البحث في...
إسم البحث
الباحث
اسم المجلة
السنة
نص البحث
 أسلوب البحث
البحث عن اي من هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على كل هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على هذه الجملة

المشهد الثقافي الشيعي في العصر الصفوي الحوارات العلمية أُنموذجاً

الباحث :  أ. علي أكبر ذاكري
اسم المجلة :  مجلة المنهاج
العدد :  49
السنة :  السنة الثالثة عشر شتاء 1429هجـ 2008 م
تاريخ إضافة البحث :  December / 20 / 2015
عدد زيارات البحث :  2931
المشهد الثقافي الشيعي في العصر الصفوي
الحوارات العلمية أُنموذجاً

أ. علي أكبر ذاكري (*)

ترجمة: الشيخ مصطفى الربيعي

يعتبر العصر الصفوي من أروع عصور الحضارة الإسلامية في إيران، فالآثار العلمية والأبنية المتبقية من ذلك العصر شاهد صدقٍ على الحضارة والإعمار فيه.
فقد أُلّفت في ذلك العصر كتب ورسائل كثيرة في مجال: الكلام، والفقه، والحديث، والفلسفة، والعرفان، كما شهد بحثاً وتحقيقاً لمسائل مختلفة.
وقام العلماء والمفكرون ـ في ذلك العصر ـ بالردّ على الشبهات الحديثة، وبحث ونقد النظريات الجديدة. وكان الحوار، والنقد والبحث و...، يبدأ عندما تكتب رسالة، ثمّ تكتب رسالة في الردّ عليها، ورسالة في الجواب على الرسالة الثانية، ورسائل للتحكيم في ذلك الموضوع، وتقدم إلى دنيا العلم والتحقيق. هذه الكتابات العلمية تعطي عمقاً للعلوم الدينية، والمقولات التي تكتب فيها الرسائل تكون عادةً من المسائل التي هي محل حاجة المجتمع.
إنّ كتابة رسالة في المجالات المذكورة يثير أمواجاً من البحث والحوار، ويحفّز بعضهم على كتابة نقد حولها ونشره. إنّ كتابة الرسالة كان أسهل طريق ـ في ذلك الزمان ـ لنشر العقيدة والنظرية.
لقد كان النساخون كثيرين، ويستنسخون الرسائل بناءً على طلب الأشخاص. من هنا، نرى أنّه في بعض المقاطع الزمنية اُلفت رسائل كثيرة في موضوع خاصمعين، وهذا شاهد على أنّ حديث الساعة في تلك البرهة من الزمان هو تلك المقولة.
________________________________________
(*)باحث في التاريخ الصفوي، من إيران.

[الصفحة - 276]


ولما كان البحث والمناظرة ـ في العصر الصفوي ـ في المسائل الدينية، يشكّل موضع اهتمام المثقفين والمفكرين، بل حتى عموم النّاس، لذا فقد ازدهرت سوق النسّاخين والصحّافين.
وكتب (شاردن) في ازدهار سوق الصحّافين وباعة القرطاسية يقول: «يقوم الصحّافون في إيران بتجليد الكتب وبيع الأوراق والحبر والأقلام والدواة والمبراة وسائر أنواع القرطاسية.
ولقد جرت عادة الصحّافين على انتخاب أحدهم بالقرعة في عصر كل يوم خميس، حتى يفتح دكانه في يوم الجمعة؛ لأنّ يوم الجمعة عطلة عند المسلمين، ويذهب عموم النّاس إلى المسجد، فالصحّاف الذي يفتح دكانه يوم الجمعة، يصل دخل مبيعاته من القرطاسية في ذلك اليوم أكثر مما يبيعه في شهر كامل» (1).
وقد ذكر النصر آبادي بعض الشعراء الذين كانوا يعملون نساخين (2)، أو يتكسّبون عن طريق كتابة القرآن والصحيفة (3).
وما تبقى من كتب وتأليفات من العصر الصفوي شاهد على ما وصلت إليه العلوم الإسلامية من عمق وسعة عظيمين، فما وصل إلينا من كتب خطية من ذلك العصر كثير، وكثير من تأليفات القدماء قد جمعت أو استنسخت في ذلك العصر ـ أيضاً ـ وبهذا تم الحفاظ عليها من الضياع والتلف.
وقد ترجمت إلى اللغة الفارسية كثير من كتب الشيعة ورسائلهم في مجال: الحديث، والكلام، والفقه، ووضعت تحت اختيار المتكلمين بالفارسية؛ وبهذا يمكن عدّ الصفويين من الذين نقلوا الفكر الشيعي إلى اللغة الفارسية.
وما كتب من مذكّرات في ذلك الزمان، يحكي عن كثرة الشعراء الفرس. وإذا رتّبنا ما اُلّف من كتب في إيران على أساس القرون، فلا شك في أنّ القرنين الحادي عشر والثاني عشر يعدان أكثر تألقاً وإشعاعاً.
فما اُلّف من كتب فقهية في هذين القرنين أكثر من بقية القرون التي قبلهما أو بعدهما. فقد كُتبت ثاني دائرة معارف في حديث الشيعة في ذلك العصر، وكذلك كثير
________________________________________
(1)سفرنامه شاردن (مذكرات شاردن)، ترجمة حسين العريضي، قسم أصفهان: 73، انتشارات نگاه.
(2)تذكرة نصر آبادي، الميرزا طاهر النصر آبادي، تصحيح وحيد الدستگردي: 344، نشر فروغي.
(3)المصدر السابق: 348 و 398.

[الصفحة - 277]


من كتب التفسير بالمأثورة، من قبيل: نور الثقلين، وتفسير الصافي.
وكذلك الكتب الرجالية المهمة والشاملة، من قبيل: منهج المقال، ومنتهى المقال، ونقد الرجال، ومجمع الرجال، وجامع الرواة، وغيرها قد كُتبت في ذلك العصر.
وأهم الآثار الفلسفية، من قبيل: القبسات، وأسفار الملا صدرا، وغيرها قد انتظمت في هذا العهد.
والكتب الدراسية في الحوزات العلمية، من قبيل: المعالم، وحاشية الملا عبدالله، وشرح اللمعة، كل هذا يُعدُّ من آثار ذلك العصر، وهو علامة واضحة على النشاط العلمي والثقافي الواسع آنذاك.
وكذلك ما كتب من رحلات الأُوربيين دلالة ـ أيضاً ـ على ازدهار الحضارة الإسلامية في إيران.
وكان للخوانساريين ـ كبقية علماء الشيعة ـ دور في هذا التحرك والنشاط العلمي، فالسيد جمال الدين الخوانساري راح إلى خزانة الكلمات القصار لأمير المؤمنين(عليه السلام) فترجمها وشرحها في مجموع أسماه (غرر الحكم)، وكتب ـ أيضاً ـ رسائل كثيرة في تحليل ونقد آثار وأفكار المذاهب والمفكرين، فألّف كتاب (كلثوم ننه) في نقد عقائد وعادات عوام أهل المذاهب الأربعة.
وكان للسيد حسين الخوانساري دور مهم في ازدهار المباحث الفلسفية، حتى إنه نقد أفكار الملاّ صدرا في حاشيته على الشفاء.
وقد واجه هذان العلمان وباُسلوب اجتهادي المذهب الأخباري الذي كان رائجاً ومنتشراً بشكل واسع، فكتبا شرح الدروس وحاشية شرح اللمعة، وأجابا عن الشبهات الفقهية.
أخبار ومقولات متعددة كانت محلاً للبحث والنقد في العصر الصفوي، منها:
1 ـ شبهات أهل الكتاب، وبالأخص المسيحيين ونقد آرائهم غير الواقعية والخرافية وغير اللائقة حول القرآن الكريم (4).
2 ـ نقد معتقدات أهل السنة، والإجابة عن شبهاتهم.
________________________________________
(4) وبنظرة عابرة على الكتب والرسائل الفقهية، تتضح هذه النقطة أكثر. والمعلومات الآتية ـ وإن لم تكن متكاملة ـ استقيت من فهرست بأسماء الكتب ذكرت في «مقدمة على فقه الشيعة» كتبها حسين المدرسي. قُسمت الكتب والرسائل التي اُلفت إلى ثلاثة أدوار: ما قبل المحقق الثاني، ومن المحقق الثاني (ت 940هـ) إلى حدود (سنة (1150هـ)، وبعد الصفوية إلى سنة (1400هـ) عصر الإمام الخميني (ره).فمن مجموع (1071) كتاب فقهي، اُلّف (177) كتاباً منها قبل الصفوية، و (423) كتاباً في عصر الصفوية، و (480) كتاباً بعد عصر الصفوية. ولا تشمل هذه الإحصائية شروح الكتب الفقهية وحواشيها.ومن مجموع (114) رسالة عملية، اُلّف ونشر (5) رسائل منها قبل العهد الصفوي، و (52) رسالة في العصر الصفوي، و (57) رسالة بعد الدولة الصفوية. وهذه الإحصائية، وإن كانت ناقصة، إلاّ أنها تُظهر عظمة الجهود والمساعي الفقهية في العصر الصفوي، مع أن الطباعة دخلت إيران في القرنين الأخيرين، الأمر الذي ساعد كثيراً على نشر الآثار الفقهية.

[الصفحة - 278]


3 ـ دراسة وقد النظريات والاتجاهات البارزة في الحوزات الشيعية، كالأخبارية، والصوفية وغيرها.
حوارات مفكري الشيعة العلمية مع أهل الكتاب
كانت المسيحية وأوربا الغربية في العصر الصفوي قد طوت عصر القرون الوسطى، وتوصلت بالنشاط العلمي إلى صناعة البواخر التي تعمل بالبخار، والأدوات العسكرية وغير ذلك.
وبعد أن نجح الغرب في مجال الصناعة، ومن أجل الحصول على مصادر اقتصادية أكثر، فإنّه بدأ محاولات واسعة، ليتعدى حدوده الإقليمية. فإنّ دولاً من قبيل: البرتغال، إيطاليا، اسبانيا، بريطانيا، فرنسا، كانت تشن غارات على بقية البلدان، كل واحدة منها على قدر ما كانت تمتلكه من قوة بحرية وقدرة عسكرية، وكانكل اهتمامهم منصباً على الشرق؛ لوجود المصادر الاقتصادية الكثيرة في هذهالقارة.
وأكبر مانعٍ أمام المستعمرين كان يمنعهم من التجاوز والتعدي هو الإمبراطورية العثمانية، فقد كانت أكثر البلدان الشرقية تحت سيطرتها، وكان بينها وبين الدول المسيحية عداء قديم، وإلى جانب هذه الإمبراطورية وجارتها، كان الصفويون، فقد كانوا كالأُوربيين، يرون في الدولة العثمانية عدوّاً لهم.
ومن هنا، فقد اتحدت اُوربا مع إيران في مخالفتهما للدولة العثمانية. ونظراً لوجود مصالح اقتصادية، وأهداف مشتركة بين الطرفين الأُوربي والصفوي، ما جعل بينهما تقارب وصداقة.
ففي إحدى الحفلات، ومن أجل كسب ودّ وثقة الإخوة الشارليين الذين قدموا البلاط الإيراني في سنة (1006هـ / 1591م)، قال الشاه عباس ـ تماشياً مع المسيحيين ـ : «أنا اُفضّل نعل مسيحي على أكبر الشخصيات العثمانية» (5).
اُوربا من جانبها راحت تسعى لكسب ودّ الصفويين، فقد أرسلت المستشارين والخبراء العسكريين إلى إيران لتقوية البنية العسكرية الإيرانية لمواجهة الدولة
________________________________________
(5)أمير كبير قهرمان مبارزه با استعمار (أمير كبير بطل النضال ضد الاستعمار)، أكبر الهاشمي الرفسنجاني: 248، نشر فراهاني ـ طهران.

