البحث في...
إسم البحث
الباحث
اسم المجلة
السنة
نص البحث
 أسلوب البحث
البحث عن اي من هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على كل هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على هذه الجملة

التنوير الديني دراسة في المعنى والتجلّيات

الباحث :  د. زكي الميلاد
اسم المجلة :  مجلة المنهاج
العدد :  42
السنة :  السنة الحادية عشر صيف 1427هجـ 2006 م
تاريخ إضافة البحث :  March / 19 / 2015
عدد زيارات البحث :  1511

التنوير الديني دراسة في المعنى والتجلّيات

د. زكي الميلاد (*)

ما هو التنوير الديني؟
هذا السؤال حينما يطرح في مثل هذا الوقت، إنما يحاول الاعتراض على حالتين فكريتين في النطاق العربي والإسلامي، وحالة ثالثة في النطاق الغربي والعالمي عموماً.
ففي النطاق العربي والإسلامي هناك حالتان: حالة تنتسب إلى الخطاب العربي، وحالة تنتسب إلى الخطاب الديني.
في الحالة الأُولى، حاول الخطاب العربي أن يربط التنوير بالفكر الأُوروبي خطاباً ومرجعاً، وبعصر الأنوار في القرن الثامن عشر الميلادي زمناً وتاريخاً. وكأن التنوير كان حدثاً واكتشافاً اُوروبياً، يحسب ويؤرخ لأوروبا، ويعرف ويذكر بها، هكذا يصور في الخطاب العربي الذي أراد أن يقدم نفسه بالانتساب إلى فكر التنوير واللحاق به. وهو الانتساب الذي جعل من الفكر الغربي مرجعية له، باعتباره يمثل مرجعية التنوير، وبالتالي هو الذي يحدد معايير التنوير وماهيته وحكمته، وهو الذي يعطي ويسلب صفة التنوير بقدر الاقتراب منه أو الابتعاد عنه.
وقد ظل الخطاب العربي مفتوناً بالفكر الأُوروبي، ومسحوراً بعصر الأنوار لكي يحق له الادعاء بالانتساب إلى خطاب ومرجعية التنوير، وفي المقابل قطع هذا الخطاب صلته المرجعية بالدين؛ لأن الدين في نظر هذا الخطاب لا يمثل تنويراً، ولا
________________________________________
(*)رئيس تحرير مجلّة الكلمة، باحث من المملكة العربية السعودية.

[الصفحة - 39]


يكوّن حداثةً، ولا يصنع تقدماً، وهذا يعني أن التنوير لا يكون دينياً، وأن الدين ليس مرجعية للتنوير. مع ذلك فقد بقي البعض ممن ينتسب إلى هذا الخطاب يحتفظ بعلاقة محدودة أو حذرة مع الدين لا ترتقي إلى مستوى المرجعية المتكاملة الناظمة للأفكار والمفاهيم والتصورات، لذلك لم يحاول هذا الخطاب العربي أن يتساءل عن ما هو التنوير الديني؟ ويبذل جهداً في اكتشافه والتعرف عليه، والتواصل معه.
وفي الحالة الثانية، فإن الخطاب الديني بصورته الأكثر ظهوراً في هذا الوقت لا يكاد يظهر اهتماماً بقضية التنوير الديني، ولا يشتغل على هذه القضية، ولا يعنيه أن يقدم صورة لامعة عنها، كما لا يحاول التأكيد على إمكانية التلازم بين المرجعية الدينية والتنوير.
وفي الحالة الثالثة، فإن العالم، وخصوصاً بعد أحداث 11 سبتمبر، بدأ يرى بأن خطاب التشدد والتطرف هو الأشد قوة وحضوراً في المجتمعات العربية والإسلامية. ومع تلك الأحداث انقلبت صورة الإسلام والخطاب الإسلامي في المجتمعات الغربية، وأصبحت الأنظار لا تتوجه ولا تلتفت إلاّ إلى الخطاب المتشدد والمتطرف. والذي تضرر في مثل هذه الحالة هو خطاب التنوير الديني!
من هنا كانت الضرورة لطرح سؤال ما هو التنوير الديني؟
التنوير الذي يفترض فيه أن يعيد الاعتدال إلى المجتمعات العربية والإسلامية، ويرسخ نهج الوسطية، ويؤسس لمفهوم العقلانية الإسلامية، ويعطي الاهتمام لقضايا العمران والتنمية والتقدم، وتعزيز مكانة الدين والقيم والأخلاق في هذا العصر، والتواصل مع العالم على قاعدة الشراكة الحضارية وتعارف الحضارات.
وعن مفهوم التنوير الديني فإنه لا بدّ من القول ابتداء بأن التنوير مصدره النور، والنور من التسميات التي وردت في القرآن الكريم، لهذا لن يكون هناك رفض أو ممانعة أو حذر في استعمال مصطلح التنوير، وكون التسمية وردت في القرآن الكريم، فهذا يتطلب أن نبدأ من النص القرآني، فقد جاء في قوله تعالى: { الله ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور والذين كفروا أولياؤهم الطاغوت يخرجونهم من النور إلى الظلمات } (البقرة: 257)، فالآية تربط بين الإيمان والنور، وتقابل بين النور والظلمات، وهذا الربط والتقابل تكرر في آيات عديدة، الأمر الذي يلفت النظر إلى
________________________________________

