أهمّيّة محاورة الدكتور السيّد حسين نصر حول قضايا الغرب وتحوّلاته الفكريّة والقيميّة، تكمن في معايشته العضويّة للمجتمعات الغربيّة نفسها، فقد صرف الرجل ولمّا يزل قسطاً وازناً من حياته في معاهد الغرب وجامعاته طالباً وأستاذاً وعارفاً بمشكلاته المعرفيّة والمجتمعيّة، حتّى أنّك حين تقرأ كتاباته ومحاضراته والمؤتمرات التي يشارك فيها، سوف تشعر أنّك تلقاه فيلسوفاً لا يصدر عن حكم قيمة بقدر ما يعاين عقل الغرب معاينة عقلانيّة، ثمّ ليحدّد مواقفه تبعاً لتلك المعاينة.
في ما يلي حوار أجراه معه الباحث حامد زارع، ويتمحور بصورة أساسيّة حول نظريّة (حوار الحضارات) التي طرحت على نطاق عالميّ إبان العقود الثلاثة، وهي النظريّة التي جاءت كردٍّ على أطروحة (صدام الحضارات)، التي أطلقها المفكّر الأميركي صموئيل هانتغتون في تسعينيّات القرن المنقضي.
* إلى أيّ مدى سيكون الحوار بين الحضارتين الغربيّة والإسلاميّة أمراً ممكناً في خضمّ المواقف العدائيّة التي يتّخذها الغربيّون تجاه الإسلام؟... ألا يمكن إدراج أحداثٍ كهذه ضمن الموجة التي أطلقتها نظريّة صراع الحضارات؟
ـ في مستهلّ كلامي أودّ أن أنوّه على أنّ البلدان الغربيّة كثيرًا ما تشهد الأحداث التي أشرتم إليها، والطريف أنّ الدراسات والنتائج التي تعتمد عليها لا يمكن أن يعتدّ بها؛ لكونها تفتقد إلى أصول البحث العلميّ المعتبرة، وهي بطبيعتها ترتكز على برامجَ مخطّطٍ لها مسبقاً بحيث تكون نتائجها مطابقة لمرام من خطّط لها؛ وبالتالي يتمّ تصويرها وكأنّها نتائج صحيحة متقوّمة على الأُسس والقواعد المعتبرة في البحث العلميّ، ويمكن اعتبار الكتاب الشهير الذي ألّفه المفكّر صاموئيل هانتغتون واحداً من المواضيع التي ترتبط بهذه الحملة الواسعة. فهذا المؤلِّف منذ أن كتب مقالته الأولى في مجلّة الشؤون الخارجيّة (foreign affairs) كان واضحاً أنّ دراساته لا تستند إلى البحث العلميّ الدقيق، بل إنّه كان يروم إضفاء صبغة علميّة بحثيّة على ما يريده البعض بغضّ النظر عن مدى مصداقيّة ما يتمّ طرحه.
لا شكّ بأنّ التصادم بين الحضارات يعدّ واحداً من الأمور التي يرغب الكثير من الغربيّين بوقوعه، وهو ليس من القضايا التي تترتّب على نشاطات علميّة أو تطرح في نطاق فكريّ؛ لكونه يتنافى مع المنطق والأصول العقلائيّة، وعلى هذا الأساس فإنّني عارضته منذ بداية طرحه، وأزيدكم علماً بأنّ كتاب صاموئيل هانتغتون قد أُرسل إليّ قبل أن يصل إلى مرحلة الطباعة، وكذلك قبل أن تقوم مجلّة الشؤون الخارجيّة (foreign affairs) بطباعة مقالته الأولى؛ إذ أرسله لي الأستاذ توري مينج أحد أساتذة جامعة هارفارد ومن المتخصّصين بالفكر الصينيّ والكنفوشيوسيّ. بعد طباعة مقالة السيّد هانتغتون انتابنا الذهول وبدأنا نفكّر بحلٍّ لما طرح فيها، وأوّل مؤتمر شاركتُ فيه بعد قراءة هذه المقالة كان في ماليزيا، حيث اقترحت على المسؤولين هناك بأن يُعقد مؤتمر لإثبات التقارب الموجود بين الحضارتين الصينيّة والإسلاميّة، وهذا الأمر يتعارض تماماً مع ما طرحه السيّد هانتغتون في مقالته. لحسن الحظّ، تمّ تقديم اقتراحي إلى مساعد رئيس الوزراء الماليزيّ السيّد أنور إبراهيم ـ وهو من أصدقائي المقرّبين ـ ، حيث تمّت الموافقة عليه، وبالفعل عُقِدَ مؤتمر كبير فيما بعد حول العلاقة بين الإسلام والفكر الكنفوشيوسيّ.
أذكر أنّني كنت في ماليزيا قبل انعقاد هذا المؤتمر، وألقيت آنذاك أوّل كلمة لي تناولت نقض نظريّة صدام الحضارات أمام مرأى أكثر من ألفي أستاذ ومسؤول ماليزيّ، وكان هذا العمل يعتبر الأوّل من نوعه في العالم الإسلاميّ.
الآن، نعود إلى سؤالكم الذي استفسرتم فيه عمّا إذا كانت بعض الأحداث تمثّل مصداقاً لتحقّق نظريّة صدام الحضارات، من قبيل إحراق القرآن الكريم وإهانة
نبيّنا الكريم صلىاللهعليهوآله.
أودّ أن ألفت انتباهكم إلى وجود بعض الأشخاص الذين يتربّصون بالبشريّة المكائد، ويسخّرون جلّ نشاطاتهم ومساعيهم للاصطياد في الماء العكر، وهم الذين يحقّقون أرباحاً طائلةً من بيع الأسلحة، وأولئك الذين يطمحون إلى تحقيق مآرب سياسيّة؛ فهكذا أشخاص يبذولون قصارى جهودهم لإثارة الخلافات بين الإسلام والغرب وتأجيجها إلى أقصى حدٍّ بغية تأزيم العلاقات، وترسيخ العداء للحيلولة دون تحقيق تقارب بين الطرفين.
طبعاً، أرغب في الحديث معكم حول الحضارتين الغربيّة والإسلاميّة، ولا أريد التطرّق إلى الحضارات الصينيّة والهنديّة واليابانيّة، رغم أنّ السيّد صاموئيل هانتغتون كان قد تطرّق إلى الحديث عنها؛ إذ إنّ بحثنا الحالي يتمحور حول الغرب والإسلام فحسب.
من الجدير بالذكر هنا هو وجود تيّارٍ آخر في البلدان الغربيّة مقابل التيّار السائد اليوم الذي يسعى إلى توسيع رقعة العداء والكراهية بين الحضارتين الغربيّة والإسلاميّة، وهو على العكس تماماً ويتنافى مع الثاني؛ لكونه يروّج إلى مدّ جسور التسامح والتفاهم بين هاتين الحضارتين، لكنّه بقي طيّ الخفاء تقريباً؛ لأنّه لا يدعو إلى إحراق المصحف الشريف أو إزهاق النفوس، لذلك لم ينعكس نشاطه على نطاق واسع في وسائل الإعلام. ومع ذلك فإنّ حال هذا التيّار حال التيّار الآخر، فهو قويّ في البلدان الغربيّة وله نفوذ هناك، ومن هذا المنطلق لا يمكن القول إنّ جميع التيّارات الموجودة في الغرب تروم تأجيج العداء والأحقاد بين الحضارتين، لكنّ التيّار الداعي إلى الصدام والتباعد يتصدّر وسائل الإعلام ويطغى عليها إلى حدٍّ كبيرٍ.
لو تابعتم قنوات الأخبار الغربيّة، بل وحتّى سائر وسائل الإعلام العالميّة، لوجدتم أنّ طبيعة الأخبار التي تتناقلها غالباً ما تكون من صنف الأخبار السيّئة والمؤسفة. بحيث لا تجدون فيها أخباراً سارّةً. على سبيل المثال، لو قام ألف مواطن أميركيّ بختم القرآن الكريم من أوّل آية إلى آخر آية فإنّ وسائل الإعلام لا تشير إلى ذلك، لكن لو قرّر أحد القساوسة المتشدّدين إحراق المصحف الشريف كما فعل القس تيري جونز، لتصدّر هذا الخبر جميع الصحف والنشرات الإخباريّة.
ومهما يكن الأمر فإنّ هذين التيّارين المتضادّين حاضران في العالم الغربيّ، ولا يمكن التغاضي عن أيّ منهما مطلقاً، لذلك من الحريّ بنا ملاحظتهما فيما لو أردنا تقييم الأمور هناك على هذا الصعيد.
* كيف تنظرون إلى التصرّفات المسيئة للإسلام في البلدان الغربيّة والتي تظهر بين الفينة والأخرى، نظير إنتاج فيلم يمسّ بقدسيّة الرسول الأكرم صلىاللهعليهوآله؟
ـ التيّار المناهض للإسلام موجود وتبدر منه تصرّفات مذمومة جملة وتفصيلاً، ولا سيّما قيامه بإنتاج الفيلم الذي أساء للنبيّ محمّد صلىاللهعليهوآله، حيث تسبّب بإثارة جدل كبير. وأؤكّد لكم أنّني رغم تأمّلي العميق حول هذا الموضوع، لم أستطع إقناع نفسي بالمبادرة والبحث في المواقع الإلكترونيّة بغية مشاهدة هذا الفيلم؛ لكنّني تعرّفت إلى مضمونه من بعض طلّابي الذين شاهدوه، فاستنتجت من ذلك أنّه قد صيغ بشكلٍ غير مهنيّ وسخيفٍ للغاية. لذلك فهو من الأفلام الساقطة والعقيمة. وأمّا بالنسبة إلى الذين تصدّوا لإنتاجه، فيُحتمل أنّهم من الأقباط المصريّين المقيمين في الولايات المتّحدة الأميركيّة، وبالتأكيد هناك من حرّضهم ودعمهم على ذلك ممّا جعلهم يتجرّؤون على تحدّي مشاعر المسلمين.