[الصفحة - 279]


العثمانية، وقد جاء ـ مع المستشارين العسكريين ـ المبشرون والمبلغون المسيحيون. فحينما علمت اُوربا بأنّ إيران تولي أهمية للتعامل معها، وأنّها بأمس الحاجة للدعم والمساندة لمحاربة الدولة العثمانية، سعى الأُوربيون على استغلال الفرصة بأحسن وجه لنشر الدين المسيحي، مثلما فعلوا مع الشرق الأقصى وإفريقيا وأمريكا الجنوبية؛ فجعلوا إيران تقع في أحضان المسيحية الاستعمارية.
المبشرون المسيحيون في إيران
قام الاُوربيون ابتداءً ـ من أجل نشر عقائدهم التي كانت تهيئ الأرضية لاستعمار الشعب الإيراني، واستعباده ـ بإرسال مبشريهم إلى إيران، وحينما رأى المبشرون ـ الذين هم عيون الاستعمار ـ أنّ عقائدهم لم تلق استقبالاً، قاموا ـ وعلى مراحل ـ بشرح وتوجيه عقائدهم بالأدلة والبراهين، ثم انتقلوا في المرحلة التالية إلى الحوار والمناظرة مع علماء الإسلام، وحينما لم يحصلوا على نتيجة أيضاً، شنوا هجوماً على العقائد الدينية للمسلمين، فواجهوا في تمام هذه المراحل ردّ الفعل القوي والإجابات الشافية من قبل علماء الدين المسلمين.
أرسل فيليب الثاني، ملك إسبانيا، قسيساً اسمه (برسيمون مورالس) إلى بلاط السلطان محمد خدا بنده لو، الذي حكم من سنة (985 ـ 995هـ) (6)، ومن جملة الأُمور التي أرادها منه: أن تُمنح الحرية الكاملة لأتباع المذهب الكاثوليكي في جميع أنحاء إيران (7).
بينما يعتقد البعض بأنّ الهيئات التبشيرية البرتغالية هي أول الهيئات الدينية التي دخلت إيران في العصر الصفوي. فقد جاؤوا إلى أصفهان سنة (1602م / 1010هـ) وشرعوا في عملهم هناك(8).
وبعد عدة سنوات من مجيء ممثل فيليب الثاني إلى إيران، أمر فيليب الثالث ملك إسبانيا نائب السلطنة الهندي وأسقف بندر (گوا)، بإرسال هيئة من العلماء المسيحيين إلى بلاط الشاه عباس. فأرسل النائب بدوره إلى إيران قسّيسين بمعية القسّ انطونيو دوگوا، وقد دخلت هذه الهيئة إلى إيران بتاريخ (22 شعبان 1010هـ /15 شباط / فبراير 1602)، وكان أحد مطالب ملك إسبانيا هو إعطاء الحرية الكاملة للتبشير بالدين المسيحي في كل أرجاء إيران.
________________________________________
(6) أخطأ كاتب المقال في تاريخ تولي السلطان محمد خدابنده الحكم، فقد جعل حكومته من سنة (966 ـ 985)، وهذا خلاف التاريخ الصحيح. كما كان ينبغي عليه أيضاً التنويه إلى أن هذا السلطان هو محمد المكفوف خدابنده الثاني ابن الشاه طهماسب الأول، والذي توفي سنة (1003هـ)، والذي حكم كما صححناه في المتن، وليس السلطان المعروف محمد خدابنده بن أرغون (680 ـ 716هـ / 1281 ـ 1316م)، والذي تشيع على يدي العلامة الحلي سنة (708هـ) وخدابنده هذا الأخير متقدم على خدابنده الثاني بكثير كما ترى. (المنهاج)
(7)أمير كبير بطل النضال ضد الاستعمار: 246.
(8)مذكرات شاردن، ترجمة إقبال يغمائي 2: 623، نشر طوس ـ طهران.

[الصفحة - 280]


كان الشاه عباس يعتبر بأنّ علماء الدين هم أكبر مانع أمام تبشير الدين المسيحي في إيران، إلاّ أنه لم يشأ أو لم يتمكن من مواجهتهم. وقد نقل (انطونيو دوگوا، الذي كان يترأس الهيئة الإسبانية، في مذكراته جواب الشاه عباس، الذي يقول فيه: «أنا مستعد لبناء الكنائس في إيران، وأرغب كثيراً في مجيء كل العيساويين (المسيحيين) من الرجال والنساء إلى بلادنا، إلاّ أن علماءنا يرفضون ذلك ويمنعونني منه، وأخاف أن يقتلونني إذا قمت بهذا العمل.
ولذا، فإني أعتقد بأنّه من الأفضل أن يعلنَ ملوككم الحرب على الدولة العثمانية ـ أولاً ـ ثمَّ بعد ذلك تشرعوا ببناء كنيسة؛ فإنّه إذا خالف علماء الدين حينئذٍ ـ فسأقول لهم: أنا لا استطيع أن اتصرف خلاف رغبة وطلب مَنْ ينصرنا على عدوّنا...» (9).
وأخيراً فقد استجاب الشاه عباس لرغبات هذه الهيئة، وأرضاهم بإجازتهملبناء كنيسة في أصفهان، حتى إنه تحمَّل مصاريف قرمدتها وزخرفتها بالقاشاني (10).
محاربة الإسلام وبرهنة العقائد المسيحية
قام جماعة من المبشرين المسيحيين بمحاربة الإسلام وإثبات العقائد المسيحية عن طريق تأليف الكتب، ومن تلك الجماعة: (فرنسيس كزاويه) المعروف بـ (رسول هندوان)، فقد ذهب على الهند في القرن العاشر الهجري وألّف كتاب (آيينه حق نما)، أي (المرآة التي يتجلى فيها الحق)؛ لتثبيت العقائد المسيحية وتبريرها. وقد دار البحث في هذا الكتاب حول ثلاثة مواضيع ـ كما نقل صاحب كتاب (مصقل صفا):
1 ـ في معرفة ذات الحق تعالى.
2 ـ حول عيسى ربنا.
3 ـ في أحكام كتاب الإنجيل.
________________________________________
(9)أمير كبير بطل النضال ضد الاستعمار: 251 ـ 252، نُقل ملخصاً.
(10)المصدر السابق: 246.

[الصفحة - 281]


والظاهر أنّ (مصقل صفا) هو نقد لـ (منتخب آئينه حق نما)، أو هو نقد لثلاثة فصول منه. وقد كُتب (آئينه حق نما) على شكل مناظرة بين حكيم وقسيس، وفي بعض الأحيان يشترك معهما شخص ثالث باسم (ملاّ)، وفي نهاية المطاف من هذه المناظرة يرتد الحكيم المسلم عن دينه ويدخل الدين المسيحي (11).
والنسخة الوحيدة المعروفة من هذا الكتاب في إيران موجودة في مكتبة الحضرة الرضوية المقدسة، وهي مكتوبة بقلم القسيس (زيرونيمو شافيرست). وقد اُلف هذا الكتاب في الهند سنة 1595م / 1004هـ، ويتألف من مقدمة وخمسة أبواب (12).
كتب (گزاويه) هذا الكتاب في الهند، عند وصول (جهانگيرشاه) إلى الحكم قدمه إليه كهدية. وقد اُرسلت نسخة من هذا الكتاب من قبل بلاط (جهانگيرشاه)، ملك الهند إلى بلاط الشاه عبّاس.
ومع أنّ هذا الكتاب كان يتمتع باستحكام ممتاز؛ فإن المفكرين الإسلاميين ومنهم: السيد أحمد العلوي العاملي، وأحمد بن عبدالحليم، وأحمد بن إدريس، وعبداللطيف، وعلي المنير الشافعي(13)، نقدوه وأشكلوا عليه بإشكالات مختلفة، وأهم نقد صدر هو لأحمد العلوي العاملي تلميذ المير داماد، تحت عنوان: (مصقل صفا در تجليه آئينه حق نما في ردّ تثليث النصارى)، وكان يتألف من مقدمة وثلاثة فصول.
ومما جاء في المقدمة: «في سنة (1032) من هجرة خاتم النبيين (صلي الله عليه و آله و سلم) صدر عن بعض علماء النصارى الذي كان يُعرف في بلاد الهند بسِمَة (الحجابة)، تصنيف موسوم بـ (آينه حق نما) في إثبات التثليث الذي هو عبارة عن الاتحاد بالذّات بين أقنوم الأب، وأقنوم الابن، وأقنوم روح القدس، والتغاير بينهم بالاعتبار. وكذلك إثبات اُلوهية المسيح )نعوذ بالله تعالى (، وعدم وقوع تغيير في الإنجيل، وعدم نسخه بالفرقان العظيم، ونسخ التوراة بالإنجيل، وحيث إنّ تلك المرآة تلوّثت بكدورات الشبهة والشكوك... فلا محالة احتاجت إلى مصقل يزيل عنها الكدورة ويصفيها... وعلى هذا سُميت هذه الرسالة بـ (مصقل صفا در تجليه آينه حق نما، في ردّ تثليث النصارى» (14).
إنّ النقد العلمي والرصين للسيد العلوي لعقائد المسيحيين جعلهم، وبالأخص
________________________________________
(11)مصقل صفا، للعلاّمة المير سيد أحمد العلوي العاملي، تصحيح: حامد ناجي الأصفهاني، إعداد السيد جمال الدين الميردامادي: 55.
(12)فهرس الكتب الخطية للمكتبة المركزية في الحضرة الرضوية المقدسة، مهدي ولائي 11: 2، نشر المكتبة المركزية للحضرة الرضوية المقدسة.
(13) (نخستين روياروييهاى انديشه گران ايران بادو رويه تمدن بورژوازي غرب (أوّل مواجهات مفكري إيران مع وجهي الحضارة البرجوازية الغربية)، الدكتور عبدالهادي الحائري: 480، نشر أمير كبير.
(14)مصقل صفا، مصدر سابق: 5 ـ 6.

