البحث في...
عنوان التقرير
إسم الباحث
المصدر
التاريخ
ملخص التقرير
نص التقرير
 أسلوب البحث
البحث عن اي من هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على كل هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على هذه الجملة

August / 2 / 2020  |  1535أربعة أسباب تقضي بعلمية الكلام التراثي وبسفسطائية الكلام الحداثي

د. سنوسي سامي المركز الاسلامي للدراسات الاستراتيجية شتاء 2020 م / 1441 هـ
أربعة أسباب تقضي بعلمية الكلام التراثي وبسفسطائية الكلام الحداثي

مقدّمة:(طرح الإشكال):

لقد شهدت الحضارة الإسلاميّة من تطوّرٍ لعُلومها وبلوغها ذروة درجاتها، بقَدرِ ما شهدته سائر الحضارات المعاصرة لها في علومها من هبوطٍ إلى حضيض دركاتها. إنّ تطوّر هذه العلوم ـ في الحقيقة ـ عائد إلى أسباب ومقدّمات منها الكبرى والصغرى، ومن بين الأسباب الكبرى: الدين الإسلامي بقَولَيْه الثقيلين القرآن والسنّة والصحيحة، ونحن هاهنا لسنا بصدد ذكر كلّ العلوم التي شهدت ميلادها مع ظهور الدين الخاتِم، بل سنقتصر كلامنا على أشرف عِلْم عُدَّ -طيلة تاريخه- رئيسًا للعلوم الدينيّة، ألا وهو علم الكلام.

لقد اكتملت الهندسة المعرفيّة والمنهجيّة والمنطقيّة لعلم الكلام الإسلاميّ في حدود العصر العباسيّ، وبلغ آنذاك علم الكلام ذرْوته، وتميَّز عن سائر العلوم الشرعيّة بالمبادئ والمناهج والمسائل والأهداف، وبتَمام هذه الأسس والمقولات التي تقيم العلْم وتميّزُه. تمّ علم الكلام واستقلّ بموضوع العقائد الإيمانيّة، وبحثها بالأدلّة العقليّة والمنهج الجدليّ المتجلّي في الممارسة التناظريّة أو المناظرة الكلامية، بقصد معرفة أشرف معبود وتوحيده، وتاليًا الدفاع عن أصول الدين والذبّ عن عقيدة التوحيد ضدّ الخصوم، فكملت صورة علم الكلام إنتاجًا وأصالة.

لكن، وبعد تقهقر الحضارة الإسلاميّة، ستضْمر علومُها –بطريق أولى-، وكان علم الكلام من بين تلك العلوم التي مسّها الركود. ومع مطلع العصر الحديث والمعاصر، نشأت حركة تجديديّة للاجتهاد في صناعة علوم إسلاميّة جديدة، أو على الأقلّ محاولة إحياء العلوم التراثية وبعثها، وظهر حينئذ مصطلح «الجديد» صفة للكلام، وظنّ أصحابه وناحتوه أنّ مجرّد إطلاق مصطلح «علم الكلام الجديد» يشفع لميلاد علم آخر قائم بذاته، لكن هيهات، إنّنا نرى -في الظاهر- أنّ الجِدَةَ هنا في مصطلح «الجديد»، أمّا مصطلح «علم الكلام «فهو هو.

بناءً على أصالة علم الكلام التراثيّ وتمامه، وشُبهة الكلام الحداثيّ وسؤاله، نلخّص الإشكال ونطرحه كالآتي: ما هي المحدّدات المنطقيّة والمعرفيّة والمنهجيّة التي بها نبرهن على بطلان دعوى الكلام الجديد والحداثيّ؟ بتعبير آخر؛ كيف السبيل إلى إثبات عِلْمِيّة علم الكلام التراثيّ ويقينيّته، وسُفسطائيّة الكلام الحداثيّ وظنِّيّته ؟

أولًا: الفُروق المنطقيّة والمعرفيّة بين العِلْم والسَّفْسَطة:

1 - المقصود بالعِلْم وما به قَوَامُ العِلْم:

ابتداءً؛ لا بدّ من الوقوف على مفهمة توضيحيّة لمصطلحات مفتاحيّة، نرتأي أن نؤسّس عليها المقالة التي نبتغي من ورائها التفريق بين الكلام التراثيّ وعِلْميّته، والكلام الحداثيّ وسُفسطائيّته، فمتى يغدو العلم علمًا؟. إنّ مفهوم العِلْم والعِلْميّة عند المتقدّمين يختلف قليلًا عن مفهومه عند المتأخّرين، ذلك أنّه وفضلًا عن المفهوم الرائج للعلم وأضلاعه المعرفيّة والمنهجيّة، إلا أنّ العلم عند القدامى يتعمّق أكثر من هذا، قال المتكلّمون: لا بدّ في العلم من إضافة ونسبة مخصوصة، بين العالِم والمعلوم بها يكون العالم عالمًا بذلك المعلوم والمعلوم معلومًا لذلك العالم، وهذه الإضافة هي المسمّاة عندهم بالتعلّق. فجمهور المتكلّمين على أنّ العلم هو هذا التعلّق، إذ لم يثبت غيره بدليل فيتعدّد العلم بتعدّد المعلومات، كتعدّد الإضافة بتعدّد المضاف إليه (...)، وقال الحكماء: العلم هو الموجود الذهنيّ، إذ يعقل ما هو عدم صرف بحسب الخارج كالممتنعات، والتعلّق إنّما يتصوّر بين شيئين متمايزين، ولا تمايز إلا بأن يكون لكل ٍّ منهما ثبوت في الجملة، ولا ثبوت للمعدوم في الخارج، فلا حقيقة له إلا الأمر الموجود في الذهن، وذلك الأمر هو العلم»[1]

في الحقيقة ما ذكره المتكلّمون والحكماء هاهنا عن ماهيّة العلم ليس المقصود منه المفهوم الذائع في أبجديّات العلوم والمعارف، لكن في قولهم الكثير من الإشارات إلى بناء العلم بشكل عقلانيّ وصحيح ومنطقيّ، وهذا ما سيُضادُّ اللا علم أو السفسطة، فنحن نقرأ أنّ المتكلّمين يصرّون على العلاقة بين العلم والمعلوم، وكذلك الحكماء يبطلون كون المعدوم علمًا، كونه غير حقيقيّ، والعلم حقيقة، أو هو مطابقة بين العلم والمعلومات.

ومن الاصطلاحات الأساسيّة التي كان يستخدمها الأوَّلون ويقصدون بها العلم، مفردة الصناعة، و «على هذا قيل: الصناعة في عرف العامّة هي العلم الحاصل بمزاولة العمل، كالخياطة والحياكة (...) ثمّ الصناعة في عرف الخاصّة هي العلم المتعلّق بكيفيّة العمل، ويكون المقصود منه ذلك العمل سواء حصل بمزاولة العمل، كالخياطة ونحوها، أو لا كعلم الفقه والمنطق والنحو، والحكمة العمليّة ونحوها ممّا لا حاجة فيه إلى حصوله إلى مزاولة الأعمال»[2]، فإذا كان العلم هو الصناعة عند القدامى ويُشترط فيه أن يكون حقيقة ما صِدْقيّة في الذهن أو في الواقع؛ وهذا لتلازم العلاقة بين العلم والمعلوم، فما هي العِلْميّة في العِلم؟.

إنّ لأيّ علم شروطًا معرفيّة ومنهجيّة تؤهّله لأن يكون مستقلًّا عن سائر الصنائع النظريّة والعمليّة، وفي حال توفّر هذه الشروط تكتمل هويّة العلم، ويتميّز آنذاك بمفهوم يجمع صفاته الجوهريّة والعرضيّة، ولقد أجمع القدامى أنّ لكلّ علم مفهومًا مُسْتقلًّا يحدُّه؛ لأنّ المفهوم يجعل لكلّ علم -على حدة- حيّزًا وإطارًا يوضّح معالمه وأضلاعه، وبلغة منطقيّة: «الدالّ على ماهيّة الشيء هو الذي يدلّ على المعنى الذي به الشيء هو ما هو، والشيء إنّما يصير هو ما هو بحصول جميع أوصافه الذاتيّة المشترك فيها، والتي تخصّ أيضًا، فإنّ الإنسان ليس هو ما هو بأنّه حيوان، وإلا لكانت الحيوانيّة تحصل الإنسانيّة»[3].

