البحث في...
عنوان الحوار
إسم المحاور
إسم مجري الحوار
المصدر
التاريخ
ملخص الحوار
نص الحوار
 أسلوب البحث
البحث عن اي من هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على كل هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على هذه الجملة

October / 6 / 2020  |  816لم يتحول الاستغراب بعد إلى مفهوم معتبر ومعترف به

الحوار مع :الشيخ د. رضا غلامي
لم يتحول الاستغراب بعد إلى مفهوم معتبر ومعترف به

يتناول الحوار التالي مع الشيخ د. رضا غلامي مسائل إشكالية أساسية في فهم الحداثة الغربية وقيمها الكونية.. وهي مسائل تدخل في صميم البحث حول علم الاستغراب الذي لم يتحوّل بعد برأيه إلى مفهوم مكتمل وذلك لأسباب سنراها في طيّات هذا الحوار.

نشير إلى أن البروفسور غلامي حاصلٌ على شهادة الدكتواره في العلوم السياسية من كلية العلوم الإنسانية والدراسات الثقافية، ويشغل حاليًّا منصب رئيس مركز صدرا لدراسات العلوم الإنسانية/ الإسلامية، وقد صدرت له الكثير من الكتب والمقالات باللغة الفارسية، من قبيل: (الدين والعالم المتجدِّد)، و(فلسفة الحضارة الإسلامية الحديثة)، و(فقه على مفترق طرق الإسلام والغرب في مفهوم التقدّم)، و(الإسلام والعولمة: دراسة إمكان العولمة الإسلامية في القرن الحادي والعشرين)، وما إلى ذلك من الأعمال والآثار الأخرى.

 في ما يلي نص الحوار


* ما الذي يعنيه الغرب؟ وهل تعرّض مفهوم الغرب للتحوّل والتغيّر بتأثير من مسار العولمة؟

ـ هناك الكثير من الآراء المطروحة بشأن بيان ماهية الغرب، وقد لا يكون هناك اختلافٌ بين هذه الآراء، بل يتناول كلُّ واحدٍ منها تعريف الغرب من زوايةٍ متفاوتةٍ. ومن وجهة نظري فإنّ الغرب عبارةٌ عن «مجموعةٍ» عابرةٍ للجغرافيا، حيث تتألف هذه المجموعة من أجزاء متفرّقةٍ في العالم، ولا سيّما في أوروبا وأمريكا الشمالية. وفي الحقيقة فإنّ الغربَ عبارةٌ عن روح ما أن تنفخ في جسد حتى تحوّله إلى غربيٍّ، حيث يصبح هذا الجسد جزءًا من ذلك «الكل» الذي تحدّثنا عنه، سواءً أكان ذلك الجزء واقعًا في أوروبا أو في أمريكا أو في آسيا. وربما تساءلتم: من أيّ فضاءٍ وتفكيرٍ تمخّضت هذه الروح؟ وفي معرض الجواب عن هذا السؤال، أقول: إنّ هذه الروح وليدة فضاء ما بعد عصر النهضة، والنزعة الإنسانية، حيث تكون أصولها وقواعدها الأساسية واضحةً وثابتةً على الرغم من وجود التشعّبات الكثيرة في إطار مختلف الأطر المذهبية. وبعبارة أخرى: لو جرّدنا الغرب من هذه الأصول والقواعد الثابتة والواضحة، لن يكون هناك للغرب وجودٌ خارجيٌّ، وسوف تزول الحدود والحواجز الفارقة بين الغرب والشرق أو الغربي والإسلام. إنّ هذه الأصول التي يجب اعتبار الروابط بينها طوليةً، هي عبارةٌ عن:

    1ـ النزعة الإنسانية بوصفها أصل الأصول.

    2ـ الحداثة بوصفها الرئة التي يتنفس منها الغرب، والتي لا يمكن للغرب أن يخلو منها.

    3ـ النظام الرأسمالي بوصفه القوّة المحرّكة للغرب.

    4ـ الليبرالية بوصفها منظومةً اجتماعيةً مهيمنةً على الغرب.