[الصفحة - 282]


المبشرين منهم الذين كانوا ينشرون عقائدهم بين المسلمين، في حيرة شديدة، فتحولوا من موقع الهجوم إلى موقع الدفاع، فقد كانت إشكالات وردود السيد العلوي عليهم قوية إلى حدٍّ اضطروا معه إلى إرسال نسخة منها إلى روما للإجابة عنها من قبل كبار علمائهم.
عهدوا بدراسة الرسالة والردّ عليها إلى (فيليب گواداگنولي)، وهو أحد المفكرين المسيحيين من فرقة فرانسيسكن، فردّ هذا على كتاب السيد العلوي سنة (1041هـ / 1631م)، فطُبع الردّ ونُشر في (روما) (15).
السيد العلوي كان قد كتب قبل تأليفه (مصقل صفا) كتاب: (لوامع ربّاني) في ردّ شبهات النصارى، وإثبات تحريف أناجيل: يوحنا ومتي ومرقس ولوقا.
كما وكتب ـ أيضاً ـ (صواعق الرحمان) في الردّ على اليهود، وإثبات تحريف التوراة، والزبور، وبقية كتبهم (16).
وبعد مئتي سنة برز الكاتب البريطاني (لي)، فردّ على كتاب (لوامع رباني) للسيد العلوي ونقده نقداً تحليلياً مفصلاً، وكان يعتقد بأنّ (فيليب گواداگنولي) أجاب ـ أيضاً ـ عن هذا الكتاب عند صدوره في وقته (17).
قام المبشرون المسيحيون وبعد مدة من الزمن ـ بالإضافة إلى نشر الأفكار المسيحية وتبريرها ـ بمحاورة علماء الإسلام، فاُجريت حوارات مختلفة في بلاط الملوك الصفويين.
ففي عهد الشاه عبّاس الثاني الذي حكم من سنة (1052 ـ 1077هـ) أقام وزيره الأعظم اعتماد الدولة (1063 ـ 1070هـ / 1652 ـ 1659م) مجلس مناظرة بين (شزو) وهو أحد المبشرين المسيحيين الفرنسيين، وعلماء أصفهان. وقد انتهت هذه الحوارات بضرر المسيحيين، وتخلي عدد منهم عن المسيحية واعتناقهم الدين الإسلامي، وممن اعتنق الإسلام هو أحد كبار الأرامنة، واسمه (آقا بيري)؛ فإنّه بعد اطّلاعه على النظريات الفلسفية والكلامية الإسلامية استسلم أمام المنطق والبرهان الإسلامي، واعتنق الإسلام.
وكتب (شاردن) ـ الذي كان يسكن في أصفهان في ذلك الوقت ـ في بيان
________________________________________
(15)أول مواجهات مفكري إيران مع وجهي الحضارة البرجوازية الغربية: 484.
(16)مصقل صفا: 5.
(17)أول مواجهات مفكري إيران: 484.

[الصفحة - 283]


سبب إسلام (آقا بيري)، والخسارة التي أصابت المسيحية بسبب ذلك: «ارتد في هذا اليوم كبير أرامنة جلفا، واسمه (آقا بيري كلانتر)، فثار ضد المسيحية، وهو لم يكن عالماً بالمستوى المطلوب، فقد طالع وبشكل سطحي آثار أبو علي بن سينا، وفلاسفة العرب، وبعض متكلمي الإسلام، وحيث إنّه لم يستطع معرفة أسباب خلافهم مع المسيحية بشكل عميق، ولا تفسيرها وتحليلها؛ لذا فقد اُصيب باضطراب شديد في أفكاره..
وبلا شك فإنّه ستوجه ـ على أثر هذا الحدث المشؤوم ـ الدول الإسلامية ضربات قوية ومهلكة للمسيحية» (18).
وقد وقع هذا الحدث في يوم 24/أوت/1673م في عهد الشاه عبّاس الثاني، وزمن رئيس وزرائه (شيخ علي خان). وبعد هذا ـ أيضاً ـ دخل الدين الإسلامي أشخاص آخرين من المبشرين المسيحيين، منهم: الأب (أنطونيو دوشزو) البرتغالي، رئيس صومعة الآجوستينيين في أصفهان، الذي أسلم في زمان الشاه سلطان حسين (1105 ـ 1135هـ / 1694 ـ 1722م)، وسمى نفسه عليقلي جديد الإسلام، وألّف كتاب (سيف المؤمنين في قتال المشركين) الذي هو ترجمة وشرح ونقد لسفر الظهور من التوراة (19).
وقد كان (دوشنرو) قسيساً صليبياً، ولمّا كان عارفاً باللغة اللاتينية، فقد قام بعد إسلامه بمقابلة الكتب اللاتينية المسيحية واليهودية، فترجمها إلى اللغة العربية، وتوصل إلى وجود تحريفات قام بها المسيحيون في كتبهم الدينية (20).
في ذلك الزمان تعرّف علماء الدين المسلمين على أول المتون المسيحية. وأنهى المير محمد باقر بن إسماعيل الخاتون آبادي ترجمة الأناجيل الأربعة في شوال 1108هـ، وقام المترجم ـ بالإضافة إلى الترجمة ـ بنقد الأناجيل في الحاشية والإشارة إلى التناقضات والأقاويل الموجودة فيها (21).
وفي تلك الفترة كان هناك مفكرون آخرون ـ أيضاً ـ بالإضافة إلى السيد العلوي العاملي، ومن تقدم ذكرهم، قاموا بنقد المسيحية المحرّفة ونشروا انتقاداتهم وردودهم تحت عنوان: (الردّ على النصارى)، ومن تلك الردود ردّ خليل بن محمد أشرف
________________________________________
(18)مذكرات شاردن 2: 619 ـ 620.
(19)صحّح هذا الكتاب رسول جعفريان، وقامت بنشره دار نشر أنصاريان ـ قم.
(20)أول مواجهات مفكري إيران: 489.
(21)كتاب (خاتون آبادي) صحَّحه رسول جعفريان، وقامت بنشره دار التراث المكتوب.

[الصفحة - 284]


الأصفهاني (22)(ت 1136هـ)، ومحمد يوسف بن آقا محمد بيك الدهخوارقاني الذي كان ردّه بأمرٍ من الشاه سليمان الصفوي، وكان باللغة العربية، ثمّ تُرجم إلى اللغة الفارسية (23).
استمرت هذه الحركة العلمية إلى العصور التي تلت تلك الفترة، فاُلفت كتب مختلفة في الردّ على المسيحية.
(هنري مارتين) وهو من كبار المبشرين والمتكلمين المسيحيين، جاء إلى الهند عن طريق شركة الهند الشرقية في سنة (1217هـ / 1802م) ثمّ قدم منها إلى شيراز، وحاور علماء إيران، وألّف كتابه المشهور (ميزان الحق)، والذي أثبت فيه العقائد المسيحية، ونقد العقائد الإسلامية، كما بحث فيه الموضوعات التالية:
1 ـ هل حُرّف الكتاب المقدس؟
2 ـ هل تثبت الأُصول العامة في العهد القديم والجديد بأنها وحي إلهي؟
3 ـ هل القرآن الكريم كلام الله؟ وهل محمد رسول الله (24)؟
كما هو واضح، فإن الفصل الثالث من الكتاب، هو ضد الإسلام. لذا، فقد أجاب عنه علماء الإسلام بأجوبة شافية وقيّمة، من قبيل: (حجة الإسلام)، تأليف ملا علي نوري؛ و (إرشاد المضلين) و (مفتاح النبوة)، تأليف رضا الهمداني (25).
ووجدنا ـ أيضاً ـ رسالة غير كاملة للميرزا القمي في الردّ على هنري مارتين (26).
ويذهب البعض إلى أنّ ما كتبه العلماء والمفكرون الإسلاميون من رسائل وكتب في الرّد على اليهود والنصارى يصل إلى مئة وتسعة وخمسين كتاباً ورسالة (27).
ويظهر من مجموع النقود أنّ علماء الشيعة قد حققوا انتصارات كبيرة في مواجهتهم لعلماء اليهود والنصارى، واستطاعوا باقتدار وبالاستفادة من الأفكار المتينة الكلامية والفلسفية أن يهزموهم في المناظرات التي دارت بينهم، كما استطاعوا أن ينفذوا في الصف المسيحي الذي كان مستحكماً ورصيناً جداً.
الحوار مع علماء أهل السنة
وصلت المواجهة بين الشيعة والسنّة إلى أوجها في العصر الصفوي، فقد وقفت الإمبراطورية العثمانية ـ التي كانت تسيطر على مساحات شاسعة من العالم
________________________________________
(22)الذريعة، الشيخ الآقا بزرك الطهراني 10: 232، دار إحياء التراث العربي ـ بيروت.
(23)المصدر السابق: 233.
(24)مصقل صفا: 33، الحاشية.
(25)المصدر السابق: 34.
(26)أول مواجهات مفكري إيران: 534.
(27)مصقل صفا: 40 ـ 51.

