البحث في...
عنوان التقرير
إسم الباحث
المصدر
التاريخ
ملخص التقرير
نص التقرير
 أسلوب البحث
البحث عن اي من هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على كل هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على هذه الجملة

November / 29 / 2020  |  2058الحدوث والقدم عند ملا صدرا وابن ميمون؛ دراسة مقارنة

د. فاطمة العقیلي المركز الاسلامي للدراسات الاستراتيجية صيف 2020 م / 1442 هـ
الحدوث والقدم عند ملا صدرا  وابن ميمون؛ دراسة مقارنة

الخلاصة

موضوع المقالة: دراسةٌ مقارنةٌ في مسألة «حدوث العالم وقدمه» بین عالم یهودي، ‌وهو موسی بن میمون، وعالم إسلاميّ یعتبر أحد أشهر الفلاسفة، وهو صدر الدین الشیرازي‌ المشهور بملا صدرا. وقد تناولت الدراسة في بدایتها التعریف بالمفاهیم المرتبطة بالبحث، وأشرنا إلی أهمّ النّظریات المطروحة في هذه المسألة، وناقشنا أدلّة القائلین بقدم العالم وفقًا لرأيي ابن میمون وصدر المتألّهین، ثم ذکرنا رأي‌ ابن میمون في‌ المسألة، واتّضح أنّه يقول بالحدوث الزماني ‌للعالم کما یقول به المتکلّمون. وأمّا رأي‌ صدر المتألّهین، وإن كان مطابقًا لرأي المتکلّمین في حدوث العالم ورفضه القاطع لمقولة قدم العالم، إلّا أنّه يقول بالحدوث والقدم بالحقّ لا بالحدوث الزماني، وخلاصة نظریّته هو أنّ المعلول يعدّ عين الرّبط بالعلّة، وإنّ العلّة هي الوحيدة التي تتوفّر على الاستقلال والغنى الذاتي، وللوجود حدوث بالحق.

تمهيد

قبل الدخول في البحث من المناسب أن نتناول بالتعريف أهم المفاهيم، التي جاءت في عنوان البحث؛ للوقوف على المدلولات التصوّريّة والاصطلاحيّة لهذه المفاهيم، وهي:

أوّلًا: التعريفات

1: الحدوث:

أ. لغة 

 يقول الخليل: «والحديث الجديد من الأشياء، ورجل حدث كثير الحديث، والحَدَث الإبْداء»[2]، وقال ابن فارس: «الحاء والدال والثاء أصل واحد؛ وهو كون الشيء لم يكن، يقال حدث أمر بعد أن لم يكن»[3]؛ وفي الصحاح: «والحدوث كون الشيء لم يكن، وأحدثه الله فحدث، وحدث أمر أي وقع»[4]؛ وحدث الشيء حدوثًا تجدّد وجوده فهو حادث وحديث، ومنه يقال حدث به عيب إذا تجدّد وكان معدومًا[5]؛ والحديث نقيض القديم، والحديث الخبر، واستحدثت خبرًا أي وجدت خبرًا جديدًا.

ب. اصطلاحًا

 الحادث ما يكون مسبوقًا بالعدم،  فهو كائن بعد أن لم يكن، ويختلف عن الممكن الذى لا وجود له ولا عدم من ذاته، فإن وجد صار حادثًا ولا بدّ له من موجدٍ يوجده، ويسمّى «المحدث» أيضًا ويقابل القديم[6].

ج. الحدوث في القرآن

لقد قرّر القرآن حقائق كثيرة تتعلّق بالكون أهمّها أنّه حادثٌ مخلوقٌ، وكلّ ما فيه من الكائنات له بداية ونهاية، وليس ثمّة موجود أزليّ أبديّ إلّا الله، وإليه ترجع الموجودات كلّها من حيث هو علّتها الأولى، والمطالع لآيات القرآن يرى أنّه يقرّر فى وضوح لا لبس فيه الثنائية بين الله والعالم[7].

والواقع أنّ هناك صلة بين مصطلح الحدوث والخلق في الفكر الإسلامي، فعلماء الكلام يقولون بالخلق أي الحدوث من العدم، ولقد ذهب الغزالي في كتابه «تهافت الفلاسفة» إلى حدّ تكفير الفلاسفة لقولهم بقدم العالم (يقصد الفارابي وابن سينا)، في الوقت الذى نجد فيه ابن رشد يدافع عن كون العالم قديمًا ولا يعني أنّه لا علّة له، بل العكس يؤكّد على خلق العالم في القدم[8].

2: الحدوث الزماني والذاتي

الحدوث الزماني هو كون الشيء مسبوق الوجود بعدمٍ زمانيٍّ، وهو حصول الشيء بعد أن لم يكن، بعديّة لا تجامع القبليّة، ويقابل الحدوث بهذا المعنى القدم الزماني الذي هو عدم كون الشيء مسبوق الوجود بعدمٍ زمانيٍّ. وأمّا الحدوث الذاتي: فهو كون وجود الشيء مسبوقًا بالعدم المتقرّر في مرتبة ذاته، والقدم الذاتي خلافه[9].

وبعبارة أخرى:

الحدوث الزماني هو مسبوقيّة وجود الشيء بالعدم الزماني، ويقابله القدم الزماني، وهو عدم مسبوقيّة الشيء بالعدم الزماني. والحدوث الذاتي هو مسبوقيّة وجود الشيء بالعدم في ذاته، ويقابله القدم الذاتي، وهو عدم مسبوقيّة الشيء بالعدم في حدّ ذاته[10].

3: الزمان

أ. لغة

عرّفه ابن منظور بقوله: «زمن: الزَمَنُ والزَمانُ: اسمٌ لقليل الوقت وكثيره، ويجمع على أَزمانِ وأَزْمِنَةٍ وأَزْمُنٍ. ولقيته ذاتَ الزُمَيْنِ، تريد بذلك تراخيَ الوقت، كما يقال: لقيته ذات العُوَيْمِ، أي بين الأعوام. عاملته مُزامَنَةً من الزَمَنِ، كما يقال مشاهرةً من الشهر. والزَمانَةُ: آفة في الحيوانات. ورجلٌ زَمِنٌ، أي مُبْتَلىً بيِّن الزَمانَةِ، والزمان يقع على الفصل من فصول السنة وعلى مدة ولاية الرجل وما أشبه وفي الحديث عن النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) أنّه قال لعجوز تخفى بها في السؤال وقال: كانت تأتينا أزمان خديجة أراد حياتها ثم قال: وإن حسن العهد من إلايمان. وقوله في الحديث: إذا تقارب الزمان لم تكد رؤيا المؤمن تكذب. وقال ابن الاثير: أرادوا استواء الليل والنهار واعتدالهما. وقيل: أراد قرب انتهاء الدنيا والزمان يقع على الدهر وبعضه[11].  كما عرّفه ابن الفراهيدي بالقول :زمن: الزمن: من الزمان والزمن :ذو الزمانة وأزمن الشيء :طال عليه الزمان[12].

