البحث في...
عنوان الحوار
إسم المحاور
إسم مجري الحوار
المصدر
التاريخ
ملخص الحوار
نص الحوار
 أسلوب البحث
البحث عن اي من هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على كل هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على هذه الجملة

November / 18 / 2020  |  1562مهمة علم الاستغراب تحرير العقل العربي من تبعيته

الحوار مع :أ. هادي قبيسي
مهمة علم الاستغراب تحرير العقل العربي من تبعيته

في الحوار التالي مع الأستاذ في العلوم السياسية هادي قبيسي نقرأ تظهيراً لفكرة أن التفاعل الحضاري الهائل بين الغرب والشرق لم يتوقّف. ففي بعض الأوقات استطاع الشرق أن يعيد للغرب معرفته بنفسه ويوفِّر له الاتصال بالتراث الفكري اليوناني بعد الانقطاع عنه. وفي وقت لاحق كان الشرق مصدراً حضارياً شاملاً للعالم الغربي الذي كان يعاني من خسوف معرفي وانحدار في النظم والتدابير الكلية والجزئية. ورأى قبيسي أن ثمة تحولات كبرى تعصف اليوم بهذا المدى الغربي، وانقساماً يلوح بين ضفتي الأطلسي، وهذا ما يحتِّم قراءة جديدة للمستجدات والمتغيِّرات الاستراتيجية والتداعيات والآثار المترتِّبة عليها شرقاً.

معه كان الحوار التالي حول الغرب ورؤيته لعلم الاستغراب:


* معنى الغرب كمصطلحٍ وكمفهومٍ، هل ترونه تحيزًا جغرافيًّا أم يتمظهر كأطروحةٍ حضاريةٍ وثقافيةٍ، وكيف تحددون العلاقة بينهما؟

 ـ  يصعب تقفّي أثر كلمةٍ ذاتِ تاريخٍ مديدٍ في التداول، عبرت من أزمنةٍ وقرونٍ تفاوتت فيها دلالاتها الثقافية وتغيّرت رمزيتها السياسية بحسب ظروف المتداولين واتجاهاتهم، ومتغيرات الموضوع وتبدلات أرضه. هي كلمةٌ، في جذرها ومنطلقها، شديدةُ البساطة نشأت بفعل حقيقةٍ فلكيةٍ، إذ إنّ المدارات والحركات أوجدت شروقًا وغروبًا. وقد تسالم سكان هذا الكوكب الفريد على أنّ ثمة جهةً للغروب وجهة للإشراق. بعد هذا الاستقراء البدهي، نعود إلى سبر الترسّبات، حيث تم تحميل الكلمة إرث الجغرافيا والزمان والثقافات التي انحدرت فيهما ومنهما وتموضعت في مقابل الشرق، خائفةً من حركة الفتح الإسلامي في الأندلس وصقلية والبلقان، أو مندفعةً نحو الاستعمار، بأشكاله المختلفة، على أرض الشرق.

اليوم، إذ أنظر إلى الغرب في صورةٍ كليةٍ واحدةٍ، أستطيع أن أستوعب تطلّعات القوى المشكِّلة لقراراته وصورتيه الداخلية والخارجية. إنها قوًى قصديةٌ واعيةٌ تتحرك وفق منظورٍ وغايةٍ، وتبني عليهما قراراتٍ تعكس روح شعوب تلك البقعة وناتج مجهوداتها الحياتية الكلية في أيما صعيدٍ. كما تسعى تلك القوى، التي لا تُخضِع كل سلوكها لرقابة شعوبها ومن تمثّل، إلى تشكيل وصناعة صورةٍ قصديةٍ عن الاجتماع الداخلي الغربي لتوفير الرضا الاجتماعي على أرضها وسمعة النموذج في الخارج، وكذلك تشييد ستارٍ من صورةٍ خارجيةٍ فيها ترهيبٌ وترغيبٌ ينفع في رفد امتداد المصالح واستشراء النفوذ والسيطرة حيث يمكن.

الصورة الكلية العامة تخفي بحجابٍ شفيفٍ صورةَ الحصائل الجزئية والتعدّدية القومية والفكرية والحزبية. إنّه حجابٌ لا ينكشف لمن شكّل انطباعَه عن موضوعة الغرب من خلال مخيلةٍ مريضةٍ بالدونية الثقافية أو محدودةٍ بالعقل الانطباعي القشري. إن تلك الحصائل الغفيرة والأشتات العديدة لا تخرج عن أفقٍ فلسفيٍّ واحدٍ، تماسَك واشتد تدريجًا منذ انقطاع الغرب عن السماء ورسالاتها الوحيانية، ليغدو إطارًا مفسِّرا لكل التنوع الغربي، مع استثناءاتٍ نادرةٍ، وتفاوتٍ في أثر ذاك الانقطاع على الفكر والسلوك.

أهل تلك الجغرافيا الثقافية، إن صح التعبير، ينقسمون في النظر إلى هوية الغرب إلى فئتين أساسيتين، قد يصح أن نطلق عليهما تسميةً عاجلةً، الأولى فئة الهوية الكليانية، والأخرى أصحاب الهوية الجزئية. الهوية الكليانية يحملها من هم أكثر احتكاكًا بالخارج وبالآخر غير الغربي، وهم يعتبرون غربهم أطروحةً حضاريةً متميزةً جغرافيًّا ينبغي حصر منافعها وثمار حضارتها فيها، وجذب منافع الحضارات الأخرى إلى أرضها بأي وسيلةٍ، وبسط هيمنتها الثقافية حيث تمتد سلطتها وسيطرتها، ولا يتم نقل محاصيل جهودها إلا حين تعود عليها بأضعافٍ لا تُعدّ، إنها فئةٌ تُعنى بالمحصلة الكمية حصرًا.

أما أصحاب الهوية الجزئية، فهُم الذين بالغَت الجغرافيا في تهميشهم. هم شرق الغرب أو جنوبه، أو أولئك الذين افتقدوا الصلة المصلحية أو الأخلاقية بالجماعات الرأسمالية الحاكمة. أغلب هؤلاء يعتبرون غربهم تجربةً حضاريةً تعدديةً لا تحمل صورةً واحدةً، ولا يمكن وضعها في بعدٍ واحديٍّ، على الرغم من أنها استفادت، وهو ما لا يمكن إنكاره أو التغافل عنه، من المرحلة الاستعمارية المباشرة لتشكّل خصوصيةً حضاريةً تتميز بالتفوق الاقتصادي والتقني، دون أن ننسى أن من يحاول تشكيل صورة الغرب في خارجه يقدم هذا التنوع للتخفيف من عنصريةٍ لا تذبل في ذاكرة التاريخ.

