البحث في...
عنوان الحوار
إسم المحاور
إسم مجري الحوار
المصدر
التاريخ
ملخص الحوار
نص الحوار
 أسلوب البحث
البحث عن اي من هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على كل هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على هذه الجملة

October / 18 / 2020  |  889لا مناص لعلم الاستغراب من هندسة معرفية لتحقيق غاياته

الحوار مع :أ. د. توفيق بن عامر
لا مناص لعلم الاستغراب من هندسة معرفية لتحقيق غاياته

​حسب الدكتور توفيق بن عامر أن الغرب لم يصبح غرباً بالمفهوم الحضاري عند المسلمين إلا في العصر الحديث، وبالتحدِّيد منذ حملة نابوليون بونابرت على مصر. وعلى هذه الأطروحة يؤسِّس بن عامر رؤيته لعلم الاستغراب بوصفه علماً لتفكيك البنية الحضارية والتاريخية والتعرّف إليها ونقدها.

في هذا الحوار يبيِّن لنا أن علم الاستغراب يحتاج إلى هندسة معرفيّة واستراتيجية تطبيقية لبلوغ أهدافه.


* كيف تنظرون إلى معنى الغرب من الوجهتين الإنثربولوجية والطبيعية؟

ـ للغرب دلالتان، إحداهما جغرافيةٌ والثانية حضاريةٌ ثقافيةٌ وتخضع كلٌّ منهما للتغيّر. الحدود الجغرافية للغرب تشهد التقلُّص والامتداد حسب اختلاف الأوضاع والأزمنة وحسب زوايا النظر، فالغرب بالنسبة إلى زعماء الإصلاح في القرن التاسع عشر هو أوروبا، وهو بالنسبة إلى أجيال القرن العشرين يشهد اتساعًا ليشمل الولايات المتحدة الأميركية. وكذلك تتغير حدود الغرب ضيقًا واتساعًا وفق زوايا النظر، فهو في عيون المثقفين مثلًا يمكن أن يمتد ليشمل اليابان واليونان وروسيا، ويعني عند رجال الدين العالم المسيحي امتدادًا للعداوة التاريخية المزمنة، وفي نظر المهتمين بالسياسة ترسم حدوده وفق طبيعة العلاقات والتوجهات السياسية فينعت مثلا بالغرب الإمبريالي وما عقده من تحالفاتٍ تذكيرًا بالموجات الاستعمارية أو بالصراع بين الفلسطينيين والكيان الصهيوني، كما أن ظاهرة العولمة قد كان لها تأثيرها في رسم تلك الحدود في مخيلة الشعوب ووجدانها.

وليست الدلالة الحضارية والثقافية أقلَّ تغيُّرًا عبر التاريخ، إذ لم يكن للغرب الحضاري وجودٌ يُذكر في العالم الإسلامي في العصر الوسيط، فالمسلمون كانوا في ذلك العصر سادة العالم وكانت البلاد الأوروبية في حالة تدهورٍ بالقياس إلى نهضة الإسلام، ولم تكن القارة الأميركية قد اكتُشفت بعدُ، وكان الصراع بين الإسلام والمسيحية صراعًا دينيًّا. لم يصبح الغرب غربًا بالمفهوم الحضاري عند المسلمين إلا في العصر الحديث وبالتحدِّيد منذ حملة نابوليون بونابارت على مصر، وهي الحملة الصدمة التي فتحت أعين الشرق على ذلك الغرب مثلما انفتحت أعين الغرب على الشرق الحضاري في القرن الثامن عشر. ومنذ ذلك التاريخ أصبح الشرق شرقًا والغرب غربًا بالمفهومين الجغرافي والحضاري معًا.

* من أين يبدأ التاريخ الحضاري للغرب.. من عصور التنوير والحداثة أم أنه يعود إلى اللحظة الإغريقية؟

 ـ  وبناءً على ما سلف فإنّ تاريخ الغرب ينبغي أن يشمل حسب تصورنا مختلف الأحقاب التي مر بها ابتداءً من الفترة اليونانية والرومانية وصولًا إلى عصر الأنوار وأحقاب الحداثة. ومع ذلك تظل المرحلة الحديثة من الحضارة الغربية هي المهيمنة على تاريخ الغرب كله، بل وعلى مختلف الحضارات الأخرى أيضًا، وهي التي أعطت لكلمة «الغرب» مفهومها المصطلحي الحديث والمعاصر، وهي الزاوية التي يُنظر اليوم من خلالها إلى مختلف المراحل السابقة لتشكل الهوية الغربية، كما يُنظر من خلالها إلى تقييم مختلف الحضارات.