إذًا، يحدّد ابن سينا بناء على المنطق العقليّ أنّ الدالّ على ماهيّة الشيء هو جوهر الشيء، أي ما يكون به الشيء هو ما هو، بطبيعة الحال بصفاته الذاتيّة وليس العَرضيّة، ولمّا كان لكلّ علم معلوم يخصّه وجب أن يُعرف ذلك العلم بمعلومه، لا بمعلوم عِلْمٍ آخر، لكن بصفة جوهريّة، لهذا «قد تشترك العلوم في بعض الأجزاء؛ أعني: الموضوع والمبادئ والمسائل، وقد تختلف فيها، ومحال أن يشترك علمان في جميع الأجزاء؛ أعني: الموضوع والمبادئ والمسائل، وإلا فلا غيريّة بينهما فليسا بعِلْمين، هذا خلفٌ. ويجوز أن يشترك عِلْمان في الموضوع والمسائل إذا كانت المبادئ مختلفة فيها، مثل: اشتراك الفلسفة العمليّة مع الفقه، في النظر في أفعال الناس من جهة أنّها كيف تكون مؤدّية إلى السعادة في الآخرة، مع اشتراكهما في المسائل أيضًا، كوجوب العبادات وكيفيّة المعاملات وغير ذلك، ولكنّهما مختلفان بالمبادئ، فأحدهما؛ وهو الفلسفة العمليّة، مبادئها مقدّمات عقليّة، وثانيهما، وهو الفقه، مبادئه مأخوذة من صاحب الشريعة، وقد يشترك عِلْمان في ذات الموضوع وكثير من المسائل، مثل: اشتراك الطبيعيّ وعلم الهيئة في النظر في جِرْم العَالَم، لكنّ جهة النظر فيهما مختلفة، فالطبيعيّ ينظر فيه من جهة ما له تقدير وشكل»[4].

يرفض المناطقة أن ينطبق عِلْمان في المبادئ الجوهريّة المحدّدة لماهيّة كلّ علم يستقلّ بها عن عِلم الآخر، وإلا فإنّ هذا ينفي الاختلاف بينهما، رغم أنّ هذا ليس مانعًا بأن تشترك بعض العلوم في بضع مبادئ عرَضيّة شريطة ألّا تدخل في المسائل الجوهريّة المحدّدة للموضوع الذي به تقوم ماهيّة العلم ومفهومه المستقلّ، «وأمّا اشتراك عِلْمين في الموضوع والمبادئ، فلا يجوز أيضًا؛ لأنّ ذلك يلزمه الاشتراك في المسائل أيضًا، وقد منعنا ذلك، والعلوم كلّها مشتركة في شيء من المبادئ، مثل: اشتراكها كلّها في أنّ النقيضان لا يصدقان ولا يكذبان»[5]

نستنتج من هذا الطرح، أنّ العِلم له ماهيّة تميّزه عن سائر العلوم بماهيّتها، وتاليًا؛ لكلّ علم ـ عند القدامى، وقد وافقهم الكثير من المحدّثين ـ أضلاع به يكون ما هو، كالمبادئ والموضوع والمسائل؛ وبتعبير آخر، الموضوع والمنهج والغاية، وقد تكلّم –سلفًا- ابن النفيس عن اشتراك الفلسفة العلميّة والفقه في دراسة المعاملات بين الناس، وتاليًا في الغاية؛ وهي ابتغاء طريق السعادة الدنيويّة والأخرويّة. إنّ ما يكون به العلم علْمًا هو الماهيّة والجوهر ولا سيّما الموضوع والمبادئ، ولمّا كان موضوع الفلسفة هو بحث الوجود والمعرفة والقيم بصفة شموليّة، وبمبادئ عقليّة، فلا يمكن البتّة أن يحلّ الفقه محلّها ولا الطبّ؛ لأنّ مبادئ الفقه هو الشريعة، والطب مبادئه التجربة، والفلسفة مبادئها العقل، وفي حال حلول أحَدها مكان الآخر يتهافت وجود العلم من أساسه، بسبب تخلخل ركنه الرئيسيّ، وهو الموضوع المؤَسّس على المبادئ المستقلّة، وهذا هو مقدّمة تمييز كلّ عِلْمٍ عن علمٍ آخر.

2 - المقصود بالسفسطة أو العلم المُغالِطيّ:

يرى الحكماء ـ بوصف المنطق البرهانيّ روحًاً لفلسفتهم ـ أنّ «القياس المماريّ هو الذي يكون من مقدّمات ذائعة في الظاهر، وليست ذائعة على الحقيقة، أو الذي يكون في الظاهر من مقدّمات ذائعة أو من مقدّمات من ذائعة في الظاهر؛ لأنّه ليس كلّ ما كان ذائعًا في الظاهر، فهو أيضًا ذائع؛ (..) لأنّ طبيعة الكذب تتبيّن فيها على المكان في أكثر الأمر لمن معه أدنى فطنة، فضلًا عن غيره»[6]، فتكون إذًا المقدّمات الذائعة قريبة إلى المماراة منها إلى العِلم الحقيقيّ؛ لأنّ من أسباب العلم البرهان، ولا ينشأ البرهان إلا بأقيسة حقيقيّة مُنتِجة، إمّا تصديقًا وإمّا تصوّرًا، لذا «فالعلم الذي يجب أن يتقدّم على كلّ ما شأنه أن يدرك بفكر وقياس، على ضربين: إمّا علم بأنّ الشيء موجود أو غير موجود، وهو الشيء الذي يسمّى التَّصديق، وإمّا علم بماذا يدلّ عليه اسم الشيء، هو الذي يسمّى تصَورًا»[7]، فالعِلم بعبارة أخرى، إمّا تصديق وهو وجود الشيء دون استدعاء دلالته، وإمّا تصوّر دون استدعاء وجوده، وكلامها متكاملان، وهذا هو عين البرهان عند المناطقة والمتكلّمين والحكماء.

العلْم المماري بهذا هو القاصر عن بلوغ مرتبة البرهان، لذا نجد الكثير من ردود ابن رشد على أبي حامد في كتابه «تهافت التهافت»، تصف حجة الغزالي بالسفسطة والمماراة، يقول ابن رشد: «فإنّ الغرض في هذا القول أن نبيّن مراتب الأقاويل المثبتة في كتاب التهافت في التصديق والإقناع، وقصور أكثرها عن مرتبة اليقين والبرهان»[8]، لقد وصف ابن رشد هاهنا ردود الغزالي على فلاسفة الإسلام الفارابي وابن سينا وغيرهم من اليونانيّين بالجدل والسفسطة، كون هذه الأخيرة ليست من اليقين والبرهان في شيء، وبغضّ النظر عن صحّة مزاعم ابن رشد، فنحن يهمّنا قوله في السفسطة والمغالطة، أكثر ممّا يهمّنا إن كان كلام الغزالي سفسطة حقًّا. وتشديده على يقينيّة العِلْم، ومضادَّته للقول الظنّيّ المغالطيّ. «إنّ حقيقة كلّ علم مسائل ذلك العلم، أو التصديقات بها»[9].

وبالجملة «إذا كانت مقدّمات الحجّة قائمة على خطأ مقصود مغلّف بما يوهم أنّه حقّ من أجل التمويه والتضليل، فهي مغالطة من المغالطات، والغرض منها إبطال الحقائق، ويصطنعها أهل الباطل وهي محرّمة في الإسلام»[10]. ومن ثمّة فالمغالطة تُضادّ العلم بأركانه ـ كما تقدّم إيضاحه ـ ؛ لأنّها تورث الجهل للمخاطب، «والتغليط إذًا، باعتباره توجّهًا إلى إيقاع المخاطَب في الغلط، عائدٌ إلى جعل هذا المخاطب ضالًّا وغير مهتدٍ، وجاهلًا وعاجزًا، ومنحصرًا، ومنحبسًا»[11]. وقياسًا على هذا الكلام، يتناهى إلى عقولنا أنّ المغالطة هي من جنس الضلال والجهل الناشئ عن صاحبها، وتاليًا هي من قبيل التمويه والمراء، وبهذا التوصيف فلا حقيقة في السفسطة أو المغالطة، كما يمكن الجزم أنّها تضادّ الصدق والبرهان، فمتى كان العلم برهانيًّا لزم كونه صادقًا، أي أنّ شرط الصدق هو البرهان؛ إذ بالبرهان تقطع الظنون كلّها، ولنا أن نستدل عن التزام الصدق بالبرهان في قوله تعالى:
(أَمَّنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَإِلَٰهٌ مَعَ اللَّهِ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ  صَادِقِينَ)[12]، «أي أنّ مع الله إلهًا، أين دليلكم عليه»[13].

ومجمل القول: «السفسطة أمر يعرض لكثير من النفوس، وهي جحد الحقّ، وهي لفظة معرّبة من اليونانيّة، أصلها «سوفسطيا»، أي حكمة مموّهة، فلمّا عرّبت، قيل: سفسطة»[14]. وهي في مطلق الأحوال مجرّد اعتقاد، والاعتقاد كما هو معروف يتعلّق بما أثبته العلم أو أبطله من دون تحقيق برهانيّ، فلهذا هبطت السفسطة إلى دَرَك الكلام المغالطيّ أو اللا عِلم.