وهنا أحبّ أن أنوّه على أنّ الأقباط في مصر منذ القِدَم تعايشوا مع المسلمين بأمن وسلام، لكن في العصر الحديث وإثر النشاطات الاستعماريّة والحملات التبشيريّة، إضافةً إلى تنامي النزعة التعصّبيّة الراديكاليّة لدى بعض المسلمين، فقد تعرّضت هذه العلاقات الحميمة إلى ضربةٍ أسفرت عن تغيير وجهتها فنشأت خصومات حادّة. وهذه الأحداث تشبه إلى حدّ بعيد ما حصل في الهند بين السيخ والهندوس الذين كانوا طوال قرون متمادية يعيشون بسلام دونما أيّ خلاف يذكر، فالسيخ المقيمون في كندا فعلوا ما فعله الأقباط المصريّون في الولايات المتّحدة الأميركيّة تجاه المسلمين، حيث طغت عليهم النزعة المتطرّفة وروّجوا لخلافاتهم مع الهندوس.
أنا أقصد ممّا ذكرت بأنّ الممثّلَيْن الّلذَيْن شاركا في الفيلم المشار إليه ليس بإمكانهما وحدهما إنتاج فيلم سينمائيّ، لذا لا بدّ من وجود تيّارٍ قويٍّ وفَّر لهما الدعم اللازم وحرّضهما على ذلك؛ كما أوّد أن أنبّه إلى أنّ هذا الفيلم الذي أجّج العالم الإسلاميّ وأثار حفيظته بهذا الشكل، يوصلنا إلى حقيقة أنّ خلفيّة هذا الاستياء العارم كانت ممهّدةً مسبقاً، ويمكنني تشبيه ذلك بالصاعقة المفاجئة التي تؤدّي إلى حدوث حريقٍ في غابةٍ، ففي الغابة تكمن قابليّات الاشتعال قبل نزول الصاعقة، وبالطبع فإنّ الجفاف الذي أصاب الأشجار مهّد بدوره الأرضيّة لهذا الحريق الذي التهم كلّ شيء؛ ولولاه لما حدث ذلك.
يجب علينا الالتفات إلى العلل والأسباب الأساسيّة التي تؤدّي إلى كلّ ما يحدث، ففي العالم الغربيّ لا يوجد شخص يتساءل مع نفسه عن السبب الكامن وراء سخط المسلمين من الولايات المتّحدة الأمريكيّة، فالغربيون لا يرغبون بطرح هذا الأمر مطلقاً.
يؤلمني ويؤسفني أنّني أشاهد كيف يتغافل الناس عن العلل والأسباب الأساسيّة التي أسفرت عن حدوث هكذا أحداث ويكتفون بالتطرّق إلى بيان النتائج المترتّبة عليها وتحليلها لا غير! إنّ هذه الأحداث قد امتزجت مع المشاعر المخيّبة التي تثار بغية الترويج لكراهية الإسلام وبغض المسلمين، وهي بالطبع تثبت لنا أنّ القوى الغربيّة الرامية إلى تحقّق صدام الحضارات ولا سيّما الصراع بين الحضارتين الإسلاميّة والغربيّة قد ترسّخت وزاد نفوذها في العقود الثلاثة الماضية إلى أقصى الدرجات.
خرافة الإسلاموفوبيا
* إذن، بناءً على ما ذكرت يبدو أنّ الأفق بات مشرَّعاً لتنامي النزعة العدائيّة المتبادلة بين الغرب والإسلام، هل ما يبدو صحيحٌ؟
ـ يؤسفني أن أقول: نعم.
كما ذكرت آنفاً، فإنّ التيّارات التي تثير العداء والكراهية قد تنامت بشكلٍ كبيرٍ إبّان العقود الثلاثة المنصرمة وأصبحت يوماً بعد يومٍ تطرح وفق ذرائع واستدلالات بغية تبريرها وترسيخها في المجتمعات الغربيّة وسائر المجتمعات غير الإسلاميّة، ولكن لو رجعنا خمسين عاماً إلى الوراء فإنّنا سوف لن نلحظ رواج هذا الأمر بتاتاً.
عندما كنت طالبًا جامعيّاً في الولايات المتّحدة الأميركيّة تصدّيت لمنصب رئاسة الاتّحاد الإسلاميّ لطلّاب جامعة هارفارد، وحينها لم يكن هذا الأمر مطروحاً من الأساس، حيث كان اليهود التقليديّون والمسيحيّون، وحتّى الملحدون، يتعاملون مع المسلمين بمنتهى الأدب والاحترام؛ لذلك فإنّ تأريخ هذه الأحداث المؤسفة التي نشهدها اليوم يضرب بجذوره في الأعوام الأربعين أو الثلاثين الماضية.
للأسف الشديد، فإنّني لا أستطيع أن أبسط لكم الموضوع بشكلٍ دقيقٍ ومفصّلٍ لبيان جميع الأحداث وتحليلها التي أوصلت البشريّة إلى هذه المرحلة الحرجة، إلا أنّ الأمر الذي يحظى بأهميّةٍ في هذا الصدد هو تسليط الضوء على ظاهرة مناهضة الإسلام التي سادت في الولايات المتّحدة الأميركيّة والبلدان الأوروبيّة. فإنّها ظاهرة جديرة بالتأمّل ومن الحريّ بنا تحليلها بشكلٍ عقلانيٍّ. والمثير للدهشة أنّ الغربيّين أنفسهم يطلقون عليها عنوان الإسلاموفوبيا (Islamophobia)، ومصطلح (phobia) أصله يونانيّ ومعناه الخوف. ولكن يا ترى، الخوف هنا من أيّ شيء؟! إنّ كلّ القنابل والصواريخ الفتّاكة وأحدث الطائرات المدمّرة هي تحت سيطرة القوى الغربيّة، في حين أنّ البلاد الإسلاميّة لا تمتلك معدّات متطوّرة من هذا النمط، فكيف يمكن تصوّر أنّها مرعبة للغرب؟!
ومهما يكن الأمر، فالموضوع الذي ينبغي توكيده هنا هو التفات المسلمين إلى وجود تيّارين متضادّين في العالم الغربيّ، وهما اللذان أشرت إليهما آنفاً، ولا يختلف اثنان في عدم نجاعة مقابلة العداء بالعداء والكراهية بالكراهية. إذ لا أحد يستفيد من هذا التوجّه الخاطئ، لذا لا مناصَ من التدبّر في الأمور، والتعامل مع الأحداث بالحكمة والفطنة والحنكة. فالتجربة تثبت أنّ المشاكل لا يمكن حلّها بالبهرجة والصياح.
الأوضاع الراهنة تفرض على المسلمين أكثر من أيّ وقتٍ مضى بأن يحتذوا بأسوتهم وقدوتهم الأولى النبيّ الأكرم محمّد بن عبد الله صلىاللهعليهوآله، وأن يطبّقوا تعاليم الوحي ويجعلوها ملاذاً لهم أمام كلّ حدثٍ يعصف بهم، وأن يتعاملوا مع أعدائهم كما تعامل هو صلىاللهعليهوآله من دون أيّ تطرّفٍ أو تعسّفٍ.
* قلتم: «إنّ التيّار الغربيّ الداعي إلى (صدام الحضارات) لا ينفرد بالسيطرة على فكر الغرب وثقافته، بل هناك تيّارٌ مقابلٌ يدعو إلى (حوار الحضارات)». الطريف هنا هو أنّ المجتمع الإيرانيّ على سبيل المثال، عايَشَ نظريّة (صدام الحضارات) بالتوازي مع الدعوات إلى حوار الحضارات حيث كان لرئيس الجمهوريّة السابق السيّد محمّد خاتمي مساهمة جادّة في هذا المجال. لكنّنا فهمنا ممّا ذكرتم أنّ هذه النظريّة قد طرحت قبل ذلك بكثير وتجسّدت في الدعوة إلى السلام والحوار والتعايش السلميّ بين شعوب البشريّة. ما الذي تقولونه في هذا الصدد؟
ـ أودّ أن أقول بأنّ جذور فكرة حوار الحضارات ترجع إلى عهدٍ أبعد من ذلك. هذا الموضوع فيه تفاصيل طويلة ومتشعّبة، لذا لا يمكن ادّعاء أنّه يقتصر على ما طرحه السيّد هانتغتون أو السيّد خاتمي، وسوف أختصر مراحل نشوئه لكم هنا قدر المستطاع راجياً اتّضاح الصورة.