* كثيرون يتحدّثون عن الغرب ككتلة حضارية واحدة، ألا ترون ضرورة التمييز بين تنوعّاته وهوياته المتعدّدة من أجل أن يستوي فهمه على نصاب موضوعي؟

 ـ  ومع ذلك، لا يُعتبر الغرب في نظرنا كتلةً واحدةً سياسيًّا وثقافيًّا واجتماعيًّا. فهو، على الرغم من توفره على خصائصَ ومبادئَ مشتركةٍ بين مختلف الأقطار والأقاليم المساهمة في تكوينه، يتضمن أيضًا جملةً من الخصوصيات التي تتميز بها المجتمعات المنضوية تحت خياراته، ويمكن القول إجمالا أن الغرب يجسّم ما يمكن التعبير عنه بمقولة التنوع في الوحدة أو الوحدة في التنوع.

* ما هي برأيكم المباني المعرفيّة والفلسفية الكبرى التي تأسَّست عليها الخصوصية الحضارية للغرب الحديث؟

 ـ  أما عن الاسس والمباني الثقافية والفلسفية التي أخذ بها الغرب لتشكيل حضارته الحديثة فهي تتمثل في الرصيد الفكري والحضاري الذي عمل على كسبه على مر القرون ولا سيما ابتداءً من عصر النهضة الأوروبية. ولعل حجر الأساس الذي أقيم عليه ذلك البناء هو مراهنته على الإنسان باعتباره محورًا للكون وباعتباره الوسيلة والغاية في آن واحدٍ. وقد تَمثّل ذلك الرهان في النزعة الإنسية التي استخلصها من تأمّله في التراث العالمي ولا سيما في التراثيْن اليوناني والروماني، وفي تراث الشرق عمومًا بما في ذلك الإرث الثقافي والحضاري العربي الإسلامي. وكان لمفهوم «التقدّم» دوره الفعال في النظر إلى المستقبل وفي الطموح إلى النهوض بوضع الجنس البشري نحو السعادة والرفاه. ولم يكن بإمكانه الطموح إلى ذلك لولا مراهنته على التخلص من الفكر الغيبي والعمل على إزاحته والإقبال على الاهتمام بشؤون العالم انطلاقا من الواقع الطبيعي والاجتماعي بعيدًا عن أوهام الحكمة القديمة والتصورات الماورائية. وكان المنهج الجديد الذي توخاه مستمدًا من قراءته وإدراكه لمعنى التاريخ وتَمثّله لسيرورة الزمن. وبفضل ذلك المنهج كانت المراهنة على قيمٍ أساسيةٍ في بناء الحضارة وفي مقدمتها العقلانية في دراسة الظواهر والتجربة في معالجتها وصولًا إلى ما يُفرزه كلٌّ منهما من شتى العلوم والمعارف. ولم يكن العلم هو الأساس الوحيد الذي تشكّلت به الحضارة الغربية والذي جعلت منه الوسيلة المثلى للسيطرة على الطبيعة، بل إنها قد استندت في تشكّلها أيضًا إلى قيمةٍ مركزيةٍ أخرى، وهي قيمة «الحرية» بأبعادها المختلفة من فكريةٍ واجتماعيةٍ واقتصاديةٍ وسياسيةٍ.

* كيف ترون إلى صورة الاحتدام الراهن بين الإسلام والغرب، وإلى أي مآلٍ سينتهي مثل هذا الاحتدام؟

