البحث في...
عنوان التقرير
إسم الباحث
المصدر
التاريخ
ملخص التقرير
نص التقرير
 أسلوب البحث
البحث عن اي من هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على كل هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على هذه الجملة

September / 21 / 2020  |  1859الإسلام في مرآة الأنواريين مونتسكيو فولتير وروسو نموذجاً

رشيد النفينف المركز الاسلامي للدراسات الاستراتيجية شتاء 2020 م / 1441 هـ
الإسلام في مرآة الأنواريين مونتسكيو  فولتير وروسو نموذجاً

لن يختلف المطلعون على تاريخ أوروبا الحديث في الاعتراف بالنزعة اللادينية التي اجتاحت الفكر الغربي آنئذٍ، ولا يمكن إنكار المواجهة العنيفة التي شهدتها القارة العجوز باسم الدين أولًا، ثم ضده لاحقًا؛ من الحروب الدينية الداخلية بين الكاثوليك والبروتستانت، إلى الحرب ضد الكنيسة وانتزاع ممتلكاتها وتجريدها من كل سلطةٍ ممكنةٍ، أي نزعة الدنونة التي ميزت حركة التنوير الأوروبية. لقد كان للفرنسيين نصيب الأسد في تلك الحركة كما هو معلومٌ، وليست إنتاجات الموسوعيين سوى الدليل الساطع على تزعم نقد الفكر الديني والقطع مع التفسيرات اللاهوتية، لصالح تفسيراتٍ عقليةٍ علميةٍ تجنح ما أمكنها إلى موضوعيةٍ مفترضةٍ. على الرغم من أن التنوير عمليةٌ تراكميةٌ تحققت تاريخيًّا، فإنها تجلّت في تصنيفات فلاسفة القرن الثامن عشر، بشكل أكثر اكتمالًا من كتابات فلاسفة القرن الذي سبقه؛ وليست أفكار ديكارت Descartes، وسبينوزا Spinoza، وجون لوك Locke، سوى الأسس النظرية التي وجد فيها فلاسفة القرن الثامن عشر التنويريين منطلقاتهم و مبادئهم؛ فإن كان ديكارت قد التزم الحياد السياسي وحافظ على إيمانه اليسوعي، فإن سبينوزا تمرد على تعاليمه الدينية، واضعًا مذهبًا بين التصوف والغنوصية، بينما بطّن جون لوك أفكاره السياسية مواقفه إزاء الدين وسلطته، مدافعًا عن الفصل بين السياسة والدين، وبين الدولة والكنيسة. إن السيطرة التي كُتبت للفصل بين الدين والسياسية في تفكير الرعيل الأول من التنوريين، هي التي تفرض سؤال طبيعة هذا الفصل، فهل كان فلاسفةR أمثال منتسكيو Montesquieu وفولتير Voltaire  وروسو Rousseau   وديدرو Diderot  وغيرهم، رافضين للدين بشكلٍ عامٍّ، أم كانوا مجرد منكرين لدوره في الاجتماع والسياسة؟ هل رفض هؤلاء الدين المسيحي أم  كل الأديان؟ و هل كانت لهم مواقف من الدين الإسلامي؟

1. مونتسكيو

عرض الفيلسوف الفرنسي مونتسكيو Montesquieu صراحةً للدين الإسلامي، بعد أن أبرز موقفه من العلاقة بين الدين والحياة السياسية. يقول متحدثًا عن هذه العلاقة في شخص الحاكم: «ويُعدّ الأمير الذي يُحب الدين ويخافه كالأسد الذي يذعن لليد التي تلاطفه أو الصوت الذي يُسكِّنه، ويُعدّ الأمير الذي يخاف الدين ويمقته كالوحوش التي تقْرِضُ القيد الرادع لها من الانقضاض على المارين، ويُعدّ الأمير الذي لا دين له كالحيوان الهائل الذي لا يشعر بحريته إلا إذا مزق وافترس.»[1]. لا مناص للحاكم إذًا، من بناء علاقةٍ مع الدين لا تخرج عن أشكالٍ ثلاثةٍ: المحبة والخوف، أو الخوف والكراهية، أوالنفي والإقصاء؛ الأشكال ذاتها التي تنعكس على النظام السياسي، وبالتالي على حياة الفرد والمجتمع. لكن مونتسكيو لا يقدّم جوابًا أو اختيارًا لواحدٍ هذه الأشكال، ولا يمنح الأفضلية لأحدها على الآخر، بل يترك السؤال مفتوحًا على النحو التالي: أيهما أقل ضررًا، ألّا يكون للفرد والمجتمع دينٌ، أم إساءة استخدام هذا الأخير أحيانا؟