[الصفحة - 285]


الإسلامي ـ وبكل ما اُوتيت من قوة بوجه الشيعة، وكان حكامها يعتقدون بأنّ ثبات واستقرار إمبراطوريتهم يتوقف عل القضاء على الشيعة.
هذه السياسة العدائية والحاقدة للعثمانيين، أدت بالشاه عبّاس إلى الالتجاء إلى الغرب، فاستعان بهم على تثبيت أركان حكومته. مضافاً إلى ذلك، فقد استغل السياسيون في كلتا الدولتين الأحاسيس المذهبية للنّاس، محاولين ربط العداء مع الدولة الأُخرى بعقائدهم ومذهبهم، وتحريضهم بذلك على الحرب.
فكانت فرصة مناسبة جداً للدولة العثمانية وإيران في أن تستغل كلّ منهما النزاع القائم من قديم الأيام بين المذهب الشيعي والسني، والمعارك التي كانت بمثابة نار تحت الرماد تنشب لأدنى سبب. لذا حاولت الدولتان إبقاء هذا الاختلاف على أشده ليمكنهم تحريك عامة النّاس ضد الطرف الآخر ودحره.
نعم، إنّ حكام إيران الصفويين أرادوا إبقاء نار الصراع والاختلاف مستعرة، وسعوا بكل جهدهم وإمكاناتهم لاستغلال عواطف الناس النزيهة والاستفادة منها لمحاربة الدولة العثمانية.
ومن ناحية اُخرى، فإنّ الدولة العثمانية هي الأُخرى لم تكن لترضى بأي وجه أن يكون إلى جوارها حكومة شيعية، لا تعترف بحاكمية الدولة العثمانية على العالم الإسلامي، وتُخطّئ عقائد النّاس. من هنا، فقد لجأت إلى علماء أهل السنّة، فألّفوا ونشروا كتباً ضد الشيعة، وأفتوا بكفرهم، ممّا أدّى بعامة النّاس ـ الغافلين عمّا يجري حولهم وما يحاك من مؤامرات خلف الكواليس ـ إلى أن تتلطخ أيديهم بدماء الشيعة.
في حدود سنة (947هـ) ألّف شخص يدعى حسين بن عبدالله الشرواني كتاباً ضد الصفويين وعقائدهم تحت عنوان (الأحكام الدينية في تكفير القزلباش). هذا الكتاب كان يتألف من أربعة أبواب باسم الخلفاء الراشدين الأربعة:
الباب الأول: في بيان العقائد المذهبية للدولة الصفوية؛ وفي الأصل يعني مذهب الإمامية.
الباب الثاني: في جهاد السلطان العثماني ضد الصفويين، وفضل هذا الجهاد.
الباب الثالث: في نقل أقوال الشاه إسماعيل ومعتقدات الصفويين حوله.
________________________________________

[الصفحة - 286]


الباب الرابع: في نقل أقوال وأفعال الشيخ حيدر والشيخ جنيد والد وجد الشاه إسماعيل.
وقد صدرت في هذا الكتاب فتاوى بقتل الشيعة بأشد وجوه القتل الممكنة (28).
وفي عصر السلطان مراد، عندما غزى العثمانيون العراق، أصدر المفتي العثماني نوح أفندي فتوى بوجوب محاربة الشيعة وقتلهم، وسلب أموالهم، وأسر عوائلهم.
في تلك الفترة طلب شرف الدين علي الشولستاني من علماء الدين في إيران الإجابة عن تلك الفتوى، فكتب الشيخ علي الكمرهاي (ت1060هـ) رسالة في مجلدين حول الإمامة (29)، وأجاب بالدليل والبرهان عن الفتوى الحاقدة والمنافية لروح الإسلام التي اصدرها المفتي العثماني.
المحقق الكركي في تعامله مع أهل السنة
يمكن القول بأنّ المحقق الكركي هو أول مجتهدٍ وفقيه صاحب نفوذ في زمان الحكومة الصفوية، بذل جهداً واسعاً لنشر التشيع والإجابة عن الشبهات المثارة حوله. وقد تركت طريقته هذه أثراً بالغاً في أفكار وتوجهات العلماء الآخرين الذين جاؤوا بعده، فالكركي إنسان فطن ومحقق بارع واُصولي حاذق.
ورغم ما تركه من رسائل في إثبات عقائد الشيعة، وردّ عقائد أهل السنّة إلاّ أنّه لم يخرج في حياته العلمية والاجتماعية عن دائرة المنطق والبرهان.
فقد نُقِل: أنّه حينما فتح الشاه إسماعيل هرات أصدر أمراً بقتل المولوي سيف الدين أحمد بن يحيى التفتازاني الذي كان عنيداً جداً ومتعصباً ومتحجراً، ويتعامل مع الشيعة بلؤمٍ شديد، وفي ذلك الوقت جاء الشيخ علي بن عبدالعال الكركي إلى هرات، وتأسف كثيراً لقتله، وقال: «لو لم يقتل لأمكن أن يتمّ عليه بالحجج والبراهين العقلية والنقلية حقانية مذهب الإمامية، وبطلان مذهب أهل السنّة والجماعة، ويردع عن مذهبه الباطل، ويلزم بذلك ويسكت، ويذعن من إلزامه جميع أهل ما وراء النهر اخراسان بحقية مذهب الشيعة الاثني عشرية، ولذلك كان الشيخ المذكور متأسفاً دائماً» (30).
________________________________________
(28)ميراث اسلامي ايران (التراث الإسلامي الإيراني)، إعداد رسول جعفريان، الدفتر الرابع: 720، نشر مكتبة آية الله المرعشي النجفي ـ قم.
(29)رياض العلماء، الميرزا عبدالله أفندي 4: 272، نشر مكتبة آية الله المرعشي النجفي ـ قم.
(30)خاتمة مستدرك الوسائل، المحدث النوري 2: 279ط، الأُولى 1415هـ، مؤسسة آل البيت(عليهم السلام) لإحياء التراث ـ قم.

[الصفحة - 287]


وهذا الموقف منه يحكي عن أنّه كان صاحب منطق متين وحوار بناء في مواجهة كبار أهل السنّة، ولم يكن يرضى أبداً بمواجهتهم بقوة وخشونة.
ورغم أنّ المحقق الكركي كان يقارن بين الخلفاء الثلاثة وأمير المؤمنين عليّ(عليه السلام) في رسالته (تعيين المخالفين لأمير المؤمنين(عليه السلام)) إلاّ أنّه لم يكن يستخدم عبارات الطعن في حق الخلفاء الثلاثة (31). ولكن، وبمرور الزمان قد نُسيتْ طريقة المحقق الكركي هذه من قبل العلماء، وتغيّر اُسلوبهم، فلم يعودوا يذكرون المخالفين لعليّ(عليه السلام) إلاّ ويلعنونهم.
الحوارات
الحوار والمناظرة كانت تعقد في العصر الصفوي ـ لإبراز المسائل الخلافية العامة بين الشيعة والسنّة وبيانها. والمنطق الذي يصرّ عليه المحقق الكركي كان يتجلى في المناظرة، وكذلك الحقيقة فإنّها تثبت بالأدلة والأجوبة المنطقية، وبذلك تُرفع الشبهات.
إن عقد جلسات الحوار والبحث في بلاط الحكام الصفويين، واجتماع علماء الشيعة والسنّة للحوار وطرح الأدلة والاستماع إلى الجواب، كل هذا يؤدي إلى حفظ سلامة وأرواح الأشخاص المتحاورين، والمنع من تدخل عوام النّاس والمتعصبين، وتُلزم الطرفين باُصول المناظرة، والفهم الصحيح لما يقوله الطرف المقابل، الذي هو ـ أيضاً ـ من العلماء والمفكرين، والابتعاد عن خداع العوام.
وكان الشاه عبّاس نفسه يهتم بعقد هكذا جلسات، فعندما نطالع فهرس النسخ الخطية لمكتبة مجلس الشورى بطهران، نلاحظ كتاباً باسم: (مباحثات قاضي زاده)، وقد جاء في التعريف به: أن هذا الكتاب يحتوي على المناظرات التي كانت تعقد في مجلس الشاه عبّاس الأوّل بين مؤلف الكتاب قاضي زاده، وقاضي زاده ما وراء النهر، وذكرت فيه أدلة مفصلة لإثبات صحة عقائد الشيعة(32).
وكانوا يكتبون في بعض الأحيان مجاميع تحت عنوان: (المناظرات)، فقد نقل: أنّ عباس مولوي المعاصر للشاه سليمان كتب هكذا مجموع (33).
________________________________________
(31)رسائل المحقق الكركي، تحقيق محمد حسّون 2: 226 ـ 227، نشر مكتبة آية الله المرعشي النجفي ـ قم.
(32)فهرست مكتبة مجلس الشورى 6: 70، برقم (2071).
(33)المصدر السابق: 75، برقم (2088).

[الصفحة - 288]


كتب وردود
يرى علماء الشيعة أن من واجبهم الردّ على الكتب والرسائل التي كتبت ضد الشيعة والإسلام، وقد كانت هذه السيرة الحسنة موجودة بين مد وجزر، وقد بلغت أوجها في العصر الصفوي. فقد كانت رسائل وكتب المخالفين التي كُتبت ضد الشيعة، تلقى دائماً الردّ الاستدلالي، فمن تلك الرسائل والكتب، نشير إلى نموذجين:
1 ـ الصواعق المحرقة في الردّ على أهل البدع والزندقة، تأليف شهاب الدين أحمد بن حجر الهيتمي المكي (ت973هـ)، كان المؤلف يسكن مكة، وذكر بأنّ سبب تأليفه لهذا الكتاب، هو وجود شيعة كثيرين في مكة، وهم يعتقدون أن الإمام والخليفة الوحيد بعد النبي (صلي الله عليه و آله و سلم) هو عليّ(عليه السلام)؛ وأمّا الخلفاء الثلاثة فليس لهم هذه المنزلة، قال في مقدمة كتابه الذي ألفه في سنة (950هـ): «أما بعد، فإني سئلت قديماً في تأليف كتاب يبين حقيقة خلافة الصدّيق، وإمارة ابن الخطاب، فأجبت إلى ذلك مسارعة في خدمة هذا الجناب، فجاء بحمد الله اُنموذجاً لطيفاً... ثمّ سُئلت قديماً في إقرائه في رمضان سنة خمسين وتسعمئة بالمسجد الحرام لكثرة الشيعة الرافضة ونحوهما الآن بمكة المشرفة أشرف بلاد الإسلام، فأجبت إلى ذلك رجاء لهداية بعض من زلّ به قدمه عن أوضح المسالك، ثمَّ سنح لي أن أزيد عليه أضعاف ما فيه، واُبيّن حقية خلافة الأئمة الأربعة وفضائلهم... ورتبته على مقدمات وعشرة أبواب وخاتمة» (34).
فقد ادعى في مقدمة الكتاب بأن الشيعة والرافضة شيء واحد، وزعم بأنّ كلا المذهبين باطل، وعقد عدّة أبواب في أهلية الخلفاء، وأن خلافتهم حق، وجعل الباب الثامن مختصاً بالإمام عليّ(عليه السلام)، وذكره بعنوان أنّه الخليفة الرابع. ولابن حجر الهيتمي كتاب آخر ـ أيضاً ـ حول معاوية بعنوان: (تطهير الجنان واللسان عن الخطور والتفوّه بثلب سيدنا معاوية بن أبي سفيان)، وقد نُشِر في حاشية كتاب (الصواعق) (35).
وقد كتبت ردود مختلفة (36)على كتاب ابن حجر، أهمها: (الصوارم المهرقة) للقاضي نوار الله التستري (ت 1019هـ)، ويرجع تأريخ تأليفه إلى سنة (995هـ) (37). وقد تعرض بالنقد والتحليل إلى ما جاء في مقدمة كتاب (الصواعق المحرقة)،
________________________________________
(34)الصواعق المحرقة، ابن حجر الهيتمي، المقدمة.
(35)كشف الظنون، حاجي خليفة 5: 146.
(36)الذريعة، آقا بزرك الطهراني 10: 204.
(37)الصوارم المهرقة، القاضي نور الله الشوشتري، تحقيق السيد جلال الدين الحسيني الأرموي، المقدمة: نط، شركة سهامي طبع كتاب.

