البحث في...
عنوان الحوار
إسم المحاور
إسم مجري الحوار
المصدر
التاريخ
ملخص الحوار
نص الحوار
 أسلوب البحث
البحث عن اي من هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على كل هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على هذه الجملة

November / 30 / 2021  |  813الذهنية الاستعمارية والعنصرية هي الحاكمة على حضارة الغرب المعاصر

الحوار مع :د. رياض صوما
الذهنية الاستعمارية والعنصرية هي الحاكمة على حضارة الغرب المعاصر

يتناول هذا الحوار مع الباحث اللبناني في الفكر السياسي الدكتور رياض صوما سلسلةً من التحوّلات الكبرى في العالم مع صعود الليبراليّة الغربيّة، وسعيها إلى الإمساك الكامل بالقرارات الاستراتيجيّة في حقول الاقتصاد والسياسة والأمن الدولي. كما أجاب الباحث بالنّقد والتحليل على جملةٍ من الأسئلة الإشكاليّة المتعلّقة بمصير المجتمعات الغربية حيال استشراء النّزعات العنصريّة، وصدام الهويّات، ناهيك عن الدور الذي ينبغي على النّخب العربيّة والإسلاميّة في مقاومة التمدّد الاستعماري عبر الميديا والحروب النّاعمة والثورات الملوّنة.

«المحرّر»


* منذ نحو ثلاثة عقودٍ شاع التنظير لنهاية التّاريخ مع ما رافق ذلك من الكلام على نهايات للكثير من المفاهيم. وكانت الليبراليّة الجديدة هي التي أعلنت عن ذلك؛ لتُعلن انتصارها كبديلٍ تاريخيٍّ.. لو وضعنا الليبراليّة المستحدثة في قفص المحاكمة الآن، ما الذي تقولونه في هذا الشأن ولو بصورةٍ مجملةٍ؟

في ثمانينيات القرن الماضي، جرت جملة تطوّرات تقنيّة، واقتصاديّة، وجيوسياسيّة، وفكريّة، غيّرت الكثير في المشهد العالمي وتوازناته وطبيعة صراعاته. على الصعيد التقني تحقّقت قفزاتٌ معرفيّةٌ وتطبيقيّةٌ شملت عددًا كبيرًا من ميادين العلم والتكنولوجيا. في الفيزياء وعلم الفضاء والطب والهندسة إلخ... وخاصّة في ميدان الاتّصالات وعلوم الكومبيوتر. وعرف العالم لأوّل مرّة في تاريخه، منظومة اتّصالات عالميّة تدمج البرمجة ونقل الصورة ـ بدأ عصر الانترنت ـ وعلى الصعيد الجيو ـ سياسي حصلت أكبر كارثةً جيوسياسيّةً عرفها القرن العشرين، حسب تعبير الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، وهي انهيار الاتحاد السوفياتي واختفاء حلف وارسو. إلى جانب ذلك، كان الاقتصاد العالمي يعيش مرحلة تشابك متسارعة، بقيادة الشركات متعدّدة الجنسيات والعابرة للقارات. هذه التطوّرات والواقعات الموضوعيّة، أسّست لبروز سياساتٍ دوليّةٍ، واجتهادات أيديولوجيّة، وتعبيرات ثقافيّة جديدة، مختلفة إلى هذا الحد أو ذاك عن تلك التي سادت خلال مرحلة الحرب الباردة التي تلت نهاية الحرب العالميّة الثانية، وواكبت صعود المعسكر الاشتراكي، وتقدّم الحركة العمّاليّة في الدّول الرأسماليّة المتطوّرة، ونهوض حركة التحرّر الوطني العالميّة. الثنائي ريغن تاتشر، في الولايات المتحدة وبريطانيا، كان العنوان السياسي للمرحلة الجديدة آنذاك. ثنائي يعلن انتصار الغرب الإمبريالي مفتتحًا العالم مجدّدًا مدجّجًا بالتّفوّق التّقني والاقتصادي والعسكري والأيديولوجي، في سياق ما أطلق عليه منذ ذلك الحين، الاسم السائد حتى اليوم: عولمة ليبيراليّة متطرّفة، وإعادة غربنة العالم وأمركته.