وبعد هذه الإشارات الموجزة لعِلْميّة العِلم وما يكون به علمًا، وما تخصّ به السفسطة وما منزلتها من العلم، وعرفنا أيضًا أن لا قوام للعِلم دون شرطيّة البرهان، الذي يُبْكِت كلّ اعتقاد سفسطائيّ، سنتّخذ هذه التوضيحات كقواعد أساسيّة للولوج إلى تحليل الفوارق المنهجيّة والمعرفيّة بين صناعتين كلاميّتين إسلاميّتين؛ الأولى هي ما يُعرف بعلم الكلام الإسلاميّ، والأخرى هي ما يُزعم بالكلام الجديد أو الحداثيّ، ويسعنا في هذا المقام أن نقدّم محاولة تعالج مدى اتساع الفروق المعرفيّة والمنهجيّة بين العِلْمين، ابتغاء منّا البرهان على بلوغ علم الكلام التراثيّ مرتبة العلم والعلميّة الحقيقيّين، وذلك بناء على النواظم والضوابط المنطقيّة التي قدّمناها آنفًا، وقصور ما يسمّى اليوم بالكلام الحداثيّ عن بلوغ ما بلغه علم الكلام الأصيل، من ماهيّة مُستقلّة، وموضوع، ومبادئ، ومسائل، ومنهج وغيرها.

ثانيًا: المحدّدات الأربعة لعلميّة الكلام التراثيّ، وظنّيّة الكلام الحداثيّ:

1 - مُحَدِّدُ المفهوم: جَلاء مفهوم علم الكلام التراثيّ، وغُموض مفهوم الكلام الحداثيّ:

لا شكّ أنّ لكلّ علم مفهومًا يحدّد ماهيّته الجوهريّة ولواحقه العَرضيّة، وعلم الكلام من العلوم الدينيّة في حضارتنا الإسلاميّة، يتمتّع بأصالة قلَّ نظيرها، وبهذا فمفهومه واضح اتفق حوله جمهور المتكلّمين والحكماء والمؤرّخين، أمّا ما يدعى بالكلام الجديد، فمفهومه غامض جدًّا، بل في الحقيقة ليس يملك مفهومًا أصلًا، وسنورد بعض المحاولات لمفهمته ونبيّن تهافتها بمقارنتها بمفهوم علم الكلام القديم، وهاهنا سنحاول أن ننمذج ببعض المفاهيم وليس ثمّة حكمة مرجوّة للإكثار منها، طالما أنّنا لسنا بصدد إحصاء تعاريف علم الكلام بقدر ما نحن بصدد مُبَايَنة إحداها بمفهوم الكلام الجديد أو الحداثيّ.

إذًا؛ فثمّة أدلّة كثيرة تبرهن لنا قيمة المصطلح ووجوده الاشتقاقيّ؛ لأنّ «معرفة العقائد عن أدلّتها التفصيليّة بـ«الكلام»، ولأنّ عنوان مباحثه كان قولهم: «الكلام في كذا وكذا، ولأنّ مسألة الكلام كانت أشهر مباحثه، وأكثر نزاعًا وجدالًا، حتى أنّ بعض المتغلّبة قتل كثيرًا من أهل الحقّ لعدم قولهم بـ:»خلق القرآن»، ولأنّه يورث قدرة على الكلام في تحقيق الشرعيّات، وإلزام الخصوم، كالمنطق للفلاسفة، ولأنه أوّل ما يجب من العلوم التي إنّما تُعلّم وتتعلّم بالكلام، فأطلق عليه هذا الاسم لذلك، ثمّ خصّ به، ولم يطلق على غيره تميّزًا، ولأنّه إنّما يتحقّق بالمباحثة وإدارة الكلام من الجانبين، وغيره قد يتحقّق بمطالعة الكتب والتأمّل، ولأنّه أكثر العلوم نزاعًا وخلافًا، فيشتدّ افتقاره إلى الكلام مع المخالفين، والردّ عليهم، ولأنّه لقوّة أدلّته كأنّه هو الكلام دون ما عداهُ من العلوم، كما يُقال للأقوى من الكلاميين: «هذا هو الكلام»، ولأنّه لابتنائه على الأدلّة القطعية المؤيّدة أكثرها بالأدلّة السمعيّة، كان هو أشد العلوم تأثيرًا في القلب وتغلغلًا فيه، فسمّي بالكلام المشتقّ من «الكَلِم» وهو الجُرْح، وهذا كلام القدماء»[15].

إنّ هذا النصّ على طوله يلخّص لنا ويوضّح اشتقاقات مصطلح علم الكلام الإسلاميّ، فتارة من الكلام الإلهيّ، وتارة لصناعة الكلام، وتارة أخرى لاعتماد أهله على تميّز الكلام من لهو الحديث وغيره، وهلمّ جرا، علمًا ـ في تقديرنا ـ إنّ هذه التسويغات كلّها توفّرت في الممارسة الكلاميّة، وإلا فكيف عُدّدت ؟، ليس من قبيل العبث أن تُورد لو لم تُمحَّص في هذا العِلم، وبالجملة فلعِلم الكلام ما يبرهنه اشتقاقيًّا، وذلك ابتداءً من الكلام الإلهيّ كأصل وتوسّعًا نحو المنهج والوظيفة وطبيعة الممارسة التي تميّز بها العلم عن سائر العلوم والمشتغلين به وعليه.

ابتداءً؛ إذا كان هناك دليل يبرهن على وجود علم الكلام التراثيّ من حيث المصطلح، فهل ثمّة ما يشفع للمتكلّمين الجدد بأن يؤسّسوا مصطلحهم الجديد علم الكلام الحداثيّ؟ أين هي الاشتقاقات الأم، أليس هذا العلم الذي يزعمون أنّه جديد ومنقطع الصلة مع القديم يؤصّل به؟، فنحن وبالنظر إلى المصطلحين في الظاهر، بالكاد نجد تطابقًا تامًّا، ما عدا مصطلح «الجديد» المزعوم، وهنا نودُّ أن نذكر تعريفًا للباحث الهنديّ شبلي النعمانيّ بوصفه صاحب أوّل مصنّف يحمل مصطلح «علم الكلام الجديد»، يقول: «لقد كان علم الكلام القديم منصبًّا فقط على بحث العقائد الإسلاميّة؛ لأنّ المخالفين للإسلام في ذلك العهد كانت اعتراضاتهم تتعلّق بالعقائد، ولكن في الوقت الحاضر يبحث في الجوانب التاريخيّة، والحضاريّة والأخلاقيّة للدين. إنّ عقائد أيّ دين عند الأوروبيّين لا تكون جديرة بالاعتراض إلى هذا الحدّ ما لم تكن هذه المسائل قانونيّة وأخلاقيّة، وفي رأيهم أنّ إباحة تعدّد الزوجات والطلاق والرقّ والجهاد في أيّ دين لهُو أكبر دليل على بطلان هذا الدين. بناءً على هذا سيتمّ بحث هذا النوع من المسائل في علم الكلام، وهذا الجزء بالكامل عن علم الكلام الجديد»[16].

لا شكّ أنّ النعمانيّ بيّن من جهته مبتغى الكلام الجديد، مقارنًا إيّاه بالإلهيّات الغربيّة، أو ما يسمّى باللاهوت المسيحيّ بالتحديد. إنّ شبلي النعمانيّ لم يوضّح شيئًا هاهنا ما عدا أنّه دعا إلى تجديد المسائل فقط، وهل بتجديد المسائل يتجدّد العلمُ أم ويتطوّر أم يُصنع علم جديد تمامًا؟، لا بدّ من الانتباه إلى أنّ ثمّة فارقٌ كبير بين الجديد والتَّجديد، وهذا هو الأساس في بناء مفهوم مستقلّ للكلام الحداثيّ عن علم الكلام التراثيّ. في الحقيقة يبدو أنّ ظاهر كلام النعمانيّ هو مجرّد دعوة للتجديد لا أكثر، وفي كلامه حجّة ذلك، قال النعمانيّ: «وفي النهاية، من الضروري أن نذكر أسماء أولئك العلماء بشكل خاصّ، والذين أخذنا عنهم علم الكلام، وهم: أبو مسلم الأصفهانيّ، والقفال وابن حزم، والإمام الغزاليّ، وراغب الأصفهانيّ، وابن رشد والإمام الرازيّ، وشاه وليّ الله الدهلوي»، والمتأمّل يجد النعمانيّ يؤصّل للكلام الجديد بعلم الكلام القديم، بأن دعا المجدّدين إلى التأصيل بالمتكلّمين الأوائل، كأمثال ما ذكر، وليس المتكلّمين فقط، بل اتساع المسائل –حسبه- تستوجب التأصيل بالفلاسفة والمتصوّفين وغيرهم من العلماء الكبار، وقد ذكر منهم ابن رشد والدهلوي.

