لم تبدأ التقنيّة وتأخذ سلطانها على العالم، والعالم الغربي بخاصة، في المرحلة المتأخّرة من تطوّرات الحداثة. بل تمتدّ جذورها إلى بدايات العصر الميكانيكي في القرن الخامس عشر. غير أنّ تطوّر الحضارة الغربيّة سيمرّ بسلسلةٍ من المراحل انتهت اليوم إلى هيمنة التقنيّة على الحضارة المعاصرة، وما يترتّب على ذلك من تداعياتٍ مدمّرةٍ لأنظمة القيم.
يأتي هذا الحوار مع الباحث اللبناني وأستاذ لغة الكمبيوتر في الجامعة اللبنانية الدكتور غسان مراد، ليضيء على هذه القضيّة.
وفي ما يلي وقائع الحوار:
«المحرّر»
يروي المؤرّخون أنّ التاريخ البشري مرَّ بأربع مراحل في حقل تكنولوجيا المعلومات:
الأولى: المرحلة ما قبل الميكانيكية (بين 3000ق.م. وحتى العام 1450 بعد الميلاد).
الثانية: المرحلة الميكانيكية (1840-1450م).
الثالثة: المرحلة الإلكتروميكانيكية أو ما سُمِي بـ «الأتمتة» (1940-1840م).
الرابعة: المرحلة التكنو-إلكترونية (1940- وحتى هذه اللحظة).
* هل قدر البشرية المحتوم المرور بهذه المراحل، بما يعني أنّ الغرب الذي ورث كلّ هذه المراحل أخذ بالأسباب التي ستمكّنه اليوم من السيطرة على عالم المعلوماتية والتحكّم به؟
- هذه المراحل التي مرّ بها التاريخ البشري في ما يتعلق بتكنولوجيا المعلومات، أدّت إلى ثورات معرفيّةٍ، ولا يمكن فصلها عن التطوّرات التي حصلت في أدوات تمثيل المعرفة الإنسانيّة.
هذه التغيّرات في أساليب حياة البشر أدّت إلى تغيراتٍ ذهنيّةٍ في سلوكيّة الأفراد، ثم في «سلوكيات المجتمعات»، إذا جاز التعبير. مرّ العالم بأربع مراحل أدّت إلى 4 ثورات معرفيّة: الثورة الأولى كانت بناء اللّغة، أي عندما بدأ الانسان بوضع معانٍ للأصوات المختلفة، ما أدّى إلى وضع أولى معايير التواصل بين البشر، والتي أسّست لبناء قواعد لممارسة التخاطب البشري في حينه. أما الثورة المعرفية الثانية، فهي ثورة الكتابة، عندما بدأ الإنسان يدوّن أفكاره من خلال الصور أو المنحوتات على الأحجار أو الكتابات المختلفة، المسمارية والهيروغليفية، وبعدها الكتابات الألفبائية.
هذا التدوين كان له تأثير في وضع معايير لاستخدام اللغة كتابياً، وليس للتواصل فحسب، ثم وضع معايير لتقعيد اللغة. وفي النهاية، بدأ الإنسان باستخدام الذاكرة (الخارجية) لتدوين الفكر البشري بعد أن كان فكراً يُتناقل شفهياً.
إنّ الكتابة بطبيعتها معياريّة، وهذه المعياريّة في الكتابة لا يمكن أن تستثمر إلا بوضع قواعد تُساعد على القراءة والفهم والتفسير وتبادل المعلومات والنصوص، وهو ما أدّى إلى بروز الفلسفة كعلمٍ له مدارسه الفكريّة المختلفة وله دارسوه. ولا شكّ في أنّ الفلسفة التي بُنيت في حينه كان للكتابة دور فيها، من خلال استخدام العلاقات والروابط البلاغية التي أدّت إلى بروز منطق القضايا، التي أدّت دوراً لاحقاً في بناء القواعد المنطقيّة لترابط أجزاء النص، والتي استخدمت لاحقاً في الخوارزميات التي تعالج المعلومات والنصوص من خلال المعلوماتية والحاسوب.
أمّا الثورة المعرفية الثالثة، فكانت ثورة الطباعة التي غيّرت أساليب الكتابة، أي أساليب تمثيل المعرفة الإنسانية، فقد تحوّل العديد من النسّاخين إلى العمل في الطباعة، وتقلص بذلك دورهم الذي كانوا يُمارسونه، نظراً إلى تواجد قلّة ممن يجيدون القراءة والكتابة، ما أعطاهم سلطة في حينه. كما أنّ إمكانية انتشار المطبوع أدّت إلى نوع من ديمقراطية المعرفة، وازداد عدد الملمين بالقراءة، ما دفع الكتابة إلى أن تكون معيارية أكثر، وهو ما أدّى إلى وضع معايير ثابتة لعلامات الترقيم والتنقيط؛ لأنّ القراءة لم تعد مقتصرة على بعض القرّاء، بل باتت منتشرة بكثرة. هذه العلامات تساعد في تحديد أجزاء النصوص، ما يساعد في عملية القراءة والفهم والتفسير والحفظ. وكذلك انتقلت القراءة من القراءة الجهورية إلى القراءة الصامتة، وبات لهذه العلامات معانٍ موجودة، ولكنها مضمرة ومسكوت عنها. في الحقبات المتعددة، كان للعرب الفضل الكبير في إرساء العلوم على أنواعها ونقلها إلى العالم وترجمتها. والدور الكبير في عالم تقنيات المعلومات وتطورها كان للعالم أبو موسى الخوارزمي، الذي أنشأ علم الخوارزميات، والذي أسس لكل ما هو حاصل حالياً في عالم البرمجيات، كما أنّ الذاكرة الإنسانية للمعرفة باتت منتشرة من خلال سهولة الطبع والتوزيع للنصوص نفسها بالمعايير والأشكال نفسها.