طوال ثلاثة عقود تلت، دفع العالم وما زال، ثمن ذلك الانهيار وذلك الانتصار. أدّى الخلل الفادح النّاشئ في موازين القوى الدوليّة إلى تغوّل المنظومة الرأسماليّة العالميّة بعد انكسار الكوابح التي كانت تلجم نسبيًا، إلى هذا الحد أو ذاك، اندفاعها المتفلّت. فتسارعت عمليّة التّراكم الرأسمالي في دول المركز وشركات المركز من جهة، وتعزّز التّخلّف والمديونيّة والفقر والبطالة في الدول التابعة. وشهد العالم انهيار الكثير من الاقتصادات في شرق آسيا وجنوب أوروبا وأميركا اللاتينيّة. هذا إلى جانب الإملاق الذي عرفته دول المعسكر الاشتراكي المتحوّلة إلى التّبعيّة للسوق الرأسماليّة العالميّة. بموازاة ما كان يجري اقتصاديًا، شهد العالم، ومنطقة الشرق الأوسط الكبير خاصّة، (والتعبير ابن تلك المرحلة)، سلسلة غزوات وحروب شنّها الحلف الأطلسي تحت ذرائع مختلفة (نشر الديمقراطية، محاربة الإرهاب، تصفية الأنظمة الاستبداديّة، إلخ....)، بدأت في يوغوسلافيا وافغانستان، ولم تنته بعد من العراق إلى ليبيا واليمن وسوريا... ولكن كما في ميدان الفيزياء، لكل فعل ردة فعل مضادة، حصل في ميدان الاقتصاد والسياسة والفكر. بوجه التمدّد الغربي الأطلسي، فقد نهضت قوى دوليّة وشعبيّة متنوّعة المشارب الفكريّة والمشاريع السياسيّة، تحاول الحدّ من الاندفاعة الغربية الأطلسيّة، وإعادة قدر من التوازن والتّعقّل إلى المشهد العالمي. وبعد ثلاثة عقود تقريبًا من المواجهات العسكرية والسياسية والاقتصادية والفكرية...بين قوى الليبيرالية المتطرّفة وبين ضحاياها وخصمائها، ينجلي المشهد عن توازن نسبي في القوى، يحدّ من زخم تلك الاندفاعة المجنونة للقوى التي أطلقتها.

على الصعيد التقني فقدت المراكز الغربية تفوّقها المطلق السّابق لصالح مراكز جديدة، في طليعتها الصين وإلى حدّ ما روسيا.                                                                                   

وعلى الصعيد الاقتصادي، برزت اقتصادات ناشئة تتمتّع بحيويّةٍ كبيرةٍ، ومعدّلات نموّ أرفع من تلك التي تملكها الاقتصادات الغربية السائدة تاريخيًا. وأما على الصعيد السياسي، تواجه الولايات المتحدة، نكسات متتالية في مبادراتها السياسية في ساحات مختلفة، بما فيها الأمم المتحدة.

وعلى الصعيد العسكري، بعد تفكّك حلف وارسو، تشكّل تحالف عسكريّ أكثر قوّةً عماده روسيا والصين وإيران، ومجموعة شانغهاي.                                                                                  

وعلى الصعيد الفكري والايديولوجي والثقافي، سقطت مقولات نهاية التاريخ، وصراع الحضارات، والتفوّق الغربي والأميركي، لصالح حقيقة التنوّع الثّقافي والغنى الحضاري للعالم، وجدارة كلّ الثقافات الإنسانيّة بالاستمرار والتفتح، واتّضحت عنصريّة مفهوم الأفضليّة التاريخيّة للنموذج الغربي، وعدم مشروعيّة تنميط الثقافة العالمية وفق أولوياته ومنطلقاته وخياراته. هذا يعني أنّ الصّراع الدائر راهنًا بين قوى الليبيرالية المتطرّفة، وأخصامها الكثر، بات يستوي على نصاب تتعادل فيه كفّتا الطرفين نسبيًا. وإذا أخذنا بعين الاعتبار الفترة الزمنية التي استغرقها مسار التوازن هذا، فليس من المبالغة القول بأنّه في المدى المنظور، سيشهد العالم تراجعًا أكبر لقوى الليبيرالية المتطرّفة وأطروحاتها. وذلك، لصالح توازن للقوى الدوليّة الأقل اختلالًا، يفسح في المجال أمام هامش أوسع لقوى الاستقلال الوطني السياسي والثقافي، ويعيد الروح إلى مبادئ التّحرّر الاقتصادي، والتّقدّم الاجتماعي، بديلًا عن الداروينيّة الاجتماعيّة التي جاءت بها الليبيراليّة المتطرّفة. دون أن ننسى، فرص الصعود المتجدّد لمفاهيم التّضامن الاجتماعي والعدالة الاجتماعيّة، بديلاً عن الفردانيّة المفرطة والمرضيّة.

* يشهد العالم منذ نهاية ما سمّي بـ «الحرب الباردة» تحوّلات هائلة في طبيعة النظام الدولي، فضلاً عن القواعد العامّة التي كان يعتمدها الفكر السياسي لمعاينة هذه التحوّلات، هل هناك باعتقادهم مفاهيم لا تزال تتحكَّم بإدارة قوانين الحرب والسلام في وقت يبدو فيه الخواء والفراغ هو الذي يستحكم بالقضايا العالمية المعاصرة؟