أهل الشرق كذلك قسمان في أدنى حدٍّ، متغرِّبون نالت منهم سطوة الفوقية الغربية، ومستغربون يُعملون عقلًا يعترف بذاته وبوجود إنسانه وينظر إلى الآخر بمعيارية إنسانيةٍ طامحةٍ نحو العدالة. أهل الفئة التي تعاني الدونية الثقافية يرون إلى الغرب كحالةٍ جغرافيةٍ تتصل فيها تجربةٌ حضاريةٌ خاصةٌ، ربطًا بين الجغرافيا والأنماط البشرية بما يذكّرنا بنظريات التفوق العرقي، بحيث يكون الغربي بنظرهم واحدًا متحضرًا متفوقًا ممتنعًا على النقص الإنساني، رافضين كل الوقائع التي تخدش لذة إعجابهم به ونموذجيته الرائدة لتبعيتهم. في الناحية الأخرى نصل إلى الفئة التي نحاول هنا أن نستقرئ معالمها ونبوح بمساعيها وبعض تفكّرها، فهي ترى إلى الغرب كمجموعة تجاربَ وحصائلَ معرفيةٍ، متفاوتةٍ في القيمة حدًّا صارخًا أحيانًا، كما تتفاوت في أصالتها الجغرافية، إذ تتصل بالحضارات الأخرى وتأخذ منها، على الرغم من تحركها في أفقٍ فلسفيٍّ واحدٍ، متفهمةً في الآن عينه خصوصية الجماعات الرأسمالية وانعزاليتها الفوقية داخل وخارج أرضها.

بالخلاصة، فإن المجال الجغرافي ينظم حركة التأثيرات الحضارية المتبادلة، سواءً تلك التي بين التجارب الغربية، أو بينها وبين خارجها، وكذلك يحدد الجواذب الجيوبولتيكية وتفاعلاتها وما تقضيه من أحكامٍ مختلفةٍ على الطروحات الفكرية والثقافية المتنازعة. الغرب ليس وحدةً ثقافيةً، وإنما هو حركةٌ صاخبةٌ، لكنها حركةٌ تقع في حدودٍ وأسقفٍ لا تخرج منها.

* انطلاقًا من ذلك، من أين يبدأ تاريخ الغرب حسب تصوّركم: مما قبل اليونان، أم من الفترة اليونانية والرومانية، أم من القرون الوسطى، أم ابتداءً من عصر الأنوار وصولًا إلى أحقاب الحداثة، أو كل ذلك؟

 ـ  إذا اعتبرنا أن التاريخ الخاص بجغرافيا معينةٍ هو تراكم تجارب أهلها وخلاصة حياتهم، فهنا نكون قد ربطنا غابر الأزمنة بأحدثها. أما إن أردنا السؤال عن تاريخ الغرب الحالي المتشكّل بصفاته وخصائص الماثلة اليوم أمامنا، فإن لم نكن قادرين على كبح الأثر الحتمي للماضي السابق على هذا التشكّل، فعلى الأقل قد نتمكّن من تحديد زمن ولادته وقيام براعمه الأولى بالتفتح.

الغرب الحالي ولد مع موت الكنيسة بمدية خطاب وصَفَها بالظلامية والتخلّف، وفتح باب تجريب محاولاتٍ أخرى تحت عنوان التنوير، فكل ما هو ليس كنسيَّ الرداء أصبح حديثًا وجديدًا، وبالتالي منقطعًا عن الظلام. هذه ولادةٌ واضحةٌ وإن كانت المراحل العمرية للوليد المستحدث قد تطرفت في التعبير عن نفسها وخصوصياتها دون الخروج من دعاية التنوير.

الغرب كما هو اليوم، وكما يمكن التعامل معه، هو ابن عصر الأنوار، هو غربٌ أرضيٌّ بالكامل، هو غربٌ عملانيٌّ دون مثالياتٍ وبلا تصوراتٍ كونيةٍ، هو غربٌ منكوسٌ نحو التراب، بلا هويةٍ أخلاقيةٍ واضحةٍ، سواءً بالمنظار الميكرو سوسيولوجي أو الماكرو الواسع الكلي لاجتماعه.

التاريخ أيضًا نحسبه مما اتصل ووصل إلينا اليوم من معاملة الغرب للشرقيين، فما هو ميلاد هذا الشكل الحالي من التعامل، الذي لبس رهجة «واجبات الرجل الأبيض» ليمارس رفاهية تملّك الأرض واستعباد الفقراء والاستئثار بالموارد، من هذا المنظار فإنّ عصر الأنوار واحتلال ما وراء البحار عصرٌ واحدٌ، وميلادٌ لمشروعٍ واتجاهٍ في مرحلةٍ زمنيةٍ واحدةٍ.

أثر المراحل السابقة على هذه الولادة «الحديثة» للغرب الأبيض، هو أثر القابلة التي ساهمت في وضع المولود في هيئته المتناسبة مع تفاعلات الزمان ورياح الأفكار وواقع الأرض الصلبة. لكن هذه القابلة لا تشبه مستقبل هذا الوليد، هي مراحلُ متصلةٌ بخيطٍ رفيعٍ منذ المرحلة اليونانية، لكنها منفصلةٌ في كثير الأمور، خيطٍ وصفه هايدغر بأنه سيرٌ نحو العدمية.

* هل ترون الغرب كتلةً واحدةً سياسيًّا وثقافيًّا واجتماعيًّا بحيث إما أنْ نأخذه ككلٍّ أو أنْ نتركه ككلٍّ؟ وكيف يمكن تكوين رؤيةٍ استراتيجيةٍ ومعرفيةٍ حياله؟

