البحث في...
عنوان الحوار
إسم المحاور
إسم مجري الحوار
المصدر
التاريخ
ملخص الحوار
نص الحوار
 أسلوب البحث
البحث عن اي من هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على كل هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على هذه الجملة

October / 4 / 2020  |  1465فهم الذات وفهم الآخر هما جوهر علم الاستغراب النقدي

الحوار مع :أ. د. إبراهيم العاتي
فهم الذات وفهم الآخر هما جوهر علم الاستغراب النقدي

في الحوار التالي مع الدكتور إبراهيم العاتي متاخمة لأبرز الإشكاليات الفكريّة والمعرفيّة التي تدور مدار العلاقة الاحتدامية بين الإسلام والغرب.

يرى البروفسور العاتي أنَّ الغرب لم يستيقظ من سباته الذي عاشه في القرون الوسطى إلا بعد إطّلاعه على التراث العلمي والعقلاني الذي أنجزه المسلمون. أما ما يتصل بعلم الاستغراب فقد أشار إلى أن من أهم شروطه المعرفية، فهم الغرب بدقّة لكي لا يقع في ما وقع فيه الاستشراق الغربي من معاثر وشبهات حيال الشرق العربي والإسلامي على مختلف الصعد..

في ما يلي نقرأ وجهة نظره حول عدد من الإشكاليات النظرية والتاريخية التي تضمَّنتها الأسئلة الموجَّهة إليه.


* ما معنى الغرب بالنسبة إليكم كمصطلح ومفهوم، وما المائز بين كونه تحيُّزاً جغرافياً وبين تمظهره كأطروحة حضارية وثقافية، وما حدود ومستوى العلاقة بين كل منهما؟

ـ الغرب كمفهوم concept يعني جملة ما انتجته الحضارة الأوروبية من قيم وفلسفات وديانات وقوانين وانظمة حكم ومجتمع، سواء في الفترة اليونانية أو الرومانية، وحديثا منذ عصر النهضة Renssance وحتى اليوم ثمّة اختلاف في النظرة إلى الغرب خلال الفترة التي حكمت فيها المسيحية الغرب كرأس حربة للدول الغربية في مشروعها للسيطرة على الشرق والعالم، أيام الحروب الصليبية وبين الفترة الاستعمارية التي يفترض أنّها قد انتهت لكنها وعادت اليوم بأشكال أخرى.

الغرب كتحيُّز جغرافي فقد كان، حتى مطلع العصور الحديثة، يعني القارة الأوروبية، وبعد اكتشاف القارة الأميركية امتد إلى أميركا الشمالية، وتبقى روسيا ودول شرق أوروبا في انتمائها إلى الغرب موضع جدال، لأن من الغربيين من يعتبرها إلى الشرق اقرب، لكني أرى أنها تنتمي اجتماعيًا وثقافيًا إلى الغرب، وإن كانت متخلفة عنه حضارياً.

أما المائز بين البعد الجغرافي للغرب وبين كونه أطروحة حضارية فهو سلّم القيم والحريات الشخصية، والنظام الاقتصادي الراسمالي، حتى وإن فازت بعض الأحزاب الاشتراكية، لكنها اشتراكية معدّلة جاءت لتتلاءم مع الطابع الرأسمالي الراسخ والنظام الديمقراطي الغربي.

* هل الغرب كتلة واحدة سياسياً وثقافياً واجتماعياً بحيث إما أن نأخذه ككل أو نتركه ككل؟ أم بالامكان فهم الغرب كما هو من أجل تكوين رؤية استراتيجية ومعرفية حياله؟

ـ لا، الغرب ليس كتلة واحدة في الميادين المختلفة: السياسية والاجتماعية والثقافية. فكما أنه تعدّدي في السياسة فإنه تعدّدي في المواقف من قضايا الشعوب المستعمرة والمستقلة، وكذلك قضاياها الداخلية وسياساتها الخارجية. أما في مجالات الأدب والفن وعالم الفكر والفلسفة، فتكثر فيه المذاهب والتيارات، ربما لأن المذهب السائد في الغرب منذ النهضة الحديثة، هو المذهب التجريبي الذي يؤمِّن بالكثرة والتعدُّد عكس المذاهب العقلية التي تميل إلى الوحدة وتحاول رد الكثرة إليها.