- طوال حقبة الحرب الباردة، اندرجت كلّ الصراعات العسكريّة والسياسيّة والاقتصاديّة والثقافيّة تحت عنوان أيديولوجي هو: الصراع بين الرأسماليّة والاشتراكيّة. تجسّد ذلك الصّراع بين المعسكر الشرقي الاشتراكي بقيادة الاتّحاد السوفياتي وأداته العسكريّة (حلف وارسو)، وبين المعسكر الغربي الرأسمالي بقيادة الولايات المتحدة وأداته العسكرية (حلف الناتو). هذه الثنائيّة انعكست على كلّ مظاهر الحياة وفي مختلف أرجاء المعمورة. فاخترق هذا الاستقطاب كلّ البنى الاجتماعيّة والاقتصاديّة والسياسيّة والثقافيّة. وبات الانحياز شبه القسري إلى أحد طرفي الصراع شبه حتمي، بسبب غياب أو ضمور القوى الأخرى. حتى حركة عدم الانحياز التي أعلنت هدفًا مشتركًا يرفض الانحياز إلى أحد طرفي الحرب الباردة، فإنّها لم تنجو من جبريّة الاستقطاب. فوجدت نفسها بفعل الاعتراض الغربي على حيادها مبدئياً وعملياً، مضطرة إلى الاقتراب نسبيًا من المعسكر السوفياتي لموازنة الضغوط الغربية. ولأنّ الصّراع اتّخذ طابعاً أيديولوجياً، برزت على ضفتي الصراع السرديات الكبرى، وارتدت كلّ الاشتباكات رداء القضايا المبدئيّة، حقيقية كانت أم مفتعلة، عادلة أم ظالمة.  وبما أنّ التنافس الدولي بين المعسكرين، كان عالميّ الأبعاد، فقد تحوّل العالم النامي إلى ساحة رئيسة من ساحاته. وحيث كان توازن القوى النسبي بين المعسكرين، يسمح للدول والمجتمعات وللقوى السياسية والاجتماعية المهمشة بالاتكاء إلى دعم المعسكر الاشتراكي، المستعد والقادر آنذاك، على تقديم العون المعنوي والمادي للراغبين به، فقد شهد العالم طيلة تلك المرحلة الخصبة، طفرة واسعة النطاق في الفكر الثوري، وفيضاً من المشاريع التحرّريّة السياسية والاجتماعية، على امتداد آسيا وأفريقيا وأميركا اللاتينية. وعرفت وقتها حركات التحرّر الوطني والقومي والاجتماعي أزهى أيامها.

بعد نهاية حقبة الحرب الباردة بسقوط المعسكر الاشتراكي وتفكّك الاتّحاد السوفياتي، اختلّ التّوازن الدولي اختلالاً كبيراً وبدأت حقبة الهيمنة الآحادية الغربية والأميركية تحديداً. بموازاة ذلك السقوط، سقطت فرص التحرّر الوطني والاجتماعي، وتخلّت كثير من القوى الثّوريّة والتّقدميّة السابقة عن أهدافها في التغيير. مقابل تراجع الأهداف والمشاريع ذات الطابع الإنساني الجامع، وضمور شعارات العدالة والمساواة والتضامن، صعدت أفكار تقديس السوق والمنافسة وحقّ القوي بسحق الضعيف وكلّ المفاهيم العنصريّة والرّجعيّة. وحاولت القوى الغربيّة والأطلسية خلال تلك الفترة استعادة كامل سيطرتها على المجتمعات الأقل تطوّرًا. بل حاولت شرعنة كل أشكال التدخل في شؤونها تحت مسميات مختلفة. أكثر من ذلك، برزت دعوات أميركية لجعل القانون الأميركي قانونًا عالميًا، بمعنى حلوله محلّ القوانين الوطنيّة. في ذلك المناخ، ازدادت نزعات التعصّب القومي والعرقي والاتني والديني والسياسي. وانتشرت على الصعيد العالمي، سواء في الدول المتقدّمة أو النامية، عمليات تصفية الدور الرعائي للدول كمؤسّسات حامية للاستقرار الاجتماعي وضابطة لتوتراته، وحامية للشرائح الأضعف في مختلف البنى الاجتماعية. بل أكثر من ذلك، في مناخ ازهار الفكر اليميني والسياسات اليمينيّة، برزت طروحات متطرّفة، تدعو صراحة لإلغاء الدولة جملة وتفصيلا، واستبدالها بالمؤسّسات الخاصة، الرأسمالية طبعاً. ومن بين أكثرها تطرّفًا، تلك التي دعت إلى خصخصة الجيوش ذاتها. وربّما من وحيها، بنيت منظمات عسكريّة وميليشيات خاصّة مستقلّة عن الدّولة، ولكنّها تحظى بحصانات شبه رسميّة. وأشهر تلك «الجيوش الخاصة»، ميليشيا بلاك ووتر. في ذلك المناخ المسموم والمشحون بالعنف السياسي والاجتماعي والتغوّل الأميركي والأطلسي في إدارة الشؤون الدوليّة، تعولمت ظاهرة الإرهاب السياسي والعسكري والأمني. وقد نالت منطقة الشرق الأوسط الكبير النصيب الأكبر من التدمير على يد قوى الإرهاب التكفيري، وجلّها مدعوم بشكلٍ سريٍّ أو شبه سريٍّ من قبل مواقع النفوذ الغربي. وقد وصلت بعضها إلى مصاف البنى الدوليّة؛ حيث أعلنت داعش دولة شبه مكتملة الأركان على امتداد مساحات شاسعة من المشرق العربي. لحسن الحظ، إنّ هذه الموجة قد انحسرت في الأعوام القليلة الماضية، ولكن احتمالات بروزها مجدّداً غير معدومة. المهم في المشهد ككل، أن السمات السلبية التي اكتسبها بعد الانهيار السوفياتي وتراجع حركات التحرّر الوطني والاجتماعي، بدأت تتبدّل بصورة بطيئة ولكن ثابتة، مع عودة التوازن التدريجي للقوى العالميّة. ومن المنطقي توقّع استمرار هذا المنحى في الحقبة القادمة. وهذا ما ينبغي أن تعمل من أجله كلّ القوى الإنسانية التطلعات، بغضّ النّظر عن عرقها وقوميتها وايديولوجيتها الدينيّة أو الفلسفيّة. فالبشريّة تغتني بتنوّعها.   