إذًا، إنّه ليس من اليسير ضبط مفهوم الكلام الجديد، لكن من البساطة والبداهة أن نعتمد حتّى على حكيم أو مؤرّخ للاستقصاء عن مفهوم علم الكلام القديم. فمن الحكماء، قال الفارابي: «وصناعة الكلام ملكة يقتدر بها الإنسان على نصرة الآراء والأفعال المحدودة التي صرّح بها واضع الملة، وتزييف كلّ ما خالفها بالأقاويل»[17]، وعليه، تمّت كلمات الفارابي بأن حصَر عِلميّة علم الكلام التراثيّ في اقتدار الإنسان على الانتصار للعقيدة الحقّة البرهانيّة، وتاليًا تزييفه باقي العقائد الضالّة بالأقاويل، أي بالكلام -كما بيّن النسفي سلفًا-، أمّا عند المؤرّخين فالمشهور هو اعتماد مفهوم ابن خلدون، يقول: «إنّه علم يتضمّن الحجاج عن العقائد الإيمانية بالأدلّة العقليّة، والردّ على المبتدعة المنحرفين في الاعتقادات عن مذهب السلف وأهل السنّة»[18]، وهاهنا نستفيد أنّ ابن خلدون حَدَّ -من جهته- علم الكلام بالنظر إلى غايته، وطبيعة أدلّته، فصرّح بالغاية الدفاعيّة، والأدلّة العقليّة.

فأين هو مفهوم الكلام الجديد قياسًا على هذه المفاهيم؟ أين هو الجديد؟ هل هناك تجديد أصلًا؟ هنا يجيب أحد المتكلّمين الجدد، وهو عبد الجبار الرفاعيّ، قائلًا: «حتّى هذه اللحظة ما زال هناك نقاش بين المهتمّين حول هاتين المسألتين»[19] أي مسألة التجديد في ماذا؟ ومن هو المجدّد الذي يعني المتكلّم؟. فبان إذًا أنّ المتكلّمين الجدد يفضّلون القطيعة مع مفهوم علم الكلام القديم، وهذا ليتّسع لهم الجوّ الفكريّ لخلق مفهوم آخر يستقي وجوده من الإلهيّات المسيحيّة كنحو هذا التعريف لصاحبه مصطفى ملكيان ـ أحد المتكلّمين الجدد ـ، يقول: «إنّ مفهوم الكلام الجديد بالمعنى الذي نحمله نحن الإيرانيّين، في أذهاننا غير موجود في أذهان الغربيّين، أمّا السبب في قولنا بوجود كلام جديد فهو أنّ الكلام الإسلاميّ توقّف عن النموّ في نقطة زمنيّة معيّنة، لم يتطوّر (...)، المسلمون أيضًا حينما اطلعوا في العصر الحاضر على الإلهيّات المسيحيّة، تساءلوا: إذا كان هذا كلامًا، فما ذلك الذي كان لدينا قديمًا؟، وإذا كان ذلك كلامًا، فما الذي نراه اليوم؟، ومن هنا عمدوا إلى تصنيفات وتسميات وجدوها ممتعة، فقالوا: إلهيّات تقليديّة، أو كلام قديم، وإلهيّات حديثة أو كلام جديد، وبالتالي فإنّ تعبير «الكلام الجديد»، لا يوجد إلا في ثقافتنا نحن المسلمين، وخصوصًا في إيران حاليًّا»[20].

هذا تصريح جرئ من أحد المهتمّين بالكلام الجديد، وقد حدَّه بالإلهيّات المسيحيّة، نحن نتساءل: هل حُدَّ علم الكلام التراثيّ قياسًا على الإلهيّات المسيحيّة أو اليهوديّة ـ آنذاك ـ مثلًا ؟ لماذا هذه التبعيّة للغرب؟ أليس هذا سببًا كافيًا لسفسطائيّة الكلام الجديد؟، فلئن نقول بتطوّر علم الكلام ونموّ مسائله أقرب إلى المنطقيّة والعلميّة من أن نزعم أنّه مجرد إلهيّات مسيحيّة بصبغة إسلاميّة، ماذا يبقى للإسلام بدخول المسيحيّة فيه؟ هنا يقول ملكيان مرّة أخرى: «إنّ ما نطلق عليه اليوم في إيران اسم الكلام الجديد، هو بالضبط الإلهيّات المسيحيّة الجديدة، مع قليل من الجرح والتعديل، الرامي إلى مطابقتها مع العقيدة الإسلاميّة (...) هذه هي حقيقة ما يسمّى حاليًّا في محافلنا بالكلام الجديد، إنّه في الواقع الإلهيّات المسيحيّة المعاصرة، وقد أخذت الصبغة المحلّيّة، وتمّ تطبيقها مع المسائل، والإشكاليّات الخاصّة بالثقافة الإسلاميّة عمومًا، والإشكاليّات المطروحة في إيران على وجه الخصوص»[21].

كأنّي بملكيان وكلّ من في صفِّه وشيعَته يريد الجمع بين العقيدتين المسيحيّة والإسلاميّة، في ما يدعى بالكلام الجديد، أليس من التناقض الإيمانيّ الصارخ أن نكلِّف إنسانًا بأن يعتقد بعقيدتين في الآن نفسه؟ وخاصّة إذا تعلّق الأمر بدينين عُرف مسبقًا بالتعارض بين إلهيّتهما؟ هل يقْلِب الكلام الجديد الثلاثة واحدًا ؟ أليست عقيدة التثليث جوهرًا في أصول الإلهيّات المسيحيّة؟ ثمّ لماذا التكلّف في إيراد المصطلح؟ لماذا لا يُطلق مصطلح فلسفة الدين وينتهي الأمر؟ على الأقلّ الفلسفة منشؤها غربيّ في الأوّل، وقد تناولت الإلهيّات بنوع من العقلانيّة كما يزعم المتكلمون الجدد الآن؟ إنّ القول بالجمع بين العقائد مع الاحتفاظ بالإيمان بعقيدة واحدة، هو نوع من السفسطة التي لا يقبلها المنطق العقليّ ولا الوجدان الإيمانيّ، وبالجملة بان مع هذه العبارات وما تحمل من معاني وإشارات، أنّ علم الكلام التراثيّ جليّ المفهوم وواضح التعريف، أمّا الكلام الجديد فمفهومه مُشكل ومماري، فيه من الغموض ما يحمله محمل السفسطة، وبالتالي يمكن القول إنّ الكلام الجديد ليس ينفرد بمفهوم واضح، والشيء الذي يفتقر إلى مفهوم يوضّحه هل هو موجود أصلًا؟ هذا ما سنعمد إلى توضيحه ـ بعون الله ـ.

2 - محدّد الموضوع: موضوع الكَلامَيْن؛ بين الاستقلال به في التراثيّ، والافتقار إليه في الحداثيّ:

إنّ لكلّ علم موضوع، وإنّ موضوع علم الكلام هو العقائد الإيمانيّة على جملتها، «إذ به تتمايز العلوم، وهو المعلوم من حيث يتعلّق به إثبات العقائد الدينيّة تعَلُّقًا قريبًا أو بعيدًا، وقيل: هو ذات الله – تعالى-؛ إذ يبحث فيه عن صفاته وأفعاله في الدنيا كحدوث العالم، وفي الآخر كالحشر وأحكامه فيهما كبعث الرسول ونصب الإمام، والثواب والعقاب»[22] وبالتالي نستفيد من هذا النصّ: أنّ علم الكلام يدور البحث فيه، على ما يعتقده الإنسان في الدين، معادًا ومعاشًا، فالمعاش كالإيمان بالتوحيد والأنبياء والرسائل، والملائكة وغيرها من المسائل الأصليّة في الدين، مع عقيدة الإمامة كأصل عند فرقة الشيعة، وأمّا المعَاد فالبحث في السمعيّات من القول بالجنان والنيران، وغيرها من أخبار الجزاء إنْ في الشقاوة أو في النعيم، والتي نزلت أنباؤها في الكتب السماويّة ونُقلت عن أقاويل الأنبياء. وفي ديننا الإسلاميّ، العقيدة هي ما آتى الله الرسولَ في القرآن الحكيم، وتاليًا الأخبار الصحيحة الواردة والمنقولة عن النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم).