إبّان القرون الوسطى التي تبلورت فيها الحضارة الغربيّة وبدأت تتّخذ طابعها الحقيقيّ، فإنّ الحضارة الوحيدة التي كان يعرفها الغربيّون هي الحضارة الإسلاميّة. أي إنّ الغربيّين لا يعرفون ما هو غريب عنهم (الغير) على هذا الصعيد سوى الإسلام، ولكنّ العكس ليس صحيحاً، فالغير بالنسبة للمسلمين آنذاك لم يكن الغرب وحده. فنحن بصفتنا مسلمين قد تعرّفنا في تلك الحقبة الزمنيّة على سائر الحضارات، من قبيل الحضارتين الهنديّة والصينيّة، وكذلك الحضارة البوذيّة في آسيا الوسطى، وفيما بعد تعرّفنا على المجتمعات الملايويّة في شرق آسيا.
لو رجعت إلى الوراء نحو ألف سنة وألقيت نظرةً على مدينة أصفهان الإيرانيّة، لوجدت على حدودك اليمنى حضارة باسم الحضارة الهنديّة، ولا تفصلها عن حضارةٍ أخرى أي الحضارة الصينيّة إلا مسافة يسيرة حسب المعايير الجغرافيّة. ولكنّك لو رجعت بنفس هذه الفترة إلى الوراء ونحن في العاصمة الفرنسيّة باريس، لألفيت حضارة تحيط بك من كلّ الجهات، ألا وهي الحضارة الإسلاميّة لدرجة أنّ أهل باريس حينذاك لم يكونوا يعرفون غير الإسلام حضارةً، فالغرب لم يتمكّن من معرفة هويّته الحقيقيّة إلا من خلال تقابله مع (الغير) وهذا الغير بطبيعة الحال هو الإسلام والحضارة الإسلاميّة.
لو تدقّق بعض الشيء ستلاحظ أنّ الغرب في تلك الحقبة الزمنيّة قد تأثّر غاية التأثّر بعلوم المسلمين، وعلى رأسها الفلسفة والرياضيّات والفلك والطبّ، وما إلى ذلك من علوم وفنون أثارت دهشة الشعوب الغربيّة في العهود الماضية. هذا التأثّر إضافةً إلى قضايا عديدة أخرى لا يسع المجال لذكرها، كلّها أمور قد أسفرت عن انطلاق حركةٍ في العالم الغربيّ تمّ على إثرها تعرّف المجتمع الغربيّ على هويّته الحقيقيّة. وتجدر الإشارة هنا إلى أنّ هذه الحركة قد طرحت التعريف وفق (الغيريّة)، أي أنّها عرّفت الحضارة الغربيّة بكونها تتغاير مع الحضارة الإسلاميّة. وبعبارةٍ أخرى، فإنّ الحضارة الغربيّة ترى أنّ هويّتها تتجسّد في كلّ ما يتعارض مع الإسلام وتجعل الرؤية السائدة بين الغربيّين تتمحور حول المواجهة بينه وبين المسيحيّة. والغريب أنّه على الرغم من تأثّر الحضارة الغربيّة بالعلوم الإسلاميّة وفنونها، فإنّ الغيريّة بين الإسلام والحضارة الغربيّة في القرون الوسطى لم تكن قادرةً على المساس بالحضارة الإسلاميّة، بل إنّ الغربيّين آنذاك كانوا يكنّون للحضارة الإسلاميّة وعلومها غاية الاحترام والتقدير.
وفي خضمّ هذه الظروف الفكريّة وتجاذباتها، عصفت بالساحة أحداث عرفها العالم تحت عنوان الحروب الصليبية، نجم عنها تنامي (الغيريّة) بين الحضارتين الإسلاميّة والغربيّة. ثمّ تفاقمت الخلافات واحتدمت الصراعات لترسيخ مفهوم هذه الغيريّة؛ وعلى هذا الأساس نجد أنّ الحضارة الغربيّة لم تطرح مبدأ الغيريّة مع الحضارة والفكر الكونفوشيوسييْن. فالفكر الصينيّ أو الهنديّ وكلّ ما يمتّ له بصلةٍ من مسائل وقضايا، ليس له أدنى ارتباطٍ لا بضمير المواطن الغربيّ ولا بوعيه خلال فترة نشوء حضارته. والحاصل أنّ الموضوع برمّته مرتبطٌ بالإسلام لكون المجتمعات الغربيّة كانت عاجزةً عن الارتباط بسائر الأديان التي سادت في الأصقاع غير المتاخمة لها. فالإسلام كان أقرب الأديان والحضارات للعالم الغربيّ، إلا أنّه في الحين ذاته (غير) له وهو ما حدا بالغربيّين لأن يرسّخوا النزعة المعارضة والمناهضة له في ضمائرهم.
* كيف تداعت مثل هذه الغيريّة في ميدان العلاقة بين الغرب والجغرافيا الحضاريّة الإسلاميّة؟
نشأت هذه (الغيريّة) بين الحضارتين الإسلاميّة والغربيّة في مستهلّ القرون الوسطى واستمرّت حتّى عصر النهضة الذي طرأت على إثره تغييرات أساسيّة، ومن جملتها أنّ الإسلام مع كونه غيراً للغرب لكنّه استمرّ في إطار تحوُّلٍ تجسّدَ في تضاؤل الاحترام الذي كان يكنّه الغربيّون للإسلام وعلومه وحضارته إبّان القرون الوسطى، بل يمكن القول إنّ هذا الاحترام والتقدير قد اندثر إلى حدٍّ ما. وعلى خلاف ما يقوله أصحاب النزعة التجديديّة، فإنّ القرون الوسطى لا يمكن اعتبارها عهداً لطغيان الكراهية الغربيّة للإسلام وانتشارها على نطاق واسع، بل إنّ عصر النهضة هو المرتكز في هذا المضمار.
يؤسفني أن أقول بأنّ بعض المسلمين القشريّين قد تنصّلوا من سننهم القيّمة بدعوى تصوّرهم أنّ أسلافهم هم الذين أحدثوا النهضة الغربيّة من خلال علومهم وحضارتهم. هذا التصوّر الواهي في الحقيقة لا يتمّ طرحه في إطار صحيح من الأساس، ولا بدّ من اللجوء إلى تبرير آخر وتناول الموضوع من زاوية أخرى، أي علينا بيان تأثير المسلمين على الغرب من جوانبه الصحيحة التي ذكرها التاريخ وأثبتتها التجربة وشهد لها المفكّرون.
بعد عصر النهضة انطلق عهد جديد تمثّل في الاستعمار والفتوحات الغربيّة التي اجتاحت العالم بأسره، فظهرت إثر ذلك النظرة الغربيّة الاستعلائيّة على سائر المجتمعات والحضارات، حيث اعتبر المستعمرون أنّ مصطلح (حضارة) مقتصر عليهم لا غير. كأنّ الحضارة كلمة ذات معنى أحاديّ لا نظير له في معاجم التاريخ والمستقبل؛ لكونهم أخضعوا العباد لسلطتهم واستعمروا بلادهم. فالحضارة بمعناها العامّ والخاصّ لا تعني حسب زعمهم إلا الحضارة الغربيّة التي طفت إلى السطح في هذه الفترة الزمنيّة. ومن المؤسف أنّنا اليوم نجد الشرقيّين في مختلف توجّهاتهم الدينيّة والمذهبيّة مسلمين وغير مسلمين قد انصاعوا للنزعة الغربيّة وتأثّروا بما لقّنهم به المستعمرون بشكل مباشر أو غير مباشر في شتّى مراحل حياتهم، لذلك حينما يريدون الثناء على أخلاق شخص وتقييم طباعه الشخصيّة المحمودة فإنّهم يصفونه بـ(المتحضّر)، وبطبيعة الحال فإنّ المتبادر من ذلك في الأذهان هو أمرٌ واحدٌ لا غير، ألا وهو اتّصافه بالمبادئ التي تطرحها الثقافة الغربيّة من داعي تصوّر أنّها الحضارة الوحيدة في الوجود.
لو راجعنا النصوص التاريخيّة التي دوّنت باللغتين العربيّة والفارسيّة قبل سبعة قرونٍ، سوف لا نجد مصطلحاً يدلّ على التحضّر بهذا المعنى الذي ساد اليوم في مجتمعاتنا، لذا ينبغي لنا إدراك أنّ هذا المعنى قد طفا إلى السطح جرّاء التغييرات الجذريّة التي عصفت بالفكر الأوروبيّ، وبالأخصّ في عهد الحداثة الفكريّة في المجتمع الفرنسيّ، حيث تنامى وصقل بشكلٍ كبيرٍ.
حضارة إلغاء الغير
* الحضارة هي الحضارة في واقع الحال، لكن ما الذي قصده الفرنسيّون من كلمة (civilisation) بالتحدِّيد؟
كلمة حضارة باللغة الفرنسيّة هي (civilisation) وباللغة العربيّة أضيفت إليها (ال) التعريف لكي تُخصّص في معنى معيّن. ومن الجدير بالذكر هنا أنّ الفرنسيّين يقصدون بهذه الكلمة الحضارة الغربيّة فقط ويقولون (la civilisation)، وكذا هو الحال في سائر البلدان الأوروبيّة التي يتصوّر أهلها أنّ التحضّر في معناه الحقيقي لا يتحقّق إلا في إطار حضارتهم هذه.