ب. اصطلاحًا :

الزّمانُ مفهوم معقَّد لم يتمكّن العلماء من الوصول إلى حقيقته بعد بشكلٍ دقيقٍ مع كثرة التعاريف التي وضعوها له، فالزمان علّة التعاقب والتسابق في الوجود، والمكان علّة التكثّر والافتراق في الحضور، فهما سببان لاختفاء الموجودات بعضها عن بعض، فالزمان علّة معرفيّة للتعاقب.

 إنّ اصل بحث الفلاسفة في الزمان وتفسيرهم له هو عبارة عن تفسير جوهر ماديّته المرتبطة بحركة بالأشياء، وقالوا: الزمان هو معنى الحركة أو مقدار الحركة سواء كانت هذه الحركة في السرعة أوالبطء[13].

أمّا مفهوم الزمن في اصطلاح علماء المسلمين فهو مرتبط بمعناه اللّغوي، فهو يعني: ساعات اللّيل والنّهار، ويشمل ذلك الطويل من المدّة والقصير منها[14].

عرّفه أرسطو بأنّه مقدار الحركة وهو ما يُسمّى بالنقلة، حيث إنّ الزمان مرتبط بالمكان، وهذه الحركة التي يتمّ الانتقال بها من مكان إلى آخر هو يتم بها تحقّق الزمان وتغيّره، فالزمان يكون هو مقدار الحركة، وهذه الحركة إنّما تنوجد بوجود المكان والذي يوجد بوجود الأجسام، وأنّه اعتباريّ نسبيّ وأنّ البدن البشريّ هو الذي جعل للزمان محدوديّة ووعاء بما يتلاءم مع ماديّة الجسم. فإنّ الزمان ذلك الجزء الجوهريّ من العالم لا يمكن للبشر أن يشعر بجوهريّته إلّا من خلال التجرّد من المادة، فيقول: «إني ربّما خلوت بنفسي وخلعت بدني وصرت كأنّي جوهر مجرّد بلا بدن فأكون داخلاً في ذاتي خارجًا عن جميع الأشياء فأرى في ذاتي من الحسن والبهاء ما أبقى له متعجّبًا باهتًا فأعلم أنّي جزء من أجزاء هذا العالم الأعلى الفاضل الشريف»[15].

وعرّفه أفلاطون أنّه مقدار الحركة في الموجودات التي هي صورة للمتغيّرات، وأنّ الزمان اعتباريّ أبديّ، وأنّه مخلوق ليس له نهاية وليس له بداية، وليس له حيّزًا، وغير مقسّم إلى أجزائه الثلاثة وإنّما يكون كذلك عند البشر على أساس صورة الزمان الجوهرية لكون الجواهر لها الأعراض تعرف من خلالها، فإنّ العرض لهذا الزمان هو قياس الزمان ومعرفته من خلال الحركة والمتابعة لحركة الأفلاك فيكون الزمان معروف المقدار عندما خلق الله هذا الكون، وهذا لا يعني بعدميّة الزمان قبل ذلك وإنّما هو أبديّته وأزليّته، وأنّ استمراره ليس بالزمان وإلّا لزم افتقار الزمان إلى زمان آخر، وإنّما استمراره لأنّه من قبل علّة تامّة وهو الله سبحانه وتعالى[16].

وعرّف ابن سينا الزمان على النحو الذي عرّفه به أرسطو بأنه: «عدد الحركة إذا أفصلت إلى متقدّم ومتأخّر لا بالزمان بل بالمسافة وإلّا لكان بيان وجوده بيانيًا دوريًّا». وذهب ابن رشد إلى أنّه يراه قديمًا أزليًّا وأنّ وجوده بيّن بنفسه، وأعدّه من أحد أصناف الكمّ. ولكون أجزائه إمّا ماضٍ وإمّا مستقبل، وأنّه ليس شيء منه يمكن أن يشار إليه بالفعل فإنّ أقرب شيء يشبهه هو الحركة، ولا يمكن أن نتصوّر زمانًا إن لم نتصوّر حركته[17].

ثانيًا: مختصر عن حیاة ابن میمون وملا صدرا

أ: حیاة ابن میمون

هو أبو عمران موسى بن ميمون القرطبي، وُلد في قرطبة ببلاد الأندلس في القرن السادس الهجري «1135»م، ومن هناك انتقلت عائلته سنة 1159م إلى مدينة فاس المغربية بسبب الاضطرابات السياسية. في هذا الوقت احتلّ الموحّدون الذين جاؤوا من شمال أفريقيا مدينة قرطبة في ١١٤٨م، وتهدّد المجتمع اليهودي، واختارت عائلة الحاخام مع عائلات يهوديّة أخرى الهجرة، لكنّهم لم يتركوا البلاد تمامًا إلا بعد مضي عشر سنوات، ثم هاجر قاصدًا فاس في المغرب ثم فلسطين فمصر، استقرّ بعض الوقت في الاسكندرية قبل أن يعود نهائيًّا إلى الفسطاط قرب القاهرة، وأثناء وجوده في القاهرة درس في مدرسة دينيّة ملحقة بالمعبد اليهودي الصغير الذي يحمل اسمه الآن. وحضر ابن ميمون نهاية الدولة الفاطميّة فى مصر وبداية الدولة الأيوبيّة، التى أسّسها صلاح الدين الأيوبي، يطلق عليه في العبرية الحاخام «موشه بن ميمون» أو «رمبام» واشتهر عند العرب المسلمين بالرئيس موسى، كان أبوه من أحبار اليهود وعضوًا في المحكمة الربانيّة الخاصّة بالطائفة الإسرائيليّة في قرطبة، وتوفي عام 1204 م في القاهرة، ثم نُقل رفاته إلى طبرية فيما بعد، في عام 2010 احتفلت الطائفة اليهوديّة المصرية بافتتاح كنيس موسى بن ميمون بالقاهرة بعد ترميمه على يد الحكومة المصرية.[18]

ويعتقد البعض أنّ الحاخام تلقّى العلم على يد ثلاثة من العلماء المسلمين بشكلٍ غير مباشر، وهم: أبو نصر محمد الفارابي (260 - 339ﻫ  874 - 950م)؛ أبو علي الحسين بن عبد الله بن الحسن بن علي المسمّى ابن سينا (370 - 428 ﻫ 980 - 1037 هـ)؛ أبو وليد محمد بن أحمد بن محمد بن رشد الأندلسي (520 - 595 ﻫ  1126 - 1198م )، وتلقَّى العلم على يد هؤلاء الثلاثة من العلماء المسلمين، حين عكف على دراسة أفكارهم وكتبهم - كما يذكر ابن ميمون نفسه - وعلى دراسة مؤلّفات ابن رشد طيلة ثلاثة عشر سنة[19].