 ـ  بالاحتكام إلى مقتضيات وشروط الراهن العالمي من الصعب اليوم إن لم يكن متعذرًا عقد حوارٍ متكافئٍ مع الغرب لقيام عوائقَ كثيرةٍ لتحقيق ذلك يتعين إزالتها والتغلب عليها قبل التأهل لمثل ذلك الحوار. وهي عوائقُ تكبّل الذات في تعبيرها عن ذاتها كما تكبّل الآخر في قبوله بمبدأِ الحوار. ولعل أهم ما يكبّل الذات العربية الإسلامية اليوم هو عجزها الراهن عن توحيد مواقفها وتحديد هويتها الثقافية ولذلك يتعين حوار الذات مع ذاتها أولًا قبل دخولها في حوارٍ مع الآخر. ثم إن الغرب تكبّله أيضًا عوائقُ عن القبول بالحوار المتكافئ ومن بينها ما ظل يعانيه ولا يزال إلى اليوم من عقدة التفوق والهيمنة وكذلك ما يتمسك به من مركزيةٍ وما يروّجه من صورةٍ مغلوطةٍ عن العالم العربي الإسلامي. وريثما يقع التخلص من تلك العوائق من الجانبين بفضل وظيفة علم الاستغراب التي تؤهله لذلك، يمكن الشروع في وضع الأسس لحوارٍ متكافئٍ.

* هل ثمة إمكان لإجراء حوار حضاري مع الغرب في ظل التطوّر اللاَّمتكافئ الذي نعيش تداعياته الدراماتيكية اليوم؟

 ـ  أجل هنالك مشتركاتٌ على الصعيد الثقافي والحضاري بين العالم الإسلامي والعربي والغرب وإن كان الغرب غالبًا ما يتجاهلها ويقدّم بدلًا عنها صورًا كاريكاتوريةً. وتلك المشتركات هي بالذات ما استفادته الحضارة الغربية الحديثة من التراث الحضاري العربي الإسلامي مما يعتبر الغرب معه امتدادًا وتطويرا للإرث العربي الإسلامي لا سيما في عصور ازدهاره. هذا بالإضافة إلى حاجة كلٍّ من العالميْن إلى بعضهما بعضًا ما يمهّد السبيل للتكامل بينهما ولاستفادة أحدهما من الآخر في كنف التساوي والندية. وإذا كان من نقدٍ لسلوك الغرب فإن ذلك النقد إنما يُوجَّه للحكومات وللمؤسسات صاحبة القرار ولا سيما السياسية والثقافية والإعلامية، أما المجتمعات فلا تثريب عليها.

* هل نستطيع القول أن العولمة جعلت العالم كله في مأزق حضاري بما في ذلك حضارة الحداثة الغربية؟

 ـ  أما عن الازمات التي يعيشها الغرب في الحقبة المعاصرة وعلى مختلف المستويات فليس من الحتمي النظر إليها بعين التشاؤم، وليست هذه هي المرحلة المتأزمة الأولى التي يمرّ بها الغرب إذ كم من أزمةٍ مرّ بها في السابق ولوّحت بسقوطه لكنه ما لبث أن أوجد لها الحلول الملائمة. فكل الحضارات تمر بالأزمات لكن العبرة بالنهوض لمعالجتها وبكيفية تلك المعالجة الضامنة للتغلب عليها. فالتطوّر له مشاكله وأزماته لكنها في كل الحالات أقل خطرًا وأهون علاجًا من أزمات التخلف والتدهور.

* يجري الحديث اليوم بين نخب ما يسمى العالم الثالث، وخصوصاً في عالمنا العربي والإسلامي عن ضرورة التأسيس لعلم الاستغراب، ما رؤيتكم إلى ذلك وما الذي تقترحونه حيال هذا المشروع؟

 ـ  نعم إن علم الاستغراب في حاجةٍ ملحةٍ إلى إرساء خطةٍ منهجيةٍ وتأسيس هندسةٍ معرفيةٍ وكذلك تطبيقيةٍ لبلوغ أهدافه، إذ كل مشروعٍ لا بد له من هويةٍ واضحةِ المعالم، ومن الضروري تحديد منطلقاته وضبط أهدافه وإلا فإنه يظل سائرًا على غير هدًى وعرضةً لهدر الجهد والطاقة ولا يمكنه الوفاء بما يرجى منه. ويبدو لنا أن من أوكِّد بنود هذه الاستراتيجيا الاستغرابية التي نرجو لها النجاح الشروع في القيام بجهودٍ تصحيحيةٍ لصورة الغرب عن العالم العربي الإسلامي وكذلك لصورة العرب المسلمين عن الغرب لأنه بمثل ذلك التصحيح يكون تمهيد الطريق أمام هذا العلم وفتح الآفاق أمام التعرّف الصحيح على حقيقة الغرب وحضارته. إلى ذلك فإننا في فضائنا العربي الإسلامي نطمح إلى بناء نهضةٍ فكريةٍ حقيقيةٍ، ويبدو لنا مشروع التأسيس لعلم الاستغراب مسعًى جديًّا لإنجاز ذلك البناء؛ لأن الأخذ بأسباب تقدم الغرب في شتى المعارف والعلوم هو الكفيل ببلوغ ذلك الهدف، وسيكون لعلم الاستغراب دورٌ رائدٌ لا محالة في الكشف عن تلك الأسباب والاستفادة منها. ولن يتاح لنا ذلك في اعتبارنا ما لم نتجاوز مرحلة الاستيعاب للمنتج الغربي إلى تقييمه ونقده وما لم نتجاوز تلك المرحلة النقدية إلى مرحلة اقتراح الإضافة، وإذّاك فقط يكون ذلك العلم مُنتِجًا، لا مستهلِكًا فقط.