حالياً، نحن في مرحلة الثورة الرابعة من الثورة المعرفية؛ ثورة التطور في الإلكترونيات وصناعة الترانزيستور الذي أدّى إلى صناعة الدوائر الإلكترونية المستخدمة في الحواسب كافة. وهذا التطوّر في الفيزياء، وفي عالم الإلكترون، وفي القواعد في الرياضيات التي بنيت عليها الخوارزميات، ساعد في الانتقال من ثورة الطباعة إلى ثورة الرقمنة. وكما الثورات الثلاث السابقة للكتابة، كان للقراءة الدور الأكبر في التغيّرات المعرفيّة، فبما أنّ القراءة والكتابة وسهولة انتشارها تغيّرت، كان لا بدّ من تغيير أساليب اكتساب المعرفة وتمثيلها.
لم تعد الذاكرة المطبوعة هي الأساس، فقد أصبحت متعدّدة الوسائط وعلى شرائح إلكترونية، وصارت سهلة التعديل والتغيير والنشر. هذا أوّلاً، ثم جاءت الثورة داخل الثورة، وباتت المعلومات متشابكة في ما بينها من خلال العلاقات التشعبية وترابط النصوص والوثائق، فبعد أن كانت الشبكة علاقة بين الحاسوب باتت ترابطاً بين المعلومات والنصوص، فالإنترنت ليس شبكة حواسيب بقدر ما هو شبكة معلومات. وبذلك، باتت الذاكرة الإنسانية متحركة وغير ثابتة، وبات النص ديناميكياً بعد أن كان استاتيكياً، وباتت القراءة انتقائية بعد أن كانت خطية. وهذه التغيرات وغيرها أدّت إلى أننا أصبحنا في مرحلة تتطلب إعادة النّظر في السلطات كافة؛ السلطة التربوية، والسلطة السياسية، والسلطة الاجتماعية، والسلطة الاقتصادية.
كل هذا التطوّر الذي حصل خلال المراحل المتعدّدة، استطاع الغرب بعد الحرب العالمية الثانية أن يستثمره، وخصوصاً أنّه كان يستعمر العديد من الدول التي تملك المعرفة، ولكنّها لا تملك أدوات الاستفادة منها، فاستطاع بناء مستعمرات اقتصاديّة متعدّدة الجنسيات، تستغلّ الإنتاجات المعرفيّة العالميّة وتسوّقها إلى العالم، ما أعطاها سلطة جراء استغلال سلطة المعرفة؛ سلطة تحاول أن تستثمرها أكثر في تسيير حياة البشر كما تراه مناسباً، من خلال الخوارزميات المختلفة التي تتحكم حالياً بنشر المعلومات بحسب ما تراه مناسباً، وليس بحسب ما يناسب المستخدم.
* مع نهاية القرن العشرين، طرأ تحوّل كبير على نظام القيم العالمي بسبب السبيرنيطيقا وتقنيات التواصل، هل لكم في مستهل حديثنا أن تضعونا في المعالم الإجمالية لصورة هذا التحول؟
-بعد أن باتت شبكة المعلومات (الإنترنت) عامّة مستخدمة من الجميع، وليست حكراً على المؤسّسة العسكرية الأميركية وعلى الجامعات، وبعد أن انتقلنا من ترابط الشبكات المعلوماتية الخاصة داخل المؤسّسات التي كان لها معاييرها الخاصّة إلى الشبكات العالميّة التي تستخدم معياراً موحداً، وبعد التحوّل الذي حصل في عالم الإنترنت والانتقال مما نسميه الويب 1 إلى الويب 2، الذي لا يسمح بالتواصل من شخص إلى مجموعة وتلقي المعلومات فحسب، بل بات المستخدم مشاركاً في المعلومات أيضاً، وأصبحت النّصوص متاحة للجميع، وأصبح كلّ فرد مشاركاً في القراءة وفي الكتابة، ما أدّى إلى سهولة في التعبير، مهما كان النص وجودته معنى وتركيباً.
وبذلك، ازداد الاطّلاع على الثقافات المختلفة، ما أدّى إلى تغيّراتٍ في منظومة القيم العالميّة، فكما نعلم إن التقنيات الرقميّة هي صنيعة مؤسّسات غربية في مجملها، وموجودة تحت سلطة رقابية غربية أيضاً، توجّهها طوعاً حيناً، ومجبرةً أحياناً؛ لنشر الأفكار التي تناسب الغرب.
هذا النّشر الكثيف الذي يتعرّض له الأفراد على مدار الساعات والأيام والسنوات، يؤدّي حتماً إلى تغيّرات في سلوكيتهم، وبالتالي إلى تغيّرات في تبني سلوكيات ليست بالضرورة مناسبة للقيم الأخلاقية السائدة في مجتمع معين، فما يُصنع للغرب ليس بالضرورة مناسباً للشرق.
