البحث في...
عنوان الحوار
إسم المحاور
إسم مجري الحوار
المصدر
التاريخ
ملخص الحوار
نص الحوار
 أسلوب البحث
البحث عن اي من هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على كل هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على هذه الجملة

November / 3 / 2020  |  1942كيف نقيم حوارا ناجحا مع الغرب وهو لا يرى في المرآة إلا نفسه؟

الحوار مع :أ. د. طلال عتريسي
كيف نقيم حوارا ناجحا مع الغرب وهو لا يرى في المرآة إلا نفسه؟

يرى الدكتور طلال عتريسي أن الغرب يتصرَّف على أساس أنه هو المرجع في النماذج الفكرية والسياسية والاجتماعية. ولا يستثنى النموذج الاقتصادي (اقتصاد السوق والليبرالية الاقتصادية) من هذا التصرف الفوقي التعليمي التمديني. ويتساءل عما إذا كان بالإمكان أن نتخيّل حوارًا ندِّيًّا ناجحًا مع من ينظر في أثناء الحوار إلى المرآة فلا يرى إلا صورة نفسه؟

في هذا الحوار يعتبر عتريسي أن شرط نقد الغرب وتفكيك مقولاته، بعد التعرّف عليه، يحتاج أولًا وقبل كل شيءٍ إلى التحرّر النفسي والمعنوي من هيمنته ومن سطوته، وأن ندرسه من موقع الباحث غير الغربي، لا أن نكرِّر مقولاته عن نفسه، مؤكّدًا أن الاستغراب ليس رؤية النخب المشرقية للغرب فقط، بل هو مشروعٌ نهضويٌّ يحتاج إلى الإطلاع على ما قدّمه مثقفو شعوبٍ أخرى في إفريقيا واليابان والهند وماليزيا وسواها في نقد مرتكزات المعرفة الغربية وتجربتها الحضارية والإنسانية.


* كيف تنظرون إلى الغرب كمصطلحٍ وكمفهومٍ؟

 ـ  لو لم يحقّق الغرب نهضته الحضارية منذ القرن الثامن عشر في المجالات العلمية (الطب والفيزياء والعلوم)، والفكرية (القطيعة مع الدين، ونظرياته في العلوم الإنسانية في الفلسفة، والتربية، والمجتمع، والدولة، والحريات)، والعسكرية (تقنيات الحروب والقتال واحتلال الشعوب الأخرى)، لما كان لمعناه الجغرافي أيُّ دلالة خاصة، باستثناء الموقع والموارد.

لقد اكتسب الغرب معنىً جغرافيًا، من هذا التقدم الذي أحرزه، ومن تلك الهيمنة العالمية التي مارسها وعقدت له، منذ مطلع القرن التاسع عشر، بحيث سيتطابق النظر إلى جغرافيته والحديث عنها مع تلك الدلالات السياسية والفكرية والعلمية. فعندما نتحدّث عن الغرب في بلادنا (الشرق) نقصد تلقائيًّا تلك الدلالات معًا. وعندما نتحدث عن التقدم، والتخلف، نجعل الغرب نموذجًا للتقليد، أو للمقارنة، بحيث لم نلتفت في كثير من الأحيان إلى أن الغرب ليس واحدًا، وإلى أن الهيمنة التي حقّقها لم تقتصر على جغرافيتنا، بل تجاوزتها إلى مساحةٍ كبيرةٍ من عقولنا ومن مناهج تفكيرنا. إن الغرب نفسه يتحيّز إلى هذا الدمج بين جغرافيته (الإنسان الأبيض) وبين تقدّمه العلمي وهيمنته الفكرية والعسكرية.

* من أين يبدأ تاريخ الغرب؟

 ـ  لا يمكن أن نفصل تأثير الحقبات الزمنية التي مر بها أي شعبٍ، وتجاربه المختلفة فيها، وما أنتجه من علومٍ وفنونٍ ومعارفَ، عن أوضاعه التي يعيشها اليوم. وإذا كان من المنطقي والطبيعي أن تترك كل الحقبات تأثيراتها المختلفة على مستويات ما بلغته الشعوب من تقدُّمٍ في المجالات العلمية والفكرية والثقافية والأخلاقية وسواها، إلا أن ذلك لا يعني أن تأثير الحقب هو تأثيرٌ متساوٍ من حيث الأهمية والفاعلية. ينطبق هذا المنطق على سؤالنا عن تاريخ الغرب الذي تشكّل عبر عصور متعاقبة من التجارب والأفكار منذ حضارات اليونان والرومان، مرورًا بالقرون الوسطى وهيمنة الكنيسة الروحية والزمنية، إلى ما عرف بعصر النهضة، أي إلى الغرب المعاصر الذي أشرنا إلى تطابق جغرافيته، من منظورنا في الشرق، مع هويته الثقافية والفكرية. فقد بدأ التحول الفعلي الفكري والعلمي والعسكري في تاريخ هذا الغرب، في تلك اللحظة التاريخية التي انقلب فيها المجتمع على الكنيسة، والتي تحولت إلى قطيعةٍ مع الله، ومع الغيب. كانت تلك اللحظة بداية التاريخ المعاصر للغرب الذي سيقدم نفسه بوصفه تاريخًا للبشرية جمعاء لا للغرب وحده. وسيجعل من نفسه القطار (الحضاري) الذي يفترض أن تصعد إليه وتلتحق به، في الرحلة التي يقودها هو بنفسه، شعوب العالم كافةً، من دون أي سؤالٍ، ومن دون أي ترددٍ. وعلى تلك الشعوب أن ترمي تاريخها من نوافذ ذلك القطار، وأن تتخلص منه تباعًا؛ لأن القطار لا يتسع إلا لروايةٍ واحدةٍ للتاريخ، ولا يسير إلا باتجاهٍ واحدٍ نحو المستقبل.

لِمَ يجب على الشعوب الأخرى أن تفعل ذلك، أي أن ترمي تاريخها من قطار الغرب الذي صعدت إليه؟ لأن الغرب هو الأعلم إلى أين يأخذهم، وهو الأعلم بما يحتاجون إليه (الديمقراطية والحريات والفردانية، واقتصاد السوق، والليبرالية... )، وهو الأدرى بالأهداف التي تحتاجها تلك الشعوب. ولو لم يكن الأمر كذلك، فلن يكون بمقدورنا أن نفسر ادعاءات التمدين والتحضير التي برر بها الغرب قديمًا وحديثًا طوال القرنين التاسع عشر والعشرين، احتلاله بلدانًا ذاتَ حضاراتٍ عميقةِ الجذور، مثل الهند والجزائر وأفغانستان والعراق!!!...

لقد بدأ تاريخ الغرب، الذي سيشكّل تحدّيًا وتهديدًا لباقي شعوب العالم، مع ما أطلقوا عليه عصر النهضة، أو عصر الأنوار، أي مع العصر الذي كما سبق وأشرنا قطعوا فيه علاقتهم مع الله، ووضعوا العقل الإنساني في المقام الألوهي، وهو العصر الذي افترض فيه الغرب أن التاريخ البشري هو ساحة النشاط العلمي فقط، وأن الحقيقة لا تتأتى إلا من هذا النشاط، وبما أنه هو سيد هذه الساحة، فهذا يعني أنه هو من يصنع هذا التاريخ دون سواه.