 ـ  الجماعة البشرية الحضارية المسماة غربًا هي مكوَّنةٌ من انتشارٍ ممتدٍّ ومؤطَّرٍ في مجموعةٍ من الدول، والمجموعات الناطقة بلغاتٍ مختلفةٍ، والتي تتقاطع مع هوياتٍ عرقيةٍ متجذرةٍ في التاريخ. لكن كل هذا التنوع كما أسلفنا يتحرك تحت سقفٍ واحدٍ، يساعد في إعطاء تسميةٍ كليةٍ على هذا التجمّع الواسع. لا شك في أن الإطار السياسي المكوَّن من الحكومات الغربية مجتمعةً والمعروف بحلف الناتو (منظمة حلف شمال الأطلسي)، ويمثل تجمّع مصالح النخب والقوى الحاكمة في كل تلك الكيانات السياسية، ويشكّل مركز صناعة الاتجاهات في كل المجالات، يساعد كذلك على تكوين رؤيةٍ كليةٍ لنتائج وآثار هذا الازدحام الثقافي، الذي يشكّل في تلك المنظمة مساراتٍ كليةً مستقرةً نسبيًّا. لكن إذا قررنا التوصل إلى مفاتيحَ للتعامل والتواصل والتفكير في معرفةٍ حقيقيةٍ بمساحة المخاض التعددي التي تفرز الرؤى الكلية والمسارات المستقرة، قبل كل هذا التولد والإفراز الذي يجري بفعل تفوق وقهرية سلطات الرأسماليين داخل الدول الغربية وفي ما بينها، فإنّنا إن شئنا نستطيع البحث عن معرفةٍ تعكسها العقول المتعدّدة والشخصيات المتفاوتة في انغلاقها الفكري أو القومي. وإن كشفنا عن نقاب (الدولة) في الغرب لوجدنا كذلك قوًى متعددةً متصارعةً على الرغم من الغلبة الساحقة للرأسماليين، غلبة تهددها بين الحين والآخر تظاهرات العمال الفقراء وخطابات اليساريين، وتكتفي العظة الدينية بالنقد الرخيم وشبه الصامت لها.

اليوم ثمة تحولاتٌ كبرى تعصف بهذا المدى الغربي، وانقسامٌ يلوح بين ضفّتَيِ الأطلسي، الأميركي ينكفئ بسرعةٍ واتجاهٍ لم يبلغهما منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية، وهذا ما يحتّم قيام قراءةٍ جديدةٍ للمستجدات والمتغيرات الاستراتيجية والتداعيات والآثار المترتبة عليها شرقًا.

التعامل الكلي مع الغرب، إذًا، هو مع سياساته وما يستجيب لها من قطاعه الخاص وبناه الثقافية، وما يتحرك في ظل مؤسسات سياسته الخارجية من أنشطةٍ فرديةٍ أو جماعيةٍ أو حتى أنساقٍ هوياتيةٍ وثقافيةٍ ونظمٍ عملانيةٍ وحركةٍ تداوليةٍ وتبادليةٍ. أما التعامل الجزئي فيمكن أن يكون مع اتجاهاته الداخلية المختلفة، وتنوعاته السياسية والأخلاقية. وبالخلاصة فإن التعامل مع الغرب، كما هو في واقعه، يعني ضرورة المواءمة بين مستويين في النظر، الكلي والجزئي، وعدم تأثير أيٍّ منهما على الآخر، بمعنى ألّا يؤخذ ما هو كليٌّ على أنه جزئيٌّ، ولا العكس.

* كيف شكّل الغرب حضارته الحديثة وما هي الآثار التي ترتّبت على طبيعة العلاقة مع الآخر، وبخاصة العالمين العربي والإسلامي؟

 ـ  يعسر عادةً نظم حراكٍ معرفيٍّ لجماعةٍ بشريةٍ كبرى، خصوصًا إن كان هذا الحراك يقدم نفسه متحررًا من ضرورة الإطار أو البنيان الإيديولوجي الواحد، بل يفتح المجال أمام كل تخمينٍ أو ادعاءٍ لأن يعبّر عن نفسه بحريةٍ. وبالفعل وكما أشرنا آنفًا فإن الغرب ليس واحدًا إلا في المعطى السلطوي وحاكمية الرأسمالي، فكيف نتحدث عن أسسٍ عامةٍ وكليةٍ؟

إن العبور إلى الإشكالية المتصلة بما نروم معالجته، وهي تُعنى بالعلاقة التي نسجها الغرب مع الآخر الحضاري، يسهّل علينا وضع إطارٍ للكلام عن الأسس. فالغرب الذي نبحث عنه هنا هو الغرب الحاكم لا المحكوم، غرب السلطة الذي يقرر شكل العلاقة مع الحضارات الأخرى. ولا شك أن كلَّ سلطةٍ حاكمةٍ تولّد مناخاتٍ اجتماعيةً تتبنى رؤاها ومواقفها باعتبارها ممثّلًا شرعيًّا لها، فتتحدّث لغتها من دون أن تحمل شعار السلطة الرسمي، وكأنما هي في بعض المشاهد كل الجمهور ونبض أفكاره.

نتحدّث، إذًا، عن الأسس العامة للغرب كموقفٍ سياسيٍّ يعكس عزيمة القوى السلطوية على تقرير تموضع الحضارة الغربية تجاه الآخرين. هل يمكن أن نخرج بأسسٍ كليةٍ منسجمةٍ بحيث ننظمها في إطارٍ يفسرها ويخرجها من حال الغموض أو الخطوط المتوازية؟

أشرنا مسبقًا إلى أن تاريخ الغرب كما نعرفه الآن تقرّر في القرون الأربعة المنصرمة. ذاك التولد كان بفعل لحظةٍ اجتمعت فيها ثلاثةُ عواملَ: ثقافيةٍ، تكنولوجيةٍ، اقتصاديةٍ، تعبّر عن نفسها بالعنوان الثقافي بالدرجة الأولى، فتسمّى عصر الأنوار، وبالعنوان التكنولوجي بالدرجة الثانية، لنقرأ «الثورة الصناعية»، وبالعنوان الاقتصادي الذي لا نسمع الكثير عن دوره الكبير في تلك الولادة، فظل بلا اسمٍ ولا شعارٍ، لأنه ارتبط عضويًّا بالاستعمار والإبادة الجماعية واستعباد الرقيق ونقل الموارد من كل أنحاء العالم إلى أوروبا، بدءًا من المجزرة النادرة في تاريخ البشرية والتي لحقت بالهنود الحمر، وما أدت إليه من تحوُّلٍ هائلٍ في الموارد الاقتصادية الأوروبية، نتيجة توفّر المعادن الثمينة في تلك الأراضي الشاسعة بكمياتٍ غيرِ مسبوقةٍ.

«عصر الأنوار» عنوانٌ يُطلق على هذا كله في التداول العام واللغة الثقافية الدارجة، فمن المجال الثقافي يتم توليد التكنولوجيا والاقتصاد، ومن ثَمَّ استيعاب مخرجات ونتائج تطورهما المتسارع والنهم على الإنسان والحياة والأفكار. المجال الثقافي هذا تولَّد، كما يشير اسمه لغةً، بعد ظلمةٍ، فهو ولد في رحم موقفٍ إيديولوجيٍّ يريد إبدال ماضٍ ببديلٍ جديدٍ. ماضٍ كان يقف على أساسٍ من رؤيةٍ كونيةٍ كليةٍ ذاتِ أصولٍ سماويةٍ، يستقي منها مشروعيته وجدواه المفترضة. وبديلٌ ارتأى قطع جذور مشروعية ذاك الماضي باختزالٍ في الرؤية الكونية، وهذا ما يعطيه إمكانية تشكيل بديلٍ متجاوِزٍ، ويعطينا فرصةً لطرح إطارٍ كليٍّ مفسِّرٍ.