على الصعيد الفكري والاجتماعي هنالك مفارقات عديدة! فليس تقدّم بلدان الغرب سياسيًا واقتصاديًا وعسكريًا، يعني بالضرورة تقدّم شعوبها فكريًّا وثقافيًّا، لأن قسماً لا بأس به منهم يؤمنون بالخرافات والسحر وتحضير الأرواح، كما يحتفلون شعبيا في العديد من الدول الأوروبية وفي أميركا وكندا بعيد (الهالووين) الذي يمتزج فيه السحر بالأسطورة مع الاشباح وقصص الرعب. هناك من يرى أن جذور العيد مسيحية، بينما يرى آخرون أنّ جذوره وثنية. وتجدر الإشارة إلى أنّ معلوماتهم العامة عن شعوب العالم فقيرة ومشوشة!

* ما الأسس والمباني المعرفية والفلسفية التي أخذ بها الغرب لتشكيل حضارته الحديثة، وما الآثار المترتِّبة على ذلك لجهة نوع وطبيعة العلاقة مع الآخر الحضاري، وبخاصة العالمين العربي والإسلامي؟

ـ إنّ أهم الاسس والمباني المعرفية التي أخذ بها الغرب لتشكيل حضارته الحديثة هي: العقلانية، والمذهب التجريبي. بالاولى تحرّر من سلطة الكهنوت التي تميل إلى التفسيرات الاسطورية والخرافية عن العالم، وعن طريق الثانية اقام العلم التجريبي الذي كان سبب تقدّم الشعوب الأوروبية صناعيًّا وزراعيًّا وعسكريًّا.

والحقيقة أن كلا الأمرين قد استقاهما الغرب من الفلاسفة وعلماء الفلك والطب والكيمياء العرب والمسلمين، لكن التطوّر السياسي والاجتماعي والديني في الغرب كان يتّجه منذ عصر النهضة الحديثة، لتكوين بيئة علمية وفلسفية حاضنة لهذه العلوم وتطويرها وتجاوزها فتقدّمت حضاريًا، بينما خضع العالم الإسلامي لدول استبدادية تمتلك أسباب القوة المادية لكنها تفتقر لقوة العلم والمعرفة والحرية الفكرية، فتقهقرت حضاريًّا.

* تبعاً لمقتضيات وشروط الراهن العالمي، هل من منفسح لعقد حوار متكافئ مع الغرب؟ إذا كان الجواب بالإيجاب فما هي المسوَّغات التي تقدِّمونها، وإذا كنتم لا تجدون ذلك فما هي الأسباب الموجبة إلى ذلك السبب برأيكم؟!

ـ نعم توجد فرصة ومنفسح لعقد حوار جيد، ونسبة التكافؤ تعلو بفضل وحدتنا، لكن أول من يعادي الحوار في الغرب هم الحركة الصهيونية ولوبياتها المؤثرة في الدول الغربية، وبخاصة في الولايات المتحدة، فالحوار يؤدّي إلى التهدئة وتلمس المشتركات، بينما هي تراهن على التوتّر والبحث عن الخلافات، ولذلك فهي لا تشجع قوى الاعتدال بل قوى التطرف والارهاب، حتى تبرِّر مشاريعها في تفريغ فلسطين المحتلة من سكانها الأصليين.

