البحث في...
إسم البحث
الباحث
اسم المجلة
السنة
نص البحث
 أسلوب البحث
البحث عن اي من هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على كل هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على هذه الجملة

الفلسفة السياسية في الإسلام(1)

الباحث :  الشيخ عباس علي عميـد الزنجـاني
اسم المجلة :  مجلة المنهاج
العدد :  35
السنة :  السنة التاسعة خريف 1425هجـ 2004 م
تاريخ إضافة البحث :  March / 2 / 2015
عدد زيارات البحث :  2294

الفلسفة السياسية في الإسلام(1)

الشيخ عباس علي عميـد الزنجـاني (*)

المبحث الأول
تكـوّن الفلسـفة السـياسـية
العديد من العلوم البشرية، مثل: الفلسفة، التاريخ، علم الاجتماع، الاقتصاد وعلم النفس الاجتماعي تطرح، خلال تحليلاتها النهائية نتائج مرتبطة بكيفية إدارة الدولة والحكم وتنظيم العلاقات بين المؤسسات السياسية، فتصل نفسها من هذا البعد بعلم السياسة. وخلال عملية التضارب العلمي هذه تظهر أسس واتجاهات مختلفة في دراسة المسائل السياسية، وبهذا الشكل تظهر أفكار سياسية متنوعة من تلك الأسس والاتجاهات،كل اتجاه يطرح أفكاره الخاصة في ما يتعلق بمختلف المواضيع والمقولات السياسية.
وعادة ما تسمى هذه الأسس والاتجاهات الفكرية المتضاربة في حقل السياسة بـ«الفلسفة السياسية». وقد تكون هذه الاتجاهات متطابقة مع أسس الفلسفة السياسية ومن نوع المباحث الفلسفية، لكنها أحياناً أخرى تنتمي إلى مقولات أخرى، مثل علم الاجتماع والتاريخ والاقتصاد.
وفي جواب السؤال عن مبدأ الفلسفية السياسيةوعلاقتها، يقول بعض الباحثين: لو عرّفنا علم السياسية - بالمعنى العام - على أنه فنّ إدارة الدولة وكسب القدرة الاجتماعية،
________________________________________
(*) باحث من إيران، ترجمـة : عــلاء رضــائي

[الصفحة - 275]


فإن من كتبوا في هذا المجال يجب أن نعدّهم المؤسسين للفلسفة السياسية، وكما هي الحال فإن أغلب المؤلفين يبدأون الحديث من أفلاطون (1) ، لكن ذلك يصدق في ما لو كان جميع المؤلفين في حقل العلوم السياسية لـهم اتجاهات وأسس فكرية مدروسة من قبل، ويمكن أن يصدق ذلك في ما يخص الفلاسفة، لأن الفكر السياسي لم ينفصل أبداً عن الفلسفة. وقد طرحت المذاهب الفلسفية دوماً أفكاراً سياسية، وأينما تحرك الفكر البشري لمعرفة ماهية الوجود وعلاقات العلة بالمعلول في ظواهر الخلق، تطرق إلى المجتمع، والإدارة السياسية والحكومة والدولة وسائر القضايا السياسية.
في الفلسفة إذ تبحث فيها قضايا مثل: علاقة الخلق بالإنسان وتأثير القوى الموجودة في العالم على الإنسان في حياته وتأثيره على الخلق، خصوصاً في القضايا التي ترتبط بحياته، وهكذا قضايا مثل: طبيعة الإنسان وما أودع في داخله، وكيفية السلوك البشري، فإن تبعاتها تشمل بالتأكيد البحث في الإنسان والمجتمع والدولة، بالشكل الذي يؤدي أي نوع من التفسير لكل منها إلى طرح فكرة أو مفهوم حول الحكومة وكيفية إدارة المجتمع ونوع السلطة.
وهذا الأمر صادق في ما يتعلق بالعلوم الاجتماعية الأخرى أيضاً، وكل واحد منها يمكنه طرح أسس جديدة في الفكر السياسي، ولهذا فقد بدأ بعض كتاب تاريخ الفكر السياسي دراساتهم من هيرودوتس (2) المؤرخ اليوناني المشهور، ومن هذه الناحية فقد قام بعض المفكرين أو الفلاسفة مثل: هيغل وهوبز وماركس وأغوست كونت (3) باستنتاج فلسفات سياسية مختلفة.
وفي هذا الصدد نرى أن هوبز انطلق في فلسفته السياسية من الرياضيات، وبخاصة طرق الاستدلال الهندسية، إذ يقول: «الاستدلال مجرد قضية حساب، جمع وإسقاط نتائج الأسماء العلمية التي نختارها للترقيم والتمييز بين أفكارنا» (4) ، وأغوست كونت الذي استفاد في فلسفته السياسية وعلم الاجتماع الوضعي من الاتجاهات العلمية في الميكانيك (5).
وقبل هؤلاء أسس كل من آدموند برك (6) وروسو وهيغل فلسفاتهم السياسية على أساس التوفيق بين العلم والفلسفة، فكانت نتيجة الفلسفة السياسية عند برك «المحافظة» وعند روسو«العقد الاجتماعي» وعند هيغل «الديالكتيك
________________________________________
(1)-د. -حميد -عنايت، -اُسس -الفلسفة -السياسية -في -الغرب، -ص1.
(2)-Herododus.
(3)-A. -comte.
(4)-د. -حميد -عنايت، -مصدر -سابق، -ص -198.
(5)-ماركوز، -العقل -والثورة، -ص416.
(6)-Edmun -Brke -

[الصفحة - 276]


والحتمية التاريخية». وكانت هذه النتائج في الحقيقة المقياس الأصلي في التحليل والفكر السياسي، وعُدَّت أداة لمعرفة الدولة القومية باعتبارها تجلياً للقدرة السياسية.
ويعتقد بعض الباحثين، أيضاً، أن الفكر السياسي ينطلق دائماً على أساس فلسفة سياسية معينة. في ما تتكون بعض الأفكار السياسية بشكل يومي، فيقوم المفكر السياسي بتفسير الوضع القائم وتبريره بمحاولة التغيير فيه من دون اختيار أساس ودليل لأفكاره، فلا يتقدم بأفكاره أبعد من الأحداث اليومية. حتى أفكار «برك» السياسية فقد عدَّها بعضهم فاقدة للفلسفة السياسية لأنها انفعالية وجاءت رَّد فعل على بعض الأحداث والوقائع التاريخية (7).
وعلى هذا يمكن التردُّد في الفلسفات السياسية التي طرحها أشخاص مثل: ميكافيللي، هوبز، لوك، هيوم (8) وهيغل أيضاً، على أساس مواقفهم إزاء القضايا السياسية.
عندما يأخذ ماركس بالحتمية التاريخية متبعاً بذلك هيغل، يضطر للجوء إلى العلاقة بين الحرية والضرورة التاريخية، بدل نفي الحرية الذي يؤدي إلى مشكلة سياسية، ويرى أن الحرية يمكن تحقيقها من خلال العلاقة بالضرورة، ويرى أن الحرية تأتي من معرفة الضرورات التاريخية واستخدام اُصول هذه الضرورات باتجاه غايات معينة (9) . وبهذا الشكل تكون حصيلة الفلسفة السياسية الماركسية ـــ حسب ماجاء في كتاب إعادة النظر من ماركس إلى ماو (10) ـــ هي أن للحرية معنيين:
الأول: الحرية في بيع قوى العمل،
والثاني: الحرية للخلاص من أي نوع من الملكية (11).
والفكر المادي الذي يسيطر على الأفكار والفلسفات السياسية لمثل هؤلاء المفكرين، يكون في الحقيقة ناقضاً لاعتباره وعموميته بنفسه لأنه، وعلى أساس هذا الفكر المادي، فإن قيمة النتائج المستخلصة دوماً محدودة بمرحلة زمنية معينة حدثت من قبل، ويصدق ذلك أيضاً على ما يتعلق بالمادية التاريخية والفكر والسياسي الناشء منها، وبهذا الشكل تُنقض هذه النظرية. أما الغريب فهو أن تعدّ مثل هذه النظريات الفارغة، علمية، والأغرب الدعاية لنشرها وقد وصفها الأستاذ الشهيد المطهري عجيبة وتستحق إعادة النظر فيها (12).
________________________________________
(7) جورج -ساباين، -تاريخ -النظريات -السياسية، -ج2، -ص246.
(8)--D. -Hume
(9)-اندره -بيتر، -ماركس -والماركسية، -ص39.
(10)-Mao -Tse -- -tung.
(11)-انور -خامنئي، -التجديد -من -ماركس -إلى -ماو، -ص357.
(12)-مرتضى -المطهري، -المجتمع -والتاريخ، -ص147.

[الصفحة - 277]


المبحث الثاني
مجموعة عناصر الفكر السياسي، جزء من الإسلام كله
في بيان الفلسفة السياسية الإسلامية، يجب ألاّ نغفل عن هذه القضية الأصولية، وهي أن السياسة والحكومة مثل سائر القضايا الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والأخلاقية، جميعها أجزاء من كل، مترابطة في ما بينها وليس بعضها مستقلاً عن بعضها الآخر.
الإسلام مجموعة من المقولات المترابطة، والسياسة واحدة منها، وهكذا الاقتصاد، النظام التربوي، القوانين الاجتماعية والمدنية و... فجميعها عناصر لمجموعة واحدة. وإن دراسة كل جزء أو عنصر من هذه المجموعة بشكل مستقل ودون الأخذ بالعناصر والأجزاء الأخرى يؤدي إلى فهم منحرف وغير صحيح عن الإسلام. لأن دراسة جزء أو عنصر من دون الأخذ بالأجزاء والعناصر الأخرى لا يعبر عن الواقع والحقيقة الإسلامية، ولابد من أجل إدراك صحيح ان تكون الدراسة شاملة وآخذة بنظر الاعتبار الأجزاء والعناصر الأخرى للحدّ الذي قد يؤدي تطبيق واحدة من تلك الأجزاء دون الأجزاء الأخرى إلى إعطاء نتيجة عكسية والإتيان بما لا يريده الشارع المقدس.
مشروع الإمامة، من الناحية العقدية والثقافية، من أهم الأسس الايديولوجية الإسلامية، كما أنها من الناحية السياسية والاجتماعية تعد من أبرز الأسس الثورية في الفقه الإسلامي. وفي التحليلات التقليدية غالباً ما نشاهد اهتماماً متزايداً بموضوعين فقط، هما: شروط الإمام، ومسؤوليات الإمامة. رغم أن البحث في هاتين المقولتين يمكن أن يقدم إجابات عديدة لما يطرح في مجال الإمامة.
لكن وضوح هذا البحث يكون عندما تتضح ماهية الإمامة والعناصر المؤلفة لـها ضمن مشروع ايديولوجي ثوري. فعلى أساس نوع الإمامة وشكلها تتحدد شروط الإمام ومسؤولياته. من جانب آخر، فإن مسألة الإمامة قبل ان تشكل بحثاً كلامياً وفلسفياً فإنها ترتبط بالحياة الاجتماعية التي تشكل القيادة السياسية أبرز خصائصها. لذلك تعد الإمامة من أكثر المباحث الدينية حيوية، ومن هذا البعد تكون الإمامة ضمن دائرة أبحاث علم الاجتماع السياسي، علم السياسة والقانون الدستوري.
________________________________________

