البحث في...
عنوان التقرير
إسم الباحث
المصدر
التاريخ
ملخص التقرير
نص التقرير
 أسلوب البحث
البحث عن اي من هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على كل هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على هذه الجملة

May / 21 / 2025  |  209منهجيّة العلم الديني

الشيخ حميد بارسانيا المركز الاسلامي للدراسات الاستراتيجية خريف 2024 م / 1446 هـ
منهجيّة العلم الديني

الملخّص[1]

 العلم والدين مفهومان متغايران؛ فالدين هو أسلوب حياة الانسان عندما يكون متطابقًا مع إرادة الله تعالى، وأمّا العلم فهو الواقع أو الوصف الذي ينكشف من خلاله شيءٌ ما، ويصبح واضحًا.

وإذا أردنا أن نصف أيّ علمٍ بأنّه دينيٌّ فلا بدّ أنْ يكون من خلال:

أولاً: موضوع العلم الديني هل هو الدين أو احد مقوماته ولوازمه؟ وثانيًا: ميتافيزيقيا العلم، ثالثًا: الجواز والقيم، رابعًا: من جهة العالِم، خامسًا: الثقافة والحضارة، سادسًا: المنهج.

في هذا البحث يتناول الباحث مجموعة محاور مهمة أبرزها: الاتّجاه الديني والمناهج الحسيّة والتجريبيّة، ومكانة الوحي في المعرفة الدينيّة، وتناقضات العلوم التجريبيّة والعقليّة والنقليّة، ويبين كيفيّة تفاعل العلوم الوحيانيّة مع العلوم العقليّة، وكون العقل مفتاحًا ومصباحًا للنقل، وشروط تشكّل التعارض بين العقل والنقل.

ويتخذ البحث منعرجًا معرفيًا في بيان خطأ كونت في مواجهته لقضايا جدليّة الطرفين، ومن ثم يتجه لنقد رأي الجابري بشأن علاقة العقل البياني والعقل البرهاني والعرفانيّ، والتعارض بين العقل الاستنباطي والعقل والتجريبي والتجريدي، والأحكام الإرشادية للنقل ونسبتها إلى العقل، والتعارض بين العقل والنقل، وأنواع التعارض المستقر وغير المستقر، وغيرها من الأبحاث المهمة التي أنطوى عليها البحث.

الكلمات المفتاحيّة: العلم، الدين، الاتجاه الديني، العقل البياني، العقل البرهاني، النقل، كونت.

 

Abstracts

Science and religion are two distinct concepts; religion is the way of life when it aligns with the will of Allah Almighty, while science is the reality or description through which something becomes clear and evident.

To describe any science as religious, it must be through:

1. The subject of religious science: Is it religion or one of its components and necessities?

2. The metaphysics of science.

3.  Permissibility and values.

4.  From the perspective of the scholar.

5. Culture and civilization.

6. The methodology.

In this research, the author addresses several important topics, most notably: the religious approach and sensory and experimental methods, the status of revelation in religious knowledge, contradictions between empirical, rational, and traditional sciences, and how revelatory sciences interact with rational sciences. It also discusses the role of reason as a key and a lamp for tradition, and the conditions for the formation of conflicts between reason and tradition.

The research takes a cognitive turn in explaining Comte’s error in addressing controversial issues, then critiques Jabri’s view on the relationship between demonstrative, narrative, and intuitive reason, the conflict between deductive, empirical, and abstract reason, the advisory rulings of tradition and their relation to reason, the conflict between reason and tradition, types of stable and unstable conflicts, and other important topics covered in the research.

Keywords: science, religion, religious approach, demonstrative reason, narrative reason, tradition, Comte.

 

الاختلاف بين العلم والدين وكيفيّة اتّصاف العلم بأنّه دينيّ

إنّ العلم والدين مفهومان متغايران عن بعضهما البعض، فالدين هو أسلوب حياة الإنسان عندما يكون متطابقًا مع إرادة الله سبحانه وتعالى التشريعيّة، أمّا العِلم فهو الواقع أو الوصف الذي ينكشف من خلاله شيءٌ ما ويُصبح واضحًا، ومن هنا فإنّ مفهوم الدين يختلف عن مفهوم العلم، فنحن نتَعرَّف على الدين بالعِلم، ونعيش بالدين، واتّصاف العلم بأنّه دينيٌّ أو غير دينيٍّ إنّما يكون بوجهٍ من الوجوه أو بجهةٍ من الجهات المختلفة، مثلًا: الموضوع، والميتافيزيقيا، والمنهج، والجواز، والعالم، والثقافة، والمدنيّة.

وصفه بالديني من جهة موضوع العلم

أوّلًا: إذا كان موضوع العلم هو الدين أو أحد مقوّمات الدين ولوازمه، فيمكن وصف ذلك العلم بأنّه علمٌ دينيٌّ بهذا الاعتبار، فيُقال عن طلاب العلوم الدينيّة: يدرس الطلاب العلوم الدينيّة، أو يُقال: يتمّ تدريس العلوم الدينيّة في الحوزات العلميّة، وتُسمّى العلوم الحوزويّة علومًا دينيّةً بهذا التوضيح، وهو أنّه إذا كانت العلوم من قبيل الفقه الذي يدور حول الدين، أو التي يُبحث فيها حول المبدأ والمعاد والله سبحانه وتعالى وأسمائه وصفاته، فالله سبحانه وتعالى ليس دينًا، بل هو مبدأ الدين ومنشؤه، لكنّ الاعتقاد بالله ـ الذي هو فعل الإنسان ـ جزءٌ من الدين، ولو لم يكن الله سبحانه وتعالى موجودًا لكان الدين أمرًا كاذبًا وسيكون الاعتقاد بكون الدين حقيقيّاً هو الآخر اعتقادًا خرافيّاً غير واقعيٍّ أيضًا، وعلى كلّ حال لمّا كان موضوع العلم بالله سبحانه وتعالى أمرًا دينيّاً، لذلك سُمّي علمًا دينيّاً، ووصف العلم بالدينيّ بلحاظ الموضوع هو أمرٌ شائعٌ.

وقد أسمى أوغست كونت العلوم بالدينيّة بهذا اللحاظ والاعتبار، فهو في تقسيمه للعلوم البشريّة إلى ثلاثة مراحل، اعتبر أنّ المرحلة الأولى هي تلك المرحلة التي كانت العلوم فيها تتّسم بوصف الدينيّة، وسبب كون العلوم دينيّةً في تلك المرحلة هو أنّ العلماء اعتبروا العالم ـ ومن ضمنه الطبيعة ـ مكانًا لحضور الآلهة، وبالتالي فإنّ جميع العلوم حينما تُبيِّن الأمور الطبيعيّة فهي تتناول المواضيع الدينيّة، أي: الآلهة.

وفي هذه النظرة، عندما ننزع الأسطورة عن العالَم وننظر إلى الموجودات بنحوٍ مستقلٍّ عن الأمور الدينيّة والظواهر الدينيّة، سوف تصبح العلوم غير دينيّةٍ أيضًا، وبالتالي نجد أنّ تسميّة العلوم بلحاظ الموضوع مطروحةٌ حتّى بين الأشخاص الذين لا يعتقدون بالدين أيضًا، ولكن بالطبع تسميتهم تلك تتمتّع بهذه الخاصيّة، وهي أنّهم يعتبرون العلم الدينيّ مجرّد توهّمٍ ونتيجةً للخطأ الذهني عند البشر، ويعتبرون العلم الحقيقي والواقعي هو العلم اللاديني.

وصفه بالديني من جهة ميتافيزيقيّة العلم

ثانيًا: يبتني وصف العلم بالديني بلحاظ الميتافيزيقيا (عالم ما وراء الطبيعة) على المبنى التالي وبعد الإذعان به، وهو أنّ العلوم الجزئيّة ـ أي: العلوم التي تتناول الظواهر الخاصّة أو المقيّدة كالظواهر الطبيعيّة والرياضيّة، أو الظواهر الاجتماعيّة والإنسانيّة ـ تقوم على مجموعةٍ من المباني والأسس الميتافيزيقيّة، ولا يمكن لأيٍّ من العلوم الجزئيّة أن تكون خاليةً من المباني والأسس الميتافيزيقيّة، مثلًا: مبدأ الواقعيّة، أو حضور الواقع المستقلّ عن إرادة الإنسان، أو انحصار الواقع في الأمور الطبيعيّة، أو رؤية الوجود مع الزمان في أفقٍ واحدٍ، ونفي الوجودات الثابتة والمتعاليّة، وكذلك نفي إمكان الوصول إلى فهم الحقائق الوجوديّة الثابتة وغير الطبيعيّة (غير المادّية) أو إنكار ذلك، أو نظير: مبدأ العِليّة، أو نفي التناقض الذي هو من الأسس الفلسفيّة والمستعمل في العلوم المختلفة.

وكلّ واحدٍ من هذه الأصول والمبادئ المذكورة أو المشابهة لها، هي أصولٌ ومبانٍ يُؤثّر قبولها أو رفضها على كيفيّة تكوين العلوم الجزئيّة وتدوينها، وإذا كان لهذه الأصول والمباني هويّةٌ دينيّةٌ، يعني: إذا كانت متوافقةً مع معرفة الوجود التي تتوقّف عليها الحياة الدينيّة، ففي هذه الحالة، سوف تتّصف بدايةُ هذه المبادئ الميتافيزيقيّة بصفة الدينيّة، وتبعًا لذلك سوف يُقرن هذا الوصف بتلك العلوم التي تتشكّل بالاستعانة بها.

وصفه بالديني من جهة الجواز والقيّم

ثالثًا: إنّ اللحاظ والحيثيّة الأخرى التي يُمكن أن تكون منشأً لاتّصاف العلوم المختلفة بصفة الدينيّة، هو لحاظ الإباحة والجواز، أي: يُمكن أن يُسمّى ذلك العلم الذي لم يمنع الدين من تعلّمه، بل يرى تعلّمه جائزًا، علمًا دينيّاً، والجواز هنا هو بالمعنى الأعمّ المقابل للحرمة وله أقسامٌ، فكلّ دينٍ يرى أنّ دراسة بعض العلوم وتعلّمها أو استعمالها جائزٌ، بل يرى ذلك بالنسبة لبعض العلوم أمرًا ضروريّاً وواجبًا، وعلى غرار ذلك يمكن أن يعتبر تعلّم بعض العلوم واستعمالها حرامًا، ويمكن تسمية الجهة التجويزيّة بالجهة القِيَميّة أيضًا، وبهذا الاعتبار يُصبح العلم الدينيّ علمًا منسجمًا مع القِيم الدينيّة.

وصفه بالديني من جهة العالِم

رابعًا: يُقسّم العلم بلحاظ العالِم إلى دينيٍّ وغير دينيٍّ أيضًا، ويعتقد البعض أنّ العلم لا يمكن وصفه بالدينيّ لا بحسب ذاته ولا باعتبارٍ آخر، والعلماء فقط هم الذين يُمكن وصفهم بالمتديّنين أو غير المتديّنين، ولو كان هناك وجهٌ لوصف العلم بالدينيّ، فلن يكون هناك سوى هذا الوجه، وهذا الوجه ليس وجهًا صحيحًا أيضًا ولا يمكن الدفاع عنه.

هذا ولكن من خلال تقديم بعض التوضيحات يُمكن الدفاع عن اتّصاف العلم بالدينيّ أو اللادينيّ من حيث العالِم، ومن ضمنها التوضيح التالي: إذا كان العلم متوافِقًا بنحوٍ منطقيٍّ مع تديّن العالِم، ولا يُؤدّي بأيّ نحوٍ إلى نقض بنيان إيمان هذا العالِم أو إنكاره، فهذا العلم يمتلك خصلةً دينيّةً، وبالمقابل، إذا كانت النظريّات العلميّة بنحوٍ تُهدّد الإمكانيّة المنطقيّة للعيش والحياة الدينيّة، فإنّ ذلك العلم يمتلك خصلةً غير دينيّةٍ.

رغم أنّنا نجد من خلال البيان المذكور ومن الناحية المنطقيّة بأنّ بعض النظريّات التي تمّ تقديمها كنظريّات علميّة تُعدّ الأرضيّة للأفراد ليصبحوا متدينيّن، أو أنّها تتوافق مع تديّنهم، إلّا أن بعض النظريّات الأخرى تُقوّض تديّنهم، لكنّ هذا التقسيم ليس مثمرًا جدّاً؛ لأنَّ بعض المتديّنين أدركوا حقيقة الدين وبيّنوا براهين إثبات وجود الله والمعاد بوضوحٍ أيضًا، إلّا أنّهم لم يلتزموا بذلك من حيث الأفعال والميول وواجهوا التديّن بكلّ عنادٍ، فلو كان من المقرّر أن يكون كلّ عالِمٍ بالحقائق ملتزمًا بها ويعمل بها حتمًا، لما وُجدت الشقاوة الحقيقيّة أصلًا، فالشقي الواقعيّ هو من يَعرف الحقّ ويعمل خلافًا لِما يعلم.

وصفه بالدينيّ من جهة الثقافة والحضارة

خامسًا: اتّصاف العلم بأنّه ديني أو لا ديني بلحاظ الثقافة والحضارة، يعني: إذا كانت النظريّات العلميّة منسجمةً مع الثقافة الدينيّة من الناحية المنطقيّة والمعرفيّة، كان ذلك العلم دينيّاً وإلا فيكون لا دينيّاً، وكلّ ثقافةٍ وحضارةٍ تقتضي تعريفًا ومعنىً ومفهومًا خاصّاً للعلم والعقل بحيث يكون ذلك التعريف منسجمًا مع المراتب المختلفة من العقلانيّة والمعرفة العلميّة، وبالتالي العلم الذي ينسجم مع الثقافة والتاريخ والحضارة الدينيّة يُمكن أن يوصف بأنّه دينيٌّ، وتكتسب كلّ ثقافةٍ وحضارةٍ هويّةً خاصّةً من خلال المعنى والتفسير الخاصّ للعلم والمكانة التي تمنحها للعلم، وقد لا تقبل ثقافة من الثقافات بعض معاني العلم، وتعتبره خاطئًا، أو إذا قبلته فهي تُحرّمه من الناحية الحُكميّة والجواز، وإذا اعتبرته جائزًا فقد لا تعطيه أهميّةً ولا تعتبره علمًا نافعًا، فقد دَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ صلّى الله عليه وآله الْمَسْجِدَ فَإِذَا جَمَاعَةٌ قَدْ أَطَافُوا بِرَجُلٍ، فَقَالَ: مَا هَذَا؟ فَقِيلَ: عَلَّامَةٌ. قَالَ: وَمَا الْعَلَّامَةُ؟ قَالُوا: أَعْلَمُ النَّاسِ بِأَنْسَابِ الْعَرَبِ وَوَقَائِعِهَا وَأَيَّامِ الْجَاهِلِيَّةِ وَبِالْأَشْعَارِ وَالْعَرَبِيَّةِ. فَقَالَ النبيّ: ذَاكَ عِلْمٌ لَا يَضُرُّ مَنْ جَهِلَهُ، وَلَا يَنْفَعُ مَنْ عَلِمَهُ.[2]

لقد تشكّل النظام الجاهليّ عند العرب على أساس العلاقات القَبَليّة والنَسَب، واستدامة هذا النظام يحتاج إلى علم الأنساب أيضًا، أمّا الإسلام فقد تأسّس على محور علاقة الإنسان بالله سبحانه وتعالى، وقد نُظِّمت هذه العلاقة على أساس معرفة النفس، ومعرفة حقيقة الذات والعالم، وفي الثقافة الإسلاميّة تُعدّ معرفة النفس أنفع المعارف كما أنّ التوحيد ومعرفة الله هما أكثر العلوم قيمةً، وقد أخرجت الثقافة الإسلاميّة قضيّة العِرق والقبيلة من المواضيع الأساسيّة للعلاقات الاجتماعيّة.

وقد تشكلّ العالَم الحديث أيضًا على أساس التعريف والمكانة الحديثة للعلم، فهوية هذا العالَم تتحدّد بالتغيرات والتطوّرات التي تظهر في المعنى الحديث للعلم، ولذلك نجد لكلّ ثقافةٍ وحضارةٍ ارتباطًا وتوافقًا مع بعض معاني العلوم وأقسامها، وعلى هذا الأساس تنشأ كلٌ من الثقافة الدينيّة والإسلاميّة أو العلمانيّة الدنيويّة مع العلم والمعرفة المتوافقتان مع كلٍّ منهما، ويمكن النظر إلى العلوم بهذا الاعتبار مع خصالها ووصفها الثقافي والتاريخي، وبهذا الاعتبار يُمكن أن يُعدّ بعضها دينيّاً أو لا دينيّاً.

وصفه بالديني من جهة المنهج

سادسًا: لقد أشرنا حتّى الآن إلى خمس لحاظات واعتبارات ذُكرت أو يمكن ذكرها لاتّصاف العلم بأنّه ديني أو لا ديني، والآن ننتقل إلى وجهٍ آخر يمكن أن يكون السبب أو الواسطة لاتّصاف العلم بأنّه ديني أو لا ديني، وهذا الوجه هو المنهج.

مثلما اعتبر أوغست كونت الموضوع أحد أسباب اتّصاف العلم بالديني أو غير الديني، فقد ذكر المنهج كذلك باعتباره سببًا، فبرأيه العلم الدينيّ هو العلم الذي يستخدم منهج الاستعارة والتشبيه والخيال، ويعتقد أنّ العلم الدينيّ يقع مقابل نوعين آخرين من العلم، ويعتبر أنّ هذه الأنواع الثلاثة من العلم تُشكّل ثلاثة أنواع من المعرفة، والتي تشكّلت بهدف معرفة العالم وتفسيره، لكن هناك نوعان من ذلك العلم ليسا حقيقيّين ويستخدمان أساليب لا تُؤدّي إلى فهم حقيقة الأشياء، في المقابل النوع الثالث منها هو علمٌ حقيقيٌّ يتناول معرفة العالم، فهو يضع المعرفة والعلم الدينيّ مقابل نوعين آخرين من المعرفة يتناولان معرفة العالم بالمنهجين العقلي والتجريبيّ.

ويُسمّي كونت المعرفة التي تتناول معرفة العالم بالمنهج العقليّ المعرفة الفلسفيّة، ويُسمّي المعرفة التي تتناول معرفة العالم بالمنهج التجريبيّ المعرفة العلميّة (Scientific). وهو يعتبر المعرفة التجريبيّة علمًا واقعيّاً، وفي المقابل يرى أنّ المعرفة الفلسفيّة والدينيّة اللتان تتبعان في رأيه منهجًا مختلفًا عن المنهج التجريبيّ هي شبهُ علمٍ ومعرفةٍ مليئةٌ بالأخطاء.