[الصفحة - 40]


البحث عن تحليل هذه العلاقة وتفسيرها، ويمكن أن نفهم هذه العلاقة من خلال الرؤية التالية:
أولاً: الربط بين الإيمان والنور ناظر إلى الجانب الذهني والفكري والعقيدي عند الإنسان، والتقابل بين النور والظلمات ناظر إلى الجانب السلوكي والحياتي والتطبيقي. وهذا يعني أن التنوير له جانبان، جانب يتصل بالعقيدة والفكر، وجانب يتصل بالسلوك والعمل، الجانب الأول ويتشكل على قاعدة الإيمان ويتصل به الإنسان عن طريق العقل والقلب، والجانب الثاني يتشكل على قاعدة العمل ويتصل به الإنسان عن طريق الفعل والممارسة.
ثانياً: إن الإيمان هو تغيير لرؤية الإنسان إلى العالم، وإلى مكانة ودور الإنسان في هذا العالم. الرؤية التي تستند إلى التزام وتكليف ومسؤولية تخرج الإنسان من العبثية والعدمية واللاهدفية، وتجعله يتطلع إلى أهداف نبيلة وسامية، وتقوده من الظلمات إلى النور.
وجماع القول إن التنوير في الرؤية الدينية يتشكل على قاعدة العقل الذي لا يتصادم أو يتفارق مع الدين، وهذا هو الفارق الجوهري بين الرؤيتين الدينية وغير الدينية. ونحن اليوم بأمس الحاجة لاستكشاف وتعميق مكونات التنوير الديني لتغيير الصورة عن الإسلام والخطاب الإسلامي.
منبع التنوير الديني
حينما وصف الله سبحانه وتعالى ذاته بالنور في قوله تعالى { الله نور السماوات والأرض} (النور: 35) أراد أن يخبر بأنه مصدر ومنبع النور للإنسان في هذا العالم، وليس هناك مصدر ومنبع آخر يمكن أن يلجأ إليه الإنسان، بحثاً عن النور الذي يخرجه من الظلمات، وهذا يعني أن ما دون الله هو الظلمات.
وقد توقف المفسرون كثيراً أمام هذه الآية، قديماً وحديثاً، وهكذا الفلاسفة والحكماء، بحثاً وتأملاً في الحقل الدلالي لهذه الآية، وحكمها ومقاصدها، وتذوقاً لجمالية هذه الآية، وجميع الآيات جميلة، وهذا الوصف البديع. فليس هناك ما هو أبلغ
________________________________________

[الصفحة - 41]