* وقد تتساءَلون هنا مجدَّدًا وتقولون: هل ترون التيار اليساري وعلى رأسه الشيوعية تيارًّا منفصلًا عن الغرب؟

وجوابي عن هذا السؤال هو: إنّ الشيوعية على الرغم تمخّضها من رحم الحداثة، إلا أنها في العقود الأخيرة لم تواجه العزلة فحسب، بل وقد تحطَّم حتى مشروعها السياسي أيضًا. وعليه عندما نتحدّث اليوم عن الغرب، فإن النظام الرأسمالي والليبرالي الجديد يمثّل الشاخص البارز فيه. ثم إن الغرب في داخله متعددٌ، وفي بعض الموارد متناقضٌ، ونحن لا ننكر هذا التعدُّد، بيد أن طبقة هذا التعدُّد ليست من الأصول الأساسية. ولذلك يمكن القول: إن الغرب القائم على الأصول، يتألف من «كلٍّ» يتصف بهويةٍ وشخصيةٍ واحدةٍ.

* ما هي النماذج المنهجية التي كان بالإمكان تصوّرها في الاستغراب النقدي، ولها ضمانةٌ تنفيذيةٌ من الناحية الأسلوبية والعلمية؟

ـ على الرغم من أن الاستغراب لم يتحول حتى الآن لبعض الأسباب إلى حقلٍّ علميٍّ معتبَرٍ ومعترَفٍ به، إلا أنه، لا سيما بعد انتصار الثورة الإسلامية، أخذ يصبح جديدًا شيئًا فشيئًا، بل توفرت اليوم أرضيةٌ لتَحوُّله إلى حقلٍ علميٍّ هامٍّ في إيران وفي العالم الإسلامي، اللّذيْن يُعتبران منافسين قويين للغرب. ولا بد أنكم تتساءلون: لِمَ لَمْ يتمَّ الاعتراف حتى الآن بعلم الاستغراب، كما تمّ الاعتراف بعلم الاستشراق في العالم؟ ويجب القول في الجواب.

أوّلًا: إن الغرب كان في القرن الأخير هو من يُحدد ما هو المعتبَر وما هو وغير المعتبر وتبعًا لذلك ما هو الرسمي وما هو غير الرسمي من العلوم ومتفرعاتها.