[الصفحة - 289]


فتعرض لما ذكره ابن حجر من أنّ خلافة أبي بكر وعمر حق، وأجاب عنه بالدليل والبرهان، وبالاستناد إلى الروايات الصحيحة.
2 ـ نواقض الروافض، تأليف الميرزا مخدوم شريف، وكان الميرزا مخدوم من علماء بلاط الشاه إسماعيل الثاني، وقد هرب بعد موت الشاه سنة (985هـ) إلى العثمانيين، وكتب هذا الكتاب ضد الشيعة، وكان السلطان مراد الثالث يحترمه كثيراً، نُصّب مدة من الزمان، في حدود سنة (989هـ) قاضياً ومفتياً لديار بكر وبغداد، ثم صار قاضياً لطرابلس مدة سنتين، ثمّ ارتحل إلى مكة فكان قاضياً فيها مدة ثلاث سنوات، وبعد عزله ذهب إلى القسطنطينية وتسلَّم الرئاسة فيها، وأخيراً سافر إلى مكة وتوفي فيها سنة (995 أو 998هـ) (38).
وحيث إنّ الميرزا مخدوم كان في إيران، وكان ملازماً للشاه، لذا فإنّه على اطّلاع تام بعقائد وعادات ومشاريع الشاه وحاشيته وعامّة النّاس، والتي لم تكن موافقة لأهل السنة، فهو بالإضافة إلى إلقاء الشبهات حول واقعة الغدير، والرجعة، والبداء، وغيرها، عكس في كتابه اُموراً اُخرى، منها: لعن الخلفاء الثلاثة والصحابة، وأفضلية عيد الغدير من عيد الفطر والأضحى، هدم قبور العلماء، كقبر القاضي البيضاوي مؤلف كتاب (أسرار التأويل)، والاحتفال تخليداً لـ (بابا شجاع الدين) في كاشان والتصرفات غير اللائقة من بعض الشيعة؛ لأن النّاس في كاشان يعتقدون بأنّ أبا لؤلؤة قد هرب إلى كاشان بعد أن قتل عمر (39)، وتغيير القبلة في إيران على يد المحقق الكركي.
قسم من إشكالات الميرزا مخدوم أصبحت محلاً للبحث والنقاش في المحافل العلمية الشيعية، ومن جملتها:
1 ـ يعتقد الشيعة بأنّ القضاء في الأحكام الشرعية هو من مختصات الإمام(عليه السلام)، فمن يتصدى لهذا المقام بلا إذن من الإمام، فهو فاسق وملعون (40).
2 ـ كتب حول صلاة الجمعة: «أحد خرافات وبدع الشيعة ترك صلاتي الجمعة والجماعة، والقول بعدم وجوب صلاة الجمعة، فقد ادعى ابن عبدالعال )المحقق الكركي) في بعض مؤلفاته إجماع الإمامية على اشتراط حضور الإمام أو نائبه الخاص في وجوب صلاة الجمعة، وألّف رسالة خاصة بمنع صلاة الجمعة» (41).
________________________________________
(38)تراجم الأعيان، حسن بن محمد البوريني، تحقيق صلاح الدين المنجد 2: 52 رقم 84، طبع دمشق؛ مجلة حوزه، العدد 75، صفحة 212.
(39) مصائب النواصب در رد نواقض الروافض، القاضي نور الله الشوشتري، ترجمه إلى الفارسية: الميرزا محمد علي المدرس الرشتي الجهاردهي النجفي، تصحيح مرتضى المدرسي الجهاردهي: 245، المطبعة الإسلامية ـ طهران.
(40)المصدر السابق: 239.
(41)المصدر السابق: 228.

[الصفحة - 290]


وقد أشار القاضي نور الله في جوابه إلى أنّ للشيعة ثلاثة أقوال في حكم صلاة الجمعة.
وتجدر الإشارة إلى أنّ القول الذي اختاره المحقق الكركي في رسالة صلاة الجمعة هو الوجوب التخييري، واختار الشهيد الثاني وعدد من فقهاء العصر الصفوي القول بالوجوب العيني لصلاة الجمعة.
3 ـ أشكل على الشيعة بأنّه لا كتاب رجالي لهم، فكتابهم الرجالي أصغر من (مختصر التلخيص)(42)، إلاّ أنّه من الواضح أنّ كلامه هذا أمّا ناشئ من عدم اطلاعه على الكتب الرجالية للشيعة، أو نتيجة حقده وعدائه لهم. فقد ألّف الشيعة في العصر الصفوي كتباً رجالية كثيرة، منها: الكتاب الرجالي الكبير للأسترآبادي.
4 ـ إنّ أحد الشعائر الإيرانية هو تخليد وتعظيم (يوم نوروز)، والذي هو من الشعائر الجاهلية(43). وقد كُتبت في العصر الصفوي رسائل كثيرة حول (نوروز) (44).
5 ـ إنكار التصوف، ومن إشكالات الميرزا مخدوم على الشيعة، هو رفضهم للتصوف وتصفية الباطن. والظاهر أنّه أورد هذا الإشكال؛ لأنّ التصوف كانت له منزلة مهمة عند العثمانيين. قال الميرزا مخدوم: «قال شيخهم المقتول في كتابه (الدروس): إنّ تصفية الباطن حرام... » (45).
ويجدر التأمل في جواب القاضي نور الله التستري ـ مؤلف كتاب المصائب ـ على هذا الإشكال، حيث يقول: «هناك إشكالات على كتاب النواقض، فقد نسب إلى الشيعة إنكار التصوف، وهذا ـ أيضاً ـ افتراء وبهتان، وما نسبه إلى الشهيد الأول ناشئ من عدم فهمه لكلامه، فإنّه في كتابه (الدروس)، قال ـ ضمن تعداده لبعض المحرمات ـ : «وتحرم الكهانة و... وتصفية (تزكية) النفس(46)، بأن يُظهر أنّه صالح وليس في باطنه سوء، فلا شك في قبح ذلك عقلاً وشرعاً، كما قال سبحانه وتعالى: {فَلا تُزَكُّوا أَنفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى} (النجم: 36)، وتزكية النفس غير التصوف وتصفية الباطن، إلاّ أنّ مؤلف (النواقض) هكذا فهم: إنّ مقصود الشهيد حرمة التصوف، ثم حمل كلام الشهيد على وفق ذوقه وقريحته؛ لكي يتمكن من الإشكال عليه... وكيف يمكن نسبة إنكار التصوف إلى الشيعة، وقد قال كثير من كبارهم ـ في
________________________________________
(42)المصدر السابق: 208.
(43)المصدر السابق: 244.
(44) التراث الإسلامي الإيراني، إعداد رسول جعفريان، الدفتر السادس: 683، مصدر سابق. نشرت فيه رسالتين حول عيد النوروز (النيروز)، هما: 1 ـ رسالة نوروزية، الآقا رضي القزويني. 2 ـ نوروزية محمد باقر الخاتون آبادي. وذكر العلامة الطهراني في الذريعة 24: 379 ـ 384 أكثر من عشرين رسالة نوروزية، أُلف أكثرها في العصر الصفوي، منها: نوروزية الفيض الكاشاني، ونوروزية محمد إبراهيم الحسيني.
(45)مصائب النواصب: 218.
(46) وهذا نصّ عبارة الشهيد: «وتحرم الكهانة، والسحر بالكلام والكتابة والرقية والدخنة بعقاقير الكواكب، وتصفية النفس، والتصوير، والعقد، والنفث، والإقسام والغرائم (العزائم) بما لا يفهم معناه ويضرّ بالغير فصله، ومن السحر الاستخدام للملائكة والجنّ والاستنزال للشياطين في كشف الغائب وعلاج المصائب...». الدروس الشرعية 3: 163 ـ 164، مؤسسة النشر الإسلامي ـ قم.

[الصفحة - 291]


مسألة إثبات إمامة الإمام عليّ(عليه السلام) في الكتب الكلامية وغيرها ـ : كل الصوفية وأرباب الإشارة والحقيقة، مع عليّ(عليه السلام)» (47).
ثمّ إنّه اعتبر القول بـ (وحدة الوجود والموجود) كفراً، مشيراً بذلك إلى كلام العلاّمة الحلي في (كشف الحق)، ويعتقد بأنّ جمهور المتكلمين، بل ومحققو الصوفية لا يقولون بـ (وحدة الوجود).
ومن الكتب الأُخرى التي كتبت في أواخر العصر الصفوي أو بعده، هو كتاب (التحفة الاثنى عشرية) الذي أُلف في الهند، وقد كتب علماء الشيعة ردوداً كثيرة عليه (48).
شبهات وردود:
نُقل: أنّ قسماً من الشبهات كانت ترسل من البلاط العثماني إلى السفراء والبلاط الصفوي، وعن هذا الطريق كانت تصل إلى علماء الشيعة فيجيبون عنها، ونشير هنا إلى موردين منها:
1 ـ أشكل العلماء العثمانيون على الشيعة، بأنكم ـ وخلافاً لنص القرآن الصريح الذي أحلَّ طعام أهل الكتاب ـ تحرمون ذبائح أهل الكتاب.
وقد كتب الشيخ البهائي رسالة في الجواب عن هذه الشبهة، قال فيها: إنّ المراد من (طعام) ليس هو ذبائح أهل الكتاب، فإن هناك شروطاً لذبح الحيوان، وأحدها الإسلام. وقال في مقدمة الرسالة: «إن الباعث على تأليف هذه المقالة وتحرير هذه الرسالة، أن رسول ملك الروم (الدولة العثمانية) لمّا ورد بالرسالة من تلك المملكة إلى هذه البلاد ـ إيران ـ ذكر في بعض الأيام أنّ من أعظم ما يشنّع به علماء الروم على علمائكم، بعد مسألة الإمامة، حكمهم بتحريم ذبائح أهل الكتاب مع أنّ القرآن المجيد نطق بتحليلها في آية لا مجال لتأويلها، وهي قوله تعالى: {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ حِلٌّ لَّكُمْ} (المائدة: 5)، فأمرني السلطان الأعظم، الشاه عبّاس أن أكتب رسالة قامعة لاحتجاجهم، بحيث يرتفع تشنيعهم علينا، ويندفع ما نسبوه من مخالفة الكتاب إلينا» (49).
2 ـ من الإشكالات التي أثارها ـ في زمان الدولة العثمانية ـ علماء وحاشية
________________________________________
(47)مصائب النواصب: 219.
(48)الذريعة، آقا بزرك الطهراني 10: 190.
(49)حرمة ذبائح أهل الكتاب، الشيخ البهائي، تحقيق زهير الأعرجي، مؤسسة الأعلمي ـ بيروت.