الاختزال قد يكون أحد أكثر المفاهيم سعةً واستيعابًا للنموذج الغربي السلطوي، بدءًا من اختزال الرؤية الكونية في طرحٍ يعترف بالموجودات ولا يعترف بالموجِد، ويستغرق في إحصاء واستقراء مشاهد التدبير ويُغفل المدبِّر، واختزال العقل في التجريب، وإلغاء العقلانية المنطقية البسيطة ومناهج استدلالها من الجذور البديهية، واختزال القيم في ما هو محسوسٌ، وإخضاعها للتوافق والاضطراب الاجتماعي، واختزال الإنسان في حياته المادية وتطوّره في السيطرة التكنولوجية. ومحصلة كل ذاك في الرؤية العالمية، اختزال المجتمع الدولي بالغرب، وبكلامٍ أدقَّ في الغرب الشمالي إلى حدٍّ بعيدٍ.

ينتج عن مبدأ اختزال الإنسان قيام وولادة الإنسان التوسّعي الاستعماري، وإن لم يكن الاستعمار في التاريخ البشري «غربيًّا»، فإنّ كلَّ توسّعٍ احتلاليٍّ ناهبٍ يقوم على نظريةٍ ماديةٍ صِرفٍ للحياة البشرية وإن لبست شعاراتٍ ماورائيةً. الغرب هنا يقدّم نفسه اختزاليًّا صريحًا، مع تبريرٍ تشارك فيه كل الأدبيات والسرديات الممكنة، ليدوم إمكان الاحتلال أو النهب من خلال الهيمنة. بعد اختزال الإنسان تمّ، إذًا، اختزال الإنسانية في المركزية الغربية، فالإنسانية هي الغرب وحصائله الحضارية، أما ما تبقّى فينبغي أن يكون تابعًا تمارَس تجاهه «واجبات الرجل الأبيض» الصلبة أو الناعمة أو الذكية.

بالخلاصة، وبناءً على هذا الأفق العام الذي تتحرك منه وفيه قوى التماسّ مع الخارج الآخر، تقوم أنساق العلاقات الاستتباعية مع العالمين العربي والإسلامي، مدعومةً بالتفوق التقني الذي بدأ مع اكتشاف أميركا والمركنتلية الاستعمارية التي وفّرت مواردَ غيرَ مسبوقةٍ في التاريخ.

* هل من منفسَحٍ لعقد حوارٍ متكافئٍ مع الغرب؟ وما هي المسوِّغات التي تقدّمونها لقيام هذا الحوار إن وجد؟

 ـ  نعود عند كل مفصلٍ إلى السؤال الأساس: أي غربٍ؟ الحوار الحقيقي لا يقوم في حدّه الأدنى، إلا بوجود طرفين يتناظران ويتبادلان الطروحات ويسعيان إلى تصور واقعٍ يتواجدان فيه وقد يتعايشان. الغرب/السلطة ينبغي أن يتجاوز مشكلة الاعتراف بوجود الآخر، لا الوجود الشخصي المتعين في الخارج، بل الاعتراف الحقوقي والثقافي، فهو يعيش نمطيةً إسقاطيةً ترى إلى كل ما عداه منطويًا ومضمرًا في عصر الظلمات، وينبغي أن يسير نحو الأنوار المادية، والاستعمار وسيلةٌ لذلك الانبعاث المنشود بحسب السرد الاستشراقي.

لا يمكن حصول حوارٍ يعترف بوجود طرفين يقبلان اختلافاتهما ويتطلعان إلى نقاط التواصل، في آنٍ يرى أحدهما في الحوار سبيلًا للتطويع والإخضاع والإلغاء الثقافي، فهنا لم نعد على طاولة حوارٍ بل على مائدة تفاوضٍ في نهايةِ حربٍ. الحوار المتكافئ مع الغرب/السلطة يمكن أن يحصل في لحظةٍ تاريخيةٍ مستقبليةٍ ينعقد فيها توازنٌ معقولٌ في القوى، بحيث لا يعود بإمكان الطرف الإلغائي أن يتملص من الاعتراف بالآخر مضطرًّا.

لا شك في أن تفلّت بعض الغرب نحو علاقاتٍ مقبولةٍ مع بعض الشرق الاستقلالي التفكير، يبقى عرضةً للقمع الأميركي وغير الأميركي، من دون أن ننسى الانشقاقات التي بدأت تظهر في التحالف العابر للأطلسي، متوازيةً ومنفعلةً مع صعود قوًى عالميةِ النفوذ في آسيا إلى المسرح الدولي بقوةٍ، وهو ما قد يفتح مستقبلًا مجالاتٍ جديدةً للغرب للعودة إلى تبنّي النظرية الواقعية للعالم.

الحوار الممكن هو مع الأجزاء والأطراف المتنوعة داخل المسرح الغربي وخارج سيطرة أو توظيف السلطة، خصوصًا وأنّ كثيرًا من العقول لم تقع في لبس «صراع الحضارات» وعرفت مبكرًا أو مؤخرًا أن الحرب على الشرق العربي والإسلامي إنما هي لعبةٌ مصنعةٌ في المطبخ الغربي الأمني.

* هل ثمة عناصرُ مشتركةٌ بين العالم الإسلامي والعربي من جهةٍ والغرب من جهةٍ ثانيةٍ؟

 ـ  الجوار الجغرافي مع أوروبا والتفاعل السلمي والعنيف بين العالمين الغربي والإسلامي العربي طوال القرون الماضية، كل ذلك ترك ميراثًا ثريًّا من المشتركات الثقافية. ثمة تفاعلٌ حضاريٌّ هائلٌ لم يتوقف في الاتجاهين، ففي بعض الأوقات استطاع الشرق أن يعيد للغرب معرفته بنفسه ويوفّر له الاتصال بالتراث الفكري اليوناني بعد الانقطاع عنه، وفي وقتٍ لاحقٍ كان الشرق مصدرًا حضاريًّا شاملًا للعالم الغربي الذي كان يعاني من خسوفٍ معرفيٍّ وانحدارٍ في النظم والتدابير الكلية والجزئية. التجارب الفائتة هذه ليست في صالح الغرب/السلطة ولذلك تم القطع معها وحفظ مؤدياتها التي تحولت بطبيعة الحال ومرور الزمان إلى معطياتٍ ساريةٍ في التاريخ منفصلةٍ عن مرجعيتها، ليستطيع الغرب الحالي أن يقدّم نفسه معلمًا لم يستفد من غريمه الشرقي يومًا، ويحفظ فوقيته ومركزيته.