من أن يصف الله تعالى ذاته بأنه نور السماوات والأرض، وليس باستطاعة أحد أن يدعي لنفسه مثل هذا الوصف.
والمعنى العام لهذه الآية أن الله ظاهر في ذاته كظهور النور، مظهر لغيره بما يشمل كائنات السماوات وكائنات الأرض؛ لأن بالنور تنكشف وتظهر الأشياء للعيان. والله تعالى هو أظهر شيء في هذا الكون؛ لأنه نور السماوات والأرض، وليس هناك ما هو أظهر منه، وكل شيء في هذا الكون، في السماوات والأرض يدل ويرشد إلى الله تعالى؛ لأن نوره يظهر على كل شيء.
ويرى السيد محمد حسين الطباطبائي في تفسيره (الميزان) أن تعريف النور بالظاهر بذاته المظهر لغيره، هو أول ما وضع عليه لفظ النور، ثم عمم كل ما ينكشف به شيء من المحسوسات على نحو الاستعارة، ثم عمم لغير المحسوس، فعد العقل نوراً تظهر به المعقولات.
وبعد أن وصف الله ذاته بالنور، شبه هذا النور بمثال بديع في تتمة الآية السالفة الذكر، بقوله تعالى{ مثل نوره كمشكاة فيها مصباح المصباح في زجاجة الزجاجة كأنها كوكب ذري يوقد من شجرة مباركة زيتونة لا شرقية ولا غربية يكاد زيتها يضيء ولو لم تمسسه نار نور على نور يهدي الله لنوره من يشاء ويضرب الله الأمثال للناس والله بكل شيء عليم } (النور: 35).
في هذه الآية يشبه الله تعالى نوره على صورة مصباح يضيء الكون برمته، ومنه ينبعث النور في السماوات والأرض.
ويرى محمد إقبال أن وصف الله بالنور كما جاء على لسان اليهودية والمسيحية والإسلام، حين يفسر قياساً إلى العلم الحديث يعطي معنى، هو الأقرب في نظر إقبال إلى ذلك الوصف، فتعاليم الطبيعيات الحديثة، كما يقول، تقرر أن سرعة انتشار الضوء لا يمكن أن يفوقها شيء، وأنها واحدة بالنسبة لجميع الذين يشاهدونها مهما اختلفت طريقة حركتهم، وعلى هذا يكون الضوء أقرب الأشياء إلى المطلق. وإطلاق النور مجازاً على الذات الإلهية، يجب أن يؤخذ في رأي إقبال على أنه إشارة إلى أن الذات الإلهية مطلقة.
________________________________________

[الصفحة - 42]


وهناك من حاول الاستفادة من التحليل العلمي لظاهرة النور في إطلاق هذا الوصف على الذات الإلهية، فالنور يتميز بعدة مزايا، منها:
1ـ أنه أجمل وألطف ما في هذا العالم، وهو مصدر لكل جمال ولطف.
2ـ أنه أسرع الأشياء إذ تبلغ سرعته ثلاثمائة ألف كيلو متر في الثانية، وبإمكانه الدوران حول الكرة الأرضية سبع مرات في أقل من ثانية واحدة.
3 ـ به يمكن مشاهدة الأشياء في العالم، ومن دونه يستحيل رؤية أي شيء (1).
وبالتالي فإن وصف الله بالنور، هو وصف بالجمال، والهيمنة المطلقة، والتأثير على كل شيء.
أما المفسرون فقد نظروا إلى تلك الآية من جهتين، طبيعية وتشريعية. طبيعية بمعنى أن الله منور السماوات والأرض بالشمس والقمر والنجوم، وتشريعية بمعنى أن الله هاد لأهل السماوات، وهاد لأهل الأرض، ومزين السماوات بالملائكة، ومزين الأرض بالأنبياء والعلماء والأئمة.
وحين أراد الراغب الأصفهاني في مفرداته لغريب القرآن، أن يجمل الحديث عن كلمة النور كما وردت في القرآن الكريم، اعتبر أن النور هو: الضوء المنتشر الذي يعين على الإبصار، وذلك ضربان دنيوي واُخروي، فالدنيوي ضربان: ضرب معقول بعين البصيرة، وهو ما انتشر من الأُمور الإلهية كنور العقل ونور القرآن. ومحسوس بعين البصر، وهو ما انتشر من الأجسام النيرة كالقمرين والنجوم والنيرات. فمن النور الإلهي قوله تعالى: { قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين }(المائدة: 15)، وقال: { وجعلنا له نوراً يمشي به في الناس كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها }(الأنعام: 91)، وقال: { ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان ولكن جعلناه نوراً نهدي به من نشاء من عبادنا }(الشورى: 52)، وقال: { أفمن شرح الله صدره للإسلام فهو على نور من ربه } (الزمر: 22)، وقال: { نور على نور يهدي الله لنوره من يشاء } (النور: 35).
ومن المحسوس الذي بعين البصر نحو قوله: { هو الذي جعل الشمس ضياءً والقمر نوراً } (يونس: 5)، ومما هو عام فيهما قوله: { وجعل الظلمات والنور }
________________________________________
(1) الشيخ ناصر مكارم الشيرازي، الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل، بيروت: دار إحياء التراث العربي، ج11، ص 76.