ـ أمّا ما قصده الفرنسيّون في هذا الإطار فهو أنّ جميع الحضارات ـ وبما فيها الحضارتان الإيرانيّة والإسلاميّة، هي أنماط أوّليّة وتمهيديّة للحضارة بمعناها الحقيقيّ، وبالتالي تصوّروا أنّ الحضارة الغربيّة بعد أن تجلّت في إطارها المتكامل الذي لا نقص فيه تمكّنت من صهر جميع الحضارات في بوتقتها، بل تفوّقت عليها لتصبح هي الأصيلة دون غيرها. إنّ هذا التصوّر الشامل المطلق حول الحضارة الغربيّة قد ظهر في القرن الثامن عشر وتجلّى بشكلٍ كبيرٍ في المجتمع الفرنسيّ، وللأسف الشديد عندما نصف إنساناً بأنّه (متحضّر) فحسب الأعراف السائدة اليوم نقصد من ذلك التحضّر الغربيّ الذي يفوق ما سواه من ثقافات وحضارات كما ذكرت سابقاً.
طبعاً، كلّنا نعلم أنّ القرن الثامن عشر شهد حملات استعماريّة واسعة وأصبح نصف العالم فيه تقريباً تحت هيمنة الغربيّين ممّا رسّخ في أنفسهم نزعة الكبرياء والتعالي على سائر الشعوب إلى أقصى الدرجات، فاعتقدوا أنّ حضارتهم قد بلغت درجة الكمال المطلق، ولكن شيئاً فشيئاً وبحلول القرن التاسع عشر انعطفت الأنظار إلى سائر الحضارات. على سبيل المثال، تمّت ترجمة نصوصنا العرفانيّة إلى اللغة الإنجليزيّة وأبدى الفيلسوف الألمانيّ (فولفجانج جوته) إعجابه بشاعرنا حافظ الشيرازيّ لدرجة أنّه اختار عناوين من مصطلحات الأدب الفارسيّ لفصول ديوانه الغربيّ الشرقيّ.
وبمرور الزمان طرأت تغييرات على هذه النظرة المطلقة للحضارة الغربيّة وفي القرن العشرين قام الغربيّون أنفسهم بتعديلها، فبعد الحرب العالميّة الثانية ـ بالتحدِّيد ـ تمّ تأسيس العديد من المعاهد والمؤسّسات التي تُعنَى بالعلوم الدينيّة ومعارفها، ومن ثمّ قام الباحثون بإجراء دراسات مفصّلة حول الأديان والمذاهب الآسيويّة والأفريقيّة؛ حيث بُذلت مساعٍ حثيثةٌ بهدف الحفاظ على أصالة حضارات مختلف الشعوب ودياناتهم وتحقيق التقارب فيما بينها. لكنّ الساحة شهدت أحداثاً مؤسفةً أوقفت هذه الجهود وبدّدتها، بما في ذلك احتلال فلسطين وحرب الجزائر، فضلاً عن سائر الأحداث التي عصفت بالعالم، ومن أبرزها: استقلال البلدان الإسلاميّة من سلطة الاستعمار الغربيّ وانتصار الثورة الإسلاميّة في إيران. ذلك أنّ العالم الغربيّ لم يكن يتوقّع أبداً ظهور نظام إسلاميّ في إيران عام 1979م بحيث يتمكّن من الوقوف في وجهه بكلّ صلابةٍ. هذه الثورة كانت منطلقاً لظهور حركات عديدة في الغرب كان هدفها إحياء الكراهية للإسلام، تلك التي كانت سائدة في القرون الوسطى وفي عصر النهضة. ومن الجدير بالذكر أنّ هذه الكراهية لم تقتصر على الجانب الدينيّ فقط، فالدين أصبح هشّاً في الغرب، والمؤسّسات الدينيّة لم تعد سوى رماد في جوّ عاصف؛ بحيث إنّ الكنائس الكاثوليكيّة لم تتفاعل بشكل ملحوظ مع هذه الحركات المناهضة للدين إلا في موارد خاصّة، لكنّ معظم الكنائس البروتستانتيّة ما عدا الكنائس الراديكاليّة خاضت في غمار هذا الصراع المرير وانخرطت في أمواجه المتلاطمة. لذا فإنّ معظم المسيحيّين المتدينيّين كانوا بصدد التقرّب للإسلام وليس التصدّي له.
* كيف تشرحون لنا هذه النقطة بالذات.. أي تقرُّب المسيحيّين المتديّنين من الإسلام؟
إنّ فكرة التقريب بين الأديان تُعدّ أمراً منطقيّاً لدى كلّ من يريد الخير للبشريّة؛ لأنّ الدين متجذّر في صميم الحضارات. قبل أكثر من خمسين عاماً وحينما كنت طالباً أدرس الدكتوراه في جامعة هارفرد الأميركية، ومنذ أن حاضرت في مؤتمر التقريب بين الأديان الذي عُقد في المغرب عام 1957م وإلى يومنا هذا، شاركت في الكثير من المؤتمرات والندوات التي تناولت أطراف البحث والتحليل حول الفلسفة والأديان؛ إذ ألقيت فيها خطابات عديدة وما زلت أزاول هذه النشاطات وسأواصل ذلك، طوال هذه الفترة كانت تنتابني الرغبة في التقريب بين الأديان؛ ذلك لأنّ هذا الأمر مهمٌ للغاية؛ لكون التقريب بين الحضارات مرهون بالتقريب بين الأديان. خلال تجربتي الطويلة أدركت أنّ النزعة التي سادت بين الشعوب الغربيّة إبان العقود الثلاثة الماضية بغية تأجيج الخلافات وترويج الضغينة بين الإسلام والغرب، لم تتمكّن من محو الرغبة التي تكتنف أذهان الكثيرين في التقريب وتحقيق فهم مشترك بين الأديان والحضارات. أذكر هنا مثالاً واحداً لكي تتّضح الصورة بشكل أفضل، إنّ كلّ هذه الدعايات المعادية للإسلام والمساعي المشبوهة لترويج فكرة الإسلاموفوبيا لم تكن ناجعةً بوجه، بل تمخّضت عن نتائج معكوسة؛ لكوننا نشهد اليوم تنامي نزعة الباحثين والطلّاب في مختلف المعاهد والجامعات ومراكز البحث العلميّ نحو دراسة الأديان وتحليلها غير الديانتين اليهوديّة والمسيحيّة، حيث سلّطت الضوء على الدراسات الإسلاميّة بشكلٍ ملحوظٍ. الكثير من المراكز الجامعيّة الوازنة في الولايات المتّحدة الأميركيّة تولي أهمّيّة كبيرة لدراسة الأديان، وأمّا الجامعات التي فيها كلّيّات خاصّة بالأديان، فالجميع يشهد بأنّ الأقسام المتخصّصة بالدراسات الإسلاميّة هي الأكثر نشاطاً ورونقاً من غيرها، لدرجة أنّ الميزانيّة الماليّة للعديد من الأقسام الأخرى في الجامعات الأمريكيّة يتمّ توفيرها اعتماداً على قسم الدراسات الإسلاميّة؛ لأنّ الطلاب يفضّلون هذه الدراسات إلى حدٍّ كبير،ٍ كما أنّهم يتمتّعون باستقلالٍ في الكثير من المراكز العلميّة.
لذا تحظى الدراسات الإسلاميّة اليوم بأهمّيّة كبيرة في العالم الغربيّ وتتمّ متابعتها بغاية الجدّيّة، وحينما تطرأ أحداث مناهضة للإسلام من قبيل إنتاج فلم سينمائيّ يسيء للنبيّ الكريم صلىاللهعليهوآله لا ينبغي لها أن تجعلنا نتجاهل وجود آخرين في الغرب ممّن لديهم نيّة حسنة؛ لكونهم سخّروا عشرات الأعوام من عمرهم لتعزيز أواصر الصلة والتلاحم بين الأديان وعلى رأسها الإسلام، حيث تمكّن بعضهم من تمهيد الأرضيّة المناسبة للحوار بين مختلف الحضارات. وبالطبع حتّى لو كانت هناك رؤية عدائيّة للإسلام لدى الكثير من المستشرقين، فهي ما زالت مترسّخة لدى البعض إلى عصرنا الراهن وتتجلّى في كلّ آونةٍ بمظهرٍ جديدٍ، وعلى هذا الأساس لا بدّ من دراسة آراء السيّد صاموئيل هانتغتون والسيّد محمّد خاتمي في هذا الإطار وتحليلها.
مخاطر الاستيلاء المعرفيّ
* لا شكّ في أنّ الكثير من مسلمي الشرق الأوسط وشمال أفريقيا يعتقدون بأنّه ليس من الممكن إقحام دينهم ومذاهبهم وحضارتهم في الحوار مع الحضارة الغربيّة؛ لأنّ هذا الأمر يعدّ لدى الكثيرين من النخب بمثابة الخطوة الأولى لصهر الحضارة الإسلاميّة في هذه الحضارة، الأمر الذي يترتّب عليه استيلاء الغربيّين على العالم الإسلاميّ معرفيّاً. فما هو رأيكم؟
ـ إنّنا ندرك هذا الأمر إلى حدٍّ ما، وهو طبعاً بحاجةٍ إلى دقّةٍ وتأمّلٍ، ولكنّني لا أؤيّده بالكامل؛ إذ قال الله تعالى في كتابه المجيد: (وَشاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ)،[1] وكما هو ظاهر الآية المباركة، فالمراد هنا ـ طبعاً ـ معظم القضايا الاجتماعيّة والسياسيّة للمسلمين، لكن على أيّ حال فإنّ كلّ قضيّة ومسألة في الحقيقة تقتضي منّا إجراء مشاورات وحوار مع الآخرين كي نصل إلى أفضل الحلول، وبكلّ تأكيد فإنّ الاستشارة لا تعني نفس الحوار، فهما أمران متمايزان لكنّهما مرتبطان ببعضهما ارتباطاً وثيقاً.