وثانيًا: إن كان الاستشراق قد بلغ هذا المستوى من الأهمية بالنسبة إلى الغرب، وخُصّصت له عشرات الكراسي العلمية، فإن السبب الرئيس في ذلك يعود إلى أن الغرب المسيحي كان قد توصّل حتى قبل اندلاع الحروب الصليبية ولا سيما في أثنائها إلى خلاصةٍ مفادها أن الحصول على القوة، والتعويض عن التخلّف الكبير في الغرب عن ركب الحضارة الإسلامية، يحتاج قبل كل شيءٍ إلى معرفة الشرق بشكلٍ عامٍّ، والعالم الإسلامي بشكلٍ خاصٍّ، ويجب العمل على حل أسرار وعجائب التقدم الموجود في هذا الشرق. وفي عصر الحداثة تضاعفت قوّة هذا الدافع مع اندفاعة تيار موجة الاستعمار وظهور التيارات الاستعمارية الحديثة؛ وعندها لم تكن نظرة الغرب إلى الاستشراق هذه المرّة تأتي بدافع معرفة الشرق العظيم ذلك أن الكثير من عناصر قوّة الحضارة الشرقية كان قد تمّ القضاء عليها وإنما بدافع المعرفة القوية للشرق وللعالم الإسلامي بهدف استعماره والاستيلاء على خيراته ومقدراته. ويجب العثور على الأبعاد العميقة لهذه المسألة في كتاب «الاستشراق» لمؤلفة: إدوارد سعيد، والذي يعود تأليفه إلى عام 1978 م. يُعدُّ إدوارد سعيد من المؤسِّسين لنظرية ما بعد الكولونيالية، ويعد كتاب الاستشراق من أبرز مؤلفاته. وفي المقابل لم يكتب الظهور لعلم الاستغراب في الشرق وفي العالم الإسلامي أبدًا، إذ لا الروح الانهزامية أمام الحضارة الغربية كانت تسمح للاستغراب بالظهور بهدف التمهيد للتنافس مع الغرب وإحياء الحضارة الإسلامية، ولا الشرق من ناحيةٍ أخرى يحمل دوافع وشرائط الاستعمار والقدرة على الهيمنة على البلدان الغربية. ومن ناحيةٍ أخرى علينا ألّا ننسى أن الغرب ولا سيما في القرن الأخير لم تكن لديه رغبةٌ في حصول إدراكٍ عميقٍ للغرب في البلدان الإسلامية. وبعبارةٍ أخرى: من وجهة نظر الغرب كلما اتسمت مواجهة الغرب مع الشرق والعالم الإسلامي بمظهرٍ ساذجٍ وأكثرَ سطحيةً، كانت الفرصة ليقظة الشرق والعالم الإسلامي أقلَّ، الأمر الذي يقلّل من العراقيل الماثلة أمام الكولونيالية الحديثة والاستعمار الجديد. وبذلك لم يتجه الشرق والعالم الإسلامي نحو الاستغراب، ولا الغربيون أنفسهم كانوا يبدون رغبة في تمهيد هذا المسار وتعبيده. ومع ذلك كله فإن استعادة الثقة بالذات إلى جزءٍ مهمٍّ من العالم الإسلامي، وكذلك إحياء فكر العودة إلى الحضارة الإسلامية، أدى بالتدريج إلى إيجاد فكرة الاستغراب وتطويرها من أجل التعرف على الهجوم الغربي على الإسلام، ومعرفة نقاط ضعفه وقوته، وكذلك التنافس مع الغرب حضاريًّا. أرى أن الاستغراب النقدي يمثل النقطة المقابلة للاستغراب الظاهري والسطحي والتقليدي. علينا ألّا ننسى أنّ النزعة الانهزامية وفقدان الثقة بالذات في العالم الإسلامي أدّت إلى اعتبار كل نوعٍ من أنواع الرقي يعني تقليدًا للغرب، ومن هنا شاهدنا على أمد فترةٍ طويلةٍ نسبيًّا تقليدًا أعمى ومُذِّلًّا للظواهر الغربية، وهو ما عبّر عنه أمثال الميرزا ملكم خان في إيران بالتشبّه بالغرب من قمّة الرأس إلى أخمص القدم. ربما تحدّث البعض عن مسار اكتشاف وانتقال مظاهر الحضارة الغربية إلى العالم الإسلامي بوصفه نوعًا من الاستغراب، ولكن من الواضح أنه عندما يتم الحديث حاليًّا عن الاستغراب في إطار النقد، لا يقع البحث بشأن تقليد الغرب، بل البحث يقوم على تحطيم المشروع الغربي، واستحالة العالم الإسلامي، ومنافسة الحضارة الإسلامية للغرب. وعلى هذا الأساس أرى أن الاستغراب ليس علمًا منفعِلًا، بل وقد اتخذ من خلال الاتجاه الحضاري أبعادًا هجوميةً أيضًا.

* من أين تبدأ نقطة انطلاق الاستغراب؟ وبعبارةٍ أفضلَ: كيف ينبغي أن ينطلق مشروع «الاستغراب النقدي» من وجهة نظركم؟

ـ أرى أن نقطة البداية تتمثل في فلسفة الغرب الحديث، بمعنى أنه يجب أن يبدأ الاستغراب من نقطة التحوّل في فلسفة وهيمنة التفكير الجديد على الغرب بجميع مقتضياته. وأنا أعبّر عن الفلسفة الغربية الجديدة بالجانب النظري لروح الغرب. وبطبيعة الحال فإن روح الغرب تشتمل على الجانب الخارجي والعيني من الغرب أيضًا، بيد أن روح الغرب قد تمخّضت في مهد هذه الفلسفة. إني أرى أن الروح المهيمنة على الغرب تتألف من طبقتين: نظريةٍ وعمليةٍ، كما أرى أن التوقف عند الفلسفة الجديدة للغرب، تحرمنا من الحقائق العينية للغرب؛ وعليه يجب الحذر من التوقف عند فلسفة الغرب باسم الاستغراب. والنقطة الأخرى التي يجب أن تتحول في الوقت نفسه أو بعد الفلسفة الجديدة للغرب إلى نقطة انطلاقٍ في الاستغراب، هي إدراك مراحل تكوين وتكوّن العلم الجديد في الغرب الذي يرسم حدًّا حتى بين نفسه وبين الفلسفة. وبعبارةٍ أخرى: إن أسس العلم الجديد الذي يتم التنظير له في البداية من خلال أفكار بيكون وأنصاره، يستبدل هدف الفلسفة في معرفة ماهية وكنه الأشياء، ويجعل من اكتشاف القوانين الحاكمة على الظواهر من خلال اتجاه السيطرة على الطبيعة وإنتاج الرفاه المادي هدفًا أصليًّا له. وفي الحقيقة فإنه على الرغم من أنه كانت هناك بالتزامن مع بيكون جهودٌ من قِبل ديكارت وغيره بهدف الحفاظ على الفلسفة، إلا أنه لم تبقَ من الفلسفة التقليدية سوى الرياضيات، وخرج ما بعد الطبيعة من الفلسفة لصالح العلم الحديث.