وعليه، فموضوع علم الكلام الأصيل والتراثيّ هو ذات الله ـ تعالى ـ وصفاته بالدرجة الأولى، أو ما يطلق عليه بمبحث «التوحيد»، ثمّ النبوّة وما لا تنفكّ عنه من أساسيّات، ومنها: الملَك، ومسألة الوحي، والعصمة وغيرها، ثمّ يأتي المعاد كمسألة جوهريّة في علم الكلام التراثيّ، وما يتّصل به من مقولات، كالخلود والجنّة والنار والصراط والجزاء والقبر وسؤاله وهكذا، أمّا الإمامة فتأتي عقيدة أصليّة عند فرقة الشيعة، وفرعيّة عند سائر الفرق الإسلاميّة. إنّ موضوع علم الكلام ـ بالجملة ـ هو العقيدة الإسلاميّة كأصل إيمانيّ للإثبات، وسائر العقائد كلواحق إيمانيّة للإبطال.

إذًا عُلم أنّ موضوع علم الكلام التراثيّ هو العقائد الإيمانيّة، تسليمًا بعقيدة التوحيد الإسلاميّة وإثباتًا لها، وكفرًا بباقي العقائد وإبطالًا لها، فما هو يا ترى موضوع الكلام الجديد أو الحداثيّ؟ هنا يُزعم أنّ «شساعة وضخامة الشبهات وحداثتها أدّت إلى اتساع الكلام الجديد، لذلك لا يمكن وضع إطار خاصّ لها، الكلام الجديد في عصرنا الحاضر لا يشتمل فقط على القضايا الاعتقاديّة، بل يتعدّى ذلك إلى القضايا الأخلاقيّة والاجتماعيّة، والثقافيّة، والسياسيّة، ويعتني بأصولها، ولوازمها»[23]، فيعني الباحث هاهنا أنّ الكلام الجديد يزيد على الموضوع الرئيسيّ الذي هو العقائد الإيمانيّة في علم الكلام القديم، مواضيع أخرى مُورِثة للشبهات كحداثة أسئلة القضايا الأخلاقيّة، والاجتماعيّة والسياسيّة والثقافيّة وغيرها، بهذا تتّسع دائرة الكلام الجديد أكثر من دائرة الكلام القديم، وتتعاظم مسؤوليّة المتكلّم المعاصر عن مسؤوليّة المتكلّم التراثيّ، هذا -بالجملة- تقرير موضوع الكلام الجديد.

لكن، أليس من الجناية الفكريّة أن يزعم قوم بعِلْميّة عِلْم يقتات في موضوعه على موضوعات سائر العلوم؟ ألم تكن القضايا الأخلاقيّة مطروحة في علم الكلام القديم، في أفعال العباد أهو يخلقها أم الله –تعالى- يخلقها؟ والمسؤوليّة والجزاء وغيرها؟، هذا بغضّ النظر أنّ تقرير الباحث أعلاه المقصود منه تلك القضايا الأخلاقيّة المحدثة والتي لم يكن للناس بها عهدٌ، ثمّ إنْ كان الكلام الجديد سيتّخذها موضوعًا؟ فماذا يدرس علم الأخلاق، أو فلسفة الأخلاق؟ أليست فرعًا قائمًا بذاته، بصرف النظر عن انشطاره عن الفلسفة إلا أنّه ميدان موضوعه القيمة الأخلاقيّة كيف هي؟ وكيف ينبغي أن تكون؟، وبالأحرى تسمّى علم القيم الأخلاقيّة؛ وعندما يدرس المتكلّم المجدّد القضايا الأخلاقيّة، إنْ درسَها من زاوية دينيّة، فليس هذا بجديد، كون المتكلّمين الأوائل سبقوه إليها وله أن يعود ويقرأ تراثهم الذي لا يخلو من الكلام في أفعال العباد خيرها وشرها وما ينجرّ عنها معاشًا ومعادًا، وإن درسها من زاوية فلسفيّة فهذا من اختصاص الفلسفة الأخلاقيّة.

ثمّ يواصل الباحث فيقول، بتوسع دائرة الكلام الجديد إلى القضايا الاجتماعيّة، ولكن ما هو العمل الذي يبقى لعالم الاجتماع؟ أليست من اختصاصاته؟، وقد تُورث الشبهة بإصباغها المنطق الدينيّ، لكن يكون هذا موضوع عالم الاجتماع الدينيّ، والأمر نفسه للقضايا السياسيّة، هي من شأن علم السياسة، أو على الأقلّ من عمل فيلسوف السياسة، وهكذا تُسند كلّ قضيّة إلى ميدانها الحقيقيّ، فيرتفع الزعم وتُفنّد الدعوى بوجود موضوع للكلام الجديد يتّسع زعمًا عن دائرة علم الكلام القديم.

بهذا التوضيح، نستنتج أنّ الكلام الحداثيّ يفتقر إلى موضوع يدور حوله، ويتناول مسائله بصفة مستقلّة تمامًا كما كان علم الكلام التراثيّ، وإذا كان ذلك فإنّه يبقى من الحكمة الوسَطيّة أن يُستبدل مصطلح الكلام الجديد بمصطلح آخر هو فلسفة الدين، على الأقلّ لوروده من الحضارة الغربيّة من جهة ولتناسبه مع المسائل المطروحة، كقضايا الأخلاق والسياسة والاجتماع والثقافة وغيرها من جهة أخرى، ففيلسوف الدين  يتناول هذه المسائل من زاوية دينيّة ولا تقع الشبهة بينه وبين عمل المتكلّم؛ إذ الفلسفة في الأصل أوسع من علم الكلام قديمًا، ولعلّها الآن كذلك، فبدل ما يُقحم أصحاب الكلام الجديد أنفسهم في سفسطة مصطلح إسلاميّ أصيل ظلّ يتمتّع بالاستقلاليّة في الموضوع، يضطلعون إلى مقاربة مفاهيميّة مؤدّاها النظر إلى الموضوع والمناهج المستعلمة لمعرفة أيّ علم هو ينشأ شيئًا فشيئًا. «إنّ فلسفة الدين تشير إلى القضايا الأساسيّة للدين، والتي بحثها الفلاسفة، من قبيل: الأبحاث المتعلّقة بوجود الله تعالى، ذاته وصفاته، قضيّة الشرّ، قضايا علم المعرفة، بعض القضايا المتّصلة بالأخلاق، والتعاليم الدينيّة، بعض التساؤلات حول النشاطات الدينيّة والتصوّف، ونظريّات في باب اللغة الدينيّة، ونظريّات حول المبادئ الدينيّة الخاصّة، مثل: مبدأ المعاد، والتثليث في المسيحيّة»[24]. فبان إذًا أنّ دعوى وجود موضوع مستقلّ للكلام الجديد والحداثيّ هي دعوى لا برهان عليها ليتمّ التصديق بها، وطالما الأمر هكذا فإنّ الكلام الجديد يفتقر -إلى حدّ الآن- إلى مقولتين تبرهنان عِلْمِيّته: المفهوم الواضح، والموضوع المستقلّ، في الوقت الذي تمتّع الكلام القديم بجلاء المفهوم واسقلال الموضوع. 

3 - مُحَدِّد المنهج: بين الأَصَالة في علم الكلام التراثيّ، والدَّخَالة في الكلام الحداثيّ.

لقد ظلّ المتكلّمون الأوائل يتوسّلون بالمنهج العقليّ، وبهذا اشتدّ الصراع بينهم وبين غيرهم من الفرق الإسلاميّة المتبنّية لمسلّمة النقل وتاليًا المناقضة في سائر الأحوال لجعل العقل هو الحاكم والأساس في فهم النقل وتأويله، وهنا يقول ابن خلدون محدّدًا منهج علماء الكلام ودواعي استدلالاتهم: «إنّه علم يتضمّن الحِجَاج عن العقائد الإيمانيّة بالأدلّة العقليّة، والردّ على المبتدعة المنحرفين في الاعتقادات عن مذهب السلف وأهل السنّة»[25]، وفي هذا التعريف يتّضح أنّ ابن خلدون أشار إلى محدّدات منهجيّة، وهي: الحِجَاج، والأدلّة العقليّة، والرَّدّ، فالحِجَاج «لا يعني البرهنة على صدق إثبات ما، أو إظهار الطابع الصحيح لاستدلال ما من وجهة نظر منطقيّة»[26].