ب: حیاة ملا صدرا

هو صدر الدين محمد بن إبراهيم بن يحيى القِوامي الشيرازي، الملقّب على لسان الإيرانيين بِـ «الملاّ صدرا» وعلى لسان تلامذته بـ «صدر المتألّهين» أو «صدر المحقِّقين». وهو من أشهر العلماء الأعلام البارزين والمتألّقين في الدولة الصفويّة التي قامت أركانها في إيران، فكان من أبرز رجالات «مدرسة أصفهان الفلسفية» وأغزرهم عطاء.

وُلد صدر الدين في شيراز عاصمة دولة فارس آنذاك، من أسرةٍ كريمة حيث كان والده إبراهيم بن يحيى القوامي أحد وزرائها. ويتَّضح من خلال التدقيق في مؤلَّفاته أنّ ولادته كانت
سنة 979 هـ، وكما جاء ذلك في شرح أصول الكافي بقوله: «اعلم أنَّ تبين هذا المرام والوصل مع تحقيق هذا الكلام... من العلوم الغامضة التي لم أر في مدَّة عمري وقد بلغ خمسًا وستين على وجه الأرض من کان عنده خبر عنه»[20] وكان تأليف هذا الشرح سنة 1044 هـ كما صرَّح بذلك في آخر كتابَي العلم والتوحيد.

كان صدر الدين الولد الوحيد لأبويه، فنشأ معزّزًا مكرّما في بيتٍ ساده حبّ العلم والمعرفة. وكان والده على حالٍ من اليسر تُمكّنه من تأمين كلّ متطلّبات تربية ابنه الوحيد وتعليمه، كما كان الابن يتمتّع بنبوغٍ واستعدادٍ فكريٍّ وصفاتٍ خلقيّةٍ ظاهريّةٍ في سرعة تحصيله للعلوم وجرأته في نقدها.

وقد تمتّع صدر المتألهين بموهبةٍ كبيرةٍ في مجال البيان وتبيين المعضلات وحلّ المشكلات بنحوٍ لم يسبق إليه أحد من الحكماء. وقد ترك تراثًا علميًّا في حقل الفلسفة والعرفان والتفسير وشرح الحديث. وقد عالَجَت مؤلّفاته الحكمة الالهيّة، وجاءت آراؤه مستندةً إلى القرآن الكريم والسنّة النبوية وآراء الأئمة.

بالرغم من الإنجازات الكبيرة التي قام بها، استطاع صدر المتألّهين من الحجّ إلى بيت الله سبع مرّات. وفي طريق عودته من آخرها توفي في مدينة البصرة ودُفن هناك، وذلك سنة 1050 هـ/1640 م، وقيل إنّه دفن بمدينة النجف الأشرف في العراق[21].

ثالثًا: رأي ابن ميمون وأدلّته على الحدوث والقدم

1: رأي ابن ميمون في الحدوث والقدم

يؤمن ابن ميمون بحدوث الكون، ففي رأيه يمتنع القول بأنّ الزمان والحركة أمران سرمديان؛ لأنّ تلك صفة الله وحده، ویصرّح موسی ابن میمون فی کتابه "دلالة الحائرین" علی أنّ آراء النّاس في قدم العالم أو حدوثه هي ثلاثة آراء، ثم یذکر هذه الآراء بنوعٍ من التفصیل حیث یقول:

الرأی الأوّل: «وهو رأي کلّ من اعتقد بشریعة سیدنا موسی علیه السلام، وهو أنّ العالم بجملته، أعني کلّ موجود غیر الله تعالی، فالله أوجده بعد العدم المحض المطلق، وأنّ الله تعالی وحده کان موجودًا ولا شيء سواه، لا مَلك ولا فلك ولا کلّ ما داخل الفلك. ثم أوجد کلّ هذه الموجودات علی ماهي علیه بإرادته، إذ الزمان تابع للحرکة، والحرکة عرض في المتحرّک، وذلك المتحرّك نفسه الذي الزمان تابع لحرکته محدث. وکان بعد أن لم یکن؛ وإنّ الذي یقال: «کان الله قبل أن یخلق العالم». تدلّ لفظة «کان» علی الزمان، فهذا هو أحد الآراء، وهو قاعدة شریعة موسی علیه السلام بلا شك، وهي ثاني قواعد التوحید لا یخطر ببالك غیر هذا، وأبونا إبراهیم علیه السلام ابتدأ بإشهار هذا الرأي الذي قاده إلیه النّظر، ولذلك کان ینادي: باسم الرب الاله السرمدي[22]، وقد صرّح بهذا الرأي بقوله: مالك السموات والأرض[23].

الرأي الثاني: «هو رأي الفلاسفة الذين یقولون: إن من المحال أن یوجد الله شیئًا من لا شيء، ولا یمکن أیضًا عندهم أن یُفسّر شيء إلی لا شيء، أعني أنّه لا یمکن أن یتکوّن موجود ما من مادّة وصورة من عدم تلك المادة، وهو عدم محض، ووصف الله عندهم بأنّه قادرٌ علی هذا، کوصفه بأنّه قادر علی الجمع بین الضدین في آنٍ واحدٍ، أو أن یخلق مثله تعالی، أو یتجسم، أو یخلق مربّعًا قطره مساوٍ لضلعه، وما شابه هذه من الممتنعات. والمفهوم من کلامهم أنّهم یقولون کما أنّه لا عجز في حقّه لكونه لا یوجد الممتنعات، إذ للمتنع طبیعةً ثابتةً لیس هي من فعل فاعل، فلذلك لا یمکن تغیيرها. كذلك لا عجز في حقّه إذا لم یقدر أن یُوجد شیئًا من لا شيء؛ إذ هذا من قبیل الممتنعات کلّها. فلذلك یعتقدون أنّ ثمّة مادّة ما موجودة قدیمة کقدم الإله، لا یوجد دونها ولا توجد دونه. ولا یعتقدون أنّها في مرتبته تعالی في الوجود، بل هو سبب وجودها، وهي له مثلا کالطین للفخّاري (صانع الفخّار) أو الحدید للحداد وهو الذي یخلق فیها ما شاء، فتارة یصوّر منها سماء وأرضًا، وتارة یصوّر منها غیر ذلك»[24].

الرأي الثالث: «هو رأي أرسطو واتباعه وشارحي کتبه، وذلك أنّه یقول بما قاله الفلاسفة، وهو أنّه لا یوجد ذو مادّة من لا مادّة أصلا، ویزید علی ذلك، ویقول: إنّ السماء لیست واقعة تحت الكون والفساد بوجه؛ وتلخیص رأیه فی ذلك هو: یزعم أنّ هذا الموجود کلّه علی ما هو علیه لم یزل ولا یزال هکذا، وإنّ الشيء الثابت الذي لا یقع تحت الكون والفساد وهو السماء لا یبرح كذلك، وإنّ الزمان والحرکة أبدیّان دائمان، لا کائنان ولا فاسدان، وإن الشيء الكائن الفاسد وهو ما تحت فلك القمر لا یبرح کذلك، أعني أنّ تلك المادّة الأولی لا کائنة ولا فاسدة في ذاتها، لكن الصّور تتعاقب علیها وتخلع صورة وتلبس أخری»[25].