وأرى أن فهم مسار تبلور العلم الحديث وإطاره وأهدافه في الاستغراب مهمٌّ للغاية، على الرغم من أن أسس العلم في الغرب كانت في تغيّرٍ مستمرٍّ، بحيث إنّ فلسفة العلم في القرن الحادي والعشرين للميلاد تختلف عن فلسفة العلم في القرن الثامن عشر والقرن التاسع عشر للميلاد بشكلٍ ملحوظٍ، وإنّه يجب إدراك هذا التفاوت بعمقٍ، بيد أن جميع هذه الأمور تكتمل بشيءٍ واحدٍ، وهو التاريخ. وفي الحقيقة فإني أعتقد أنه إذا لم تكن هناك دراسةٌ فلسفيةٌ لتاريخ الغرب، فإن فهم التحوّل في فلسفة الغرب، وكذلك مسار تكوين وتكوّن العلم الحديث لن تكون ممكنة؛ وذلك لأن الفلسفة أو العلم الحديث في الغرب ليس منفصلًا عن مناخه، وإن الفلسفة والعلم الحديث المنفصل عن مناخه التاريخي المهيمن على الغرب غير قابل للإدراك. وبطبيعة الحال فإني على خلاف خط تاريخ الفلسفة الذي هو خطٌّ زاخرٌ بالازدهار أرى ضرورة عدم الغفلة في الدراسة التاريخية للغرب حتى عبر فلسفة التاريخ الجديرة بالبحث، في محلها، عمّا حدث في قعر المجتمع الغربي سواءً بين النُخَب أو بين عامة الناس، وخفض الدراسة التاريخية إلى تاريخ الفلسفة أو تاريخ العلم. وعلى هذا الأساس فإني أوسّع من دائرة الدراسة التاريخية، وأرى بشكلٍ خاصٍّ أنّ النصوص الأدبية، لعصر النهضة ومن بعدها لمرحلة التنوير، جزءٌ هامٌّ في هذه الدراسة التاريخية. والنتيجة التي نحصل عليها من هذا البحث هي أننا في نقطة بداية الاستغراب الانتقادي نواجه مثلّثًا تشكُل الفلسفةُ والعلمُ والتاريخُ أضلاعَه الثلاثةَ.

* هل يمكن لكم تسمية الشخصيات والتيارات الغربية البارزة التي عملت على نقد التفكير والثقافة الغربية، وتقييم أدائها؟