وبالجملة حدَّد المتكلّمون منهجهم في الحِجاج العقليّ وإيراد الأدلّة، وقد بلغ هذا ذروته في المناظرة. وطالما أنّ لكلّ علم آليّة منهجيّة يتّخذها في مساره البنائيّ والمعرفيّ نحو بلوغ مقاصده وغاياته، وما دام المدار هاهنا على الموضوعات العَقديّة -كما بيَّنا سلفًا- فسوف يُتوسّل في ذلك بطرق تتلاءم وطبيعة الموضوع، إذ المنهجيّة تشتغل من الدرجة الثانية لأيّ علْم، بغية الوصول إلى معارف هذا العلم[27]، وبهذا نتوصّل إلى أنّ أخصّ المناهج الكلاميّة هي تلك التي يلِج أصحابها مباشرة إلى الممارسة اللغويّة المتضايفة والمتوازية مع القواعد المنطقيّة، ويُعدُّ المنهج الجدليّ ـ كما اتضح ـ أبرز هذه المناهج بحكم ابتنائه على الفعاليّة الكلاميّة اللفظيّة من جهة، وتاليًا بحكم تعرّضه للمقايسة المنطقيّة أثناء الممارسة بين المتكلّمين المتجادلين من جهة أخرى، ويُبرهن على ذلك بمظهر ميَّز الممارسة الكلاميّة الإسلاميّة عن غيرها من الممارسات المعرفيّة الأخرى، وهي المناظرة.

والمناظرة هي المباحثة والمباراة في النظر واستحضار كلّ ما  يراه ببصيرته، أو هي إقبال كلّ واحد على الآخر بالمُحاجَّة، وهي المفاوضة على سبيل الجدل[28]، فما نلتمسه الآن هو أنّ المناظرة هي محاورة عميقة بين شخصين أو بين فرقتين، مع التزام كلّ طرف باتّباع الحقّ والصواب، وبمعنى آخر انقياد كلّ مُناظِر للحجّة الدامغة حتى ولو كانت من إنتاج الخصم المفحم، وبالتالي فالمناظرة هي ممارسة منهجيّة تتطلّب من المتخاصمين إظهار الحقّ أو تأجيل الجدل والمخاصمة إلى وقت آخر، ثمّ إنّها توجب مستوى معرفيًا من الجانبين لتجعل السامعين شاهدين على قرع الحجّة بالحجّة والانتصار في الأخير للمفحم واتّباع دعواه.

بهذا، برز علم الكلام التراثيّ بمنهجه جليًّا في منهج المناظرة العقديّة، «ولمّا كان غرض المناظرة أو البحث هو إظهار الصواب، فقد حُدّدت لها شروط عامّة، هي كالآتي:

أ- لا بدّ لها من جانبين.

ب- لا بدّ لها من دعوى.

ج- لا بدّ لها من مآل يكون بعجز أحد الجانبين.

د- «لكلٍّ من الجانبين آداب ووظائف»[29]، وفي منهج الكلام الحداثيّ، أين هو المنهج التناظريّ وآدابه؟

في الحقيقة، لقد تحوّل المنهج التناظريّ الأصيل في الممارسة الكلاميّة التراثيّة إلى مناهج جديدة عديدة، يدّعي أصحابها أنّها الأنسب لحلّ إشكالات المؤمن المسلم في العالم المعاصر، ولا سيّما تلك المناهج التي تتعلّق بقراءة النصوص الدينيّة، «أمّا المنهج الظاهراتيّ التاريخيّ فهو بدوره يكشف عن مسيرة تكوّن كلّ دين، وبإمكانه أن يساهم في عمليّة تفكيك ذاتيّات الدين عن عرضيّاته، والإسلام بوصفه قراءة يستفيد من هذه العلوم والمعارف، وفي الحقيقة إنّ الإسلام بوصفه قراءة يحصل على توضيح ترميزيّ وسيميائيّ من النصوص الدينيّة»[30]، هذه المناهج الغربيّة المُسلِّمَة بتعدّد القراءات للنصوص، أدّت إلى ميلاد فكرة التعدّديّة الدينيّة، والتي يرى أصحابها بفرضيّة أحقّيّة كلّ المتديّنين في معتقدهم.

يعتقد المتكلّمون الجدد أنّه لا أحد ينكر أنّ النص -أيُّ نصّ- يحتمل عند القارئ أكثر من معنى واحد، فما بالك عندما يتعدّد القُرَّاء؟؛ إذ كلّما تعدَّد القُرّاء تعدّدت القراءات وتنوّعت التأويلات، وهذه ـ أيضًا ـ سُنّة في البشريّة، أو كما بيَّن جون هيك أنّه في حال ما تقوله المسيحيّة صحيح فلا يُفرض ذلك على الآخرين من المتديّنين. فهي بالطبيعة لا تقف عند فهم واحد موحّد، ليس فقط في النصوص، بل في الطبيعة كذلك، ونحن نرى أنّ القوانين السائدة في زمن ما تمّ تعديلها أو تبديلها تمامًا، وفيها ما تمّ دحضه، وفيها ما بقي على شاكلته الأولى وهكذا، إذن فالفُهوم -في اعتقاد سروش- متعدّدة وسيّالة، وهذا المبنى استند فيه إلى نظريّته القبض والبسط في الشريعة، وأورد فيه أنّ كلّ دين يمثّل تاريخ تفسيره وفهومه، فالإسلام يعني تاريخ التفاسير والشروح التي صدرت عن الإسلام، والمسيحيّة تعني تاريخ التفاسير التي صدرت عنها وهكذا[31]. لا شكّ أنّ هذه الأقاويل هي المؤدّية إلى مزالق منهجيّة وقع فيها المتكلّم المعاصر، ولا سيّما التعميمات عن إعجاب المفكّر بإبداعاته المزعومة، وأخذ وجوه الشيء دون كنهه، والخلط بين الدليل والعلّة، والمزج بين الواقع وتفسيره[32]. هذه سفسطات واضحة عند معتنقي نظريّة الكلام الحادثيّ الجديد.

هذه مجمل دعاوى المتكلّمين الحداثيّين، فهم يتوسّلون بالمناهج المعرفيّة الغربيّة لنهضة كلام جديد، وقد قاربوا مسعاهم هذا بما أثمرت الإلهيّات المسيحيّة المعاصرة من أسس ومناهج، ولعلّ أبرزها -فضلًا عن المنهج الظاهراتيّ والسيميائيّ- المنهج الهيرمينوطيقيّ، إذِ «الهيرمينوطيقا تؤشّر إلى أنّ النصّ المقدّس كائن حيّ، تنبعث حياته وتتجدّد كلّما تجدّدت قراءته، إنّها محاولة لتحرير النصّ من حمولة التفسير، التاريخيّة التي ينوء بثقلها، وتحجبه عن التواصل مع العصر الجديد، وعتقه من سجون السياقات الثقافيّة والاجتماعيّة، والاقتصاديّة والسياسيّة، التي كبَّلته بفهمها ومشروطيّاتها التاريخيّة الخاصّة، بعد أن انغلقت على نفسها، بنحو أمست تكرّر الفهم ذاته الذي يحكي ثقافة لم يعد إنسانها يوجد اليوم، ولم تعد وقائع حياته المختلفة حاضرة»[33]

بالرغم من منطقيّة هذا الكلام إلا أنّه لم يشفع للكلام الجديد بأن يصنع لنفسه منهجًا أو مناهج مستقلّة عن المناهج الغربيّة المعاصرة، فالتقليد ومنطق الانتماء ظاهران في مقالات المتكلّمين الجدد. إنّ المناهج التي قالوا بها هي فلسفيّة أكثر منها دينيّة، نشأت مع فلسفة اللغة التي من جنسها لغة النصوص الدينيّة، فلم يبقَ للمتكلّمين المعاصرين دعاوى مبرهنة تثبت وجود منهج جليّ يتوسّلون به في علمهم المزعوم، وبناءً على سفسطائيّة المفهوم والموضوع، تكون النتيجة سفسطائيّة المنهج؛ لأنّ المنهج في علم الكلام التراثيّ موجود يتجلّى في المنهج الجدليّ العقليّ المُتوّج بالمناظرة العقديّة، أمّا المنهج في الكلام الحداثيّ فمفقود، لا يتجلّى في التعدّديّة الدينيّة ولا في غيرها من المسائل؛ وهذا بسبب ميل هذه المسائل إلى الفلسفيّات من جهة، ومحاكاة المتكلّمين الجدد لمقالات اللاهوتيّين المسيحيّين من جهة أخرى، فأين الاستقلال هنا؟

4 - مُحدِّدُ الغاية: بين المعرفة والدفاع في علم الكلام التراثيّ، وقُصور المقاصد في الكلام الجديد.

إنّ الغاية الأولى التي ابتغاها المتكلّمون هي معرفة حقيقة واجب الوجود وصفاته وأفعاله وما يجب –تعالى- في حقّه، وما يستحيل؛ لأنّ «البديهة حاكمة بشرف وعلوّ شأنه، لا شكّ أنّ شرف العلم تابع لشرف المعلوم، ولمّا كان الغرض الأقصى من هذا الفنّ معرفة الله تعالى وصفاته وكيفيّة أفعاله، وتأثيراته، والبحث عن رسله وأوصيائهم، وأحوال النفس والمعاد، وهذه أشرف المطالب خصوصًا، وواجب الوجود تعالى أشرف الموجودات، فالعِلم به أشْرف العلوم»[34]، إذًا بان أنّ غاية علم الكلام القصوى هي الوقوف على حقيقة المعبود الحقّ وبحقّ، وما يأمر به وينهى، ثمّ معرفة أنباء غيبه عن رسله وأنبيائه والنفس وحالها في المعاد، والإمام ووجوبه، كلّ هذه تجمل لنا غاية علم الكلام التراثيّ، وهي المطالب القصوى التي يقصدها المتكلّم.