ثم، بعد بیان تلخیص الأراء في هذه المسألة وحقیقتها، وهي آراء کما یصرّح ابن میمون مختصّة بمن قد تبيّن عنده وجود إله لهذا العالم، أمّا من لم لا یعتقد بوجود الإله عز وجل، بل ظنّ أنّ الأشیاء تکون وتفسد بالاجتماع والافتراق بحسب الاتّفاق، فهي فرق أخری لم یتطرّق إلیها، بل یقول إنّه لا فائدة من الكلام فیها.

قام ابن ميمون بنقض الرأيين الثاني والثالث في المسألة، وبالتالي إثبات الرأي الأوّل، فیقول:

«نروم تصحیح قول أهل الرأي الثاني، أعني کون السماء کائنة فاسدة؛ إذ هم یعتقدون القدم، ولا فرق عندنا بین من یعتقد أنّ السّماء کائنة من شيء ضرورة وفاسدة إلی شيء، أو اعتقاد أرسطو الذي یعتقد أنّها غیر کائنة ولا فاسدة. إذ قصد کلّ تابع لشریعة موسی وأبینا إبراهیم، أو من نحا نحوهما، إنّما هو اعتقاد أن لیس ثمّة شيء قدیم بوجه مع الله، وإنّ إیجاد الموجود  من عدم في حقّ الإله لیس من قبیل الممتنع، بل واجب أیضًا بزعم بعض أهل النّظر»[26].

ومن هنا یمکن القول إنّ ابن ميمون اختلف مع أرسطو في مسألة خلق الكون، وابن ميمون رغم متبعته لأرسطو في كثير من طرقه في البرهنة على وجود الله تعالى وعلى عدم جسمانيّته وعلى وحدانيّته، إلّا أنّه يخالفه في هذه النقطة، حيث يمضي خلف رأي الشريعة اليهوديّة القائلة بحدوث الكون.

2: أدلّة ابن ميمون على الحدوث والقدم

لقد أخضع ابن ميمون دليل قدم العالم للفحص الدقیق، فخلص إلى أنّه ليس برهانًا قطعيًّا إلّا عند من لا يعلم الفرق بين البرهان وبين الجدل وبين المغالطة، ومضى إلى القول بأنّ هذا الدليل لا يستقرّ للمتكلمين حتى يبطلوا الوجود كلّه ويلتجئون إلى المكابرة. واعتبر أنّ أدلّتهم علی وجود الله ووحدانيّته ونفي الجسمانيّة عنه لا تختلف عن دليل حدوث العالم، من قبل أنّ مقدّماتها ـ إلا اليسير منها ـ يناقضها المشاهد من طبيعة الوجود، وتطرأ عليها الشكوك، وإن أفنوا أعمارهم في إثباتها ودفع ما يلحق بها من شكوك ودفع تناقضها مع ظاهر الوجود، ومن هنا كانت مطالبته بضرورة أن يعتبر هذا الموجود على ما هو عليه، وبأن تُستمدّ المقدّمات من المعلوم من أمر الموجودات، واستنتج من ذلك أنّ من يرومون الاستدلال من الوجود على ما سواه لا بدّ لهم من معرفة صورة الوجود[27].

وبعد ذلك أخذ في تبیین وتلخیص دلائل أرسطو والفلاسفة الآخرین علی رأیهم وما دعاهم إلی ذلك، ومن ثمّ یذکر الأدلّة علی بطلان هذا الرأي بشكل صریح، فیقول:

«اعلم أن لیس هروبنا من القول بقدم العالم من أجل النصّ الذي جاء فی التوراة بکون العالم محدثًا؛ لأنّ لیست النصوص التي تدلّ علی حدوث العالم بأکثر من النصوص التی تدلّ علی کون الإله جسمًا. ولا أبواب التأویل أیضًا مسدودة في وجوهنا، ولا ممتنعة علینا في أمر حدوث العالم، بل کان یمکننا تأویل ذلك کما فعلنا في نفي التجسیم. ولعلّ هذا کان أسهل بکثیر، وکنّا قادرین أعظم قدرة أن نتناول تلك النصوص ونثبت قدم العالم کما تأوّلنا النصوص، ونفینا کونه تعالی جسمًا؛ وإنّما الذي جعلنا لا نفعل ذلك ولا نعتقده سببان:

أحدهما: إنّ کون الإله لیس بجسم قد أقیم علیه البرهان، فیلزم بالضرورة أن نؤوّل کلّ ما یخالف ظاهره البرهان، ویعلم بأنّ له تأویلاً بالضرورة؛ وقدم العالم لم یتبرهن، فلا ینبغي أن تدفع النصوص ونؤوّلها من أجل ترجیح رأي یمکن أن یُرجّح نقیضه بضروب من الترجیحات، فهذا السبب الأوّل.

وأمّا السبب الثاني: إنّ اعتقادنا أنّ الإله لیس بجسم لا یهدم لنا شیئًا من قواعد الشریعة، ولا یکذّب دعوی کلّ نبي، ولیس فیه إلّا ما یزعم الجهّال أنّ في ذلك خلاف النص. ولیس هو خلافه، بل هو قصد النّص. وأمّا اعتقاد القدم علی الوجه الذی یراه أرسطو: إنّه علی جهة اللزوم، ولا تتغیّر طبیعته أصلًا، ولا یخرج شيء عن معتاده. فإنّه هادّ للشریعة من أصلها ومکذّب بأصلها ومکذّب لكلّ معجز ضرورة، وتعطیل لكلّ ما رجّت به الشریعة أو خوّفت منه، اللّهم إلّا أن یتمّ تأویل المعجزات أیضًا، کما فعل أهل الباطن من الإسلام فیخرج ذلك لضرب من الهذیان. أمّا أن أعتقد القدم علی الرأي الثاني الذي بیّنّاه وهو رأي أفلاطون: وهو أنّ السماء أیضًا کائنة فاسدة، فإنّ ذلك الرأي لا یهدّ قواعد الشریعة ولا یتبعه تکذیب المعجز بل جوازه. ویمکن تأویل النصوص علیه، ویوجد له شبه کثیر فی نصوص التوراة وغیرها یتعلّق بها، بل یستدلّ علیه لكنّه لا ضرورة داعیة لنا لذلك، إلّا لو تبرهن ذلك الرأي، ولكن من حیث إنّه لم یتبرهن، فلا هذا الرأي نجنح إلیه، ولا ذلك الرأي الآخر نلتفت له أصلًا، بل نحمل النصوص علی ظواهرها، ونقول إنّ الشریعة أخبرتنا بأمر لا تصل قوّتنا إلی إدراکه والمعجز شاهد علی صحّة دعوانا.»[28] وبعد أن یستعرض بإسهاب الأدلّة التي ذکرها أرسطو وغیره من الذین یعتقدون بقدم العالم وبکلّ تفصیل، ویقطع جازمًا أنّ المعلّم الأوّل أرسطو لم یُقم أيّ ‌دلیل أو برهان علی رأیه في ‌قدم العالم، ولم یذکر ولا دلیلا واحدًا علی قوله، بل کلّ ما ذکره أرسطو هو ظنون لا ترقی إلی الدلیل والبرهان، ومن ادّعی غیر ذلك فهو واهم.