هذا التّحوّل في التقنيات يؤدّي، كما ذكرنا، إلى البحث عن أدواتٍ معرفيةٍ تتناسب معه، شرط أن يكون مناسباً للسياق الاجتماعي، وإلا تضيع بوصلة الأفراد، فالتحوّل في الوثاثق، وفي الشبكات الاجتماعية، وفي آليات التواصل، وفي تطور تقنيات الذكاء الاصطناعي وغيرها، لها تبعات على مستوى المجتمعات والأفراد، لا تكون بالضرورة مناسبة لمعايير المجتمعات وأخلاقياتها، ما يؤدّي في أغلب الأحيان إلى رفض التقنيات، ويطرح أسئلة حول صورة المجتمعات المسبقبلية التي من الممكن أن تكون مدمرة لهوية الفرد، إذا لم نكن محترسين في التعامل مع الحاسوب والشبكة.
العالم اليوم بات رقمياً عندما تخطى حالات عدّة: «فك» المعلومة عن حامل المعلومة، وإدخال التفاعلية الرقمية كعنصر من عناصر التواصل، وبناء مفاهيم رقمية جديدة، وأخيراً إعطاء القوة والسرعة لتنفيذ التطبيقات من خلال قوة الخوارزميات وفاعليتها.
يبقى أنّ التوجس الحاصل من الرقمنة يكمن في المجالات الثقافية، وفي تهديد الملكية الفكرية، والتخبط في فهم الممارسات الاجتماعية. وبشكل عام، الإنترنت يعكس رؤى فلسفيّة عدّة، وخدمات جديدة، وعلاقات جديدة، وإدارات جديدة، ومعاملات جديدة، وتربية جديدة... هذا التجديد بحاجة إلى طرح تساؤلات حول السلطات بشكل عام، كما ذكرنا، والرؤية الفلسفية للسلطات كافة.
* إلى أي مدى كان للغة الحاسوب الإلكتروني دورٌ في إحداث هذا الانقلاب القيمي والمعرفي في مجتمعاتنا العربية والإسلامية؟
- حتى شهر آب (أغسطس) 2019، حسب موقع W3techs.com، يأتي المحتوى الرقمي العربي بالمرتبة 17 بين اللغات الحاضرة على شبكة الانترنت بنسبة 0،6 عالمياً، بعد أن كان يأتي في المرتبة 9 بين اللغات إي بنسبة 1.6 في جانفي 2011.
يوجد حتى آخر آب (أغسطس) 2020 ما يقارب 4.75 بليون مستخدم في العالم، ويبلغ عدد المواقع على الشبكة 1795000000، وعدد مستخدمي الفيسبوك ما يقارب 24000000،... اما في العالم العربي فإنّ مستخدمي الانترنت بلغ 175000000 مستخدم، فيهم ما يقارب 17000000 يستخدمون الفيسبوك.
ولكن بالرغم من النسبة العالية للاستخدام، هل انتقلنا فعلياً إلى ثقافة التقنيات على مستوى المجتمعات العربية؟ الجواب لا. ما زلنا مستهلكين للتقنيات كما نستهلك «الفاست فوود». لم تستوطن حتى الآن التقنيات في مجتمعاتنا كما يفترض بها، وهو ما يتعلق بأسباب عدّة: عدم وجود الإرادة على مستوى السلطات الحاكمة، على الرغم من كل الخطابات والدعوات لذلك، فالخطابات ما زالت ديماغوجية، والكلمات ليست إلا كلمات... فالتحوّل الرّقمي بحاجة إلى بنيةٍ تحتيّةٍ بشريّةٍ وتقنيّةٍ؛ لكي يصبح واقعاً من الممكن الركون إليه.
بعض دول الخليج العربي التي تملك الإمكانيات المادية استطاعت أن تضع التحوّل الرقمي على السكّة الصحيحة على مستوى المعاملات الإدارية، وهو أمر جيد، ولكن من المفترض، لكي يتم الانتقال بشكله الصحيح، العمل على بناء الفرد المحترس في استخدام التقنيات، وهو ما لا يمكن أن يتم إلا بتمكين الفرد تربوياً أولاً وأخيراً. وعندما أقول تربوياً، فمعناه من قبل الإدارات والأهل والمدارس.
* هل هذا يعني أن تقنيات التواصل الاجتماعي باتت تشكّل سلطةً معرفيّةً تستطيع أن تهيمن على الوعي وتعيد تشكيله من جديد؟
-التقنيات ليست سلطة، ولكن الاستفادة من استخدام التقنيات يشكّل سلطة. السّلطة المعرفيّة تأتي من كيفيّة استثمار التقنيات، وليس من كيفية استخدامها فقط، وهذا يتعلق بالسؤال السابق.
علينا بناء مهارات عند الأفراد والمجتمعات وتأمين ما يلزمنا من متطلبات؛ كي نعبر إلى الإنسانيّة الرقميّة بشكلٍ لا لبس فيه، وإلا يبقى الغرب مسيطراً تقنياً، وبالتالي معرفياً، ما يؤدّي إلى الاستغلال، وإلى سهولة في ممارسة سلطته على مجتمعاتنا، وممارسة الرقابة على الأفراد وعلى المجتمعات العربية. وللإشارة، فإنّ بناء حضارة جديدة تعتمد على الرمز المعلوماتي، وتضعنا في بيئةٍ رقميةٍ تؤدي إلى تغيّرٍ في المبادئ، وتغيّرٍ في القواعد، وتغيّرٍ في العادات، وهي إذ لم تؤخذ على محمل الجدّ ستؤدي إلى تحكّم الآلات بحياة الأفراد.