هذه الغايات ينبغي ابتداء التفاني في معرفتها ولكن مع الدفاع عنها ضدّ الخصوم المعاندين من باقي الأديان الأخرى والملل الضالّة، وهذه هي الغاية الأخرى التي ميّزت الممارسة الكلاميّة عند المتكلّم، إنّها الغاية الدّفاعيّة عن أصول الدين المسَلّم بها إيمانيًّا، والوقوف ضدّ كلّ المخالفين ومحاججتهم بالمناظرة المحتكمة إلى المبادئ العقليّة والمنطقيّة التي يتساوى فيها كلّ أهل النظر، وقد نستفيد حكمة الهويّة الدفاعيّة في تعريف الفارابيّ، بقوله: «وصناعة الكلام ملكة يقتدر بها الإنسان على نصرة الآراء والأفعال المحدودة التي صرّح بها واضع الملّة، وتزييف كلّ ما خالفها بالأقاويل»[35]، في هذا التعريف حصَر أبو نصر الفارابيّ الغاية من علم الكلام في نصرة الأراء والأفعال، فحَدَّهُ بهويّة الدفاع. 

الآن وإذا تحدّدت الغاية والهدف من علم الكلام التراثيّ في معرفة ذات الله –تعالى- وصفاته، وما يجري مجرى مبحث التوحيد من مقولات، والنبوّة، والمعاد، والإمامة، بوصفها العلم المحدّد بشرف المعلوم، ثمّ تاليًا الدفاع عن هذه الأصول، فما هي غاية الكلام الجديد؟ 

في حقيقة الأمر كانت الغاية من الكلام الجديد إصابة المسائل المحدثة وإعادة طرح المسائل الجديدة، ووضعها على بساط البحث، ومن هذه المسائل، معالجة النظريّات التي تحاول تفسير «منشأ الدين، وإعادة النظر في المسائل الكلاميّة القديمة، مثل: الوحي والإلهام، وأدلّة إثبات وجود الله، والإمامة والقيادة، ومعالجتها على ضوء ما استجدّ من شبهات وإشكاليّات»[36]. إنّ هذا الزعم مردود في أصله، كون الغاية من تحديث المسائل هي بالقياس إلى تجدّد العلم وتطوّره، أو إنّ شئت تعبيرًا أفصح؛ ليس ثمّة كلام جديد، بل ثمّة تجديد للكلام، والتجديد هو لون آخر تأخذه تلك المسائل القديمة فقط لا أكثر، «والحقّ أنّنا إذا انتهينا إلى اضطلاع علم الكلام ببيان المعتقدات الدينيّة  وإثباتها والدفاع عنها، فلا محيص من عدِّ الكلام الجديد استمرارًا للتقليديّ»[37].

إنّ ما يفنّد غائيّة الكلام الحداثيّ اليوم هي اشتراكها بالتطابق والتماثل مع الكلام القديم، حتّى وإن أنكر المتكلّمون الجدد، أي حتى لو أنكروا الهويّة الدفاعيّة والاختصاص في معرفة جوهر الدين وممّن يصدر؟ «بيد أنّ ما يطبع الكلام الجديد إنّما هو خاصّيّة البحث في المعتقد لا الدفاع عنه، وهذا لا يمنع من أن يدافع كلّ من يصل إلى نتيجة عن تلك النتيجة التي توصّل إليها (...)، ونحن نفترض -وهو افتراض صحيح-  أنّ تغييرات طرأت على علم الكلام ليس في حدود المسائل والمفردات فحسب، وإنّما أيضًا في دائرة الأسلوب والمنهج، لكن هذا كلّه لا يبرّر استحداث علم جديد»[38].

لهذه الأسباب تُعَدُّ الغاية من الكلام الجديد متخلخلة المقاصد، إذا ما قورنت بالغاية في علم الكلام التراثيّ ووضوح معالمها في معرفة أشرف موجود وأوحد معبود، والدفاع عن أصول الدين المسلَّم بها عقديًّا وإيمانيًّا، وبالجملة، وبعد الوقوف على حقيقة الكلام الجديد من حيث غموض مفهومه، وتبعيّة موضوعه، وتعدّديّة مناهجه، وتهافت غايته، ماذا يبقى من وجود لهذا الكلام؟ إنّه في الحقيقة مجرّد دراسات جريئة، يزعم أصحابها بتأسيس علم جديد، لكن وبافتقاره إلى الأسس التي تقيم العلم علمًا، فبكلّ روح علميّة، وبكلّ عقلانيّة موضوعيّة، لا وجود للكلام إلا الكلام التراثيّ، أمّا من ادعى أنّ ثمّة كلامًا جديدًا، فكلامه سفسطة، ولا يمكن للسفسطة أن تبلغ مبلغ العلم، تمامًا كما يقصر الكلام الجديد المزعوم اليوم أن يبلغ منزلة الكلام التراثيّ الأصيل؛ الذي ميَّزتْه الروح الحواريّة أو المناظرة، وفي هذا المعرض نورد قولًا لـ طه عبد الرحمن في كتابه «في أصول الحوار وتجديد علم الكلام»؛ تجديد علم الكلام، وليس الكلام الجديد، يقول: «فلا يمكن أن ننفصل عن الممارسة الحواريّة الخاصّة بتراثنا؛ لأنّ للحوار فضائل خاصّة أصبحت تُعدّ اليوم عنوانًا على وعي الأمّة وتقدّمها»[39]. وليس الحوار إلا روحًا لعلم الكلام التراثيّ، وما أحوج المتكلّمين الجدد إليه اليوم.

- خاتمة:(مجمل النتائج):

بعد هذه المحاولة -على تواضعها العلميّ وبساطتها- يسَعنا في هذا المقام أن نقدّم جملة من الاستنتاجات تسهّل على القارئ ما قيل في متن الدراسة، وفي حدود هذا ارتأينا أن نستجمع نتائج موجزة العبارة، وفي الآن نفسه تبيّن الغاية من البحث.

ـ ابتداءً، ثمّة تمييز بين العلم والسّفسطة، إذ العِلْم -منطقيًّا- يكتمل بالبرهان التصديقيّ واليقين التصوّريّ، وأمّا ما عداه من أقاويل فإنّها تجري مجرى الظنّ والسفسطة، وعليه يكون المميّز الأكبر بين العلم والسفسطة هو البرهان واليقين.

ـ يُعرف كلّ عِلْم بحدِّه (مفهومه) وموضوعه ومنهجه، وغايته، وقد ثبتت في علم الكلام التراثيّ، وتعذّرت في الكلام الجديد الحداثيّ، وبثبوتها في الأوّل برهان لعِلْميّته، وبتعذّرها في الآخر إشارة بظنّيّته وسفسطائيّته.

ـ هناك بعض المحاولات يزعم أصحابها بالانفصال عن علم الكلام القديم التراثيّ، وتأسيس كلام جديد يستقلّ بأضلاعه المنهجيّة والمعرفيّة، لكنّ هذه المحاولات زادت من الظنّيّة والسفسطة، وهذا بسبب اقتيات هذا الكلام المحدَث على مواضيع العلوم الأخرى ومناهجها، وهو الأمر الذي أشكل طبيعته أكثر، ودعا البعض إلى إبدال مصطلحه بفلسفة الدين.

ـ إنّ علم الكلام التراثيّ قد بلغ من العِلْميّة ما عجز عنه الكلام الحداثيّ، ألم ترَ كيف عجز أصحابه عن نحت مصطلح خاصّ به؟ ألم تقرأ كيف نحتوه من الكلام الأوّل القديم؟ إنّها التبعيّة بوجهيها، تارة إلى التراث الإسلاميّ؛ إلى علم الكلام الأصيل بأن يُصنع منه المصطلح ويضاف إليه مصطلح الجديد، وتارة بالتوجّه إلى الحداثة الغربيّة وما أنتجت من مناهج متعلّقة بأديانها للاقتيات منها، وكأنّ الكلام الجديد يريد أن يصنع وجوده على ما قدَّمته العلوم التراثيّة الإسلاميّة والفلسفات الغربيّة اليوم.