وبعد ذلك یصرح ابن میمون أنّ من یحاول أن یقیم الأدلّة علی قدم العالم بالحقیقة فهو یتحذق فقط، ولا یقیم أدلّة، خصوصًا بعد الإذعان بأنّ جمیع الأنبیاء أخبروا عن الله تعالی أنّ العالم حادث لا قدیم، ویذکر ما نصّه:

«وبالجملة لیس بشيء من هذه الطرق التی ذکرناها في هذا الفصل یصحّح رأیًا أو یُبطل أو یشكّك فیه. وإنّما أتینا بما أتینا لعلمنا أنّ أکثر من یزعم أنّه قد تحذّق وإن لم یفهم شیئًا من العلوم یقطع بقدم العالم تقلیدًا لمن شهر علمهم والقائلین بقدمه، ویطرح کلام جمیع النبیین ولیس کلامهم فی معرض التعلیم، بل فی معرض الإخبار عن الله، وهي الطریق التی لا یهتدي بها إلّا الآحاد ممّن أسعدهم العقل»[29].

وهو لا يعتقد بالأدلّة الفلسفيّة على القول بحدوث العالم، أو يعتقد أنّها غير كافية لإثبات هذا المطلب، ولكنّها مع ما عليها من إشكالات أفضل حالاً من الأدلّة القائلة بقدم العالم؛ لأنّ إشكالاتها الفلسفية أكثر، ولهذا تبقى الأدلّة النقليّة من النصوص الدينيّة في التوراة هي الأقوى في إثبات القول بحدوث العالم.

رابعًا: رأي ملا صدرا وأدلّته على الحدوث والقدم

1. رأي ملا صدرا في الحدوث والقدم

قد لا نجانب الصّواب إن قلنا إنّ صدر المتألّهین یمیل برأیه إلی رأي المتكلّمين أکثر منه إلی رأي الفلاسفة بخصوص مسألة حدوث العالم وقدمه، وکلّ من یطالع آراءه بهذا الخصوص یتوصّل إلی هذه النتیجة من دون عناء، فقد  ذکر في ‌الكثیر من کتبه إمّا تلویحًا أو تصریحًا باعتقاده هذا، بل له رسالة خاصّة في مسألة الحدوث والقدم.

فالظاهر من بعض کلمات ملا صدرا حول رأیه فی المسألة أنّه لا یخالف المتکلّمین بالقول بحدوث العالم، فیقول: «إنّ القول بحدوث العالم مجمع عليه بين الأنبياء(عليهم السلام) والحكماء، وإنّ ما ذكرناه وأوضحناه... من حدوث العالم بجميعه من السماوات وما فيها والأرضيات وما معها هو بعينه مذهب أهل الحقّ من كلّ قوم من أهل الملل والشرائع الحقّة وجميع السلك الإلهيّة الماضية واللاحقة؛ لأنّ قاطبة أهل الحقّ والموحّدين في كلّ دهر وزمان لهم دين واحد ومسلك واحد في أركان العقيدة وأصول الدين وأحوال المبدأ والمعاد ورجوع الكلّ إليه سبحانه. أو لا ترى أنّ أديان الأنبياء كلّهم والأولياء صلوات الله عليهم ورحمته وأتباعهم واحد لا خلاف ينقل منهم بينهم في شيء من أصول المعارف وأحوال المبدإ والمعاد. ومن لم يكن دينه دين الأنبياء(عليهم السلام) فليس من الحكمة في شيء، ولا يعدّ من الحكماء من ليس له قدم راسخ في معرفة الحقائق، والحكمة من أعظم المواهب والمنح الإلهيّة وأشرف الذخائر والسعادات للنفس الإنسانيّة وبها قيام العالم العلوي وابتهاجات جميع الموجودات»[30].

 ثم یُضیف تصریحًا أکثر وضوحًا، فیقول[31]: «القول بحدوث العالم مجمع عليه بين الأنبياء(عليهم السلام) والحكماء، والعالم بجميع ما فيه حادث زماني؛ إذ كلّ ما فيه مسبوق الوجود بعدم زماني بمعنى أن لا هويّة من الهويّات الشخصيّة إلا وقد سبق عدمها وجودها ووجودها عدمها سبقًا زمانيًّا. وبالجملة لا شيء من الأجسام والجسمانيات المادية فلكيًّا كان أو عنصريًّا، نفسًا كان أو بدنًا، إلّا وهو متجّدد الهويّة غير ثابت الوجود والشخصية مع برهان لاح لنا من عند الله لأجل التدبّر في آيات الله تعالى وكتابه العزيز؛ مثل قوله سبحانه:(أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ ۚ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِّنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ) [32] وقوله تعالی: (عَلَىٰ أَن نُّبَدِّلَ أَمْثَالَكُمْ وَنُنشِئَكُمْ فِي مَا لَا تَعْلَمُونَ)[33]... وقوله تعالى: (كل مَنْ عَلَيْهَا فَانٍوَيَبْقَىٰ وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ)[34] وقوله تعالى: (إِن كُلُّ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَـٰنِ عَبْدًا)[35]

ویضیف أیضًا في کتابه رسالة حدوث العالم تحت عنوان» في تأکید بأنّه لا یتقدّم علی ذات الزمان شيء إلّا الباري عزّ مجده» ما نصّه:[36]

«وأمریّة الحقّ تعالی وفاعلیّته بنفس ذاته الأحدیّة، وإلّا لم یکن تام الفاعلیّة حیث یکون فاعلیّته بأمر زائد من إرادة زائدة أو داع أو صلوح حال أو حصول شرط أو رفع مانع أو استعداد قابل أو غیر ذلك، تعالی عن الجمیع علوًّا کبیرًا،(إِأَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ ۗ) [37]، لكن عالم خلقه وهو کلّ ما له خلق وتقدیر ومساحة کالأجسام والجسمانیات حادثة الذوات تدریجیّة الوجودات منفکّة الحقائق المادیّة عن قدرته تعالی، فالله سبحانه فاعل لم یزل ولا یزال کما أنّه عالم مرید لم یزل ولا یزال وهو آمر وخالق أبدًا سرمدًا، إلّا أنّ أمره قدیم وخلقه حادث لما عرفت، ولذا قال في کتابه العظیم: (  وَكَانَ أَمْرُ اللَّـهِ مَفْعُولًا)[38]، ولم یقل خلق الله، ونسبة عالم أمره إلیه نسبة الضوء إلی المضيء بالذات ونسبة عالم الخلق إلیه نسبة الكتابة إلی الكاتب، فإنّ وجود کلّ صورة من صور الكتابة یتأخّر عن وجود الكاتب وهو یتقدّم علیها جمیعًا تقدّمًا لا یجامع بحسبه المتقدّم المتأخّر، أن في هذا لبلاغا لقوم عابدین».[39].