هناك إشارات ودلالات كثيرة في القرآن الكريم والأحاديث حول محادثة الآخرين ومحاورتهم، ناهيك عن أنّ حضارتنا تدعو دائماًً إلى الحوار مع سائر الملل والنحل والتعامل معهم مهما تعدَّدت مشاربها المذهبيّة واختلفت. ففي العهد الأمويّ ـ على سبيل المثال ـ كان نصارى الشام على احتكاك مباشر مع المسلمين، وكانت لهم نقاشات وحوارات ومناظرات متواصلة قد يصل بعضها إلى حدّ الجدل المحتدم والتشكيك بالمعتقدات والتعاليم الإسلاميّة، لكنّ المسلمين كانوا ذوي سعة صدر ونضوج فكريّ، بحيث لم ينتبهم الانفعال ولم يكن من شأن هذه الأمور أن تثير حفيظتهم؛ لكونها مجرّد نزاعات لفظيّة ولقلقة لسان، لذلك نجد أنّهم لم يتّبعوا سبيل العنف والخشونة بحيث يحكمون بقطع رؤوس النصارى رغم قدرتهم على ذلك؛ لأنّ هذه الأفعال الشنيعة لا تمتّ إلى الإسلام بأدنى صلة لا من قريب ولا من بعيد، بل كانوا يبحثون عن أجوبة منطقيّة تدحض ما يطرحه الطرف الآخر. ففي تلك الآونة دوّن (يوحنّا الدمشقيّ) كتاباً تعرّض فيه للإسلام وهو مقيم في مدينة دمشق، وقد كان المسلمون قادرين على قطع رأسه بكلّ يسر وسهولة دونَما خشية من أيّ عواقب سياسيّة أو اجتماعيّة، لكنّ ذلك لم يحدث؛ لأنّ الباب كان مشرّعاً على مصراعيه للحوار وتبادل الآراء، وهذا الأمر لم يتسبّب في إضعاف الإسلام بتاتاً، بل كان له تأثيرٌ إيجابيٌّ عليه لدرجة أنّه أدّى إلى ظهور بعض العلوم الإسلاميّة وانتعاش بعضها الآخر، كعلم الكلام.
القرون الأولى في العصر الإسلاميّ هي في الواقع مثال حيٌّ للعصر الذهبيّ في الحضارة الإسلاميّة، حيث ظهر علماء ومفكّرون وفقهاء ومتخصّصون على مختلف الأصعدة، كابن سينا والبيرونيّ، كما انطلقت حملة واسعة للحوار بينهم وبين سائر علماء ومفكّري الأديان والأمم الأخرى؛ ممّا أثّر بشكل ملحوظ على تنامي العلوم الإسلاميّة ولا سيّما العلوم الفلسفيّة. هذه النقاشات والحوارات كانت تجري في رحاب الخيمة الإسلاميّة بين مختلف المذاهب والفرق التي انشعبت عن الإسلام بمرور الزمان، فانتعشت البحوث الفلسفيّة واتّخذت طابعاً جديداً وعمّت الفائدة، ومن ثمّ اتّسعت رقعة هذه البحوث العلميّة لتخرج عن نطاق خيمة المسلمين لتتحوّل إلى حوار بين الإسلام والأديان الأخرى، فتمّت طباعة كتب ورسائل كثيرة في هذا الصدد لتصبح فيما بعد مصادر علميّة لدى غير المسلمين أيضًاً، فشاعت بين اليهود والنصارى. كما تمّ تأليف العديد من الكتب في هذه الفترة حول مختلف الملل والنحل، ككتابي البغداديّ والشهرستانيّ، وكذلك التحقيق الذي دوّنه أبو ريحان البيرونيّ حول الهند، تحت عنوان (تحقيق ما للهند من مقولة مقبولة في العقل أو مرذولة).
في العصر الذهبيّ للحضارة الإسلاميّة، كان الحوار مع أتباع الأديان الأخرى متعارفاً بين علمائنا، ففي العهد الصفويّ كتب بعض القساوسة النصارى مواضيع تثير الشكوك والترديد حول مصداقيّة الشريعة الإسلاميّة، ومن ثمّ أرسلوها إلى مدينة أصفهان عن طريق الهند، فتصدّى السيّد أحمد العلويّ تلميذ العالم الشهير (ميرداماد) للردّ عليها ونقض ما ورد فيها ضمن كتاب خاصّ دوّنه في هذا الصدد. ونحن بصفتنا من أتباع مذهب أهل البيت عليهمالسلام فمن الضروري لنا عدم الغفلة عن تاريخنا الزاهي بالحوار مع أتباع سائر الأديان والمذاهب والتعامل معهم، فالتاريخ ينقل لنا كيف أنّ أئمّتنا المعصومين عليهمالسلام كانوا يجالسونهم ويتناولون معهم أطراف الحديث حول مختلف المواضيع العلميّة والدينيّة.
* كتاب السيّد أحمد العلويّ الذي أشرتم إليه، هو على الأرجح من كتب الردود على المعتقدات غير الإسلاميّة، لذا لا يمكن اعتباره ضمن مصادر الحوار مع الآخرين. ألا تعتقدون ذلك؟
نعم، إنّه من كتب الردود لكنّه يرتكز على أُسس منطقيّة، ويطرح المؤلّف فيه الحوار كمبدءٍ معتبر، وبعبارةٍ أخرى فهو يستند على الحوار العلميّ والتبادل الفكريّ دون أن نستشفّ فيه أيّ أثرٍ للمزاعم والمدّعيات الواهية، ناهيك عن خلوّه من التعرّض للآخرين بشكل يتنافى مع أصول البحث العلميّ.
ما أريد أن أنوّه به هنا هو أنّ تاريخنا الحضاريّ بصفتنا مسلمين كان يرتكز على الحوار الذي هو الأساس والمرتكز لمفكّرينا وعلمائنا بحيث بات أمراً متعارفاً ومستساغاً بينهم.
وكما أعلم، فإنّ الذين يعيشون خارج نطاق العالم الغربيّ يكتنفهم إحساس مترسّخ في أنفسهم بأنّ الحوار المطروح في الغرب اليوم والذي يدعونا للانخراط فيه، يبدو وكأنّه حوار مخادع يكيد للمسلمين كي يقعوا في حبائله ويخسروا النقاش لصالح دعاة التغرّب والحداثة. لكنّ الواقع خلاف هذا التصوّر تماماً؛ إذ لو تجرّد الإنسان من عقدة الشعور بالنقص وتمسّك بالأصول والقيم التي يؤمن بها وشمّر عن ساعديه للدفاع عن حضارته وثقافته بثقة وطمأنينة، سوف لا ينتابه أيّ قلق أو اضطراب، وبالتالي فإنّه لا يمكن أن يشعر بالخشية من الحوار مع روّاد الحضارات الأخرى والدعاة إليها، وبكلّ تأكيد سوف لا يعارض ذلك مطلقاً. بطبيعة الحال، لو كان هذا الحوار منْبنياً على قواعد عقليّة معتبرة عارية عن النزعات الشخصيّة والفئويّة، فلا ينبغي للمسلمين ـ أبداً ـ الخشية منه؛ لثقتهم بتعاليمهم وأهدافهم السامية، وغاية ما في الأمر أنّهم لو وصلوا إلى طريق مسدود مع الطرف الآخر وعجزوا عن إقناعه بما لديهم من مفاهيم يعتقدون بصحّتها ورجحانها على غيرها، عليهم حينئذٍ تلاوة قوله عزّ وجلّ: (لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِين)،[2] ومن ثمّ ينسحبون من الحوار ليقينهم بعدم نجاعته حينئذٍ.
لقد سخّرت حياتي للحوار بين الأديان، وباعتقادي أنّ القرآن الكريم ينصحنا بالحوار، لذا من الحريّ بنا مدّ جسور هذا النمط من الانفتاح الفكريّ مع الحضارة الغربيّة، وأنا على ثقة بأنّنا لا يمكن أن نُقهر أمامها، بل الأمر على العكس من ذلك تماماً؛ فنحن من خلال ذلك سنكون قادرين على معرفتها خير معرفة ومن ثمّ سنتمكّن من طرح نقدنا حولها وفق أُسس واقعيّة ومعتبرة ممّا يزيد الثقة في أنفسنا بديننا وحضارتنا الإسلاميّة.