كذلك فإن الحوار يثبت خطأ نظرية صراع الحضارات، التي قال بها هنتنغتون وأمثاله، والتي تجعل من العالم جحيمًا يحارب فيه الكل ضد الكل، وهو أحد مظاهر الفوضى (الخلاقة) التي بشّر بها صقور الجمهوريين قبل وبعد احتلالهم للعراق، ويحاول الرئيس ترامب اليوم إعادة إحيائها من جديد، ولا ندري كيف تكون الفوضى خلاقة أو مبدعة!!

* يجري الكلام اليوم على أنّ الغرب يعيش أزماته التاريخية في الحقبة المعاصرة:(معرفية، ثقافية، اجتماعية، اقتصادية) هل يدل هذا على ما سبق وتوقّعه شبنغلر قبل عقود عن سقوط الغرب أو أنّه يوشك على الانهيار؟

ـ إن أزمات الغرب المعرفية والثقافية والسياسية وغيرها حقيقية وموجودة وقد أدّت إلى حدوث حربين مدمّرتين كانتا في منتهى الوحشية والبعد عن التحضّر، وقد كتب الفيلسوف الألماني أوزوالد شبنغلر (1880 ـ 1936) كتابه الشهير (سقوط الغرب) على الإيقاعات الجنائزية للحرب العالمية الأولى. ورغم أنّ الغرب قد خاض حرباً ثانية أكثر تدميراً، حيث استُخدم السلاح النووي لأول مرة، لكن نبوءات شبنغلر عن الدورة الحضارية التي تحكم الحضارات منذ القدم، وهي كدورة الفصول الأربعة في عالم الطبيعة التي تبدأ بالربيع فالصيف فالخريف فالشتاء حيث تهرم وتموت لتفسح المجال لحضارة جديدة..هذه النبوءة لم تتحقّق بالنسبة للغرب! واذا تحقّقت جزئياً بظهور منافسين أقوياء فإن العرب ليسوا في هذه القائمة بل يمكن أن تكون الصين والهند اللذان يملكان جذوراً حضارية ضاربة في القدم مع تقدّم علمي واقتصادي حالي كبير جداً. ناهيك عن أن الحضارة الغربية فيها من المكر ما يمكنها من تجديد شبابها باستمرار، الأمر الذي يجعل شعوب العالم مشدودة إليها ومعجبة بأنماطها في العيش وطرق التفكير وإنجازاتها في الفنون والإعلام وضمان الحريات العامة والفردية، التي تبدو كالمساحيق التي تغطي وجهًا أثقلته قرون من استغلال الشعوب وايقاد الفتن والحروب التي لم تتوقّف حتى يومنا هذا!!

* كيف تنظرون إلى فكرة السعي نحو تأسيس هندسة معرفية لعلم الاستغراب، وهل ثمة ضرورة لتنظيرها، أم أنّ الأمر يتوقف على مجرّد كونه ترفاً فكرياً؟ ثم ما هي السبل التي ترونها لتأسيس هذا العلم؟

ـ إنّ السعي للتنسيق والتراتب المعرفي لعلم الاستغراب أمر مطلوب ومهم، حتى لا يبقى هذا العلم خاضعًا لمزاجية وظروف الأشخاص الذين يخوضون في الثقافة الغربية، وتبعاً للغة التي يتقنونها من تلك الثقافة، كالإنجليزية والفرنسية والألمانية وغيرها، والناجمة في الغالب عن لغة الدولة المستعمِرة، وطريقتها في الترويج لثقافتها وقيمها (الحضارية) بين الشعوب المستَعمَرة. فسياسات الدول الاستعمارية وإن كانت واحدة في الجوهر إلا أنّها مختلفة في التطبيق والمظهر! فطريقة الإنجليز ومنهجهم في تنفيذ مشروعهم الثقافي في مصر أو العراق مثلاً، يختلف عما قامت به فرنسا من محاولات استئصال للغة العربية في الجزائر وإحلال الفرنسية مكانها، في ما سمّي بسياسة (الفرْنَسة) التي نفذت بقسوة متناهية!.. مع ذلك فإن الذاكرة الثقافية المصرية تنظر بنوع من الإيجابية إلى الثقافة الفرنسية، لأنها تذكرها بالبعثات التي أرسلها محمد علي باشا (ت 1849) والي مصر، فكانت بداية النهضة المصرية الحديثة، غير أن هنالك من يعتبر بداية النهضة منذ حملة نابليون بونابرت على مصر الذي جلب معه فريقاً من العلماء في اختصاصات مختلفة، وقد أصدروا كتاباً يؤرِّخ لمصر في تلك الفترة عنوانه (وصف مصر)، وأسّسوا مجمعاً علمياً، واصدروا صحفاً وأنشأوا بعض المدارس، وعرف المصريون عن طريقهم التنظيم الإداري، فشكّل ذلك ما يشبه الصدمة الحضارية للمجتمع المصري ونخبه، عرّفتهم بماهم عليه من تخلّف في ظل حكم المماليك والعثمانيين.