الأسئلة المتعلقة بمنهج العلم الديني

والآن السؤال المطروح هو التالي: ما هي الخاصيّة أو الخصائص المنهجيّة التي يتمتّع بها العلم الديني؟ وهل منهج العلم الدينيّ هو كما ذكر أوغست كونت منهجٌ خياليٌّ تخيّليٌّ وتمثيليٌّ، وهل يفتقد هذا المنهج لقيمة المعرفة الكونيّة؟ وهل أنّ قيمته العلميّة مخدوشة؟ أم أنّ منهج العلم الدينيّ يتضمّن أبعادًا عقليّةً وتجريبيّةً وأمثال ذلك، وبالتالي فهو يتمتّع باعتبارٍ في المعرفة الكونيّة؟

ومع الالتفات إلى إمكانيّة تقسيم العلم إلى دينيّ وغير دينيّ على أساس المنهج، تُثار الآن الأسئلة التالية:

ما هي العوامل المُؤثّرة في تكوين المناهج العلميّة المختلفة وتدوينها، وبما في ذلك العلم الديني؟

ما هي خصائص المنهج الدينيّ في العلم؟

هل لِمَا يُطلق عليه المنهج الدينيّ للعلم، واقعٌّ تاريخيٌّ؟ وهل يمكن أن يكون له واقعٌ اجتماعيٌّ وثقافيٌّ؟

هل المنهج الدينيّ للعلم هو منهجٌ حقيقيٌّ على الرغم من الواقع الثقافي والتاريخي، بمعنى أنّه هل هذا المنهج في مقام الثبوت يُعدّ منهجًا يوصل الإنسان إلى الحقيقة، أم أنّه ظاهرةٌ ذهنيّةٌ صرفةٌ (subjective) أو ثقافيّةٌ (inter subjective)، ولا يحكي عن الحقيقة ولا يهديح إليها كما يدّعي؟

إجابات كونت على الأسئلة المتعلقة بالمنهج العلمي

لقد أجاب أوغست كونت على أغلب الأسئلة المذكورة أعلاه بناءً على وجهة نظره ومبانيه، فهو يرى أنّ منهج العلم الإلهي والديني منهجٌ خياليٌّ نشأ من تشبيهٍ طفوليٍّ للعالَم بالإنسان في الحقبات الأولى من التاريخ البشريّ، ويرى أنّ أهمّ عاملٍ مؤثرٍ في إنشاء هذا المنهج هو عدم النضج والسذاجة والتعامل البدائيّ والنفسيّ للإنسان البدائيّ مع العالم. ومن وجهة نظره، العلم الدينيّ لا يقبل الاستمرار في حقبات النموّ والبلوغ الفكري للمجتمعات البشريّة، وبسبب المنهج الذي يمتلكه هذا العلم فعلى الرغم من حضوره القويّ في العديد من الحقبات التاريخيّة للبشر إلّا أنّه لا يُؤدّي إلى الحقيقة، وليس علمًا حقيقيّاً، بل هو جهدٌ بذله البشر من أجل تفسير العالم ومعرفته في المراحل الأولى من عيشهم وحياتهم الثقافيّة والتاريخيّة، وهذا الجهد البسيط، لا يعطي نتيجةً صحيحةً ولذلك فهو محكومٌ بالزوال والعدم في المراحل اللاحقة، وبحسب رأيه، إنّ تشبيه العالَم بالإنسان يُؤدّي إلى اعتبار حقائق العالم كائنًا حيّاً ويمتلك روحًا مثلها مثل الإنسان، ونتيجةً لهذا المنهج، تتكوّن الأساطير والأديان الأسطوريّة، ومن وجهة نظره فإنّ التفسير الدينيّ للعالم هو نتيجةٌ لهذا الخطأ المنهجيّ.

وينسب كونت ما يُسمّيه بالعلم الدينيّ إلى المرحلة الأولى من الحياة البشريّة، ويعتقد أنّه على الرغم من أنّ هذا النوع من المعرفة مع منهجه، إنّما تمّ تدوينه بقصد المعرفة العلميّة للبشر، إلّا أنّه يفتقد للقيمة العلميّة بسبب مشكلته المنهجيّة، وهو لا يمتلك إلّا القيمة التمهيديّة التاريخيّة، ومن وجهة نظره تقتصر قيمة العلم الدينيّ على أنَّه يُعِدّ ذهن البشر وحياتهم للدخول في المراحل والحقبات اللاحقة، فالعلم الدينيّ يُهيّء الذهن من خلال منهجه التخيّلي لكي يتّجه إلى اكتشاف المناهج العقليّة التي تتمتّع بالنظام المنطقي.

ويرى أوغست كونت ـ متأثرًا بكانط ـ بأنّ العقل هو أمرٌ ذاتي وذهنيٌّ وغير واقعيٍّ، ومن وجهة نظره، المنهج العقلي هو الآخر لا يُمثّل طريقًا للمعرفة الواقعيّة والعينيّة، ويعتبر كونت بمنهجه الانطباعي والحسّي بأنّ المنهج الحسّي والتجريبيّ هو المنهج الواقعي الوحيد، وبرأيه ينتمي المنهج العقلي إلى الحقبة الوسطى والمراهقة لتاريخ الفكر البشري، وبأنّ المنهج العقليّ يُهيّء الإنسان للدخول إلى المنهج التجريبيّة، ويضع كونت لفظة «علم» (Science) كمعنى للمعرفة التي تُكتسب بالمنهج التجريبيّ، وبالتوازي مع وضع معادل للفظ العلم (Science) للمعرفة التجريبيّة والقابلة للاختبار، وضع لفظة «فلسفة» للدلالة على المعرفة التي تسعى إلى معرفة العالم بالمنهج العقلي، ووضع لفظة «اللاهوت» الحاكية عن التديّن للدلالة على المعرفة التي تسعى إلى معرفة العالم بمنهج تخيّلي. وبهذا النحو رسم ثلاث مراحل من جهود البشر العلميّة للتغيرات التاريخيّة والعلميّة لدى البشر والتي تبتني على ثلاثة مناهج:

المرحلة الدينيّة (اللاهوتيّة):  Theological stage

المرحلة الفلسفيّة: Philosophical stage

المرحلة (الوضعيّة) العلميّة: Scientific stage

السابقة التاريخيّة لمباحث المنهج والمنطق

لقد تحدّث العديد من العلماء قبل كونت عن أهميّة المنهج في اكتساب المعرفة العلميّة، وكان أرسطو من أوائل الذين اعتبروا «المنهج» موضوعًا مباشرًا لأبحاث أيّ علمٍ، وأطلق عليه اسم المنطق، وقد بيّن أرسطو مناهج مختلفة للمعارف المتنوّعة، بما في ذلك المعرفة العلميّة. وقد تعرّض في العالم الإسلامي كلٌّ من المتكلّمين والفلاسفة والعرفاء والفقهاء إلى أبحاث المنهج المعرفيّ للعلوم المختلفة ومن ضمن ذلك العلم والمعرفة المتعلّقة بهم، وأثاروا العديد من النقاشات حول مواضيعهم، وأنشأ الفارابي وابن سينا والغزالي وشيخ الإشراق والخواجة نصير الدين الطوسي وصدر المتألّهين أعمالًا خاصّةً في أبواب المعارف المختلفة.

وفي الفلسفة الغربيّة الحديثة، قام كلٌّ من رينيه ديكارت وفرانسيس بيكون، بكتابة مؤلّفات حول منهجيّة العلوم، وعلى الرغم من ذلك توجد اختلافاتٌ في المنهج الذي قدّموه للمعرفة العلميّة، فنجد أنّ ديكارت يذكر في كتابه «مقالةٌ في المنهج» المنهج العقليّ منهجًا للمعرفة العلميّة، كما أنّ أثبت صحّة المعرفة الحسّية بواسطة المعرفة العقليّة، واعتبر فرانسيس بيكون المنهج الحسّي والتجريبيّ منهجًا للمعرفة العلميّة، وأطلق بيكون على كتابه اسم «الأورجانون الجديد» تيمنًا بكتاب «الأورجانون» لـ أرسطو الذي يمثل كتابه في المنطق والمنهجيّة، و«الأرجانون الجديد» بمعنى كتاب المنطق الجديد، وقد وضع هذا الاسم للتعريض بجميع أولئك الذين وضعوا التأملات العقليّة منهجًا وأسلوبًا للمعرفة العلميّة، فهو خلافًا لـ ديكارت جعل الحسّ والتجربة البنيان والأساس للمعرفة العلميّة، وقدّم الاستقراء كمنهجٍ علميٍّ معرفيٍّ.

لقد تبع أوغست كونت في الحقيقة أثر بيكون، يعني: هو الآخر جعل المعرفة والمناهج الحسّية أساسًا للمعرفة العلميّة، ولم يعتبر المعرفة والمناهج العقليّة طريقًا للعلم، وهو يرى أنّ الخطأ الجوهري في تاريخ العلم هو خطأٌ في المنهج، أي: إنّ القدماء وعلى الرغم من جهودهم العلميّة الوفيرة، إلّا أنّهم وقعوا في الخطأ؛ لأنّهم لم يستخدموا المنهج الصحيح.

العوامل المؤثرة في المنهج

يتأثّر منهج العلم بعوامل متعدّدة، ومن أهمّ العوامل المؤثّرة في المنهج: موضوع العلم، والأهمّ منه: القوى الإدراكيّة والأدوات ومصادر المعرفة العلميّة.

إنّ موضوع العلم والقوى والأدوات كل واحدٍ منهما يتأثّر بالأسس الميتافيزيقيّة والأنثروبولوجيّة وبالأسس المعرفيّة أيضًا للشخص الذي يُبدي رأيه في هذا الباب، فأولئك الذين يُنكرون كون الواقع مستقلًا عن إرادة الإنسان ويُنكرون إرادة الأفراد، ويعتبرون المعاني اختراعات فرديّة أو اجتماعيّة لا يمكنهم أن يعتبروا أنّ العلم هو المسؤول والمتعهّد باكتشاف الحقيقة من خلال المناهج المثاليّة، ولا يمكنهم قبول المعنى التجريبيّ للعلم المسؤول عن الحقائق العينيّة والموضوعيّة، وأمّا الذين يقبلون بأصل الواقعيّة على غرار كانط، ولكنّهم يرون بأنّ الإنسان يفتقد للقوّة التي تمكّنه من الوصول إلى متن الواقع، فقد ابتلي هؤلاء بالشكوكيّة والنسبيّة تجاه الواقع، ولا يُمكنهم قبول العلم بمعنى المعرفة التي تحكي عن الواقع وتتّصف بالصدق والكذب في الارتباط بالواقع. وعلى هذا الغرار نجد أنّ الذين يقبلون أصل الواقعيّة من خلال المناهج المادّية في الأنطولوجيا، ويحدّون الوجود وهذا العالَم ويُقيّدونهما بأفق الزمان والأمور الطبيعيّة والدنيويّة، ومضافًا إلى ذلك يعتقدون بأنّ حواسّ الإنسان هي السبيل الوحيد للارتباط مع الواقعيّات الوجوديّة، نجدهم مضطرون إلى حدّ العلم وتقييده بالمعارف التجريبيّة، وهذه الفئة لا تستطيع بالتأكيد أن تقبل المناهج غير التجريبيّة كمناهج للمعرفة العلميّة.

التلازم بين الميتافيزيقيا والعقلانيّة

من ناحيةٍ أخرى، إنّ الذين يتّبعون المنهج الواقعي تجاه العالم، ولا يحدّون العالم بالواقعيّات المادّية والطبيعيّة، فمن المنطقي أنّهم لا يُمكنهم حصر القوى المعرفيّة والأدوات المعرفيّة ومواضيع المعرفة العلميّة ومصادرها بالأمور الطبيعيّة والتجريبيّة والحسّية؛ لأنّ الاعتراف بالواقعيّات ما وراء الطبيعة والميتافيزيقيّة لا يعني من الناحية المنطقيّة سوى العلم بالحقائق ما وراء الطبيعيّة والميتافيزيقيّة، والقبول بالحقائق الفوق الطبيعيّة مع نفي المعرفة والعلم بهذه الحقائق، ليس سوى تهافتٍ وتناقضٍ منطقيٍّ، ولهذا السبب نجد أنّ حدّ الإنسان وقواه المعرفيّة بالأمور الطبيعيّة والقوى الحسّية وفي نفس الوقت نفي الأبعاد فوق الطبيعيّة والقوى المعرفيّة العقليّة التي تتجاوز الحسّ، يستلزم من الناحية المنطقيّة نفي الميتافيزيقيا والحقائق ما وراء الطبيعيّة.

علاقة التلازم بين الاتّجاه الحسّي والشكوكيّة

كما أنّ حصر قوى الإنسان المعرفيّة بالقوى الحسّية يستلزم حصر المناهج العلميّة بالمناهج التجريبيّة، فهو يستلزم كذلك نفي الأنطولوجيات التي تتحدّث عن الواقعيّات التي فوق الطبيعة، بل إنّ الاتّجاه الحسّي وإنكار القيمة العلميّة للمعارف غير الحسّية ومنها نفي القيمة العلميّة والمعرفة الكونيّة للمعارف العقليّة من الناحية المنطقيّة لا مناص له من التشكيك في الواقع، وهو يتنافى مع أصل الواقعيّة. يعني: هذا الأمر لا ينسجم مع التفسير المادّي للعالَم أيضًا، وهذه هي الحقيقة التي أدّت إلى انهيار ماديّة القرن التاسع عشر. وقد اتّهمت الواقعيّة والمذهب الواقعي المادّي في القرن التاسع عشر وفي بداية القرن العشرين التي قامت على المذهب الحسّي والتجريبيّ، بأنّها واقعيّةٌ ساذجةٌ.

وفي النتيجة، تبدلّت تفاسير الوضعيّين والتجريبيّين في القرنين التاسع عشر والعشرين التي كانت نوعًا من التنوير العلمي في حدود العالم الطبيعي والمادّي، وتحوّلت إلى اتّجاه ما بعد الحداثة، وقد أنكرت مناهج ما بعد الحداثة مبدأ التنوير وواقعيّة المعرفة العلميّة بشكلٍ مطلقٍ، فهي لا تعتبر المعرفة العلميّة شيئًا أكثر من البناء ووسيلةً للحياة والعيش في هذا العالم.

وممّا ذُكر يتّضح أنّه حتّى لو كانت الأنطولوجيا المادّية تستلزم نفي الوجودات المتعاليّة والفوق الطبيعة، وبالنتيجة تستلزم نفي الأبعاد ما فوق الطبيعة للإنسان ولقواه المعرفيّة المجرّدة وغير المادّية، وتستلزم تبعًا لذلك تدمير البناءات الوجوديّة للمعارف العقليّة، وتختزل المعرفة العلميّة بالمعرفة الحسّية والتجريبيّة، ولكن رغم ذلك نجد أنّ الاتّجاه الحسّي والتجريبيّة يُمثّل اتّجاها معرفيّاً لم يتحمّل من الناحية المنطقيّة الأنطولوجيا المادّية، وأدّى إلى نفي أصول الواقعيّة والمذهب الواقعي بشكلٍ مطلقٍ، بل لم يتحمّل المعنى التنويري للعلم.

العواقب المنهجيّة للاتّجاه الدينيّ للعالَم

يمكن أن نستنتج ممّا ذُكر أعلاه أنّ الاتّجاه الدينيّ للعالَم، لمّا كان يقوم على حضور الوجود المقدّس وفوق الطبيعي، ولمّا لم يكن منسجمًا كذلك مع الأنطولوجيا المادّية والاتّجاه الدنيوي وهذا العالم الوجودي، لذا فمن خلال حصر الإنسان بالظواهر الطبيعيّة وحصر المصادر والأدوات والقوى المعرفيّة والعلميّة للإنسان بالأمور المحسوسة العينيّة، فهو لا ينسجم مع الاتّجاه التجريبيّ، وهذا النوع من الأنطولوجيا، رغم أنّه يستطيع الاعتراف بالحسّ والتجربة والأساليب التجريبيّة للمعرفة العلميّة، إلّا أنّه لا يستطيع من الناحية المنطقيّة أن ينكر المعارف العقليّة وما فوق التجربة، ولا يمكنه أن يُقيّد المناهج العلميّة أو يحدّها بالمناهج التجريبيّة الحسّية القابلة للاختبار الحسّي.

التلازم المنطقي بين الاتّجاه الدينيّ والتفكّر العقلي

نجد في المتون والنصوص الدينيّة في العالم الإسلامي بأنّه مضافًا إلى الاهتمام بالحسّ باعتباره أحد الأدوات والقوى المعرفيّة العلميّة، هناك نفيٌّ لحصر القوى الإدراكيّة التي للإنسان بالقوى الحسّية والتجريبيّة.

ومن ناحيةٍ أخرى، لقد أصبح مبدأ التدين ملازمًا ومبنيّاً على المعرفة والعلم المناسبين له، فنحن نرى أنّ القرآن الكريم نسب العبوديّة والعبادة والخشية من الله إلى عباد الله، فقال عزّ وجلّ: (إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ)[3]، كذلك قال أمير البيان عليه السلام: «أوّلُ الدِّينِ مَعْرِفَتُهُ»[4] فأوّل نقطةٍ يصطدم بها الدين مع تلك البذرة هي معرفة الله والعلم به، وكذلك ورد في الروايات والنصوص الدينيّة أنّه: «وَلا دين لِمَنْ لا عَقْلَ لَهُ»[5]، فالشخص الذي لا عقل له لا دين له، كذلك تمّ تعريف العقل على أنّه نور يُظهر الحقيقة: «الْعَقْلُ نُورٌ فِي الْقَلْبِ يُفَرَّقُ بِهِ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِل»[6]، العقل نور حاضر في قلب العباد، وقد ورد في النصوص الدينيّة أنّ العقل ليس حجابًا أو مانعًا من الحقيقة، هو نورٌ وإذا كان حجابًا، فهو حجابٌ نورانيٌّ، يعني: هو يكشف ضمن حدوده عن سطوحٍ وأبعادٍ من الحقيقة.

العقل نورٌ إذا لم يُستعمل أصبح التديّن مستحيلًا، ولذلك قيل: «وَلا دين لِمَنْ لا عَقْلَ لَهُ»[7]، العقل صديقٌ ورفيقٌ صادقٌ لكلّ إنسان «صَديقُ كُلّ امرئٍ عَقلُهُ»[8]، والعقل قوّةٌ من القوى الإدراكيّة والعمليّة للإنسان التي تُصبح العبوديّة لله ممكنةً من خلالها «الْعَقْلُ مَا عُبِدَ بِهِ الرَّحْمَنُ وَاكْتُسِبَ بِهِ الْجِنَان»[9]، وورد في العبارات الدينيّة أنّ العقل هو الرسول الباطني للإنسان، كما أنّ الأنبياء المؤيّدون بالوحي الإلهي هم الرسل الظاهريّون «إِنَّ لِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حُجّتيْنِ حُجَّةً ظَاهِرَة وَحُجَّةً بَاطِنَةً فَأَمَّا الظَّاهِرَةُ فَالرُّسُلُ وَالْأَنْبيِاءُ وَالْأَئِمَّةُ عليهم السلام وَأَمَّا الْبَاطِنَةُ فَالْعُقُول...»[10] وهاتان الحجّتان اللتان هما رسولا الله يقعان في امتداد بعضهما البعض، يعني: من خلال الرسول الباطني نصل إلى الرسول الظاهري، والرسول الظاهري يخاطب الرسول الباطني، ولهذا السبب مَن لا عقل له لا يمكن أن يكون مخاطبًا من قبل الأنبياء، ولن يكون مكلّفًا بأيّ تكليفٍ أيضًا.