[الصفحة - 278]


ومن أجل إعطاء صورة صحيحة عن القيادة الايديولوجية في المجتمع، يطرح القرآن الكريم مفهوم الإمامة الذي يعبر عن حالتين: القيادة والاتباع، بدل استخدام كلمات، مثل: رائد، قائد، راعٍ، حاكم، سلطان، رئيس، زعيم وقيّم. من جانب آخر استخدم القرآن الكريم مفهوم الأمّة بدل: الشعب، القبيلة، القوم، الطبقة، المجتمع، الطائفة، الجيل، المواطن، الجماهير وغيرها.
واللفظتان: الإمام والأمة، مأخوذتان من كلمة «أمّ» بمعنى الأصل، المبدأ، الجذر، الأم التي ترتبط بها الاشياء الأخرى مثل: محل الرجوع، المقصد، الرئيس، العمود، الوسط، المركز والعزم.
وفي تحقيق جميع هذه المعاني، الحركة، الهدف الوعي... هناك قرار متخذ عن وعي، وهذه الخصائص الموجودة في مفهومي الإمام والأمة جعلتهما يتمايزان عن مشابهاتهما من الكلمات والألفاظ المرادفة لـهما في الظاهر.
الارتباط الأساسي والمقدس في الثقافة الإسلامية، بين الناس ليس على اشتراكهم في الدم والعرق، أو الأرض والحدود الجغرافية، أو الاجتماع والاشتراك على غاية هدف (أيّاً كان) أو التشابه في شكل العمل واستخدام أدواته، أو بسبب التشابه في الحيثية والمكانة الاجتماعية وطريقة الحياة، أو لوجود عدو مشترك، والاشتراك في المصالح الطبقية.
بل إن أهم عامل في الوحدة والارتباط الاجتماعي، هو تحرك الناس على طريق معين اختاروه عن وعي للوصول إلى هدف محدد، وهنا تكون القيادة المشتركة من مستلزمات هذا النوع من الوحدة والارتباط الاجتماعي.
لهذا فإن لفظتي الإمام والأمة، وفي تحليل نهائي، لـهما معنيان متلازمان، أو حسب التعبير المنطقي، نسبيان ومتضايفان. مثل لفظتي الأب والابن اللتين لايمكن فصل أحداهما عن الآخرى من حيث المعنى، وان كل واحدة تجد معناها في الأخرى، وعلى أساس المفهوم الخاص «للأمة» والذي يتضمن معاني التناغم والحركة والانتخاب والوعي والغاية، فإن القيادة في مفهوم الإمامة تعني الهداية والأخذ إلى الأمام وليس مجرد إدارة المجتمع والشعب: { وجعلناهم أئمة يهدون بأمرنا }(13).
أما إدارة المجتمع، أو ما يصطلح عليه بالسياسة (14) ، فإنها مشتقة من أصل الكلمة
________________________________________
(13)-السجدة: -32.
(14) Politics -

[الصفحة - 279]


باليونانية وقد استخدمها الغرب للدلالة على الحكومة وجميع أجهزتها.
وعلى أساس الاصطلاح المذكور، تكون مسؤولية الحكومة والقيادة في إقامة النظام والقانون في المجتمع، من أجل توفير الحياة السعيدة والرفاه للمواطنين. أما التربية والإرشاد الفكري والتعالي الإنساني فإنها قضايا خارجة عن حدود مسؤولية الحكومة.
في حين أن كلمة السياسة ومشتقاتها، في اللغتين العربية والفارسية، والتي تترجم مقابل politics الأجنبية فإنها ذات دلالة معنوية أوسع. لأن الكلمة استخدمت في البداية في ما يتعلق بتربية الخيول، لذلك ففي استخدامها في مجال إدارة شؤون البلاد تتضمَّن معاني تربوية وإرشادية أيضاً.
ولاشك في أن معنى السياسة -بالمفهوم الغربي- والذي يهدف إلى خدمة المواطنين والمجتمع قد يتحول أحياناً، أو في العديد من الموارد، إلى ما يناقضه في ما افرغ من محتواه التربوي والإرشادي والإصلاحي. في حين أن إدارة الدولة إلى جانب الهداية والتربية والإصلاح ستكون نهايته الخدمة الحقيقية للناس، حتى لو لم تستطع الدولة في بادئ الأمر توفير الرفاه اللازم لمواطنيها.
وبمقتضى الطبيعة السياسية -بمعنى إدارة شؤون الدولة والشعب والرفاه للمواطنين- نمت الحريات السياسية في الغرب، وظهرت روح الفردية (Indivdialism) والحرية الفكرية (Lebraleism) والديمقراطية(Democracy) وتألفت القيادة بمفهوم الإرادة الجماعية، والقيم والأصول.
ولكن الإفراط في هذا النوع من السياسة، جعل بعض المفكرين الغربيين يفكرون في إدخال مفاهيم الإصلاح والتوجيه ضمن ايديولوجية ثورية إلى السياسة وقيادة المجتمع، فأسسوا بذلك لحكومة الطبقة العاملة (البروليتاريا). وفي هذه المرة أيضاً كان الهدف الرفاه والسعادة، رغم أنهم تركوا مقولات الثروة والمكانة الاجتماعية، والأبناء، والدخل الكافي، والمستقبل المضمون، واكتفوا بالحد الأدنى من الخبز والسكن والعمل أو ما شابهها من الشعارات.
أما في الثقافة الإسلامية، فالقيادة بمفهوم الإمامة، عبارة عن سياسة تكون فيها الايديولوجية الإلهية والمستندة إلى الوحي هي التي تحكم جميع العلاقات الإنسانية، وفيها
________________________________________

[الصفحة - 280]


توجّه جميع المؤسسات، العلاقات الاجتماعية، الآراء، العقائد، الثقافة، الأخلاق، التقاليد، المتطلبات وبشكل عام جميع القيم في المجتمع الإنساني نحو النمو والتعالي الإنساني والمجتمعي، وهنا تطرح قضية بناء الإنسان وتكوين الأمّة بدل قضية إدارة الدولة ورفاه الإنسان وملاحظة الناس ورضاهم، في ما يتضمن هذا النوع من القيادة والسياسة السعادة بمعنى الرفاه الأفضل، لكن عكس ذلك لا يصدق أبداً.
والأمة في الثقافة الإسلامية لا تعني المجتمع الذي يهدف إلى الدعة والسعادة المادية والحياة الساكنة، ويكون الإنسان فيه متخلياً عن جميع المسؤوليات والتعهدات والآلام، أو أن يكون فيه المقياس هو حجم الاستهلاك والرفاه الفارغ من أيّ محتوىً إنساني.
كما أنّ الإمام، أيضاً، لا يعني القيادة التي تهدف إلى مجرد إرضاء ميول الناس وإدارة عجلة حياتهم المادية وضمان راحتهم وحرية شهواتهم، بل هو الإنسان الكامل والملتزم والمسؤول الذي يسعى لأن تكون حكومته على أساس ايديولوجي ومن أجل تحوّل وتكامل سريع في الفرد والمجتمع وهدايتهما نحو الكمال المطلوب، وأنه يستشعر هذه المسؤولية بنفسه وفكره وحياته، وهو في جميع الأحوال الأسوة والمثال الأفضل.
ويتحدد الهدف النهائي في حركة الأمّة وتوجيهات الإمام من خلال الأصل الآتي: { وإلى الله المصير } (15) ، ويكون العمل دائماً نابعاً من الإيمان بالايديولوجيا، لأن الذي يتجلى في العمل يعد العنصر الأساسي في معرفة مفهوم الإمام -الأمة، والاّ، حتى لو كان هناك نوع من الانسجام الفكري والعقدي بشكل ذهني ومجرد عن العمل، فإنه لا يكفي لتكوين أمّة وإيجاد علاقة صحيحة لـها مع الإمام وظهور نظام مطلوب.
كما أن حاجة بعض الأمم والشعوب إلى القائد والزعيم في مراحل تاريخية - بسبب حاجتها إلى طفرة وثورة كمسألة ضرورية وملحة-تختلف مع مفهوم الإمامة الواسع، المستمر، المتحرك دائماً، والثوري على الدوام، حتى أن مفهوم الأسوة لا يعبّر بشكل تام عن مفهوم الإمامة. لذلك فإن إخراج شخصية الإمام من دائرة الامكانيات البشرية، يعني قطع علاقته المنطقية والإنسانية بالأمة، ما يؤدي بالنهاية إلى سلب الإمامة منه.
والإمام في علم الكلام، هو الذي يكون الأسوة والمقتدى من حيث العمل بأحكام الشريعة والالتزام بالأوامر الإلهية، والذي يدير شؤون الأمّة اجتماعياً وسياسياً وعسكرياً
________________________________________
(15) سورة -فاطر: -18.