تتجلى العلاقة بين الديني والسياسي بوضوحٍ أكبرَ في الفصل الثالث من الكتاب الرابع والعشرين، الذي يحمل عنوان: «الحكومة المعتدلة أكثر ملاءمةً للنصرانية، والحكومة المستبدة أكثر ملاءمةً للإسلام»، حيث ركّز على المسألة الجنسية لإبراز أساس الاختلاف في الطباع والأمزجة؛ أورث تشريع التعدد لدى المسلمين حبًّا للنساء والملذات، جعلهم أكثر بعدًا عن العقل والإيمان في الآن ذاته، مُستشهدًا بالفرق بين إمارة سِنار التي حكمها مسلمٌ، فتقاتل أبناؤه على الحكم بعده، وأصَّلوا الاستبداد في سياستهم لأغراضٍ لذّيّةٍ شهويةٍ، وإمارة الحبشة حيث حالت النصرانية دون الاستبداد الذي رسخه الإسلام. انتقل مونتسكيو في الفصل اللاحق إلى بيان نتائج طبيعة الدينين، ويضع مُسلّمةً أولى مفادها التعارض المطلق بينهما، حيث يعمل أحدهما على تَلْيين الطباع وتَنْبيل الأخلاق، في حين يجنح الآخر إلى العنف ولغة السيف، وإلى إقامة روح الهدم في الفرد والمجتمع. حاول بعد ذلك تحديد أيّ نصرانيةٍ أفضل وأقدر على إسعاد الناس في الدنيا، بما أن النصرانية هي الدين الأفضل في رأيه، أو لنقل الأقل ضررًا خاصةً إذا تمت مقارنتها بالإسلام. فبأي معنًى نعتبر مونتسكيو أنواريًّا؟