الاتّجاه الدينيّ والمناهج الحسّية والتجريبيّة

ورد في العبارات الدينيّة عن العقل ما يلي: أوّلًا: هو نورٌ يوصل الإنسان إلى الحقيقة. ثانيّاً: مِن خلال الاستعانة بالعقل يُصبح من الممكن والميسّر تحقيق التديّن وتحقيق الدين واقعًا في مجال الحياة الفرديّة والاجتماعيّة. ثالثًا: للعقل مراتب. رابعًا: لا يقتصر العقل على كونه قوّةً من القوى الإدراكيّة وحسب، ولا يقتصر تأمين العلوم الإنسانيّة على الاستعانة بهذه القوّة وحسب، بل المعرفة العلميّة تتحقّق من خلال قوى وأدوات أخرى أيضًا. وهذا الاتّجاه القرآني والإسلامي بالنسبة للعقل، نظيرٌ لاتّجاهه فيما يتعلّق بالحسّ، ولكن مع هذا الفارق، وهو أنّ مجال استعمال الحسّ والقوى الحسّية، محدودةٌ جدّاً أكثر من العقل والقوى العقليّة فيما يرتبط باكتساب المعرفة العلميّة. وبالإضافة إلى ذلك، لا يُمكن أن يكون للحسّ آفاقٌ علميّةٌ بدون الاستعانة بالعقل وبدون مساعدة العقل والمعارف العقليّة.

والمسألة المهمة هي أنّه على الرغم من اهتمام النصوص الدينيّة بالحسّ كأداةٍ من أدوات البشر وقواها العلميّة، إلّا أنّها لا تختزل المعرفة العلميّة بالمعرفة الحسّية، واختزال المعرفة العلميّة بالمعرفة الحسّية يُؤدّي إلى توبيخ من يدعي إلى الدين أو يتديّن به، يقول القرآن الكريم حول أهل الكتاب الذين كانوا موجودين في زمان بعثة النبيّ: {يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسَىٰ أَكْبَرَ مِنْ ذَٰلِكَ فَقَالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً}[11] وقد ذكر القرآن تفاصيل أكثر حول طلب بني إسرائيل واليهود من موسى عليه السلام في سورة البقرة، قال تعالى: (وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَىٰ لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّىٰ نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ ثُمَّ بَعَثْنَاكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ)[12].

إنّ ربط إيمان موسى ودعوته برؤية الله، يدلّ على غلبة الاتّجاه الحسّي على ثقافة اليهود، في حين أن ما يُرى بالعين هو أمرٌ محدودٌ ومقيّدٌ، ولا يمكن أن يكون ذلك هو الله.

وطالما أنّ جميع الأديان تدعو إلى أمرٍ مقدّسٍ وأبعد من الأمور الدنيويّة والمحيطة بالعالم فلا يُمكنها أن تحدّ القوى الإدراكيّة للإنسان بالحواس، وأن تحصر معرفة الحقائق ومواضيع المعرفة العلميّة في الأشياء الملموسة والمحسوسة وتقيّدها بها، وهذه الحقيقة ليست مختصّةً بالدين التوحيدي والإسلامي، فالأديان المشوبة بالشِرك والتي من خلال عدولها عن التوحيد تعتبر الملائكة ومدبري الأمور وسائر الحقائق الأخرى التي هي فوق عالم الطبيعة أربابًا متعدّدةً؛ ورغم أنّ اعتقادهم هذا مخالفٌ للوحي والعقل، لكنّه ليس ادعاءً حسيّاً وتجريبيّاً، وهو لا يقبل الإثبات أو النفي من خلال المعرفة الحسّية والتجريبيّة، إذ لا يمكن للحسّ والمعرفة المكتسبة عن طريق الحواسّ أن تثبت أيّ حقيقةٍ من الحقائق ما وراء الطبيعة، ولا يُمكنها أن تنفي أو تُبطل أيّ حقيقةٍ ما ورائيّة، يعني: المادّية، وحصر الوجود بالموجودات الطبيعيّة، واعتبار الظواهر الطبيعيّة من الحقائق الخارقة للطبيعة التي تُؤدّي إلى تفسير عالم الطبيعة بنحوٍ يتجاهل حقائق ما فوق الطبيعة، هي الأخرى عبارةٌ عن ادّعاء لا يُمكن إثباته بناءً على المنهج الحسّي أو العلوم التجريبيّة.

ولهذا السبب نجد أنّه رغم هيمنة الانطباعيّة والحسّية المادّية التي عادت في القرنين التاسع عشر والعشرين، إلّا أنّها لا يمكنها أن تستمرّ كمدرسةٍ علميّةٍ، وغلبتها من الناحية المنطقيّة الاتّجاهات التشكيكيّة والنسبيّة التي تعتبر مطلق العلم والمعرفة أمرًا ذهنيّاً أو شبه ذهني، وغلبة هذه الاتّجاهات يُخرج المناهج العقليّة وغيرها من المناهج السلوكيّة والشهوديّة الأخرى التي تُقدّم التوضيحات الدينيّة فيما يتعلّق بعالم الوجود خارج دائرة المناهج العلميّة، بل بالشرح والبيان المذكور تسقط المناهج التفسيريّة التجريبيّة عن الاعتبار أيضًا، ويحلّ محلّها المناهج التفسيريّة والانتقاديّة اللاحقة.

ويتّضح ممّا ذُكر أنّ الدين والتديّن، لما كانا يتطلّبان من الناحية المنطقيّة نوعًا من الأنطولوجيا (علم الوجود) والأنثروبولوجيا (علم الإنسان) ونظريّة معرفة تتناسب معهما، لذا فهما يمتلكان اتّجاهًا يتناسب معهما فيما يرتبط بالقوى المعرفيّة والأدوات والمصادر المعرفيّة. وفي النتيجة، هما يستعملان إلى جانب تعريفهما وتفسيرهما للعلم منهجًا أو مناهج علميّة تتناسب معهما، فالدين والتديّن يستلزم أنطولوجيا مقدّسة، ووجودًا مقدّسًا، وفي الضمن من خلال القبول بأصل الواقعيّة والحقيقة، فهما يكتسبان هويّةً واقعيّةً، وفي الاتّجاه الواقعي لا يُنفي نفسه بالتفسيرات المادّية للعالم، وإلى جانب ذلك فهو يحتاج إلى معرفة الحقائق فوق الطبيعيّة والميتافيزيقيّة.

إنّ الأصول والمبادئ المذكورة لا تستلزم نفي المعرفة الحسّية أو دور الحسّ والتجربة في تكوين المعرفة العلميّة، ولكنّها تمنع تقييد المعرفة العلميّة ومصادرها وقواها المعرفيّة ومواضيعها بالحسّ والأمور الطبيعيّة، وتمنع من حصر المنهج العلميّ بالمنهج التجريبيّ، وأوغست كونت الذي اضطر إلى حدّ المعرفة العلميّة وحصرها في المعرفة التجريبيّة المتعلّقة بالظواهر الطبيعيّة بسبب مبانيه، كان مضطرًا لأن يضع المعرفة التجريبيّة مقابل المعارف والمعتقدات التي تستند إلى المناهج العقليّة أو الشهود المعنوي أو التمثّلات الخياليّة والوهميّة، وعلى الرغم من ذلك فإنّ حكمه بأنّ المعرفة الحسّية والتجريبيّة لا تحتاج إلى المعارف العقليّة والشهوديّة، أو أنّ قبول المناهج العقليّة والشهوديّة ملازم لنفي المعرفة الحسّية والطرق التجريبيّة بشكلٍ مطلقٍ، هو ادعاءٌ لا أساس له من الصحّة ومخالف للواقع، بل يتناقض مع الشواهد التاريخيّة أيضًا.

مكانة الوحي في المعرفة الدينيّة

إنّ أبرز ما يُميّز الأديان على اختلافها، هو استعانتها بالمكاشفات والشهودات ذات المراتب المعنويّة والصوريّة المختلفة، تُذكر هذه الأنواع من المكاشفات والشهودات في الأديان تحت عناوين مختلفة من قبيل: الوحي والإلهام وأمثال ذلك. فالوحي والإلهام والمكاشفة والشهود ليسوا من نوع المعرفة الحسّية أو المعرفة المفهوميّة العقليّة، والقرآن الكريم، ينسب الوحي إلى الحيوانات أيضًا، ويقول: (وَأَوْحَىٰ رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ)[13]، إنّ كلّ ما تفعله النحلة، وبناءها لخليّة النحل بكلّ ما فيها من نظم وترتيب ما هو إلّا وحيٌ إلهيٌّ.

كذلك يُطلق الوحي الإلهي على وحي الله للسماوات[14] والأرض لكي تُخبر أخبارها[15]. وكذلك استخدم الوحي الإلهي في الوحي النازل على النبيّ الخاتم، والقرآن الكريم المشتمل على الوحي الإلهيّ إنّما نزل بوحيٍ من الله على النبيّ صلّى الله عليه وآله: (ذَٰلِكَ مِمَّا أَوْحَىٰ إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ)[16].

كما أنّ مَن يتلقّى الوحي يُمكن أن يكونوا أنبياء وغير أنبياء، بشرًا وغير بشر، ويمكن أن يكون إلقاء الوحي من طرف الله ومن غير الله، بل قد يكون من الشياطين أيضًا، يقول القرآن الكريم حول الشياطين: (وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَىٰ أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ)[17]، إنّ الوحي الإلهي يُلقي بالحكمة إلى الإنسان، أمّا الشياطين فيُلقون إليهم بالجدال والنزاع مع الحقيقة؛ إذن للوحي والإلهام أقسامٌ ومراتب، والقسم المختص بالأنبياء عليهم السلام هو الوحي التشريعي، أمّا الوحي الإنبائي فهو أعمّ من الوحي التشريعي، وغير الأنبياء يستفيدون منه أيضًا، فالوحي الإنبائي هو نوعٌ من الوحي يطلع البشر بواسطته على حقيقةٍ من الحقائق، ويمكن أن يكون مفاد الوحي الإنبائي أمورًا مختلفةً.

العلاقة بين الوحي والعلم والدين

 إنّ الوحي ليس من مقومات الدين والتديّن ولوازمهما، فالوحي ليس دينًا، كما أنّ العقل والحسّ والتجربة أو العلم والحكمة ليسوا دينًا أيضًا، إنّ الدين هو مسار الحياة العمليّة والميول الفرديّة والاجتماعيّة للبشر عندما تكون متوافقةً مع إرادة الله التشريعيّة، وبما أنّ إرادة الله التشريعيّة ـ خلافًا لإرادته التكوينيّة ـ تقبل التخلف العصيان؛ يعني: يُمكن للبشر أن يعتقدوا بالدين أو يُعرضوا عنه بإرادتهم واختيارهم، وفي النتيجة لا يمكن جعل أيّ أحدٍ متدينًا بالغصب والإكراه والإجبار، وذلك كما قال الله تعالى: (لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ)[18].

يُعرف الدين بواسطة العلم والحكمة، والوحي كالنور وسيلةٌ يظهر بها العلم بالدين، والوحي نظير العقل سببٌ ووسيلةٌ وأداةٌ لتلقّي العلم، فالأنبياء عليهم السلام يكتسبون العلم بالدين من خلال الوحي التشريعي، وتبعًا لذلك يُؤمنون ويعملون بكلّ ما نزل عليهم عن طريق الوحي وعلموا به، وسائر المؤمنين يكتسبون العلم بواسطة الأنبياء والشريعة التي نزلت عليهم، والمؤمنين مثلهم مثل الأنبياء، يؤمنون بالدين بعد العلم به. أما الكفّار فعلى الرغم من معرفتهم بالدين وعلمهم به، إلّا أنّهم يسلكون درب العناد والإنكار، قال تعالى: (آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ)}.[19]

إنّ الوحي التشريعي مختصٌّ بالأنبياء، أمّا باقي المؤمنين فتحصل لهم المعرفة بالدين وبكلّ ما نزل على الأنبياء عن طريق الوحي التشريعي، وطريق معرفة باقي المؤمنين هو الحسّ والعقل والوحي الإنبائي، يعني: هناك بعض البشر يعلمون بشريعة أحد الأنبياء ورسالته عن طريق الوحي أيضًا، قال الله سبحانه تعالى عن حواري المسيح عليه السلام: (وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي قَالُوا آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ)[20].

علاقة الوحي بالحسّ والعقل

إنّ الحسّ والعقل من الأدوات والقوى التي ذُكرت أيضًا في المتون والنصوص الدينيّة كأدوات وقوى إدراكيّة، لقد تحدّثت المتون والنصوص الدينيّة إلى جانب الطبيعة والمُلك عن الملكوت وعن الله سبحانه وتعالى وعن أسماءه وصفاته وأفعاله باعتبارها موضوعات علميّة، بل ذُكر كلٌّ من المُلك والملكوت والطبيعة وما وراء الطبيعة على أنّها أفعال أسماء وصفات، أو على أنّها آيات ومظاهر الحقّ تعالى.

إذن في الإسلام، تمّ الاعتراف رسميّاً بأدوات وقوى معرفيّة أخرى بالإضافة إلى الوحي باسم الحسّ والعقل، فالحسّ والعقل من الأدوات والقوى المقبولة في الاتّجاهات غير التوحيديّة وغير الإسلاميّة، وهي مقبولة كذلك عند جزء كبيرٍ من التيارات الفكريّة، وعلى الخصوص الحديثة منها. ولهذا السبب في النظرة الأولى أصبحت قوى وأدوات مشتركة، أو مباني علميّة مشتركة بين المفكرين المسلمين المعاصرين. هذا على الرغم من أنّ بيان وتفسير فلاسفة العالم الإسلامي لوظيفة الحسّ والعقل أو لهويّتهما لا يتساوى أو يتشابه مع تفسير الفلاسفة العقلانيّين أو التجربيّين للعقل والحسّ.

علاقة العقل والحس مع النهجيين العقلاني والحسّي

إنَّ اشتراك المفكّرين المسلمين مع الفلاسفة العقلانيّين والحسّيين في الرأي في قبولهم لأداتيّ المعرفة، أي: العقل والحسّ، شبيهٌ بالاشتراك في الرأي بين العديد من فلاسفة العقلانيّين مع الحسّييّن في قبولهم لأداة الحسّ كأداة معرفة؛ لأنّ هاتين الطائفتين لا يمتلكان تفسيرًا وبيانًا مشتركًا حول شأن الحسّ ودوره وأثره باعتباره أداةً للمعرفة العلميّة حتّى مع وجود الاشتراك في الرأي حول الحسّ باعتباره أداةً للمعرفة العلميّة، كما أنَّه بالإضافة إلى وجود الاختلاف هاتين الطائفتين بين في أثر العقل على المعرفة العلميّة، كذلك ليس لديهما تعريفًا وتفسيرًا مشتركًا حول العقل. فمن وجهة نظر ديكارت والفلاسفة العقلانيّين بل حتّى الفلاسفة المسلمين، يعتبر العقل أداةً للمعرفة العلميّة بشكلٍ رسميٍّ بالإضافة إلى الوحي، فالحسّ إذا لم يستخدم العقل ويعتمد عليه، لا يمكنه أن يجد مكانته واعتباره في الوصول إلى المعرفة العلميّة، وقد حاول ديكارت إثبات القيمة المعرفيّة الكونيّة للحسّ في الحكاية عن الحقائق العينيّة (الموضوعيّة) من خلال المعرفة العقليّة والعلميّة التي حصل عليها من خلال المناهج العقليّة، ويُرى ابن سينا أنّ الحسّ مسارٌ وطريقٌ للمعرفة، وقد أثبت بالأدلّة العقليّة أنّه بدون الحسّ إذا لم يعتمد أو يستعمل بعض القضايا العقليّة نظير استحالة اجتماع النقيضين، فلن يكون حتّى طريقًا للوصول إلى المعارف العلميّة الجزئيّة أيضًا.

ومن ناحيةٍ أخرى، رغم أنّ الحسّيين الوضعيّين ينفون القيمة المعرفيّة الكونيّة للعقل والفهم، لكنّهم لا يمتلكون تعريفًا وتفسيرًا مشتركًا لحقيقة العقل، فهم إمّا مثل الحسّيين الوضعيّين لحلقة فينا الذين يعتبرون القضايا العقليّة المحضة مهملةً وبلا معنى، وإمّا إذا قبلوا بالمفاهيم والمعاني العقليّة غير المحسوسة، فإنّهم يعتبرون هذه المفاهيم والمعاني أمورًا ذهنيّةً صِرفةً، أو يعتبرونها اختراعات الثقافة أو [متناقلة] بين الأذهان، ولا يمكن إثباتها أو دحضها أو تأييدها إلّا عن طريق الحسّ. يعني: المعرفة الحسّية هي التي تُمهّد دخولها ضمن نطاق العلوم، بحيث يفتقد العقل بمفرده لأيّ نوعٍ من القيمة الكونيّة.

تشبيه العلاقة بين الحسّ والعقل بالعلاقة بين العقل والوحي

نظير هذه الخلافات بين العقلانيّين والحسّيين حول حقيقة الحسّ ومنزلته، وحتّى حول تعريف العقل وحقيقته، موجودٌ بين الذين يؤمنون بالوحي ومنهم فلاسفة العالم الإسلامي وبين العقلانيّين والحسّيين، يعني: رغم أنّهما يذكران العقل والحسّ باعتبارهما أداتين للمعرفة العلميّة، إلّا أنّهما لا يمتلكان بيانًا وتفسيرًا مشتركًا للعقل والحسّ.

ويعتبر الفلاسفة المسلمون بأنّ المعرفةَ العقليّة المفهوميّة التي يقبلها العقلانيّون أيضًا، قائمةٌ على المعرفة الشهوديّة والحضوريّة التي تسبقهما، ويرون أنّه للمعرفة الشهوديّة والحضوريّة مجالات وساحات بحيث تحكي عنها المعارف المفهوميّة في حدّ سعتها وقدرتها، ومن وجهة نظرهم، بالإضافة إلى أنّ الشهود والعلوم الشهوديّة تؤمن الحاجز المعرفي الضروري للدفاع عن هوية المعارف المفهوميّة العقليّة، فهي تمتلك إنجازاتٍ علميّةً جديدةً، وهي لا تتعارض مع العقل والحسّ أبدًا، بل هي تتجاوز المعارف الحسّية والعقليّة المفهوميّة البحتة. في هذا الاتّجاه يتمتّع الوحي بمكانةٍ خاصّةٍ باعتباره نوعًا خاصّاً من المعرفة الشهوديّة والحضوريّة.

على رغم اشتراك العقلانييّن في الرأي مع الفلاسفة المسلمين بشأن القيمة الكونيّة للمعرفة العقليّة، لكنّهم لا يقبلون بمثل هذه المكانة للمعرفة الشهوديّة والوحيانيّة بالمقارنة مع المعرفة العقليّة. فـ ديكارت لا يرى أيّ ارتباطٍ بين المعرفة العقليّة المفهوميّة وبين الشهود العقلي ووراء العقلي، والشهود (Intuition) في مصطلح ديكارت ليس شيئًا إلّا نفس الوضوح المفهومي، وهو يعتبر وضوح المفاهيم العقليّة أمرًا مستقلّاً عن حقائق الوجود العقلي والشهود الوجودي لتلك الحقائق، فمن وجهة نظر ديكارت الحقائق الجوهريّة هي الجسم والنفس والله، وبعبارةٍ أخرى، لا توجد جواهر عقليّة ولا هويّة وجوديّة وشهوديّة لهذه الجواهر في نظريته المعرفيّة، وعلى الرغم من أنّ جوهر النفس ليس جسمانيّاً ولا ماديّاً، إلا أنّه يسعى لمعرفة نفسه من خلال المعرفة المفهوميّة العقليّة، وهذا هو الأمر الذي وقع محلّاً للاختلاف والافتراق بينه وبين فلاسفة المسلمين العقلانيّين كشيخ الإشراق وابن سينا؛ لأنّهما لا يعتبران معرفة النفس لنفسها معرفةً حسيّةً ولا معرفةً مفهوميّةً عقليّةً، بل هي معرفةٌ شهوديّةٌ ووجوديّةٌ، ونفس هذه المعرفة هي مصدر ظهور المفاهيم ومحلّ ارتباط المفاهيم مع الحقائق العينيّة.