خمس رؤى غربيّة
* قبل اثني عشر عاماً كتبتم مقالة تطرّقتم فيها إلى هواجس الخشية من استشراء ثقافة العولمة لدى الكثير من الهندوس والبوذيّين والهنود الحمر وأتباع سائر الأديان. يومها ذكرتم أنّهم يبرّرون عدم رغبتهم بالمشاركة في الحوار العالميّ الشامل بخشية انصهار هويّتهم في الهويّة العالميّة الموحّدة التي يقودها الغرب اليوم، وبعد مضيّ هذه الفترة هل ترون أنّ للحضارة الغربيّة التي تعدّ الأوسع نطاقاً في العالم، إرادة جادّة لترسيخ أواصر الحوار مع الحضارات الأخرى؟ أم أنّ الحقيقة غير ذلك؟
ـ قبل أن أجيب عن هذا السؤال، أودّ أن أكمل كلامي الذي ذكرته قبل اثني عشر عاماً، بالقول: إنّ الحضارة ليست شخصيّةً فرديّةً لها صفات محدودة في إطار ضيّق، بل إنّها مؤلّفة من مكوّنات فرديّة كثيرة ومعتقدات متنوّعة لا يمكن صياغتها في نطاقٍ معيّنٍ. غاية ما في الأمر هو وجود رؤية شموليّة موحّدة تسود جميع هذه المكوّنات والمعتقدات، ويحكمها نظام فلسفيّ ذو أُسس شموليّة عامّة. وبعبارةٍ أخرى، فإنّ جميع الأفراد الذين ينضوون تحت مظلّة حضارة ما، لا بدّ وأن تكون لديهم رؤية شموليّة موحّدة؛ وما لم يمتلك جميعهم هذه النظرة فعلى أقلّ تقدير فإنّ غالبيّتهم العظمى يتّصفون بها، وهذه الرؤية في الواقع هي حلقة وصل تربط بينهم جميعاً أو تربط بين معظمهم، لكن بطبيعة الحال وكما هو متعارف في كلّ مجال، فلا بدّ وأن تطرح نظريّات مختلفة على هذا الصعيد وضمن إطار الحضارة الموحّدة التي تجمع أبناءها تحت مظلّة واحدة. ومن هذا المنطلق، فالأصول المنطقيّة والعقليّة تقتضي تقسيم الرؤى حول الحوار بين الحضارات من وجهة نظر غربيّة عدّةَ أصناف، كما يلي:
الصنف الأوّل: الغربيّون الذين يعتقدون باضمحلال مستقبلهم الحضاريّ ويبحثون عن هويّة حضاريّة جديدة يجدون فيها معنى الحياة وأصول الحقيقة، وهذا الأمر ـ حسب اعتقادهم ـ يجدونه في الحضارات الأخرى؛ وعلى هذا الأساس نجد النزعة إلى الأديان الأخرى سائدة اليوم بين المواطنين الغربيّين في مختلف البلدان، حيث يعتنقون الإسلام أو يسلكون مسلكاً بوذيّاً أو ينخرطون ضمن مختلف الفرق والمذاهب الشرقيّة الأخرى كالهندوسيّة. وما هو مشهود اليوم في الولايات المتّحدة الأميركيّة هو أنّ عدداً كبيراً من النساء البيض اللواتي ينحدرن من أصول أوروبيّة يخترن الإسلام ديناً، وهذا الأمر ـ بكلّ تأكيد ـ جدير بالاهتمام وليس من الصحيح الغفلة عنه بوجهٍ.
الصنف الثاني: الغربيّون الذين يحترمون الحضارات الأخرى لكنّهم لا يرغبون بالإعراض عن الحضارة الغربيّة، فهؤلاء يحاولون إيجاد أواصر صداقة وتفاهم بين حضارتهم وسائر الحضارات. إنّهم اليهود والمسيحيّون، ومعظمهم مثقّفون أو أعضاء في إدارة شؤون الكنائس بمختلف مشاربها الفكريّة والعقائديّة.
الصنف الثالث: الغربيّون الذين يدعون إلى تنزيل الحوار في حيّز التطبيق وإجرائه في إطار عمليّ كي تلتقي الحضارات مع بعضها. إذ إنّهم يعتقدون بضرورة تبادل مختلف الرؤى الحضاريّة؛ لكونه أمراً لا محيص منه. على الرغم من أنّ هؤلاء لا يبدون رغبتهم وميلهم إلى الحضارات الصينيّة واليابانيّة والهنديّة والإسلاميّة، لكنّهم على اعتقاد بعدم إمكانيّة العيش في منأى عنها؛ نظراً لما تفرضه الظروف السياسيّة والاجتماعيّة التي تطغى على العالم المعاصر، وعلى هذا الأساس لا يجدون بدّاً من الحوار معها.
الصنف الرابع: الغربيّون الذين ليست لديهم أيّة رغبةٍ بمدّ جسور الترابط مع أيّة حضارة أخرى، وهم متشدّدون للغاية بحيث إنّهم يكنّون العداء والضغينة لسائر الحضارات لدواعٍ وأسباب شتّى. وللأسف فإنّ هؤلاء يتزايدون يوماً بعد يوم بشكل متسارع ويحاولون تسخير الحوار كذريعة للاستيلاء على العالم غير الغربيّ.
الصنف الخامس: الأصوليّون أصحاب النزعة الراديكاليّة المتطرّفة، وهم من الذين يعارضون الحضارات الأخرى، ويرفضونها جملةً وتفصيلاً لدرجة أنّهم لا يرتضون بالحوار أو التفاهم معها مهما كلّف الأمر، وبالتالي يريدون الانفراد بالعالم لأنفسهم لا غير.
إذن، نستنتج ممّا ذكر في التقسيم أعلاه وجود رؤى مختلفة ومتباينة في العالم الغربيّ حول قضيّة الحوار بين الحضارات، لذلك لا يمكن البتّ ـ بضرس قاطع ـ بما يكتنف الحضارة الغربيّة من هواجس للتعامل مع الحضارات الأخرى وكيف ستنزّل الحوار أو الصراع حيّز التنفيذ ولا يمكن التنبّؤ بالطريقة الحتمية التي تتّبعها في التعامل مع سائر الحضارات. إنّ هذه الحضارة بمثابة عربةٍ تجرّها عدّة خيول ولكنّها لا تمتلك وجهة واحدة، فكلّ حصان يحاول السير نحو اتّجاه يختلف عن مسير رفيقه، والواقع هو وجود رؤية شموليّة تطغى على الحضارة الغربيّة المعاصرة لكنّها على مشارف الاضمحلال والزوال.
* ورد في كلامكم أنّ أحد أنواع الحوار هو ما كان يتمحور حول ما تبقّى من الحضارات التقليديّة، وهذا الأمر ـ في الحقيقة ـ هو الذي سخّرتم حياتكم لأجله؛ ولكن ما شأن عبارة (ما تبقّى من الحضارات التقليديّة) التي ذكرتموها.. هل تعني عدم وجود حضارةٍ سلمت من التغيير وبقيت خالصةً كما كان عليه السلف من أبنائها؟
ـ بكلّ تأكيد هناك أمر بديهيّ لا خلاف فيه، ألا وهو عدم وجود أيّ حضارة تقليديّة خالصةٍ من كلّ تغييرٍ أو تحويل، فحتّى الحضارة الغربيّة المعاصرة لا يمكن اعتبارها حضارةً موحّدةً بالكامل وليس لأحد الحقّ بادّعاء أنّه لا شائبة عليها.
* إذا سلّمنا بعدم وجود حضارةٍ سليمةٍ من التحريف وخالصةٍ من الشوائب بالكامل، فمن أيّ نقطة انطلاق يجدر بنا الشروع بالحوار مع الحضارة الغربيّة؟
ـ الحضارة الغربيّة المعاصرة، تُعدُّ ـ في واقع الحال ـ امتداداً للحضارة المسيحيّة التقليديّة، لكنّها انحرفت عنها وطرأت عليها تغييرات بعد أن مرّت بعدّة حقب زمنيّة، أهمّها: عصر النهضة، وفترة الإصلاح الدينيّ، وعهد الانفتاح الفكري والثقافيّ، حتّى وصلت إلى عصرنا الراهن الذي طغت عليه النزعة إلى التساؤلات حول المجاهيل والتوجّهات المادّيّة والدنيويّة والعلمانيّة.
لقد تطرّقت دائماًً في كتاباتي وخطاباتي إلى الفترة المعاصرة من الحضارة الغربيّة، واستخدمت أساليب عديدة في بيان مرادي، وأحياناً لجأت إلى الأسلوب الساخر الكنائيّ، لأثبت أنّ عالمنا المعاصر يشهد أكبر موجة لتصدير الفكر الأوروبيّ الإلحاديّ إلى مختلف أصقاع العالم. الحضارة الغربيّة الحاليّة همّشت تراث الحضارة السالفة، ثمّ ذهبت أبعد من ذلك، لدرجة أنّها ألقت بظلالها على سائر الحضارات غير الغربيّة وبسطت نفوذها على مجتمعاتها، فالصين على سبيل المثال بلدٌ يمتلك حضارة تقليديّة لكنّها فيما بعد انحرفت عن جذورها التاريخيّة واتّبعت نزعةً ماركسيّة. كذلك الحضارة الهنديّة، فعلى الرغم من كونها ذات تاريخ عريق لكنّها تأثّرت إلى حدٍّ كبيرٍ بالتجديد الفكريّ الذي اكتنفها إبّان الاستعمار البريطانيّ وافتقدت جانباً من تراثها الأصيل. إضافةً إلى ذلك فإنّ الحضارة اليابانيّة هي الأخرى لم تسلم من هذه التغييرات المعاصرة، وكذا هو الحال بالنسبة إلى المجتمعات الإسلاميّة بمختلف مشاربها، حيث لم تسلم من تيّارات التجدّد والحداثة.