تبدو أنوارية هذا الفيلسوف في استناده إلى مبادئ العقل، غير أن تلك العقلانية تبدو مغلقةً دغمائيةً، لم تختلف عن عقلانية ديكارت المطلقة، لكنها في الوقت ذاته لم تتمكن من مسح الطاولة، حين تعلق الأمر بالإسلام، إذ لم يتخلص مونتسكيو من أحكامه المسبقة، وأفكاره الجاهزة حول هذا الدين الجديد، ولم يستق معارفه حوله من غير المصادر الكنسية، لذلك لم يدرك مونتسكيو أن المسألة الجنسية، التي اعتبرها نقيصةً تعتور تعاليم الإسلام، هي قضيةٌ تنظيميةٌ للحياة الجنسية، التي كانت فوضويةً في عهود ما قبل الإسلام؛ فالتعدد وما ملكت اليمين مثلًا، خطوتان إصلاحيتان جذريتان، مقارنةً باستعارة الفروج، وزنى المحارم، حيث أطرت الشريعة الإسلامية كل العلاقات الجنسية، داخل العلاقة الزوجية، إضافةً إلى أنّ شيوع التعدد ليس حكرًا على معتنقي الديانات السماوية فقط، مثل اليهودية، التي تفرض على الأخ الزواج من زوجة أخيه الهالك، لما في ذلك من مصلحة الأبناء؛ «إذا كان هناك أربعة إخوةٍ متزوجين من أربع نساء، ثم ماتوا: فأراد أكبر الإخوة الأحياء أن يتزوج أرامل إخوته كلهن، فالأمر بيده.»[2] بل حتى عند بعض الشعوب الوثنية كان التعدد شائعًا، ولم يشمل تحريم التعدد في المسيحية بدايةً جميع الناس، بل اقتصر على رجال الكنيسة ورهبانها، وظل حقًّا يتمتع به النبلاء والملوك، أمثال لويس الرابع عشر الذي عاش مونتسكيو فترةً في ظل حكمه؛ «استحوذ لويس الرابع عشر على جزءٍ من وظائف الملكة، وترك الجزء المتبقي للمحظيات. المحظيات لأن لويس الرابع عشر لم  يرض بتفضيل إحداهن، بل باثنتين على الأقل. كما قدم لفرنسا وأوروبا فرجةً منقطعة النظير لملكٍ متعدد الزوجات»[3] . تتداعى الحجة الجنسية التي بني عليها مونتسكيو التباين بين الطباع و الأمزجة إذًا، كما تظهر سطحية تحليله حين اعتمد على ثنائية: البرودة والحرارة، في تفسير التباين بين الشجاعة والجبن، وبين العدل والجور، وبين الاعتدال والإفراط، وبين النشاط والخمول، وغيرها من الثنائيات الأخرى، التي تندرج كلها ضمن هذه الحالة الفيزيائية. يتزايد تهافت آرائه ومواقفه من الإسلام، حين يلجأ إلى ثنائيةٍ أخرى، هذه المرة التقابل بين الشمال والجنوب، وهي ثنائيةٌ جغرافيةٌ، لا يمكن اعتبارها سوى تكرارٍ للثنائية الأولى. لقد اعتمد مونتسكيو على الأخبار الواردة عن الرحالة، و على الحكاية والسرد. استند فيلسوف التنوير إذًا على مقدماتٍ تبدو صادقةً، وهي مجرد مشهوراتٍ،  ودليل ذلك سيادة المناخ القاري والمتوسطي معظم البلاد الإسلامية، وهي باردةٌ وحارةٌ، حسب فصول السنة، من جهةٍ، وانتشار الإسلام في بلدانٍ معتدلةٍ وباردةٍ، من جهة ثانيةٍ. كان همه الأول حين يعرض للإسلام، التعريض به وتحقيق الغلبة بكل الوسائل المتاحة، كأننا بمكيافيلية مونتسكيو تنفضح كلما عبر عن عدائه للدين الحنيف. يتزايد استغراب القارئ لروح الشرائع، حين يجد الثنائية الفيزيائية ذاتها تفسر الفروق بين الحكومات المعتدلة، ونظيراتها المستبدة؛ فليست الأدلة على سيادة الطغيان والاستبداد بالبلاد الباردة بقليلةٍ أو نادرةٍ، بل نجده في تاريخ الغرب؛ «وتاريخ الأمم المسيحية في القديم والحديث يكاد يكون كله حروبًا طاحنةً ومعاركَ داميةً هي بالهمج والحيوان المفترس أجدر منها بالبشر الذين ميزهم الله بالعقل وبالقلب وجعلهم مدنيين بالطبع.»[4] نماذج عدة لحكومات موغلة في الطغيان، تنفي ارتباط الطقس البارد بلين الطباع، وإلا كيف يمكننا تفسير قسوة وغلظة محاكم التفتيش، التي بلغ جحيمها أقصى البلدان الأوروبية برودة؟ وكيف نفهم قسوة الرجل الأبيض على الرقيق؟ وجد مونتسكيو لهؤلاء ما يبرر عبوديتهم، في الثنائية عينها. بل ليست الثورة الفرنسية سوى الدليل الحاسم على انفصال الاستبداد عن المناخ، وبالتالي تهافت حجج مونتسكيو في هذه المسألة، كما في غيرها، و كذا انفضاح الارتباط الوثيق بين الإيديولوجيا والعقلانية عنده.