مع غفلة ديكارت عن المعرفة الشهوديّة، أخرج الوحي من مسار المعرفة العلميّة، ولهذا السبب أخرج المتون والنصوص الدينيّة من نطاق المعرفة العلميّة أيضًا، وقد قطع الحسّيون بعد ديكارت الصلة والارتباط مع المفاهيم العقليّة مع كلّ الوضوح الذي تمتلكه عن الحقائق العينيّة (الموضوعيّة).

ومن خلال قراءة هذه المفاهيم بشكل موضوعي أو ذهني أو ثقافي، اعتبروا أنّ الحسّ هو قناة الاتصال الوحيدة مع الحقائق الوجوديّة، وسعوا لتأسيس الخصال التنويريّة للعلم من خلال المعارف الحسّية والتجريبيّة، ولكن لمّا كان الحس لا يستقيم بدون الاعتماد على القضايا العقليّة، لذا فقد اكتسبت العلوم التجريبيّة هويّةً ذهنيّةً أو بين ذهنيّة.

النتائج المنهجيّة والمنطقيّة للاتّجاهات المعرفيّة

إنّ الحسّ والعقل وكذلك الوحي عبارةٌ عن ثلاث أدواتٍ معرفيّةٍ، وكلّ واحدٍ من هذه الأدوات الثلاث تتبع منهجًا خاصًا بها لاكتساب المعرفة العلميّة، ونفي أيّ واحدةٍ من هذه الثلاث يُخرج المناهج المرتبطة بها عن مسار المعرفة العلميّة، فمنهج المعرفة الحسّية، هو المشاهدة والمواجهة المباشرة مع الظواهر المادّية والجزئيّة، وإذا لم يستند هذا المنهج إلى القضايا العقليّة الكليّة، وسارت بنحوٍ تعمد فيه على ذاتها فسوف تُصبح منهجًا استقرائيّاً، وبالطبع يواجه الاستقراء بعض المشاكل في وصوله إلى المعرفة الكليّة العلميّة، من أهمّها كيفيّة العبور من الشهود الحسّي إلى القضية الكليّة، وهذا ما يُعبر عنه بإشكاليّة الاستقراء، ويستعين بوبر بالمنهج القياسي الاستنتاجي لحّل مشكلة الاستقراء، والمنهج القياسي الاستنتاجي يواجه مشاكل أيضًا، وهو ما نبحثه في مباحث فلسفة العلم[21].

منهج المعرفة العقليّة، هو منهج قياسيٌّ برهانيٌّ، وفي المنهج القياسي البرهاني تكون مواد القياس من المشهورات والمقبولات وليست من القضايا التي اكتسبت هويتها من الثقافة البحتة أو التي تكون بين الأذهان، وإنّما تكون من اليقينيّات، ولليقينيّات شأنيّة وظرفيّة أن تكون بين الأذهان، لكنّ اعتبارها ليس من هذه الجهة، ولليقينيّات أقسامٌ، مثل: الأوليّات، والفطريّات، والحسّيات، والتجريبيّات، والحدسيّات والمتواترات.

ولا بدّ أن يستعمل المنهج العقلي بعض هذه المقدّمات في كلّ قسمٍ من العلوم وذلك بحسب موضوع ذلك العلم، ففي الموضوعات الطبيعيّة، أي: في العلوم الطبيعيّة لا بدّ أن يستعمل الحسّيات والتجريبيّات، ويضطر العقل إلى تشكيل قياساته بالاستعانة بالحسّ في قياساته التي تَستعمل المقدّمات الحسّية وتبعًا لذلك تستعمل المقدّمات التجريبيّة، وحاجة بعض العلوم إلى الحسّيات والتجريبيّات أمرٌ واضحٌ وجليٌّ لدى الفلاسفة العقلانيّين تمامًا، فقد قال أرسطو في هذا الشأن ما يلي: «من فقدَ حسًا فقدَ عِلمًا»؛ يعني: بعض العلوم لا تحصل بدون الاستعانة بالحسّ.

بناءً على هذا، القول بأنّ الفلاسفة العقلانيّين لا ولم يستعملوا المناهج الحسّية والتجريبيّة، هو اتهامٌ كاذبٌ ولا يقبل الدفاع، وفي النتيجة إنّ المقارنة التي وضعها أوغست كونت بين المرحلتين الفلسفيّة والوضعيّة ـ حيث يعتقد بأنّه في المرحلة الفلسفيّة استخدم المنهج العقلي، أمّا في المرحلة الوضعيّة فقد استخدم المنهج التجريبيّ ـ هي مقارنةٌ غير واقعيّةٍ.

يُمثّل كتاب الشفاء لابن سينا[22] دائرةً للمعارف في علومٍ مختلفةٍ، فإنّ هذا الكتاب يحتوي على الإلهيّات والرياضيات والطبيعيّات، ونصف حجم هذا الكتاب تقريبًا هو في المنطق والمنهج، وقد بحث في هذا الكتاب المناهج المختلفة للمعارف التي تُنشئ الهويّة الثقافيّة والاجتماعيّة وبين الذهنيّة، كما بحث منهج المعرفة العلميّة أيضًا، وفي كتاب برهان الشفاء منهجٌ في المعرفة العلميّة، أي: المنهج القياسي البرهاني، وقد ذكر ابن سينا في هذا الكتاب الحسّيات والتجريبيّات والقياسات الخفيّة الموجودة في هذين النوعيين من المقدّمات، وتناول في بضعة من فصول الكتاب الفرق بين الحسّيات والتجريبيّات، كما تعرّض للمشاكل والصعاب والنواقص الموجودة في القياسات التجريبيّة.

نتائج المنهج المعرفي للاتّجاه الوحياني

عندما يتمّ الاعتراف بالشهود والوحي والإلهام أيضًا كأداةٍ ووسيلةٍ معرفيّةٍ بشكلٍ رسميٍّ، فسوف يكون لها مسائل ومباحث ومنهج يختصّ بها، فالمعرفة الشهوديّة ليست معرفةً مفهوميّةً، بل معرفةٌ وجوديّةٌ، هي نوعٌ من المعرفة التي تحصل من خلال امتلاك قرينٍ ومرافقٍ، المعرفة الشهوديّة والوجوديّة لها أقسام ومراتب مثل المعرفة الحسّية ومثل المعرفة العقليّة المفهوميّة، فكما أنّ بعض مراتب المعارف الحسّية أو المفهوميّة العقليّة بديهيٌّ وأوّليٌّ ولا يستند إلى معرفةٍ سابقةٍ، وبعضها نظريٌّ، فكذلك المعارف الشهوديّة كما ذُكر سابقًا، لها أقسام ومراتب، فبعضها من المنن والعطاءات الابتدائيّة، وبعضها مثله مثل المعارف الحصوليّة النظريّة، اكتسابيّةٌ تحصل نتيجةً للسلوك، وبعض مراتب الشهود مختلطٌ بوجود الإنسان، وبعض مراحلها حصيلةٌ لعمل الإنسان وسعيه.

مثلما أنّ لكلّ علمٍ من العلوم الحصوليّة الحسّية والعقليّة منهجه الخاصّ به حينما يكون نظريًا واكتسابيّاً، كذلك فإنّ العلوم الحضوريّة والشهودية الاكتسابيّة تتمتّع أيضًا بمنهجها الخاصّ بها، إنّ مناهج العلوم الحصوليّة هي مناهج مفهوميّة ونظريّة، ويصل الإنسان من خلال هذه المناهج إلى مفاهيم جديدة، ولكن منهج العلم الحضوري والشهودي هو بالتحوّل والصيرورة الوجوديّة للإنسان؛ لأنّ الإنسان يُصبح في هذا المنهج واجدًا لحقائق جديدة، ومن يكتشف علمًا حصوليّاً خاصًا يُعالج مشكلةً ما، يكون قد اكتسب مخزونًا من الخبرات التجريبيّة والعقليّة الخاصّة، ومن يصل إلى شفاء داء أو مرضٍ ما يكون قد جرى له تحوّلات وجوديّة متناسبة.

في تاريخ الإسلام، سعى أهل العرفان وراء شهود الحقائق التي هي طريق الدخول إلى ملكوت السماوات والأرض، وقد تحدّثوا عن منهجهم في السلوك، فسلوك أهل الشهود ليس مجرّد فعلٍ منطقيٍّ ومفهوميٍّ، بل مسيرةُ حياة ومعيشةٍ وطريقةٍ يتبعها تحوّلٌ وجوديٌّ في الإنسان، وقد دوّنوا مؤلّفاتٍ مثل: «منازل السائرين»[23]، وتناولوا مراحل السلوك ومنازله وميادينه، وذكروا ما يتناسب مع مئات الميادين أو المنازل، بل حتّى آلاف مرتبةٍ من مراتب السلوك، وتمثّل المنازل والميادين المذكورة مراتب السفر وهجرة الإنسان بدايةً من الوجودات المقيّدة والمحدودة زمانيّاً والشهودات الحسّية المقيّدة، لتصل إلى مراتب المثال والملكوت والشهودات والمُثل البرزخيّة وما بعدها لتصل إلى مراحل الكليّة والشهودات العقليّة، بل عبورًا من العوالم المختلفة وصولًا إلى الأسماء والصفات والإلهيّة.

لكلّ واحدٍ من المناهج الحسّية والتجريبيّة والعقليّة وكذلك الشهوديّة والحضوري مسائله ومباحثه وأحكامه الخاصّة. كما أنّه لكلّ واحدٍ من المناهج الحسّية والتجريبيّة والعقليّة وكذلك الشهوديّة والسلوكيّة آفاته ومشاكله الخاصّة به، ويقع على عاتق مباحث المنهجيّة معرفة نقاط القوّة والضعف وكذلك المغالطات والأخطاء، التي تترصد كلّ منهجٍ من المناهج المذكورة أعلاه.

إنّ الأخطاء المنهجيّة تُوقع العلم الذي ينشأ باستخدام المناهج المختلفة في تعارضات وتناقضات منطقيّة، ووجود التعارض والتناقض بين الدليلين والاستدلالين بما هو أعمّ من أن يكون ذلك العلم تجريبيّاً أم مجرّداً، وكذلك التعارض بين نتائج شهودين هو من ضمن الشواهد والأدلّة التي تدلّ على وقوع خطأ ما، لا مفرّ للذين يسلكون أيّ واحدٍ من الطرق الثلاث للوصول إلى الحقيقة، من حلّ هذه التناقضات.

تفاعلات وتناقضات العلوم التجريبيّة

طالما أنّ التفاعلات العلميّة التي يعقبها محاولات لحلّ التناقضات والتي تحصل من خلال استعمال إحدى الأدوات الحسّية والعقليّة أو الشهوديّة والوحيانيّة، فهي تحصل في نطاق وحدود العلوم التي يتمّ تأمينها من خلال نفس هذه الأدوات، مثلًا: تثير النظريات العلميّة والبيانات المختلفة حول الظواهر الطبيعيّة والتجريبيّة، عند مقارنتها مع بعضها البعض مسائل خاصّة بها وبالتالي فهي تتطلّب حلولًا تتلاءم معها، وعندما تواجه فرضيّةً علميّةً معطياتٍ حسيّةً مختلفة عن الفرضيّة، عندها يقوم العلماء بتعديل نظريّتهم أو يقومون بتبرير حصول هذه الحالة المخالفة للفرضيّة، بحيث لا تُعتبر هذه الحالة الخاصّة نقضًا لكلّ النظريّة، وفي حال لم تُقدّم الطرق المختلفة إجاباتٍ مناسبةً، فإنّ ذلك يضطرّهم إلى تغيير النظريّة، أو إلى العدول عن المذهب الواقعي، واتّخاذ موقفٍ براغماتيٍّ، وعدم الالتفات إلى التهافتات وعدم اتساق البيانات، فيكتفون بالنتائج العمليّة للنظريّات المختلفة.

تناقضات العلوم العقليّة

إنّ العلوم العقليّة هي الأخرى مثلها مثل العلوم التجريبيّة، تواجه تناقضات متنوّعة ضمن حدود القياسات النظريّة وذلك في المجالات المختلفة، وبعض هذه التناقضات تبقى مطروحةً لمُدّةٍ طويلةٍ كمشكلةٍ ومعضلةٍ علميّةٍ بالنسبة لعلمٍ معيّن، وهي تُعرف بالقضايا الجدليّة الطرفين (المتناقضة)، يعني: هي القضايا التي تمتلك في مقام الإثبات وبحسب الظاهر دليلًا وبرهانًا عقليّاً على كلا الطرفين، ولكن بما أنّ الطرفين المتناقضين لا يمكن أن يكونا صادقين أو كاذبين معًا، وإنمّا ينبغي أن يكون أحد الأطراف صادقًا حتمًا، بينما يكون الآخر كاذبًا حتمًا، فإذن لا بدّ أن يكون أحد البرهانيين مخطئًا، أو أنّ مضمون البرهانين لم يكن أمرًا واحدًا، ولم يكن هناك تصوّرٌ صحيحٌ لمحلّ البحث، وفي الحقيقة لم يكن هناك أيّ تناقضٍ، هذا النوع من التعارضات، يدعو المجتمع العلميّ والعلماء دائمًا إلى إجراء أبحاثٍ وتحقيقات علميّةٍ جديدةٍ من أجل أن تتمّ معرفة الخطأ في كل مراتب البرهان ومراحله، أو معرفة الخطأ في تصوير محلّ النزاع.

التناقضات المتعلّقة بالعلوم النقليّة

إنّ التناقضات التي ذُكرت سابقًا في العلوم الشهوديّة هي عبارة عن التلقّيات الشهوديّة التي تظهر في قالب المفاهيم بصورة كلماتٍ وعباراتٍ، وفي حال حدثت عمليّة بناءٍ للمفاهيم وصياغة للمصطلحات والعبارات في مرحلةٍ متأخرةٍ عن الشهود، فإنّ العلوم المفهوميّة المكتسبة من هذا الطريق سوف تكون عرضة للأخطاء والآفات المفهوميّة للعلوم الحصوليّة، وحتّى لو تشكّلت المفاهيم والعبارات في متن الشهود العقلي وما وراء العقلي وفي مسير الوحي الإلهي وأمثال ذلك، مع ذلك يُمكن أن يكون تلقي تلك المفاهيم والعبارات وفهمها من قبل المُتلقّين عرضةً للخطأ، وفي هذه الحالة، يظهر التفسير والفهم المتضارب، والخروج من هذا التعارض والتناقض يتطلّب مباحث منهجيّة خاصّة بها، وهناك العديد من المباحث المفهوميّة التي تُستخدم في حلّ التعارضات المرتبطة بالنصوص والمتون الدينيّة، وهناك جزءٌ من هذه المباحث هي مباحث منهجيّة.

تناقضات العلوم العقليّة والتجريبيّة

إنّ الذين يعتبرون الحس أو الشهودات الحسّية هي الوسيلة الوحيدة لمعرفة العالم، لا يستعملون إلّا المنهجيّات المتعلّقة بالعلوم التجريبيّة وحسب، أمّا الذين يعتبرون العقل من وسائل وأدوات المعرفة العلميّة أيضًا، فلا مفرّ من أنّ يستعملوا منهجيّات العلوم العقليّة أيضًا، وهذه الفئة إذا قبلت بالحسّ أيضًا باعتباره وسيلةً لمعرفتهم العلميّة، فبالإضافة إلى عملهم بالأساليب التجريبيّة والمباحث الخاصّة بهذه المنهجيّات، سيُضطرون للتعرّض للعلاقات بين العلوم العقليّة والحسّية، أو ببيان آخر: بين العلوم التجريبيّة والمجرّدة أيضًا. وتتعرّض هذه الفئة ـ مضافًا لتعرّضها لأسلوب العلاقة بين العقل والحسّ ـ للتعارضات والتحدّيات التي تظهر بين العلوم التجريديّة والعقليّة، ويتحدّثون عن المنهج لحلّ هذه التحدّيات.

حضور الوحي والعقلانيّة الاستنباطيّة والتفسيريّة

إنَّ قبول الوحي والمعرفة الشهوديّة كأداة معرفيّة قويّة وفعّالة، مضافًا إلى أنّه يستتبع مباحث منهجيّة في السير والسلوك سوف يكون له نتيجتان منهجيّتان أخريتان في ناطق العلوم الحصوليّة، النتيجة الأوّلى ترتبط بمجموعةٍ من المفاهيم التي تحكي عن مراحل السلوك ومراتبه وخصوصًا إذا عاد السالك إلى الخلق بعد الوصول والسفر «من الخلق إلى الحقّ» و«السير من الحق إلى الحق» وكان السير في الخلق بمعيّة الحقّ، ففي هذه الحالة إذا كان إلقاء المفاهيم في قالب ومعيّة الحق فعلى الرغم من أنّ إلقاء المفاهيم بغطاءٍ من وبمعيّةٍ الحقّ إلّا أنّ فهم وتلقي تلك المفاهيم والمعاني يُصاحبه مباحث ومناهج تفسيريّة خاصّة به، وتُنشئ هذه المجموعة من المباحث نوعًا خاصّاً من العقلانيّة في سياق التاريخ البشري تختلف عن العقلانيّة التجريبيّة والمجرّدة، ويُمكن أن يُشار إليها بالعقلانيّة الاستنباطيّة أو التفسيريّة أو النقليّة أو الوحيانيّة، وكلّ ثقافةٍ وحضارةٍ وكلّ مجتمعٍ وتاريخٍ ينهل من الوحي الإلهي ويعترف بهذه الأدوات ومصادر المعرفة بشكل رسمي ويكون على علاقة مباشرة مع الإلقاءات الإلهيّة والإلهامات السماويّة، فلا بدّ أن يتمتّع بهذا النوع من العقلانيّة حتمًا وأن يستفيد تبعًا لذلك من مباحث المنهجيّة ومسائلها المرتبطة به.

العلاقات والتعارضات بين العقل الاستنباطي وبين العقل التجريبيّ والمجرّد

النتيجة الثانية ترتبط بالعلاقات التي يتمّ إقامتها بين هذا البُعد من العقلانيّة وبين الأبعاد الأخرى، أي: الأبعاد التجريبيّة والمجرّدة للعقل، فكما أنّ وجود أداتين معرفيّتين هما الحسّ والعقل يُنشئ مباحث وبتبع تلك المباحث يُنشىء منهجيّات متعلّقة بعلاقات الحسّ والعقلّ ويتطلّب توضيح كيفيّة التعاون بين العقل والحسّ للوصول إلى المعرفة العلميّة، فكذلك وجود الوحي والشهود كأداةٍ للمعرفة العلميّة، يُنشىء مسائل ومباحث ومنهجيّات مرتبطة بالعلاقات بين الوحي والعقل والحسّ، إنّ العالم الحديث لمّا منح الاستقلال للحسّ والعقل كأدواتٍ ومسارات للمعرفة العلميّة وإلغاء الوحي والنصوص الدينيّة من متن المطالب العلميّة، أفرغ نفسه من المباحث والمسائل التي كانت موجودةً في القرون الوسطى، وتبعًا لذلك تبدّلت المسائل والمباحث، وعلاقات العلم والدين، أو العقل والدين لتصبح على شكل مسائل ومباحث مرتبطة بأمورٍ انضماميّة وخارجيّة، يعني: عادةً ما يتمّ تصنيف المباحث والمسائل العلميّة ضمن مباحث وقضايا غير دينيّة؛ لأنَّ الدراسات العلميّة حول الدين تعتبر دراسات خارج الدين أيضًا.