* الواضح أنّ البراغماتيّة السياسيّة، والصراع الحادّ على المصالح، هي العوامل التي تنظّم هذه الحقبة الانتقاليّة من تاريخ العالم المعاصر.. إلى أيّ أفق برأيكم يمضي عالمنا اليوم؟

- بعد أن اختفى المعسكر السوفياتي من مشهد الصراع الدولي، وتحوّلت الصّين الشّعبيّة إلى اقتصاد السّوق الاجتماعي، وتراجعت قوى التّحرّر الوطني والحركات اليساريّة في مختلف المجتمعات المتقدّمة والنامية والمتخلفة، كان من الطبيعي أن تعود المصالح المباشرة لتحكم مجريات المنافسات الدولية والصراعات الاجتماعية والسياسية على الصعيدين الدولي والوطني. في مرحلة انقسام العالم إلى معسكرين ، ومشروعين اقتصاديين واجتماعيين متعارضين، استندت أكثرية القوى المتنافسة أو المتصارعة، داخل كل مجتمع، وفي ما بين المجتمعات والدول، إلى أحد معسكري الصراع الدولي. وبما أنّ كلّ منهما، كان قد غلّف استراتيجيّته وسياسته الدوليّة والمحليّة بغلاف أيديولوجي، توخيًا للتعبئة الجماهيريّة من ناحية، والمشروعيّة الأخلاقية والعملانيّة من ناحية أخرى، وجدت القوى الملحقة أو الحليفة أنّ من المناسب والمفيد لها، تقليد مرجعيتها الدولية من خلال وضع أهدافها وسياساتها الداخلية والخارجية تحت مظلّة أيديولوجيّة منسوخة كليًا عن تلك المقلّدة، أو شبيهة بها، بغض النّظر عن مدى تطابقها مع الواقع أو تعارضها معه. وقد اتّخذ التقليد أحيانًا كثيرة طابعًا كاريكاتوريًا. أما الآن، ورغم محاولة الأميركيين خاصّة والغربيين عامة، الاستمرار في إضفاء بعد أيديولوجي أو أخلاقي لمشاريعهم الامبراطورية أو غزواتهم وحروبهم وتدخلاتهم المختلفة، إلّا أنّ هذا الهمّ عدا عن كونه أقل اقناعاً بكثير من السابق بغياب المنافس الجدي، إلّا أنّه كان يميل إلى التراجع شيئاً فشيئاً. وقد وصل الأمر مع إدارة ترامب إلى حدّ الصفاقة في الكشف عن حقيقة أهداف دولته السياسية. كأن يقول مثلا: إنّنا نحتلّ هذه المنطقة في هذه الدولة، وسنواصل احتلالنا حتى نحصل على حصتنا من ثرواتها. أو أن يقول: سنواصل ضغوطنا وحصارنا حتى تقبلوا شروطنا. عندها ستحصلون على صفقة لم تحلموا بها. أو أن يمزق اتفاقًا دوليًا بالغ الأهميّة وذا طابع استراتيجيّ لأسبابٍ شكليّةٍ أو هامشيّةٍ أو حتى مزاجيّة. هذا النّمط من الأداء يتكرّر بأشكال أقلّ فظاظةً لدى بقية الدول الغربية والأطلسية. ولكنّه غير مخفي، لدى الدول المنافسة للغرب. مع ملاحظة، استمرار تلك الدول، بقدر معقول من الصدقيّة، في وضع أهداف وطنية وإنسانيّة لتبرير سياساتها. من طراز الكلام عن حقوق الشعوب في مقاومة العدوان والتدخل الأجنبي بشؤونها الداخلية. أو حول احترام القوانين الدولية وشرائع الأمم المتحدة والاتفاقات الدولية. أو بشأن ضرورة صيانة السلم العالمي وحماية البيئة، الخ... لذا يمكن القول، إنّ البراغماتية باتت أكثر بروزًا في السياسات الدوليّة والاجتماعيّة مع انتصار الرأسماليّة العالميّة والمعسكر الغربي. ولكن المبدئيّة لم تختفِ كليًا من مسارح التنافس والصراع الدولي والإقليمي والداخلي. ومع التحسّن النّسبي المطرد للتوازن الدولي، وعودة الرّوح إلى النّضالات الوطنيّة والتحرريّة، من المتوقّع عودة المثل العليا للحضور أكثر فأكثر كعنصر من عناصر السياسات الرسمية والشعبية. فقد بدأ الجمهور، وخاصة نخبه المثقفة والملتزمة، يبتعد تدريجيًّا ببطء عن التشدّد الهوياتي، وينفر من فظاظة وتغول شبكات المصالح الماليّة والاقتصاديّة، وتدميرها لنسيج المجتمعات والمجتمع الدولي ككل، ناهيك عن تدميرها للبئية المحلية والعالمية. وهناك ملامح لعودة الوعي بخاطر تسليع كلّ شيء وتحويل البشر إلى مستهلكين وأرقام... ففقدان المعنى بظل فلسفة السوق العمياء، سيُولّد ردّة فعلٍ منطقيةٍ ستأخذ من جهة سمة العودة إلى أشكال من الروحانية والتدين، وأشكال مغايرة من الثقافة الوضعية والعلمية والعلمانية والتقدمية المتجددة، ولكن بطابع إنسانيّ صريح. رغم كلّ السواد الذي يلفّ العالم راهنا، ما زال هناك أمل كبير بالمستقبل.