[الصفحة - 292]


السلطان ضد الشيعة، هي نظرية للمير داماد في القبسات، فإنّه يذهب هناك إلى (الحدوث الدهري) الذي يطلق عليه (الزمان الموهوم) في مقابل (الزمان الذاتي والثابت)، فيعتقد بأنّ العالم حادث في الدهر وقديم في الزمان.
ونقد الآقا جمال الخوانساري نظرية المير داماد هذه؛ لإزالة شبهة العلماء العثمانيين (50)، وكتب الخواجوئي (ت1173هـ) رسالة أشكل فيها على آراء الآقا جمال الخوانساري وقوّى نظرية الميرداماد (51).
وبهذا يتبين أنّه في كثير من الموارد التي واجه فيها علماء الشيعة علماء أهل السنة، فإنهم سلكوا منهج الاستدلال والبرهان في تلك المواجهات، وأجابوا عن الشبهات والإشكالات التي كانت تورد على الشيعة بأجوبة متينة ومنطقية.
الحوارات العلمية في داخل الحوزة العلمية
ترى الحكومة الصفوية بأنّها ملتزمة بأحكام الإسلام، وكانت تدّعي: بأنّها حكومة دينية تعمل وفقاً لأوامر الشرع وعلماء الشيعة. وكثير من الموضوعات التي تمّ تداولها في ذلك العصر كانت على أساس مبان فقهية لبعض الفقهاء، وحماية الحكام لبعض النظريات وميلهم إليها، يجعل الموقف أكثر حساسية، وسبباً في اهتمام الآخرين بتلك النظرية، ولازم ذلك أن تصبح هناك مكانة خاصة لصاحب النظرية.
ويستغل المفكرون والفقهاء الذين يصبحون مورد اهتمام وعناية هذه الفرصة لنشر الثقافة الشيعية.
وقد يتفق بأنّ فقهاء ذلك العصر لا يرون الحكام أهلاً للحكومة، ولا يرتضون كل تصرفاتهم، إلاّ أنّهم رغم ذلك يرون من الواجب عليهم الدفاع عنهم؛ وذلك لنشر الفكر الشيعي، والدفاع عن الشيعة المظلومين، والوقوف بوجه التعدي وسفك الدماء الذي يقوم به الحكام السنة، والمنع من الحكومات الإقطاعية. وكانوا يستفيدون من علاقتهم بالحكام في حفظ المجتمع من الآفات، وإقامة فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
وكان عدد من الفقهاء والمفكرين يبدون امتعاضاً ورفضاً للرسائل والآراء
________________________________________
(50)طبقات أعلام الشيعة (القرن الثاني عشر)، آقا بزرك الطهراني 6: 147.
(51)تتميم أمل الآمل، عبدالنبي القزويني: 68، نشر مكتبة آية الله المرعشي النجفي ـ قم؛ الذريعة11: 6.

[الصفحة - 293]


الفقهية للعلماء الذين هم على ارتباط بالحكومة. وحاولوا الردّ عليها، ولعلّ هذا كان منهم من باب الشفقة والنصيحة. وعلى كل حال، هناك أبحاث كانت تثار في الأوساط العلمية، نشير إلى بعض النماذج منها:
الخراج والاعتكاف
دأب عدد من العلماء في مجال العلاقة والرابطة مع الحكومة التي يرون أنّها حكومة شيعية، على عدّ الدفاع عنها أمراً واجباً في مقابل الحكومة العثمانية التي كان العلماء المرتبطون بها يفتون بهدر دم الشيعة. ومن الناحية العلمية كانوا يساعدون على إدارة البلاد على اساس فقه الشيعة من خلال كتابة الرسائل الفقهية، فكان نتيجة هذا الدأب منهم أن دفع بعدد من الفقهاء لاتخاذ موقفٍ في قبال آرائهم ونظرياتهم، وإثارة الشبهات في المجتمع.
تصدى اُولئك العلماء والمفكرون الذين كانت توجه الإيرادات والنقود إلى نظرياتهم وآرائهم، بالردّ عليها. فكان لهذا النقد والجواب عنه والحوارات العلمية أن توسعت دائرة البحث، وتهيأت أرضية مناسبة للوصول إلى نظرية صحيحة ودقيقة.
وبهذه الطريقة بدأ بحث الخراج في زمان المحقق الكركي، فقد كتب المحقق الكركي رسالة: (قاطعة اللجاج في تحقيق حلّ الخراج) جواباً على شبهة اُثيرت حول الخراج والأراضي المفتوحة عنوة.
وكتب الفاضل القطيفي رسالة: (السراج الوهاج لدفع عجاج قاطعة اللجاج) ردّاً على رسالة المحقق الكركي.
وفي نفس الوقت كتب المحقق الأردبيلي رسالتين حول مسألة الخراج، وكتب الشيخ ماجد بن فلاح الشيباني نقداً لآراء ونظريات المحقق الأردبيلي فيهما (52).
الرسالة الاعتكافية
للشيخ لطف الله الميسي (ت1032هـ)، وقد كتبها جواباً على شبهة، قال في بداية الرسالة: «كان هناك اهتمام في قزوين وأصفهان لإقامة الاعتكاف، والهدف منه هو إرجاع النّاس إلى نور الحقائق والدعاء والتوسل لدوام الحكومة العلوية الموسوية».
________________________________________
(52)الخراجيات، مؤسسة النشر الإسلامي ـ قم.
(53)الذريعة 2: 23؛ طبقات أعلام الشيعة (القرن الحادي عشر): 478.

[الصفحة - 294]


وذكر الباعث لـه على كتابة هذه الرسالة، فقال ما مضمونه: سمعت في هذه الأيام أنّ بعض الأشخاص الضعفاء ممن عاصرناه، والعاجزين عن فهم مرتبة العرفان والفقه، وبالحدس والظن، ودون أن يسمع من محدث أو ينقل عن مجتهد، راح يتقوّل عند مَنْ يوافقه في المشرب ومن يجالسه من العوام، بأنّي خالفت الشرع وابتدعت في عدّة مواضيع:
1 ـ الاعتكاف في مسجد الشاه الجديد.
2 ـ الاعتكاف في العشرة الأخيرة من شهر رمضان.
3 ـ نصب الخيم والقبب في أيام الاعتكاف.
4 ـ الإحياء في ليالي الاعتكاف.
وقد أجاب ـ الميسي ـ عن هذه الإشكالات الأربعة في سياق حديثه، فأجاب عن الإشكال الأول بأنّه يرى أن المسجد الجامع هو المسجد الذي يكون إمام الجماعة فيه إمامياً اثنا عشرياً، وأن لا يكون مختصاً بقبيلة أو سوق، وإذا كانت مثل هذه المساجد كثيرة، يصح الاعتكاف فيها جميعاً (54).
صلاة الجمعة
كان عدد من أصحاب الرأي والفقهاء يبدي بنحو عام ـ تأثراً وانفعالاً اتجاه أساليب وآراء العلماء الذين هم محل احترام الحكومة، فيقومون بنقد تلك الآراء الفقهية والإشكال عليها. فعلى سبيل المثال قدم الملا عبدالله التستري (ت1021هـ) إلى أصفهان، وهو من تلامذة المحقق الأردبيلي البارزين، فقد كان محل احتراموتقدير الشاه عبّاس، وبنى له الشاه مدرسة ضمت عدداً كبيراً من طلاب العلوم الدينية (55).
وقد صدرت من الملاّ عبدالله فتاوى مختلفة، خالف قسماً منها الشيخ ماجد الشيباني، من جملتها:
1 ـ إن الشيباني كتب رسالة في وجوب التجارة بمال الصغير، ردّاً على نظر الملاّ عبدالله.
2 ـ وكتب ـ أيضاً ـ رسالة في حلّية العنب والزبيب الذي يجعل في الخل،
________________________________________
(54) التراث الإسلامي الإيراني، إعداد رسول جعفريان، الدفتر الأول؛ رسالة اعتكافية، تحقيق أحمد عابدي الرضوانشهري: 317 ـ 320، نشر مكتبة آية الله المرعشي النجفي ـ قم.
(55)طبقات أعلام الشيعة (القرن الحادي عشر) 5: 343.

[الصفحة - 295]


ناقش فيها أيضاً فتوى الملاّ عبدالله (56).
3 ـ وكذلك لـه رسالة في المنع من أخذ الصخور المستخرجة من خرابات الكوفة وكربلاء وطوس، وناقش فيها فتوى الملاّ عبدالله وردّها (57).
ويمكن اعتبار بحث صلاة الجمعة ـ أيضاً ـ من هذا النوع من الأبحاث. وأوّل مَنْ كتب رسالة في صلاة الجمعة هو المحقق الكركي، وذهب في هذه الرسالة إلى أنّ صلاة الجمعة واجب تخييري، وعلى هذا الأساس حكم بجواز إقامة صلاة الجمعة، وطبّق ذلك عملياً.
ثم جاء بعده الشهيد الثاني (ت 966هـ) فكتب ـ أيضاً ـ رسالة مستقلة، ذهب فيها إلى أنّ صلاة الجمعة واجب عيني، وكذلك الملاّ عبدالله التستري (ت 1021هـ) كتب رسالة في الوجوب العيني لصلاة الجمعة (58).
وبعد عرض هذه الرسائل على المحافل العلمية، أصبح بحث صلاة الجمعة من الأبحاث المتداولة بشكل واسعٍ وجدي في العصر الصفوي، وقد حصلت مواجهات بين كثير من العلماء إلى حدٍّ أنّ جماعة أفتوا بحرمة إقامة صلاة الجمعة في عصر الغيبة! في قبال هذين الرأيين المتقدمين، ومن أجل حلّ هذه المشكلة اُقيم مؤتمر من قبل الصدر الأعظم اعتماد الدولة الشيخ عليخان زنگنه، وكان أكثر اهتمام المؤتمرين هو إثبات الوجوب التخييري لصلاة الجمعة (59). فكتب الآقا جمال الخوانساري رسالة في صلاة الجمعة، اختار فيها الوجوب التخييري، ونقد الرأيين الآخرين؛ الوجوب العيني والحرمة.
وقد بحث الشيرواني في كل ما كتبه المحقق الآقا حسين الخوانساري، فنقد مطالبه وأشكل عليه، والآقا حسين ـ أيضاً ـ أجاب بدوره عن كل إشكالاته. ويعتقد عدد من المحققين بأنّ إجابات الآقا حسين عن إشكالات الشيرواني هي آخر ما كتبه، واشتملت على مسائل: حكمية وكلامية ومنطقية واُصولية (60).
ذكر اسم الإمام المهدي (عجل الله تعالي فرجه الشريف)
تحصل في بعض الأحيان حوارات علمية واسعة سببها اختلاف آراء عدد من
________________________________________
(56)الذريعة 11: 177.
(57)طبقات أعلام الشيعة (القرن الحادي عشر) 5: 485.
(58)المصدر السابق: 346.
(59)طبقات أعلام الشيعة (القرن الثاني عشر) 6: 205، نشر إسماعيليان ـ قم.
(60)الذريعة 10: 203.