ـ هناك بالإضافة إلى الناقدين من الشرقيين للغرب أو الناقدين المسلمين الذين كانت لهم نظرةٌ إلى الغرب من الخارج، ولذلك حقّقوا نجاحاتٍ جيدةً في النظرة الشاملة إلى الغرب، نواجه عددًا كبيرًا من الناقدين الغربيين ولا سيما بين الفلاسفة للغرب، وقد كان لجهود هؤلاء النقدية دورٌ هامٌّ في تطوير الغرب وازدهاره. وإن الكم الرئيس من هذا النقد للذات يعود إلى القرن الثامن عشر والقرن التاسع عشر للميلاد، حيث اصطدمت عشرات الأفكار بعضها ببعض، وتمخضت من بينها الكثير من المذاهب والمدارس الفكرية والفلسفية. وبطبيعة الحال فإن الجزء الأكبر من هذه الانتقادات كان ضمن النزعة الإنسانية والحداثوية التي تمخضت عنها؛ وفي الحقيقة فإن الناقدين لم يكونوا بصدد تحدّي الحداثة، بل كان جل سعيهم يهدف إلى تحقق أهداف الحداثة. وحتى حلقة الفلاسفة الناقدين الألمان، من قبيل مدرسة فرانكفورت في القرن التاسع عشر للميلاد، والتي كانت تعدّ ناقدةً لمسار الحضارة الغربية، على الرغم من الأهمية التي اشتملت عليه آراؤها، قد تحوّلت إلى حلقةٍ معزولةٍ ومبعَدةٍ. ومع ذلك فإني أرى أنه بعد ارتفاع نجم النظام الرأسمالي وسيطرته على دائرة العلم، خفّ بريق الانتقاد في الغرب، وانخفض مستواه على أمد القرن العشرين والقرن الحادي والعشرين للميلاد بالتدريج. وإذا لم نتمكن من القول بأن النقد قد اضمحل بالكامل، فلا أقل من القول بأنه لم يعد كسابق عهده من الازدهار في القرنين السابقين. وبطبيعة الحال كان هناك في القرن العشرين والقرن الحادي والعشرين للميلاد حضورٌ لكبار الناقدين ولا سيّما الحداثويين منهم، بيد أن النظام الرأسمالي سعى من خلال ديمومة مسار العلم وحبس العلم والتقنية في حصار الاستدراكات إلى تثبيت مصالحه من ناحية العلم، وعلى هذا الأساس لم يكن الحداثويون وحدهم من يريد إعادة الحداثة الخالصة، بل حتى إذا كان لديهم رؤيةٌ ناقدةٌ للخط الحضاري للغرب، إلا أن هذه الرؤية الناقدة لم تكن بصدد استبدال العربة. يمكنكم الرجوع إلى شرائط العقود الأخيرة، حيث كان للغرب خطوطٌ حمرٌ ولا سيما في الحقول السياسية، يحيث لو تجرّأ أستاذٌ وتخطى هذه الخطوط الحمر فإنهم كانوا يدرجون اسمه في كتاب الـ (101 بروفيسور خطير) والذي صدر في الولايات الأمريكية المتحدة. وعلى الرغم من ذلك يمكن اليوم لنا أن نذكر عدّة مجموعاتٍ من الناقدين في الغرب، والاستفادة من آرائهم الانتقادية في مسار الاستغراب. وإذا ما استثنينا الفلاسفة القارّيين الذين يردّون على العلمانية، والفلاسفة الوجوديين ولا سيما مارتن هايدغر حيث كان لهم دورٌ هامٌّ في فهم ذات الغرب وفتح كوّةٍ جديدةٍ إلى عالم المعنى، أو جاك دريدا الذي قدّم مؤخرًا بتأثير من مارتن هايدغر قراءةً جديدةً وفريدةً في نوعها لتراث الغرب الفلسفي، وكان هؤلاء بطبيعة الحال يصنّفون ضمن الفلاسفة القارّيين، وإن الطائفة الأولى من الناقدين هم أشباه الاشتراكيين الجدد، الذين هم على الرغم من عدم مشابهتهم للماركسيين واليساريين المعروفين، إلا أنهم لم يكفّوا أبدًا عن النقد الجاد للغرب الليبرالي. من ذلك مثلًا الفيلسوف وعالم اللسانيات الشهير نعوم تشومسكي الذي يكيل على حد تعبيره بوصفه مفكِّرًا اشتراكيًّا متحررًا، أشدّ الانتقادات للهيمنة الغربية على العالم بقيادة الولايات الأمريكية المتحدة. وأما المجموعة الثانية فهي تتألف من الأشخاص الذين يتخذون مواقفهم الانتقادية ضمن المعسكر الليبرالي، وأشير من بينهم إلى بول فايراباند في فلسفة العلم على سبيل المثال، فإنه على الرغم من سعيه في نهاية المطاف إلى العودة نحو الحداثة الخالصة، إلا أنه يستفيد من الخط المستقيم للعلم بوصفه سعيًا للنظام الرأسمالي من أجل ضمان مصالحه. كما أشير إلى عالم الاقتصاد الأمريكي الحائز على جائزة نوبل جوزيف ستيغليتز، الذي قوّض أسس البنك العالمي وصندوق البنك الدولي عمليًّا، وبشكلٍ غيرِ مباشرٍ منظمة التجارة العالمية التي تحولت اليوم إلى منظومة رأسمالية، وأفشى حقائقَ هامّةً حول آلية النظام الرأسمالي. والمجموعة الثالثة هي التي لا يمكن إدراج أفرادها ضمن المجموعة الأولى أو الثانية، ويمكن إدراج المسلمين الغربيين الناقدين للغرب والتقليديين ضمن هذه المجموعة الثالثة أيضًا. ويمكن أن نذكر من بين هؤلاء كل من: ريني غينون الذي اعتنق الإسلام لاحقًا وفريجوف شوان، وتيتوس بوخاردت وهو ألمانيٌّ من أصولٍ سويسريةٍ، حيث يُعد الأول مؤسِّسًا والثاني من أصحاب الحكمة الخالدة، وكذلك السيد حسين نصر، وهو على الرغم من مخالفته للنظام الفقاهتي إلا أنه يُعد اليوم من بعض الجهات أحد أهم وأدق الناقدين للغرب من زاوية المعسكر التقليدي. وعلى كل حالٍ لست هنا بصدد القيام بعملية إحصاءٍ وتبويبٍ دقيقٍ للناقدين للغرب، وإنما أشرت إلى الموارد الأخيرة على سبيل المثال فقط، ويمكن لكم الحصول على فهرسةٍ تفصيليةٍ بالناقدين الجادين للغرب في القرن العشرين والقرن الراهن، حيث سوف تجدون أنهم على الرغم من الاختلاف الكبير في ما بينهم يشتركون في بعض النقاط بشأن الغرب.