2. فولتير 

الأجواء ذاتها دفعت فولتير Voltaire إلى السخرية من الدين، لا المسيحي فقط، بل خص مسرحيته الشهيرة: «محمد أو التعصب»[5]، للسخرية من شخص نبي الإسلام وتعاليم هذا الدين الذي كان يهدد أوروبا، منذ عصور الحروب الصليبية الأولى، إلى حدود عصر فولتير حين كانت الإمبراطورية العثمانية تهديدًا حقيقيًّا للأراضي المسيحية. على الرغم من عودة فولتير إلى الإشادة بنظام الزكاة وبالنظام السياسي والاستراتيجي للنبي صلى الله عليه وآله وسلم، فإنه يفعل ذلك لمجرد نقد المسيحية وإبراز اضمحلالها تاريخيًّا، وتراجعها سياسيًّا واجتماعيًّا. في معجمه الفلسفي استعرض فولتير تعريفًا للقرآن، يشي بأنه اكتفى بالتصور الشعبي الرائج عن الإسلام والمسلمين؛ وقد أشار هو نفسه إلى عدم معرفة أدباء عصره لهذا الكتاب، لذلك حاول من خلال معجمه تعريف الأوساط الفكرية في فرنسا بالقرآن، يقول في تعريف هذا الأخير: «يحكم هذا الكتاب بشكلٍ استبداديٍّ كل إفريقيا الشمالية من جبال الأطلس إلى صحراء برقة، ومصر بكاملها و سواحل المحيط الأثيوبي...، سوريا، آسيا الصغرى، وكل الدول المحيطة بالبحر الأسود والبحر الإيجي...»[6].

يعترف فواتير بعدم معرفة الأوروبيين للقرآن رغم الجهود التي بذلوها في دراسته، يقول: «في هذه البلدان الممتدة امتدادًا هائلًا، لا يوجد محمديٌّ واحدٌ يسعد بقراءة كتبنا المقدسة، وقلةٌ هم الأدباء بيننا الذين يعرفون القرآن. لقد شكّلنا دائمًا فكرةً سخيفةً عنه رغم أبحاث علمائنا المعتبرين.»[7]. غير أن ما كتبه فولتير بعد قوله هذا يُظهر أن مقصده ليس تمجيديًّا لهذا الكتاب، حيث استعرض سورة الفاتحة مترجمةً إلى اللسان الفرنسي،  معتبرًا هذه السورة أول القرآن آخذًا بترتيب المصحف لا بترتيب النزول، ثم انتقل إلى تحديد معاني الحروف الأولى من سورة البقرة، ليبرز أنها بغير معنًى، لأن كل مفسرٍ يؤوّلها على طريقته، لكن الأغلبية حسب فولتير تُجمع على أن معناها هو: الله، لطيف، مجيد. والحال أن أهل التفسير في الإسلام قد أجمعوا على كونها من الأسرار التي استأثر الله تعالى بعلمها، وليس لأنها بدون معنًى. ليس سبب اللاتحديد الدلالي لتلك الأحرف إذًا هو  اختلاف المفسرين، وهذا ما يدفعنا إلى افتراض مواقفَ إيديولوجيةٍ وتصوراتٍ عقديةٍ، حكمت نظرة فولتير إلى الإسلام، إلى جانب معرفته المحدودة به.