لقد بدأ تاريخ هذا الغرب مع نظرياته في العلوم الإنسانية والاجتماعية التي جعلت نفسها بديلًا عن الميتافيزيقيا، وجعلت المجتمع مرجعيةً بديلةً عن الله وعن الدين، بحيث لا يكون صحيحًا إلّا ما يقبله المجتمع وما يريده، وليس ما تريده، أو تفرضه، أي مرجعيةٍ أخرى (دينيةٍ أو مقدَّسةٍ).

ولهذا كان أحد الرواد الأوائل للعلوم الاجتماعية في الغرب، سان سيمون (Saint Simon)، يأمل أن تبلغ العلوم الإنسانية وحدة العلوم الطبيعية وانتظامها. وكان شغوفًا بقانون نيوتن في الجاذبية. فكان يرى أن العلم طائفةٌ من الاعتقادات المحققة والثابتة التي يمكن أن تحل مكان الدين كقوةٍ تُقدّم نظرةً متماسكةً للكون والوجود الإنساني، ومن ثمّ يوحّد البشر على أساسٍ من الحقائق المشتركة. وهكذا يؤدي العلم وظيفة الدين بواسطة النزعة الوضعية، أو تطبيق المبادئ العلمية على كل الظواهر الطبيعية والإنسانية.

هذا يفسِّر كيف استنتج أوغست كونت على سبيل المثال، أن علم الاجتماع وعلماء الاجتماع، هم الكتاب المقدَّس والأنبياء والكهنة والمتولون تسيير العالم وهداية الإنسان الضال. إن ما يقصده كونت هنا هو علم الاجتماع الذي أنتجه الغرب، وعلماء الاجتماع الغربيين، الذين يفترض أن يتولوا مهمة الغرب نفسها، أي تسيير العالم وهداية الإنسان الضال (الشعوب التي ضلت عن معرفة الغرب). كما يعترف أوغست كونت بأن هذا العلم قد جلس مكان اللاهوت وأخذ على عاتقه الدور والوظيفة التي كانت له. وربما استطعنا أن نضيف أيضًا التحليل النفسي الذي جلس بدوره مكان هذا اللاهوت بعدما تحول طقس «الاعتراف» من الكاهن إلى المحلل.

* هل الغرب كتلةٌ واحدةٌ سياسيًّا وثقافيًّا واجتماعيًّا؟

 ـ  لم يكن الغرب كتلةً واحدةً سياسيًّا أو ثقافيًّا أو اجتماعيًّا، فتشكُّل أوروبا ثقافيًّا وسياسيًّا يختلف عن تشكُّل الولايات المتحدة. حتى أوروبا نفسها تفاوتت بلدانها من حيث التقدم الصناعي والعلمي، أو الثقافي والفكري، كما تفاوتت تطبيقات الديمقراطية فيها، وكذلك بالنسبة للعلمانية والمواقف والسياسات المعتمدة من الدين ومن الحريات الدينية (أزمة الحجاب في فرنسا ليست كذلك في الولايات المتحدة، أو حتى في بريطانيا) وظاهرة الإسلاموفوبيا التي انتشرت في بعض بلدان أوروبا، لم تعرفها الولايات المتحدة. وبسبب هذا التفاوت توقّع كارل ماركس، على سبيل المثال، حصول الثورة العمالية في بريطانيا لا في فرنسا، أو حتى في ألمانيا. وتتحمل ألمانيا وفرنسا عبء النهوض الاقتصادي في الاتحاد الأوروبي بسبب تقدمهما الاقتصادي مقارنةً مع باقي دول هذا الاتحاد. وفي الوقت الذي كانت فيه أوروبا تقدّم نهضتها وحداثتها وتحتل معظم أرجاء المعمورة من منتصف القرن التاسع عشر، إلى منتصف القرن العشرين، لم يكن للولايات المتحدة، ولا للغتها ذلك الشأن الذي نعرفه لها اليوم. لا بل إنّ هذه الدولة نفسها هي التي تولت إعادة إعمار أوروبا بعد الحرب العالمية الثانية، أي إن الغرب من المنظور البحثي والتاريخي لم يكن واحدًا في مساراته المختلفة. لكن سؤال الغرب الذي نطرحه على أنفسنا لا يتعلق برأيي بكيف ننظر إليه واحدًا أو متعددًا. لا، بل إنّ نظرة الغرب إلينا وطريقة تعامله معنا (شعوب الشرق ومجتمعاته) هي التي فرضت علينا حتى على المستوى البحثي أن ننظر إليه كواحدٍ وليس كمتعددٍ. 

لقد طرح علماء ومثقفون مثل هذا السؤال على أنفسهم في مطلع القرن الماضي عندما وجدوا أنفسهم وجهاً لوجهٍ أمام الاحتلال الأوروبي لبلدانهم العربية والإسلامية، وفي موقع الانكسار والهزيمة بعد تفكّك الدولة العثمانية، فانقسموا إلى اتجاهاتٍ ثلاثةٍ:

الأول: قال برفض كل ما جاء به الغرب جملةً وتفصيلًا، ودعا إلى التمسّك بما سلف من أصول ديننا وأخلاقنا.

 الثاني: قال بأن نأخذ من الغرب ما يناسبنا (التقنيات الحديثة) ولا يتعارض مع ديننا وأخلاقنا وقيمنا.

 الثالث: قال بأن نأخذ الغرب كما هو لأنه غربٌ متقدّمٌ عسكريًّا وعلميًّا وإداريًّا ونحن شرقٌ متخلفٌ.

 ولا تزال هذه الاتجاهات موجودةً منذ القرن الماضي إلى اليوم، ويضيف إليها البعض اللحاق بتقدم الغرب التكنولوجي. لكن الملاحظة التي نودّ الإشارة إليها هنا هي أنّ هذا الغرب الذي اختلفنا حوله كان في حقيقة الأمر هو مرجعية هذه الاتجاهات كافةً حتى وهي تحاول التملص من هيمنته، أو رفضه والانكفاء عنه.

لِمَ؟ لأن سؤال التعامل مع الغرب، ما نأخذ وما نترك، وكيف نفهمه، وأي رؤيةٍ استراتيجيةٍ ومعرفيةٍ حياله... هو في الواقع معضلةٌ صعبةٌ ومعقدةٌ. فإذا كانت نقطة الانطلاق هي ماذا نأخذ وماذا نترك، فعلى الأرجح سنجد أنفسنا وقد أخذنا تدريجًا كل ما عند الغرب، الذي يتفوق علينا في علومه ونظرياته المهيمنة وفي جيوشه الرابضة على تخوم بلادنا وفي دواخلها. فمن يكون في موقع التبعية السياسية والاقتصادية وتحت الهيمنة العسكرية لا يحق له أن يختار بين ما يأخذ وما لا يأخذ. سوف يجد نفسه مرغمًا على أن يأخذ ما يفرضه عليه المحتل الحالي، أو من كان محتلًّا لبلاده. وإلا كيف نفسّر أن مناهج وبرامج التعليم في الجامعات العربية ومن دون استثناءٍ تقريبًا كانت منذ الاستقلال الوطني في منتصف القرن العشرين، ولا تزال إلى اليوم، نسخًا طبق الأصل عن تلك المناهج في الدول الغربية (بريطانيا وفرنسا، ثم الولايات المتحدة) سواءً في العلوم الانسانية والاجتماعية أم في العلوم الطبيعية والهندسية وسواها؟

إن المشكلة التي تطرح هنا بشكلٍ دقيقٍ ومهمٍّ هي كيف نتعامل مع العلوم الإنسانية والاجتماعية الغربية، أكثر مما هي مشكلة العلوم والاكتشافات الطبية والاختراعات التكنولوجية التي باتت وسائلَ وتقنياتٍ متاحةً للبشر كافةً. إن العلوم الإنسانية والاجتماعية تعكس في جوهرها رؤيةً فلسفيةً للإنسان ولمعنى وجوده، ووجود الكون والمجتمع، ولعلاقات الأفراد في ما بينهم، وما أنتجه الغرب من نظرياتٍ في هذا المجال هو نتاج فلسفته ورؤيته لهذا الإنسان وللكون وللمجتمع التي قطعت فيها العلاقة مع الغيب ومع الله، وباتت مرجعية هذه العلاقات كما سبق وأشرت هي المجتمع الذي حل محل الدين، من جهةٍ، والعقل الذي بات في المقام الألوهي. وهذا ما لا يمكن بالنسبة إلينا، أخذه أو الأخذ به.

