العدد 42

العدد 42

محتويات العدد

■ الاستشراق الجديد بثوبه القديم

حسن أحمد الهادي

■ بشريّة النصّ القرآني في دراسات المستشرقين

هبة محمد جابر حلواص

■ ترجمة القرآن الكريم إلى اللغة الألمانيّة

د. الشيخ محمد علي الرضائي ، الشيخ فريدريش شيفر

■ المهدويّة في مرآة الاستشراق

مجتبى الساده

■ التلقّي العربي للظاهرة الاستشراقيّة،  بين الارتياب والتماهي

نوال بن صالح

■ نقد رؤية تشلكوفسكي بشأن مآتم الشيعة

السيد رضا قائمي ، علي راد

■ توشيهيكو إيزوتسو ونقده للمقاربات الاستشراقيّة في أبعادها اللغويّة والفكريّة

د. محمد حسن بدر الدين

■ التشيّع في الدراسات الغربيّة

إعداد: مرتضى مداحي

 

 

الافتتاحية

بسم الله الرحمن الرحيم

الاستشراق الجديد بثوبه القديم

إذا أردنا مقاربة الاستشراق الجديد والتحوّلات الطارئة عليه، فليس من المستساغ أن نقاربه مقاربةً اصطلاحيّة شكليّة ترتبط بشرح المصطلح، وملاحظة ما طرأ على المفهوم من تطوّر أو تغيير معنائي، أو البدء من مقارنته بالاستشراق القديم على مستوى المفهوم والمصطلح، بهدف بيان الفروقات بينهما، بل لا بدّ من قراءة التحوّلات الفكريّة والمنهجيّة والإيديولوجيّة المرتبطة به بعمق، وملاحظة خلفيّات هذه التحوّلات وتحليلها، ونسبة ارتباطها بأهداف الاستشراق القديم، وحالة التجانس والنمطيّة القائمة بينهما، وتمحورهما في ظلّ جامع يعتمد على ثنائيّة افتراض التفوّق الأخلاقي والثقافي على الآخر الشرقي، وبالتالي ينبغي فهم الاستشراق الجديد على أنه «مُكمِّل لأنماط التمثيل الاستشراقي الدائمة». إذ لا يُخفي المستشرقون أنفسهم أنَّ عوامل تبلور الاستشراق الجديد ترتبط بشكل وثيق بالتراث الذي خلَّفه الاستشراق التقليديّ، والنظرة الممتدَّة للإسلام بالنقص والعوار، والمناخ الفكريّ لما بعد الحرب الباردة.

ولهذا لا يكفي السعي لإكساء الاستشراق بمجموعة من المتُغيّرات، كالتخلِّي عن لقب «مُستشرِق» إلى مُستعرِب، أو مُختصّ بالإسلاميَّات؛ للتخلُّص ممَّا علِقَ باللقب القديم من دلالات فكريَّة واجتماعيَّة سلبيّة أو سياسيّة مستعمرة. وتحوُّلُ الاستشراق الموحَّد إلى تخصُّصات علميَّة دقيقة ذاتِ موضوعات مُتعدِّدة، وكذلك تفتُّتُ مفهوم الشرق إلى أكثر من شرق، ومزيد من التخصيص لكُلّ منطقة.

ومهما تكن التبدّلات الطارئة على مصطلح الاستشراق؛ يجب أن لا يغيب عن بالنا مجموعة من الثوابت التي يقوم عليها الاستشراق، من أهمها:

 أنّ الاستشراق -قديمًا وحديثًا- عبارة عن مُنتَجٍ إنسانيٍّ مَحكومٌ بظروف المُواجَهَة بين مُنتجِهِ «الغرب»، ومَوضُوعِهِ «الشرق».

وأنّ الاستشراق نشأ كأداة غربيّة لدراسة الشرق، متذرّعًا بالعلم والمعرفة، لكنّه في حقيقة الأمر كان سيفًا مسلولًا في خدمة البعثات التبشيريّة والأطماع الاستعماريّة، فالواضح أنّ حركة الاستشراق قد ارتبطت في أغلب مشاريعها وأهدافها بدول الاستعمار وأهدافها الاستيلائيَّة على مقدَّرات الشُّعوب ومواردها.