الميدان هذا جسر اتصالٍ مع الغرب/الاجتماع الذي يتحرّك بدوافعَ موضعيةٍ في التعامل مع التاريخ، وليس لديه مخاوفُ من إبداء تلك الموضوعية. فتجاربُ كهذه تحمل فرصة قراءة الخط الزماني للتفاعلات وكيفية التعامل البناء بين ضفتَيِ البحر المتوسط جيئةً وذهابًا. وكذلك يحمل الماضي السلوكيات الخاطئة والمدمرة للطرفين في بعض المراحل، إذا ذكرنا مثالًا الحروب الصليبية والاستعمارية، أو السلوكيات العثمانية خلال السيطرة على مساحاتٍ أساسيةٍ في البلقان الأوروبي. إنّها مراحلُ تستحق كذلك النقد والاعتراف والخروج بالعبر.

هناك قضيةٌ أخرى تشكّل مساحةً مشتركةً محتملةً وهي المتغيرات الجارية في النظام الدولي والتي قد تفرض مساراتٍ غربيةً جديدةً، فأين سيتموضع الآخر الإسلامي العربي من تلك المسارات، بما له من ثقلٍ وحضورٍ مؤثِّر في المجتمعات العربية عبر المهاجرين القدامى والجدد، وبما يمكن أن يحمله من تماسّ جغرافيٍّ مع أوروبا كساحةِ قطعٍ ووصلٍ متوقَّعةٍ بين النفوذ الأمريكي والنفوذ الأوروبي، فكيف تستفيد مجتمعات ما بعد الاستعمار من هذي التحولات المستشرَفة احتمالًا راجحًا.

القضية الثالثة والهامة هي الدور الإسلامي في تطوير المنظومة الثقافية والمعرفية الغربية التي تعاني من أزمة الاختزال الشاملة لكل نواحي الحياة، وما أنتجته الحداثة المتطرفة والمتسارعة في تنامي تطرفها من أزماتٍ كارثيةٍ روحيًّا وأخلاقيًّا واجتماعيًّا، يمتلك الفكر الإسلامي الحلول الممكنة والواقعية لها. وقد بدأ الغرب بالاعتراف بضرورة الروحانية، فراح يطرق أبواب البوذية ومتفرعاتها ويفتش عن روحانياتٍ مختلفةٍ لرأب الصدع الجوهري في بنيان الحداثة من دون أن يجد الإشباع الملائم. هنا يكون للإسلام ميدانُ تحرُّكٍ لم يجد فيه بعد مواطئ لأقدامه لأنه لا يزال في موقع الدفاع وسط معركة النماذج والمقبولية، إلا أن الفرصة ممكنةٌ ومفتوحةٌ.

ميدانٌ أخيرٌ هو وحدة المضطهِدُ الرأسمالي لكلا المجتمعين الغربي والشرقي، مع تفاوتٍ في الموارد بين العالمين يتيح للغربي بناء دولة رفاهٍ نسبيٍّ توفر الكفاية المعيشية للجمهور ليترك الرأسماليين يجمعون الثروات بهدوءٍ وسلامٍ. هنا قضيةٌ مشتركةٌ بين فئاتٍ كبرى انقطعت عن التواصل والتعارف على الرغم من وحدة الأزمة ووحدة سببها. المسارات الغربية القادمة كما يبدو ستنتج إشكالًا بنيويًّا في نظام دولة الرفاه الغربية، وبالتالي يفترض أن تتقارب الفئات المضطهَدة، أو قل أن تزيد فرص تواصلها وتعاملها التعارفي والتفاعلي.

* إذا كان من نقدٍ لسلوك الغرب، فإلى أيِّ حقلٍ يُوجَّه هذا النقد: الشعوب؟ الحكومات؟ المؤسسات صاحبة القرار؟

 ـ  النقد، من ناحيةٍ أخرى، لما سميناه الغرب، يمكن أن يطال مختلف المستويات، فالشعوب تشكّل مواقفها تبعًا لإعلام الحكومات وبرامج التثقيف ومناهج التعليم المرسومة بدقةٍ والمحكومة للغايات والسياسات العليا. تتحرر نخبٌ وفئاتٌ من تلك السلطة المفروضة على الوعي لتمارس نقدًا لسياسات حكوماتها الداخلية، من دون أن تشغل نفسها كثيرًا بما تفعله تلك الحكومات في الخارج، خصوصًا إن كانت تفعله بصمتٍ ومن دون صخبٍ، وفي أحسن الأحوال فإن تلك الفئات التي اتخذت الموقف النقدي لا تحمّل نفسها وشعوبها مسؤوليةً أخلاقيةً عن تلك السياسات.

الحكومات كما هو معروفٌ وكما أسلفنا تتبنى أخلاقياتٍ كولونياليةً، تمارسها حسب قدرتها، وبعض الضعيفة منها تمارس دورها في ظل الكولونياليات العريقة والفاعلة مقابل مغانمَ أو دفعًا لأضرارٍ. المؤسسات صاحبة القرار الممتزجة من شركاتٍ عابرةٍ وأجهزةٍ حكوميةٍ لا تعترف بوجودٍ «آخر»، فهو وجغرافيَاه وموارده مجردُ ميدانٍ متاحٍ للقدرة الغربية حيث تستطيع التسلط والاستيلاء.

* توقع شبنغلر قبل قرنٍ أن يسقط الغرب أو أنه يوشك على الانهيار، هل ترى ذلك في ظل الكلام اليوم على أنه يعيش أزماته التاريخية في الحقبة المعاصرة (المعرفية، الثقافية، الاجتماعية، الاقتصادية)؟

 ـ  يعيش الغرب بشكلٍ نمطيٍّ أزماتٍ رأسماليةً دوريةً، وقد دخل مخاضاتٍ هائلةً في القرن الماضي تمثّلت أهمها في ثلاثة حروبٍ كبرى: الحربين العالميتين الأولى والثانية، والحرب الباردة. أثّرت هذه الحروب على العالم والمحيط العربي الإسلامي بشكلٍ بنيويٍّ عميقٍ، فقد تمت مواجهة الكثير من الأزمات عبر تصديرها إلى الخارج.

الغرب اليوم ينقسم بشكلٍ حادٍّ وغيرِ مسبوقٍ، بسبب المخاوف الحقيقية على مستقبل الدولار والاقتصاد الأميركي، ما دفع الولايات المتحدة الأميركية إلى إلقاء أعباء تلك المخاوف والعثور على حلولٍ لها في كل ميدانٍ ممكنٍ بما في ذلك أوروبا نفسها.