* يبدو مما قدَّمتموه وكأنّ التقنيّة الغربية تسير إلى غايتها الكارثيّة بخطى سريعة، وهي تصنع إنساناً على شاكلتها، أو ما ندعوه الإنسان التقني؟
-لا إنسانيّة لدى مصنعي التقنيات. هذا المصطلح غير مستخدم. وإذا استخدم، فإنّه يكون بشكلٍ ديماغوجي. عندما نتطلّع إلى ما يحصل في البلدان الأوروبية، نرى أنّ الفجوة المعرفيّة موجودة فيها بشكلٍ أفقيٍّ بين شرائح المجتمع؛ بين الفقراء والأغنياء، بين من يملك أدوات المعرفة الرقميّة ومن لا يستطيع أن يحصل عليها أوّلاً، ثم جراء الكانتونات المتعدّدة المهمّشة في أغلبها، وفيها تكثر السرقات والمشاكل الاجتماعية وغيرها... كما توجد عدم المساواة في الاستخدام.
إنّ التفاوت الرقمي لا يقتصر على المؤشّرات التي نذكرها دائماً: بنية تحتيّة، أدوات، أجهزة، إمكانيّة التواصل والتشبيك... التفاوت الرقمي معقد أكثر من ذلك، فهو يظهر ويتبين من خلال كيفية الاستخدامات الناتجة من التفاوت الاجتماعي أو من عدم المساواة الاجتماعية، وعدم الاستخدام من جهة، أو من خلال الاستخدام «الفقير» الذي يقتصر فقط على تصفح الويب واستهلال المعلومات واستخدام الأدوات للتواصل، وكأنّ الإنترنت بديل من الهاتف.
التفاوت المعرفي متعلّق بالاستبعاد الرقمي، الذي يعدّ شكلاً من أشكال التفاوت الرقمي، وهو يأتي أيضاً من الهيكلية المالكة للتقنيات، ومن الاستخدام المفروض داخل المؤسّسات. هذا التفاوت يعتبر حالة من حالات التفاوت الاجتماعي، ومن أساليب الحياة والتعليم.
ثمة فرق بين من يعتبر الإنترنت وسيلة للمعرفة ومن يعتبرها وسيلة كمهارات للتقدم في العمل. يأتي استخدام الإنترنت كتعويض عن نقص في ممارسة الأمور الثقافية والعلاقات وجهاً لوجه، كاستخدام التقنيات للهروب من الواقع ولفتح مساحة خاصة... فاستهلاك الإنترنت لا يجري بالطريقة نفسها عند من هم متعلمون ومن هم غير متعلمين. التفاوت الاجتماعي هو أساس التفاوت الرقمي، وهو يعمق هذا التفاوت من النواحي الإدراكية، والمادية، والاجتماعية، والتجهيزية، والمعلوماتية، والاستراتيجية.
* بإزاء هذه الوضعيّة الاستثنائيّة، نجد أنفسنا في العالم الإسلامي أمام تحدياتٍ تاريخيّةٍ وحضاريّةٍ مفصليّة، أبرزها كيفيّة مواجهة التغريب القيمي الذي يجتاح مجتمعاتنا. ما الذي ترونه حيال هذه التحديات؟
- التقنيات موجودة، وعلينا التعامل معها على أساس أنّها موجودة، فرفضها لا يساعدنا، وعدم فهمها لا يساعدنا أيضاً. لذلك، نحن بحاجة إلى البحث عن رموز تعبيرية واجتماعية وثقافية تتناسب مع هذا التغير. من هنا، يتحتم علينا إدخال التقنيات إلى المجالات كافة، وخصوصاً اللغة، التي تعد الوسيلة الأولى للتعبير. هل اللغة العربية قابلة لذلك؟ هل هي قابلة لتكون داعمة للثقافة العربية؟
بالطبع نعم، فهي نظام مؤلف من رموز صوتية وكتابية، ومجموعة من القواعد التي تحدد كيفية التركيب والاستخدام الصحيح للتركيب اللغوي والنصي في السياقات كافة، وهي أداة لتمثيل المعرفة الناتجة من حركة الفكر.
وعندما يعبر الناس في ما بينهم، يقوم العقل بتمثيل المعرفة من خلال هذه الرموز. هذا بالنسبة إلى الإنسان. أما بالنسبة إلى مواكبتها للذكاء الاصطناعي، فاللغة العربية تملك كل ما هو مطلوب، ومن الممكن من خلال ذلك بناء تطبيقات تحاكي هذه الآلية المعتبرة ذكية في بناء تطبيقات تساعد الإنسان في التعامل مع المعلومات باللغة العربية بشكل عصري، كالبحث عن المعلومات، والترجمة الآلية منها وإليها، ورقمنة النصوص ونشرها باللغات كافة...