[الصفحة - 296]


العلماء، فيكتب كل عالم منهم رسالة في تأييد رأيه، بلا تنقيص وإهانة لمخالفيه، ولا أن يكون عنده ـ في كتابة رسالته ـ أهداف اُخرى غير علمية. ويقوم الآخرون بنقد هذه الرسالة باحترام وأدب. وكان هذا أفضل اُسلوب للتعامل فيما بينهم في العصر الصفوي.
ومن جملة هذه الحوارات، هو الحوار العلمي بين الميرداماد والشيخ البهائي في جواز ذكر اسم وكنية الإمام الحجة (عجل الله تعالي فرجه الشريف). فالشيخ البهائي يذهب إلى جواز ذكر الاسم والكنية في عصر الغيبة، والمير داماد يذهب إلى الحرمة.
من هنا، كتب المير داماد رسالة سنة (1020هـ) بعنوان: (شرعة التسمية)، واستدلّ فيها على حرمة ذكر اسم الإمام المهدي(عليه السلام) بروايات (61)ذكرها المحدث النوري في (النجم الثاقب) (62)، وقد أكّد تلامذة الميرداماد في كتبهم على رأي اُستاذهم، من قبيل: السيد باقر القزويني في (الفلك المشحون) وقطب الدين الأشكوري في (محبوب القلوب) (63)، وفي مقابلهم كتب والد سلطان العلماء (ت134هـ) رسالة في ردّ (شرعة التسمية) (64)، وكتب الشيخ الحر العاملي رسالة بعنوان: (كشف التعمية في حكم التسمية)، فقد ذهبا في هاتين الرسالتين إلى جواز ذكر اسم الإمام المهدي(عليه السلام) (65).
ونُقل بأنّ هناك رسالة لكمال الدين حسين بن حيدر الكركي (ت1041هـ) في جواز ذكر اسم الامام المهدي(عليه السلام) بعنوان: (الإشراق) (66). وكما قال المحدث النوري، فإنّ حكم ذكر اسم الإمام المهدي (عجل الله تعالي فرجه الشريف) من زمان الميرداماد صار محلاً للبحث.
وكتب كل من الميرزا رفيع الطباطبائي النائيني اُستاذ العلاّمة المجلسي (67)، والشيخ سليمان الماحوزي (68)، والشيخ محمد تقي القزويني (69)رسائل في حرمة ذكر اسم الإمام المهدي (عجل الله تعالي فرجه الشريف).
شرب التَّبَغ أو التمباك
كانت المسائل المستحدثة في العصر الصفوي تبعث بالعلماء وأصحاب الرأي
________________________________________
(61)گزيده كفاية المهتدي (منتخب كفاية المهتدي)، سيد محمد ميرلوحي الأصفهاني، تصحيح قسم إحياء التراث الثقافي، وزارة الإرشاد الإسلامي: 44.
(62)النجم الثاقب، الميرزا حسين النوري: 59، نشر جعفري ـ مشهد.
(63)المصدر السابق نفسه.
(64)الذريعة 10: 202.
(65)النجم الثاقب: 59؛ فهرست مكتبة السيد مشكاة المهداة إلى جامعة طهران 5: 1488، برقم (1289)؛ الذريعة 18: 23.
(66)الذريعة 11: 80؛ طبقات أعلام الشيعة (القرن الحادي عشر) 5: 182.
(67)الذريعة 11: 138.
(68)المصدر السابق نفسه.
(69)الذريعة 11: 176.

[الصفحة - 297]


على كتابة الرسائل العلمية، أو الدخول في حوارات علمية. فعندما دخل التبغ (التمباك) إلى إيران، بدأت الحوارات بين العلماء واتسعت لتشمل كل طبقات المجتمع.
فذهبوا إلى أنّ أصل التبغ (التمباك) هو من أمريكا (70)، فقالوا: إنّ ورق التمباك جاء إلى إسبانيا من أمريكا في سنة (1519م / 925هـ)، ومن هناك دخل إلى اُوربا في سنة (1560م)، وفي سنة (1565) انتقل من فرنسا إلى ألمانيا، وفي سنة (1586م / 994هـ) دخل إلى بريطانيا (71). ودخل إلى إيران سنة (999هـ) في زمان الشاه عبّاس (996 ـ 1038هـ) بواسطة البرتغاليين(72)، وقد وصل استعمال التمباك في إيران إلى أوجه في سنة (1010هـ) (73)، وقيل: بل، في سنة (1012هـ) عند اختراع النَّارَجيلة في داخل إيران (74).
وكان الشاه عباس يخالف بشدة استعمال النَّارَجيلة، ويمنعه، فاذا نُقِل أو شوهد بأنّ شخصاً استعمل النارجيلة، فإنّ رجال الحكومة يقطعون أنفه وشفتيه، وكانوا يحرقون التمباك مع تاجره (75)إذا ضبطوه عند شخص. إلاّ أنّ استعمال التمباك قد شاع في زمان الشاه صفي (1038 ـ 1052هـ)، والشاه عبّاس الثاني (1052 ـ 1077هـ)، ورغم أنّ الحكومة كانت تمنع من استعماله، إلاّ أنّه لم يؤثر في الردع، ولم يستطيعوا القضاء عليه تماماً (76).
وقد وقع ـ أيضاً ـ اختلاف بين العلماء في هذه المسألة، فبعضهم أفتى بالحرمة، وبعضهم أفتى بالحلية. كتب حسام الدين الماجيني في حدود سنة (1012هـ) رسالة باللغة الفارسية حول فوائد ومضار التمباك، ترجمها إلى العربية سنة (1020هـ) المولى الحاج عبدالله السمناني، تلميذ الميرداماد ومؤلف: (تحفة العابدين)، بطلب من السيد علي بن حسن بن شدقم الحسيني المدني وأضاف إليها مطالب، وأقام أدلة على حرمة شرب التبغ.
ونقل ـ المولى السمناني ـ عن المير داماد: بأنّ أهل الحجاز يسمون هذه النبتة (طابه)، والفرس يسمونها (تنباكو)، ويسميها المجتمع العثماني والترك (تتن) (77).
وخصص عبدالحي الكاشاني الفصل العشرين من كتابه حديقة الشيعة بحكم
________________________________________
(70)فرهنگ معين (قاموس معين) 2: 1147، نشر أمير كبير ـ طهران.
(71)علل بر افتادن صفويان (أسباب سقوط الصفويين)، رسول جعفريان: 349.
(72)زندگاني شاه عباس اول (حياة الشاه عبّاس الأول)، نصر الله فلسفي 2: 277، جامعة طهران.
(73)الذريعة 11: 176.
(74)المصدر السابق 4: 436.
(75)حياة الشاه عباس الأول 2: 280.
(76)المصدر السابق: 282.
(77)الذريعة 4: 436.

[الصفحة - 298]


النَّارَجيلة (78).
والظاهر أنّ العلماء في عهد الشاه عبّاس الأول إنّما لم يكتبوا رسالة في تحريم التبغ؛ لأنّهم اكتفوا بمنع الشاه الشديد عن استعمال النَّارَجيلة، إلاّ أنّه وبعد شيوع استعمالها في زمان الشاه صفي والشاه عبّاس الثاني وبعده.
فقد كُتبت رسائل عديدة في حرمة شرب التبغ، منها:
1 ـ تحريم التتن، للشيخ علي نقي الكمرهاي (ت 1060هـ)، أقام في هذه الرسالة اثني عشر دليلاً على حرمة استعمال التبغ، وقد أشكل الميرزا عبدالله الأفندي على هذه الأدلة، بأنها ضعيفة ولا يمكن الاعتماد عليها (79).
2 ـ حرمة شرب التتن، لفخر الدين الطريحي (ت 1085هـ)، وقد نقل في رسالته أنّه رأى أمير المؤمنين(عليه السلام) في المنام، فأمره بترك شرب التتن (80).
3 ـ حرمة شرب التتن، للشيخ زين الدين علي بن سليمان البحراني (ت 1064هـ)، وأول ما نشرت هذه الرسالة في البحرين (81).
4 ـ حرمة شرب التتن والقهوة، للشيخ الحر العاملي (ت1104هـ) (82).
5 ـ حرمة شرب التتن، للشيخ داود بن حسين الجزائري (83).
6 ـ حرمة شرب التتن، للسيد نصر الله الموسوي الجزائري، الذي استشهد بعد سنة (1153هـ)(84).
7 ـ حرمة شرب التتن، للمولى خليل بن غازي القزويني (1001 ـ 1089هـ) (85).
وقد كتبت في نفس تلك الفترة خمس عشرة رسالة في حرمة شرب التبغ من قبل علماء أهل السنة(86).
8 ـ وفي مقابل ذلك، كتب الشيخ سليمان بن علي الشاخوري (ت1101هـ) رسالة ـ على ما نُقل ـ في حلّية شرب التتن والقهوة، ونقد فيها رأي الأخباريين القائلين بحرمة شرب التبغ (87).
وقيل: إنّ محمد تقي المجلسي كان يذهب إلى حلّية شرب التبغ، بل كان يرى أنّ استعماله لا يبطل الصوم، وكان يستعمله في حال صومه صوماً مستحباً، وأمّا عندما يكون صائماً صوماً واجباً، فأنّه كان يتجنّب شرب التبغ حذراً من العوام (88).
________________________________________
(78)فهرس النسخ الخطية لمكتبة آية الله المرعشي النجفي 3: 295 ـ 296، برقم (1124).
(79)الذريعة 11: 174؛ رياض العلماء 4: 272؛ روضات الجنات، محمد باقر الخوانساري 4: 382، نشر إسماعيليان ـ قم.
(80)الذريعة 11: 174.
(81)المصدر السابق: 173.
(82)المصدر السابق: 174؛ التراث الإسلامي الإيراني، الدفتر السابع: 88.
(83)الذريعة 11: 173.
(84)المصدر السابق: 174.
(85)المصدر السابق: 173.
(86)التراث الإسلامي الإيراني، الدفتر السابع: 86.
(87)روضات الجنات 4: 13.
(88)الذريعة 11: 174.