[الصفحة - 281]


على أساس قوانين الوحي، وهو الذي يطبق مشاريع الإسلام وأطروحاته ويكون الأنموذج والمثال الكامل للدين.
والإمامة، بمعنى استخلاف الرسول(صلي الله عليه و آله)-في تحمل جميع المسؤوليات ما عدا الوحي- لـها الولاية نفسها التي كانت للرسول(صلي الله عليه و آله)، في ما نجد التعبير القرآني واسعاً في شأن صلاحيات الرسول وولايته: { النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم } (16).
ومثل هذه السلطة والولاية التي تعدّ من لوازم تطبيق الحكم الالهي، لابد من أن تعهد إلى شخص معصوم عن الخطأ والذنب وسوء استخدام السلطة، لكي لا تأتي طاعته بتبعات مخربة ومضرّة. وعلى هذا لابد من من أن تكون عملية انتقال الولاية من النبي(صلي الله عليه و آله) إلى خليفته بهذه الملاكات. بمعنى لو كانت طاعة الخليفة مطلقة فإن ذلك يستدعي أن تكون لـه العصمة من الخطأ والذنب، وإلاّ يكون الإلزام بطاعة شخص جائز الخطأ غير معصوم من ذنب، إغراء بالجهل وبمعنى إجبار الأمّة على ارتكاب الخطأ والذنب.
وفي القرآن الكريم نشاهد أن الأمر بالطاعة للنبي وأولي الأمر جاء بصيغة واحدة: { أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم } (17) ، لـهذا لابد من أن يكون اُولو الأمر معصومين أيضاً.
وكما أن لفظة الرسول في الآية { وأطيعوا الرسول } ليست مطلقة ولا تشمل من ادعى الرسالة والنبوة بعد رسول الإسلام(صلي الله عليه و آله)، بل هي محددة بالذي أوحي القرآن إليه، محمد بن عبد الله(صلي الله عليه و آله)، فإن المراد بأولي الأمر في الآية المذكورة ليس المفهوم اللغوي العام، أي كل من استلم السلطة في المجتمعات الإسلامية، لأن في وصف الرسالة وكذلك ولاية الأمر بيان لعلة الطاعة وسببها. والواقع أن الآية تعني لزوم طاعة الرسول بدليل رسالته ولزوم طاعة أولي الأمر بدليل أولويتهم وتقدمهم على الآخرين. ومثلما نحتاج في إثبات رسالة الرسول إلى الرجوع إلى آيات أخرى فإننا نحتاج لإثبات أولوية أولي الأمر وثقدمهم ومصاديقهم إلى أسانيد أخرى.
وقبل العمل في ضوء الآية، لابد من من معرفة من هو رسول الله ومن هم أولو الامر. من جانب آخر، لو كان المراد من أولي الأمر جميع الخلفاء والحكام الذين استلموا السلطة على مدى التاريخ الإسلامي والعصر الحاضر في البلاد الإسلامية، فإن طاعتهم
________________________________________
(16) سورة -الاحزاب: -6.
(17) سورة -النساء: -59.

[الصفحة - 282]


تعني إلغاء الأحكام الإلهية وتناسي الأهداف السامية التي جاء بها الإسلام، والرجوع إلى جاهلية أسوأ من الجاهلية الأولى؛ لأننا نرى بوضوح انحراف هؤلاء الحكام عن الأحكام والقوانين الإلهية.
ومن أجل الخروج من هذه المشكلة، اضطر بعض المفسرين للآية إلى أن يحددوا مفهوم أولي الأمر بالمنتخبين من قبل الناس، واشتراط العمل طبق أحكام الإسلام في طاعتهم، بينما ذهب آخرون إلى عموم العلماء العدول.
لكن أياً من التفسيرين لا ينسجم مع إطلاق الأمر بالطاعة من أولي الأمر، كما لا توجد أية قرينة تقيد هذا الإطلاق بالنحوين: الأول أو الثاني، إضافة إلى ذلك يبقى الإشكال العقلي (الإغراء بالجهل) في الحالتين على حاله ولا يرتفع.
وعلى أساس ما تقدم، كما ان لكلمة الرسول مصداقاً محدداً، فإن لكلمة أولي الامر مصاديق محددة، فهم الأئمة المعصومون عليهم السلام - وهذا ما يتطابق والروايات التي جاءت في تفسير الآية الشريفة (18) - بل إننا نجد في بعض الروايات المنقولة عن الرسول(صلي الله عليه و آله) أسماء الأئمة المعصومين عليهم السلام واحداً تلو الآخر (19) .
فولاية الإمام المعصوم(عليه السلام) مثل ولاية النبي(صلي الله عليه و آله) مطلقة، ومن أجل تطبيق الحكم الالهي، وقد أقرّ القرآن الكريم هذا النوع المتساوي من الولاية من خلال استخدام لفظة «أطيعوا» للاثنين.
وفي حديث الغدير المعروف، نجد تصريحاً بتلازم الولايتين، قال(صلي الله عليه و آله): «معاشر الناس! ألست أولى بكم من أنفسكم؟» قالوا: بلى. قال(صلي الله عليه و آله): «من كنت مولاه فهذا عليّ مولاه» (20) . ويقول الإمام الصادق(عليه السلام): «ولايتنا ولاية الله التي لم يبعث نبياً قط إلاّ بها» (21).
وهذا التعبير صريح جداً في بيان ولاية الإمام(عليه السلام) بعد النبي(صلي الله عليه و آله)ومسؤوليته الكبرى في تطبيق أحكام الشريعة.
إنّ تلازم الإمامة بالوحي والكتاب يعدّ من أهم القضايا في مشروع الإمامة، وهو نفسه الدليل على عصمته وصيانته من الخطأ والذنب؛ وذلك لان مسؤولية الإمام في التربية والتعليم وتحقيق أهداف الرسالة تستوجب هذا التلازم والارتباط، وما الكتاب (القرآن) في الحقيقة إلاّ مخطط نظري لمشروع الإمامة، في ما يعدّ الإمام التجلي الموضوعي والتحقق
________________________________________
(18)-راجع: -بحر -المحيط، -ج3، -ص278; -إحقاق -الحق، -ج3، -ص425 -وتفسير -البرهان، -ج1، -ص381.
(19)-تفسير -الميزان، -ج4، -ص435.
(20)-الغدير، -ج1، -ص1; -صحيح -مسلم، -ج2، -ص325، -مسند -أحمد -بن -حنبل، -ج4، -ص173 -و182.
(21) اُصول -الكافي، -ج1، -ص362.

[الصفحة - 283]


العملي للكتاب (الوحي).
وفي ذلك نجد أبلغ التعابير في حديث الثقلين، إذ يقول الرسول الاكرم(صلي الله عليه و آله):
«إني تارك فيكم الثقلين ما إن تمسكتم بهما لن تضلوا أبداً: كتاب الله وعترتي أهل بيتي، وإنهما لن يفترقا حتى يردا عليَّ الحوض» (22).
مضمون الحديث يقدم صورة دقيقة عن الإمامة وتلازمها مع الدين، وكذلك فيه بيان لعصمة الإمام وصيانته من الخطأ والذنب والزلل والانحراف المتعمد عن المسار الذي رسمه الدين.
ولذلك نشاهد، في بعض النصوص الإسلامية، تعبيراً عن الإمامة بأنها المسار الديني والصراط، وقد وردت روايات في تفسيرالصراط المستقيم الواردة في سورة الفاتحة تبين هذه الحقيقة (23) . حتى أن العديد من الروايات نصّت على أن الالتزام بالدين واتباعه، القرآن والسنة النبوية الشريفة والتمسك بهما، تؤدي إلى الضلال والانحراف إذا كان السبيل إلى فهمها غير الإمام؛ لأنه مفتاح فهم القرآن والسنة والهداية من الضلال (24).
واذا رأينا أن التحول والتكامل من ضروريات الإنسان والمجتمع، فإن وجود قائد وإمام صالح للمجتمع لايعد فقط أحد نجاحاته الكبرى، بل وظيفة لابد من منها. وعلى هذا الاساس، تطبّق أهداف الإسلام ومثله، ويتحول المجتمع إلى أمّة عندما يعرف إمامه، لأن من دون تلك المعرفة لا يستطيع أي مسلم أن يرى نفسه جزءاً من الأمة، يذوب فيها ويشاهد التطبيق الموضوعي للدين، ويكون باستطاعته القيام بالوظائف التي حددها لـه ولجميع المسلمين.
من هذا الباب، كانت معرفة الإمام من أهم المعارف وأكثرها إلحاحاً على الإنسان المسؤول والمسلم الملتزم في حياته الاجتماعية؛ لأنه من دون الإمام لا يصل إلى الإسلام الحقيقي: «من مات ولم يعرف إمام زمانه مات ميتة جاهلية» (25).
فالإنسان الذي لا إمام لـه، لا أمّة تحتضنه، تراه تائهاً، حائراً، بلا هدف وبلا مسار معين في حياته الاجتماعية، وبالنهاية يضل الطريق ويكون طعمة للذئاب: «فإن الشاذ من الناس للشيطان، كما أن الشاذ من الغنم للذئب» (26).
________________________________________
(22) وسائل -الشيعة، -ج18، -ص19; -الطبقات -الكبرى -ج2، -ص194؛ -المعجم -الصغير -للطبراني، -ص73; -الدر -المنثور، -ج2، -ص60; -كنـز -العمال، -ج1، -ص342؛ -سنن -الدارمي، -ج1، -ص43؛ -واحقاق -الحق، -ج9، -ص303 - -377.
(23)-راجع: -تفسير -البرهان، -ج1.
(24) المصدر -نفسه؛ -ووسائل -الشيعة، -ج18، -ص139.
(25)-اُصول -الكافي -ج1، -ص377؛ -ومسند -احمد، -ج4، -ص96.
(26) نهج -البلاغة، -الخطبة137: -184، -تحقيق -الدكتور -صبحي -الصالح.

[الصفحة - 284]


وقد طرحت قضية ضرورة معرفة الإمام في علم الكلام بشكل آخر، ودرست من منظار آخر. ومن دون أدنى شك فإن قيادة الأمّة في زمن حياة الرسول الاكرم(صلي الله عليه و آله)كانت إلى جانب نبوته(صلي الله عليه و آله). وبعد رحيله إلى الرفيق الاعلى، لا يمكن أن تبقى قضية الإمامة، وهي من أهم قضايا الأمّة وأخطرها مهملة وبلا وصية أو قول. لأن الرسول(صلي الله عليه و آله) الذي كان يستخلف على المدينة عند الخروج مدَّة قصيرة إلى إحدى غزواته، كيف يترك الأمة على حالها من دون وصية بعد رحيله عنها؟
إضافة إلى ما تقدم، فإن احتمال تعيين إمام هي أقل حالة يستشعرها المسلم في ما يتعلق بقضية الإمامة، ما يستدعي ذلك، على أساس حكم العقل، البحث فيها والسعي لاثبات أو ذلك الشعور المحتمل إبطاله. من جانب آخر، فقد جعل القرآن الكريم طاعة الأئمة إلى جانب طاعة الله عز وجل والرسول الاكرم(صلي الله عليه و آله): { يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمرِ منكم } (27) ، والخطوة الأولى في القيام بهذه المسؤولية وهذا التكليف الذي اُلقي على عاتق المسلمين هي معرفة من هم أولو الامر.
وقد رأى القرآن الكريم أنَّ الإمامة هي قيادة المجتمع الإنساني، ووسيلة هداية الإنسان، وتجلي الإبداع الرباني في الأرض، وحجته، وأنها مرحلة أسمى من النبوة:
1 ـــ { واذ ابتلى ابراهيمَ ربُّه بكلمات فأتمهنّ قال إني جاعلُك للناسِ إماماً قال ومِن ذريتي قالَ لا ينالُ عهدي الظالمين } (28).
2 ـــ { وجعلنا منهم أئمةً يهدونَ بأمرنا لما صبروا وكانوا بآياتنا يوقنون } (29).
3 ـــ { لئلاّ يكونَ للناسِ على اللهِ حجةٌ بعدَ الرسل } (30).
ورغم أن الآية الأخيرة تخص الرسل، فإنها تبين ملاك الحاجة إلى الحجة والذي يصدق في ما يتعلق بالإمام والقائد أيضاً، من جانب آخر، هؤلاء الرسل وهم حجج الله كانوا حسب الآية الأولى أئمة أيضاً.
وقد عدَّ الرسول الأكرم(صلي الله عليه و آله) الإمام راعياً لأمته ومسؤولاً عن المجتمع الإسلامي: «الإمام راع ومسؤول عن رعيته» (31) وحسب تعبير نبي الإسلام(صلي الله عليه و آله)فإن الإمام هو الدرع القويم لأمته: «الإمام جُنّة» (32) . والإمام العادل يستظل بظل الله بسبب عدلـه، على حدّ رواية
________________________________________
(27) سورة -النساء: -59.
(28) سورة -البقرة: -124.
(29)-سورة -السجدة: -24.
(30)-سورة -النساء: -165.
(31)-البخاري، -كتاب -الجمعة، -الباب11؛ -والترمذي، -كتاب -الأحكام، -الباب -6؛ -ومسند -احمد، -ج3، -ص121.
(32) البخاري، -كتاب -الجهاد، -ص109؛ -ومسند -احمد، -ج3، -ص523.