هذه الآليات تساعد على انتشار الثقافة العربية... ولا تبقى ضمن نطاق تلقي باقي اللغات التي تفرض علينا مصطلحاتها، وبالتالي مفاهيمها التي تبدأ بالتقنيات، لكونها المستخدمة؛ لأنّنا بحاجةٍ إلى فهم الأجهزة، ثم ننتقل إلى المصطلحات الثقافية ونتبناها، ونتبنى بالتالي المفاهيم الخارجة عن سياق مجتمعاتنا؛ لأنّ هذه التقنيات ولدت في سياقات اجتماعيّة مختلفة.
كما لا يُمكن الحفاظ على التّراث والقيم والدين وكلّ ما نملك وننتج من مكتسباتٍ حضاريّةٍ خلال العقود المنصرمة من دون استخدام اللغة العربيّة. لا يمكن الحفاظ على الثقافة والقيم والهوية بلغة الغير، وهذا لا يعني عدم إتقان اللغات الأجنبية، بل العكس، فعلينا تعلم اللغات كافة وتعليمها، ولكن أن نتعلمها من أجل فهم لغتنا وهويتنا، وليس من أجل تقليد الآخر وتبني ثقافة الآخر خارج هذا السياق. إنّ اللغات الأجنبية تفيد الباحث الفرد وبعض المجموعات، ولكنها لا تفيد على مستوى الأمة.
كما لا يمكن أن تتطور آليات النقد خارج نطاق تطور اللغة. وعندما أقول تطور اللغة فذلك يعني مواكبتها للتغيرات الرقمية، تقنياً جراء بناء برمجيات لمعالجتها آلياً بالاعتماد على حوسبة اللغة، ثم من خلال تطوير الأدوات التي تسمح بإغناء المحتوى الرقمي العربي.
لهذا، ولفهم الآخر، علينا البحث عن نظريات جديدة في اللسانيات تتناسب مع تعلم اللغة العربية وتعليمها لغير الناطقين بها، وبناء منصات تعليمية للغة العربية، فالتغيير في طرق الكتابة والتغيير في طرق القراءة، أعطى نظرة جديدة للنصوص، وأدّى إلى ملاحظة ظواهر لغويّة جديدة لم تكن مأخوذة بالاعتبار سابقاً، فرقمنة الإنتاج العربي القديم والحديث بحاجة إلى برمجيات تتعامل مع هذا النّوع من التساؤلات.
نحن في مرحلة حساب كلّ شيء، بما فيها الإنسان، فالتقنيات حوّلت الإنسان إلى رقم كباقي الأرقام. كل ما يدور حوله وكل ما يقوم به يتعلق بالإحصاء. هذا الانتقال مرتبط بكوننا انتقلنا من تمثيل المعرفة من خلال الرموز والإشارات التناظرية إلى تمثيل المعرفة بإشاراتٍ رقميّةٍ.
استطراداً، إنّ فهم الآخر لا يمكن أن يتمّ إلا إذا كنّا مواكبين لما يحصل، ليس عن طريق البلاغة والخطاب، بل عن طريق الانتقال إلى الابتكار في العلوم والرقمنة، فأسس التنمية ترتبط بثلاثة أمور أساسية: التعليم والتعلّم، اللغة الأم واللغات الأجنبية، والتعريب.
إنّ توفّر المعلومات باللّغة الأم يسهل التّعامل معها، كما أنّ فهم ما يحصل يحتّم علينا التعريب، وترجمة المصطلحات والمفاهيم، واستخدام اللّغة العربية في المجالات كافّة، والخروج من مقولة أنّ المصطلحات وترجمتها أو تعربيها مشكلة، فلا مشكلة في التعريب أو في اللغة العربية، بل المشكلة في من يستخدم اللغة العربية ويتكلم بها. كما يجب تعليم اللغة العربية، كما من المفترض أن تكون بناء على عصرنة اللغة... والارتكاز على الأبحاث العلمية وترجمتها.
* في ظلّ هذا المناخ المعقّد، يجري الكلام الآن على التأسيس لعلم الاستغراب، وهو العلم الذي يُقصد في وجهٍ من وجوهه إنشاء منهج يقوم على فهم الغرب كأطروحةٍ حضاريّةٍ، وعلى نقده في الوقت نفسه، والسؤال: هل يدخل نقد عصر التقنية كمحور من محاور التأسيس لهذا العلم؟
- إذا اعتبرنا وسلّمنا أنّنا في مرحلة الحتميّة التقنيّة، أي أنّ التقنيات هي المسبّب الأوّل للتغيير، وأنّنا في مرحلة الإنسانيّة الرقميّة. إذاً، لا يمكن فهم الغرب ونقده من دون فهم أدواته المعرفيّة، فالإنسانيّة الرقميّة ليست موجهة إلى فئة أو مجتمع معيّن، بل هي عامّة، وتتعلّق بكلّ مجتمع، وبمدى فهمه لها.
لهذا أقول إنّ دور التقنيات أساسي، ولا تطوّر خارج التقنيات. ومن المفترض العودة إلى العلوم الإنسانية، ولكن ليس كما هي عليه الآن، بل إلى الإنسانيات الرقميّة، الّتي هي تطور في العلوم الإنسانية.