نحن اليوم نعيش في القرن الحادي والعشرين، ونلاحظ بشكل جليّ أنّ الحضارات التقليديّة العظمى قد أدركت أنّ أصولها المعنويّة أصبحت تحت مطرقة الحداثة وسندان التجديد، لذا بدأت المجتمعات بالتصدّي للحضارة الغربيّة حفاظاً على أصالتها وصيانةً لأصولها المعنويّة التي لا يمكنها التخلّي عنها بسهولة؛ لكنّها رغم ذلك فقدت صبغتها السابقة وكمالها الذي كانت تتمتّع به في حقبةٍ زمنيةٍ ما. مثلاً، لو زرتم مدينة إسلاميّة ـ كالقاهرة مثلاً ـ في الفترة التي انطلقت فيها النهضة الأوروبيّة الغربيّة، لألفيتم الطابع الإسلاميّ حاكماً على المجتمع هناك في جميع نواحي الحياة الاجتماعيّة والفكريّة. سوف تجدون الفكر إسلاميّاً والعلوم كذلك إسلاميّةً، ناهيك عن الفنون المعماريّة والفنّيّة والآداب والموسيقى وحتّى نمط الملبس والمأكل، فكلّ هذه المقولات الاجتماعيّة لم تفتقد صبغتها الدينيّة الإسلاميّة الأصيلة حتّى تلك الآونة؛ لكنّك لو ذهبت اليوم إلى هذه المدينة الإسلاميّة قد تشاهد مساجد جميلة ذات فنّ معماريّ إسلاميّ، وبالطبع فإنّك تسمع الأذان يرفع فيها دون انقطاع، إلا أنّك لا تجد هذا الفنّ المعماريّ الأصيل في سائر نواحي المدينة ومبانيها وشوارعها، ناهيك عن تغيّر نمط الثياب والمأكل. والأدهى من ذلك تغيّر التوجّهات الفكريّة والنزعات الاجتماعيّة الأخرى وتأثّرها إلى حدٍّ كبيرٍ بالفكر الأوروبيّ ونمط الحياة الغربيّة المعاصرة. هذا مثال، ولكن لو أردنا الحديث عن الصين، فالحديث ذو شجون ويفوق ما هو عليه في البلاد الإسلاميّة كمدينة القاهرة وغيرها. فقد اختار الشعب الصينيّ أسوأ أشكال الحكومات العلمانيّة المناهضة للدين وللتقاليد الأصليّة والمرتكزة على النزعة الغربيّة المادّيّة البحتة وابتعد عن حضارته وثقافته الموروثة. إضافةً إلى ذلك، هناك بعض الحضارات التقليديّة الكبيرة بقيت راسخةً حتّى القرن التاسع عشر ولم تتنصّل عن مبادئها ومتبنّياتها الفكريّة الأصيلة، لكنّها بمرور الزمان شهدت تغييرات جذريّة وطغت عليها صبغة الحداثة لدرجة أنّها فقدت كلّ ما لديها ولم يبقَ لديها ما تحتفظ به من تراث أصيل.
أصالة الحضارتين الإسلاميّة والهنديّة
إنّ هذا الأمر لا يمكن تسريته ـ بكلّ تأكيد ـ على جميع الحضارات التقليديّة، فهناك حضارات تمكّنت من الحفاظ على كيانها إلى حدٍّ كبيرٍ ولم تنصهر في قلب الحضارة الغربيّة المعاصرة، كالحضارتين الإسلاميّة والهنديّة؛ لكونهما تمتلكان رؤية شموليّة قويمة ولم تتخلّيا عن مبادئهما الدينيّة، والدليل على ذلك أنّنا نلاحظ حضور أعداد هائلة من أتباعهما في بعض الطقوس التقليديّة وهم يجتمعون حول بعضهم في مكان واحد لتأدية أحد الواجبات الدينيّة، في حين أنّ التمسّك بالمعتقدات الدينيّة في الحضارتين الصينيّة واليابانيّة على الخلاف من ذلك تماماً، إذ لم يعد له وجود وأصبح هشّاً غاية الهشاشة ومضمحلاًّ في بعض الأحوال؛ لكنّ الميزة التي اختصّت بها الحضارة اليابانيّة تفوّقت فيها على الحضارتين المشار إليهما، هي أنّها حافظت على فنونها التقليديّة وتراثها الشعبيّ.
* إذا كانت الحضارات التقليديّة قد فقدت كمالها وخلوصها، كيف لها إذن، أن تنظّم حواراً غير متكافئ مع الحضارة الغربيّة المعاصرة؟
ـ في الجواب عن هذا السؤال أكثر من ملاحظة:
أوّلاً: الجانب المعنويّ والتقليديّ للحضارات يجب أن يكون أساساً لتحقيق أيّ اتّفاق أثناء الحوار بين الحضارات.
ثانياً: بعض القضايا والأزمات الإنسانيّة، كالمشاكل التي تعاني منها البيئة والأزمات النفسيّة والسعي وراء المناصب، هي في الحقيقة معضلات تعاني منها جميع الحضارات في عصرنا الراهن، لذا فهي في الحقيقة محاور يمكن الاعتماد عليها كمنطلق للحوار بين الحضارات.
من المؤكّد أنّ هذه المشاكل والأزمات ناشئة من تجاهل الأصول التقليديّة والمعنويّة التي يزخر بها التراث الحضاريّ.
ثالثاً: إنّ حوار حضارة عقلانيّة تعتمد على المنطق والقواعد الإنسانيّة مع الحضارة التي تريد أن تفرض نفسها على العالم بالقسر والتهديد، لا فائدة منه مطلقاً؛ لأنّ الحوار لا بدّ وأن يرتكز على أساس الاحترام المتبادل وقبول الرأي الآخر دونّما أيّ تعصّب أو تطرّف.
* قدّمتم قبل سنوات مقترحاً نظريّاً حول التعاون بين الحضارات. ماذا تقصدون بذلك؟ وما العلاقة بين نظريّتكم هذه ونظريّة حوار الحضارات؟
ـ لو أنّ الحضارات كانت في غنًى عن بعضها البعض، فالتعاون هو الآخر سوف لا يكون له معنى حينئذٍ. كلمة (تعاون) هي على وزن (تفاعل)، وهذه التفعيلة الصرفيّة تدلّ بذاتها على تحقّق المعنى بواسطة طرفين على هيئة تعاون وتفاعل مشترك. مثلاً، لو أنّك أردت العزف على آلة (الكمان) وحدها فلست بحاجةٍ إلى مساعدة الآخرين، وبإمكانك عزف اللحن الذي تريده وحدك، لكنّك حينما تريد العزف عليها ضمن الجوقة الموسيقيّة فلا بدّ لك من التمرّن ضمن المجموعة بأكملها والتعاون مع سائر العازفين لكي يتحقّق اللحن المراد. بالرغم من وجود مسائل وقضايا تختصّ بها كلّ حضارة في عصرنا الراهن، لكن نظراً للتلاقح الثقافيّ والتداخل الوطيد الذي حصل فيما بين الحضارات العالميّة، فقد أصبح حلّ بعض المسائل والقضايا الخاصّة بكلّ حضارة مرهون بالتعاون والحوار بينها وبين سائر الحضارات. وهذا الأمر نلمسه جليّاً على مستوى الشعوب، لكنّ الحضارات بدأت بالتدريج تحلّ محلّ شعوبها إلى حدٍّ ما، والاشتراكية التي طفت إلى السطح في القرن الثامن عشر، وكذلك الثورة الفرنسيّة التي غيّرت مجريات الأحداث في فرنسا بشكل جذريّ، أمست اليوم تواجه ضعفاً حادّاً في أوروبا نفسها ولا تطرح إلا بصفتها أمراً شموليّاً وحضاريّاً لكن قارّيّاً فحسب بحيث لا يمكنه أن يتعدّى القارّات.
على سبيل المثال، من الواضح بمكان أنّ الأوضاع في بلد كألمانيا تختلف اختلافاً عميقاً عمّا هو عليه الحال في بلد كاليونان، ولكن بعد أن ضعفت الاشتراكيّة التي ظهرت في القرن الثامن عشر الميلاديّ، بدأ الأوروبيّون يبذلون جهوداً حثيثة لتوحيد القارّة الأوروبيّة تحت مظلّة الاتّحاد الأوروبيّ لتأسيس حضارة أوروبيّة موحّدة. وعلى أيّ حال، فإنّ الكثير من الأمور الخاصّة بحضارةٍ معيّنةٍ لا بدّ من التطرّق إليها وحلحلة أزماتها في إطار التعاون والحوار مع سائر الحضارات، والبشريّة في عصرنا الراهن بحاجة إلى هذا الأمر أكثر من أيّ وقت مضى، فنحن بأمسّ الحاجة لتعاون يتمّ على صعيد عالميّ بحيث يتجاوز الحدود الإقليميّة والفئويّة بعد هذا التطوّر الهائل الذي شهدته الكرة الأرضيّة ومَنْ عليها، فالتكنولوجيا الغربيّة التي أصبحت لها كلمة الفصل في تعيين مصير الشعوب والقرارات التي تتّخذها الحكومات هي التي تدير دفّة الحياة في عصرنا الراهن. لذا، لو لم نذعن للتعاون فيما بيننا والتشارك في اتّخاذ القرار سوف لا يبقى لنا ولا لأجيالنا اللاحقة مكان للعيش فيه بأمان ورفاهية، فالكثير من الأزمات من قبيل أزمة البيئة لم تعد اليوم محدودة في نطاق ضيّق، بل أضحت مشكلة حادّة تعاني منها الشعوب أجمع، فالهواء الذي نستنشقه لا يختصّ بنا؛ لكونه يطوي جميع أرجاء العالم رغماً عنّا جميعاً سواء شئنا ذلك أم أبينا. فعلى سبيل المثال، لو قام شخصٌ في صحراء (سيبيريا) بنفث غازات سامّة أو مشعّة في الجوّ، فلا شكّ أنّ المواطن القابع في أفريقيا سوف يصاب بداء السرطان الذي تتسبّب به هذه الموادّ الفتّاكة.