[الصفحة - 285]


الرسول(صلي الله عليه و آله): «سبعة يظلهم الله... إمام عادل» (33).
وحديث: «الإمام ضامن» (34) ، رغم كونه مروي عن إمامة الصلاة، فإن إطلاقه يشمل إمامة المجتمع أيضاً، ومفهومه أوسع من معنى المسؤول الوارد في الحديث الأول (35).
وقد جاء من ألقاب رسول الله(صلي الله عليه و آله) الواردة في تحيته، عنوان «امام الخير وقائد الخير»، والذي يمكن أن يشمل مفاهيم الهداية والسياسة وإدارة المجتمع الواسعة.
وفي وصفـه للإمام وبيان مسـؤولياته يقول أمير المؤمنين علي بن أبي طالب(عليه السلام):
1 ـــ «فهو من معادن دينه وأوتاد أرضه قد ألزم نفسه العدل، فكان أوّل عدله نفي الهوى عن نفسه، يصف الحق ويعمل به، لا يدع للخير غاية إلاّ أمها، ولا مظنة إلاّ قصدها، قد أمكن الكتاب من زمامه فهو قائده وإمامه يحل حيث حلّ ثقله وينـزل حيث كان» (36).
2 ـــ «إنما الأئمة قوام الله على خلقه وعرفائه على عباده ولا يدخل الجنة إلاّ من عرفهم وعرفوه، ولا يدخل النار إلاّ من أنكرهم وأنكروه... ولا تفتح الخيرات إلاّ بمفاتيحه ولا تكشف الظلمات إلاّ بمصابيحه» (37).
ويصف الإمام الحسين(عليه السلام) الإمامة، فيقول: «فلعمري ما الإمام الا العامل بالكتاب والقائم بالقسط والدائن بدين الحق» (38).
وفي وصف جامع لـه عن الإمامة يقول الإمام علي بن موسى الرضا (عليه السلام) :
«إن الإمامة خلافة الله وخلافة رسوله... إن الإمام زمام الدين ونظام المسلمين وصلاح الدنيا وعز المؤمنين، الإمام أس الإسلام النامي وفرعه السامي... والإمام... عالم بالسياسة مستحق للرئاسة مفترض الطاعة قائم بأمر الله ناصح لعباد الله» (39).
والإمامة، بهذا المعنى وهذه المسؤوليات، لابد من أن تكون بشروط خاصة متوافرة تماماً في الإمام. ومن البديهي أن جميع الشروط والمقاييس والملاكات المطروحة في اختيار الإمام تعود بالنهاية إلى الطريق المطمئن لاختيار قائد صالح يستطيع أن يحافظ على صلاحه. والجميع يقبلون بهذا الشيء ويجمعون عليه، رغم اختلافهم في طريقة الوصول اليه.
________________________________________
(33)-ابن -ماجه، -كتاب -الصيام، -ص48؛ -والبخاري، -كتاب -الحدود، -ص19.
(34)-ابن -ماجه، -كتاب -الامامة، -الباب47.
(35) المصدر -نفسه، -الباب25.
(36)-نهج -البلاغة، -الخطبة87،
(37) المصدر -نفسه، -الخطبة152.
(38)-ارشاد -المفيد، -ص183; -والكامل -لابن -الاثير، -ج4، -ص41.
(39)-تحف -العقول، -ص323 -و324.

[الصفحة - 286]


والطريق المطمئن الذي يوصلنا إليه هو الدين والقيم والأصول الدينية من دون أدنى شك، وبخاصةٍ وان الإمام لابد من أن يكون أسوة تتجلى فيه جميع المعايير الدينية وأن يكون ماضيه وحاله ومستقبله مورد اطمئنان من قبل الأمة.
إن جميع الدلائل والبراهين التي أوردناها من حيث العصمة، العلم، القدرة وامتلاك الفضائل الإنسانية في ما يتعلق بالنبي والرسول، تصدق على الإمامة أيضاً. لأن أغلب صفات النبي هي في حيازته لمقام الإمامة والقيادة، وإلاّ فإن العلاقة بين النبي والله عز وجل هي علاقة خاصة: { الله أعلمُ حيثُ يجعلُ رسالته } (40).
وهنا لابد من من التذكير بهذه المسألة وهي رغم كون الإمامة منصباً ربانياً تقوم على أساس الاختيار الالهي، فإن الإمام وقبل أن ينصّب من قبل الله وقبل أن ترتضيه الأمة للقيادة والإمامة، لابد من أن توجد فيه صلاحية حيازت هذا المنصب؛ لأن صلاحية الإمام هي الأساس في اختياره، حتى الوراثة فهي لتأكيد أصل صلاحيته أيضاً.
إن فكرة فصل القيادة السياسية ـــ بمعنى الخلافة ـــ من المفهوم العام للإمامة، ما هي في الحقيقة إلاّ إعادة القيادة الايديولوجية الملتزمة إلى المفهوم السائد عن إدارة المجتمع، المفهوم الغربي للسياسة، وهذا انحراف كبير عن الدين والسبيل في معرفته. وقد ظن بعضهم أنه من خلال هذا التفسير يمكنهم إيجاد وحدة بين الفرق والمذاهب الإسلامية، وفضلاً عن أن هذا التفسير لا ينتهي إلى هذه النتيجة، سيؤدي إلى تقسيم الرسالة إلى قسمين، هما: الإمارة والهداية، فتكون الخلافة الوريث للإمارة في الرسالة، في ما تكون الإمامة الوريث للهداية والروحانية في الرسالة. وهذا هو نفسه الأصل الخاطئ الذي يعبّر عنه اليوم بفصل الدين عن السياسة.
أسس
لابد من أن يكون للإسلام فلسفة سياسية تتناسب مع أسس فلسفته وعقائده، وتنسجم مع مبادئه الفكرية، وفي ضوء الصورة التي يقدمها عن العالم والمجتمع والإنسان.
ورغم استناد أساس النظرة الإسلامية التوحيدية إلى الفطرة (41) ، إلا أنه يمكن استنتاجها من خلال الأدلة العقلية والفلسفية، وتحكيمها في جميع القضايا التي يبحثها الدين، فهي كالروح تجري في جميع أفكاره الحقوقية، السياسية، الاقتصادية، الأخلاقية
________________________________________
(40) سورة -الانعام: -124.
(41)-حول -الاتجاه -الفطري، -راجع: -محمد -حسين -الطباطبائي، -الميزان -في -تفسير -القرآن، -ج19 -ص190 -وج31 -ص303.

[الصفحة - 287]


والاجتماعية، وتتجلى في جميع شؤون الحياة الفكرية.
وعلى أساس النظرة التوحيدية تلك، تطرح مسألة الدولة والسلطة في إطار مبحث الإمامة، كما أن سلطة الإنسان على مصيره الجماعي تنشأ من خلال رابطتين للفرد مع الله سبحانه وتعالى:
الأولى: بعد الهداية الإلهية للإنسان والتي تتجلى في بعث الأنبياء وتنصيب الأئمة.
الثانية: خلق الإنسان حراً لـه السيادة في انتخاب مصيره.
وبالنتيجة يمكن للإنسان الحرّ والمسؤول في الوقت نفسه اختيار سبيل الهداية النبوية، وبهذا يجعل الإرادة الإلهية هي الحاكمة على مصيره من خلال الشريعة والقانون الالهي.
كما أن قانون العلية في النظرة التوحيدية ليس مستقلاًّ عن إرادة الله سبحانه وتعالى، بل هو تجلٍ لتلك الإرادة، وبهذا الشكل تحلّ مشكلة التضاد بين أصل العلية والحرية، التضاد الذي دعا بعض فلاسفة التاريخ وعلماء الاجتماع إلى نفي الحرية والاختيار الإنساني والقول بسيادة أصل العلّية، بينما ذهب آخرون عكس ذلك. في حين أن النظرة التوحيدية، تقول بسيادة أصل العليّة إذا ما استخدم الإنسان إرادته في مسير المشيئة والهداية الربانية، وهو طريق السعادة.
وبهذا الشكل، يتضح جواب السؤال الآتي: هل يمكن للإنسان التفوُّق على الظروف السياسية السائدة وتوجيهها لصالحه، أو انه مجبر على مسايرتها والخضوع لـها؟
فالإنسان، في الفكر السياسي الإسلامي، قادر على اصلاح الظروف السائدة وتغييرها، ومن هنا تنشأ مسؤوليته. والقرآن يعلن بصراحة أن تغيير الأوضاع السياسية والاجتماعية في حياة الإنسان تأتي بإرادته: { إنّ اللهَ لا يغيّرُ ما بقوم حتى يُغيروا ما بأنفسهم } (42).
وعلى أساس هذه الفلسفة السياسية، تكون مسؤولية الإشراف العام -في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر- على عاتق الجميع، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، في حقيقته، قانون يعطي شرعية تمرد الفرد على فساد المجتمع وانحرافه. وهو ما يؤكده القرآن الكريم من خلال تحليلاته التي يقدمها عن حياة نوح، ابراهيم، موسى، وعيسى عليهم السلام ورسولنا الكريم(صلي الله عليه و آله) السياسية. وتعاليم القرآن السياسية -في ما يتعلق بالأمم
________________________________________
(42)-سورة -الرعد: -11.