إن ما يمكن القيام به في التعامل مع هذه العلوم الإنسانية الغربية، هو التعرف فقط. وشرط ذلك هو قرارنا ألّا نصعد في قطار الغرب الذي يقودنا باعتباره هو التاريخ والحضارة. والتعرف يعني دراسة الدور الفاعل لهذه العلوم في التجربة الحضارية الغربية، سواءً في صعودها وفي هيمنتها، أم في ما تواجهه اليوم من أزماتٍ.

لا يمكن أن نفكّر في ما نأخذ وما لا نأخذ، إذا كنا نعتقد بعالمية هذه العلوم، لأن مثل هذا السؤال يصبح لا معنى له. نقطة الانطلاق عندما نريد الإجابة عن مثل هذا السؤال هو أن نعتبر أن ما أنتجه الغرب في العلوم الإنسانية هو تجربةٌ نظريةٌ ومجتمعيةٌ خاصةٌ، أنتجها منظرون وعلماء وباحثون، وقدموا فيها وجهاتِ نظرٍ مختلفةً ومتعددةً ومتناقضةً. والمقصود أنها ليست «التجربة» مع «ال» التعريف، التي يجب علينا الاستسلام لمرجعيتها بذريعة هيمنة الغرب في المجالات الاقتصادية والعسكرية. ويفترض أن يكون هذا هو مشروع «الاستغراب».

في الإجابة اليوم، عن سؤال ما نأخذ وما لا نأخذ من الغرب، في أوضاعنا الحالية في بلاد الشرق العربية والإسلامية، نشبه ذلك الشخص الذي يغوص في الماء (ثقافة الغرب) ثم نأتي ونطرح عليه السؤال: في أي كميةٍ من الماء تريد الغوص أو السباحة؟ هل تريد الماء كله أو بعضه، أو أنك لا تريده مطلقًا؟ إن مثل هذا السؤال لا ينظر إلى واقع الحال، لإن الإجابة لن تكون ممكنةً إلا إذا خرج هذا الشخص من الماء كليًّا ووقف على أرضٍ صلبةٍ ثم نظر إلى الماء ليقرر مدى حاجته إليه، وكيفية التعامل معه.

يمكن أن نتعرَّف على الغرب، وعلى علومه، كجزءٍ من المعرفة الانسانية ومن المعرفة العلمية التي ينبغي أن يتسلح بها طلاب الجامعات في البلدان العربية والإسلامية. لكن هذا لا يعني، على المستوى المنهجي، إطلاقًا أن نعتبر هذه العلوم هي مرجعية المعرفة، بل على العكس، ينبغي أن نمتلك الجرأة لنؤكد أن هذه العلوم الإنسانية الغربية هي خلاصةٌ، أو انعكاسٌ، لتحوّلاتٍ فكريةٍ وفلسفيةٍ واجتماعيةٍ، حاولت أن تفهم الإنسان والمجتمع في زمانٍ ومكانٍ محددَّيْن.

* ما الأسس والمباني المعرفية والفلسفية التي أخذ بها الغرب لتشكيل حضارته الحديثة، وما تأثير ذلك على العالمين العربي والإسلامي؟

 ـ  يمكن القول أنّ مرحلة التحوّل والتشكّل في حضارة الغرب الحديثة بدأت مع عصر النهضة، وما عرف أيضًا بعصر الأنوار، ومعهما ابتدأت حداثة الغرب التي ستقدّم نفسها نموذجًا ومسارًا عالميًّا. والتسميتان (النهضة والأنوار) لهما دلالةٌ على تلك البدايات الحضارية، قياسًا بما سبق من «جمودٍ وظلماتٍ». طبعًا هذا لا ينفي إرث ما سبق من عصورٍ، يونانيةٍ أو رومانيةٍ، لكن ما جرى في تلك المرحلة (النهضة) التي امتدت عشرات السنين أدى إلى تغيُّرٍ عميقٍ ومتدرِّجٍ في البنى الفكرية والاجتماعية والثقافية للغرب الحديث كما نعرفه اليوم. كانت الاكتشافات العلمية (العقل العلمي والتجارب في المختبرات) هي المبنى ونقطة الانطلاق التي ستؤثّر على باقي مناهج المعرفة، بما فيها العلوم الإنسانية التي حاولت تقليد تلك التجارب والاعتماد على مناهجها لمعرفة الإنسان، لكي تكون تلك المعرفة بمثابة قوانين على غرار القوانين في العلوم الطبيعية الأخرى، حتى بات هاجس الدراسات في المجالات الانسانية والاجتماعية أن يُطلق عليها صفة العلم (علم النفس،علم الاجتماع... ) لكي تكتسب المشروعية في ذلك الفضاء المعرفي الذي هيمنت عليه مناهج البحث العلمي في المختبرات مثل الفيزياء والرياضيات.

القطيعة مع الدين، هي أيضًا المبنى الأساس الذي سيشكّل تجربة الغرب الحداثية، الحضارية والاجتماعية والثقافية. لم تقتصر هذه القطيعة على هدم بنيان الكنيسة وتعطيل دورها الروحي والزمني، بل تجاوز الأمر ذلك إلى القطيعة مع الخالق، من خلال القطع مع النص الديني باعتباره مصدرًا معرفيًّا غيبيًّا وإلهيًّا، بحيث بات الركون إلى صدقية المعرفة يستلزم أن ننفي عنها أي مصدرٍ (غيبيٍّ، أو إلهيٍّ) ويحصرها فقط في مصادرها التجريبية (المختبرات، والملاحظة المباشرة، والتجربة المَعيشة).

في هذا الإطار من التحوّل الفكري والمعرفي، أُبدِل الدين، عندما أُبعِد عن منظومة الحياة والتفكير، بمرجعية العقل الذي سيرفع الحرية إلى مقام التقديس. وسيصبح هذا التداخل والتفاعل بين العقل والحرية السمة الأبرز لعصر النهضة الذي ستتخلّص فيه النتاجات التربوية والفنية والاجتماعية والأسرية تدريجًا، وبذريعة الحرية، من كل القيود والضوابط التي كان الدين قد فرضها على المجتمع. وسنشهد مع بدايات هذا العصر كيف ستتخلص التربية من قيودها وضوابطها الأخلاقية، لتصبح حرية الطفل هي أساس التربية. وسنلاحظ أيضًا كيف ستنتشر في الرسوم الفنية لوحات العري ردًّا على مرحلة الاحتشام الديني الأخلاقي الكنسي، وكيف سيبدأ التنظير في الأدبيات النفسية والاجتماعية لتحرير الطاقات والرغبات، وستصبح قيمة العمل المنتج ماديًّا هي القيمة العليا للرجل وللمرأة على السواء. وستتراجع وظيفة الأمومة، لأنها تحد من حرية المرأة، ولأنها غير منتجةٍ ماديًّا. كانت هذه التحولات بداية مسارٍ، أو نفقٍ سيدخله الغرب منذ نهايات القرن الثامن عشر، وليصبح مكوِّنًا أساسيًّا من مكوناته الثقافية والحضارية التي نعرفها اليوم.