إن الوقوف على مسألة معاني الحروف المقطعة في القرآن، وميل هذا الفيلسوف الأنواري إلى تفسيرها باعتبارها الأحرف الأُولى من كلماتٍ معينةٍ، لهو دليلٌ قويٌّ على تأثّره بالتأويلات الباطنية والقبالية للنصوص الدينية؛ فقد كان التأويل الباطني متداولًا في الفكر العربي الإسلامي على نطاقٍ ضيقٍ، وهو التفسير الذوقي الذي لم يُجْمِع عليه ولم يُروِّج له التفسير الذي يمكن نعته بالرسمي في الإسلام، ونجد هذا التفسير الذوقي لدى أمثال القشيري في مصنفه: «لطائف الإشارات» حيث نعثر فيه على المعنى ذاته الذي أورده الفيلسوف الأنواري، يقول: «هذه الحروف المقطعة في أوائل السورة من المتشابه الذي لا يعلم تأويله إلا الله عند قومٍ، و يقولون لكل كتابٍ سرٌّ، و سر الله في القرآن هذه الحروف المقطعة. وعند قوم إنها مفتاح أسمائه، فالألف من اسم الله واللام يدل على اسمه اللطيف والميم يدل على اسمه المجيد والملك. وقيل أقسم الله بهذه الحروف لشرفها لأنها من بسائط أسمائه وخطابه. وقيل أسماء السور»[8]. في هذا المعنى الأخير قال الزمخشري: «فإن قلت: ما معنى تسمية السور بهذه الخاصة؟ قلت: كان المعنى في ذلك الإشعار بأن الفرقان ليس إلا كلماتٌ عربيةٌ معروفةُ التركيب من مسميات هذه الألفاظ»[9]. وتفاصيل هذه المسألة كثيرةٌ. لكن اعتبار فولتير هذا التأويل -بغضّ النظر عن خلفية الرجل العقدية أو النظرية- نهائيًّا بما وجد فيه من عقلانيةٍ، أسقطه في نزعةٍ وثوقيةٍ تناقض مبادئ التنوير نفسه. يظهر الموقف الإيديولوجي لفولتير بوضوحٍ أكبر حين يعرض وضع المرأة في الإسلام، معنونًا ذلك بالقواعد المحمدية حول النساء؛ إذ عرض ثماني ترجمات لآياتٍ من سورة النساء، ليستنتج أن وضع المرأة في الشرائع الإسلامية من السوء بمكانٍ. يشير فولتير نفسه حين عرض ترجمةً لسورة الفاتحة أنها في اللسان العربي أكثر اختلافًا، يقول في ذلك: «يدّعي بعضهم أن هذه الكلمات في العربية أكثر حيويةً بمائة مرةٍ»[10]، و هذا يؤكد أن فولتير لم يكن ملمًّا باللغة العربية، وأنه اعتمد في جميع مصادره على تصنيفات القساوسة ورهبان الكنيسة. فرُبَّ ترجمةٍ تضيّع المعنى الأصلي، ورُبَّ معنًى يُصاغ في ظروفٍ تاريخيةٍ، ويستمرّ لتغطية فتراتٍ طويلةٍ من التاريخ. ذاك هو حال فولتير الذي تجده متأثرًا بغزو القسطنطينية بشكلٍ أو بآخرَ، ولا أدلّ على هذا التأثر من الأوصاف والنعوت التي يستخدمها في الحديث عن رموز الدين الإسلامي، والتي تُفقد محتوى المعجم الفلسفي في مادته المتعلقة بالقرآن وبالمحمديين موضوعيته وعلميته. 

3. روسو

لم يكن الفيلسوف جان جاك روسو  Jean Jacques Rousseau استثناءً بين فلاسفة قرن التنوير، إذ عرض للمسألة الدينية في إطار تحليله وتأسيسه لنظريةٍ سياسيةٍ مُؤطرةٍ ضمن نظرية العقد الاجتماعي، التي جاءت كردة فعلٍ ضد نظرية التفويض الإلهي. إلا أن روسو يذهب مذهبًا مختلفًا في نظرته إلى العلاقة بين الدين والسياسة، مسترجعًا مراحلَ تاريخيةً وأممٍ أثّرت في مسيرة الحضارة الإنسانية، منذ الديانات الوثنية مرورًا بالديانة اليهودية، التي تشهد على تلك العلاقة الوطيدة والمتوترة في الآن ذاته بين السياسي والعقدي الديني، إذ لم يكن سبب اضطهاد الشعب العبري سوى رفضه لآلهة البابليين، وصولًا إلى الديانة المسيحية التي انتهت إلى الفصل بين السلطة الثيولوجية والسلطة السياسية، ما جعل المجتمع منقسمًا ومترددًا بين الطاعة للأولى  والخضوع للثانية. يقول روسو في هذا السياق: «مع ذلك، فلطالما وُجد أميرٌ وقوانينُ مدنيةٌ دائمةٌ، نتج عن هذه القوة المضاعفة صراعٌ دائمٌ حول الحاكمية، مما يجعل السياسة الجيدة مستحيلةً في الدولة المسيحية؛ لم يُقْدر أبدًا على معرفة أتجب طاعة السيد أم القس؟»[11]. على الرغم من نقده لمونتسكيو في الفصل الثامن من الكتاب الثالث، حيث رفض الربط بين الحرية والمعطى الجغرافي، والفرق بين شعوب الشمال والجنوب، والتباينات بين الطقس البارد والطقس والحار؛ فليست حرارة بلاد الشرق مثلًا مبررًا لانتشار الاستبداد فيها، كما أن معيار خصوبة الأراضي وعقمها ليس بالمعيار الواضح لهذه التفرقة، فإن روسو لم يعترض على موقف مونتسكيو من الإسلام كدينٍ يلائم الأنظمة السياسية الاستبدادية. لكنه عاد في الكتاب الرابع، وتحديدًا في فصله الثامن، الذي يتناول الدين المدني ويحوي موقفًا ضمنيًّا يعترض على أطروحة مونتسكيو، حيث سيشيد روسو بالنظام السياسي الإسلامي، بما أنه تمكن من المزاوجة بين السلطة الدينية والسلطة السياسية، ما جعل المجتمع موحدًا على طاعة جهةٍ محددةٍ، يقول في هذا الباب: «مع ذلك، أرادت شعوبٌ مختلفةٌ في أوروبا وما جاورها، الحفاظ على النسق القديم أو إعادة إقامته. لكن بدون جدوى حيث سادت الروح المسيحية  كل شيءٍ، ظل الطقس المقدس أو صار مستقلًّا عن الحاكم لاحقًا، ودون ارتباطٍ بكيان الدولة. كانت لمحمدٍ نظرةٌ صائبةٌ، وأوثق جيدًا نظامه السياسي، وبما أن شكل حكومته استمر مع الخلفاء ورثته، فإن هذه الحكومة واحدةٌ بالتمام، ومن ثمة فهي صالحةٌ. لكن العرب صاروا مزدهرين ومتعلمين ومهذبين ومائعين  وجبناء فاجتاحهم الهمج.»[12]