[الصفحة - 288]


والمجتمعات التي قبلت بأفكار مستوردة ومنحرفة، بسبب تعصبها الديني القومي- تقول بإدانة الأجيال الثانية بسبب الأعمال التي قام بها السابقون، بل ومعاقبتها (43).
والمجتمع السياسي، في المنظار التوحيدي، كائن حي لـه حياته وموته وتطوره وبقاؤه وزواله، تحكمه قوانين وروابط منطقية عبّر عنها القرآن الكريم بالسنن الإلهية، وقد عبرت السنّة أيضاً عن هذه الوحدة وهذا الانشداد بالجسد الواحد.
ويفسر القرآن الكريم التطورات التي شهدها المجتمع اليهودي بالسنن الإلهية، ثم -وبعد سرد تلك التطورات وبيان الأسباب التي سادتها- يقول: { وإن عدتم عدنا } (44).
وهذه النظرة التوحيدية، لا توضح الفلسفة السياسية الإسلامية فقط، بل تبين الفلسفة الاجتماعية وفلسفة التاريخ في الإسلام أيضاً.
ورغم أن للمجتمع السياسي شخصيته وحياته وموته ووجدانه وطاعته وعصيانه وأحكامه وقوانينه العامة التي تحكمه في المنظار الفلسفي السياسي الإسلامي، نجد هناك تأكيداً على حرية الفرد واختياره ومسؤوليته، كما أن تقنين إمكانية عصيانه وتمرده على الظروف السياسية السائدة في المجتمع يعد عاملاً في تحديد مصير الفرد والمجتمع، وقد نسب القرآن الكريم الأمرين إلى الفطرة الإنسانية (45) ، وصرح بمسؤولية الفرد أمام الظروف السياسية الجماعية: { يا أيها الذينَ آمنوا عليكمُ أنفسكُم لا يضرُّكُم من ضلّ إذا اهتديتم } (46).
والمجتمع السياسي، في الفلسفة السياسية الإسلامية، لا يوجد فيه قطبان كما هي الحال في الفكر الماركسي، بل يمكن تقسيم المجتمع السياسي إلى اتجاهات مختلفة.
1 ـ الاتجاه الفلسفي:
الفلسفة السياسية، في القرآن الكريم، مبنية أساساً على معرفة جوهرية الكون. فمن أجل فهم صحيح للفلسفة السياسية في الإسلام لابد من من الأخذ بنظر الاعتبار تلك المعرفة الجوهرية. وعلى أساس هذه المعرفة، هناك اُصول متعددة تعدّ الأرضية لأي نوع من الفكر الإسلامي. ويمكن الإشارة إلى هذه الأصول باختصار:
1 - الله خالق الوجود وإن جميع أبعاد الوجود من صنعه عزّ وجلّ، وهكذا جميع
________________________________________
(43)-راجع: -الميزان، -ج4، -ص112.
(44) سورة -الإسراء: -8.
(45)-سورة -النساء: -97.
(46)-سورة -المائدة: -105.

[الصفحة - 289]


الكائنات والإمكانيات التي يستخدمها الإنسان لأغراضه الحياتية - جميعها - من صنع الباري جلّ ذكره (47).
2 - الله هو الخالق والمدبِّر والمسيطر الوحيد على الكون، وجميع أبعاده خاضعة لقدرته ومشيئته، ولا من ذرة خارجة عن سلطته المطلقة والتامة (48).
3 - السيادة والحكم في جميع الكون خاضعان لله وليس لأحد غيره; إذ ليس لـه شريك لا في الخلق ولا في الأمر. وإن قبول أي حكم غير الله هو نوع من الكفر والشرك به سبحانه وتعالى (49).
4 - طاعة أي مخلوق كان وقبول حكمه نوع من العبودية التي هي خاصة بالباري عزّ وجلّ، لذلك فمثل تلك الطاعة شرك بالله (50).
5 - السيادة على البشر جزء من سيادة الله على الكون والوجود، لذلك لايحق لأي إنسان إجبار الآخرين على طاعته أو الحكم عليهم من دون إذن من الله.
6 - السيادة الإلهية جبرية في الطبيعة، لكنها اختيارية في مجال الأعمال، والإنسان من خلال الأنبياء والكتب السماوية مكلف بإطاعة أوامر الأنبياء ونواهيهم؛ لأنها وحي من الله عزّ وجلّ (51).
7 - التصور المجرد عن قضايا الكون، الإنسان والمجتمع، لأن الأخذ بمكانتها في سلسلة العلل والمعلولات، وأيضاً من حيث ارتباطها بعلة العلل في الظواهر، تصور باطل وفهم ناقص ومضل(52).
8 - إن مشروعية أي سلطة، في سلسلة المراتب الاجتماعية، السياسية، الإدارية والعسكرية، وتحت أي عنوان، مشروطة بإحراز إذن من قبل الله، ووجود ارتباط منطقي بسلسلة مراتب الحاكمية الإلهية (53).
9 - القوانين والاوامر الإلهية الصادرة عن حاكميته وسيادته المطلقة، تستند إلى علمه بالحقائق وعدله وحكمته، وليس لاحد ذلك، بأن تكون أحكامه مصانة عن الخطأ (54).
10 - إن اتخاذ أي قرار مقابل الإرادة الإلهية أو الاستشراف والتدابير المستقبلية، خاطئ وبعيد عن عقيدة التوحيد إذا لم يأخذ بنظر الاعتبار التطابق مع أمر الله ومشيئته (55).
________________________________________
(47)-سورة -البقرة: -29، -سورة -النساء: -1، -سورة -الانعام: -13، -سورة -الرعد: -16، -سورة -فاطر: -3.
(48)-سورة -الاعراف: -54، -سورة -طه: -8، -سورة -الروم: -26.
(49)-سورة -البقرة: -107، -سورة -آل -عمران: -154، -سورة -الرعد: -16، -سورة -الانعام: -57، -سورة -النحل: -17، -سورة -الكهف: -26.
(50)-المصدر -السابق.
(51)-سورة -يس: -83، -سورة -الحديد: -25.
(52)-سورة -الاعراف: -54، -سورة -يونس: -31.
(53) سورة -المائدة: -38 - -40.
(54)-سورة -البقرة: -215 - -216، -سورة -الانفال: -75.
(55) سورة -النساء: -60، -سورة -المائدة: -45.

[الصفحة - 290]


11 - الإذعان لأحكام أي شخص حقيقياً كان أم حقوقياً، من دون الاستناد إلى الوحي والانبياء، يعدّ شركاً، والأنبياء هم الواسطة الوحيدة لتبليغ أحكام الله إلى البشر عن طريق الوحي والكتاب. وفي إطار النظام السياسي فإن هذه الأحكام والقوانين تستند إلى الوحي ومصدرها الكتاب والسنة، وهذا النظام يعد تجِّلياً للسيادة القانونية والسياسية الإلهية، وطاعة الله عز وجل تكون في الامتثال لمثل هذا النظام (56).
12 - المسلم هو من استند في قراراته وأحكامه السياسية والاجتماعية و... إلى حكم الله، أو من تستند أحكامه إلى الوحي، ولا يُصدر قرارات وأحكاماً شخصية ويعمل في ضوئها، وهذا يصدق أيضاً على ما يتعلق بأركان السلطة وقواها، مثل السلطة التشريعية والسلطة التنفيذية والسلطة القضائية (57).
13 - يجوز للإنسان التصرف والاستفادة واتخاذ أي سبيل من أجل تسخير الطبيعة وقواها لصالحه وصالح الإنسانية، الا في الموارد المحددة التي منعها الله سبحانه وتعالى. وعلى هذا الأساس صار الإنسان خليفة الله في الأرض، لكي يبدع ويبتكر ما يحتاجه، وفيه صلاحه وسعادته، من خلال الامكانيات التي أودعت بيده في العالم وعلى أساس الحكمة والعدالة (58).
14 - جميع الإمكانيات الإنسانية، من القبيلة والشعب حتى المجتمع العالمي الكبير، عندما تسيطر على السلطة في أيّ من بقاع العالم، وتعمل على أساس الأحكام الإلهية، تعدّ خليفة الله في الأرض(59).
15 - شروط الخلافة الإلهية في الأرض هي: الإيمان والعلم والتقوى ولا يحق لأحد تقلّد منصب الخلافة الربانية في الأرض إلاّ بالشروط المذكورة (60).
16 - قضت المشيئة الإلهية بانتصار الحق على الباطل، والصالحين على الجبابرة في النهاية، ومن أجل تحقيق هذه الإرادة الإلهية لابد من من الوقوف بوجه الظالمين والجبابرة ومعاضدة الصالحين ومساندتهم (61).
17 - ليست هناك طاعة مطلقة للدولة حتى لو كانت على أساس الإسلام، بل هي مشروطة بالتزامها أحكام الله سبحانه وتعالى وأوامره، والعمل في حدود صلاحيات الأحكام الثابتة والمتغيِّرة في الإسلام (62).
________________________________________
(56)-سورة -النساء: -64 - -65 -و115، -سورة -الحشر: -7.
(57)-سورة -النساء: -51، -سورة -النور: -47 - -48، -سورة -الاحزاب -36.
(58)-سورة -البقرة: -31، -سورة -الاعراف: -10، -سورة -الحج: -65.
(59)-سورة -الاعراف: -69 -و129، -سورة -يونس: -14.
(60)-سورة -النور: -55.
(61)-سورة -الاسراء: -81، -سورة -القصص: -5، -سورة -المائدة: -2.
(62)-سورة -المائدة: -2، -سورة -الممتحنة: -12.