 لقد ترك تأليه الحرية في عصر النهضة تأثيرًا قويًّا وخطيرًا على مستقبل الغرب وعلى الأزمات الإنسانية والأخلاقية التي يعيشها اليوم ونعيش تداعياتها معه نحن وباقي العالم، في ممارساته السياسية والاقتصادية والعسكرية.

لقد تخلّص الغرب مع عصر النهضة من مرجعية الإله الذي كانت الكنيسة تحكم باسمه طوال قرون، لكنه أبدله بالعبودية لآلهة آخرين أوجدهم منظِّرو العلوم الفلسفية والاجتماعية والانسانية. بات العقل معبودًا، وباتت الحرية والرغبات معبودًا، وباتت التجربة والمعاش معبودًا ثالثًا. وقد أشرنا إلى رغبة سان سيمون في أن يؤدي العلم وظيفة الدين، وإلى أوغست كونت الذي اعتبر أن علماء الاجتماع هم الكتاب المقدّس، وأن علم الاجتماع جلس مكان اللاهوت. وما يؤخذ على الغرب هنا لا يقصد منه نفي أو تهميش هذه المصادر الثلاثة للمعرفة، بل عدم اعترافه بأي مصدرٍ آخر غيرها مثل المصدر الإلهي الغيبي الذي شكّل المبنى المرجعي لما أنجزته الحضارة الإسلامية في ذروة تألق علومها ومعارفها في المجالات الإنسانية والطبيعية والفلكية وسواها... من دون أن تهمل هذه التجربة الحضارية والمعرفية دور العقل أو دور التجربة.

إن استبعاد المبنى الإلهي الغيبي، يعني أن الحياة تسير على غير هدًى، وأن الإنسان يسعى خلف رغباته وحاجاته، وأن لا معنى لوجوده إلا بإشباع تلك الرغبات والحاجات. وهذا كله يتعارض مع مرجعية رؤية الدين (الإسلام) إلى الإنسان الذي اعتبره خليفة الله على الأرض، وأن عليه عمارة المجتمعات وفق المعايير الأخلاقية الإلهية، (إنما بعثت لأتمّم مكارم الأخلاق)، لا وفق الرغبات الفردية، أو وفق التغيرات المجتمعية. هنا حصل الاختلاف الجوهري مع الغرب في نفيه التام لمصدر المعرفة الغيبي الإلهي. إن هذا المصدر وما يريده من الإنسان، والمعنى الذي يعطيه لوجوده (التكليف وخلافة الله) هو الذي يحقق التوازن الفردي والمجتمعي والحضاري لأنه يتعامل مع الوجود الإنساني بواقعيةٍ تامةٍ، فيلبي حاجته الفطرية إلى العبودية، والتعلق بالغيب، ويعترف في الوقت نفسه بحاجاته المادية المختلفة.

* هل يمكن أن نجري حوارًا متكافئًا مع الغرب؟

 ـ  تحتاج الإجابة عن مثل هذا السؤل، إلى التوضيحات التالية:

إن أي حوارٍ يحتاج إلى رغبة الطرفين في القيام به، وإلى شعورٍ متبادَلٍ بالحاجة إليه، كما يحتاج الحوار إلى تحديد موضوعاته التي تشكّل همًّا مشترَكًا، أو إلى تحديد قضايا الخلاف التي يفترض معالجتها من خلال الحوار لجعل العلاقات سليمةً وطبيعيةً بين طرفي الحوار.

فهل تنطبق مثل هذه المسائل على طرفي الحوار، الشرق (العرب والمسلمين) والغرب على سبيل المثال؟

أي هل يشعر الغرب بالحاجة إلى الحوار مع الشرق؟

وهل هناك قضايا أو موضوعاتٌ مشتركةٌ للحوار؟

وهل يحرص الغرب على علاقاتٍ طبيعيةٍ ونِدِّيِّةٍ بينه وبين عالم الشرق؟

وهل يعترف الغرب أصلًا بوجود ندٍّ له في هذا العالم؟ وهو الذي يخشى على سبيل المثال أن تصبح الصين ولو بعد عقود دولةً عظمى تنافسه على الريادة الدولية، فيعمل منذ الآن بالوسائل كافة السياسية والاقتصادية لمنعها من الوصول إلى هذه الريادة؟

ومن هو هذا الغرب الذي سنتحاور معه؟ هل هو نظرياته حول العلوم الإنسانية والاجتماعية والفلسفية؟ أم هو الحكومات والدول والمؤسسات التي ستتحاور مع دولٍ وحكوماتٍ ومؤسساتٍ مقابلةٍ في الشرق؟ أم هو الغرب الذي سنتحاور معه ليتوقف عن فرض العقوبات على بلادنا وعن التدخل في شؤوننا؟

ومن نحن الذين سنجلس للحوار الندي مع الغرب؟ هل سيتولى هذه المهمة مثقفون عربٌ ومسلمون، أم رؤساء البلدان والحكومات؟ أم هو حوارٌ بين الهيئات الأكاديمية والبحثية؟ وما هي القضايا المشتركة التي سيحملها هؤلاء إلى طاولة الحوار مع الغرب، إذا كان العرب أنفسهم منقسمين حول قضاياهم، وإذا كان المسلمون بدورهم منقسمين حول الثقافة والسياسة والاقتصاد، وحول نظرتهم إلى الغرب، هل هو ضرورة، أم هو تهديد؟

وهل يمكن أن يجلس الغرب (أوروبا والولايات المتحدة) على طاولةٍ واحدةٍ للحوار معنا نحن أهل الشرق في بلاد العرب والمسلمين حول القضايا التي تهمّنا وتهمّه؟ أي هل هناك قضايا مشترَكةٌ يمكن أن تكون موضوعًا للحوار بين الطرفين؟

وكيف نجلس إلى طاولة واحدة ندًّا لندٍّ ونحن نعيش حالة قلقٍ من توحّش الغرب وسعيه للهيمنة والسيطرة، وهو يريد أن يفرض علينا مشاريعه لتغيير بنى وهياكل مؤسساتنا السياسية والاجتماعية (الديمقراطية بالتدخل والاحتلال، فرض نموذجه عن الأسرة والمرأة، القيود والعقوبات على الدول التي تخالف سياساته)، وفي مقابل ذلك ينظر الغرب إلينا بعين الدونية والاحتقار والتهديد في الوقت نفسه. فنحن مصدرٌ للنفط الذي يحتاج إليه ويجب ألّا نمنعه من الحصول عليه. ونحن بالنسبة إليه شعوبٌ متخلفةٌ تكره الغرب لأنه متحضرٌ ومتمدنٌ، وديننا لا يُنتج سوى التوحش والإرهاب الذي يهدد الحضارة الإنسانية (الغربيّة). ونحن نرفض الاعتراف بالكيان الإسرائيلي الذي أوجده الغرب ويشكّل تهديدًا لشعوبنا. وعندما يعقد الغرب اليوم مؤتمراتٍ عن الحوار الثقافي أو الديني، أو الحضاري مع الشرق العربي والإسلامي، في فرنسا، وألمانيا وإيطاليا وإسبانيا وغيرها... فإنه لا يفعل ذلك إلا ليتعرف على أسباب الهجمات الإرهابية التي حصلت في عواصم الغرب (لا التي حصلت في بلادنا)، وهو يريد من القادمين من الشرق أن يتعاونوا معه من خلال الأبحاث والدراسات على كيفية التصدي الفكري والتعليمي والإعلامي لمثل هذه الظواهر من الإرهاب. وعندما يعقد الغرب مؤتمراتٍ عن السلام في الشرق الأوسط ويدعو العرب والمسلمين، أو يرغمهم على الحضور، فهو لا يريد من هذه المؤتمرات سوى إقناع المشاركين فيها بحق اسرائيل الطبيعي في الوجود، وبوجوب وقف أي مقاومةٍ أو أي مقاطعةٍ لهذا الوجود.