إنّ الوحي في العالم الإسلامي وفي النصوص الإسلاميّة أي: في القرآن والروايات هو العامل الذي يُلقي العلم ووسيلة التعليم، فالله تعالى عَلّم النبيّ صلى الله عليه وآله من خلال الوحي ما لا يستطيع أن يتعلّمه من نفسه. {وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ}[24]، وقد جاء النبيّ بدوره لتعليم البشر بما عُلِّم دون أن يبخل وليُعلِّم الآخرين حقائق وأمور لم يكونوا ليتمكّنوا أن يتعلّموها بأنفسهم أو باستعمال الأدوات المشتركة الحسّية والعقليّة المتوفّرة بين أيدي الجميع.

إنّ فهم القرآن والروايات وفهم النصوص اللغويّة التي تتشكّل في تفسير الروايّات، وإدراك التصوير الذي يُقدّمه القرآن الكريم لحقيقة التوحيد ومراتب الموجودات وخلافة الإنسان وكرامته على سائر الموجودات الكثيرة، والمقام الذي له {عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ}[25]، وفي خطابه معه، والمراتب التي يُمكن أن يتمتّع بها الإنسان في مراحل سلوكه نحو الحقّ، وكذلك في مراتب سقوطه في دركات جهنم، هو قسمٌ من العقلانيّة التي تَظهر في ذيل حضور الوحي في الثقافة الإسلاميّة، وهناك قسمٌ آخر من هذه العقلانيّة يهتمّ بكيفيّة ومنهج التفاعل بين العقل التجريبيّ والمجرّد مع الاستنباط الذي يستنبطه من نصوص الوحي، وهذا القسم من العقلانيّة يخلق علومًا ومؤلفاتٍ علميّةً خاصّة به أيضًا، وما دام الوحي يتمتّع بمرجعيّةٍ ومكانةٍ معرفيّةٍ خاصّةٍ في الثقافة الإسلاميّة، فلا مفرّ من دخول المجتمع العلمي في هذا القسم من العلوم، ولا يُمكن للنظام الأكاديمي الذي للدول والمجتمعات الإسلاميّة أن يفرغ من هذا المجال من العلوم التي تأتي تحت عباءة المرجعيّة والهيمنة العلميّة للعالم الحديث إلّا فقط وفقط إذا اعتمد على تعاريف العلم والعقل التي استقرّت لدى الفلاسفة الغربيّين بعد ديكارت أمثال كانط وهيغل ونيتشه وكونت وعلماء حلقة فيينا أو حلقة فرانكفورت.

المطالعات العلميّة الحديثة المتعلقة بالوحي والدين والميتافيزيقيا

إنَّ إلغاء الوحي باعتباره أحد أدوات المعرفة العلميّة لا يعني إلغاء الدراسات العلميّة الحديثة حول الوحي والدين أو حول النصوص الدينيّة، وإنّما في الدراسات العلميّة الحديثة كعلم الاجتماع للدين، وعلم النفس للدين، اعتبرت الادعاءات الوحيانيّة بمثابة شيءٍ[26] وموضوع للدراسات العلميّة، في مثل هذه الدراسات، يُلحق الدين بمجال الإنسانيّات Humanities، فبما أنّ العلوم الاجتماعيّة والعلوم الإنسانيّة تتناول مجال الإنسانيّات خلافًا للعلوم الطبيعيّة، لذا فهي تبتني على قسمٍ من المعارف الأكاديميّة، والذي على الرغم من أنه لا يقوم بأيّ عملٍ علميٍّ بمعناه الخاصّ، إلّا أنّه مسؤولٌ عن فهم المواضيع التي تُقدّم العلوم الاجتماعية نظريات علميّة حولها.

إنّ منهج هذا النوع من المعارف ليس نهجًا علميّاً، وإنّما هو منهج تفسيري وهرمونطيقي، فالعلوم التي هي من قبيل علم الاجتماع والاستشراق والانثربولوجيا (علم الإنسان) تكون مسؤولةً عن فهم النصوص الدينيّة والأنشطة المعرفيّة التي تكوّنت حول هذه النصوص، مثل: الفقه، الحديث، التفسير، علم الكلام، وفي هذا الاتّجاه تعتبر الفلسفة والميتافيزيقيا جزءًا من الإنسانيّات أيضًا، أي: الميتافيزيقيا ليست علمًا، وليس لها قيمة معرفيّة أو كونيّة، وإنّما الميتافيزيقيّة هي ظاهرةٌ ثقافيّةٌ، ظهرت أثناء بناء العالم البشري بجهود البشر، ولها دخالةٌ في تكوين حياتهم، من دون أن يكون لها هويّةٌ علميّةٌ وقيمةٌ كونيّةٌ، في هذا الاتّجاه تمثّل النصوص الدينيّة والتفاسير المشتقة منها مجموعةً من المعاني التي ليس لها إلّا هويّة ثقافيّة؛ يعني: هي ظواهر لها دخالةٌ في تكوين حياة البشر، وهذه الأمور هي موضوعات وُضعت من أجل المعارف العلميّة والتي لها وظيفة معرفيّة، وتتناول بيان الحياة البشريّة.

كيفيّة تفاعل العلوم الوحيانيّة مع العلوم العقليّة في العالم الإسلامي

في الثقافة الإسلاميّة، نجد أنّه لمّا كان الوحي مثله مثل العقل والحسّ من أدوات المعرفة العلميّة، لذا فإنّ المعارف والعلوم المفهوميّة التي تتشكّل في طول الوحي تتفاعل مع المعارف العلميّة التي يتم الحصول عليها عن طريق العقل التجريدي والتجريبيّ، وهذا التفاعل يخلق منهجيّات خاصّة في مسير ازدهار علوم العالم الإسلامي. وفي مجموعة المباحث التي تشكّلت حول العلم والمعرفة العلميّة في العالم الإسلامي هناك بحثٌ ونقاشٌ دائمٌ حول تقييم العلاقة بين المعارف الوحيانيّة والمعلومات التي تكوّنت عن طريق فهم النصوص الدينيّة من جهةٍ وبين المعارف العقليّة المجردة والتجريبيّة من جهةٍ أخرى.

لقد مالت بعض الاتّجاهات نحو نوعٍ من الظاهريّة الانتقائيّة فيما يتعلّق بالنصوص الوحیانية بدوافع كلاميّة لها جذور في الأحداث التاريخيّة التي وقعت في صدر الإسلام، وخلافاً لأقسام مختلفة من هذه النصوص التي تُقدّم العقل والحواس كأدوات فعّالة للمعرفة العلميّة، رفضوا المعرفة العقليّة أو وضعوا خطاً أحمر للإدراكات العقليّة، فالمجموعة الأولى التي رفضت المعرفة العقليّة بشكلٍ مطلقٍ ورفضت حتّى التساؤل العقلي المفهومي، استفادت من سلطة الأمويّين في القرن الأوّل، وظهر شكلهم المعدّل في نهاية القرن الأوّل بصورة أهل الحديث، وأمّا المجموعة الثانية فقد تشكّلت على صورة التيّار الكلامي الأشعري وذلك من خلال التعديل في تيار أهل الحديث.

وبموازاة اتّجاهات أهل الظاهر وأهل الحديث الذين نهوا عن التفكير مطلقًا أو حتّى عن السؤال والتساؤل، واعتبروا أنّ النصوص والمتون المعيّنة التي يقصدونها هي الطريق الوحيد للعلم بالحقائق، ظهر أفراد شاذون قليلون، من قبيل: أبي العلاء المعرّي، وجعلوا العقل والتفكير العقلي في النقطة المقابلة للتفسيرات الوحیانيّة والنقليّة فيما يتعلّق بالعالم، ولكنّ هذا المسار لم يُتَح له فرصةُ التأثير الاجتماعي والثقافي.

وعلى كلّ حال، إنّ الحوار حول العلاقة بين الوحي والنصوص الوحیانيّة، وبين العقل وإدراكات العقل التجريبيّة والمجرّدة هو حوارٌ مستمرٌّ في التاريخ الإسلامي، وقد استخدم الغزالي الطوسي ـ الذي هو مفكّرٌ أشعريٌّ ومتأثّرٌ بشكلٍ كبيرٍ بالنهج الصوفيّ أيضاً ـ العقل المفهوميّ بصبغةٍ كلاميّةٍ ضمن حدود الأسس الكلاميّة، ومع ذلك، أيّد المنطق الذي يتضمّن المنهج البرهاني، وقد وجّه الغزالي في كتاب «تهافت الفلاسفة» عشرين إشكالاً لأولئك الذين فسّروا حقائق الوجود بالمنهج العقلي، واعتبر أنّ ثلاثة إشكالاتٍ من تلك الإشكالات تُشكّل مبرراً لتكفيرهم.

عودة تعارض الدين والشريعة مع العقل إلى التعارض بين العقل والنقل

لقد كتب ابن رشد في القرن السادس وبنهجٍ فلسفيٍّ وعقليٍّ في جوابه كتاب «فصل المقال في ما بين الحكمة والشريعة من الاتصال» وألّف ابن تيمية في القرن السابع بنهج أهل الحديث كتابًا بعنوان «تعارض العقل والنقل»، وقد تطرّق في هذا الكتاب في خمسة مجلّدات لمسألة تعارض العقل والنقل، واعتبر أنّ استعمال العقل ضمن حدود البديهيّات وضمن إثبات أصل الدين من طريق العقل أمرًا جائزًا، أمّا معرفة بقيّة الأمور فهو على عاتق النقل، ولم يقبل بالمنطق وبالمنهج البرهاني، ولا باستعمال العقل في المسائل النظريّة، وقد تكلّم الغزالي عن تعارض الفلسفة والدين وعلاقتهما ببعضهما البعض، وتحدّث ابن رشد عن العلاقة بين الحكمة والشريعة، وتحدّث ابن تيمية عن علاقة العقل والنقل. ولكن أصل هذه الاختلافات ليس في الدين والفلسفة أو الشريعة والحكمة، بل أصل هذه الاختلافات يعود إلى العلاقة بين العقل والوحي وبالطبع، فإنَّ الاختلاف في العلاقة بين الوحي والعقل يظهر في اختلاف العلاقة بين النقل والعقل.

إنّ الدين والشريعة لا يتعارضان مع العقل وأمثاله، فالدين والشريعة هما أسلوب العيش الذي تمّ تعيينه بواسطة الإرادة التشريعيّة الإلهيّة، وعلى الإنسان مسؤوليّة معرفته والعمل به، والوحي هو الوسيلة التي أنزل بها الدين على الأنبياء، وهم عرفوا الدين من خلال الوحي، وبلغوه للبشر. الإشكال هنا هو: ما هو دور العقل في معرفة حقائق العالم وفي معرفة الدين؟ فقد أبلغ الوحي للبشر بقالب النقل، بقالب كلام، والبشر عن طريق النقل، علموا عن الوحي الإلهي ومفاده.

يعتبر البعض أنّ الطريق الوحيد لمعرفة الدين ومعرفة الأمور الدينيّة، أي: معرفة الحقائق التي يقوم عليها الدين، أي: الله سبحانه وتعالى وأسمائه وصفاته ونظام العالم وكذلك النبوّة والمعاد والشريعة، هو الوحي وبالنتيجة النقل. وفي المقابل يرى البعض الآخر أنّ العقل أيضًا مفيدٌ في معرفة هذه الأمور، فإذا كان كلّاً من العقل والنقل فعّالٌ في معرفة الحقائق المذكورة وتقع على عاتقه هذه المسؤوليّة، فلن يكون هناك أيّ إشكالٍ طالما اتّفق العقل والنقل مع بعضهما، وإنّما يحصل الإشكال حينما يحصل تعارضٌ بين العقل والنقل. وهذا هو عين الإشكال الذي ذكره ابن رشد تحت عنوان الاختلاف بين الشريعة والحكمة، ولكن بالطبع تعبير ابن تيمية أدقّ من تعبير ابن رشد، فقد تحدّث ابن تيمية عن تعارض العقل والنقل.

شروط تشكّل التعارض بين العقل والنقل

بكلّ الأحوال، إنّ التعارض بين النقل والعقل أو بين الوحي والعقل أو بين الشريعة والحكمة لا يُمكن أن يكون مُتصوّرًا إلّا حينما يكون للوحي وبتبعه النقل شأنيّة إبراز العلم مثله مثل العقل، فيكون كلاهما من ضمن وسائل التعليم والتعلّم وأدواته، وإذا فَقَد أحدهما اعتباره العلمي، فلن يبقى مكانٌ للنزاع والتعارض.

وفي العالم الإسلامي، ينشأ التعارض بين مفاد العلوم المستمدّة من طريق النقل مع العلوم المستنتجة من طريق العقل، وذلك بسبب المكانة التي يتمتّع بها الوحي والنقل في هذا العالم، وقد خلقت هذه القضية نِقاشاتٍ مستمرّةٍ في التاريخ الإسلامي، والآن مع تجدّد الحياة الثقافيّة للأمّة الإسلاميّة من المتوقّع أن تُثار هذه المباحث المذكورة مرّةً أخرى، والمباحث التي طُرحت في الماضي تحت عنوان تعارض الدين والفلسفة أو تعارض الحكمة والشريعة أو العقل والنقل، تُطرح الآن في العالم الإسلامي خلال العقود الخمسة الأخيرة على وجه الخصوص بعنوان العلم الديني.

الفرق بين مباحث العلم الدينيّ ومباحث العلم والدين

إنّ العلم الدينيّ هو مفهومٌ خاصٌّ طُرِح أوّل مرّةٍ بواسطة المسلمين الذين تتبّعوا الحضور المتجدّد للوحي والنقل في تكوين النظريّات العلميّة، وهذا العنوان يختلف عن عنوان العلم والدين الذي نشأ في البيئات الأكاديميّة الحديثة قبل ذلك، فبحث العلم والدين يسلّط نظره أكثر على العلاقة الخارجيّة التي بين العلم الحديث والدين، فيتتبّع هذا النوع من المباحث غالبًا العلاقة بين الواقعيّات الاجتماعيّة والثقافيّة والتاريخيّة للدين بعنوانه ظاهرةً وجوديّةً أو واقعيّةً ثقافيّةً وقيميّةً وبين المفهوم الحديث للعلم، وبدون أن يتكوّن مفهوم العلم الحديث في إطار الفلسفات المعاصرة كان في معرض التحدّيات وكانوا يتتبّعون معنى العلم الذي لا يختزل العقل بالأمور الثقافيّة والتاريخيّة والذي لا يَعبر ساكتًا غافلًا أمام القيمة الكونيّة للوحي.

عودة العلاقة بين العقل والنقل إلى علاقة العقل الاستنباطي بالعقل التجريبيّ والمجرّد

رغم أنّ عبارة تعارض العقل والنقل أدقّ من عبارة تعارض الحكمة والشريعة مع الدين والفلسفة، لكنّه مع ذلك ليس تعبيرًا تامّاً؛ لأنّه لا يُمكن أن يكون هناك تعارضٌ بين النقل والعقل، إذ النقل نصٌّ مكتوبٌ وهو إذا كان وحيًا وكلامًا إلهيّاً يأتي من طرف متكلّمٍ يُفهم في نصّ الوحي، يعني: الشخص الذي يتلقّى الوحي الإلهي يفهم معناه ومراده بأدقّ وجهٍ، ومن ناحيةٍ أخرى، فإنَّ مخاطب النقل أيضًا ـ أي: الشخص الذي يكون في أفق الإدراك المفهومي والذي يتمتّع بالعقل البشري المشترك، والذي حصل إظهار النقل في الخطاب من خلاله، هو الآخر قد فهم النقل بالقوّة الإدراكيّة التي يمتلكها، أي: فهمه بواسطة عقله.

العقل التجريبيّ والتجريدي والاستنباطي

إنّ العقل قوّةٌ إدراكيّةٌ بحيث إذا لم نعتبره موضعيّاً أو مبنيًا على بنيةٍ ثقافيّة وتاريخيّة، وإذا انتبهنا إلى طبيعته التنويريّة، فهو يقوم بنشاطٍ نظريٍّ في ثلاثة مجالات، ويُنشىء من كلّ مجالٍ منها قسمًا من العلوم.

المجال الأوّل: هو التأمّلات الداخليّة والعقليّة التي تتشكّل في حاشية الشهودات الوجوديّة للإنسان، وشهود الوجودات العقليّة المجرّدة، ومن خلال هذا الطريق تظهر العلوم العقليّة المحضة الموجودة في العلوم المجردة، والرياضيات هي أدنى مستوى من هذه الفئة من العلوم.

المجال الثاني: هو مجال الواقعيّات الطبيعيّة والسيّالة والجزئيّة والمادّية، والعقل لا يعرف هذه الفئة من الأمور بدون مساعدة الحسّ، وهو يحصل على العلوم التجريبيّة عن طريق التعامل مع الحسّ، فالحسّ هو أداةٌ معرفيّةٌ لا يمكن أن تصل إلى أيّ حكمٍ بدون حضور العقل والاستعانة به، وهو لا يتّخذ أيّ خطوةٍ علميّةٍ، ولا يمكن له إنّشاء العلوم التجريبيّة إلّا بالاستعانة بالعقل، ويمكن أن نطلق على هذا القسم من نشاط العقل عنوان العقل التجريبيّ، كما أنّه يُمكن أن يُطلق على القسم السابق عنوان العقل التجريدي.

المجال الثالث: هو مجال المعارف التي يكتسبها العقل لا بواسطة مساعدة الحسّ بل بواسطة الوحيّ ومجرّبات أهل السلوك، وهذا القسم من نشاط العقل يتكوّن من خلال الاستعانة بالنقل المتّصل بالوحي أو بالعقل المتصل بكشف المعصوم، وهو الذي يخلق العلوم النقليّة، ويمكن أن يُطلق عليه عنوان العقل الاستنباطي والبياني، وأمثال ذلك.

بناءً على هذا، فإنَّ تعارض العقل والنقل الذي يقع في ظرف فهم المخاطبين بالوحي، هو في الحقيقة تعارضٌ بين قسمين من أنشطة العقل الآدمي، يعني: التعارض بين العقل الاستنباطي وبين العقل التجريدي أو التجريبيّ، فإنّه توجد تفاعلات عديدة بين العقل الاستنباطي والعقل التجريدي والتجريبيّ قبل أن يحصل التعارض، وتوجد آراء عديدة حول علاقة العقل الاستنباطي ـ أو بحسب تعبير [محمد عابد] الجابري العقل البياني ـ وبين العقل التجريدي والتجريبيّ.

رأي الجابري بشأن علاقة العقل البياني والعقل البرهاني والعرفاني

يرى البعض كما ذُكر سابقاً أنّ علاقة العقل الاستنباطي مع العقل التجريبيّ والتجريّدي هي التباين وحتّى التعارض المطلق، كذلك، هم يعتقدون بأنّ كلّ شخصٍ يمتلك عقلًا، لا إيمان لديه، ومرادهم هو العقل التجريدي والتجريبيّ، يعني: ليس لديهم اتّجاه إيجابي نحو النقل والنصوص الدينيّة، ولا يمكن أن يكون لديهم ذلك، وكلّ شخصٍ يمتلك إيمانًا فلا يمكن أن يكون لديه عقلٌ برهانيٌّ أو تجريبيٌّ، ويذكر [محمد عابد] الجابري ثلاثة أنواع من العقل: العقل البرهاني، والعقل البياني، والعقل العرفاني، ومراده من العقل العرفاني نفس العقل الشهودي الذي هو محور السلوك العرفاني أيضًا. ومراده من العقل البرهاني هو نفس العقل المفهومي الاستدلالي بما أعم من أن يكون تجريبيّاً أو مجرّدًا. ويعتبر الجابري العقل البرهاني من خصائص العالم الحديث، ويعتقد بأنّ العالم الإسلامي لم يستفد من هذا النوع من العقل والعقلانيّة.