[الصفحة - 43]


(الأنعام: 1)، وقوله: { ويجعل لكم نوراً تمشون به } (الحديد: 28)، وقوله أيضاً: { وأشرقت الأرض بنور ربها } (الزمر: 69)، ومن النور الأُخروي قوله: { يسعى نورهم بين أيديهم } (الحديد: 12)، وقوله: { والذين آمنوا معه نورهم يسعى بين أيديهم وبأيمانهم يقولون ربنا أتمم لنا نورنا فالتمسوا نوراً } (التحريم: 8)(2).
وهذا يعني أن كل ما جاء من عند الله تعالى فهو نور، ومنبع للتنوير، وإننا ينبغي أن نتعرف على نور الله في السماوات، ونور الله في الأرض بالتفكر والتأمل والتعقل، لنكتسب المعرفة بعالم الطبيعة وعالم التشريع، وهذا هو منبع التنوير الديني.
التنوير الديني وإعمال العقل
عندما تحدث لنا القرآن الكريم في آيات عديدة مكية ومدنية، عن مشكلة ما وجدنا عليه آباءنا، التي اعترضت طريق الأنبياء والرسل في تبليغ رسالاتهم السماوية إلى المجتمعات التي بعثوا إليها، أراد من الحديث عن هذه المشكلة، تصوير أن الرسالات السماوية إنما جاءت لتحرير العقول، وتحريض الناس على إعمال العقل، والتخلص من ذهنية القصور في الفهم، ومن منهجية التقليد والاتباع الساكن والجامد، وحتى لا يقول الناس: { بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا } (البقرة: 170)، أو{ حسبنا ما وجدنا عليه آباءنا } (المائدة: 104).
وقد صور لنا القرآن حجم هذه المشكلة وخطورتها عندما ظل يذكر بها، ويلفت النظر إليها في مرات عديدة، وفي مناسبات مختلفة، وبالإشارة إلى أقوام وجماعات متعددة، لكي يدعونا إلى التأمل والتدبر في هذه المشكلة، التي يتوقف الإنسان فيها عن إعمال عقله، ويرتد إلى الوراء مبرراً لعجزه وخموله، ومعطلاً لعقله وفكره، قال تعالى { وإذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله قالوا بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا أولو كان أباؤهم لا يعقلون شيئا ولا يهتدون } (البقرة: 170)، فهذه الآية تصور أن اتّباع الآباء في مثل هذا الموقف لم يكن على أساس عقلي سليم، فالبعض يتبع الآباء حتى لو كان آباؤهم لا يعقلون شيئاً، ولا يهتدون.
فإن { لا يعقلون شيئاً } ناظرة إلى جانب النظر، { ولا يهتدون } ناظرة إلى
________________________________________
(2) الراغب الأصفهاني، المفردات في غريب القرآن، تحقيق: محمد خليل عيتاني، 2001م، ص 510.