فرأي صدر المتألّهین في هذه المسألة هو القول بحدوث العالم، ویرفض مقولة قدم العالم جملةً وتفصیلًا؛ ولكنّه في‌ الوقت نفسه یقول بالحدوث والقدم بالحقّ لا بالحدوث الزماني، وخلاصة نظریّته هو أنّ المعلول يعدّ عين الربط بالعلّة، وأنّ العلّة هي الوحيدة التي تتوفّر على الاستقلال والغنى الذاتي، وللوجود حدوث بالحقّ. 

وبمعنًى آخر فالموجودات ولأنّها معلولة له سبحانه وتعالى، فإنّها حادثة ومحض الربط بساحة ربوبیّة الباري تعالى، مثلها مثل الظلّ المرتبط بالشاخص.

وکما أنّ حرارة الشّمس وأشعّتها لها ربط وجوديّ بالشمس، أو الصور الذهنیّة للإنسان بالنسبة إلى الإنسان نفسه، فإنّها ربط محض وتعلّق صرف بهویّة النفس، وإذا ما سلبت النّفس توجّهها لآنٍ ما، فإنّ الصّور الذهنیّة لا یبقى لها أيّ أثر یذکر، فليس من الممکن فرض هذه الصورة الذهنیّة إلى جانب النّفس فتکون مانعًا من تحرّکها وجولانها، وكذلك من غير الممکن فرض شعاع الشمس، کموجود فی عرض الشّمس، ذلك الشّعاع الذی یکون مرتهنًا بهویّته إلى جرم الشّمس، وحیث إنّ وجود الحقّ هو صرف وبسیط محض، فإنّ جمیع حقائق الوجود تحمل عنوان الوجود الکامل وفي الوقت ذاته لا یمکن حمل أيّ شيء من الأشیاء علیه حملاً شائعًا صناعیًّا؛ لأنّه لیس بشيء منها ولیس بفاقد لأيّ نوع من أنواع الکمال، وإنّ کلّ کمالات مراتب تلك الحقائق نشأتها منه، وکان صدورها عنه بعنوان (الفیض)[40].

والنتیجة هي: إنّ ممکن الوجود حادثٌ، وبسبب محدودیّة وجوده لیس له وجود قائم ومستقل إلى جانب وجود الحقّ تعالى، وذلك لأنّ بساطة وجود الباري وعدم محدودیّته مما یجعله منزّهًا عن الشریك، بل إنّ ممکن الوجود هو في طول وجود الباري تعالى ومن جملة معالیله، وبتعبیر أوضح، هو مظهر من مظاهره وتجلٍ من تجلّیاته وآیة من آیاته، و بما أنّ وجود الممکن محدود، فمن المعلوم أنّه مبتلى بجمیع أنواع الضعف والمحدودیّة، وهذه هي خاصیّة المعلول، الذي هو الربط بالعلّة عينه، فلا یمتلك کلّ کمالات العلّة، بینما تکون العلّة واجدةً لکمالات أخرى، إضافة لما للمعلول من کمالات، ومن هنا فواجب الوجود بسیط محض، وممکن الوجود مرکّب ومحدود.

ولكن هنا مسألة أودّ الإشارة إلیهان وهي أنّ حكم الحدوث عند صدر المتألّهین ليس ساريًا بالنسبة إلى جميع أجزاء العالم، لخروج العقول عنده عن هذا الحكم، بل یقتصر ذلك فيما يجري فيه الحركة الجوهرية، وهو عالم الطبايع والأجسام وما يتعلّق بها، حیث یصرّح بالقول:

«إنّ العقول المفارقة خارجة عن الحكم بالحدوث لكونها ملحقة بالصقع الربوبي، لغلبة أحكام الوجود عليها، فكأنّها موجودة بوجوده تعالى لا بإيجاده وما سوى العقول من النفوس والأجسام وما يعرضها حادثة بالحدوث الطبعي - أي الزماني-»[41].

وقال أیضًا في هذا الخصوص:

«الفيض من عند الله باق دائمًا، والعالم متبدّل زائل في كلّ حين، وإنّما بقاؤه بتوارد الأمثال كبقاء الأنفاس في مدّة حياة كلّ واحد من النّاس، والخلق في لبس وذهول عن تشابه الأمثال، وبقائها على وجه الاتّصال»[42]. فهو قد سلّم بعدم تناهي سلسلة الحوادث من حيث البدء، وقال بأزليّتها وعدم انقطاع وجودها في الأزل إلى حد.

وهو بهذا يتّفق مع ابن ميمون بالقول بحدوث العالم، ولكنّه يختلف عنه في تفسير كيفيّة هذا الحدوث والعوالم التي يستوعبها، فإنّه يصرّح بأنّ العقول المفارقة ليست حادثة بخلاف النفوس والأجسام.

2. أدلّة ملا صدرا على الحدوث والقدم

لقد ذکر ملا صدرا أدلّةً کثیرةً ومحکمةً علی رأیه، بعضها له وأخری نسبها لغیره، وقد أشار فی کتبه إلی ذلك بشكلٍ مفصّلٍ کما في ‌رسالة الحدوث وکتاب المشاعر والأسفار الأربعة في‌ الحکمة المتعالیة، فقد فنّد صدر المتألّهین الادّعاء بقدم العالم عن طریق الأدلّة العقلیّة أیضًا، وهي تتألّف من أدلّة وبراهین کثیرة ذکرها صدر المتألّهین وغيره من العلماء بشكل مفصّل کلّها تؤکّد بطلان القول بقدم العالم، ومنها:

الف: البرهان الأوّل: برهان تجدّد الهویّة

یقول ملا صدرا: «العالم بجميع ما فيه حادث زماني إذ كلّ ما فيه مسبوق الوجود بعدم زماني بمعنى أنّ لا هويّة من الهويات الشخصيّة إلا وقد سبق عدمها وجودها ووجودها عدمها سبقًا زمانيًّا، وبالجملة لا شيء من الأجسام والجسمانيات الماديّة فلكيًّا كان أو عنصريًّا نفسًا كان أو بدنًا إلّا وهو متجدّد الهويّة غير ثابت الوجود والشخصيّة مع برهان لاح لنا من عند الله لأجل التدبّر في آيات الله تعالى وكتابه العزيز، ومبدأ هذا البرهان تارة من جهة تجدّد الطبيعة وهي صورة جوهريّة سارية في الجسم، هي المبدأ القريب بحركته الذاتيّة وسكوته ومنشأ آثاره، وما من جسم إلّا ويتقوّم ذاته من هذا الجوهر الصوري الساري في جميع أجزائه وهو أبدًا في التحوّل والسيلان والتجدّد والانصرام والزوال والانهدام، فلا بقاء لها ولا سبب لحدوثها وتجدّدها؛ لأنّ الذاتي غير معلّل بعلّة سوى علّة الذات.