على الرغم من ذلك، ونظرًا للمجال الحيوي الاستعماري والهيمنة القائمة، لا يزال الغرب قادرًا على الاستمرار وحماية وجوده وموقعه، حيث يتم كبح وتفريغ الانهيارات المحتملة والمتأتية من الضعف الداخلي، بالعمق الاستراتيجي في الخارج. لكن حتى متى ستجدي سياسة الهروب هذه، ذلك ما يصعب تخمينه لارتباطه بعواملَ غيِر قابلةٍ للحصر. ففي ذلك العمق الاستراتيجي يتراجع الغرب في مجال الإنتاج والتصدير بشكلٍ أساسيٍّ لصالح الصين، لكنه لا يزال يحافظ إلى حدٍّ كبيرٍ على السطوة المالية والعلمية والمعلوماتية والتقنية والرقمية والأمنية والثقافية.

لا شك في أننا نمر في مرحلةٍ فاصلةٍ منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، حيث ينقسم الغرب على نفسه بهذه الحدة بين ضفتَيِ الأطلسي، منذ أن دخلت أميركا إلى النطاق الشرقي بشكلٍ مباشرٍ وشيدت في الوقت عينه أوروبا المدمرة عبر مشروع مارشال، مع استثناءاتٍ مؤقتةٍ مثل حرب عام 1956 على مصر، فنحن نشهد اليوم تحوّلًا كبيرًا في العلاقات بين الضفتين. إنّه تحوُّل غيرُ متسارعٍ لكنه تأسيسيٌّ وهامٌّ. أمام هذه المتغيرات لا بد من بذل جهدٍ معرفيٍّ أعمقَ وأوسعَ وأكثر استشرافًا لاستكشاف مجمل مآلات التعامل والتواصل مع هذه المستجدات بفرصها وتهديداتها.

* هل تعوّلون على فكرة السعي نحو تأسيس هندسةٍ معرفيةٍ لعلم الاستغراب، أم إنّ الأمر مجرد ترفٍ فكريٍّ؟

 ـ  الهيمنة لا يمكن أن تتقوم من دون معرفةٍ شاملةٍ بالمهيمَن عليه وبالطرق الممكنة لبسط النفوذ على مجاله الوجودي في كل أبعاده، ولا تستمر من دون استدامة المعرفة بتحولاتٍ وتغيّراتٍ ذاك «الآخر» الطريدة، كما أنها عمليةٌ ذاتُ مناحٍ معرفيةٍ في التشريع والتبرير وبناء الصورة، مضافًا إلى شكلها غير المباشر المستحدث الذي يقوم على احتكار المعرفة والتحكم بتوزيعها في كل المجالات، وعلى التحكم بالعقول والقناعات والحسابات والهويات الثقافية. فهي، إذً، عمليةٌ ترتكز إلى معرفةٍ لا تُمْكِنُ إلا بها، كما تستند إلى وفرة الموارد المادية من ناحيةٍ أخرى. هاتان قاعدتان أساسيتان في قيام واستمرار الهيمنة.

في مقابل هذا الخط يقبع المستضعفون الذين تم استغلالهم والاستيلاء على مقدرات بلادهم ونهبهم بالتراكم. كيف يمكن لضحايا الهيمنة الغربية أن يخلصوا إلى سبيل تحرّرهم التدريجي من دون الإحاطة بالأساس المعرفي للهيمنة، خصوصًا أن القاعدة الأخرى وهي وفرة الموارد لا يمكن استهدافها بشكلٍ متكافئٍ بوفرةِ مواردَ مقابلةٍ. تبقى هنا المعرفة والإبداع فرصة كل حركة تحررٍ لتعويض التفاوت في القوى المادية للمهيمن، وخصوصًا إن كانت هذه الهيمنة تستند إلى الشخصية المعنوية لمجريها وفاعلها، لا إلى أدوات القوة المباشرة حصرًا.

هنا، المطلوبٌ تقصٍّ معرفيٌ لحراك الغرب وفهم كيفية ممارسته للازدواجية المؤلفة من مفهومَيِ التحدِّيث والاستعمار، وكيف تصب هذه الممارسة في صالحه بنسبةٍ ساحقةٍ، بالاستفادة من انفجار المعلومات في هذا العصر. فلا بد من أن يتحول الاستغراب إلى حقلٍ علميٍّ كاملٍ، كي يتسنى للشعوب التي تعرضت للغزو و/أو الهيمنة، أن تدرك سبل التعامل مع هذا الآخر المجتاح لوجودها الميتافيزيقي والفيزيائي.

لكن لا شك بأنّ أيَّ طبيبٍ يعمل في معالجة الأوبئة السارية يكون معرَّضًا بشكلٍ كبيرٍ للإصابة بالداء، ولذلك يحتاج عادةً إلى إجراءاتٍ خاصةٍ. كثيرٌ من نخب المستضعفين وكوادرهم تعرضوا لهذه المشكلة، ونتج عن سعيهم في بيداء الاستغراب طوافٌ حول كعبة الهيمنة والإعجاب بها. فمن لا يملك روحًا متحرِّرًا ولم يقتفِ أثر من حرروا الأرض وكسروا أسطورة الغرب في منطقتنا وقدموا كل شيءٍ في هذا السبيل، سيكون مقصرًا في إجراءات الوقاية من وباء الإعجاب بالجلاد، المعروف بمتلازمة ستوكهولم.

* ما هي السبل التي تعتبرونها ناجعةً لتأسيس هذا العلم؟

 ـ  تحويل حقلٍ ثقافيٍّ إلى علمٍ يستدعي أولًا جمع ما تناثر من أعمالٍ منجزَةٍ باللغات والأزمة المختلفة في هذا المجال، ومن ثم درس الاتجاهات المنهجية والتحليلية التي انشغل بها الباحثون قبلًا، وتصنيف ما نقص من القضايا أو زوايا النظر والاهتمام لتغدو برنامجَ عملٍ مستقبليًّا، يخضع أولًا لمقاربةٍ منهجيةٍ تحدد أسلوب السير نحو الكشف عن الإجابات، ليبدأ تاليًا حراكُ البحث.