* أين أصبحت مركزيّة الغرب الآن، في ظلّ التّحوّلات الكبرى التي تشير إلى تشكُّل عالم متعدّد الأقطاب، وهل ثمة إمكانيّة واقعيّة لقيام مثل هذا النّظام المتكافئ في العلاقات الدوليّة؟

- منذ قرون خمسة تقريباً، باشر الغرب صعوده العلمي والصناعي والاقتصادي والعسكري والسياسي والثقافي. صعود مكّنه بوسائل الغزو الاستعماري، والتوسّع الاقتصادي، والتغلغل الثقافي والسياسي، من الهيمنة شبه التامّة على مجمل الكرة الأرضية. ورغم الحروب المتكرّرة، حتى العالميّة منها، التي مزّقت القارة العجوز، مركز الانطلاق التاريخي للتوسّع الغربي، بقي الغرب مهيمناً حتى يومنا الحاضر. حصل ذلك، بفعل الصعود الأميركي الذي ورث قدرات أوروبا، وزاد عليها، وتجنَّب لبعده الجغرافي وحنكة قادته السياسيين دفع الأثمان التي دفعتها الدول الأوروبية. فمدّدت القوّة الأميركية من عمر السيطرة الاستعماريّة الغربيّة على العالم، ولكن بقيادة الولايات المتحدة، بعد أن كانت بقيادة اسبانيا وفرنسا وبريطانيا وألمانيا... الآن، وبفعل دخول مجتمعات عديدة دائرة التصنيع، وتملّك قدرٍ من المعارف والمهارات التقنية، وبعضها مجتمعات عملاقة وعريقة، كاليابان والصين والهند إلخ... يمكن الجزم بأنّ زمن الهيمنة الغربية الشاملة وشبه المطلقة آذن بالغياب. ولكن لا حتى لا نتسرع في الحكم على هذا المسار، ينبغي التدقيق بعض الشيء. طالما أنّ الانحسار الغربي يتمّ في شروط تنافس طويل الأمد مع القوى الصاعدة، وطالما لا يحصل اثر هزيمة عسكرية ساحقة قد مني بها، فمن المنطقي توقّع سيرورة بطيئة لتراجع المركزية الغربية، وليس غيابها السريع والمفاجئ. وهنا لا بدّ من التمييز بين القوّة الصّلبة التي مكّنت الغرب من اجتياح العالم عسكريًا واقتصاديًا، وبين القوّة النّاعمة التي واكبت هذا الفتح الغربي للكرة الأرضيّة. حتى لو تراجعت القدرات الاقتصادية والعسكرية والسياسية للدول الغربية، فإن قدراتها العلميّة والإبداعيّة والثقافيّة ستأخذ وقتًا أطول لتنحسر عن العالم. فمن شبه المؤكّد، أن تستمرّ جامعات الغرب في تخريج عشرات آلاف الكوادر العلمية والاقتصادية والهندسيّة لبقيّة دول العالم. وستلعب هذه الكادرات دور الرابط بين مجتمعاتها والمجتمعات الغربية. أضف إلى ذلك، منتجات الغرب الثقافية بصورة كتب ومؤلفات وأفلام وبرامج تلفزيونية تثقيفية أم ترفيهية، التي ستساهم إلى أمد غير قصير في تشكيل وعي كثيرين في العالم، كما ستلعب دورًا في تسويق أسلوب الحياة الغربي، خاصة في ظروف العولمة. بالاختصار، لا شكّ بأنّ النّفوذ الغربي المتعدّد الأشكال سيستمرّ بالتّراجع بصورةٍ متواصلةٍ، كوجه آخر لتقدم نفوذ وأدوار الحضارات الأخرى. وإذا نظرنا إلى مدى أبعد، من المرجّح، أن يحصل تلاقحٌ حضاريٌّ يجمع مختلف المنجزات والإبداعات الفكريّة والذائقات والتقاليد الاجتماعية والأدبيّة للمجتمعات البشريّة بمجملها. وكحصيلة لذلك، قد تنشأ حضارة إنسانيّة موحّدة، تنتفي فيها مركزيّة أيّ قارة أو حضارة أو بلد بعينه. وهذا حلم، طالما راود كثيرين من المفكرين والدعاة والناشطين الاجتماعيين. 

