضوع بعنوان (الفاعل بالعناية)، بمعنى أن تصور عمل في بعض الأحيان يعمل من تلقاء ذاته على توجيه الأفراد والتأثير عليهم، بحيث إن تصور ركوب الحافلة بوصفه (فاعلاً بالعناية) يعمل على كبح أقدام الإنسان التي نالها التعب والإعياء، ويعمل على توجيهها وحملها على مواصلة الطريق بواسطة استخدام الحافلة. إن سبب استسلام الإنسان للتعب يكمن في تصوّر وتخيل الحافلة التي يمكنه مواصلة بقية الطريق بواسطتها، ولهذا السبب لا يمكنهم حمل أرجلهم على مواصلة الطريق مشياً ودون الاستعانة بواسطةٍ أخرى تحمل عنهم العناء والتعب. عندما يمتلك الإنسان تصور الانتقال عبر الحافلة، لا يمكنه في الوقت نفسه أن يحافظ على إرادة الانتقال عبر المشي على قدميه.
يقال في مورد (الفاعل بالعناية) ودور التصور في إصدار الأمر إلى الأعضاء: يمكن تصور شخصٍ يمشي على جدارٍ مرتفعٍ بعرض مسطرة. إن إمكان سقوط هذا الشخص وأن تزلّ قدمه أكثر مما لو كان يمشي على الأرض عبر مجاز بالعرض نفسه، والسبب في ذلك يعود إلى أنّ دور الخيال وتصوّر السقوط في الحالة الأولى دورٌ فعالٌ للغاية، حيث يشتد تصور السقوط لدى الشخص بحيث قد يتحول هذا التصور في الذهن كلّ لحظةٍ إلى حقيقةٍ، حتى يصدر الذهن أمراً إلى الجسم بالسقوط فعلاً، فيسقط حقيقة. في سياق هذا النوع من السقوط الذي يتحقق أولاً هو تخيل السقوط، ثم يتحقق السقوط ثانياً، بمعنى أن علة السقوط هي تخيّل السقوط، لا شيء آخرُ. لأن تصور السقوط يضعف من قدر عضلات الأرجل والأقدام على التماسك، وبعد ذلك تقوم العضلات بعملٍ يتناسب مع السقوط، ويحدث السقوط بالفعل. وهنا يتبلور تصور السقوط أولاً في خيال الشخص، وعليه فإن علة السقوط أو فاعل السقوط هنا هي العناية، بمعنى أنه اعتنى بالسقوط فسقط، وكانت هذه العناية هي العلة والفاعل في السقوط.
عندما ندرك دور الفاعل بالعناية ودور التصور في الإرادات، عندها لن نتوقع أن تقوم لدى الناس إرادةٌ وسلوكٌ على خلاف تصوراتهم. إنني مدركٌ لإمكان السيطرة على الخيال والتصوّر، ولكن لا ينبغي توقع ذلك من الناس. لأن الناس يتصوّرون ويستشعرون دور التكنولوجيا في العالم الحديث بكلّ وجودهم ويأخذون هذا الدور بجديّةٍ كاملةٍ، وقد جاء الدين لكي يأخذ بيد الناس ـ على ما هم عليه من الخصائص ـ نحو السعادة. وفي هذا الإطار يفتح الفقه الشيعي مكاناً لأبسط تصوّرات الإنسان ويعمل على تلبيتها والاستجابة لها. إن قادة العلم والعمل في المجتمع يتعاملون مع الناس بمقدار عقولهم، كي يأخذوا بأيديهم تدريجياً إلى دائرة التوحيد، ويعملوا على تحريرهم من الهيمنة المفرطة عليهم من قبل الوسائل التكنولوجية.
إنّ إدراك الآثار والتبعات السلبية للتكنولوجيا الغربية يحتاج إلى بصيرةٍ يتم طرحها بعنوان (الوعي الذاتي)، إن الوعي الذاتي شيءٌ يفوق الوعي، إذ في الوعي الذاتي يكمن نوعٌ من العزم والإرادة، وعندما نلتفت إلى التداعيات السلبية المترتبة على التكنولوجيا الغربية على مستوى الوعي الذاتي، سوف نُخطط من أجل تجاوز هذه التداعيات. وفي هذا الإطار يتجلى دور الدين الإسلامي ولا سيما التشيّع بشكلٍ خاصٍّ.
مصدر الحوار: مستل من كتاب (علل تزلزل تمدن غرب) لكاتبه أصغر طاهر زاده.
ـ تعريب: حسن علي مطر الهاشمي.