* ثمة من يرى تناظراً بين مفهومي الاستغراب والاستشراق، هل هذا يعني أن الاستغراب هو ردة فعل على ما اقترفه الاستشراق الغربي من جنايات حيال الشرق المسلم؟

 ـ  ثمة تناظرٌ شكليٌّ على الأقل بين علم الاستشراق وعلم الاستغراب وإن كان هذا الأخير متأخّرًا عنه في الزمن. وهذا التناظر الشكلي قائمٌ على اعتبار كلٍّ منهما علمًا هادفًا إلى التعرف على الآخر. إلا أن العلمين يختلفان أو ينبغي أن يختلفا اختلافًا جوهريًّا وذلك بالنظر إلى منطلقات كلٍّ منهما وغاياته وأهدافه وهو ما يقتضي اختلافهما منهجيًّا أيضًا فضلًا عن الاختلاف الحتمي بخصوص المحتوى. ويمكننا باختصارٍ أنْ نقول أنّ الداعي إلى هذا يختلف موضوعيًّا وظرفيًّا عن الداعي إلى ذاك، ومن هنا نبدأ في رسم خطوط الفصل.

 ـ  ولا شك في أنّ من أهداف علم الاستغراب صياغة رؤيةٍ للغرب على حظٍّ كبيرٍ من الموضوعية بحيث تكون كفيلةً ببيان وتوجيه السبل الناجعة في التعامل معه على ضوء تلك الرؤية مع الاجتهاد في نقد وتعديل رؤاه حول العالم العربي الإسلامي وحول الشرق عمومًا. وهذه المهامّ لا يمكن أن تنهض بها إلا النخبة أولًا، لكن مع ضرورة تعميمها بعد ذلك وإخضاعها للحوار والنقاش حتى تنخرط مجتمعاتنا في تلك الرؤية وتتفاعل معها وتتجاوز بها رؤاها السطحية السابقة. ومن الجدير القول أنه لا جدال في وجود استتباعٍ فكريٍّ أو تبعيةٍ فكريةٍ للغرب من قبل طيفٍ عريضٍ من النخب العربية الإسلامية، وهؤلاء يشكّلون عقبةً دون التعرف الموضوعي على حقيقة الغرب لا تقلّ خطرًا عن العقبة التي يمثّلها المعادون للغرب على أساس التعصب الديني. لكن علم الاستغراب القائم على المقاربة النقدية من شأنه أن يُفضي بالضرورة إلى الحد من تلك التبعية وكسر شوكة التعصب وإلى التغلب على تلك العوائق لأنها مظهرٌ سلبيٌّ من مظاهر العلاقة مع الغرب ولا تساهم في عملية إنتاج المعرفة بل من شأنها تكريس الجمود والتقليد.

ومع ذلك هنالك فعلًا مرجعياتٌ فكريةٌ وفلسفيةٌ قاربت حقيقة الغرب بما فيها من إيجابياتٍ وسلبياتٍ من قبيل أعمال إدوارد سعيد ومالك بن نبي وعبد الله العروي وهشام جعيط وغيرهم، ويجدر بعلم الاستغراب أن يهتم بتقويم حصيلتها والنظر في مدى تقاطعها وإنجاز قراءةٍ على القراءة واستخلاص ما تثبت الوقائع والتجارب صحته مع التخلّي عما فيه من متغيِّرات والاحتفاظ بالثوابت.

 
فروع المركز

فروع المركز

للمركز الإسلامي للدراسات الإستراتيجية ثلاثة فروع في ثلاثة بلدان
  • العنوان

  • البريد الإلكتروني

  • الهاتف