 والجاعل إذا جعلها جعل ذاتها المتجدّدة. وأمّا تجدّدها فليس بجعل جاعل وصنع فاعل. وبها يرتبط الحادث بالقديم؛ لأنّ وجودها بعينه هذا الوجود التدريجي، وبقاؤها عين حدوثها وثباتها عين تغيّرها. فالصانع بوصف ثباته وبقائه أبدع هذا الكائن المتجدّد الذات والهوية.

والذي جعله الحكماء واسطة لارتباط الحادث بالقديم، وهي الحركة غير صالح لذلك، فإنّ الحركة أمر عقلي إضافيّ، عبارة عن خروج الشيء من القوّة إلى الفعل لا ما به يخرج منها إليه، وهو من الوجود الحدوثي، والحدوث التدريجي والزمان كميّة ذلك الخروج والتجدّد. فالحركة خروج هذا الجوهر من القوّة إلى الفعل تدريجًا والزمان مقداره، وشيء منهما لا يصلح أن يكون واسطة في ارتباط الحادث بالقديم وكذا الأعراض؛ لأنّها تابعة في الثبات والتجدّد لمحالها[43].

البرهان الثاني: استحالة سبق الزمان بالزمان

وأیضًا یستدلّ صدر المتألّهین علی رأیه بالأدلّة الفلسفیّة العقلیّة، ومنها قوله:

«لما علمت أنّ الزمان وما یعتریه أمور تدریجیّة الأکوان متجدّدة الحصولات، فکلّ ما یتقدّم علی الزمان سواء کان وجودًا أو عدمًا أو غیرهما، هذا التقدّم، أي الذي بحسبه، لا یجامع المتقدّم المتأخّر زمانًا أو ذا زمان، فیکون قبل کلّ زمانٍ زمانٌ وقبل کلّ حرکةٍ حرکةٌ إلی ما لا نهایة له، وقد ثبت أیضًا فیما مرّ علی الزمان إلّا الباري وإرادته وقدرته وهو أمره المعبّر عنه تارة بالعلم التفصیلي له تعالی، وأخری بالصفات عند قوم، وأخری بالملائکة العقلیّة عند الآخرین.

وأیضًا لو تقدّم الزّمان والحرکة شيء، هذا التقدّم التجدّدي لكان عند وجوده عدمها، وکلّ معدوم قبل وجوده کان حین عدمه ممکن الوجود، إذا لو لم یسبقه إمکان لكان إمّا واجبًا أو ممتنعًا وکلاهما یوجب انقلاب الحقیقة؛ لسبق العدم ولحوق الوجود وذلك مستحیل، وموضوع إمکان الحرکة لا بدّ وأن یکون من شأنه الحرکة کما مر، وممکن الحرکة لا یکون إلّا جسمًا أو جسمانیًّا، وکلّ ما من شأنه أن یتحرّک فإذا لم یوجد حرکته فإمّا لعدم علّته أو لعدم شيء من أحوال علّته أو شرائطها التی بها یصیر محرّکًا، فإذا وجدت الحرکة فلحدوث علّة محرّکة، والكلام فی حدوث العلّة للحرکة کالكلام في حدوث تلك الحرکة وهکذا لا إلی نهایة، فالأسباب المترتّبة إمّا إن وجدت مجتمعة معًا أو متعاقبة علی التوالي وکلاهما محال عندنا وعند محقّقي الفلاسفة»[44].

النتیجة

 من خلال ما استعرضناه من مباحث ومطالب حول مسألة حدوث العالم وقدمه عند ابن میمون وصدر المتألّهین توصّلنا إلی نتائج نلخّصها بما یلي:

1. اتّضح لنا من خلال البحث أنّ ابن میمون وصدر المتألّهین یقولان بحدوث العالم ویرفضان رفضًا قاطعًا القول بقدم العالم، وقد استدلّا علی قولهم هذا بأدلّة کثیرة منها نقلیّة ومنها عقلیّة.

2. إنّ رأي ابن میمون هو الحدوث الزماني ‌للعالم کما یقول به المتکلّمون، ولكن رأي‌ صدر المتألّهین في هذه المسألة هو مطابق لرأي المتکلّمین من جهة، فهو یقول بحدوث العالم ویرفض مقولة قدم العالم جملةً وتفصیلا؛ ولكنّه في ‌الوقت نفسه یقول بالحدوث والقدم بالحقّ لا بالحدوث الزماني. وخلاصة نظریّته هو أنّ المعلول يعدّ عين الربط بالعلّة، وأنّ العلّة هي الوحيدة التي تتوفّر على الاستقلال والغنى الذاتي، و للوجود حدوث بالحق.

3. إنّ أدلّة القول بقدم العالم لا تثبت أمام النقد، ولا تقف فى وجه المناقشة العلميّة الدقيقة؛ لأنّها مبنيّة على مقدّمات غير يقينيّة وغير ضروريّة مثل: إنّ قدم العلّة يستلزم قدم المعلول، وإنّما ذلك يصحّ إذا كافأ المعلول العلّة، أو كان صادرًا عنها بالضرورة، أمّا والمعلول ليس متكافئً مع العلّة؛ لأنّ العلّة کما صرّح القرآن الكریم لم يكن له كفوا أحدا، وصدور العالم منه على سبيل الإرادة والاختيار، فلا يلزم من قدم العلّة قدم المعلول. وأيضًا مثل ابتناء قدم العالم على قدم مادته، فهذه مصادرة على المطلوب، فهم يقولون، العالم قديم؛ لأنّ مادّته قديمة، وكأنّهم يقولون: العالم قديم؛ لأنّه قديم، ويقولون: لو حدث لسبق بمادته، فكيف يكون حدوث العالم مؤدّيًا إلى قدمه؟ هذه مغالطة واضحة، إنّ معنى حدوثه هو سبقه بالعدم لا سبقه بمادته، أي بنفسه.

4. إنّ قول الفلاسفة بقدم العالم، مخالف لظاهر آیات الكتب السماویة التوراة التی بین أیدینا؛ لأنّها تصرّح کما القرآن الكريم والسنة النبوية، المصرحين بخلق الله لكلّ شيء سواه، وبأنّ العالم وهو كلّ ما سوى الله مخلوق بعد أن لم يكن، وقد ذکر صدر المتألّهین أحادیث کثیرة عن أهل بیت العصمة والطهارة بهذا الخصوص کلّها تؤکّد علی أنّ العالم حادث ولیس بقدیم، بل وبعض تلك الروایات المصرّحة بهذا القول تذکر الأدلّة علی فساد القول بقدم العالم أیضًا.