[الصفحة - 299]


وقالوا كذلك: إن العلاّمة المجلسي ـ أيضاً ـ لم يذهب إلى حرمة شرب التبغ، بل كان في بعض الأحيان يستعمل النَّارَجيلية وهو على المنبر.
كتب المولى خليل القزويني ـ الذي كان يذهب إلى حرمة شرب التبغ ـ رسالة في ذلك، وجعلها في جلد نفيس وأرسلها إلى العلاّمة المجلسي في أصفهان، لعله بعد الاطلاع عليها يرتدع عن شرب النَّارَجيلة، إلاّ أنّ العلاّمة عندما رأى أنّ الرسالة غير كاملة، وضع مقداراً من التبغ الممتاز في جلد الرسالة، وأرسله إليه! ليقول له إنّ الرسالة ليست بشيء، إلاّ أنّ جلدها يليق بالتمباك (89).
الغناء والموسيقى
يكون الزمان والمكان والمسائل الاجتماعية في بعض الأحيان سبباً في تغيير فتوى مجتهد أو مجتهدين، فلا بدّ من دراسة دقيقة للزمان والمكان والشرائط الاجتماعية لتقييم تلك الفتوى الجديدة. وبحث الغناء والموسيقى هو من هذا النوع.
والسبب في طرح مسألة الغناء في زمان الصفوية، هو أنّ الصوفية كانوا يستفيدون من أطوار الغناء في مجالس رقصهم وسماعهم، وكذلك إنشاد الأناشيد والموسيقى والأشعار الدينية بألحان الغناء.
ويرى مخالفو الصوفية حرمة كل غناء أو لحن غنائي؛ لأنّهم يعتقدون أنّ حلّيّة أي نوع من الموسيقى أو لحن من ألحان الغناء يؤدي إلى تقوية الصوفية في أداء أعمالهم.
إنّ دراسة علم الموسيقى ليس حراماً عند كبار علماء ذلك العصر، فالشيخ البهائي كان يذهب إلى عدم حرمة تعلم الموسيقى (90). وكان الحاج إسماعيل الأصفهاني الخاتون آبادي يُدرّس فصل الموسيقى من شفاء أبو علي ـ ابن سينا ـ في المسجد الجامع في أصفهان (91). إلاّ أن اُولئك العلماء يحرمون العمل بهذا العلم.
في هذا الوسط كان لاثنين من فقهاء العصر الصوفي المعروفين آراء جديدة في باب الغناء، وهما: الملاّ محسن الفيض الكاشاني (ت1091هـ)، والذي كانت نزعته أخبارية وفلسفية، والملاّ محمد باقر السبزواري (ت1090هـ)، وكانت نزعته اجتهادية.
________________________________________
(89)روضات الجنات 3: 271.
(90)الكشكول، الشيخ البهائي 2: 221.
(91)تتميم أمل الآمل: 66.

[الصفحة - 300]


وأول من أفتى بحلّيّة بعض أنواع الغناء هو الفيض الكاشاني، وقد ذكر ذلك في عدد من آثاره:
1 ـ مفاتيح الشرائع، ألّفه في سنة (1042هـ) (92).
2 ـ المحجة البيضاء في تهذيب الإحياء (93)، تمَّ تأليف الجزء الأول منها سنة (1046هـ) (94).
3 ـ كتاب الوافي (95)، تمّ تأليفه سنة (1068هـ) (96).
4 ـ تفسير الصافي، المقدمة الحادية عشرة (97). انتهى من تأليفه سنة (1075هـ) (98).
وقد توصّل الفيض الكاشاني نتيجة الجمع بين روايات الغناء إلى أنّ الغناء الحرام هو الذي كان شائعاً في مجالس اللهو واللعب الأُموية. ومن هنا، فالغناء الذي لا يقترن باُمور محرمة ليس حراماً، بل حُّث عليه، من قبيل: قراءة القرآن بألحان مطربة.
وبناءً على روايات وردت، فإنّه لا إشكال في غناء الجارية والمرأة المغنية في الأعراس للنساء إذا لم يدخل عليهنّ الرجال (99).
ورغم أنّ هذه الفتوى من الفيض الكاشاني كانت على خلاف فتاوى علماء ذلك العصر، إلاّ أنّ الذي يظهر من التاريخ أنّها لم يكن لها ردود فعل، ولم تثر المخالفين ولا الموافقين، ولعل السبب في عدم حصول ردود فعل لهذه الفتوى، هو أنّ الفيض الكاشاني كان بعيداً عن مركز الحوارات العلمية، والنزاعات السياسية والاجتماعية، فإنّه كان يعيش في كاشان، ولم يكن لها صدى في أصفهان بحيث تثير المخالفين والموافقين، وتدعوهم إلى المواجهة العلمية والحوار.
نعم، ورد في (هداية العوام) أنّ عدداً من صوفيي مشهد الذين كانوا على علم بفتوى الفيض، ادّعوا: أنّ الفيض الكاشاني قد اشترك في مجالس سماعهم، وقد كذّب الفيض هذه الدعوى في جواب رسالة اُرسلت إليه من مشهد (100).
وقد أشكل المحقق السبزواري في رسالة كتبها في حرمة الغناء على ما ذُكر من أدلّة لثلاثة من الموارد الأربعة المستثناة من الغناء الحرام، وهي: الحداد، ومراثي الإمام الحسين(عليه السلام)، وقراءة القرآن، وأما بالنسبة لـ (غناء المغنية للعرس)، فإذا لم تتكلم بالباطل، ولم يدخل عليها الرجال، فالأقرب عنده هو الإباحة (101).
________________________________________
(92)الذريعة 21: 302.
(93)المحجّة البيضاء، محسن الفيض الكاشاني 5: 225، مؤسسة النشر الإسلامي ـ قم.
(94)الذريعة 20: 145.
(95)كتاب الوافي، الفيض الكاشاني 17: 220، نشر مكتبة أمير المؤمنين(عليه السلام) ـ أصفهان.
(96)الذريعة 25: 13.
(97)تفسير الصافي، الفيض الكاشاني 1: 62، مؤسسة الأعلمي ـ بيروت.
(98)الذريعة 15: 5.
(99)مفاتيح الشرائع، الفيض الكاشاني 2: 21، مجمع الذخائر الإسلامية.
(100) هداية العوام وفضيحة اللئام، محمد بن نظام الدين محمد الشهير بـ (عصام)، النسخة الخطية برقم (1775)، مكتبة آية الله المرعشي النجفي: الورقة 135 ب؛ روضات الجنات 6: 99.
(101)الغناء، الموسيقى، إعداد رضا مختاري ومحسن صادق 1: 42 ـ 44؛ رسالة في تحريم الغناء، المحقق السبزواري، نشر مرصاد.

[الصفحة - 301]


وقد سُئِل خمسة من كتبار علماء العصر الصفوي، ومنهم المحقق السبزواري، عن الغناء والرقص: «... أفتونا هل أنّ الغناء، والإنشاد، والتصفيق، والرقص، والإصرار على ذلك، فسق أو طاعة.. معصية أو عبادة».
أجاب الملاّ محمد باقر السبزواري الخراساني: «لا خلاف بين علماء الإمامية رضوان الله عليهم أجمعين في حرمة الغناء والإنشاد، وظاهر عدة من الأحاديث أنّه من الكبائر، ولا فرق في أن يكون الغناء في القرآن أو الشعر أو غيرهما. وقد أفتى بعض العلماء السابقين بحرمة الرقص والتصفيق، ولم نطّلع على مَنْ أفتى بإباحة ذلك. والله أعلم بحقائق الأُمور. كتب الفقير محمد باقر السبزواري» (102).
ونُقلت ـ أيضاً ـ جواباً عن هذا السؤال فتاوى: أحمد بن زين العابدين العلوي العاملي، والميرزا رفيع الدين محمد النائيني، وشيخ الإسلام الشيخ علي نقي زاده، والميرزا نور الدين المفتي.
وحيث إنّ هذا الاستفتاء جاء في كتاب (سلوة الشيعة) المؤلَّف سنة (1060هـ)، واُشير في هذا الكتاب إلى رسالة في تحريم الغناء للمحقق السبزواري (103)، ويمكن أن يقال: إنّ الفيض الكاشاني هو أول منْ استثنى بعض موارد الغناء من الحكم الكلي لـ (حرمة الغناء). الشيخ الحر العاملي في رسالته في الغناء، والتي كتبها سنة (1073هـ) (104)، كان ناظراً إلى فتوى الفيض في رسالته في الغناء (105)، وإلى رأي المحقق السبزواري في (تحريم الغناء). وقد أشار الحر العاملي إلى رسالته في تحريم الغناء في كتابه (تحرير الوسائل) (106).
أما المحقق السبزواري فقد رجع عن رأيه وألّف رسالة في إباحة بعض أنواع الغناء، وهي مفقودة. وذهب في (كفاية الأحكام) إلى جواز التغني بالقرآن (107).
لقد واجهت هذه الفتوى الجديدة للمحقق السبزواري ردود فعل بين علماء الدين، وكُتبت رسائل في ردّ وجهة نظره هذه. والسبب في ردود الفعل هذه، هو المكانة الاجتماعية التي كان يتمتع بها المحقق السبزواري، فقد كان شيخ الإسلام في أصفهان، فمن الطبيعي أن يكون لرجوعه عن فتواه السابقة ردود فعل.
وحصلت مشادّة بين بعض الأفراد من الحوزة العلمية في أصفهان والمحقق
________________________________________
(102) سلوة الشيعة وقوة الشريعة، مطهر بن محمد المقدادي، تحقيق أحمد العابدي، طبع مؤسسة التراث الإسلامي الإيراني، الدفتر الثاني: 357؛ هداية العوام، النسخة الخطية: الورقة 147 ب.
(103)التراث الإسلامي الإيراني، الدفتر الثاني: 353.
(104)الغناء، الموسيقى، مصدر سابق 1: 105.
(105)الذريعة 16: 62.
(106)المصدر السابق: 61.
(107)كفاية الأحكام، المحقق السبزواري: 86، الطبعة الحجرية.

[الصفحة - 302]
 
فروع المركز

فروع المركز

للمركز الإسلامي للدراسات الإستراتيجية ثلاثة فروع في ثلاثة بلدان
  • العنوان

  • البريد الإلكتروني

  • الهاتف