ولفهم العالم، بما فيه الغرب، علينا أن نفهم أين نحن من العلوم الإنسانية، هل علينا كتابة التاريخ بشكل مختلف بناء على تحليل الوقائع التاريخية من جديد، لكتابة التاريخ الّذي شوّهه الغرب من خلال التقنيات؟ مثلاً، هل علينا القيام بحملات منظمة لتبيان أن الخارطة الفلسطينية ما قبل الاحتلال هي كل الأرض، وليس فقط ما يبرزه لنا «غوغل ماب»؟ كيف سنكتب الجغرافيا؟ هل سنرتكز فقط على ما يرسمه لنا الغرب، بل علينا أيضاً أن نبيّن أين الخطأ في المكان، وأين الصواب، من خلال الحملات الفعلية المؤسّساتية، وليس من خلال الجمعيات التي يستمد أكثرها أمواله من الغرب!
كيف سنؤسّس لعلم اجتماع عربي لدراسة المجتمعات العربية بناء على نظريات عربية تتركز على مراقبة المجتمعات العربية، وليس بناءً على إسقاطات لنظريات غربية، على الرغم من علميتها، وعلى الرغم من عمومية العلوم وموضوعيتها، فإنّ الدراسات الأجنبية –الغربية جرى وضعها بحسب ملاحظة المجتمعات الغربية التي بنيت عليها؟
كيف سندرس نفسيّة الأفراد في مجتمعاتنا بناء على مراقبة الأفراد في مجتمعاتنا، وليس بحسب إسقاط نظريات غربية في علم النفس كان للثقافة الغربية أثرٌ في وضعها؟ كيف سنبني علوم اللسانيات العربية بناءً على مراقبة المدونات العربية، وليس فقط من خلال إسقاطات نظريات لسانية غربية كان للعرب أساس في وضعها سابقاً، لو عرفنا كيف «نبحث عنها» في أمهات الكتب في علم التراكيب وعلوم الدلالة والفقة اللغوي؟
كيف سنبني نصوصاً أدبيّةً باللّغة العربية تتناسب مع الرقمنة شكلاً وإخراجاً ومضموناً، من خلال استخدام الأدوات والتطبيقات التي تسمح بذلك؟
لفهم الغرب، علينا فهم الذات وتطويرها. هذا التّطوّر يأتي إذا طوّعنا القوى الدافعة لاقتصاد المعرفة لمصلحة الاقتصاد المحلي. وبذلك تساهم هذه القوى في التغيير، فالأسواق المفتوحة والمؤسّسات المتعدّدة الجنسيات ترتكز الآن على هذه البيانات الرقمية... أكثر من 70% من القوى العاملة حالياً تعمل بالمعلومات، وهذه الشبكات تلبي الحاجات الاقتصادية، من خلال فتح الحدود.
هذا التلاشي للحدود والانفتاح العام أدّى إلى الانفتاح على الثقافات الأخرى. وكما أنّ المنافسة اقتصاديّة، من خلال قوة التأثير الاقتصادي، علينا المنافسة أيضاً من الناحية الاقتصادية، من خلال زيادة الكفاءات الرقميّة عند الشباب وعند القوى العاملة، وهو ما يتعلّق باكتساب المعرفة؛ معرفة الأسباب من خلال فهم الظوهر الطبيعية، ومعرفة كيفيّة فهمها، من خلال إرساء ثقافة الخبرة في التنفيذ، ومعرفة الخبراء في المجالات التي يستطيعون القيام بالعمل فيها، والمعرفة التعليميّة، والمعرفة التطبيقيّة، فاقتصاد المعرفة يعتمد على نشر المعلومات وتوليدها، والمجتمعات التي لا تواكب التشبيك للمعرفة ستتأخر عن مواكبة الاقتصاد.
نحن في مرحلة الإبداع والتجديد في المجالات كافّة. باختصار، إنّ مجالات المعرفة المنتجة هي أوّلاً توليد للمعرفة، ثم نقل المعرفة وتوطينها، ثم نشرها، وأخيراً استثمارها. وبذلك، تجري الدورة اللولبيّة لاقتصاد المعرفة، فصناعة المعرفة تكون الأفكار منتجاتها، والبيانات مواردها الأوليّة، والعقل البشري أداتها.
هذا لا يعني بتاتاً عدم قراءة العلوم الغربية وفهمها وتفسيرها، بل علينا فهمها وتفسيرها، ولكن أن توضع في سياقها الخاص، وألّا نقع، كما يقع الكثير منا، في تقليد الغرب وتقليد مفاهيمه وترجمتها، إلى درجة أنّها تفقد مصداقيتها، وتفقد بالتالي معناها الأصلي، وتصبح غريبةً عن الواقع الذي من المفترض بها أن تمثّله من أجل فهمه بشكلٍ يسمح لنا بنقده.
والنّقد لا يعني الرفض، بل يعني الفهم والتفسير. لا انقطاع في العلوم، ولكن لا ثبات أيضاً في العلوم، فهي قابلة للتغيير بحسب الزمان والمكان. ولهذا، يأخذ النص معاني جديدة، كلّما جرت قراءته في سياقات مختلفة، فالسياق النصي، كما نعلم، لا علاقة له باللّغة وبما تعنيه الكلمات فقط، بل بالسياق الخارجي أيضاً، أي براغماتيته.