فكيف يمكن في ظل هذا الواقع بيننا وبين الغرب أن نعقد حوارًا، وأن يكون متكافئًا في الوقت نفسه؟

كيف يمكن أن يعقد الحوار بين نموذجين، أحدهما غربيٌّ يعتبر نفسه مرجعية العالم ويتباهى بقدراته الفكرية والعسكرية والحضارية الراهنة التي تجعله في الموقع المهمين، والآخرُ شرقيٌّ يتباهى بنموذجه الحضاري الماضي الذي قدّم تجربةً مهمةً إنسانيًّا ومعرفيًّا، وهو اليوم في الموقع الأضعف فكريًّا واقتصاديًّا وعسكريًّا؟ لا، بل ينقسم هذا العالم الشرقي في الوقت نفسه إلى مؤيدٍ للغرب، متماهٍ معه، وإلى رافضٍ، مُعادٍ تمامًا لوجوده، وإلى من يريد التفاهم معه ولا يريد الاصطدام به أو تحدّيه، ويريد أن يوائم بين شرقيته وبين ما هو عليه الغرب اليوم. في حين لا نجد مثل هذا الانقسام في الغرب تجاه الشرق.

إن الغرب كمنظومةٍ فكريةٍ ومنهجيةٍ معرفيةٍ لا يحتاج بتقديري لمثل هذا الحوار مع الشرق. لأن الحوار في مثل هذه الحالة سيكون مثل الحوار الديني الإسلامي المسيحي الذي يتجنّب الغوص في القضايا اللاهوتية التي لا يمكن التوافق على الاختلافات التي تضمنتها على مستوى العقائد، بحيث يتحوّل الحوار إلى قضايا سياسيةٍ واجتماعيةٍ، وإلى ضرورات التعايش والتوافق وعدم الصدام ومواجهة التطرف. فكيف يمكن على سبيل المثال النقاش أو التوافق حول الحرية التي يعتبرها الغرب مقدسةً (اتخذ إلهه هواه)، في حين نراها من منظورنا مرهونةً بمرجعية الدين والتكليف الإلهي للإنسان، وبمرجعية الأخلاق؟ أو كيف يمكن أن أقبل أنني موجودٌ «لأنني أفكر»، في حين أعتبر نفسي موجودًا لأنني مخلوقٌ من الله سبحانه وتعالى، ومطلوبٌ مني أن أفكر وأن أعقل وأن أتدبر في هذا الوجود.

إنّ الغرب لن يحتاج لمثل هذا الحوار «الندي» الذي نريده نحن لأنه سيعني بالنسبة إليه الجلوس إلى من سيناقشه في صوابيّة منظومته الفكرية والمنهجية، سواءً على مستوى خصوصيتها الغربية، أم على مستوى ما آلت إليه من أزماتٍ في فهم الإنسان والمجتمع. كما أن أصل فكرة الحوار مع «الشرق» تبدو غير متخيَّلةٍ في الذهن الغربي الذي لا تزال نظرته إلى الشرق وإلى التعامل معه نظرةً استعلائيةً تحكمها في وقتٍ واحدٍ خلفيات الاستشراق من جهةٍ، والاستعمار الكولونيالي من جهة أخرى. والدليل الذي يمكن أن نورده على هذا القول هو طريقة التدخل الغربي، الذي لم يتوقف إلى اليوم، في منظوماتنا السياسية والاجتماعية والاقتصادية. فمن الشائع مثلًا أن نسمع من رئيس أي دولةٍ في الغرب عن «ضرورة الإسراع في تشكيل الحكومة»، أو عن «وجوب الحوار مع المعارضة»، أو عن إطلاق الحريات، وربط التزام الديمقراطية في بلادنا بالمساعدات التي ستقدّمها لنا بلاد هذا الرئيس... أو حتى إصدار الأوامر وفرض العقوبات إذا خالفت دولةٌ ما إرادته وتوجهاته ومصالحه.

إنّ الغرب يتصرَّف على أساس أنه هو المرجع في النماذج الفكرية والسياسية والاجتماعية. ولا يستثنى النموذج الاقتصادي (اقتصاد السوق والليبرالية الإقتصادية) من هذا التصرف الفوقي التعليمي التمديني. فهل يمكن أن نتخيل حوارًا نديًّا ناجحًا مع من ينظر في أثناء الحوار إلى المرآة فلا يرى إلا صورة نفسه؟

* هل نصرف النظر عن هذا الحوار؟ أم نعمل لإيجاد البدائل أو الوسائل المناسبة للتواصل؟

 ـ  إن ما يمكن تصوُّره حول حوارٍ ممكنٍ مع الغرب، في ظل كل ما سبق وأشرنا إليه يفترض بالنسبة إلينا، هو أن يكون حوارًا تعارفيًّا. وشرط هذا الحوار هو أن يقبل الغرب أو من سيمثّل الغرب من مثقفين أو جامعيين أو مراكزَ بحثيةٍ (لأن الحوار المفترض يجب أن يتم بين مثل هذه الأطراف) بأن تجربته النظرية والمعرفية هي تجربةٌ خاصةٌ ومحدودةٌ. وهذه نقطة انطلاقٍ. كما يجب أن يقبل الغرب أن من يجلس أمامه لديه تجربته ورؤيته الخاصة الدينية والثقافية والمعرفية، وهي ليست تقليدًا للتجربة الغربية، وأن هدف الحوار ليس إبدال تجربتنا بتجربته على أساس أن هذه الأخيرة هي الأفضل. في مثل هذه الحالة وبوجود مثل هذه الشخصيات التي يمكن أن تكون في مرحلةٍ أولى من الحوار، شخصياتٍ غربيةٍ لديها وجهةُ نظرٍ نقديةٌ تجاه التجربة الغربية نفسها، بحيث لا نكون أمام من يريد أن يملي علينا الدروس والمواعظ الحضارية. ولا نكون أمام ممثلي هيئاتٍ حكوميةٍ، أو ديبلوماسيةٍ، تدافع عن وجهة نطر حكومتها وسياساتها الخارجية في «التدخل الحضاري» وفرض العقوبات. على أن يتطوّر مثل هذا الحوار ويتوسع ليشمل شخصياتٍ أخرى سواءً من داخل المؤسسات الرسمية أم من خارجها، بحيث ينتج الحوار أدبياتٍ تعيد الاعتبار إلى التعدد الحضاري، وإلى رفض فكرة الاستحواذ الغربي الحضاري الحالية المهيمنة. ولن نجد صعوبةً في تحقّق مثل هذا الأمر مع الكثير مما ينتج في الغرب نفسه من نصوصٍ في مختلف العلوم الإنسانية والاجتماعية تتحدث بشكلٍ عميقٍ عن أزمة هذه العلوم، وعن أزمة الغرب الحضارية والإنسانية.