طالما كان الحقل الذي نعنى به يقع جغرافيًّا خارج المتناول المباشر على الرغم من دنوّه بفعل الجوار أو بفعل تقنية الاتصال، إلا أنّ اشتغالًا علميًّا جادًّا واستقصائيًّا يبتغي ملاحقة التفاصيل واستدخال الوقائع المباشرة في عمليات التحليل والفهم، لا بد من أن ينطلق من أقرب نقطةِ اتصالٍ ممكنةٍ مع الموضوع. لا بد في هذا المجال من الشراكة مع التيارات النقدية الغربية المختلفة، لما لها من باعٍ طويلٍ في التجربة المعرفية، وبما تختزنه من إدراكٍ مباشرٍ للغرب بما هو ميدانٌ واتجاهٌ، خصوصًا أن كثيرًا منها يتحرك ضمن أطرٍ مؤسساتيةٍ توفر له الهوية والاستمرارية وإمكانية تقديم القيمة العلمية والنقدية بشكلٍ وافٍ ومتعدد المستويات. كما لا بد من الاستفادة من الجهود التي بذلت من قبل القوى التي واجهت الهيمنة الغربية، سواءً في مرحلة ما قبل الحرب الباردة أم ما بعدها، خصوصًا أن الكثير من خبراء تلك القوى ونخبها لا يزال قادرًا على بذل الجهد. وأخيرًا، إن أمكن، توفير حضورٍ مباشرٍ للباحث في ميدن الاستغراب على أرض الغرب، بحيث يستطيع أن يكوّن صورةً مَعيشةً عن الأحوال التي كان يسمع عنها أو يقرأ في الحد الأدنى.

* إلى أي مدًى تعتبر أنّ التأسيسَ لعلم الاستغراب مسعًى جديٌّ وضروريٌّ للاستنهاض الفكري في فضائنا الحضاري العربي والإسلامي؟

 ـ  علم الاستغراب هو مشروعٌ طَموحٌ يؤدّي إلى الفصل بين حالة التداخل الحضاري والتبادل الفكري، وحالة التبعية المعرفية والسياسية بكل آثارها المدمرة. وهو علمٌ أداةٌ يوفر القدرة على تفادي الآثار الهدامة للسياسات الغربية، باستباقها بخطوةِ وعيٍ مسبقةٍ، تمنع السيطرة على العقول والقلوب. إنه يؤسس لإنتاج العلم المتحرر من المقرر السلطوي الغربي، والمستفيد من التجربة الذاتية والثقة بالنفس، إلى جانب الحركات النقدية المتنوعة حول العالم.

يفترض كذلك في هذا العلم أن يوفِّر الاستفادة من النتاج الغربي في المجالات المختلفة، بعد إخضاع ذاك النتاج للمعايير الخاصة بالثقافة المحلية، بحيث يتواءم مع المتطلبات والظروف والرؤية الكونية الخاصة، ذلك أن علم الاستغراب هو في الأساس التعرّف دون توهم الدونية الثقافية.

* يتبادر إلى الذهن للوهلة الأولى أنّ علم الاستغراب هو المقابل الضدي لعلم الاستشراق، ما الإشكالات المطروحة في هذا الصدد؟

 ـ  الاستشراق أساسًا عمليةٌ إيديولوجيةٌ إسقاطيةٌ تحركت في موازاة المشروع الاستعماري الغربي، لتبريره في المقام الأول، ومن ثم انتقلت إلى العمل المعرفي المتخصص بالإخضاع والتفتيت والتجزئة واستهداف البنى الدينية والثقافية والاجتماعية في مرحلة الهيمنة. فهي تتأرجح بين اختلاق شرقٍ مؤاتٍ للإخضاع، وبين فهم الشرق كيما يسهل إخضاعه.

يتميّز الاستشراق كذلك بالحضور المباشر للباحث في ميدان البحث الذي يسهل الوصول إلى موضوع المعرفة، والتقاطع في أحيانٍ كثيرةٍ مع الإنتاج المعلوماتي لأجهزة الاستخبارات الغربية، ما يوفر له قاعدةَ بياناتٍ ضخمةً يستند إليها.

بالمقابل، الاستغراب لا يمتلك ميزة الوصول المباشر إلى ميدان البحث، ولا يتوفَّر على معطياتٍ استخباريةٍ، لكنه يمكنه التعويض عن ذلك بالاستفادة من التيارات النقدية الغربية ومن توفر المعرفة المتاحة باللغات الغربية بشكلٍ منظّمٍ في قواعد البيانات الألكترونية الهائلة، ومن دراسة أنشطة الاستعمار والهيمنة في الأرض العربية والإسلامية.

من ناحية الهدف التطبيقي نروم في الاستغراب التخلّص من الهيمنة والاستعداد للبناء الذاتي، وبذلك يقوم المشروع العلمي لهذا الحقل على أساسٍ منهجيٍّ مختلفٍ، ويتعامل مع قضايا ذاتِ طبيعةٍ مختلفةٍ. فهو يفترض أن يكون واقعيًّا، لكن بالمعنى الإسلامي للكلمة، واقعيًّا وفق رؤيةٍ كونيةٍ شاملةٍ لا إختزاليةٍ.

* هل يعني علم الاستغراب برأيكم الرؤية التي تصوغها النخب المشرقية للغرب؟

 ـ  أعتقد أن علم الاستغراب يهتم بمعرفة الغرب في ساحته الجغرافية، وفي أنشطته الخارجية. وينبغي ألّا يرتمي في حضن الرؤى والأفكار، بقدر ما يهتم بالحقائق والمعرفة الواقعية، ويرتكز منهجيًّا إلى نظامٍ معرفيٍّ جادٍّ، يستفيد من مخرجات الخطاب الغربي الثقافي والسياسي لكي يقدم صورةً فعليةً للمتلقي العربي والمسلم عن طبيعة موضوع البحث.

هو مشروعٌ يبدأ من الغرب وينتهي عند امتداداته في الشرق، ولا ينبغي أن ينطلق من رغبةٍ أو نظرةٍ مسبقةٍ، بل لا بد من التعامل بشفافيةٍ، بشرط فهم المفارقة اللغوية والمفهومية للسرديات الغربية المختلفة، فما يقدمه المهيمن على أنه معرفةٌ، فإنما يقدمه من موقع المسيطر، ويصبغ كل النتاج المعرفي بهذا المنظار. سوى الخطاب النقدي الغربي الذي يأخذ مسافة ما مع المنظومة السياسية الاقتصادية، ومقرراتها الثقافية السلطوية.

كذلك فإن توصيف حقيقة وواقع السلوك الغربي تجاه الشرق، بالأرقام والمعلومات الملموسة، هو غايةٌ وهدفٌ أساسيٌّ للاستغراب، بحيث يتخطى الصورة التي يصنعها المهيمن عن مساعيه الإنسانية والتنموية، ويصل بنا إلى الحقائق.