ومن وجهة نظر الجابري، يقع العقل العرفاني مقابل العقل البرهاني، وهو يمنع من تشكّل العقلانيّة البرهانيّة وظهورها، ويعتبر الجابري أنّ فلاسفة العالم الإسلامي كالفارابي وابن سينا الذين كانوا في شمال خراسان كانوا واقعين تحت تأثير العقل العرفاني، وفلسفتهم عقيمةٌ في تكوين العقل البرهاني، ويرى أنّ العقل البياني ناظرٌ إلى العقلانيّة التي تتشكل في حاشية العقل العرفاني وفي ذيل النقل، ومن وجهة نظره، العقل البياني هو الآخر يرتبط مع العقل البرهاني تبعًا للعقل العرفاني، وهذا كلام من الجابري الذي ينسب العقل البرهاني والاستدلالي للمعتزلة لا يخلو من قوّة، وأمّا اعتقاده بأنّ عقلانيّة الفلاسفة المسلمين هي نوع من العقل العرفاني أو أنّه متأثر بالتيّارات العرفانيّة، فهو ليس بالكلام الخطأ تمامًا.

خطأ الجابري بخصوص المعتزلة والفلاسفة المسلمين

إنّ الإشكال في كلام الجابري هو أنّ ما ذكره عن المعتزلة أو الفلاسفة المسلمين، ليس تمام الحقيقة، يعني: رغم أنّ المعتزلة التفتوا إلى العقل البرهاني والاستدلالي، واعتبروا أنّ العقل المفهومي وسيلةً للوصول إلى الحقيقة، إلّا أنّهم لم يقولوا بتباين العقل البرهاني مع الوحي أو عدم انسجامهما، وفي النتيجة عدم انسجام العقل البرهاني مع النقل، فقد استعمل المعتزلة النقل في حواراتهم العديدة مع أهل الحديث ومع الأشاعرة في حالاتٍ عديدةٍ أيضًا، فهم يعتبرون الوحي والنقل مُؤيّدان للعقل البرهاني، والعقل البرهاني هو أيضًا شاهدٌ على الوحي والنبوّة والنقل.

ولم يقل فلاسفة العالم الإسلامي كالفارابي وابن سينا وكذلك شيخ الإشراق والخواجة نصير الدين الطوسي والميرداماد وصدر المتألّهين بالتعارض بين الشهود والعرفان مع البرهان، بل كانوا يثبتون بالعقل البرهاني وجود العقل الشهودي والوحي وحضورهما، ويعيدون الجذور الوجوديّة للمفهوم البرهاني أيضًا إلى العقل الشهودي، وقد خصّص ابن سينا النمط العاشر من الإشارات بمقامات العارفين، وفي ذلك النمط أثبت نمط مقامات أهل المعرفة بالبرهان، وحديث ابن سينا وأبو سعيد أبو الخير شاهدٌ على كيفيّة تفاعل العقل البرهاني والعرفاني في العالم الإسلامي، وقد قال ابن سينا عن أبي سعيد: «ما أثبتناه نحن بالبرهان فهو يراه»، وقال أبو سعيد: «ما نراه نحن، أثبته هو بالبرهان».[27]

على الرغم من أنّ العقل البرهاني والعرفاني ليسا غير متوافقين، إلّا أنّه توجد بينهما فاصلة كبيرة، إذ المعرفة العرفانيّة هي معرفةٌ شهوديّةٌ وتُكتسب نتيجة الاتصال أو الإحاطة بحقيقة المعلوم، أمّا المعرفة البرهانيّة فهي معرفةٌ مفهوميّةٌ يتمّ اكتسابها ـ كما يقول مولوي: ـ بعصا أهل الاستدلال الخشبيّة، وكثيرًا ما تقع هذه العصا الخشبيّة في معرض المغالطات وأمثالها، ولهذا السبب هي من وجهة نظره ليست متينةً، فهذا ابن سينا بعد أن رأى أنّ براهينه عاجزةٌ عن إثبات المعاد الجسماني، أثبت أصل إمكانه بالعقل البرهاني، ثمَّ قال أنّه يرى بأنّه قابلٌ للإثبات بالاستعانة بالنقل، وبعد أن اعتبر المدرس الزنوزي الآقا علي الحكيم[28] الدلائل النقليّة في بحث المعاد الجسماني تامّةً، صرّح بهذا الأمر، وهو أنّه مع التصريحات النقليّة بالمعاد الجسماني لا يمكن لأيّ عاقل إنكاره، يعني: بعد أن أثبت العقل أصل النبوّة والوحي والعصمة، وأخبر النبيّ عن المعاد الجسماني فإنكاره هو بمثابة الإنكار للعقل.

ويرى صدر المتألّهين أنّه من خلال إثبات العقل للتوحيد والنبوّة والوحي، تثبُت مرجعيّة النقل للمعارف العلميّة، فهو يُقدّم قول المعصوم باعتباره أمرًا يُمكن أن يقع حدًّا أوسط في البرهان، وقد تكلّم صدر المتألّهين في رسالة الأصول الثلاثة، عن تلاؤم البرهان مع الشهود الوحياني وانسجامهما، وبيّن الآفاق الجديدة التي يفتحها الوحي على العقل المفهومي.

العلاقة الطبيعيّة بين العرفان والفلسفة

بناءً على هذا، على الرغم من أنّ الفلسفة الإسلاميّة تقبل مرجعيّة الشهود وكون الوحي طريقًا لمعرفة حقائق الوجود، لكنّها لا تعتبر ذلك في قبال العقل المفهومي البرهاني، فهي تضع نشاطه الأساسي في مدار العقل البرهاني، كما أنّ أهل العرفان يجعلون محور نشاطهم في السلوك الوجودي وشهود حقائق العالم، وعلى هذا الأساس، فإنَّ كلام الجابري بشأن كلٍّ من المعتزلة وفلاسفة العالم الإسلامي أيضًا هو كلامٌ غير تامٍّ، يعني: رغم أنّ المعتزلة قبلوا بالعقل وبمرجعيّته العلميّة، لكنّ هذا التصرّف منهم لا يقع في قبال مرجعيّة الوحي والنقل، كذلك بالنسبة للفلاسفة المسلمين، فعلى الرغم من إقرارهم بالشهود والسلوك وعلى رأس ذلك الوحي الإلهي باعتبارهما أفضل طريقين للوصول إلى الحقيقة، ولكنّهم لا يعتبرون هذا الأمر بمثابة نفي اعتبار العقل البرهاني ومرجعيّته، بل على العكس من ذلك نجد أنّ هؤلاء الفلاسفة رغم أنّهم يعتقدون باعتبار السلوك العملي أو باعتبار التلقي الشهودي للحقائق، إلّا أنّنا نجد أنّهم جعلوا محور عملهم قائمًا على المعرفة البرهانيّة، وهم يعتقدون بأنّ اعتبار الوحي والشهود ومنزلتهما ناتجٌ عن البراهين العقليّة، فقد أثبت شيخ الإشراق من خلال البرهان العقلي هذه الحقيقة، وهي أنّ البرهان والمفهوم ليسا الطريق الوحيد لمعرفة حقائق العالم، وأنّ لهذه المعرفة حدودها، وأثبت من خلال البرهان أنّ الإنسان لا يمتلك القدرة على العِلم بنفسه من خلال المعرفة المفهوميّة العقليّة، وأنّ إمكان علم الإنسان بنفسه غير ممكنٍ إلّا من خلال المعرفة الشهوديّة. ويرى شيخ الإشراق أنّ الفيلسوف الكامل هو الذي يتمتّع بكلٍّ من المعرفة البرهانيّة والمعرفة الشهوديّة للحقائق معًا.

وادعاء عدم الانسجام بين الشهود والبرهان، والذي يُشار إليه من خلال عنوان عدم الانسجام بين العقلانيّة العرفانيّة والبرهانيّة هو ادعاءٌ يحتاج إلى برهانٍ في حد ذاته، فإنَّ ادعاء التوافق والانسجام بين هاتين المرتبتين ليس مسموعًا بدون برهانٍ أيضًا، وقد أقام الفلاسفة المسلمين من الفارابي إلى صدر المتألّهين كلّ منهم على حدةٍ برهانًا على هذا الأمر، فنسب الفارابي الوحي إلى قوّةٍ قدسيّةٍ، واعتبر أنّ القوّة القدسيّة هي للشخص الذي يكون صاحب عقلٍ مستفادٍ، وصاحب العقل المستفاد هو شخصٌ على اتصالٍ وجودّيٍ مع العقل الفعال وروح القدس، فيصبح هو بنفسه مخزنًا للعلم الإلهي، وبنحوٍ من الأنحاء يُصبح مصداقًا لبعض الروايات التي تحدّثت عن علم الإمام المعصوم، يعني: هو يعرف أيّ شيء يريد أن يعرفه بدون أن يحتاج إلى المقدّمات التي يكون لها دور العلل الاعداديّة لفهم الحقيقة.

نظرية امتناع العقلانيّة في الثقافة الإسلاميّة

يُردّد بعض المعاصرين الإيرانيّون نظير ما قاله الجابري عن العقل البرهاني وتعارضه مع العقل العرفاني والعقل البياني مع اختلافاتٍ طفيفةٍ، فهم أيضًا يضعون العقل البرهاني مقابل الوحي والنقل على غرار الفلاسفة المحدثين، ولا يقرّون بالقيمة الكونيّة للوحي والنقل بشكلٍ رسميٍّ، ومن وجهة نظر هؤلاء يُعيق وجود الوحي والنقل في العالم الإسلامي تشكّل العقلانيّة ونموّ الفكر العقلاني، ولا ترى هذه المجموعة ـ خلافًا للجابري ـ وجود سوابق أو أسس في الفكر الإسلامي للعقلانيّة البرهانيّة، ويعتقدون أنّ العقلانيّة البرهانيّة إنّما شقّت طريقها إلى العالم الإسلامي في برهةٍ قصيرةٍ من الزمن من خلال ترجمة المؤلّفات اليونانيّة، وبسبب مرجعيّة النقل والعلوم النقليّة التي كانت لديهم، لم تتمكّن من الاستمرار، وبناءً لهذه النظريّة فإنّ حضور الدين والشريعة في الثقافة الإسلاميّة كان مانعًا من تشكيل المنهج العقلي، وترى هذه النظريّة بأنّ ولادة الثقافة الإسلاميّة هو سبب عدم تشكّل العقلانية ونشوء العقل البرهاني.

يرى بعض هؤلاء الأشخاص أنّه إذا وُجدت سابقة وخلفيّة للعقلانيّة البرهانيّة والاستدلاليّة، فهي تعود إلى إيران ما قبل الإسلام، ورأي هذه المجموعة مثله مثل رأي الجابري متأثّرٌ بالعقلانيّة الحديثة التي أعطت ظهرها للسابقة الشهوديّة للعقل المفهومي، والتي ترى أنّ العقل المفهومي مستقل عن العقل الشهودي والشهودات الوحيانيّة، بل هي تقابلها، فمن وجهة نظر هيغل يُمثّل الوحي ظاهرةً تاريخيّةً وجدت الفرصة للظهور والبروز في مرحلةٍ محددة من غربة الإنسان عن نفسه.

تفاعل العقل والوحي والنقل

كما ذكرنا سابقًا في نقد فهم الجابري للعلاقة بين العقل البرهاني والعقل البياني والعرفاني، أنّ فلاسفة العالم الإسلامي لا يعتبرون أنّ العقل الاستدلالي والبرهاني الأعم من المجرّد والتجريبيّ يتناقض مع العقل البياني أو العقل العرفاني، وهم يُرجعون العقل العرفاني إلى شهود الحقائق الوجوديّة، ويعتبرون الوحي أعلى أنواع هذا الشهود، وهم يعتقدون بقيمةٍ كونيّةٍ وعلميّةٍ للوحي، ويعتبرونه شيئًا أعلى من سطح العقل والعقلانيّة وأنه مُتاحٌ للجميع، وذلك السطح من العقل والعقلانيّة الذي هو متاحٌ للجميع هو العقل المفهومي، ورغم أنّه للعقل المفهومي جذور في شهود حقائق الوجود، لكنّ نشاطه في أفق المفهوم يقع في ثلاث مجالات: المجال الأوّل: العقل التجريدي الذي يحصل نتيجةً للتأملات الداخليّة العقليّة؛ والمجال الثاني: العقل التجريبيّ الذي يُصبح فعّالًا بمعونة بالحسّ؛ والمجال الثالث: هو العقل الاستنباطي الذي يعمل بمساعدة بالوحي، والوحي يهيأ الأدوات الضروريّة للفهم ولاستنباط الحقائق من خلال النقل، تلك الحقائق التي إنّما أتيحت للبشر عن طريق الوحي.

حدود التعارض بين العقل الاستنباطي والعقل التجريبيّ والتجريدي

بناءً لهذا الرأي فإنّ التعارض بين النقل والعقل هو في الحقيقة تعارضٌ بين العقل الاستنباطي أو البياني مع العقل التجريدي والتجريبيّ، وهذا التعارض ليس ظاهرةً أساسيّة وأصليّة، وإنّما هو ظاهرةٌ فرعيّةٌ لا تختصّ بمجال ارتباط واتصال العقل الاستنباطي بالعقل التجريبيّ والتجريدي، والتعارضات التي تكون من هذا القبيل ترتبط بالأخطاء التي تحصل في مجال العقل المفهومي، وهذا النوع من التعارضات قبل أن يقع بين معطيات العقل الاستنباطي والعقل التجريبيّ والتجريدي، يقع أيضًا ضمن حدود العقل التجريبيّ أو العقل التجريدي، بل ضمن حدود العقل الاستنباطي أيضًا، وحلّ هذه التعارضات في كلّ منطقةٍ يستخدم مناهج وقواعد خاصّة به.

التفاعلات الإيجابيّة الثلاثيّة بين العقل مع النقل والعقل الاستنباطي

قبل أن يصل الدور إلى التعارضات بين العقل الاستنباطي مع العقل التجريدي والتجريبيّ، يجب أن تنشأ بينها تفاعلات بنّاءة، ويُمكن البحث في هذه التفاعلات من ناحيتين: الأوّلى: من ناحية العقل التجريدي والتجريبيّ؛ والثانية: من ناحية العقل الاستنباطي أو البياني. ويمكن أن نقول مسامحةً: إنّ هذه التفاعلات تارةً تكون من جانب العقل وتارة أخرى من جانب النقل، فالعقل أو بعبارة أدقّ: للعقل التجريدي والتجريبيّ ثلاثة أنواع من الآثار الإيجابيّة، ويُؤدّي ثلاثة أدوار فيما يتعلّق بالنقل أو ببيان أفضل: فيما يتعلّق بالعقل الاستنباطي، وذلك بحسب الحالات والمواضع المختلفة:

1- مفتاحٌ.    2- مصباحٌ.   3- ميزانٌ.

كون العقل مفتاحًا للنقل

أوّلًا: كون العقل التجريبيّ وعلى الخصوص التجريدي مُفتاحًا بالنسبة للنقل والعقل الاستنباطي وذلك في أنّه يُثبت من خلال العقل التجريدي أصل الوجود القدسي والتوحيد ومسألة المبدأ والمعاد وكذلك الوحي والنبوّة، وقد أثبت العقل التجريدي بمساعدة العقل التجريبيّ النبوّة الخاصّة والمعجزات المرتبطة بالنبيّ، وتعرّف على النقل المستند إلى الوحي، وفي النتيجة وَفّر أرضيّة الاستنباطات العقليّة النقليّة، ويؤدّي العقل التجريدي والتجريبيّ في هذا القسم دور المفتاح الذي يفتح الباب للدخول إلى ساحة النقل وأنشطة العقل في نطاق النقل.

إنّ أهل الظاهر وأهل الحديث وبعض التيارات التاريخيّة الأخرى في العالم الإسلامي ممّن يعتبر الوحي والنقل الطريق لتحصيل العلم، يُنكرون الدور الاستراتيجي والمفتاحي للعقل بل ينكرون حتّى القيمة العلميّة للعقل بشكلٍ مطلقٍ، وبعض هؤلاء الأفراد حينما يصادفون استعمالًا للعقل في النصوص الدينيّة، يدّعون أنّ للعقل معنى مختلفًا في هذه النصوص يختلف عن معناه اللغويّ والعرفيّ، وبرأي هذه المجموعة، العقل نورٌ لا يفهم معناه إلّا الذين يمتلكون، وترى هذه الفئة  أنّ العقل المفهومي والبرهاني الذي يمتلكه الجميع ليس له قيمة مفتاحيّة للدخول إلى ساحة النقل؛ لأنّه لا يمتلك أيّ نوعٍ من القيمة المعرفيّة الحقيقيّة.

وقد نُسب للوثر أنّه يعتبر العقل لقيطًا رضع حليبًا من ثدي ماعزٍ اسمه الشيطان، وهذا الرأي هو نظير رأي أهل الحديث والإخباريّين، وبعض الأفراد الذين يُفرّقون بين مجالي العقل والنقل، فإنّ العلماء الإخباريّين يرون أنّ العقل التجريدي لا اعتبار له، وفي المقابل يرون أنّ الحسّ وبتبعه العقل التجريبيّ معتبران، وبقبولهم مرجعيّة الوحي، يعتبرون طريقي النقل والتجربة معتبرين أيضًا، ورغم أنّ ابن تيمية يُعارض الأشاعرة لكنّه دافع عن أهل الحديث، ولذلك نجد أنّ له عودةٌ إلى أهل الحديث في فترة سيطرة الأشاعرة، ويتجنّب نفي العقل مطلقًا، ويقبل بالعقل التجريدي في حدود كونه مفتاحًا للاتصال بالوحي والنقل وفي النتيجة بالدين والشريعة، وقد جعل حدود مساعدة العقل المفهومي والتجريدي للنقل في هذا الحدّ وحسب، ونفى ما هو أكثر من ذلك، ولا يعتقد ابن تيمية باعتبارٍ للعقل أكثر من هذا المقدار، ويعتبر أنّ هذا المقدار من نشاط العقل هو في حدود الفطريّات والأوّليّات، ويعتبر ابن تيمية أنّه لا اعتبار لأنشطة العقل النظريّة والمنطقيّة.

كون العقل مصباحًا لفهم النقل

ثانيًا: كون العقل مصباحًا للنقل هو أمرٌ في الحقيقة مقوّم للعقل الاستنباطي والبياني، ومعنى كون العقل مصباحًا ومنارًا للنقل هو أنّ العقل المفهومي لا يبقى خارج بوابة النقل بعد إثبات الوحي ومعرفة النقل المستند إلى الوحي، بل يدخل إلى حريم النقل، ويُصبح مسؤولًا عن فهمه والاستنباط منه، وفي الحقيقة يجد العقل فرصةً لنشاطٍ جديدٍ بعد الوصول إلى نقل كلام المعصوم وهو سماع النقل والاجتهاد في فهمه، وحينما يكون الوحي مقترنًا بمسؤوليّة الإبلاغ، مثل: الوحي التشريعي عن طريق النبيّ أو من يتمتّع بهذا النوع من الوحي، فلا يكون المخاطب هم الأطفال والمجانين أو الموتى، وإنّما المخاطب هو كلّ من له شأنيّة فهمه وتلقّيه، يعني: يُخاطب العقلاء وكلّ من يمتلك عقلً، ولهذا السبب، لو أنّ جميع الأنبياء خاطبوا إنسانًا مجنونًا وفاقدًا للعقل، فلن يكون ذلك الشخص مكلّفًا بأيّ تكليفٍ، ولن تكون هناك أيّ مسؤوليةٍ تقع على عاتقه.