لكن هذا الإعجاب بالنظام السياسي للدولة في الإسلام، خاصةً كما تبلور خلال مرحلته التأسيسية مع النبوة، ومع الخلفاء الراشدين الذين حافظوا على شكل الحكومة، التي تربط بين الدين والسياسة للحفاظ على وحدة المجتمع ووحدة السلطة، هذا الإعجاب يتعارض مع ما أورده روسو حول المسلمين في رسالته التي حاز بفضلها جائزة أكاديمية ديجون سنة 1750، حيث يقول: «لقد كان المسلم الغبي الآفة الأبدية على الآداب التي ما زالت تتولد بين ظهرانينا»[13]. إن النعت السلبي الذي وظفه روسو، يولد بالضرورة تصورًا سلبيًّا على المنعوت، غير أن المفارقة الأولى التي تعلن عن نفسها هي هذه الازدواجية بين الإعجاب والازدراء. أما المفارقة الثانية فهي حكم روسو على المسلم، على الرغم من أنه لا يعرف الشرق إلا عن طريق روايات الذين عاشوا فيه؛ «عرف روسو الشرق عن طريق الإشاعة، فقد كان والده ساعاتيًا في القسطنطينية»[14].  الحقيقة أن كل الآراء الإيجابية التي أوردها روسو حول الإسلام، كانت لنقد الكنيسة، والسخرية من وهنها مقارنةً بقوة الدين الجديد.

خلاصة

إن مُساءلة بعض الأنواريين، الرموز منهم خاصةً، حول الدين عامةً، والإسلام تحديدًا، واحدٌ من الضرورات النظرية التي يمكن من خلالها فهم المواقف السائدة في الغرب إزاء الإسلام والمسلمين، وهي بذلك مسألةٌ واقعيةٌ تتمظهر في شكل نزعاتٍ عنصريةٍ فيما يُعرف بالإسلاموفوبيا في الغرب، إذ ليست لهذه النزعات شروطٌ راهنةٌ فحسب، بقدر ما تنبني على جذورٍ تاريخيةٍ لا تقف عند الأنواريين، بل تصعد إلى أبعد من ذلك . لكن للوقوف عند رموز التنوير دلالاته، خاصةً بالنسبة لمجتمعاتنا المسلمة التي تتطلع نُخبها إلى إنجاح التنوير وتحقيقه، في مجتمعاتٍ تبدو أقرب ما تكون إلى مثيلاتها في أوروبا القروسطية، خاصةً في علاقة أفرادها ومؤسساتها بالدين والشريعة، تلك العلاقة المتغلغلة في وجدان الجماعة، والتي أورثت ما وصفه روسو بالانفصال بين سلطة الحاكم السياسي وسلطة الدين، هذه الأخيرة ما عادت في المجتمعات المسلمة المعاصرة ممثلةً في الفقهاء والعلماء، كما كانت إلى حدود سقوط الإمبراطورية العثمانية في الشرق، ومنذ البيعة المشروطة في المغرب الإسلامي. فهل كان الأنواريون أنواريين فعلًا؟ و ما هو التنوير الذي نقصده حين نستخدم هذا المفهوم في خطاباتنا اليوم ؟ 

المراجع المعتمدة

الزمخشري، أبو القاسم جار الله محمود بن عمر، تفسير الكاشف عن حقائق التنزيل وعيون الأقاويل في وجوه التأويل، دار المعرفة، الطبعة الثالثة، 2009.