والحمد لله رب العالمين

 

المصادر

القرآن الكريم

الكتاب المقدس

1. ابن فارس، احمد بن فارس، معجم مقاییس اللغة، بيروت، دار الفكر،1979.

2. ابن منظور، جمال الدين محمد بن مكرم، لسان العرب، دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع،1986م

3. ابن میمون، موسی، دلالة الحائرین، تحقیق حسین آتای، سوریا، مکتبة الثقافة الدینیة، 1973م.

4. إسرائيل ولفنسون، موسى بن ميمون حياته ومصنفاته، القاهرة، إصدارات لجنة التأليف والترجمة والنشر، 1936م.

5. الآلوسي، حسام، الزمان في الفكر الديني والفلسفي وفلسفة العلم، بیروت، دار الملایین، 2005م.

6. التفتازاني، أبو الوفا، الإنسان والكون فى الإسلام، القاهرة، دار الثقافة للنشر والتوزیع، 1979م.

7. جوادی الآملی، عبد الله، شرح شرح الحکمة المتعالیة (الأسفار الأربعة)، منشورات الزهراء، قم، بلاتا.

8. الجواهري، إسماعيل بن حماده، الصحاح، بيروت، دارالعلم الملايين،1404.

9. حمادة، حسين، صالح، دراسات في الفلسفة اليونانية، بیروت، مؤسسة الشرق الاوسط،2005م

10. الخضيري، زينب، أثر ابن رشد فى فلسفة العصور الوسطى، القاهرة، دار الدعوة للنشر والتوزیع، 1979م.

11. ذغيم سميح، موسوعة مصطلحات صدر الدين الشيرازي، لبنان، مکتبة لبنان ناشرون، 2004م.

12. السبحاني، جعفر، صدر المتألهين شيرازي وحكمت متعاليه، قم، موسّسة الإمام الصادق، 1388ش.

13. الشيرازي، صدر الدين محمد، كتاب المشاعر، طهران، انتشارات طهوری، 1374ش.

14. الشيرازي، صدر الدين محمد، شرح أصول الكافي، قم، مؤسسة الدراسات والبحوث الثقافیة، 1987م.

15. الشيرازي، صدر الدين محمد، رسالة حدوث العالم، طهران، انتشارات مولی، 1377ش.

16. الشيرازي، صدر الدين محمد، الحکمة المتعالیة في الأسفار الأربعة، قم، سازمان چاپ وانتشارات، 1385ش.

17. طباطبائي، محمد حسین، بداية الحكمة، قم المقدسة، منشورات جماعة المدرسين في الحوزة العلمية، 1411ه ق.

18. طباطبائي، محمد حسین، نهاية الحكمة، قم المقدسة، منشورات جماعة المدرسين في الحوزة العلمية، 1412ه ق.

19. الطبري، ابن جریر، تاريخ الأمم والملوك، بیروت، دار الكتب العلمیة، 1407ق.

20. الفراهيدي، الخليل بن احمد، كتاب العين، تحقيق: الدكتور مهدي المخزومي، الدكتور إبراهيم السامرائي، مؤسسة دار الهجرة، الطبعة الثانية، 1409ق.

----------------------------


[1]- أستاذة في جامعة الأديان والمذاهب في إيران، ومتخصّصة في الدراسات النسويّة في الأديان.

[2]- الفراهیدی، العین، چ3، ص177.

[3]- ابن فارس، معجم مقاییس اللغة، ج2، ص36.

[4]- الجواهری، الصحاح، ج1، ص278.

[5]- ابن منظور، لسان العرب، ج2، ص231.

[6]- المعجم الفلسفى، مجمع اللغة العربية، ص 65.

[7]- أبو الوفا التفتازاني، الإنسان والكون فى الإسلام، ص32.

[8]- زينب الخضيرى، أثر ابن رشد فى فلسفة العصور الوسطى، ص 222.

[9]- الطباطبائي، نهاية الحكمة، ص ٢٣١ - ٢٣٢

[10]- الطباطبائي، بداية الحكمة، ص ١١٥.

[11]- ابن منظور، لسان العرب،ج6،ص 86- 87.

[12]- الفراهيدي، العين،  ص 397.

[13]- ذغيم سميح، موسوعة مصطلحات صدر الدين الشيرازي، ج1، ص454-460.

[14]- الطبري، تاريخ الأمم والملوك، ج1، ص5.

[15]- حسين صالح، دراسات في الفلسفة اليونانية، ج2 ص 264.

[16]- حسام ألآلوسي، الزمان في الفكر الديني والفلسفي وفلسفة العلم، ص 99.

[17]- حسام ألآلوسي، الزمان في الفكر الديني والفلسفي وفلسفة العلم، م.س، ص71.

[18]- إسرائيل ولفنسون، موسى بن ميمون حياته ومصنفاته، ص36.

[19]- مصطفى عبدالرازق مقدمة كتاب «موسى بن ميمون حياته ومصنفاته»لإسرائيل ولفنسون، ص27.

[20]- صدر المتألِّهين، شرح أصول الكافي، ص 243، شرح الحديث 139.

[21]- جعفر السبحاني،صدر المتألهين شيرازي وحكمت متعالية ص53-65.

[22]- سفرالتکوین، 21/33.

[23]- سفرالتکوین، 14/22.

[24]- موسی ابن میمون، دلالة الحائرین، ص316.

[25]- موسی ابن میمون، دلالة الحائرین، ص319.

[26]- موسی ابن میمون، دلالة الحائرین، ص 320- 328.

[27]- موسی ابن میمون، دلالة الحائرین، ص181-182.

[28]- موسی ابن میمون، دلالة الحائرین، ص185.

[29]- المصدر السابق، ص316.

[30]- صدر الدين محمد الشيرازي، الحكمة المتعالية في الأسفار العقلية الأربعة، ج6، ص205.

[31]-  م.ن.

[32]-  سورة ق، 15.

[33]- سورة الواقعة،61.

[34]- سورة الرحمن؛26_27.

[35]- سورة مریم 93.

[36]- صدر الدين محمد الشيرازي، رساله حدوث العالم، ص201.

[37]- سورة الاعراف، 54.

[38]- سورة الاحزاب، 37.

[39]- سورة الانبیاء، 106.

[40]- جوادی الآملی، شرح الحکمة المتعالیة (الأسفار الأربعة)، ج6، ص433 ـ 434.

[41]- صدر الدين محمد الشيرازي، الحكمة المتعالية في الأسفار العقلية الأربعة، ج5، ص206.

[42]- م.ن، ج7،ص328.

[43]- صدر الدين محمد الشيرازي، كتاب المشاعر، ص121.

[44]- صدر الدين محمد الشيرازي، رساله حدوث العالم، الفصل الثالث، في الحرکة والسکون،ص201.

 
فروع المركز

فروع المركز

للمركز الإسلامي للدراسات الإستراتيجية ثلاثة فروع في ثلاثة بلدان
  • العنوان

  • البريد الإلكتروني

  • الهاتف