لقد سبق وحصلت تجاربُ حوارٍ ثقافيٍّ بين الشرق والغرب، وتجاربُ حوارٍ دينيٍّ وحوارٍ حول قضايا وموضوعاتٍ مثل قضايا العنف والتطرف والحركات الإسلامية، وحول الديمقراطية، والمرأة، والطوائف والأديان، والحوار الأوروبي ـ المتوسطي، وحوار الشمال والجنوب. ولكن عندما ندقّق في مثل هذه الحوارات والمؤتمرات سوف نلاحظ أنها كانت كلها بمبادراتٍ غربيةٍ، وحول موضوعاتٍ وقضايا تتعلّق بما يجري في بلادنا، ولم تطرح هذه اللقاءاتُ على بساط البحث والنقاش أيَّ قضيةٍ غربيةٍ مثل تفكّك الأسرة على سبيل المثال، أو تأثير الدين في السياسات الغربية، أو نزوع الغرب إلى الهيمنة والتسلط، أو أسباب الحروب التي يشنها الغرب على بلادنا... ولم يسبق أن حصل حوارٌ شرقيٌّ مع الغرب، ولا حوارٌ غربيٌّ مع الشرق، لمناقشة سبل تغيير صورة المسلمين النمطية السلبية (الإسلاموفوبيا) في الإعلام الغربي، وفي الكتب المدرسية الفرنسية أو الألمانية على سبيل المثال، وهي قضايا لا تقل تأثيراتها خطورةً برأينا عن تهديد العنف والتطرف الإسلامي. كان الغرب حاضرًا في هذه المؤتمرات والحوارات، بما هو «نموذجٌ» على المشاركين من الشرق التعلّم من تجربته في التعامل مع هذه القضايا (الديمقراطية، المرأة... ). ولم يكن الغرب يكتفي بهذا القدر من «إرشادنا» إلى ما علينا القيام به على المستويات الحكومية والأهلية، بل كان يضع الخطط والبرامج العملية لتنفيذ ما اتفق عليه في هذه المؤتمرات، وكانت المنظمات والجمعيات الغربية الاجتماعية والنسائية (NGO) تأتي «لمساعدتنا» على تغيير «النموذج المتخلف» الذي نعيشه في مجتمعاتنا الشرقية، و«لتعليمنا» من خلال الدورات التثقيفية والتدريبية عن التسامح، والجندر، وحقوق المرأة وتمكينها، وحقوق الطفل، وعن تغيير الأدوار بين الرجل والمرأة في الأسرة، وعن الديمقراطية، والتربية على السلام، ومراقبة الانتخابات، ومناهضة العنف... لقد قدمت هذه الجمعيات نفسها نموذجًا مرجعيًّا غربيًّا ينبغي علينا نحن في الشرق تقليده والاقتداء به. ومثل هذا التصرف حتى لو عقد في مؤتمراتٍ وندواتٍ مشتركةٍ ليس حوارًا نديًّا في واقع الأمر، وليس همومًا مشتركةً، بل هو أقرب إلى ذهنية الاستشراق منه إلى ذهنية الحوار مع الغرب، أو إلى فهم الغرب.

وعندما تنشئ وزارة الخارجية الألمانية على سبيل المثال بعد 11 سبتمبر 2001 وحدة الحوار مع العالم الإسلامي، فإن هدف هذه الوحدة هو أن تتعرف الخارجية الألمانية إلى السياسات الملائمة في توقّي الإرهاب والتعامل معه. ولو لم تحصل هذه الهجمات التي شكّلت تهديدًا للغرب لما تأسست هذه الوحدة.

ربما يجب علينا ألّا نرفض مثل هذا النوع من الحوارات على الرغم من ملاحظتنا التي أشرنا إليها، وعلى الرغم من أن الغرب كان يكتفي بهذا القدر من الحوار الذي يحتاج إليه لمعالجة ما يتهدده. نعم يجب أن نرفض التدخل في سياساتنا الداخلية والخارجية، وفي شؤوننا التعليمية والأسرية والاجتماعية، لكن بموازاة ذلك ما نحتاج إليه في المقام الأول هو حوارٌ على المستويات المنهجية والمعرفية بيننا وبين الغرب، بين مناهجنا ومناهجه في منطلقات فهم الإنسان وفي معنى وجوده، وغايات هذا الوجود.

* الغرب يعيش أزماته التاريخية في الحقبة المعاصرة، هل يدل هذا على ما سبق وتوقعه شبنغلر قبل قرنٍ عن أن الغرب سقط أو أنه يوشك على الانهيار؟

 ـ  ليس الحديث عن أزمات الغرب الاجتماعية والسياسية والأخلاقية والاقتصادية جديدًا. فقد كتب الغربيون أنفسهم عن هذه الأزمات، وربما أكثر مما كتبه باحثون آخرون من باقي العالم. وذهب بعضهم إلى القول مبكرًا بموت الغرب.

لقد تعدّدت المقاربات في شرح وتفسير هذا التراجع الذي يعيشه الغرب اليوم. فقد اعتبر البعض أن التحولات الديمغرافية السكانية سواءً لجهة تراجع المواليد، الذي يشكّل قلقًا عميقًا، وشعارًا من شعارات اليمين المتطرف في أوروبا، أم لجهة تزايد أعداد المسلمين هو الذي سينهي هوية أوروبا ونموذجها الذي صنعته عبر عشرات السنين.

في حين اعتبر آخرون أن الأزمة الأخلاقية التي تنتشر في عالم الغرب، وتتفاقم، وتتراجع معها العلاقات الانسانية، وتتفكك الأسرة، هو الذي سيطيح بالتجربة الغربية بعدما فقدت بعدها الإنساني والأخلاقي، والتي لا يمكن أن تستمر على عاتق التقدم التكنولوجي، والصناعات العسكرية فقط.

ومن الباحثين من ذهب إلى تفسير هذا التراجع بالأزمات الاقتصادية التي تزداد وتيرتها ويزداد معها الفقراء بالملايين في الولايات المتحدة. وقد أخفق الأوروبيون في حل هذه الأزمات على الرغم من اتحادهم قبل أكثر من عقدين من الزمن. لا، بل تزايدت اتجاهات العنصرية التي تحمّل الأجانب (العرب والمسلمين) مسؤولية هذه الأزمات ومسؤولية البطالة. وحتى الولايات المتحدة، التي كانت تتباهى بنموذجها الديمقراطي واقتصادها الحر في مقابل التجربة السوفياتية «الشمولية» والاقتصاد الموجه، باتت اليوم، وبعد غياب الاتحاد السوفياتي، لا تعرف كيف تجد الحلول لأزماتها المالية التي تتكرر وتخشى معها ضياع هيبتها وسطوتها العالمية. أي إن التجربة الاقتصادية الغربية في الإقتصاد الحر، وفي«دعه يعمل، دعه يمرّ» لم تحلَّ مشكلات الناس، ولم تحقق العدالة، ولم تقضِ على الفقر، بل زادت الفقراء فقرًا والأغنياء غنًى، وتراجع الذين يدافعون عنها، أو يدعون إليها كنموذجٍ غربيٍّ وحلٍّ سحريٍّ لمشكلات الشعوب الاقتصادية.