نخلص من كل ذلك إلى أنّ موضوع الاستغراب إذا ترك من دون تحديد لمعالمه وأصوله، فإنه، في الغالب، سيخضع لتقييم كل كاتب، ولطبيعة التجربة التي عانى منها شعبه ووطنه من هذه الدولة الغربية أو تلك، ويقدِّم لنا أحكاماً تفتقر إلى الموضوعية.

* إلى أي مدى يقع التأسيس لعلم الاستغراب كمسعى جدي وضروري في الاستنهاض الفكري في فضائنا الحضاري العربي والإسلامي؟

ـ نحن نعلم أنّ الغرب لم يفق من سباته الذي عاشه خلال العصر الوسيط إلا بعد اطلاعه على التراث العقلاني والعلمي الذي أنجزه المسلمون حينما تُرجم إلى اللاّتينية، وقد تمثَّل الغرب هذا التراث ودفع به إلى مَدَياتٍ أوسع، ومنذ أربعة قرون أو يزيد، كانت الحضارة الغربية مزيجاً من الإنجازات والاخفاقات على الصعيدين الذاتي والموضوعي. فبينما هي تسجّل تقدّماً في مجالات الفلسفة والعلم والفنون والأداب، نراها تخفق في الوقت نفسه في تعاملها مع الشعوب المستضعفة، حيث تعاملها بقسوة وهمجية لا حدود لها، والأمثلة على ذلك كثيرة، ودون شك فإنّ التأسيس لعلم الاستغراب يساعد في تكوين رؤية نقدية للحضارة الغربية، تساهم في اكتشاف فضاءات حضارية ونهضوية تعزِّز ملكة النقد وتحقّق التقدّم.

* يتبادر إلى الذهن للوهلة الأولى أنّ علم الاستغراب هو المقابل الضدي لعلم الاستشراق، غير أن التمييز بينهما ضروري لجهة النظام المعرفي والتطبيقي لكل منهما. كيف تنظرون إلى هذا التناظر، وما الإشكاليات المطروحة في هذا الصدد؟