* ما هي نسبة النظام الرأسمالي إلى ظهور الحضارة الغربية المعاصرة؟

ـ يبدو أن الغرب المعاصر هو قبل كل شيءٍ ثمرة الامتزاج بين النظام الرأسمالي الجديد والعلم والتقنية، الذي تمكن من خلال الثورة الصناعية في القرن الثامن عشر للميلاد من تحويل الغرب إلى القوّة المادية الأولى في العالم. وحتى نمط الحياة الغربية هي قبل كل شيءٍ وليدة الظروف البيئية التي تضمن بقاء واستمرار النظام الرأسمالي. إن النظام الرأسمالي قد فرض اليوم معادلاتٍ على حياة جزءٍ رئيسٍ من سكان العالم، وإن هذا النظام لا يتقبل ولا يتحمّل أيّ تلاعبٍ أو عبثٍ بهذه المعادلات. لا بد من التدقيق في أنه بغض النظر عن تيار اليسار المناهض للرأسمالية، هناك الكثير من الناقدين الذين عبّروا عن المعادلات التي تحكم النظام الرأسمالي في العالم بما في ذلك الغرب نفسه بوصفها حربًا على جوهر الإنسان، ومكبِّلةً للحرية في جبلّة البشر. أرى أن النظام الرأسمالي يمثل نقطة ضعف الحضارة الغربية حتى أنه ليصحّ وصفه بعقب أخيل، وأن هذا النظام لو واجه الانهيار وهو ما تلوح علاماته في الأفق فإن البديل التالي له لن يكون هو النظام الديمقراطي القومي أو ما يعبّر عنه بعض الناقدين بالقومية التحررية؛ إذ إن التيار الديمقراطي القومي الراهن لم يعد بمقدوره التنصّل عن تبعيته للنظام الرأسمالي، ولذلك فإن الغرب بانهيار الرأسمالية سيشهد التقسيم ثم السقوط، وبذلك سوف تكون هناك فرصةٌ مناسبةٌ لانتشار الفكر الإسلامي في أجزاء واسعةٍ من الغرب، وهذا ما يستحق التأمّل في محله.

* هل المواجهة الانتقائية مع الغرب صحيحةٌ وممكنةٌ؟ بمعنى أن نعمل من خلال التفكيك والفصل بين العقائد والتداعيات والمعطيات الغربية في حقل «الحسن» و«القبيح»، على نأخذ من الغرب كل ما هو حسنٌ، ونجتنب منه كل ما هو قبيحٌ.