* في زمن باتت فيه الفوضى الدّوليّة والأوبئة هي العناصر الضاغطة على المجتمعات والدول، هل ما زال بالإمكان إنشاء منظومة عالميّة تعيد الاعتبار لمقولة السلام العالمي؟

- فرص السلام العالمي، وسط الفوضى الدولية. التعدّديّة القطبيّة التي يسير نحوها عالمنا المعاصر، سيكون لها تأثيرها على مختلف نواحي الديناميات الدوليّة، وفي مقدّمتها قضيّة الحرب والسلم. وإذا كانت كل الحقبات السابقة، سواء الثنائية القطبية التي تلت الحرب العالمية الثانية، أو مرحلة الآحادية القطبية التي تلت سقوط الاتحاد السوفياتي، قد شهدت الكثير من حروب التدخل وحروب الوكالة، إلّا أنّها لم تشهد صدامًا مباشرًا بين القوى العظمى. ما يجري حاليًا في ظلّ العقود الأولى من حقبة التعدّديّة القطبيّة، التي ستكون حقبةً طويلةً على الأرجح، يشير إلى استمرار التدخلات والمواجهات وحروب الوكالة، خاصّة في منطقة قوس الأزمات والشرق الأوسط الكبير، دون الوصول إلى الصدام الكبير. على هذا الصعيد، لن يشهد العالم تغيّرًا نوعيًا. ولكن الجديد في المشهد، هو تكاثر عدد الأطراف المتدخّلة في كلّ من الأزمات المندلعة أو تلك التي ستندلع. وهذا تطوّر طبيعيّ لصعود قوى عظمى جديدة ذات قدرات عالميّة أو إقليميّة. وهذا المعطى الجديد، قد يعقد الوصول إلى التسويات، ويجعلها أكثر هشاشة، بعكس ما كان يجري على زمن الصراع الأميركي السوفياتي؛ حيث كان يكفي أن يتّفق العملاقان على وضعيّة منطقة ما، حتى تستقر أمورها إلى أمد غير قصير.

إنّ استمرار تضارب المصالح، وتزايد وتائر التنافس على الموارد المتقلّصة قياسًا إلى حجم الحاجات الناشئة، سيرجّح استمرار وتوسّع الاحتكاكات والاشتباكات والحروب الباردة والفاترة والحارة بين القوى الدولية الاقليميّة المتنافسة. ويمكن توقع أدوارًا أكبر للكيانات غير الدولية، ( تشكيلات عسكرية محلية، ميليشيات قومية أو دينيّة ، منظمات شبه نظاميّة تعمل بإشراف أجهزة المخابرات الدولية، إلخ... ). يعني أنّ المشهد العالمي على المستوى الأمني والعسكري سيكون أكثر تعقيدًا وزئبقيّة وأقل استقرارًا. مع ذلك، سيكون من المرجّح تجنّب كلّ القوى الدوليّة الكبرى للاحتكاك المباشر، بسبب الكلفة المتصاعدة لأيّ صدام على هذا المستوى، وبسبب استمرار حقيقة الرّدع النووي المتبادل من قبل جميع القوى الدوليّة والإقليميّة العظمى. ولكن يبقى مرتجى أكثريّة أصحاب الرأي والحكمة، أن ترتقي السياسات الدولية تدريجيًا إلى مستوى من النّضج، الذي يقنع أكثريّة أصحاب القرار بأنّ التّعاون أنسب للجميع على المدى الطويل من المنافسة الشرسة والمواجهة المكلفة والمبدّدة للقدرات البشريّة والماديّة. عندها يؤمل، أن تلعب منظمة الأمم المتحدة دورًا أكبر وأكثر فاعليّة في حلّ النّزاعات على اختلافها، وتنسيق جهود الدول في مواجهة الكوارث العالمية طبيعية كانت أو سياسية. إقرار السلم العالمي الشامل والثابت، ما زال حلمًا، ولكنّه قابل للتحقيق يوما ما. 

المهم عمليًا على المدى القصير، تعزيز دور الهيئات والمرجعيات المناهضة للحروب، وللعنف والعنصرية، وكلّ أشكال التّعصّب الاتني أو الأيديولوجي أو السياسي. ودعم القوى والتيّارات الساعية إلى نشر ثقافة السلام والتعاون بين الأمم والشعوب. بالنهاية، كما أنّ الحروب تبدأ في عقول البشر، فإنّ السلام يبدأ في عقول البشر. 

* نال العالمان العربي والإسلامي قسطهما الأعظم من النتائج الكارثية المترتّبة على الفوضى الخلّاقَّة خلال العقدين المنصرمين. إلى أيّ مدى تقوم صلات التّواصل بين نظريّة الفوضى الخلّاقة التي أطلقها المحافظون الجدد في أميركا قبل نحو ثلاثة عقود، وما عرف بثورات الربيع العربي؟