ومن الواضح أنّ هدف الاستشراق هو معرفة «الشَّرق الهويَّة، والتَّاريخ» المتمثِّل في الإسلام والمسلمين، وأنَّ الاستشراق هو إسقاط من الغرب على الشَّرق بهدف السَّيطرة عليه[2]. وأنّ الغاية الرئيسة لأغلب الدراسات الاستشراقيّة التي عمل المستشرقون والمستعمرون على تحقيقها بـ«تغريب الهويّة الإسلاميّة والعربيّة»، بحيث تتمظهر حالات التعلّق والانبهار والإعجاب والتقليد والمحاكاة للثقافة الغربيّة والأخْذ بالقيم والنُّظم وأساليب الحياة الغربيّة.

وأنّ المستشرقين قد أنتجوا منظومة متكاملة من الأفكار والرؤى حول الشرق والإسلام، نسج بموجبه الخيوط الأولى للمخيّلة الغربيّة حول الإسلام كدين سماوي، وحول كل ما يتعلّق بالتراث العربي والإسلامي، وهو ما كرّس صورة نمطيّة للشرق لا تعكس سوى الجهل ونقاط الضعف التي تمكّن الغرب من التسلّل منها للاستحواذ على عناصر القوّة في الشرق.

ومع التَّسليم بأنَّ المنطلقات، والغايات الأولى للاستشراق قد ترتبط بأهداف بحثيَّة، وعلميَّة، وهو ما تحقَّق على يد نفرٍ من المستشرقين، دفعهم حبُّ الاستطلاع، والانبهار بالإسلام، وبتعاليمه إلى أن يبحثوا فيه ويكتبوا عنه، متجرِّدين من الهوى، والأغراض، والأحكام الجاهزة.... فمن الواضح أنّه لم تغب غايات الاستشراق وأهدافه عن نصوص أعلام المستشرقين، ومشاريع وأرباب الكنيسة، والَّتي ارتبط عنوانها العاُّم بطابع استعماري استعلائي، ولم تفرِّق بين الاستعمار السِّياسي، والأمني، والمعرفي، والثَّقافي، والاقتصادي في المراحل التَّاريخيَّة كلِّها.

ولهذا، ينبغي أن لا ننبهر بالمصطلحات أو الأساليب الجديدة أو بعض الآراء الإيجابيّة في تراثنا، مهما أُلبست أثوابًا جديدة أو مجدّدة، فإنّ هذه المقولات لا تغيّر من حقيقة الأمر شيئًا، وعليه فإنّ كلّ ما قيل ويقال في الاستشراق الجديد -وإن أصرّ بعضهم على إدخال بعض التحسينات المنهجيّة والأسلوبيّة عليه-، لا يلبسه أثوابًا جديدة تجعل منه مشروعًا علميًّا شفّافًا هدفه الدراسة والبحث في هذا العالم الشرقي لما فيه من نفع للإنسان وللبشريّة بكل مقوّماتها ومواردها؛ وذلك لأنّ المستشرقين الجدد أنفسهم ينطلقون من منطلقات، وخلفيّات لا تختلف عن منطلقات من سبقهم من الغربيّين، حيث يعتبرون أنَّ المجال الإسلاميّ كلٌّ مُتجانس لصُدُوره عن مُحدِّدات ثقافيَّة واحدة، لكنَّ منه ما يمكن تمييزه بـ«الإسلام السياسيّ». وأنَّ تحرُّك المُسلمين إلى الإمام لنْ يكون إلّا بالقطيعة مع الإسلام والتحوُّل نحو التغريب، وأنَّ تخلُّف المسلمين يعود إلى الإسلام. هذا إلى جانب استمرار النظرة إلى العالَم الإسلاميّ بوصفه كتلةً ساكنةً تُشكِّلها هُوِّيَّتُها (الدين، الثقافة، التاريخ) على خلاف الغرب المُتحرِّك المُتحرِّر. علمًا بأنّه توجد رؤية ثانية ومنهجيَّةٌ مُنتقِدةٌ للذات، تسعى إلى تصميم استشراقيّ نقديّ، وتشكيل نظرة واقعيَّةُ إلى الشرق بعد تلك النظرات الأسطوريَّة القديمة، وتفكيكُ الاستشراق الاستعماريّ.