في ذات الرؤية الواقعية بشأن الغرب وملاحظة هيمنة الرؤية الإلحادية على الغرب، لا نرى الغربَ ظاهرةً مدنّسةً، ونقول بإمكانية اختيار المعطيات الفكرية والعلمية والفنية والصناعية للغرب المتطوّر والاستفادة من نقاط قوته ومزاياه. لو نظرتم إلى دأب الإسلام، ستجدون أن الإسلام لا يأبى عن إمضاء وتوظيف المعطيات البشرية الإيجابية التي لا تشتمل على ما يتعارض مع الأصول والأحكام الإسلامية، أو يمكن تغييرها وتعديلها. كما أني لا أرى في الأساس جميع ما نعتبره من محاصيل الغرب والحضارة الغربية هو من ثمار الحداثة، بل إن القسم الكبير منه هو من ثمار التعاطي الإنساني والبشري، إلا أن الحداثة بطبيعة الحال قد أعطته سرعةً ودفعةً غيرَ مسبوقةٍ، كما عملت على توجيهه وهدايته نحو اتجاهاتٍ خاصةٍ. وهناك بطبيعة الحال توجد بعض المعطيات في البين مما هو ممتزجٌ بالرؤية الإلحادية، ولذلك يستحيل إحداث التغيير فيه أو تغيير اتجاهه، ولكني أرى أن نسبة هذه الموارد لا تتجاوز حتى الخمسة بالمئة؛ وعلى هذا الأساس فإننا لا نقول بمجرّد إمكانية إيجاد خطٍّ جديدٍ من العلم والتقنية في اتجاه سعادة الإنسان من خلال توظيف البنية العلمية والفنية الموجودة في الغرب فحسب، بل ويمكن من خلال إحداث التغييرات الذكية والواعية في اتجاه العلم والتقنية المنبثقة عن الغرب، توظيف ذات هذا العلم والتقنية القائمة، في إطار التنافس مع الحضارة الغربية المنحطة، والانتقال بها إلى بناء وبلورة الحضارة الإسلامية الحديثة أيضًا، وبالمناسبة يمكن للاستغراب الانتقادي أن يضع بين أيدينا إطارًا للمواجهة الانتقائية مع الغرب.

* في الختام ما هو الاقتراح أو النصيحة التي تودون تقديمها في حقل الاستغراب؟

ـ أودّ في ختام كلامي التذكير ببعض الأصول الهامّة، وهي:

أولاً: إن النظرة الجزئية أو السياحية إلى الغرب، لا يمكن اعتبارها استغرابًا. إن الاستغراب يجب أن يشتمل على رؤيةٍ شاملةٍ ومتناغمةٍ.

وثانيًا: إن من لوازم الاستغراب، دقة النظر وعمق الرؤية واجتناب الملاحظات السطحية والظاهرية. وإنّ للملاحظات السطحية والظاهرية جهتيْن؛ الأولى: الانبهار بالقوة المادية للغرب، والعجز عن مشاهدة باطن الغرب. والثانية: التركيز على العيوب الظاهرية لدى الغرب، وعدم رؤية المسائل الأصلية والجادّة والتي تقترن في بعض الأحيان بالمبالغات المفرطة. ومن ناحيةٍ أخرى، يجب عدم مزج الاستغراب بالشعارات والسياسة، يجب عدم إخراجه من أروقة الجامعات والدراسات الأكاديمية، وإدخاله في حوارات المقاهي والأوساط العامة.

وثالثًا: يجب عدم التعاطي مع الاستغراب بانفعالٍ، وعدم التعامل معه من موقع الدفاع البحت. والصحيح هو أن يكون الاستغراب منبثقًا عن اتجاهٍ فعّالٍ ومبتكرٍ، وهو ما أعبّر عنه بمصطلح الاتجاه الحضاري.

ورابعًا: يمكن في الاستغراب المزج بين الأسلوب الفلسفي والمنهج العلمي والتجريبي؛ بمعنى أن الرؤية الكلية إلى الجزئي، وكذلك الرؤية الجزئية إلى الكلي والقائمة على التجربة، من شأنها أن تكون ناجعةً في إعداد الأرضية المناسبة للوصول إلى الاستغراب الواقعي.

وخامسًا: إن السنن الإلهية التي يتم بحثها في الفلسفة الإلهية للتاريخ، يمكن البحث عنها في الخلفية التاريخية للغرب، والعمل على أساسها على وضع قوانين بشأن الوضع الراهن للغرب ومستقبله. وعندما نتحدث اليوم عن الانهيار المحتوم للحضارة الغربية، إنما نستند في ذلك بشكلٍ رئيسٍ إلى القوانين المنبثقة عن السنن الإلهية.

 
فروع المركز

فروع المركز

للمركز الإسلامي للدراسات الإستراتيجية ثلاثة فروع في ثلاثة بلدان
  • العنوان

  • البريد الإلكتروني

  • الهاتف