- عندما أعلنت غونداليزا رايس وزيرة الخارجية الأميركية من بيروت خلال حرب تموز، أنّ المشروع الأميركي للمنطقة يمرّ عبر الفوضى الخلّاقة، وأنّ لا ولادة بدون ألم، لم تكن تمزح. كانت تكشف دون خجل ماذا تحضر الولايات المتحدة وحلفائها في العالم والمنطقة لشعوبنا. ولم تكن حرب تموز التي اعتبرتها كونداليزا مخاضًا لولادة شرق أوسط جديد، مستعيرة بذلك عنوان كتاب لشيمون بيريز كان قد أصدره قبل ذلك التاريخ بسنوات، سوى مقدمة دمويّة لما هو آت، وهو أكثر دمويّة. ولمّا فشل عدوان تموز 2006 في تحقيق المراد منه، جرى التخطيط لمسار مختلف يفضي إلى الغاية عينها؛ إذ اتّضح أنّ قوّة اسرائيل العسكريّة غير كافية لفرض الاستسلام على القوى المناهضة للسياسات الغربية والصهيونيّة في المنطقة العربية وعموم الشرق الأوسط. فكانت الخطة البديلة تفجير مجتمعات المنطقة المستهدفة من الداخل بعناوين شكلها إصلاحي وتجديدي وباطنها استبدال الأنظمة لصالح خريطة جيوسياسية جديدة للمنطقة تناسب مصالح التحالف الأطلسي فيها وفي محيطها القريب والبعيد. فكان الربيع العربي، والتسمية غربية المنشأ، وهي مخالفة لحقيقة ما جرى، وكان جحيمًا عربيًّا تستمرّ مفاعيله حتى اليوم، وربّما لأمدٍ متوسّطٍ أو بعيدٍ. استهدفت الانتفاضات الشعبية التي استوحت ما سمّي الثورات الملوّنة في أوروبا الشرقيّة إثر سقوط الاتّحاد السوفياتي وتفكّك حلف وارسو، هدفان مختلفان شكلًا ولكن متكاملان مضمونًا. قسم منها، استبطن استبدال بعض الأنظمة الشائخة في دائرة النفوذ الأميركي والأطلسي، كما في تونس ومصر، ودول أخرى، بأنظمة أكثر حيويّة وفاعليّة في تنفيذ السياسات ذاتها، عبر انتفاضات مبرمجة ومسيطر عليها. ولا يغيّر هذه الحقيقة، كون أكثريّة الجمهور المشارك لم يكن مدركًا للخطّة التي يساهم في تنفيذها. وقد انكشف لاحقاً أنّ هذه الانتفاضات كانت منسّقة مع النّظام التركي وأذرعه في المنطقة. والقسم الآخر، كان يستبطن إسقاط أنظمة معارضة للهيمنة الغربية الأطلسيّة وأدواتها في المنطقة، واستبدالها بأنظمةٍ تتبع نهجًا مناقضًا كليًا، كما سبق وحصل في مصر الناصريّة بعد مجيء النّظام الساداتي. وقد نجح المخطّط في تونس ومصر، وفشل في سوريا والعراق وليبيا واليمن، فأطلقت الحركات الإرهابيّة التكفيريّة لتنفيذ ما عجزت عنه الحركات الاحتجاجيّة. ولمّا فشلت هذه بدورها كان العدوان الخارجي المباشر هو البديل، كما جرى في ليبيا واليمن. ومع فشل هذا الخيار أو تعثّره، تم دعمه بسياسة الحصار الاقتصادي والتجويع. تحت شعار تخيير الشعب المستهدف بين الجوع أو الاستسلام، كما يجري حاليًا في اليمن وسوريا وغزة ولبنان. لذا يمكن القول إنّ الربيع العربي وتداعياته هو تطبيق شبه حرفي لمشروع الفوضى الخلاقة. ومعركة إسقاطه هي معركة مقاومة الهيمنة الأجنبية على المنطقة، ومعركة تحرّرها الوطني، الذي لم يستكمل بعد.

*  يشهد الفكر السياسي المعاصر جدلاً عميقاً حول ما يُسمّى بنظريّة ما بعد الاستعمار، وهذه النّظريّة – كما هو معروف- بالقدر الذي تنطوي فيه على نقدٍ للتجربة الاستعمارية، فإنّها في الوقت نفسه تعيد إنتاج الفكر الاستعماري بوسائل شتّى.. كيف تقاربون هذه النّظرية وما هي الأسس التي تستند إليها؟

- حول نظريّة ما بعد الاستعمار، لا شكّ أنّ العالم المعاصر قد تجاوز حقبة الاستعمار القديم؛ حيث كانت السيطرة الغربيّة على الدول الملحقة تُمارس بقوّة الحضور الشامل للجيوش المحتلّة. فهذه الصيغة التي سادت بعد الحرب العالمية الأولى، واستمرّت جزئيًا بعد الحرب العالمية الثانية، تخلي الدرب تدريجيًا لصالح أشكال أكثر تطوّرًا من فرض التبعيّة. في مقدّمة وسائل السيطرة الحديثة، يمكن إدراج السيطرة الاقتصادية والثقافيّة. ذلك إلى جانب وسائل أخرى سياسيّة وعسكريّة وديبلوماسيّة مموّهة بهذا القدر أو ذاك. وإذا كانت أساليب الحرب الناعمة، تتقدّم على حساب أساليب الحرب الخشنة، فهذا لا يعني أنّ الأخيرة قد أخلت الساحة كليًا. فعشرات التدخّلات العسكريّة والحروب المدارة من الخارج، وإثارة الحروب الأهليّة، إلخ...ما زالت واسعة الانتشار نسبيًا في عالمنا الحاضر. ولكن التشابك الاقتصادي والمالي الكبير للمجتمعات الحديثة، بات يسمح للدول المتقدّمة ذات الاقتصادات المتطوّرة، والقدرات المالية الهائلة، بأن تفرض إرادتها على الدول الأقل تطوّراً. فعبر ربط اقتصادات الأخيرة باقتصاداتها، بات بمقدورها أن تفرض شروطها المجحفة غالبًا عليها. وبواسطة المديونيّة المتصاعدة، صار شائعًا أن تستحوذ الدولة الدائنة على أصول الدول الملحقة وثرواتها، مجدّدةً الاستعمار بشكلٍ حديثٍ، بدل الشكل القديم الذي سقط تحت ضربات حركات التحرّر الوطني. من جهة أخرى، سمح تطوّر وسائل التواصل الحديث وخاصة شبكات البث التلفزيوني والسينمائي والاجتماعي للدول الأقدر على التمويل وعلى إنتاج المواد الثقافية، سمح باختراق وعي المجتمعات التابعة وتغيير أولوياته وثوابته، وربطه أيديولوجيًا وثقافيًا بالمركز الاستعماري، إلى جانب ربطه بالوسائل الأخرى التي سبق الحديث عنها. وهكذا باتت الدول المتحرّرة من الاستعمار القديم أسيرة وسائل السيطرة المتجدّدة. مما ساهم بتآكل مضمون الاستقلالات السياسية التي نالتها بعد الحرب العالمية الثانية، طوال حقبة إزالة الاستعمار القديم. وهذا الواقع المستجد، يطرح مهمّة تاريخيّة طويلة الأمد أمام هذه المجتمعات، تتمثل بالنّضال مرة أخرى لنيل استقلالها الاقتصادي والثقافي؛ لتتحرّر فعليًا ونهائيًا. وهي معركة لا تقلّ صعوبة عن معركة الاستقلال السابقة، وتحتاج دون شكّ، إلى الكثير من الجهد والتضحيات والوقت. ولكن لا مفر منها، إذا أرادت المجتمعات الخاضعة للشكل الجديد من التبعية، الحفاظ على هويتها ومصالحها، والمشاركة في بناء الحضارة الإنسانيّة من موقع الفاعل والشريك الحر، وليس الملحق الفاقد لحريته ولدوره.