وإذا كان الغرب غيرَ قادرٍ على حل مشكلاته الاقتصادية والاجتماعية والأخلاقية، وإذا كان الغرب يشن الحرب على الشعوب التي تريد الاستقلال والتحرر، فأي قيمةٍ ستبقى للديمقراطية التي يتباهى بها؟ وحتى هذه تقتصر في الولايات المتحدة على حزبين فقط، الجمهوري والديمقراطي، وممنوعٌ على غيرهما أيُّ دورٍ.

إلى ما سبق من مقارباتٍ، وقد ساهمت كلها في خفوت بريق الغرب، لعبت صحوة الشعوب وحركات النضال ضد الاحتلال الأميركي والإسرائيلي في إيران وأفغانستان والعراق ولبنان وفلسطين، وفي بعض دول أميركا اللاتينية دورًا مهمًّا في إبراز الوجه المتوحش للغرب عندما اضطر إلى خلع وجهه الإنساني ووضعه جانبًا، واللجوء إلى القوة والحرب، عندما شعر أن تلك الشعوب تسعى من أجل الاستقلال والتحرر، والتخلص من الهيمنة. لم يعد للغرب بعد هذا التوحش في التدخل أي بريقٍ.

لقد ساهمت وسائل التواصل الحديثة في كشف ذلك الوجه البشع، الذي يسفك الدماء، بلا أي قلقٍ، والذي كان قد حاول إخفاءه طوال عقودٍ.

لقد سقطت التجربة الغربية من علياء نموذجها الذي افترضته لنفسها وللعالم. فهي لم تعد كذلك لا المستوى الإنساني والأخلاقي، ولا على المستوى الاقتصادي، وهي ليست كذلك حتى على المستوى السياسي. فماذا تبقّى، وهل ينقذ المستوى الثقافي المعرفي الغرب من أزمة هذا التراجع؟

ما قدَّمه الغرب على هذا المستوى من نظرياتٍ في فهم الإنسان والمجتمع والعالم، هو انعكاسٌ لموقع الغرب وجغرافيته، ولمشكلات الإنسان الغربي الحياتية والمستقبلية. كما تعكس تلك النظريات ما عرفه الغرب من تحولاتٍ فكريةٍ تجاه الدين والعلمانية والسلطة وإدارة المجتمع. وتشهد هذه التجربة منذ سنواتٍ لدى الفلاسفة والمفكِّرين والباحثين الغربيين أنفسهم، النقد والتفكيك والتشكيك، بحيث بات من الصعب على غير الغربيين الركون إليها أو تمجيدها، أو الأخذ بما أتتنا به.

إن هيمنة الغرب الثقافية وفي مجال الدراسات والنظريات في العلوم الاجتماعية والانسانية إنما هي نتاجٌ لهيمنته السياسية والعسكرية والاقتصادية، وليس ذلك بسبب أنّ تلك العلوم هي الأفضل في فهم الإنسان والمجتمع. وعندما يتراجع الغرب على هذه المستويات، سوف تتراجع معه مستوياته الثقافية والنظرية واللغوية، ولن تبقى تمثّل نموذجًا كما هو حالها الآن في جامعاتنا العربية والإسلامية.

لقد فقد الغرب تدريجًا رسالته الحضارية التي ادّعاها لنفسه عندما تحوّل حضوره بين شعوب العالم إلى حضور القوة والقهر والاحتلال.

نعم لا يزال الغرب مهيمنًا، لكنه لم يعد نموذجًا، لقد فقد بريقه. أما الهيمنة بالقوة العسكرية والسيطرة على المؤسات الاقتصادية العالمية وفرض الحصار والعقوبات الظالمة على شعوب العالم، فليست نموذجًا حضاريًّا، ولا تعني في الوقت نفسه أن باقي العالم يقف متفرجًا، أو عاجزًا. وما نشهده من صعودِ قوًى وتكتلاتٍ اقتصاديةٍ وسياسيةٍ غير غربيةٍ يثير قلق الغرب من مستقبلٍ غيرٍ بعيدٍ، لن يكون فيه هو النموذجَ، أو المهيمِنَ.

* ماذا عن تأسيس علم الاستغراب؟

 ـ  إن الاستغراب كمشروعٍ علميٍّ ليس ترفًا فكريًّا، كما قد يذهب إليه البعض. وهو ليس انفعالًا منهجيًّا ضد الاستشراق، ويجب عليه ألّا يكون كذلك. فما يجري اليوم من تحولاتٍ سواءً في عالم الغرب أم في عالم الشرق (بلاد العرب والمسلمين) يبرِّر هذه الدعوة إلى التفكير في علمٍ للاستغراب. مع العلم أن التفكير في فهم الغرب وفي التعامل معه ليس جديدًا علينا، بل يعود هذا الأمر إلى بدايات ما عُرف بـ «صدمة الغرب» في نهايات القرن الثامن عشر بعدما وصلت جيوش نابليون إلى مصر، ثم في القرن التاسع عشر بعد زياراتٍ قام بها علماء إلى أوروبا (الطهطاوي) وعادوا منها ليعقدوا المقارنات بين أحوال هذا الغرب المتقدم وأحوال الشرق الإسلامي المتأخر، كما كتب شكيب أرسلان «لماذا تأخر المسلمون ولماذا تقدم غيرهم؟». كما كان تاريخ الغرب، وجغرافيته، وموارده، وحروبه، وأبطاله، واكتشافاته، يحتل حيّزًا مهمًّا في مناهجنا التعليمية في المراحل الثانوية والجامعية. كان التعرّف على الغرب، (بما هو إنجازٌ حضاريٌّ متقدِّمٌ) ولا يزال الحال على ما هو عليه، يبدأ مبكرًا في مدارسنا وجامعاتنا، ويحتل حيزًا واسعًا من هذه المناهج والمقررات، في حين كان الشرق العربي والإسلامي (تركيا وإيران) والآسيوي (الصين، اليابان، والهند... ) يكاد يغيب عن تلك المناهج.

هذا التعرّف المبكِّر على الغرب ليس استغرابًا بالمعنى الذي نقصده، بل هو أقرب إلى الإعجاب بالغرب، والترويج لتجربته ونموذجه، لأن ما جاء في تلك الصورة التي قُدمت عن الغرب لم يكن نقديًّا بل تعليميًّا. في حين أن الصورة التي تُقدم عن العرب والمسلمين في الكتب المدرسية الأوروبية هي صورةٌ سلبيةٌ تتعمد التركيز على مظاهر التخلف والبداوة والعيش في الصحراء.

إن الاستغراب المطلوب هو عمليةٌ يتداخل فيها التعرف على الغرب، مع نقده وتفكيك مرجعياته الفكرية والفلسفية والاجتماعية في وقتٍ واحدٍ.