[الصفحة - 44]


جانب العمل، فالذي لا يتعقل لا يهتدي.
وقد وجد الشيخ محمد عبده ضرورة أن يتوقف ناظراً إلى قوله تعالى: { لا يعقلون شيئاً } ، حتى لا يشكل هذا العموم على بعض الأفهام. وبيّن المعنى في تفسير المنار، على ثلاثة أوجه:
الأول: أن معناه لا يستعملون عقولهم في شيء مما يجب العلم به، بل يكتفون فيه كله بالتسليم من غير نظر ولا بحث.
الثاني: أنه جارٍ على طريقة البلغاء في المبالغة، بجعل الغالب أمراً كلياً عاماً. إذ يقولون عن الضال في عامة شؤونه إنه لا يعقل شيئاً ولا يهتدي إلى الصواب، ويقولون عن البليد إنه لا يفهم شيئاً، وهذا لا ينافي أن يعقل الأول بعض الأشياء، ويفهم الثاني بعض المسائل.
الثالث: أنه ليس الغرض من العبارة نفي العقل عن أبائهم بالفعل، وإنما المراد منها أن يتبعون آباءهم لذواتهم، كيفما كان حالهم، حتى لو كانوا لا يعقلون شيئاً ولا يهتدون (3).
لهذا فأن القرآن الكريم جاء ليقول للناس إنكم لكم عقول، ولا ينبغي اتّباع الآخرين بطريقة تجمد العقل، حتى لو كان هؤلاء آباؤكم، وهم أقرب الناس إليكم.
وهذا من منابع التنوير الديني في القرآن الكريم، الذي يدفع الإنسان لأن يتحرر من الركون إلى الآباء لمجرد أنهم يحملون هذه الصفة، فهذا لا يبرر له أن يعطل عقله، ويجمد فكره، في مقابل معرفة الحق واتّباعه. وإنما عليه أن يستشعر الثقة والشجاعة في إعمال عقله، وينزع عن نفسه حالة القداسة التي تعمي العقل، وحالة التقليد التي تجمد الفكر.
ويقارب هذا المعنى ما أشار إليه الفيلسوف الألماني (امانويل كانت)، في نص شهير له، عندما أجاب في عام 1784م، عن سؤال طرحته صحيفة ألمانية على مفكري ألمانيا في ذلك العصر، وكان السؤال ما هو التنوير؟
فأجاب (كانت) إنه خروج الإنسان عن حالة قصوره، ذلك القصور الذي يكون الإنسان ذاته مسؤولاً عنه. وأعني بالقصور عجز الإنسان عن استخدام فهمه دون توجيه
________________________________________
(3) الشيخ محمد رشيد رضا، تفسير القرآن الحكيم (تفسير المنار)، 1999م، ج2، ص 74.

[الصفحة - 45]


الآخرين. وأن الإنسان ذاته هو المسؤول عن ذلك القصور؛ لأن السبب لا يعود إلى عيب في الفهم، وإنما يرجع إلى غياب القدرة على اتخاذ الموقف، والشجاعة في استخدام الفهم دون قيادة الآخرين. واعتبر (كانت) أن شعار الأنوار يتلخص في هذه العبارة: اُجرُؤْ على استخدام فهمك الخاص.
وما ذهب إليه (كانت) يماثل ما أراد أن يقوله القرآن الكريم عند حديثه عن اتّباع ما وجدنا عليه آباءنا، فقد أراد القرآن أن ينبه الإنسان إلى عقله، لكي يتحرر من العجز والضعف والإحساس بالقصور في الفهم.
متى تنطلق حركة التنوير في العالم الإسلامي؟
العالم الإسلامي اليوم بحاجة لأن يطلق من داخله حركة تنوير واسعة وشاملة، تجابه وتحاصر ما تفشّى في محيطه وبيئته من ظواهر التطرف والعنف والتكفير، التي وصلت إلى وضع خطير للغاية. فلأول مرة في تاريخ العالم الإسلامي الحديث يظهر هذا المستوى الكمي والكيفي المتصاعد من العنف، وبهذا الاتساع الذي يكاد يمتد على طول الجغرافيا الإسلامية من المغرب غرباً إلى أندونيسيا شرقاً، ويتصاعد بطريقة يتجاوز حدود ومساحة هذه الجغرافيا ليصل إلى مناطق بعيدة ومتعدد في جغرافيا العالم، ويتحول إلى مصدر خطر يتأثر منه المجتمع الإنساني برمته، وبشكل أصبح يخيف العالم، ويظهر العالم بوجه مخيف، بعد أن تحول العنف إلى قوة ضاربة تصل إلى كل مكان من حيث نعلم ومن حيث لا نعلم.
أمام هذه الظاهرة المرعبة التي يتملكها الرغبة في القتل بتمييز أو بدون تمييز، وتحصد معها الكثير من الأرواح البريئة والمعصومة، التي لا تستثني منها الأطفال والنساء والشيوخ، وهم الفئات التي أمرتنا جميع الشرائع السماوية بمساعدتهم والإحسان إليهم، أمام هذه الظاهرة كان لا بدّ من انبعاث حركة تنويرية تكون رداً شافياً على تلك الظاهرة، ومجابهة وعلاجاً لها.
وأخطر ما في هذه الظاهرة ذلك الجانب اللامرئي فيها، وهو عالم الأفكار الذي منه تنسج خيال الحوافز، وتخلق المسوغات ويشرع لها، وتزود الإرادة بالطاقة والرغبة
________________________________________