* تعرّضت الحضارة التقنية لنقد من جانب فلاسفة وعلماء اجتماع منذ النّصف الأوّل من القرن الماضي، ثم تضاعفت وتائرها خلال العقود الماضية.. هل تعتبر مثل هذا النقد إشارة تاريخيّة جديّة على اندلاع ثورة ثقافيّة تعيد الاعتبار للقيم في المجتمعات الغربية؟
- كلمة ثورة كبيرة جداً. توجد أصواتٌ تُطالب بالرجوع إلى الجذور، ولكن بالحفاظ على المكتسبات العلميّة الرقميّة. على الثورة أن تكون جامعة على كلّ الصُّعد، لكي تؤدّي إلى ثورةٍ ثقافيّةٍ.
الثورة الثّقافيّة لا يمكن أن تندلع خارج نطاق التغيّرات في وسائل الإنتاج. الغرب، كما الشرق، في مرحلة انتقالية بين ثقافتين؛ ثقافة المطبوع والثقافة الرقميّة. هذا التخبّط الحاصل حالياً يتعلّق بعدم فهمنا الجيد لما يحصل ولما سيحصل لاحقاً في عالم التقنيات، لكونه سريع التغير.
هذه السّرعة أوقعت الغرب في المحظور القيمي. لا يمكن للأفراد سلوكياً متابعة ما يحصل رقمياً والتأقلم معه بحسب تطوّره، فالعالم الرقمي في مسار سريع، والناس في مسار بطيء. التغيير في السلوكيات لا يمكن أن يكون فورياً. لهذا، نرى أنّ العالم الغربي يحاول أن يعدّل كيفيّة تعامله مع الرقمنة، وتبرز أصوات عديدة تحذر من تطوّر الذكاء الاصطناعي وأثره في الأفراد وفي أخلاقهم.
للأسف الشديد، الأصوات التي تطالب بذلك ما زالت ضعيفة، ولا تملك إمكانيات التغيير الفعلي، كما يوجد تباعد معرفي بين من يُطالب بالتغيير وبإعادة القيم إلى المجتمعات الغربية ومن يملك سلطة التغيير.
تجربة السّلطات في التّسلّط، وفي كيفيّة التحكم بالأفراد، وفي كيفيّة تسييرهم حتى الآن، مهمّة. وقد باتت تمتلك الأدوات التي لا تسمح بالتغيير في المنظور القريب. لا يمكن إلا لثورةٍ معرفيّةٍ قادمةٍ أن تساعد في التغيير، وهذا يتعلق بتطوّر الفيزياء. عندها، سنستطيع في يوم ما بناء حواسيب ترتكز في بنيتها الفيزيائيّة على طاقة غير الكهرباء. وهنا يكمن السؤال.
تعاني هذه المجتمعات من أزمات متعدّدة: أزمة الحكم والحكام، الأزمة الاجتماعية، الأزمة الاقتصادية، الأزمة الأخلاقية التي تتبلور من خلال التعبير عن الكراهية والعنصرية.
* بحسب كثيرين من النّقاد الغربيين، إنّ الحضارة الحديثة أنجبت أوثاناً تكنولوجيّةً قاسيةً تدفع البشر نحو البربرية، فالتقنيات التي أنتجها الإنسان، مثلها في ذلك مثل الأفكار، ترتدّ ضدّه، وتنفلت من عقالها لتلتهم الإنسانية المنتجة لها... إلى أي مدى تعتبر مثل هذا التوصيف كشفاً لحقيقة الحضارة الغربية المعاصرة؟
-الأفكار والتقنيات تشبه البيضة والدجاجة. لا أفكار من دون تقنيات، ولا تقنيات من دون أفكار. الحضارة الغربية بعيدة حالياً عن الإنسانيّة بمفهومها الإنساني. لعلّ ما حصل جرّاء كورونا يكون دافعاً لفهم ما كان يحصل في المجتمعات الغربية والشرقية أيضاً، فالخطابات التي تتغنّى بالديمقراطية تبيّن أنّها جوفاء، والخطابات التي كانت تعبّر عن حقوق الإنسان تبيّن أنّها جوفاء، والخطابات عن الطبابة والصحة للجميع تبيّن أنّها جوفاء أيضاً، واجتراح الإنسان وحقوق الإنسان تبيّن أنّه كان فقط بلاغة في الخطابة، فعندما يطرح البعض جهاراً، والبعض الآخر ضمناً، أنّ البقاء للأفضل وللشباب وللأصحاء وأصحاب المناعة، لا يذكرنا ذلك إلا بنازيّة هتلر، ويذكرنا بأنّ الشركات المتعدّدة الجنسيات لا تهتم كثيراً بالإنسان إلا إذا كان منتجاً ويؤمن الربح للمؤسّسة.
وتعرف السلطات جيداً كيف تستغل أفرادها من خلال وضعهم في «فقاعة الحلم» الدائم الذي يوهم العامل والطبقات الوسطى بالرخاء... فهو يحلم 5 أشهر ونصف الشهر خلال الصيف بعطلة الشتاء، ويحلم خمسة أشهر ونصف الشهر خلال الشتاء بعطلة الصيف.
هذا الوهم المتواصل لم يسمح حتى الآن ببناء منظومةٍ فكريّةٍ مبنيّةٍ بشكل علمي تساعد على التغيير، فالمطالبات المتعدّدة للتغيير في المجتمعات أكثرها اقتصادي، وتُحلّ في أغلب الأحيان على أساس لا غالب ولا مغلوب، وهي تسمح بالسلطة بمتابعة سلطتها التسلطية، فهي ما زالت تملك الأدوات اللّازمة لذلك، وما زالت تتحكّم بسلطة التربية وسلطة الإعلام، وهما مكونان أساسيان للتحكم بالمجتمعات.