ـ ليس كل ما يتبادر إلى الذهن صحيح بالضرورة، فالاستشراق نشأ من خلفيات شبه أسطورية عن الشرق، مصحوبة بدوافع معرفية وحاجات مادية فرضتها السياسات الاستعمارية للدول الغربية في عصر الثورة الصناعية، والتي كانت تعيش صراعات حامية فيما بينها على مناطق النفوذ لتسويق منتجاتها والحصول على المواد الخام، بينما الاستغراب، في الغالب، أهدافه معرفية وتدخل إما في إطار التأثير الناقد، كالحوار الذي دار بين جمال الدين الأفغاني وأرنست رينان حول تقييمه للفكر الشرقي انطلاقاً من منهج عرقي (السامية والآرية)، أو رسالته (الرد على الدهريين) وهم الذين انكروا وجود الخالق وآمنوا بالطبيعة على مذهب (دارون)، وقد اطلق عليهم الأفغاني نفس التسمية القرآنية (وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ)، وعرفهم المسلمون بأنهم قوم أنكروا البعث والحساب، ورأو أن الدهر دائر لا أول له ولا آخر، وقد صادف العديد منهم في الهند حينما نفاه الانجليز إليها. وهناك أمثلة كثيرة أخرى كرد الشيخ محمد عبده على (هانوتو) وزير خارجية فرنسا حول موقفه من الإسلام، ونقد السيد محمد باقر الصدر للفلسفة الغربية، ومحاولاتنا المتواضعة في رؤيتنا النقدية للمذاهب الفلسفية قديمها وحديثها والتي صدرت في كتاب بعنوان (محاضرات في المذاهب الفلسفية)... ذلك كله يدخل في إطار تفكيك الفكر الغربي ونقده. أما القسم الآخر فهم المستغربون الذين يمثّلون التأثر السالب ومثاله الواضح الدكتور طه حسين في كتابه (مسقبل الثقافة في مصر) الذي ذهب فيه بعيداً في الاستغراب، ونظّر له تاريخياً، وهو يستغرب ممن يجعل مصر جزءاً من الشرق، بينما هي طوال تاريخها غربية ولا تاتيها المخاطر إلاّ من الشرق، ولا حاجة لقول الخديوي اسماعيل بأنّه سيجعل من مصر قطعة من أوروبا، لأنها هي كذلك فعلاً!! فاذا كان هكذا حال من سمّي (عميداً للادب العربي)، فما هو حال أدباء وشعراء عرب لا يعرفون شيئاً عن تراثهم الادبي العربي، لكنهم يعرفون أدقّ تفاصيل مذاهب الشعراء الفرنسيين الفنية، ويقلِّدونها أو يستلهمونها حرفياً، كما تحدّث أدونيس مؤخراً عن مؤسِّس مجلة شعر؟! وهذا الأمر هو الذي دعاه إلى أن يؤلِّف كتابه (ديوان الشعر العربي) بقسميه: (القديم والحديث) ليثبت رسوخ قدمه في التراث العربي، وأنّ الحداثة لا تعني انسلاخه من جذوره الحضارية الضاربة في القدم، سواء منها حضارة الهلال الخصيب (سوريا الكبرى) أو الحضارة العربية قبل وبعد الإسلام. كذلك فإنّ لجوءه إلى نصوص الصوفية بوجه عام، ونصوص محمد بن عبدالجبار النفّري بوجه خاص، تمثّل بديلاً عن النص السريالي الذي كان مغرماً به في مطلع شبابه، معتبراً نصوص الصوفية هي (السريالية قبل السريالية) كما قرأت له في السبعينيات!..كما أصدر مجلة (مواقف) تيمّناً بكتاب (المواقف والمخاطبات) للنفري، وابتدأ سلسسلة مقالات عن تأسيس كتابة جديدة!

* هل يعني علم الاستغراب برأيكم الرؤية التي تصوغها النخب المشرقية للغرب، والكيفية التي يتعاملون من خلالها مع الغرب لفهمه ونقد سلوكه حيال الشرق؟

ـ ما دمنا أسميناه (علم) الاستغراب، فإن العلم له حقيقة موضوعية لا تتأثّر برأي النخب، وإلا أضحت كالرؤية الاستشراقية التي يشوبها الخيال وحكايات ألف ليلة وليلة!! والنقد
لا بد أن يكون مسبوقاً بالتعريف والتحليل للفكر الغربي بغية الوصول إلى حقيقته.

أما التعامل مع الغرب من قبل النخب الشرقية، فلا يحكمه موقف واحد بل مواقف عدة، وهي: أولاً: موقف الرفض المطلق والاكتفاء بما هو موجود في التراث، وهذا هو موقف التيارات (السلفية النصيّة) عموما، على الرغم من أن هذه التيارات قبلت أن تأخذ بالمنجزات المادية للحضارة الغربية، دون منجزاتها العلمية والفكرية والمنهجية التي لولاها لم تتحقّق تلك المنجزات المادية.