أما شرط نقد الغرب وتفكيك مقولاته بعد التعرُّف عليه، فيحتاج أولًا وقبل كل شيء إلى التحرُّر النفسي والمعنوي من هيمنته ومن سطوته. يجب أن ندرس الغرب من موقع الباحث غير الغربي، لا أن نكرِّر مقولات الغرب عن نفسه، لأنّ الكثير من الباحثين ومن المفكِّرين لا يمتلكون حتى الجرأة على جعل الغرب موضع نقدٍ وتشكيكٍ في مقولاته وأطروحاته النظرية في الفلسفة وعلم الاجتماع وعلم النفس والتربية وسواها... لا، بل يذهب هؤلاء إلى التهويل واتهام من ينتقد الغرب بالتخلف، باعتبار أنّ هذا النقد بمثابة نكوصٍ وتراجعٍ عن الالتزام العلمي والعقلي. يجب نزع القداسة عن الغرب في نفوسنا وعقولنا حتى تنفتح بوابة الاستغراب: أن نرى الأشياء كما هي، أي الغرب كما هو وعلى حقيقته.

* هل التأسيس لعلم الاستغراب أمرٌ ضروريٌّ في الاستنهاض الفكري في فضائنا الحضاري العربي والإسلامي؟

 ـ  إن الاستغراب ليس عمليةً بحثيةً معزولةً، بل يفترض أن يكون أحد أدوات النهوض في مشروع الاستقلال السياسي والاقتصادي والثقافي، إذ لا معنى للاستغراب في ظل التبعية السياسية والارتهان الاقتصادي. نعم يجب أن يساهم الاستغراب في تعزيز ثقافة الاستقلال، وهذه مهمةٌ أساسيةٌ له، لكنه سيكون أكثر فاعليةً لو كانت التحدِّيات السياسية، والثقافية، والعلمية والاقتصادية كلها، مرفوعةً في وجه التبعية للغرب.

إن الاستغراب إذا أراد أن يتحول إلى تيارٍ فكريٍّ فاعلٍ ومؤثّرٍ يجب أن تحتضنه الجامعات، ليحتل مكان نموذج الغرب في عقول الأساتذة والطلاب. ويجب أن تتبنى دراساتِ الاستغراب مراكزُ البحث في المجالات الإنسانية والاجتماعية والفلسفية. نعم يمكن للباحثين أن يقدّموا مساهماتٍ كبيرةً في تأسيس هذا العلم، وفي تأكيد مشروعيته والحاجة إليه. ولكن كما هيمنت نظريات العلوم الاجتماعية والإنسانية على المناهج والمقررات في الجامعات العربية، وأنتجت «التبعية للغرب»، يجب على الاستغراب أن يدخل إلى الجامعة في إطار مشروع التحرر من سطوة الغرب، ومن قداسته، ومن اعتبار الغرب الطريق الوحيد الممكن للشرقيين، وحتى لباقي العالم.

الاستغراب ليس عداءً، لا للغرب ولا لشعوبه، ولا يمكن أن يكون استشراقًا مضادًّا. فالاستشراق كما هو معلومٌ كان جزءًا من المشروع الهجومي الاستعماري لاحتلال الدول العربية والإسلامية، قبل أن يتحوّل لاحقًا إلى علمٍ ومدارسَ، في حين أن الاستغراب اليوم هو أداةٌ دفاعيةٌ في إطار مشروع النهضة والاستقلال. وفي الوقت الذي تعمّد فيه المستشرقون في كثيرٍ من الأحيان التركيز على الصور السلبية في مجتمعات وسلوك العرب والمسلمين، فإن الاستغراب سيكون علمًا موضوعيًّا لا يتعمد الإساءة أو حتى الوعظ الأخلاقي، بل التعرف الحقيقي على التجربة الغربية التي أنجزت تلك العلوم الإنسانية، وأنتجت الهيمنة والتسلط، والتي استطاعت أن تعتبر نفسها مسارًا وحيدًا للبشرية طوال عقودٍ طويلةٍ من الزمن. الاستغراب هو مشروعٌ لا يمكن أن يكون مثل الاستشراق لا على المستوى المنهجي ولا على مستوى توظيفه وأدواته. الاستغراب مشروعٌ دفاعيٌّ يفتقر إلى القوى والمؤسسات التي تحميه وتوظّفه كما كان حال الاستشراق. ولمواجهة الغرب معرفيًّا يجب أن نمتلك موقعًا خاصًّا، وهويةً خاصةً، خارج مكانة الغرب وهويته. إن الاستغراب هو بشكلٍ أو بآخرَ استعادةٌ لكل تاريخٍ غيرِ غربيٍّ اعتبره الغرب بعد مساره النهضوي والحداثي أنه تاريخٌ ميتٌ وخارج التاريخ.  

لقد تراجع بريق الغرب السياسي والأخلاقي والإنساني وحتى الاقتصادي، وبات من الصعب على مقلِّدي الغرب في بلادنا الإشارة إليه كنموذجٍ في تلك المجالات كافةً. كما كثرت الدراسات الغربية نفسها في نقد وتفكيك ما أنجزه الغرب على مستوى مشروع الحداثة وعلى مستوى نظرياته في العلوم الإنسانية والاجتماعية، كما اتسعت ظاهرة التمسك بالهوية الثقافية والاعتراض على العولمة، لا في البلدان الشرقية أو الإفريقية فحسب، بل نشهد مثل هذه الظاهرة حتى في البلدان الأوروبية التي عبّر عنها خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، ومحاولات استقلال الكاتالون في إسبانيا، وصعود أحزاب اليمين المتطرف في أكثر من بلدٍ في أوروبا...

ولهذا يجب أن يبدأ الاستغراب مبادرته ودوره حتى على مستوى الباحثين الأفراد، أو على مستوى الندوات والمؤتمرات، قبل أن يتحول إلى علمٍ يُدرَّس في الجامعات على المستويات المنهجية والفلسفية والاجتماعية والنفسية والحضارية.

إن الفرصة اليوم مواتيةٌ أكثرَ ممّا كان عليه الأمر مطلع القرن العشرين، فقد تراجعت «دهشة الغرب»، بعدما كان الغرب في ذروة هجومه وتقدمه وسيطرته، وبعدما كانت نظرياته في العلوم الإنسانية والاجتماعية وحداثته هي الوجه الآخر لهيمنته وسطوته السياسية والعسكرية. لقد تراجع اليوم هذا البريق وتلك السطوة، وعلى الاستغراب إذًا أن يتقدم بكل ثقةٍ وجرأةٍ لكسر التبعية المطلقة للمنظِّرين الغربيين، وليزيح جانبًا أصنام الغرب الفكرية التي كان الكثيرون في جامعاتنا لها عابدين. وكلما تقدم الاستغراب تبدّت هشاشة التبعية الفكرية للباحثين الغارقين في مقولات الغرب.

إن الاستغراب ليس رؤية النخب المشرقية للغرب فقط، بل هو مشروعٌ نهضويٌّ يحتاج إلى الاطّلاع على ما قدّمه مثقَّفو شعوبٍ أخرى في إفريقيا واليابان والهند وماليزيا وسواها في نقد مرتكزات المعرفة الغربية وتجربتها الحضارية والإنسانية. كما عليه أن يستفيد مما أنجزه مثقفون غربيون في المجال نفسه من النقد، ومن التفكيك، وصولًا إلى عدم الثقة بمستقبل الحضارة الغربية. وفي إطار مشروع الاستغراب يجب تدريس لغات وثقافات الشعوب والمجتمعات الشرقية في جامعاتنا مثل الصين واليابان، وتركيا وإيران وماليزيا وأفغانستان... هكذا يصبح الاستغراب مشروعاً إنسانيًّا أيضًا.

 
فروع المركز

فروع المركز

للمركز الإسلامي للدراسات الإستراتيجية ثلاثة فروع في ثلاثة بلدان
  • العنوان

  • البريد الإلكتروني

  • الهاتف