وعندما نعمّق البحث قليلًا للإطلالة على المناهج المعتمدة في الاستشراق الجديد سنجد أنّ أبرزها اثنان: الأوّل: المنهج الأنثروبولوجيّ، وهو دراسة الإنسان في تكوينه الطبيعيّ والثقافيّ. وتتمحور مُجمل الدراسات في أنظمة القرابة والزواج، والحُكم والسُّلطة، والعقائد السِّحريَّة، والشعائِر والطُّقُوس الدينيَّة.

والثاني: المنهج اللُّغويّ الفيلولوجيّ المُطوَّر: وهو اتجاه يحاول نقض الإسلام من أصوله، ويعتمد على ثوابت تبدأ من مصدريّة القرآن والبحث عن النصّ الأصليّ للقرآن. وأنَّ الإسلام ينتسب إلى «الهاجريَّة» وهي من فِرَق اليهود. ويرى أنَّ القرآن كتاب نصوص شعائريَّة طقسيَّة مسيحيّ، وأنَّ لفظة «القرآن» مُشتَّقة من الأصل السريانيّ «قريانا»، وأنَّ «مُحمَّدًا(صلى الله عليه وآله وسلم)» قد ترجَمَه إلى العربيَّة.

ولكلّ من هذين المنهجين عوراته ومشاكله الكبيرة كسائر المناهج الغربيّة التي نختلف معها ابتداءً في أصل النظرة إلى الإنسان...، فهناك رؤيتان عامّتان حول الإنسان، رؤية طوليّة توصل الإنسان إلى الأعلى وتربطه بالغيب، ورؤية أفقيّة تجعل الإنسان في عرض سائر الكائنات وتربطه بالأرض.

وتجعل الرؤية الأولى الإنسان حيًّا متألّهًا لتعرج به إلى السماء، وتبحث عن الإنسان في إطار المعارف الوحيانيّة. هذه الرؤية تنظر إلى جميع حوائج الإنسان وأبعاده، لأنّها تعتمد على ما يذكره خالق الإنسان العالم بسرّه وعلانيته، كما أنّها تجعل معرفة الإنسان مقدّمة لمعرفة الخالق، وتستتبع معرفة النبيّ والإمام...، وعليه فإنّ الإنسان المتلقّي للدين لا يمكنه إلّا أن يكون من القسم الأوّل، ليرقى بالدين إلى السماء ويصبح متألّهًا طبقًا لهدف الخلقة: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) (الذاريات: 56).

أمّا الثانية فتقول إنّه حيوان ناطق لتلصقه بالأرض. وتبحث هذه الرؤية عن الإنسان في إطار المعارف البشريّة. وتدرسه إمّا من وجهة نظر فلسفيّة أو بيولوجيّة أو سياسيّة أو نفسيّة وما شاكل. وبحسب منطلقات كلّ علم ومدرسة تختلف الرؤية إلى الإنسان، فمن يتمسّك بالمدرسة العدميّة لا يمكنه أن يتصوّر أفقًا سعيدًا للإنسان، ولا يرسم له أهدافًا وغايات، ومن يقتصر في تفسير الإنسان على الرؤية البيولوجيّة، لا يمكنه أن يتصوّر الأبعاد المعنويّة في الإنسان، وهكذا. وهذه الرؤية غالبًا ما تبحث عن بعد واحد من أبعاد الإنسان وتعمّمها.