* كان العقل الأوروبي الصناعي مهووساً بمصنوعه حدَّ التطيُّر، الأمر الذي حدا باللاهوتي الإنجيلي ديتريش بونهوفر الذي قضى ضحية النازية في العام 1945، إلى القول: «لقد صار سيد الآلة عبداً لها، وأمست الآلة عدواً للإنسان، وحرية الجماهير انتهت إلى رعب المفصلة، والتحرير المطلق للإنسان سيختم مساره بالدمار الذاتي»...
- مقولة البروتستانتي ديتريش بونهوفر كانت تتعلّق برؤيته إلى ما أدّت إليه الثورة الفرنسية في كتابه «الأخلاق»، وهو كبروتستانتي-لوتري، بطبيعته، حتى قبل النازية، كان دائماً معارضاً للنظام. وكما نعلم فإنّ كلمة البروتستانت تعني المحتجين، ويتفق اللوثريون عمومًا على أهميّة الإيمان بسُلطة الكتاب المقدس فوق كلّ السّلطات بما فيها سلطة التقنيات، ولكن يجب القول إنّ التقنيات ليست سلطة بذاتها، بل استخدام التقنيات هو ما يعطها سلطة، لدرجة تصبح مسيطرة على حركة الفكر البشري...
انطلاقاً من ذلك فإنّ هذه المعارضة لم تكن إلا بهدف تحرير الإنسان من كل العبوديات، بما فيها عبودية الآلة، ولكن في أي وقت يصبح الإنسان عبداً للآلة؟ عندما تصبح الآلة هي من يسيطر على العقل، وليس العكس. وعلى الرغم من أن العقل البشري هو من صنع الآلة، لكنه لم يستطع أن يؤنسنها، كما من المفترض، بل قام بأتمتة إنسانيته.
هذه هي المشكلة التي يعاني منها الغرب حالياً، فمعلوماتية الأشياء (أي أن تصبح كل الأدوات المنزلية تحرك عن بعد)، والنظام الرأسمالي الذي لا يهتم بالفرد كإنسان، بل كرقم (يهتم بما ينتجه الفرد)، والسرعة التي باتت تحكم بسلوكيات المجتمعات الغربية، هي التي تشكل خطراً على الإنسان.
كان من المفترض بالتقنيات أن تساعد الإنسان على أن يُخفّف من فترات العمل؛ لأنّ التقنيات تقوم بمهام عديدة تريح العاملين، ولكن ما يحصل هو العكس تماماً، فكلّما أنتجنا أدوات تسرع في وتيرة العمل، زاد الضغط على العاملين لكي ينتجوا... ليس كما كان من المفترض بأن يصبح الإنسان حراً في الزمان والمكان، لا عبداً... ليس للآلة فقط، بل للعمل الدائم، أي أن يصبح هو الآلة.
فالخطر الذي يواجه الإنسان بشكل عام، والغرب بشكل خاص حالياً، أن يصبح الإنسان شبيهاً بالروبوتات، لا أن نصنع روبوتات تشبة الإنسان، والفرق كبير هنا.
* ظهرت التقنية كفجوة تتسع يوماً إثر يوم في بنية العقل الغربي الحديث. لعلّ أشدها وقعاً أن أصبح العقل في مواجهة الإيمان، والتقنية في مواجهة البُعد الروحي للإنسان. والنتيجة أنّ وقع العقل الحديث في أحادية جائرة ستجرِّده من إمكانات هائلة ضروريّة لتجدّده الحضاري.. كيف تعلقون على هذه الأطروحة؟
- لا علاقة للإيمان بالآلة، بل علاقتها بالله. المؤسّسات الرقمية هي المستفيد الأوّل من المحتوى الرقمي، والقضايا الأخلاقيّة المحيطة بالتقنيات غير مهمّة؛ لأنّ التقنيات تتجاوز الأنظمة السائدة، وهي تغير في الهيكل الاقتصادي والهيكل الاجتماعي.
العالم غير مهيّأ لواقع الخوارزميات والذكاء الاصطناعي الذي يدفعنا إلى أخذ القرارات التي يريدها المبرمج.
مفهوم الثورة هو انتقال من نموذج فكري قياسي إرشادي (براديغم) إلى آخر، وهو إعلان صريح لحلول الوعي التاريخي، ويعتمد في مقاربته المفاهيميّة على فلسفة العلوم.
العلم نمط من المعرفة يستند إلى الملاحظات التجريبية لوقائع العالم، لعلها تساعده على السيطرة على بيئته وإحكام تعامله مع عالمه.
هل من نموذج فكري جديد؟ نعم، نحن في هذه المرحلة التي تتطلّب بناء براديغم جديد يتناسب مع التغير. هذه هي الإنسانيات الرقميّة، وهذه هي متطلبات الإنسانيّة الرقميّة. وما هو الأهم في هذا المصطلح هو الإنسان أوّلاً، لا الرقمنة. عندما تصبح الرقمنة هي الأكثر أهميّةً، عندئذ يصبح علينا الخوف على الإنسان.