القشري، أبو القاسم عبد الكريم بن هوازن بن عبد الملك، لطائف الإشارات، الجزء الأول، تحقيق عبد اللطيف حسن عبد الرحمن، دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة الثانية، 2007.

مونتسكيو، روح الشرائع، ترجمة: عادل زعيتر، الجزء الثاني، اللجنة الدولية لترجمة الروائع الإنسانية  (الأونيسكو)، دار المعارف بمصر، 1953.

الوزاني، محمد حسن، الإسلام و الدولة أو حقيقة الحكم في الإسلام، دراسات و تأملات العدد 1، مؤسسة محمد حسن الوزاني.

Geeraert, Anais, Louis XVI et Les Reines de Cœur, Edition Broché ,2006.

Rousseau, Jean Jacques, Du Contrat Social, présentation par Bruno Bernardi, Flammarion, 2001.

Rousseau, Jean Jacques, Discours sur Les Sciences et Les Arts, Les ةchos du Maquis, 2011. 

Terme, Renaud, La perception de l’islam par les élites françaises (1830 – 1914), Université Bordeaux Montaigne, Ecole Doctoral Montaigne Humanité, 2016.               

Voltaire, Le Fanatisme ou Mohamet le Prophète, Tragédie, 1741.

Voltaire, Dictionnaire Philosophique, Le Chasseur Abstrait, 2005.

----------------------------------


[1] مونتسكيو، روح الشرائع، ترجمة: عادل زعيتر، الجزء الثاني، اللجنة الدولية لترجمة الروائع الإنسانية (الأونيسكو)، دار المعارف بمصر، 1953، ص 177.

[2] مصطفي عبد المعبود سيد منصور، سلسلة ترجمة متن التلمود، المشنا، القسم الثالث، ناشيم: النساء، مكتبة النافذة، بدون تاريخ، ص 51.

[3]  Geeraert, Anais, Louis XVI et Les Reines de Cœur, Edition Broché, p 11,2006.

[4]  الوزاني، محمد حسن، الإسلام والدولة أو حقيقة الحكم في الإسلام، دراسات وتأملات العدد 1، مؤسسة محمد حسن الوزاني، ص 17.

[5] Voltaire, Le Fanatisme ou Mohamet le Prophète, Tragédie, 1741.

[6] Voltaire, Dictionnaire Philosophique, Le Chasseur Abstrait, 2005, p 90.

[7] نفس المرجع.

[8] أبو القاسم عبد الكريم بن هوازن بن عبد الملك القشري، لطائف الإشارات، الجزء الأول، تحقيق عبد اللطيف حسن عبد الرحمن، دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة الثانية، 2007، ص 16.

[9] أبو القاسم جار الله محمود بن عمر الزمخشري، تفسير الكاشف عن حقائق التنزيل وعيون الأقاويل في وجوه التأويل، دار المعرفة، الطبعة الثالثة، 2009، ص 32.

[10] .Voltaire, Dictionnaire Philosophique, Le Chasseur Abstrait, 2005, p 90

[11] Jean Jacques Rousseau, Du Contrat Social, présentation par Bruno Bernardi, Flammarion, 2001, p 167.

[12] المرجع السابق، ص 167 - 168.

[13] Discours sur Les Sciences et Les Arts, Les ةchos du Maquis, 2011, p 8.Jean Jacques Rousseau,

[14] Renaud Terme, La perception de l’islam par les élites françaises (1830 – 1914), Université Bordeaux Montaigne, Ecole Doctoral Montaigne Humanité, 2016, P 175.                                                                      

 
فروع المركز

فروع المركز

للمركز الإسلامي للدراسات الإستراتيجية ثلاثة فروع في ثلاثة بلدان
  • العنوان

  • البريد الإلكتروني

  • الهاتف