وبناءً على هذا الاختلاف المبنائي تتولّد الكثير من التباينات والاختلافات في الأصول التي ترتبط إنثروبولوجيًّا في أصل النظرة الى المجتمع الإسلامي وسلوكه بكل مكوّناته ليس أكثرها اختلافًا النظرة إلى مكانة المرأة وحقوقها والنظريَّة النِّسويَّة التي تقوم على رفض فكرة «الفارق بين الذَّكر والأُنثى»، وأنَّ ما يُقرُّ الفوارقَ بينهما ليس الطبيعة البيولوجيَّة الجسديَّة الفطريَّة، بل المُجتمع ومعتقداته وثقافته وعاداته. ويكثر فيها الاعتماد على مُصطلح «الجَنْدَر النوع» لتفسير حركة المُجتمع، وتُمحوِرُ «مقاومَتها» من خلاله. وتهدف النسويَّة إلى تفكيك صورة ضعف المرأة المُسلمة وانكسارها، وتحدِّي التعامُل الخاصّ للإسلام مع المرأة.

ثمّ إنّه ما معنى وفق المنهج اللُّغويّ الفيلولوجيّ المُطوَّر البحث عن النصّ الأصليّ للقرآن والسعي للوصولَ إلى مصادر القرآن ونصِّه الأصيل، وأنَّ الإسلام ينتسب إلى «الهاجريَّة»، وهي من فِرَق اليهود، ويرى أنَّ القرآن كتاب نصوص شعائريَّة طقسيَّة مسيحيّ، وأنَّ لفظة «القرآن» مُشتَّقة من الأصل السريانيّ «قريانا»، وأنَّ «مُحمَّدًا(صلى الله عليه وآله وسلم)» قد ترجَمَه إلى العربيَّة. ويعتمد في أطروحته على التشابُه بين اللُّغتَيْنِ العربيَّة والسريانيَّة...

وقد صرَّح الباحث «ميشال أورسل» أنَّ أهداف هذا التيار الفيلولوجيّ هي: نفيُ وجود النبيّ أصالةً، والتشكيكُ في رواية جمع القرآن، والادّعاءُ أنَّه نصٌّ سريانيٌّ، والتشكيكُ في وجود مدينة اسمها «مكَّة»، وأنَّ الكعبة من صناعة الأُمويِّين، وأنَّ المسجد الأقصى مُؤامرة أُمويَّة. ويعتمدون في تحقيق هذا على: إعادة دعاوى الاستشراق القديم ورُوحه، ونفي المصادر الإسلاميَّة الأصيلة وردّها، وسُوء استخدام الوثائق.

ختامًا إنّ الاستشراقَ الجديد قد لبس ثوبًا ظنّ صنّاعه أنّه جديد، إلّا أنّهم في حقيقة الأمر قد عبّروا عن حالة من شدَّة الارتباط بالإرث السلبيّ في الاستشراق القديم، يُعزى تفضيل اسم «الاستشراق المُجدَّد» لكونه إعادةً وتجديدًا لافتراضات الاستشراق القديم. والارتباطُ بينهما يبرز في العلاقة الوثيقة مع الدوائر السياسيَّة وقوى الهيمنة والاحتلال، وكذلك التداخُل الضخم بين مراكز الأبحاث (التي سُمِّيَتْ بمُستودعات الأفكار) ودوائر السياسة، وبالتالي استمراريَّة تثبيت واستثمار الصور النمطيَّة السلبيَّة عن الشرق الإسلاميّ، واستمراريَّة المُصادرات الاستشراقيَّة المُتعلِّقة بالإسلام كإصرار الاستشراق الجديد على رؤية الإسلام هرطقةً من خلال ردِّ كلِّ ما فيه إلى عناصر أخرى؛ عقيدةً وشريعةً وقرآنًا.

وبقيت النظرةُ النموذجيَّة للمسيحيَّة التي تربَّى عليها المُستشرقون هي التي تحكم نظرتهم إلى الإسلام؛ ولهذا فهم يصرّون على القول بفشل في رؤية الدين مُحرِّكًا؛ فهُم يردُّون كلَّ الحركة الإسلاميَّة قديمًا وحديثًا إلى أسباب سياسيَّة واقتصاديَّة ومصالحيَّة، مع طرح الدين كُليًّا من تحريك المُجتمع.