[الصفحة - 291]


18 - لابد من من الالتزام بالشروط الآتية في اختيار مسؤولي الدولة والمجتمع الإسلامي:
أ - الإيمان بالمباني التوحيدية والأسس التي تتطلبها مسؤولياتهم وإدارة المجتمع والدولة على أساسها؛ لأنه لا يمكن تسليم نظام عقدي إلى أشخاص لا يؤمنون به (63).
ب-لابد من أن يكون المسؤولون في الدولة الإسلامية عدولاً، صالحين، وعباداً لله، لابد من لـهم من جعل الله نصب أعينهم دائماً والابتعاد عن الظلم والتحلل والغفلة، كما عليهم عدم تجاوز الحدود الإلهية، وأن يكونوا نبلاء، أمناء، فضلاء، ويخافون الله في جميع الأحوال (64) ؛ ليُطمأَن إلى تسليمهم الأمور العامة (65).
ج - لا مكان في دولة التوحيد للجهال والسفهاء; إذ لابد من ان يكون المدير، عالماً، كفوءاً، مدبراً، حكيماً وذكياً، وأن يكون أيضاً جديراً ومؤهلاً من الناحيتين الجسمية والنفسية (66).
19 - أما أسس مثل هذه الدولة فهي (67):
أ - { يا أيها الذينَ آمنوا أطيعوا اللهَ وأطيعوا الرسولَ وأولي الأمرِ منكم فإن تنازعتُم في شيء فردّوه إلى اللهِ والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخرِ ذلك خير وأحسن تأويلاً } (68).
ففي هذه الآية يمكن استنباط خمس نقاط أساسية في تأسيس الدولة الإسلامية، هي:
1 - إن طاعة الله ورسوله مقدَّمة على طاعة أي شيء.
2 - إن طاعة أصحاب السلطة والقوة مرهونة بمستوى طاعتهم لله وامتثالهم للوحي.
3 -لابد لزعيم الدولة الإسلامية من أن يكون من حفظة مدرسة التوحيد والوحي وحماتها.
4 - يمكن للناس معارضة رأي الحكومة والمتصدين للحكم من باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أو من باب المشورة والنصيحة.
5 - في جميع موارد الخلاف يكون الحكم والمرجع النهائي هو القانون الإلهي والوحي.
ب -لم يحدِّد القرآن الكريم نوعاً معَّيناً من الحكم أو كيفية اختيار الحكام اُسلوب
________________________________________
(63)-سورة -آل -عمران: -118، -سورة -النساء: -59، -سورة -التوبة: -16.
(64)-سورة -البقرة: -124، -سورة -الكهف: -28، -سورة -الشعراء: -151 - -152، -سورة -الحجرات: -13.
(65)-سورة -النساء: -58.
(66)-سورة -البقرة: -427، -سورة -النساء: -5 -و83، -سورة -يوسف: -55، -سورة -ص: -20، -سورة -الزمر: -9.
(67)-قارن -ذلك -بما -ذهب -إليه -السيد -ميان -محمد -شريف -في -كتابه -تاريخ -الفلسفة -في -الإسلام، -قسم -التعاليم -القرآنية.
(68)-سورة -النساء: -59.

[الصفحة - 292]


الاستشارة، بل اكتفى ببيان الأسس العامة، وترك القضايا الخاصة بالتطبيق لمتطلبات العصر وحاجة المجتمع واجتهادات الإمام.
ج - وفي الموارد التي فيها نص محدد من القرآن أو الحديث يمكن للدولة الإسلامية تفسيره ووضع قوانين فرعية وجانبية لتطبيقه، أما الموارد التي سكت عنها الشارع المقدس فيمكن للدولة التشريع فيها مع الأخذ بالأصول الإسلامية العامة وروح الشريعة؛ لأن المعنى المنطقي لسكوت الشارع المقدس هو أنه سبحانه وتعالى ترك الأمر للدولة والحاكم لاتخاذ القرار المناسب في شأنه.
د - الجهاز القضائي يعد الركن الأساس لصيانة حقوق الناس والحفاظ عليها، والدفاع عن الدول في النظام التوحيدي. لذلك لابد من أن يكون بعيداً عن ضغوطات أصحاب السلطة والثروات ونفوذها ليضمن حياده الكامل في إصدار الأحكام. ومن أهم وظائف هذا الجهاز الحكم حسب القانون الالهي وما تتطلبه العدالة وتجنب التأثيرات العاطفية أو الأحكام المسبقة من قبله أو الآخرين (69) . وفي بيان الفلسفة السياسية، نجد نظريات متعددة سنتناول بعضاً منها.
ثانياً ـ الاتجاه الفطري
يرى العديد من المفكرين والباحثين الإسلاميين أن أساس الفكر الاجتماعي والسياسي الإسلامي -وعلى أساس ماجاء في القرآن الكريم- هو الفطرة، وأن منشأ مباحث مثل الإمامة والحكومة والسلطة يعود إلى الفطرة الإنسانية بالدرجة الأولى، وأنه يمكن دراسة العوامل والدوافع السياسية من ذات الوجود البشري.
ومن هؤلاء الباحثين يمكن الإشارة إلى الأستاذ العلامة الطباطبائي (70) ، الذي يرجع في تحليله المباحث الاجتماعية والسياسية وبشكل عام جميع القضايا العامة في الحياة الإنسانية إلى الفطرة، ويرى أن أصل الاتجاه نحو الحياة الاجتماعية بجميع تبعاتها ومستلزماتها لا يمكن تفسيرها إلاّ بالدوافع الفطرية (71) . حتى البحث في قضايا مثل قيادة الأنبياء، والإمامة، وولاية الفقيه، يراها مبنية على أساس الفطرة من خلال اُسلوبه البحثي المعروف، ومن خلال طرح مسألة الفطرة الأولية للإنسان يرجع مثل هذه القضايا اليها، وبطرح أمثلة واضحة وبيّنة يعتقد أن مسألة القيادة مسألة فطرية تماماً وأن الولاية من
________________________________________
(69)-سورة -النساء: -58، -سورة -الانعام: -48، -سورة -ص: -26.
(70)-العلاّمة -محمد -حسين -الطباطبائي -(ت -= -1981م) -من -مواليد -تبريز، -توفي -أبواه -وهو -حديث -السن، -درس -في -تبريز -مقدمات -العلوم -الدينية، -ثم -هاجر -إلى -النجف -فدرس -على -يد -كبار -علمائها -مثل -النائيني -والخوانساري -والبادكوبي، -تخصص -في -الفلسفة -الإسلامية -ودرسها -في -حوزة -قم -بعد -أن -انتقل -إليها، -من -أشهر -مؤلفاته -«الميزان -في -تفسير -القرآن» -ومن -أشهر -تلامذته -العلاّمة -الشهيد -مرتضى -المطهري.
(71)-راجع: -مقالة -«الولاية -والزعامة» -في -كتاب -«ابحاث إسلامية» -ج1، -ص169.

[الصفحة - 293]


ضروريات المجتمع التي تجد في الإنسان انجذاباً ودوافع داخلية واعية بشكل لا إرادي نحوها. وقد كانت هذه الدوافع قوية على مدى التاريخ البشري، بحيث لم تكن بحاجة إلى الزام وإيجاب، كما أن مهمة الشرائع السماوية هي توجيه هذه الحاجات الفطرية في الإنسان، أما من الناحية الشرعية ـــ كما جاء في تعريف الأمور الحسبية ـــ فلم يحدد من يتصدى لـها بشكل خاص.
ويرى العلامة الطباطبائي أن هذه الأمور الضرورية والفطرية يمكن أن تتعلق بالأشخاص الذين يفتقدون القدرة لإدارة أمورهم مثل المحجورين وامثالهم، أو ان تتعلق أيضاً بقضايا مثل الأموال العامة وسائر أمور المجتمع العامة وقضايا مثل الحكومة والدولة والقيادة.
وعلى هذا الأساس فإن تعريف العلاّمة للولاية يشمل جميع الأمور التي بقيت على حالها بسب عدم وجود من يتصدى لـها بشكل خاص، ولا يمكن الإغفال أبداً عنها وعدم إقامتها (72) . وقد يتصور من التعريف في البداية الأمور الحسبية فقط، لكن ومن خلال التأمل في مضمون كلامه يتضح أن ما أراده العلامة من الولاية، مساحة أوسع بكثير من الأمور الحسبية التي يقول بها الفقهاء. لأن القضايا الخاصة بالسلطة وإدارة المجتمع سياسياً واجتماعياً وصلاحيات القيادة في الأحكام الأولية والثانوية تشكل أهم ما يطرح ضمن دائرة الولاية. وعلى أساس تطابق الفطرة مع الشريعة، يرى العلامة أن الأحكام التي يصدرها الولي الفقيه على أساس المصلحة ومتطلبات العصر والضرورة، أمور لا يمكن تجاوزها وأن هذه الأمور قابلة للتغيير مع تطور المدنية وتغيير المصالح والمفاسد.
وفي هذا الصدد، يصرح العلامة أن أصل الولاية نفسه من الأحكام الثابتة التي لا تقبل النسخ، لـهذا فالمجتمع الإسلامي في جميع ظروفه بمثابة المجتمعات التي يعبر عنها اليوم بالمجتمعات المتطورة والديمقراطية، ويفسر الديمقراطية الحقيقية بالقدرة على المرونة والانعطاف الموجودة في الفطرة أمام التطورات الضرورية ومتطلبات المجتمع المتغيرة، ويرى أن فلسفة الفطرة السياسية تستند إلى نوعين من الأحكام الثابتة والمتغيرة، وأنه لايمكن تحقيق الديمقراطية من دون هذين النوعين من الأحكام، وفي بيان ذلك يقول:
«في المجتمعات الديمقراطية أيضاً نلاحظ هذين النوعين من الأحكام:
الأول: الأحكام الثابتة التي تشكل مضمون دساتير هذه المجتمعات وأن تغييرها
________________________________________
(72) -المصدر -نفسه.

[الصفحة - 294]


خارج عن صلاحيات المجالس التشريعية، ولا يمكن تغيير تلك الموارد إلاّ من خلال رأي الشعب مباشرة عن طريق إجراء استفتاء عام أو إيجاد مجلس خبراء يمكن تغيير بضع مواد من الدستور.
الثاني: القوانين العادية التي تشرع في البرلمان وتنفذ في ما بعد، وهي بمثابة تفسير مؤقت لمواد الدستور، وهذا القسم (النوع) قابل للتغير» (73).
ولكي لا يقع بعض الباحثين في مغالطات من هذا الكلام، ويتصور أن الأحكام السياسية قابلة للبسط والقبض على أساس التطورات الزمنية، وأنها مثل الديمقراطيات الغربية تعيش حالة معلقة ونسبية، يحذر ضمن حديثه عن الأحكام الثابتة والمتغيرة بأن لا يتصور أن نهج الإسلام يشابه نهج الديمقراطية الغربية أو ما يسمى بالديمقراطية الشرقية، ثم يوضح أن الإسلام وفي كلا الجانبين من الأحكام لـه نهجه الخاص به والذي يختلف تماماً عن تلك الأنظمة الوضعية.
ويضيف إلى ذلك، فيقول:
«من الأحكام الثابتة في الإسلام، أن المشرّع الأصلي هو الله، في حين أن الأحكام والقوانين الثابتة في سائر المناهج والأنظمة الاجتماعية هي من نتائج الفكر البشري، سواء كانوا نخبة أم أكثرية الشعب. كما أن الأساس في الأحكام المتغيرة في المناهج (والأنظمة) الغربية أو الشرقية إرادة الأكثرية من الشعب ورأيها بحيث نشاهد على الدوام التضحية بمشاريع الأقلية وإرادتها (النصف ناقص واحد) مقابل رأي الاكثرية (النصف زائد واحد)، سواء كانت مطالبهم محقة أم لا، في حين أن القوانين المتغيرة في المجتمع الإسلامي رغم أن النتيجة تتطابق واستشارة الشعب، لكن الأساس فيها هو الحق وليس إرادة الأكثرية، كذلك تكون على أساس واقعي وليس على أساس العواطف والأهواء البعيدة عن الحق» (74).
ولأن الملاك الوحيد في المجتمع الإسلامي هو الحق والصلاح، فالأكثرية لن تكون معيار العمل، خصوصاً ان العلم والتقوى هما الحكم والمعيار الدائمين في المجتمع الإسلامي، كما ان طلبات الناس مهذبة على أساس التربية الإسلامية، فلا ترجح الأكثرية طلباتها التي مصدرها الأهواء النفسية على الحق والحقيقة.
وقد صرح القرآن الكريم، في عدة آيات، أن الحق هو معيار العمل وأن تحديد ذلك يقع
________________________________________
(73) المصدر -نفسه؛ -وكذلك -تفسير -الميزان، -ج7، -ص207.
(74)-المصدر -نفسه؛ -وكذلك -تفسير -الميزان، -ج19، -ص141، -وج14، -ص72، -وج27، -ص29.