إنّ الوحي يُخاطب من خلال النقل الإنسان الذي يتمتّع بالعقل والذي يمتلك شأنيّة فهم الكلام والتأمّل والتفكّر والتدبّر فيه، ومن يتمتّع بالعقل المفهومي، يُدرك مفاد النقل ومعناه بمجرّد سماعه، وليس العقل الاستنباطي سوى فهم النقل هذا.

وبعد أن يواجه العقلُ الوحيَ، وبعد إثبات قيمة العقل واعتباره العلمي، فإنّ العقل يُصبح مصباحًا يدخل إلى حريم النقل ويفهم مفاده ومعناه. فالإنسان الذي يكون بدون عقلٍ حينما يواجه النقل يكون كالإنسان القابع في الظلمة، فالنصّ يمكن فهمه بنور العقل، وللعقل في هذه المرحلة دور المصباح في فهم النقل، فالعقل يستفيد من قوّته كلّها لفهم النقل، ويستفيد من مبادئه الميتافيزيقية كذلك؛ مثلًا: لا يعتبر وجود النقل وعدمه أمرًا واحدًا، ويستند إلى معلوماته لتُشكّل قرائن لبيّة متّصلة في فهم النقل، كما أنّه يأخذ في عين الاعتبار القرائن الانضماميّة والقرائن اللفظيّة المتّصلة والمنفصلة.

كون العقل ميزانًا بالارتباط مع النقل

ثالثًا: يرتبط كون العقل ميزانًا للنقل بالحالات التي يعمل فيها العقل كمصباحٍ لفهم معنى النقل، وما يفهمه العقل من النقل، ينقسم وفق أحد التقسيمات إلى قسمين: قسمُ منه هو المعاني والمفاهيم والقضايا والجمل التي يعرفها العقل المفهومي أو العقل التجريبيّ، والقسم الآخر هو الأمور التي لا يمتلك العقل التجريدي أو التجريبيّ قدرةً للحكم بشأنها، والحالات التي يمتلك العقل التجريدي أو التجريبيّ العلم بها هي الحالات التي تعمل كميزانٍ في تفسير النصّ، على سبيل المثال: يعلم العقل وجود الحقّ سبحانه وتعالى، ويعلم بأنّه ليس مقيّدًا وليس مادّيّاً ولا زمان له ولا مكان له، ويعلم العقل أنّ الله سبحانه وتعالى ليس جسمًا ولا جسمانيّ ولا يمتلك أجزاء كالبدن والنفس أو اليد أو القدم وأمثال ذلك، ويعلم أنّه سبحانه واحدٌ وأنّ وحدته ليست وحدةً عدديّةً، لذلك لا يُعدّ وليس له شبيه، والحالات التي يكون فيها للعقل التجريبيّ أو التجريدي علمًا واضحًا وجليّاً، فهو لا يتخلّى عن معطياته في فهمه للنصّ، ويستعمل تلك المعطيات كموازين لفهم النصّ بحيث إذا كان ظاهر النصّ مخالفًا لتلك المعطيات، فإنّه يأخذها كقرينةٍ عقليّةٍ لتفسير معنى النصّ، فإذا ورد في القرآن آيةٌ تقول:(يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِم)[29]؛ فبما أنّه يعلم بأنّ الله تعالى لا يمتلك يدًا، لذا فهو يأخذ هذه الفكرة كشاهدٍ على أنّ مراد الآية هي أنّ قدرة الله أقوى من قدرة الآخرين.

إنّ كون العقل ميزانًا يؤدّي إلى أنّه في الحالات التي يكون فيها النقل مخالفًا للمسائل التي يعلم بها العقل والتي تكون دلالة النقل فيها لم تصل إلى حدّ الظهور والنصّ، فإنّه ينشأ في هذه الحالات تعارض بين العقل والنصّ، ونحن سوف نتطرّق في المباحث اللاحقة للقواعد المرتبطة بالتعارضات بين العقل والنقل، وببيان أفضل: سوف نتعرّض للتعارضات التي بين العقل التجريدي والتجريبيّ وبين العقل الاستنباطي.

التفاعلات الثنائيّة للنقل فيما يتعلّق بالعقل

عندما يتمّ النظر إلى التفاعلات التي بين العقل والنقل من منظور النقل أو العقل الاستنباطي، أي: عندما يُقاس النقل بالعقل، فإنَّ ذلك يُؤدّي إلى ظهور أقسامٍ جديدةٍ، وعندما يتم تقييم مفاد النقل بالقواعد العقليّة، أو عندما يكون العقل ساكتًا بالنسبة لمفاد النقل، يعني: يفهم العقل من النقل معنىً لا يمكن الحصول عليه من خلال التأمّلات التجريديّة للعقل أو القياسات التجريبيّة، ففي هذه الحالة تسمّى أحكام النقل ـ التي هي مفادُ العقل الاستدلالي ـ أحكامًا مولويّةً، والمراد من ذلك هو الأحكام والقواعد التي لا تُعرف وتفهم إلّا عن طريق الوحي، ولا يستطيع العقل بمفرده أن يصل إليها بدون الاستعانة بالوحي، وكمثالٍ على ذلك يُمكن أن نذكر ما يلي: كيفيّة أداء العبادات وعدد ركعات الصلاة أو كيفية الوضوء؛ لأنّه رغم أنّ العقل يحكم بضرورة إطاعة ربّ العالمين وعبادته، لكنّ العقل المفهومي لا يدرك كيفيّة الطاعة والعبادة وخصوصياتها، تمامًا كما أن العقل المفهومي لا يدرك خصوصيات الموجودات الطبيعيّة بدون مساعدة الحسّ، فالعقل المفهومي لا يمكنه إدراك العديد من الأمور الأخرويّة أيضًا، وكذلك لا يدرك الخصوصيّات المرتبطة بالعبادات بدون مساعدة الوحي والنقل.

بيان صدر المتألّهين حول الأحكام المولويّة للنقل

لقد كتب صدر المتألّهين في «رسالة الأصول الثلاثة» ما يلي: «كما أنّ الحواس عاجزةٌ عن إدراك مدركات القوَّة النظريَّة، كذلك العقل النظريّ عاجزٌ عن إدراك أوليّات الأمور الأخرويّة، ومن هذا القبيل معرفة يوم القيامة الذي يبلغ مقداره خمسون ألف سنةٍ من سنيّ الدنيا. والحشر ورجوع جميع الخلائق إلى خالق العالم، وحشر الأرواح والأجساد، ونشر الصحائف، وتطاير الكتب، ومعنى الصراط والميزان، والفرق بين القرآن والكتاب، وسرّ الشفاعة، ومعنى الكوثر والأنهار الأربعة، وشجرة الطوبى، والجنّة والنار وطبقات كلٍّ منهما، ومعنى الأعراف، ونزول الملائكة والشياطين والحفظة والكرام الكاتبين، وسرّ المعراج الروحاني والجسماني الذي هو خاصٌّ بخاتم الأنبياء (عليه وآله الصلاة)، وسائر أحوال الآخرة ونشأة القبر، وكلّ ما حكي من هذه المقولات عن الأنبياء عليهم السلام، وغير ذلك من العلوم والمكاشفات أسرارٌ يعجز العقل النظريّ عن إدراكها، ولا يتاح إدراكها إلّا بنور متابعة وحي السيّد العربي وأهل بيت النبوّة والولاية عليهم السلام والثناء، وليس لأهل الحكمة والكلام في ذلك إلّا نصيبٌ قليلٌ.

إنّ جميع المعارف التي من نوع المعارف المذكورة أعلاه، رغم أنّها ليست من سنخ الأحكام العمليّة، وهي تتحدّث عن حقائق العالم، ولكنّها لمّا كانت من الحقائق التي لا يمتلك العقل النظري إمكانيّة تحصيلها بمفرده ولا بواسطة المناهج التجريديّة أو بواسطة مساعدة الحواس أو بواسطة المناهج التجريبيّة، هي من الحقائق التي إذا لم يكن الإنسان هو نفسه من أهل الشهود فلا يمكن للعقل النظري إدراكها إلا بمساعدة النقل، وأحكام هذا القسم من النقل طبقًا للاصطلاح المذكور، هي أحكامٌ مولويّةٌ.

الأحكام الإرشاديّة للنقل ونسبتها إلى العقل

ويقع في قبال هذا القسم من النقل، قسمٌ آخر وهو الذي يمتلك العقل النظري أو التجريبيّ القدرة على إدراكه وفهمه، مثل: الآيات والروايات التي تتطرّق إلى محاججة الكفار وأمثالها وإقامة البراهين عليهم، ففي هذه الحالات والمواطن يتحدّث النقل عن أحكام وقواعد يمتلك العقل القدرة على فهمها بنفسه، أي: إنّ النقل يعمل على إثارة عقول المخاطبين ويُظهر لهم دفائن العقول المغفول عنها، وفي النتيجة يُتمُّ الحجّة على المخاطب بها، ولا يُسمّى هذا القسم من النقل مولويّاً وإنّما يُطلقون عليه النقل الإرشادي؛ لأنّه يتمّ إرشاد العقل نحو شيءٍ هو يعلمه.

إنّ العقل الاستنباطي يقف عند مواجهة هذا القسم على ما يعلم به ويذعن بما لديه من علم، والوحي والنقل يقومان بمساعدة العقل الاستنباطي كي يتمكّن بهذه الطريقة من خلال اعتقاد بعض أقسام العقل التجريدي والتجريبيّ أن يُؤمِّن أسسه المعرفيّة التي هي إثبات التوحيد والنبوّة والوحي وعصمة الأنبياء، ويفتح الطريق للاستفادة من قسم الأحكام المولويّة من النقل على الدوام.

الأحكام التأسيسيّة والإمضائيّة للنقل ونسبتها إلى العرف

يواجه النقل وبتبعه العقل الاستنباطي تقسيمًا ثنائيّاً آخر، ففي تقسيم النقل إلى مولوي وإرشادي تتمّ المقارنة بين القوّة العاقلة وقدرات العقل التجريبيّ والتجريدي، ولكن في التقسيم الآخر للنقل يواجه النقل فيما يتعلّق بالعرف ومعه قسمٌ آخر من المعرفة التي اكتسبت هوية ثقافيّة وشبه ذهنية، وببيان أفضل: يُقارن النقل مع أسلوب حياة النّاس ونمط عيشهم، وليس مع البراهين والاستدلالات التي يملكها العقل أو قد يملكها بالنسبة لمسألةٍ ما، وتُسمّى الأحكام التي يُبينها النقل الأحكام الإمضائيّة وذلك إذا كانت ترتبط بالأسلوب العملي وبالحياة وكانت من الأمور التي يعمل النّاس وفقًا لها؛ لأنّ النقل والعقل الاستدلالي في هذه الحالة يمضيان السلوك أو العمل السائد بين النّاس بنحوٍ خاصٍّ أو عامٍّ.

وفي هذه المواطن يُمضي النقل الارتكاز العملي للعرف، وإلّا فإنّه يُبيّن أمرًا إمّا أن يكون مخالفًا للعرف أو ليس له جذورٌ في العرف العامّ، وفي هذه الحالة لا يكون الحكم المرتبط به حكمًا إمضائيّاً، وإنّما يكون حكمًا تأسيسيّاً، على سبيل المثال: كان البيع أمرًا شائعًا في العرف وفي حياة النّاس، وقد أيّده الشارع، أمّا حرمة الربا فهو أمر مخالفٌ للعرف، يعني: كان الربا أمرًا شائعًا في العرف بحيث شبّهوا البيع به، والآيات القرآنيّة بيّنت خطأه؛ لذا فإنَّ حكم الربا تأسيسيٌّ، والأحكام العباديّة أيضًا في أغلب الحالات هي تأسيسيّةٌ، أي ليس لها سابقةٌ تاريخيّةٌ، وإذا جرى ما في العُرف فينبغي الالتفات إلى ارتكازه العقلائي، وعندها سوف يكتسب هويّةً عقليّةً، وفي هذا الفرض يكون النقل بالنسبة له إمّا إرشاديّاً وإمّا مولويّاً؛ لأنّ الخصوصيّة العقليّة لذلك الحكم قد تمّ الالتفات إليها، وللعقل اعتباره ومرجعيّته، وأمّا إذا كان العرف يفتقر إلى أساسٍ عقليٍّ وكان مجرّد عادة وطريقة استقرّت بين الناس، ففي هذه الحالة سوف يتّصف النقل بأحد الوصفين إمّا تأسيسي وإمّا إمضائي.

شروط تكوّن التعارض بين العقل والنقل

تعود مسألة التعارض بين النقل والعقل إلى التعارض بين العقل الاستنباطي مع العقل التجريدي أو التجريبيّ، وهو ينشأ في حالة من الحالات التالية:

أولًا: أن يكون لكلا المصدرين قيمة معرفيّة أو علميّة.

وثانيّاً: أن توجد منطقةٌ مشتركةٌ بينهما، ولهذا السبب إنّ مَن يعتبر الوحي والنقل الوسيلة الوحيدة للمعرفة العلميّة، أو أنّ العقل التجريبيّ أو التجريدي هو الوسيلة الوحيدة فقط؛ أو يفصل بين نطاق معرفة النقل ونطاق معرفة العقل، مثلًا: يعترف بالعقل كمفتاحٍ ضمن حدود خاصّةٍ، وينفي كونه مصباحًا أو ميزانًا؛ ويُمكنه أن يعتقد بالتفاعل المحدود والخارجي بين العقل والنقل، بدون أن تتهيأ أرضيّةٌ للتعارض بين النقل والعقل أو ببيان أفضل: للتعارض بين العقل الاستنباطي والعقل التجريدي والتجريبيّ.

ولكن حينما تتوفّر منطقةٌ مشتركةٌ، ويدرك العقل الاستنباطي بمساعدة الوحي جميع المسائل التي يُدركها العقل التجريبيّ والتجريدي، سوف يُبيّن أحكامًا إرشاديّةً، وأمّا بالنسبة لما يخرج عن حدود العقل التجريدي والتجريبيّ فلديه بشأنها أحكامًا مولويّةً، وكذلك لديه فيما يتعلق بكلّ ما يعمل به العرف أحكامًا إمضائيّةً أو تأسيسيّةً.

في هذه الحالة، حتّى لو كان للعقل الاستنباطي تفاعلٌ إيجابيٌّ مع العقل التجريبيّ أو التجريبيّ ومع العرف في العديد من المواطن، لكنّ الأمر ينتهي بالتعارض في بعض الحالات، يعني: يفهم العقل الاستنباطي أمرًا من النقل تُظهر البراهين التجريبيّة أو التجريديّة خلافه، أو يجري العرف خلافًا له.

وحينما يعود عمل العرف إلى ارتكازه العقلائي، فإنّه يكتسب صورةً عقليّةً، وفي هذه الحالة تحصل مواجهة بين النقل وبين إحدى الصورتين الإرشاديّة أو المولويّة، وإذا لم يكن هناك أيّ دفاعٍ عقليٍّ عنه، فلن يُواجه تعارضًا منطقيّاً مع العقل الاستنباطي والنقل، وأمّا في المواطن التي أثبت فيها العقل التجريبيّ والتجريدي أمرًا ما، فإنّ العقل يُؤدّي دور الميزان في وزن النقل وفهمه، وفي هذه الحالة، إذا لم يُمكن الجمع بينه وبين النقل، ينجر الأمر إلى التعارض غير القابل للحلّ، وهنا يُطرح هذا السؤال: كيف تحلّ التعارضات المذكورة؟ وقبل الدخول إلى هذا البحث، هناك بعض النقاط التي ينبغي الالتفات لها حول التعارض.

وقوع التعارض في مقام الاثبات ونفيه في مقام الثبوت

أولًا: عندما يعود التعارض إلى التناقض، فلا يمكن أن يكون موجودًا في متن الواقع، فالتعارض في مقام الإثبات يقع ضمن حدود الجمل والعبارات التي تُقال بشأن الواقع، وبما أنّ التناقض لا يقع في متن الواقع، لذا حينما نتكلّم بجملتين أو عبارتين متناقضتين فإنّنا نعلم أنّه لا يمكن أن تكون هاتين الجملتين صحيحتين؛ لأن اجتماع النقيضين محالٌ، وإذا عاد تعارض الطرفين إلى طرفي النقيض، فعلينا أن نقف على هذه المسألة، وهي أنّه لا يُمكن أن يكون كلا الطرفين خطأ أيضًا؛ لأنّه يلزم حينها ارتفاع النقيضين، وارتفاع النقيضين محالٌ.[31]

وفي مقام معرفة الواقع عندما نصل إلى جملتين متناقضتين، نعلم أنّ إحدى الجملتين خاطئةٌ بالتأكيد والأخرى صحيحةٌ، ونعلم أنّ المعارف التي تسبق الوصول إلى التناقض لم تكن خاليةً من الخطأ، والآن بعد إدراك التناقض نعلم أنّه بسبب أنّ ما لدينا من المعارف انجرّ إلى التناقض لذا لا بدّ أن يكون لدينا خطأٌ في معرفتنا، أي: نحن نعلم أنّنا وقعنا في الخطأ عند معرفة أحد طرفي النقيض حتّى لو لم نكن لا نعلم أيّ الطرفين هو الخطأ وأيّهما هو الصواب.

التعارض الابتدائي والتعارض المستقر

ثانيًا: المسألة الثانية هي أنّه للتعارض قسمان: القسم الأوّل: التعارض الابتدائي. والقسم الثاني: التعارض المستقر. والتعارض الابتدائي هو التعارض الذي يتبادر للذهن للوهلة الأولى، ولكن بعد التأمّل نعلم أنّه لا وجود للتعارض، وبعبارة أخرى: إنّ التعارض الابتدائي هو التعارض القابل للحلّ. أمّا التعارض المستقر فهو التعارض الذي يُشير إلى وجود خطأ في مقام الإثبات.

والعلم المفهومي يطوي مسير البراهين المختلفة بموازاة ذلك مُبتعدًا عن نطاق المفاهيم البديهيّة والأوّليّة مستعينًا بالمقدمات المختلفة، وهو مُعرّضٌ دائمًا للاشتباه وللوقوع في كمين المغالطات، والتعارض المستقرّ الذي يُشير إلى وقوع التناقض يحكي عن وقوع الخطأ في أحد المراتب.

احتمال وقوع الخطأ في العلوم المفهوميّة التجريبيّة المجردة والتفسيريّة

ثالثًا: إنّ الخطأ محتملٌ في جميع مراتب العلم الحصولي، ولا يختصّ بالعلوم العقليّة التجريبيّة أو التجريديّة، ويمكن أن يقع الخطأ في الاستنباط وفي فهم النقل أيضًا، كذلك يمكن للتعارض المستقرّ أن يوجد بين أنواع العلوم المختلفة، وقد يقع التعارض المستقر أحيانًا بين المعلومات التي في نطاق العلوم التجريبيّة، وقد يقع أحيانًا بين العلوم التي يتم تحصيلها عن طريق العقل التجريدي، وقد يقع أحيانًا في نطاق العلوم التي حصّلها العقل الاستنباطي والبياني، وقد يقع التعارض المستقر بين المعلومات وبين العلوم التي تمّ تحصيلها عن طريق الأنشطة التي لأنواع العقل المختلفة، أي: العقل التجريبيّ، والتجريدي، والاستنباطي، ويحتاج الإنسان لحلّ التعارض في جميع هذه الحالات في مسار أنشطته العلميّة.