إذن، نحن اليوم نواجه ظاهرة تاريخيّة وحضاريّة مختلفة تماماً عمّا واجهه أسلافنا، وإثر ذلك فالحضارات مضطرّة لأن تتجرّد عن طابعها القبليّ ونزعاتها الوطنيّة والقوميّة المحدودة ولا مناصَ لها من الجلوس على طاولة الحوار مع سائر الحضارات وأن تتعاون معها لمناقشة الآلاف من القضايا المصيريّة التي لا يمكن الغفلة عنها مطلقاً. لا ريب في أنّ أهمّ هذه المسائل لا تقتصر على الأمور المادّيّة فحسب، بل تشمل الأمور المعنويّة أيضًاً.
من الواجب على الحضارات أن تحترم الرؤى الشموليّة التي تطرحها نظائرها ولا بدّ لها من التفاهم على القضايا المعنويّة والتقليديّة لبعضها البعض، فهذه الخطوة تعدّ من المسائل الأساسيّة التي نبحث عنها نحن التقليديّون منذ القرن العشرين وإلى يومنا هذا. إضافةً إلى المسائل المعنويّة، هناك مسائل أخرى جديرة بالاهتمام ومنها الحفاظ على البيئة واستثمار الثروات الطبيعيّة بشكلٍ أمثل والحيلولة دون إهدارها بغية الحيلولة دون تضييع حقوق الآخرين، فقد حان الوقت لإصلاح التوجّه البربريّ الأهوج الحاكم على الاقتصاد الغربيّ، وبالتالي لا حيلة للبشريّة من تغيير نمط ثقافة الاستهلاك، وبكلّ تأكيد فإنّ هذا الأمر منوط بالحوار الصادق والعمل المخلص والتعاون الحثيث بين الشعوب والحضارات. ولنتطرّق إلى ذكر مثال يثبت صحّة ما أشرتُ إليه، بعد سقوط الحاكم الليبيّ معمّر القذّافي سادت الفوضى في هذا البلد، ومن الأحداث البارزة التي شهدتها الساحة الليبيّة اقتحام السفارة الأميركيّة، حيث قُتل جرّاء ذلك أربعة أشخاص، وكلّنا لاحظنا كيف تناولتها وسائل الإعلام، وعملت على تغطيتها لعدّة أيّام وطوال أربع وعشرين ساعةً يوميّاً دون انقطاع، وكيف أنّها استضافت المحلّلين والخبراء السياسيّين الذين تناولوا أطراف الحديث عنها بشكل تفصيليّ في مختلف القنوات والصحف وما ناظرها من وسائل إعلاميّة، وشاءت الصدفة أنّه في الفترة نفسها قُتل العشرات من المسلمين الذين تظاهروا معترضين على إنتاج فيلم يسيء للنبيّ الأكرم صلىاللهعليهوآله إلا أنّ وسائل الإعلام نفسها لم تُعِرْ ذلك أيّ أهمّيّة تذكر، ولم تعكس هذه الأحداث، بل إنّها تغاضت عنها بالكامل!
إنّ الأصول الإنسانيّة والأخلاقيّة والحرفيّة تقتضي عدم التعامل بانتقائيّة مع الأحداث وتفرض على البشريّة عدم التمييز بين الضحايا الغربيّين والمسلمين، لذلك ليس من الصحيح التعامل مع من هو غربيّ وكأنّه سيّد الملعب، والمسلم لا يتعدّى كونه نكرة لا محلّ لها من الإعراب أو أنّه إنسان من الدرجة الثانية أو الثالثة، لذا يجدر بالغربيّين أن يغيّروا وجهتهم الخاطئة هذه وأن يحترموا أبناء سائر الحضارات. ومن جانب آخر، ينبغي للحضارات الأخرى أن تخوض غمار الحوار الحضاريّ مع الغرب بشكل منطقيّ دون أيّ خشية أو تردّد مع الحفاظ على الأُسس والمتبنيات المعنويّة التي ورثتها. إنّ جميع التقليديّين بطبيعة الحال يرفضون التخلّي عن متبنّياتهم ومبادئهم الحضاريّة التقليديّة الأصيلة ولا سيّما السماويّة منها، وهم غير مستعدّين لأن يضحّوا بها لأجل أهداف دنيويّة هامشيّة زائلة.
* السؤال الأخير الذي أرغب بأن أطرحه عليكم يتمحور حول دلالة ورمزيّة ما يجري من تغييرات سياسيّة ومجتمعيّة في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا إبّان السنوات الخمس الأخيرة، وأشير هنا بصفة خاصّة إلى ما درجت وسائل التواصل على تسميته بـ (الربيع العربيّ).
ـ الحديث حول هذا الأمر متشعّب وطويل، لكنّني سأحاول أن أسلّط الضوء على الانقلاب العسكريّ للجيش المصريّ ضدّ الرئيس المخلوع محمّد مرسي الذي يمتلك رؤيةً إسلاميّةً. القوى السياسيّة العالميّة تحاول أن تلقي بتأثيرها على هذه التطوّرات الإقليميّة كي تسوق نتائجها نحو الوجهة التي تريدها وتجرّدها عن هويّتها الوطنيّة، وبالتالي تتمكّن من بسط نفوذها على النظام الحاكم الجديد. وكما نعلم هناك بعض القوى والحكومات العربيّة التي تساير القوى الغربيّة وتنصاع إليها وتتّبعها بشكل أعمى، لذلك فهي تسعى إلى إقصاء هكذا تحرّكات فيما لو ظهرت في بلدانها حفاظاً على نفوذها هناك؛ لكنّ الحقيقة هي أنّها لا تمتلك قدرة مطلقة للقيام بذلك؛ إذ ليس لديها المصباح السحريّ كي تحقّق ما تتمنّى وتشاء متى ما تريد. فلربّما تخرج الأمور عن سيطرتها وتبقى في مقام المراقب للأحداث فحسب. لو تأمّلنا في الأوضاع التي عصفت بالمجتمعات العربيّة طوال العقود الماضية لوجدنا كيف أنّ الكثير منها بات يعاني من انهيار وانحطاط مثير للدهشة، وبدأت الشعوب العربيّة تسير سيراً نزوليّاً من الناحية الفكريّة؛ بحيث انعدمت فيها الاستقلاليّة باتّخاذ القرارات المصيريّة تقريباً، لكنّ هذه المرحلة سرعان ما بدأت تتّجه نحو الأفول وفتحت آفاق عهد جديد، لذا أرجو أن يتواكب هذا العهد مع ترسيخ دعائم الفكر الأصيل وتقويمها.
إنّ هذا الأمر في الواقع يثير قلقي؛ لأنّ الصحوة التي انطلقت في البلدان العربيّة، استتبعتها حركات تتعارض مع الصحوة الأصيلة للفكر الإسلاميّ، وبما فيها الحركات السلفيّة والوهّابيّة الجديدة التي يخالف أتباعها كلّ فكر أصيل ويحاولون ترويج أفكارهم المقيتة في المناطق التي تمكّنوا من بسط نفوذهم الفكريّ الهشّ عليها، وبما في ذلك مصر وسوريا، لكن يحدوني أمل بأن يتحوّل هذا الربيع العربيّ ـ على مرّ الأيام ـ إلى صحوة حقيقيّة.
أنا متفائل ببعض هذه الأحداث، ولا سيّما ما حدث في تونس... أمّا في مصر، فالإخوان المسلمون كانوا يتّبعون منحًى متعجرفاً طوال سنوات متمادية، لكنّ الأمل بالشعب المصريّ نفسه لكونه شعباً واعياً تمكّن من الحفاظ على متبنّياته الإسلاميّة، والأهمّ من ذلك أنّه يعير أهمّيّة كبيرة للمصالحة الوطنيّة. سوريا هي البلد العربيّ الأكثر اضطراباً في هذه الآونة، حيث احتدم صراع شديد بين مختلف الحركات والتوجّهات السياسيّة المدعوم بعضها من قوى أجنبيّة غريبة على الهيكل السوريّ، لذلك فالأوضاع تسير في هذا البلد نحو مصير مجهول؛ وعلى هذا الأساس يجب على السوريّين أن يدركوا أنّ الأوضاع الحاليّة لو استمرت على ما هي عليه ولم يتحقّق الاستقرار في هذا البلد فسوف تسري أزمته لتطغى على البلدان المجاورة، فلا تسلم من ذلك في هذه الحال، لا تركيا ولا العراق ولا الأردن ولا لبنان ولا السعوديّة. أرجو أن تتعامل الأطراف المتنازعة في هذا البلد مع بعضها ومع الواقع بشكل منطقيّ بعيد عن التحزّب والتعصّب الأعمى الذي أحرق الحرث والنسل، ويجب عليها ـ على أقلّ تقدير ـ الحيلولة دون تفاقم النزاع والعمل على تحديد نطاق الصراع؛ حفاظاً على الشعب والأرض.
-----------------------------
[1] سورة آل عمران، الآية 159.
[2] سورة الكافرون، الآية: 6.