[الصفحة - 295]


على عاتق العلماء المتقين، الفقهاء، العدول الذين يتصدون لولاية أمر المسلمين.
وفي رده على الذين يرون هذه الفلسفة السياسية والحقوقية الإسلامية قريبة من مطالب الأغلبية (الديمقراطية) وأنها ممكنة التطبيق على المدى القريب، وفي مقابل ذلك يرون أن النظام الديمقراطي يمكن لـه الاستمرار والبقاء لأنه يهتم بمطالب الأغلبية ويحترم رأي الناس، يقول السيد الطباطبائي: «مع أنه لايمكن إنكار رضى الاكثرية وقبولها في مقبولية أي نظام شعبياً، لكنه يجب أن لا ننسى أن مطالب الأكثرية هي بدون شك معلولة نوع خاص من التربية العامة والتعليم. والبيئة التربوية التي يوجدها الإسلام في المجتمع تجعل الغالبية لا تتبع الاهواء، ولا تضحي بالحقيقة من أجلها، بل إن رأي الغالبية يكون مع الحق عادة، كما أن مطالب الأغلبية في البيئات غير الإسلامية تتناسب والعادات والتقاليد أو الغايات العامة الثابتة في تلك المجتمعات» (75).
وفي ما يتعلق بالمرحلة الأولى لتكوين المجتمع السياسي الإسلامي الذي قد نشاهد فيه بعضاً من عدم الرضى؛ لأن التربية الإسلامية الشاملة لم تأخذ دورها بعد، ما يؤدي إلى فقدان الغالبية المرادة، يقول الطباطبائي:
«بديهي، أن لا يوافق أي نظام في بدء ظهوره مع مطاليب أغلبية المجتمع الذي يظهر فيه، وهو أمر لا يختص بالإسلام لأننا نجده في الاساليب والاتجاهات الأخرى أيضا»ً.
وعلى هذا الأساس يستنتج:
«على ذلك، ما يشكل على النظام الإسلامي في كونه لا ينسجم وغير قابل للتطبيق مع التربية والتعليم المنحل والحر بلا قيود، ما هي إلاّ مغالطة لا اكثر» (76).
ويردّ العلامة الطباطبائي على القائلين: إن النظام السياسي الإسلامي لم يكن لـه الاستمرار مع وقوع الاحداث التي كانت بعد وفاة الرسول(صلي الله عليه و آله)، فيقول:
«تجاوز النمط الإسلامي واختفاؤه من بين المسلمين لم يكن بهذا الشكل الذي يتصوره البعض من انتهائه بشكل طبيعي بعد سنوات قلائل من زمن الرسول(صلي الله عليه و آله). ولم تكن هذه طبيعة النظام الإسلامي التي ماتت وانتهت، لأن نظاماً تجلى أساساً في سيرة الرسول(صلي الله عليه و آله) كان بالامكان أن يبقى ويستمر، إذا لم يجهض عليه ولم يستبدل بامبراطورية عربية. الحقيقة هي أن النظام السياسي الإسلامي لم ينتهي بشكل
________________________________________
(75) المصدر -نفسه.
(76) المصدر -نفسه.

[الصفحة - 296]


طبيعي في بداية عمره. بل إذا جاز لنا التعبير يمكن القول: إنه قتل واستشهد، اقتنعنا باسم الديمقراطية فقط في حين أننا نسير من سيء إلى أسوأ. ولم نجن من شجرة الحرية والديمقراطية هذه التي آتت أكلها وخيراتها (حسب رأيي) للآخرين، سوى الويلات والفضائح" (77).
هنا يطرح العلاّمة الطباطبائي السؤال الآتي:
«ما هي الإجابة في هذا الصدد، سوى أنه لا يطبق القانون وقد اكتفينا من الديمقراطية باسمها فقط!؟ وهو ما يصدق على النظام السياسي الإسلامي أيضاً. فكما أن الديمقراطية في الأنظمة الغربية والشرقية ليست مسؤولة عن تخلفات الأنظمة والناس، ففي النظام السياسي الإسلامي أيضاً تقع المسؤولية على الأنظمة التي تدّعي الإسلام، وليست على النظام الذي يبينه الكتاب والسنة وسيرة الرسول(صلي الله عليه و آله) ويقوم على الشورى» (78).
وفي مقارنته بين النظام المبني على أساس ولاية الفقيه والأنظمة التي تدّعي الديمقراطية، يطرح العلاّمة الطباطبائي هذا التساؤل:
لماذا نشاهد تيارين عريضين في مجال تطبيق الديمقراطية بعد الحرب العالمية الأولى، بينما تفقد الديمقراطية كل يوم موقعاً لـها حتى وصل الأمر إلى عزوف ما يقرب من نصف الكرة الأرضية عن الديمقراطية والالتجاء إلى الأساليب الماركسية؟ وهل أن قيمة الديمقراطية تكمن في مواجهتها للأنظمة المستبدة، فإذا ما انتهى الاستبداد وأنظمته فقدت الديمقراطية احترامها ومكانتها؟
من جانب آخر أليس الفهم العالمي للديمقراطية اليوم هو تحول الأسلوب الظالم والاستبدادي والمتحلل لعهود الاساطير، من الحالة الفردية إلى شكله الاجتماعي؟ فالمظالم التي كان يرتكبها الاسكندر وجنكيز وأمثالهما بالقوة سابقاً، تجري على الدول والشعوب الضعيفة بشكل جماعي من قبل المجتمعات القوية، الديمقراطية والمتحضرة في العالم، بفارق أن المظالم السابقة كانت تصدر عن جهل ومن دون أي غطاء وبشكل صريح، فكانت تثير الأحقاد وتدعو إلى الانتقام بسرعة، وكان لـها دور في تسريع عملية الإطاحة بالقوى الظالمة، لكنها اليوم تطلى بأنواع الشعارات الأخاذة مثل إحياء حقوق الإنسان ونشر العدل
________________________________________
(77) المصدر -نفسه.
(78) المصدر -نفسه؛ -وكذلك -تفسير -الميزان، -ج7، -ص120.

[الصفحة - 297]


والإنسانية، مستخدمين في ذلك أحدث التقنيات والأساليب النفسيةوأكثرها تعقيداً.
لاتزال مشاهد الاستعمار موجودة في كثير من الدول ويمكن الاعتبار بها، فهي من مخلَّفات الديمقراطية، ومازلنا نذكر منطق الحكومة الفرنسية، حاملة مشعل الحرية والداعية للعدل الدولي، في ادعائها بأن الجزائر جزء من ترابها (79).
الأدهى من ذلك، نجد الشيوعية التي تعدّ نفسها مرحلة تكامل الديمقراطية -وعلى الرغم من اختلافهما في نهب العالم والسيطرة عليه- تسيطر على المجتمعات التي لم تصل بعدُ إلى المراحل السابقة، بل مازالت في بداية مسيرتها الحضارية، ورغم ادعاءاتها، نجد أن أكثر الدول تخلفاً تتجه بسرعة أكثر نحو الشيوعية! فإذا كان مثل هذا التغيير يُعد طفرة، فلماذا لا تنطبق قوانين الفلسفة المادية الديالكتيكية التي تتحدث عن الطفرة مع أسسها (80)؟!
يرى الأستاذ العلامة الطباطبائي أن الإنسان موجود مدبر يطلب الاستدلال بشكل فطري. فما يحكم حياة الإنسان وأفكاره هو العقل والبرهان العقلي، وبينما لا نرى الشريعة تخالف هذا الاتجاه الفطري، بالعكس فقد أكدت عليه كثيراً، وعدَّت الإنسان الفارغ من المنطق والبرهان أحطّ من البهيمة.
النظام السياسي في زمن الغيبة
بعد أن يستدل الأستاذ العلاّمة على مسألة الولاية مثل سائر القوانين الثابتة ويرى ضرورة تطبيقها دائماً، ويبين رأي الشيعة في استمرارية مقام الولاية والجانب التعييني (التنصيبي) فيها من قبل المشرّع سبحانه وتعالى، يقول:
إيمان الشيعة الإمامية بالنص في الأئمة (عليهم السلام) من جانب الرسول(صلي الله عليه و آله) لا يعني بقاء المجتمع الإسلامي في حال غياب الإمام المعصوم(عليه السلام) مثل عصرنا الحاضر-بلا إمام وهادٍ، كقطيع بلا راع، مشتتين وحائرين. لأننا نمتلك الدليل على استمرارية أصل مقام الولاية وثباته، وكذلك لدينا دليل على تعيين أشخاص محدَّدين لـهذا المقام.
ومن البديهي إمكانية التفكيك والتمايز بين هذين الاثنين، فالشخص (الشخصية الحقيقية للإمام) هي غير مقام الإمامة، بالنتيجة فإن فقدان الإمام لا يعني أبداً فقدان مقام الإمامة ونهايتها. فكيف يمكن تصور إلغاء مقام الولاية في يوم من الأيام، بينما هي ثابتة
________________________________________
(79) المصدر -نفسه؛ -وكذلك -تفسير -الميزان، -ج7، -ص182.
(80)-المصدر -نفسه.