*  إلى أيّ مدى تستطيع النّخب في مجتمعاتنا صوغ استراتيجيات معرفيّة للمواجهة الحضاريّة مع الغرب، في إطار مشروع التأسيس لعلم الاستغراب؟

 - دور النّخب المثقّفة في المنطقة في صياغة مشروع نهضويّ للأمّة. ليس هناك شريحة اجتماعية أكثر قدرة من المثقفين على فهم ما يجري في العالم، وتحديد المخاطر التي تتعرّض لها شعوب المنطقة، وصياغة رؤى ومشاريع فكريّة وسياسيّة واقتصاديّة واجتماعيّة تساهم في استقلال دول المنطقة ونموها وتكاملها الإقليمي والحضاري. ولكن الاختراق التاريخي لقوى الهيمنة العالمية للبنى الاجتماعية لدول الأطراف، ومنها مجتمعاتنا، جذب أقسامًا واسعةً من النّخب الثقافية إلى مدار أنماط تفكير المهيمن، وإلى الدخول في شبكة منافعه المادية والمعنوية. لذلك، ترتدي المهمّة النهضويّة للنّخب المثقّفة طابعًا صراعيًا، بين من يرى تأبيد التبعيّة قدرًا أو خيارًا، وفق مصالحه الذاتيّة، وبين من يعلي مصالح الشّعب والمجتمع ولا يرى إمكانيّة للتقدّم والنّهوض إلّا من خلال فكّ قيود التّبعيّة والخضوع للخارج المهيمن. فعلى نتيجة الصراع بين هذين التيّارين تتوقّف قضيّة انتصار المشروع التحرّري أو فشله. من هنا أهميّة خوض الصراع الأيديولوجي والثقافي والسياسي مع أنصار وقوى الالتحاق بالغرب المسيطر، بدون هوادة لفتح الطريق أمام تحرّر شعوب المنطقة وتكاملها ونهوضها الجماعي. وإلّا سنبقى أسيري مخطّطات إثارة التناقضات والصراعات المختلفة، الدينيّة والمذهبيّة والقبليّة والجهويّة، التي تفتّت نسيجنا وتبدّد قدراتنا وتحول دون بناء قدراتنا العلميّة والإنتاجيّة. ونبقى ضعفاء وفقراء وخاضعين نخدم مصالح أعدائنا بوعي أو دون وعي. لذا لا بدّ من تشجيع كلّ المبادرات العلميّة والفكريّة والثقافيّة والإعلاميّة الهادفة إلى الارتقاء بوعي النخبة ووعي الجمهور. ودعم كلّ المؤسّسات العاملة في هذا الاتّجاه، تعليميّة كانت أم دعويّة أم إعلاميّة. وكذلك، تشجيع ودعم الطاقات البشرية والنّخب المعنيّة بهذا الهم التنويري والتحريري. فعلى نجاح هذه الشريحة من الناشطين يتوقّف مصير مجتمعاتنا ومستقبلها. فلا حركة تحرّر وطنيّ ونهوض اجتماعي دون وعي ثقافيّ تحرّريّ ونهضويّ. مقابل ثقافة الخضوع ونزع الهويّة الوطنيّة والثقافيّة لا بدّ من ترسيخ ثقافة التّمسّك بالهويّة الوطنيّة والقوميّة ونزعة الاستقلال الثقافي والسياسي والاقتصادي. وهذا هو الدور الرئيس للنخب الثقافية الاستقلاليّة وواجبها.  

 
فروع المركز

فروع المركز

للمركز الإسلامي للدراسات الإستراتيجية ثلاثة فروع في ثلاثة بلدان
  • العنوان

  • البريد الإلكتروني

  • الهاتف