[الصفحة - 46]


والإقدام على الفعل. وهذا يعني أن ظاهرة العنف ما تفشّت في العالم الإسلامي إلاّ عندما تفشّت الثقافة أو الإيديولوجية الحاضنة والمولودة لها، والمشجعة عليها.
واللافت في الأمر هو كيف تفشت هذه الإيديولوجية بهذا المستوى من التجذر والامتداد، وبهذه القدرة على الفاعلية والتأثير، وكأنها الإيديولوجية الغالبة والمتفوقة على غيرها من المنظومات الثقافية الأُخرى! أو كأنها الإيديولوجية التي كانت تنشط في غفلة عن تلك المنظومات الثقافية! أو كأن هذه المنظومات فقدت سحرها وبريقها، وتقلص نفوذها وتراجعت، تاركة الساحة لتلك الإيديولوجية تفعل فعلها في عقول الناس.
ومهما كانت التفسيرات ومعقوليتها أيضاً، يبقى أن الجميع أخذته الدهشة والحيرة، في أن يكون لمثل هذه الإيديولوجية العمياء كل هذا الحظ والحض في التأثير والغلبة والانتشار.
ولا شك أن هذا الوضع يشكل أعظم حافز لأن يطلق العالم الإسلامي من داخله حركة تنويرية تساهم في تهذيب تلك الإيديولوجية، وإعادتها إلى رشدها، أو تساهم في اقتلاعها واجتثاثها من جذورها.
ولكي يتمكن العالم الإسلامي من إطلاق مثل هذه الحركة التنويرية، بحاجة لأن يتضامن مع ذاته في مجابهة تلك الإيديولوجية، التي جعلت العالم الإسلامي في نظر العالم، وكأنه مصدر ومنبع أفكار التطرف والعنف والكراهية، أو أنه تحول إلى مصدر خطر وتهديد على أمن وسلامة المجتمع الإنساني. ولن تتغير هذه الصورة في رؤية العالم الإسلامي إلى ذاته، أو في رؤية المجتمع الإنساني له، ما لم نتقدم باتجاه بعث حركة التنوير في داخلنا.
وفي تجارب بعض المجتمعات المعاصرة ارتبط انبعاث حركة التنوير بظروف تشابه إلى درجة، ما يجري اليوم في العالم الإسلامي، فهناك بعض الباحثين المعاصرين من يرى أن بدايات حركة التنوير في ألمانيا جاءت بعد ما سمي بحرب الثلاثين عاماً (1618 ـ 1648م) وهي الحرب الدينية العنيفة التي حصلت داخل الديانة المسيحية بين الكاثوليك والبروتستانت، وقد جاء التنوير لكي يضع حداً لتلك التأويلات
________________________________________

[الصفحة - 47]


والتفسيرات التي منها انبعثت الحرب الدينية هناك.
والسؤال الذي نطرحه نحن على أنفسنا، هل أن العالم الإسلامي أصبح جاهزاً لأن يطلق من داخله حركة التنوير؟
________________________________________

[الصفحة - 48]

 
فروع المركز

فروع المركز

للمركز الإسلامي للدراسات الإستراتيجية ثلاثة فروع في ثلاثة بلدان
  • العنوان

  • البريد الإلكتروني

  • الهاتف