ثانياً: موقف القبول المطلق بالحضارة الغربية في انجازاتها كافة، بل وتقليدها حتى في طرق العيش ونظم الحكم ومختلف شؤون المجتمع، وهذا هو تيار التغريب الذي مثّله أحمد خان في الهند، وميلكوم خان في إيران، ومصطفى كمال في تركيا، وأحمد لطفي السيد وطه حسين وسلامة موسى وحسين فوزي في مصر، وجميل صدقي الزهاوي في العراق.

ثالثاً: الموقف الوسطي الذي يؤمن بالخصوصية الحضارية للعالم العربي والإسلامي، لكن ذلك لا يمنع من الأخذ بجوانب معينة من الحضارة الغربية، مما لا يتعارض مع حقائق الإسلام وثوابته، ويحافظ على الهوية الحضارية للأمة. وهو منهج المصلحين والمجدِّدين كالسيد جمال الدين الأفغاني والشيخ محمد عبده والسيد محسن الأمين وغيرهم.

* الا ترون أنّ من المهمّات المركزية لعلم الاستغراب هي إجراء نقد معمّق لذهنية الاستتباع الفكري من جانب النخب العربية والإسلامية للغرب؟

نعم من الواجب نقد التبعية الفكرية للنخب العربية والإسلامية للغرب، وكذلك قبلها نقد التصوّرات الغربية عن إسهامات الحضارات الأخرى كالحضارة العربية الإسلامية. والحقيقة انا عندي تجربة شخصية حول هذا الموضوع، حين اخترت الكتابة في موضوع إشكالي وهو الموقف من الفلسفة الإسلامية: هل هي إسلامية حقاً أم أنّها فلسفة يونانية قام العرب والمسلمون بمهمة نقلها إلى العالم، فليس لهم فضل الابداع بل النقل بأمانة ليس إلا، كما يذهب أكثر المستشرقين! وعزوت ذلك إلى خلل في المنهج، حيث يقوم المنهج الاستشراقي، وهو منهج غربي في جميع الاحوال، على مفاهيم ثابتة مثل: فكرة المركزية الأوروبية ومفادها ان أوروبا هي مركز التاريخ والحضارة قديمًا وحديثًا، على ضوئها يقرأ تاريخ الإنسانية ويقاس تطوّر الحضارة!

ولعلّ أشهر من نظّر لهذه الفكرة هو هيجل الذي دعا إلى شطب الفلسفة الشرقية من تاريخ الفلسفة لأنها ممتزجة بالدين، وتاريخ الفلسفة عنده لا يشمل تاريخ الأديان، فلا يبقى من الفلسفة إذن إلا الفلسفة الأوروبية بشقيها: القديم أيام اليونان والرومان، والحديث منذ عصر النهضة وحتى اليوم!!

وحين ترصد نتاجات المفكِّرين العرب منذ القرن الماضي وحتى اليوم تجد أن العديد منها يصب في هذا الفكر الغربي الاستشراقي أو يتماهى معه. وعلى الرغم من الأثر العميق الذي تركه الشيخ مصطفى عبد الرازق ـ  شيخ الجامع الازهر ـ  على المجموعة الأولى من طلبة قسم الفلسفة في كلية الأداب بجامعة القاهرة حين ألقى محاضراته في الفلسفة الإسلامية، حيث أصبحوا فيما بعد رواد الفكرالفلسفي في العالم العربي، أمثال الدكاترة: توفيق الطويل وعثمان أمين ومحمد عبدالهادي أبو ريده وعبد الرحمن بدوي وزكي نجيب محمود وأحمد فؤاد الاهواني.. فإنهم اتجهوا بشكل عام نحو نشر الفكر الغربي كبدوي الذي تبنّى الوجودية وزكي نجيب محمود الذي تبنّى الوضعية المنطقية أو فلسفة التحليل وأمين الذي صار ديكارتيّاً! لكن بدوي ود. زكي قد عدلا من اتجاههما وحاولا التوفيق بين التراث ومعطيات الحداثة، أما البقية فلم يبتعدوا كثيراً عن التراث العربي الإسلامي.