[الصفحة - 298]


بدليل الفطرة الإسلامية، لأن إلغاءها يعني إلغاء للفطرة، وإلغاء الفطرة بدوره يعني الغاء الإنسانية وبالنهاية الغاء أصل الأسلمة؟
بعد ذلك، يقوم الأستاذ العلامة بإيضاح نقطة أهم ويبين شروط من يتصدى لمقام الولاية. ثم يصل في النهاية إلى النتيجة الآتية:
حكم الفطرة في لزوم وجود مقام الولاية في أي مجتمع مبني على أساس الحفاظ على المصالح العليا لذلك المجتمع. والإسلام أيضاً يساير هذه الفطرة، ونتيجة هاتين المقدمتين هي: الولاية للشخص السبّاق من حيث التقوى والتدبير وإدراك الأوضاع، ولابد أن يكون المتصدون للحكم دائماً من أخلص أفراد المجتمع وأفضلهم والمتميزين فيه.
ومن خلال هذه النظرة يقدم الأستاذ العلاّمة تعريفه للفقيه، فيقول:
«الفقيه في صدر الإسلام، هو العالم بجميع معارف الدين ـــ الأصول، الفروع والأخلاق ـــ وليس العالم بالفروع فقط كما هو مصطلح اليوم» (81).
وفي نهاية هذا البحث، يقوم العلامة بالاستنباط الآتي:
الفقيه هو الأفضل لتصدي مقام الولاية. ثم يقوم ببحث مسائل الاجتهاد والتقليد فقهياً، ويعدَّ الاجتهاد والتقليد في فقه الشيعة فهماً علمياً لمسألة فطرية، ويرى أن الاجتهاد -بمعنى الفهم العلمي لأحكام الشريعة- أمر يتطابق والاعتبارات العقلية وما تقتضيه الأدلة الشرعية.
من جانب آخر، بما أن نشاطات الإنسان إرادية وفكرية، وهو بحاجة إلى دليل وبرهان في أفعاله وسلوكياته، فإنه مضطر إلى التقليد عندما لا يكون باستطاعته الوصول إلى جميع المعلومات النظرية بالاستدلال، والتقليد هو تطابق العمل مع استدلال الآخر عندما يكون هناك إيمان بفقاهته وعدالته، وهو مقبول عند العقلاء والعرف العام الذي يستند إليه الناس (82).
ومع بيانه لفطرية مسألة الاجتهاد والتقليد، يضع العلامة الطباطبائي فارقاً بين معنى التقليد الفطري والاتباع الأعمى الذي ينهى عنه القرآن ويذمه (83) ، ويرى أن التقليد بالشكل السلبي لـه، عمل غير عقلاني ويعني القيام بعمل يكون ثمنه فقدان الإنسان لأهم جوهر فيه وأساس خصوصية البشرية، أي فطرة البرهان والبحث، بينما التقليد على
________________________________________
(81)-تفسير -الميزان، -ج4 -وج18، -ص349.
(82)-المصدر -نفسه، -ص41.
(83)«قالوا -بل -نتبع -ما -الفينا -عليه -آباءنا -اولو -كان -آباؤهم -لا -يعقلون -شيئاً -ولا -يهتدون» -البقرة: -170.

[الصفحة - 299]


أساس عقلاني في الرجوع الواعي للعالم والخبير والمتقي، يعدّ عملاً استدلالياً ومرتكزاً وفطرياً(84).
يتناول الأستاذ العلامة، في هذه المجموعة من المباحث السياسية، مفهوم الحرية من منظار الإسلام. ويقوم بدراسة هذا الموضوع الحياتي بالنسبة للبشر من ثلاث زوايا متفاوته، ليصل في النهاية إلى أن منطق الفطرة الإنسانية في هذه القضية السياسية منسجم تماماً مع منطق الشريعة الإسلامية والعقل، وذلك بعد نقد وتحليل لمنطلقات الحضارة الحديثة ومقارنتها بأسس الفطرة والعقل.
ويرى الأستاذ أن الحرية ـــ بمعنى الحدّ الأكثر من التمتع بالماديات ولذائذها ـــ تهبط بالإنسان إلى مستوى البهيمة، وهي مخالفة لنواميس الخلق في ما يتعلق بالتكامل الإنساني، أما المفهوم الصحيح للحرية فيفسره من خلال نظرة توحيدية وفطرية تتلخص في الانعتاق من عبودية غير الله، ويذكر أن الإسلام أباح الحرية -بمعناها الغربي- وترك للإنسان أن يستمتع بيعض النعم الإلهية بشريطة الصحة والعقلانية (85).
وفي ما يتعلق بحرية المرأة يرى الأستاذ الطباطبائي أن الإسلام تركها حرّة في مختلف شؤون الحياة الاجتماعية، وهي متساوية في ذلك مع الرجل، وقد دعم على الدوام استقلال إرادتها وعملها، ولم يجعل المرأة تحت قيمومة الرجل أبداً (86) . والمورد الوحيد لقيمومة الرجل على المرأة بمعنى طاعتها لزوجها في إطار العلاقة الزوجية المبنية بدورها على عقد الزواج (87) . ولهذا يقوم في مكان آخر ببحث نوع آخر من الزواج تكون للمرأة فيه قدر أكبر من الحرية (88).
وفي ما يتعلَّق بحرية الفكر والعقيدة، يعلن بصراحة:
إن الذين يتصورون قبول الإسلام لأية عقيدة، حتى العقائد غير العقلية والبرهانية مثل عبادة الأصنام، على أساس الآية { لا إكراهَ في الدين } ، مخطئون جداً، لأن الإسلام الذي يقوم على فطرة التوحيد ونفي الشرك لا يمكنه أن يترك الناس أحراراً في معارضة أصل التوحيد. والآية { لا إكراهَ في الدين } تعني نفي الاستناد إلى الأساليب غير المنطقية في الاتجاه الديني (89).
ويطرح الأستاذ أصل «العقد» الأساسي والفطري في جميع المناسبات الاجتماعية
________________________________________
(84)-تفسير -الميزان، -ج4، -ص42.
(85) المصدر -نفسه.
(86)-تفسير -الميزان، -ج4 -ص73 -وج8 -ص26 -و150 -و181.
(87) مقالة -الولاية -والزعامة، -ص93.
(88) المصدر -نفسه، -ص114.
(89) المصدر -نفسه.

[الصفحة - 300]


والسياسية، ويرى إمكانية تنظيم جميع العلاقات الإنسانية وتعديلها على أساس هذا الأصل القويم. وهو الأصل الذي يطلق عليه الإسلام، «الايمان» في ما يتعلق بالعلاقة بين الإنسان والله، وهو نفسه «العقد» في العلاقات الإنسانية. وعلى الرغم من ان العقد وتعهد الإنسان أمامه من الأمور الفطرية، لكن بعض العقود والتعهدات المترتبة عليها تكون غير عقلانية ومخالفة للفطرة تماماً، وهي مخلّة بالنظام الاجتماعي. ويبحث ـــ على سبيل المثال ـــ العقود الربوية وما ينتج عنها من إخلال في نظام المجتمع وتمايز طبقي وتعميق للفقر (90).
نظرية الثابت من داخل المتغير
وتحت عنوان الإسلام والمتطلبات الحقيقية لكل عصر، يقوم الأستاذ العلامة ببحث قضية أساسية هي التنمية السياسية في الإسلام، إكمالاً لفلسفته السياسية، وكيفية تطبيق قوانين الإسلام الثابتة في مختلف عصور الحضارة الإنسانية وعلى اختلاف الظروف الاجتماعية. في هذا المجال أيضاً، يرى أن أساس التشريع هو الفطرة الإنسانية الثابتة، وأن العديد من المتطلبات والظروف الاجتماعية التي يتصور عدم تطابقها مع قوانين الإسلام، هي انحراف عن الفطرة السليمة، بينما النظام وأحكامه ما هو إلاّ انعكاس لنظام الخلق.
وقد بحث هنا بدقة خلق الإنسان خصوصاً، وطبيعة الإنسان المتحولة والتكاملية-باعتباره جزءاً من عالم الطبيعة-المتغيرة على مدى اللحظات، والمتجهة نحو الكمال، واعتبارها هي الملاك، في ما عدَّ الأحكام الثابتة والمتغيرة، انطباقاً مع الفطرة وقوانين التكامل.
ويرى أن الإسلام ينص على تلك الأحكام نفسها الثابتة المنسجمة مع نظام الخلق والكون الثابت، الذي يسير من داخله نحو التحول والتغيير لا محالة. وعلى مدى اطلاعي، فإن الأستاذ العلامة هو أول فقيه يقوم بتقسيم الأحكام الإلهية إلى ثابتة ومتغيرة على شكل نظرية «النظام الفقهي الثابت والمتغير من الداخل»؛ وذلك في مجال المباحث الحقوقية والفقهية. ويشرح الأستاذ العلامة هذه النظرية ضمن بيانه للأحكام الثابتة والمتغيرة في الإسلام، فيقول: مع أن أساس أحكام الإسلام ثابتة، لكنها وعلى أساس معادلات يطلق عليها بالعناوين الثانوية - وفي ظروف خاصة - تتحول إلى أحكام أخرى تسمى بالأحكام الثانوية.
________________________________________
(90)-المصدر -نفسه، -ص73.

[الصفحة - 301]


هذا التغيير في أحكام الإسلام يكون على أساس ضوابط خاصة لا يمكن القيام به إلا من قبل الفقهاء لدقة عملية الاستنباط من جهة، ودقة تنفيذ هذه الضوابط الخاصة من جهة أخرى، وفي هذا المجال تلعب القواعد والضوابط الآتية دوراً كبيراً في عملية تغيير الأحكام. وهذه القواعد هي: قاعدة لا حرج، قاعدة لا ضرر، قاعدة نفي السبيل، قاعدة اختلال النظام، قاعدة تقديم الأهم على المهم وقاعدة دفع الأفسد بالفاسد.
ويرى الأستاذ أن هذا التحول مساوق للنمو الذي تتطلبه الفطرة، والضرورة التي لا مفر منها مع الأخذ بأصل تكامل الإنسان، لأنه لابد من لركب الحضارة من اتباع هذه القوانين في التكامل لكي يصل إلى أهدافه السامية، وقد ضمن هذا التكامل في الأحكام الإسلامية الثابتة المنبثقة من داخل المتغير (91).
وبهذه النظرة، تقوم الفلسفة السياسية. الإسلامية على تيار مستمر من التغيير الدائم والتنمية السياسية، وبهذا يواكب الفكر السياسي الإسلامي مسيرة التقدم والتطور الاجتماعي والحضارة الإنسانية، وتبقى أحكام الإسلام الثابتة متطابقة مع شروط الزمان والمكان والعوامل الأخرى ومقتضياتها.
________________________________________
(91)-الإسلام -والإنسان -المعاصر، -ص221.

[الصفحة - 302]

 
فروع المركز

فروع المركز

للمركز الإسلامي للدراسات الإستراتيجية ثلاثة فروع في ثلاثة بلدان
  • العنوان

  • البريد الإلكتروني

  • الهاتف