* ألا ترون أن من المهمات المركزية لعلم الاستغراب هي إجراء نقدٍ معمقٍ لذهنية الاستتباع الفكري من جانب النخب العربية والإسلامية للغرب؟

 ـ لا بد لعلم الاستغراب من أن يخدم غاية معرفية أصيلة، وهي تحرير العقل العربي والإسلامي من حالة الركود والخمول الناتجة من الإستناد إلى المنتجات الغربية الجاهزة، ولا بد للوصول إلى هذا المبتغى من طريقين:

 الأول: وقعنة المنتج الغربي، وتبيين لانهائيته ولاتناسبه مع المتطلبات العربية والإسلامية، وتوضيح المنهجية الوظائفية التي يتم من خلالها اختيار المنتجات المعرفية المعدة للتصدير إلى العالم العربي والإسلامي.

الثاني: تبيين الفارق الكبير بين المثقف الذي لا يطلب منه سوى الحياد في مؤسسةٍ معرفيةٍ أو إطارٍ ثقافيٍّ يتحرك في تاريخ تتحقق فيه السيطرة للسلطة الغربية، بحيث إن حركته المعرفية المستندة إلى «الأمر الواقع» تدور في خدمة تلك السلطة ودوام سيطرتها، وبين المثقف الذي لم يعد منتِجًا وقد أصبح تابعًا ومنسحقًا ومستهلِكا، وضرورة عودته إلى الحالة الطبيعية للمفكِّر المثقف، الذي يستطيع الإنتاج مستقلًّا عن رهبة الآخر. الأول يكتفي بالسير مع التيار ويحقق «الموضوعية» المقصودة، أما الثاني فلا يمكنه من دون استعادة ذاته وشخصيته أن ينتج فكرةً ويستقل في حركته المعرفية.

إن انحراف علم الاستغراب عن هذه الغاية، يحوّله إلى استشراقٍ معاكِسٍ، أي قيام المثقف الشرقي بخدمة عملية التطويع والإخضاع المعرفي التي يقوم بها الغرب.

* أي المرجعيات الفكرية والفلسفية التي قاربت حقيقة الغرب تقترحون مطالعتها، سواءً أكانت عربيةً أم أجنبيةً؟

 ـ  الكثير من المحاولات الغربية تبدو جديرةً بالاهتمام، لكن أريد الإضاءة على الأسماء المهملة والمغفلة في النشاط الفكري الإسلامي العربي. اسمان أساسيان أعتقد أنهما يستحقان الالتفات والعمل على الاستفادة من نتاجيهما. الأول هو الفيلسوف والمفكِّر الألماني «إريك فوغلين» (Eric VOEGELIN)، الذي قدّم أعمالًا نقديةً ثريةً حول أصول مشروع الحداثة ومعطياته تحت شعار «الحداثة هي الهبوط الثاني لآدم»، واللافت أن اسمه مغفلٌ من موسوعات الفلسفة الغربية الكبرى، فيما ظل الاهتمام العربي الإسلامي به شحيحًا، مع الإشارة إلى اهتمامٍ إيراني بأعماله.

الإسم الآخر هو المؤرِّخ البريطاني «جوناثان إسرائيل» (Jonathan ISRAEL)، الذي قدَّم قراءاتٍ تاريخيةً ضخمةً حول التنوير وظروف وأسباب انحرافه المتطرف، مستندًا إلى ثقافةٍ واسعةٍ وامتلاكه لستة لغاتٍ وقدرته على ملاحقة حركة التنوير في تفاصيل يومياتها وسجلات جدالاتها ونزاعاتها مع التيار الكنسي. وحتى الآن لا تزال أعمال فوغلين باللغة الأصلية الإنجليزية ولم تصل إلى ميدان التبادل الفكري العربي.

لا شك في أننا نحتاج إلى بيبليوغرافيا خاصةٍ بالأسماء المغفلة حتى الآن، فهناك في دائرة الإقصاء الذي تمارسه الجهات الممسكة بحركة الترجمة إلى العربية، قد نجد ما يقدم قيمةً مضافةً لمشروع الاستغراب المنشود.

* ما هي الملاحظات والإشكالات التي تطرحونها حيال مساهمات المفكِّرين الذين قرأتم لهم وساهموا في تقديم أفكارٍ ومحاولاتٍ جديةٍ في حقل التأسيس لعلم الاستغراب؟

 ـ  من أهم الأسماء العربية التي بذلت جهدًا جادًّا في مجال استكشاف عالم الغرب الداخلي ومخرجاته تجاه الشرق، هما «إدوارد سعيد» و«عبد الوهاب المسيري». تعاني كتاباتهما من إشكالية اللغة المركبة بحيث انحصرت الفئة التي يمكن أن تفيد من نتاجهما في دوائرَ محدودةٍ، ما وقف حاجزًا أمام اتساع رقعة تأثير الأفكار التي عملا عليها، أو تحوُّل مجهوديهما إلى منطلقٍ لتيارٍ فكريٍّ مؤثِّرٍ في البيئة الثقافية العربية.

كذلك تعاني معالجة المسيري للإشكاليات من عبء منهجية النماذج المغلقة، التي وإن نجحت في تعويم مفاهيمَ محددةٍ إلا أنها ربما لم تفلح في فتح مجالات التفكير والتطوير بحيث يمكن التأسيس على نتاجه نحوٍ مسارٍ بحثيٍّ ذي أفقٍ.

أما كتابات إدوارد سعيد وأدبياته فقد جنح بعضها نحو التأثَّر بالمعطيات الفكرية للبيئة الغربية التي احتضنته ووفرت له المنبر والميدان، فتحدث عن انكسار الهوية وعولمة الإنسان، ما يشي بأنه ارتأى ذاك التحول حلًّا محتملًا لمشكلات الصراع الغربي الشرقي، على الأقل على صعيد موقعه كمثقفٍ ورؤيته لإمكانيات تموضعه الفكري.

على الرغم من هذه الملاحظات الجزئية، فإنهما قدما للفكر العربي خدمةً أساسيةً، حيث قطعا شوطًا في الاستكشاف والتحليل والفهم. إن توضَعْ جهودُهما في نطاق مشروعٍ جادٍّ ومتكاملٍ في ميدان الاستغراب، يمكن التعويل عليها، كما على سواها من الجهود المماثلة، للخوض في هذا المجال الذي يحتاج إلى تضافر كل قدرةٍ متوفرةٍ.

 
فروع المركز

فروع المركز

للمركز الإسلامي للدراسات الإستراتيجية ثلاثة فروع في ثلاثة بلدان
  • العنوان

  • البريد الإلكتروني

  • الهاتف