القطع والظن العلمي

رابعًا: إنّ الأحكام التي يُصدرها العقل في مراحله وأقسامه المختلفة، تكون قطعيّةً أحيانًا، وتتمتع بالقطع العلمي وليس نفسيّاً، وأحيانًا تكون ظنيّة، أي: تفتقر للقطع العلمي، ويوجد في القطع العلمي أربعة أنواعٍ من الجزم: الأول: الجزم بثبوت المحمول لموضوعه. الثاني: الجزم بامتناع سلب المحمول عن الموضوع. الثالث: الجزم بعدم زوال الجزم الأوّل. والرابع: الجزم بإمكانيّة زوال الجزم الثاني. وإذا لم تتوفّر الأنواع الأربعة من الجزم في القطع، لم يكن للحكم ضرورةٌ علميّةٌ، ويكون قطعه قطعًا نفسيّاً، وتكون تلك القضيّة في الواقع قضيّةً ظنيّةً، وفي التعارض تكون أحيانًا كلا القضيتين متعارضتين، وأحيانًا أخرى تكون إحداهما ظنيّةً والأخرى قطعيّةً، وأحيانًا ثالثة تكون كلتاهما قطعيّتين.

اختصاص التعارض المستقر بالدليلين القطعيين

خامسًا: حينما يكون التعارض بين دليلين ظنيّين أو بين دليلٍ ظنيٍّ ودليلٍ قطعيٍّ فهو تعارضٌ ابتدائيٌّ غير مستقرٍّ ويُمكن حلّه ولا يستتبع إشكالًا علميّاً، والتعارض إنّما يكون مستقرًّا حينما يكون بين دليلين قطعيّين، ويعرض كلّ جدولٍ من الجداول في الأسفل صور التعارضات في العلوم التجريبيّة والتجريديّة والاستنباطيّة.

نفي التعارض بين دليلٍ ظنّي وبين دليلٍ ظنيٍّ أو بينه بين دليلٍ قطعيٍّ

عندما يكون الدليلان ظنيّان، لا وجود للتعارض في الحقيقة، لأنّ كلّ واحد من الدليلين الظنيّين يحتمل الصدق، ولا يعطي أي منهما معلومات قطعيّة عن الواقع.

عندما يكون هناك دليلان ظنيّان، فلا يوجد في الحقيقة تعارضٌ؛ لأنّ كل دليلٍ من الدليلين الظنيّين يحتمل الصدق، ولا يُخبر أيّ منهما خبرًا قطعيّاً عن الواقع، ومعنى الدليلين الظنيّين هو أنهما يُقدّمان احتمالًا بأن يكون الواقع مطابقًا لأحدهما أو حتّى مخالفًا لكليهما، وهذا الاحتمال لا يستلزم تناقضًا أبدًا، وعندما يكون أحد الدليلين قطعيّاً والآخر ظنيّاً، فكذلك لا تحصل أيّ مشكلةٍ في الجمع بينهما؛ لأنّ الدليل الظنيّ يُخبر فقط عن احتمال صدقه، وفي نفس الوقت يحتمل الدليل الظنيّ احتمالًا آخر معه وهو احتمال أن يكون الواقع مخالفًا له أيضًا، ووجود دليلٍ قطعيٍّ بجانب دليلٍ ظنيٍّ يُشير إلى أنّ الاحتمال الثاني في الدليل الظني هو الصادق وأنّ الاحتمال الأوّل باطلٌ، والجمع بين الدليلين بهذه الطريقة لا يُسبّب أيّ تناقضٍ.

ولكن عندما يكون كلا الدليلين قطعيّاً، فإن التعارض يُصبح مستقرّاً؛ لأنّ عندما يكون هناك دليلان متناقضين من الطرفين، فليزم من صدق كلا الدليلين حصول التناقض في الخارج، واستحالة التناقض هي قضيّةٌ بديهيّةٌ أوليّةٌ، وما من عاقلٍ يقبل حدوث التناقض، ولو كان حدوث التناقض محتملًا ولو في حالةٍ واحدةٍ، فإنّ ذلك يُؤدّي ـ كما يقول ابن سينا وبهمنيار ـ إلى جواز التناقض في كل العالم، وفي هذه الحالة لا يمكن إثبات أيّ قضيّةٍ، فحتّى هذه القضيّة القائلة بأنّ حدوث التناقض محتملٌ لا يُمكن إثباتها أو الاعتماد عليها.

دلالة التعارض على وقوع الخطأ في نطاقه

كلّما وصلنا إلى تعارض بين قضيّتين حصلنا عليهما بمساعدة العقل التجريبيّ أو العقل التجريدي أو العقل الاستنباطي، فهذا الأمر يدلّ في مقام الثبوت على حدوث خطأ ما، وقد يقع هذا الخطأ في إحدى الحلقات الاستدلاليّة التي لأحد الطرفين، أو يمكن أن يقع في الفهم الصحيح لمفاد كلّ واحدٍ من هذين البرهانين، يعني: كلا البرهانين صحيحٌ، ولكنّ مفادهما متناقضٌ، وعلى كلّ حال، عند وقوع التعارض، نحصل على خبرٍ جديدٍ حول نطاق فهمنا، ولا يُؤدّي هذا الخبر الجديد إلى النفي المطلق للقيمة الكونيّة للمعرفة العقليّة، وإنّما يدلّ على وقوع خطأ في جزءٍ من عمليّة المعرفة العقليّة الناظرة إلى محلّ التعارض، بدون تحديد محلّ الخطأ بشكلٍ دقيقٍ.

خطأ كونت في مواجهته للقضايا جدليّة الطرفين

لقد ادّعى كونت من خلال ملاحظته للقضايا جدليّة الطرفين أنّ هذه المجموعة من القضايا تُمثّل شاهدًا على أنّ المعرفة المطلقة تفتقر للقيمة الكونيّة، مع أنّ قوله هذا ناشئٌ عن قرارٍ متسرّعٍ ومن دون دليل، بل هو ناشئٌ عن تعميمٍ قام الدليل على خلافه؛ لأنّ وقوع التناقض في موطنٍ خاصٍّ لا دلالة له أكثر من حدوث خطأ في الحدود المتربطة بنفس ذلك الموطن الخاطئ، وإذا كان التناقض في موطنٍ خاصٍّ يخدش الاعتبار المطلق للمعرفة ويخدش الفهم العقلي، فسوف يخدش كذلك أصل فهم أنّه توجد واقعيّةٌ تتجاوز معرفتنا وعلمنا الحصوليّ، كذلك سيخدش أصل المبدأ القائل بأنّه لا سبيل للتناقض في ذلك الواقع، هذا مع أنّ كونت لا يعتبر هذه القضايا مخدوشة، ويعتبر أنّ صدق هذه العبارات دليلٌ على أن القضايا جدليّة الطرفين لا يمكنها أن تكون صادقةً، وإنّ عدم صدق القضايا جدليّة الطرفين ليس إلّا لهذا السبب وهو أن التناقض في الواقع محالٌ، وبما أنّ التناقض محالٌ، لذا فإنّ حكمنا بعدم صدق القضايا جدليّة الطرفين هو في الحقيقة بهذه الصورة وهي أنّ كلتا القضيتين لا يمكن أن تكونا صادقتين، إذ لا يمكن أن تكون كلتا القضيتين كاذبتين، يعني: سوف تكون إحدى القضيتين صادقةً قطعًا والأخرى كاذبة قطعًا، ونحن لا نعلم أيهما الصادقة كما لا نعلم أيّهما الكاذبة، ونعلم أنَّه لا يمكن أن تكونا صادقتين معًا، ولا أن تكونا كاذبتين معًا، وكذلك نعلم أنه قد يقع خطأ أو عدة أخطاء في عملية الاستدلال المرتبطة بكلّ واحدٍ من الطرفين، إذ من الممكن أن يكون لكلّ واحدٍ منهما مبادئ ومقدمات عديدة.

وعلى هذا الغرار علمنا بأحد مواطن التناقض، فعلى الرغم من كون العلم بوجود خطأ ما يستلزم العشرات من العلوم الأخرى التي يمكن أن يكون لكلّ واحدٍ منها دلالة على قسم من الواقع والحقيقة، يعني: العلم بأحد موارد الخطأ، لا يبطل أصل القوّة العقلانيّة والمعرفة العلميّة بنحوٍ مطلقٍ أبدًا.

فالإنسان الذي يكتشف أحد موطن الخطأ هو في الحقيقة قد وجد علمًا جديدًا، ووصل إلى أسئلٍة جديدةٍ، وهذا السؤال لا يسدّ أنشطة البشر العلميّة، بل يفتح مسارًا جديدًا للجهد العلمي، فالشخص الذي يصل إلى موطنٍ من مواطن التعارض، يصبح عالمًا بجهله في ذلك الموطن، وفي حال لم يتمكّن بالسعي المتكرّر أن يعلم محلّ الخطأ، يُدرك محدوديّة معرفته بالنسبة إلى هذا الموطن، ويدرك عجزه ويدرك ضعفه في معرفة تلك المسألة بالفعل، والضعف والعجر الفعلي لشخصٍ ما في زمان ومكان خاصّين لا يُثبت ضعفه وعجزه المطلقين تجاه جميع المواطن، كما لا يُثبت ضعف الآخرين وعجزهم، وكثيرًا ما يقع الشخص في مشكلةٍ لأسبابٍ مختلفةٍ منها الجهل بالمقدّمات اللازمة لفهم المسألة وحلّها، وفي ذات الوقت قد يحلّ العديد من الأفراد نفس هذه المسألة، من الناحية المنطقيّة، هو لا يستطيع أن يأخذ عجزه عن حلّ قضيّةٍ جدليّة الطرفين دليلًا على أنّ أيّاً من الأفراد الذين يدعون حلّها أو أنَّهم يحاولون حلّها لم يتمكّنوا من حلّها، والأهمّ من ذلك لا يستطيع أبدًا أن يستنتج بأنّ القوة العاقلة البشريّة لا تحكي عن الواقع بأيّ حالٍ من الأحوال، وأنّه لا يستطيع أن يدرك أيّ قضيّةٍ ضروريّة الصدق بالحمل الشائع، وللأسف هذا هو نفس الخطأ الذي وقع فيه كونت، فهو عند مواجهته لبعض القضايا جدليّة الطرفين اعتبرها شاهدًا على أنّ القوة العاقلة البشريّة لا تحكي عن الواقع في أيّ موطنٍ من المواطن، وبنى فلسفته على أساس هذا الادعاء أيضًا.

أنواع تعارضات النقل والعقل

إنَّ مشكلة التعارض في عمليّة المعرفة المفهوميّة للبشر ليست مرتبطة بحضور النقل والعقل الاستنباطي ومواجهتهما للعقل التجريبيّ والتجريدي، وإنّما في نطاق العقل التجريبيّ والتجريدي وحسب، بل توجد في نطاق العقل الاستنباطي أيضًا، وأسلوب حلّه وطريقته لا تختصّ بحالةٍ خاصّةٍ أيضًا فتشمل جميع الحالات، فالتعارض في النسبة بين النقل والعقل الاستنباطي والعقل التجريبيّ والتجريدي، هو نظير التعارض في نطاق العلوم المرتبطة بأيّ نوعٍ من أنواع العقل، ويمكن عرضه في الجدول التالي:

منهج التعامل مع تعارضات الأدلة النقليّة والعقليّة

عندما يتطابق دليلان عقليّان استنباطيّان مع عقل تجريدي أو تجريبي، فإذا كان الدليلان يُؤيدان بعضهما البعض، فكما ذُكر سابقًا: الدليل النقلي يكون إرشاديّاً والدليل العقلي التجريبيّ أو التجريدي يحتفظ باعتباره وحجيّته، وإذا كان الدليل العقلي قطعيّاً، فإنّه يلعب دور الميزان أيضًا بالنسبة للدليل النقلي، وإذا كان هناك تعارضٌ بين الدليل النقلي وبين الدليل العقلي التجريبيّ أو التجريدي، فإذا كان كلا الدليلين ظنيّاً أو كان أحدهما ظنيّاً والآخر قطعيّاً، فكما شرح سابقًا: يكون التعارض تعارضًا أوليّاً ولا يكون تعارضًا في الحقيقة. وأمّا إذا كان كلا الدليلين قطعيّاً، فإنّ الأمر يُشبه حالة تعارض دليلين نقليّين قطعيّين، أو دليلين عقليّين تجريديّين أو تجريبّيين قطعيّين، أو دليلًا عقليّاً تجريبيّاً مع دليلٍ عقليٍّ تجريديٍّ، يعني: في هذه الحالة نعرف أنّ خطأً ما قد وقع دون تحديد نوع الخطأ بشكلٍ مُحدّدٍ، وعلى الرغم من أنّ كلا الدليلين يُمكن أن يكون خاطئًا، لكن مفاد أحد الدليلين صحيحٌ بالتأكيد ومفاد الآخر خاطئ بالتأكيد أيضًا، لأنه طرف النقيض للدليل الأوّل. وقد تكون القضيّة الصحيحة أو الخاطئة هي نفس القضيّة التي هي مفاد الدليل النقلي، وخطأ القضيّة التي هي مفاد الدليل النقلي لا يعني بالضرورة خطأ الوحي أو النقل، بل يعني وقوع خطأ في نشاط العقلي الاستنباطي. وقد يكون الخطأ متعلقًا بالقضيّة العقليّة، وهذا لا يعني خطأ الإدراكات العقليّة بشكلٍ مطلقٍ، بل يُحوّل الجهل المركب الذي لدى الأشخاص بالنسبة لمسألة معيّنةٍ وقعت فيها مغالطة ما، يحوّله إلى جهل بسيط.

التعامل الطبيعي وغير الانضمامي بين الأدلة النقليّة والعقليّة

إنّ الاتّجاه الذي اتّبعه التيار الفلسفي في العالم الإسلامي، ليس اتّجاها ينتقص من اعتبار معرفة العقل التجريبيّ أو التجريدي، والتفاعل الموجود بين العقل التجريدي والتجريبيّ من جهةٍ والعقل الاستنباطي من جهةٍ أخرى ليس تفاعلًا انضماميّاً قسريّاً، وإنّما هو تفاعلٌ طبيعي تمامًا وذلك يعود إلى أنّ العقل التجريدي والتجريبيّ عند مقارنته مع الوحي والنقل والعقل الاستنباطي، فهو يلعب في المراتب الثلاثة دور المفتاح والمصباح والميزان، يعني: تفاعله تفاعل يحصل طبقًا لما يقتضيه العقل التجريدي والتجريبيّ، بحيث يكون نفي هذا التفاعل للعقل التجريبيّ والتجريدي أمرًا انضماميّاً، وقسريّاً وغير عقليٍّ، لأنّ العقل المفهومي يرى هويته في الارتباط مع العقل الشهودي ومع الوحي، فإذا تخلى عن النقل المستند إلى الوحي فهو بالتالي قد تخلى عن حقيقته وأصله ويكون قد ارتكب فعلًا غير عقليٍّ.

قائمة المصادر

القرآن الكريم

ابن سينا، الحسين بن عبد الله، الشفاء، تحقيق: حسن حسن زاده آملي، قم، الطبعة الأولى، دفتر تبليغات إسلامي حوزه علميه قم، مركز انتشارات، 1376.

الحراني، الحسن بن علي بن شعبة، تحف العقول، قم، الطبعة الثانية، دار نشر جامعة مدرسين، 1363هـ.

حسين بدر الدين محمّد بن منور، أسرار التوحيد في مقامات الشيخ أبي سعيد، الطبعة الأولى، طهران، دار النشر سنايي، 1378.

الخواجة عبد الله الأنصاري، منازل السائرين، ترجمه إلى الفارسيّة: پرویز عباسي داكاني، طهران، الطبعة الثانية، دار النشر العلم،1400هـ.

الديلمي، الحسن بن محمد، إرشاد القلوب إلى الصواب، قم، دار نشر شريف الرضي، 1412 هـ.

الرضي، محمد بن حسين شريف، نهج البلاغة، تصحيح: صبحي الصالح، قم، الطبعة الأولى، دار النشر: هجرة، 1414 هـ.

الشيرازي ، صدر الدين ، رسالة الأصول الثلاثة، تحقيق: أحمد ماجد، طبع دار المعارف الحكمية.

كارل بوبر، منطق البحث العلمي، ترجمه إلى الفارسيّة: حسين كمالي، طهران، الطبعة الرابعة، دار النشر: علمي فرهنگی، 1388.

الكليني، محمد بن يعقوب، الكافي، طهران، دار الكتب الإسلاميّة، 1407 هـ .


[1] إدارة التحرير.

[2]. محمّد محمّدي الريشهري، ميزان الحكمة، ح 14114، نقلًا عن أمالي الصدوق، 220/ 13.

[3]. سورة فاطر، الآية: 28.

[4]. محمد بن حسين شريف الرضي، نهج البلاغة، ص 39.

[5]. الحسن بن علي بن شعبة الحراني، تحف العقول، ص 54.

[6]. الحسن بن محمد الديلمي، إرشاد القلوب إلى الصواب، ج 1، ص 198.

[7]. الحسن بن علي بن شعبة الحراني، تحف العقول، ص 54.

[8]. محمد بن يعقوب الكليني، الكافي، ج 1، ص 11.

[9]. المصدر السابق.

[10]. المصدر السابق، ج 1، ص 216.

[11]. سورة النساء، الآية 153.

[12]. سورة البقرة، الآيتان: 55 و 56.

[13]. سورة النحل، الآية 68.

[14]. سورة فصلت، الآية 12.

[15]. سورة الزلزلة، الآية 4.

[16]. الإسراء، الآية 39.

[17]. سورة الأنعام، الآية 121.

[18]. سورة البقرة، الآية 256.

[19]. سورة البقرة، الآية 285.

[20]. سورة المائدة، الآية 111.

[21]. لمزيدٍ من الاطلاع، راجع كتاب: منطق البحث العلمي، كارل ريموند بوبر، 1388.

[22]. الحسين بن عبد الله ابن سينا، الشفاء،1376.

[23]. الخواجة عبد الله الأنصاري، 1400.

[24]. سورة النساء، الآية 113.

[25]. سورة القمر، الآية 55.

[26]. [مصطلح فلسفي يعني: متعلق المعرفة ومرادفها باللغة الإنجليزية: Object] (م)

[27]. لقد جاء خبر هذا اللقاء وتفاصيله في كتبٍ عديدةٍ، وأقدم ذِكرٍ له جاء في كتاب «أسرار التوحيد في مقامات الشيخ أبي سعيد»، ولمزيدٍ من الاطلاع راجع: حسين بدر الدين محمّد بن منور، أسرار التوحيد في مقامات الشيخ أبي سعيد، الطبعة الأولى، طهران، دار النشر سنايي، 1378.

[28]. الآقا علي المدرس (ولد سنة 1234 هـ في أصفهان، وتوفي سنة 1307 هـ في طهران).

[29]. سورة الفتح، الآية 10.

[30]. رسالة الأصول الثلاثة، ص 177.

[31]. لا يُمكن أن تكون القضيّتان المتناقضتان صادقتان معًا (لأنّ اجتماع النقيضين محالٌ)، ولا أن تكون القضيّتان كاذبتين معًا (لأنّ ارتفاع النقيضين محالٌ).

 
فروع المركز

فروع المركز

للمركز الإسلامي للدراسات الإستراتيجية ثلاثة فروع في ثلاثة بلدان
  • العنوان

  • البريد الإلكتروني

  • الهاتف