وتجربة د.زكي جديرة بأن نسلِّط عليها ضوءاً أكثر. فقد أصدر كتابه (خرافة الميتافيزيقا) بداية الخمسينيات من القرن الماضي الذي اعتبر فيه النقاش حول وجود الله وخلود الروح وحرية الارادة لا طائل من ورائه، وأنها تنسج من رؤوس الفلاسفة ولا تستند إلى التجربة، وقل مثل ذلك بالنسبة للمطلق والعدم والشيء في ذاته والعلة الأولى للعالم والقيم الأخلاقية والجمالية والمُثل الأفلاطونية، وغير ذلك مما لا يقع في مجال الحس، كما ذهب (كارناب) و(مور) (ورسل) و(فجنشتين) و(آير) وغيرهم من أعلام فلسفة التحليل، أو الوضعية المنطقية الذين تأثّر بهم د. زكي نجيب الذي اعتبر أنّ مشكلات الميتافيزيقا ليس لها وجود فعلي، ولا يصح أن نقول عنها صحيحة أو خاطئة، لأن الخطأ والصواب لهما وجود في الواقع أما مشكلات الميتافيزيقا فهي مصطلحات لا وجود لها لأنها خاوية أو فارغة من أي معنى!! واذا كنا نريد أن نعيش حياة فكرية معاصرة يجب التخلّي عن هذا التراث! لكنه حين كتب (تجديد الفكر العربي) عاد لمحاولة التوفيق بين التراث والمعاصرة، ولكن طبقاً لمنهج خاص يراعي القسم العملي الذي يمكن أن يفيدنا في تغيير واقعنا نحو الأفضل، أما ما عداه فسوف يكون مادة للمؤرِّخين وحسب. وتجدر الإشارة إلى أن الروائي الكبير نجيب محفوظ كان من ضمن هذه المجموعة، وكان من المفروض أن يكمل الماجستير بإشراف أستاذه الشيخ عبدالرازق، لكنه اتجه نحو الرواية فأبدع فيها، وإن بقي الأثر الفلسفي واضحًا في بعض رواياته، وخاصة (أولاد حارتنا). أما الدكتور علي سامي النشار فرغم تقديمه لإضافات مهمة لاكتشاف المنهج التجريبي في الإسلام لكنه بالغ في إنكاره لأصالة الفلسفة الإسلامية واعتبر الكندي والفارابي وإبن سينا وإبن رشد (مقلدة اليونان)، وخالف أستاذه الشيخ مصطفى عبد الرازق الذي أكدّ على أصالة الفلسفة الإسلامية وإبداع أعلامها!

* أي المرجعيات الفكرية والفلسفية التي تقترحون مطالعتها ـ  سواء كانت عربية أم أجنبية ـ  ولا سيما منها تلك التي قاربت حقيقة الغرب بما فيها من محاسن وسلبيات؟

ـ  هنالك العديد من المرجعيات الفكرية والفلسفية التي ساهمت في تقديم أفكار قاربت حقيقة الغرب، واقترح ما يلي: مالك بن نبي، أنور عبد الملك، د. عبد الكريم اليافي، د. عادل العوا، د. حسن حنفي، د. مراد وهبه، د. فؤاد زكريا، د. زكريا ابراهيم، د. إمام عبدالفتاح إمام، شبنغلر، توينبي، تشومسكي، جارودي، مراد كوفمان، وغيرهم.

 
فروع المركز

فروع المركز

للمركز الإسلامي للدراسات الإستراتيجية ثلاثة فروع في ثلاثة بلدان
  • العنوان

  • البريد الإلكتروني

  • الهاتف