ـ وفي الأخير؛ لعلّنا حاولنا أن نبرهن من خلال الأسباب الأربعة بعِلْميّة الكلام القديم، وظنّيّة الكلام الحداثيّ الجديد وسفسطائيّته، والأسباب هي امتياز الكلام التراثيّ بالمفهوم والموضوع والمنهج والغاية، ومن ثمّة أصالته واستقلاله، وافتقارها في الكلام الجديد، وعليه دخالته وتبعيّته.

قائمة المصادر والمراجع

- مكتبة البحث:

- بعد القرآن الكريم. مصحف المدينة الإلكتروني.

1 - ابن النفيس علاء الدين: شرح الوريقات في المنطق، تحقيق وتعليق: أحمد فريد المزيدي، دار الكتب العلميّة، ط1، بيروت، 2015م.

2 - ابن خلدون: المقدّمة، تحقيق: حامد أحمد الطاهر، دارالفجر للتراث، ط1، القاهرة، 2004م.

3 - ابن رشد: تهافت التهافت، تقديم وتعليق: صلاح الدين الهواري، المكتبة العصريّة، بيروت، 2003م.

4- ابن رشد: نصّ تلخيص منطق أرسطو، أنالوطيقا الثاني أو كتاب البرهان، دراسة وتحقيق: جيرار جهامي، دار الفكر اللبنانيّ، ط1، بيروت، 1992م.

5 - ابن سينا: الشفاء، المدخل، تحقيق: الأب قنواتي، ومحمود الخضيري، مكتبة سماحة آية الله المرعشي النجفي، ط2، قم/ إيران، 2012م.

6 - أحد قراملكي: الهندسة المعرفيّة للكلام الجديد، ترجمة: حيدر نجف وحسن العمري، مراجعة: عبد الجبار الرفاعي، دار الهادي، ط1، بيروت، 2002م.

7 - أرسطو طاليس، المنطق، كتاب المغالطة، تحقيق: وتقديم: فريد جبر، مراجعة: جيرار جيهامي ورفيق العجم، دار الفكر اللبناني، ط1، بيروت، 1999م.

8 - الإيجي عبد الرحمن: المواقف في علم الكلام، عالم الكتب، بيروت، د.ط، د.ت.

9 - التهانوي محمد علي: كشّاف اصطلاحات الفنون والعلوم، تقديم: رفيق العجم، تحقيق: علي دحروج، مكتبة لبنان ناشرون، ط1،  بيروت، 1996م.

10 - حسن يوسفيان: دراسات في علم الكلام الجديد، ترجمة: محمد حسن زراقط، مركز الحضارة لتنمية الفكر الإسلامي، ط1، بيروت، 2016م.

11 - حمو النقاري: التحاجج، منشورات كلّيّة الآداب والعلوم الإنسانيّة بالرباط، ط1، الدار البيضاء، 2006م.

12 - حمو النقاري: معجم مفاهيم علم الكلام المنهجيّة، المؤسّسة العربيّة للفكر والإبداع، ط1، بيروت، 2016م.

13 - رضا برنجكار: علم الكلام الإسلاميّ، دراسة في القواعد المنهجيّة، ترجمة: حسنين الجمَّال، مركز الحضارة لتمنية الفكر الإسلاميّ، ط1، بيروت، 2016م.

14 - الزمخشري أبو القاسم: تفسير الكشّاف، تخريج وتعليق: خليل مأمون شيحا، دار المعرفة، ط3، بيروت، 2009م.

15 - سعد الدين التفتازاني: شرح العقائد النسفيّة، تقديم: مجلس المدينة العلميّة، مكتبة المدينة للنشر، ط2، باكستان، 2012م.

16 - شبلي النعماني: علم الكلام الجديد، ترجمة وتقديم: جلال السعيد الحفناوي، مراجعة السباعي محمد السباعي، المركز القوميّ للترجمة، ط1، القاهرة، 2012م.

17 - طه عبد الرحمن: في أصول الحوار وتجديد علم الكلام، المركز الثقافيّ العربيّ، ط2، بيروت، 2000م.

18 - عبد الجبّار الرفاعي وآخرون: موسوعة فلسفة الدين1: تمهيد لدراسة فلسفة الدين، مركز دراسات فلسفة الدين، ط1، بغداد، 2014م.

19 - عبد الجبّار الرفاعي وآخرون: موسوعة فلسفة الدين3،  علم الكلام الجديد، مركز دراسات فلسفة الدين، ط1، بغداد، 2016م.

20 - عبد الجبّار الرفاعي وآخرون: موسوعة فلسفة الدين4،  الهيرمينوطيقا والتفسير الدينيّ للعالم، مركز دراسات فلسفة الدين، ط1، بغداد، 2017م.

21 - عبد الجبّار الرفاعي: علم الكلام الجديد وفلسفة الدين، دار الهادي، ط1، بيروت، 2002م.

22 - عبد الحسين خسروبناه: الكلام الإسلامي المعاصر، ترجمة: محمد حسين الواسطي، دار الكفيل للطباعة والنشر، ط1، المركز الإسلاميّ للدراسات الاستراتيجية، العراق، 2016م.

23 - عبد الرحمن حسن حبنكة الميداني: ضوابط المعرفة وأصول الاستدلال والمناظرة، دار القلم، ط10، دمشق، 2009م.

24 - عبد الكريم سروش: الصراطات المستقيمة، ترجمة: أحمد القبانجي، منشورات الجمل، ط1، بيروت، 2009م.

25 - العقلانيّة الإسلاميّة والكلام الجديد، مجموعة من الباحثين، مركز الحضارة لتنمية الفكر الإسلاميّ، ط1، بيروت، 2008م.

26 - العلامة الحلّي: نهاية المرام في علم الكلام، تحقيق: فاضل عرفان، مؤسّسة الإمام الصادق، ط2، قم، إيران، 1430هـ.ق.

27 - الفارابي أبو نصر: إحصاء العلوم، تحقيق وتعليق: عثمان أمين، دار الفكر العربيّ، ط2، مصر، 1949م.

28 - فريد جبر، رفيق العجم وآخرون: موسوعة مصطلحات علم المنطق عند العرب، مكتبة لبنان ناشرون، ط1، بيروت، 1996م.

29 - القنوجي صديق بن حسن: أبجد العلوم، إعداد: عبد الجبّار زكّار، منشورات وزراة الثقافة والإرشاد القوميّ، دمشق، 1978م.

30 - محمد قائمي وآخرون، معجم المصطلحات الكلاميّة، المجلّد الثاني، مجمع البحوث الإسلاميّة، إيران، مادّة: المناظرة.

31 - محمد مجتهد الشبستري: نقد القراءة الرسميّة للدين، ترجمة: أحمد القبانجي، مؤسّسة الانتشار العربيّ، ط1، بيروت، 2013م. 

-----------------------------------


[1]ـ التهانوي محمد علي: كشاف اصطلاحات الفنون والعلوم، تقديم: رفيق العجم، تحقيق: علي دحروج، مكتبة لبنان ناشرون، ط1،  بيروت، 1996م، ص 1225.

[2]ـ التهانوي محمد علي: المرجع السابق، ص 1097.

[3]ـ ابن سينا: الشفاء، المدخل، تحقيق: الأب قنواتي، ومحمود الخضيري، مكتبة سماحة آية الله المرعشي النجفي، ط2، قم/ إيران، 2012م، ص 38.

[4]ـ ابن النفيس علاء الدين: شرح الوريقات في المنطق، تحقيق وتعليق: أحمد فريد المزيدي، دار الكتب العلميّة، ط1، بيروت، 2015م، ص 240- 241.

[5]ـ المصدر نفسه، ص 241.

[6]ـ أرسطو طاليس: المنطق، كتاب المغالطة، تحقيق: وتقديم: فريد جبر، مراجعة: جيرار جيهامي ورفيق العجم، دار الفكر اللبنانيّ، ط1، بيروت، 1999م، ص 636.

[7]ـ ابن رشد: نصّ تلخيص منطق أرسطو، أنالوطيقا الثاني أو كتاب البرهان، دراسة وتحقيق: جيرار جهامي، دار الفكر اللبنانيّ، ط1، بيروت، 1992م،  ص 369 - 370.

[8]ـ ابن رشد: تهافت التهافت، تقديم وتعليق: صلاح الدين الهواري، المكتبة العصريّة، بيروت، 2003، ص 44.

[9]ـ القنوجي صديق بن حسن: أبجد العلوم، إعداد: عبد الجبّار زكّار، منشورات وزراة الثقافة والإرشاد القوميّ، دمشق، 1978م، ص 43.

[10]ـ عبد الرحمن حسن حبنكة الميداني: ضوابط المعرفة وأصول الاستدلال والمناظرة، دار القلم، ط10، دمشق، 2009م، ص 304.

[11]ـ حمو النقاري: معجم مفاهيم علم الكلام المنهجيّة، المؤسّسة العربيّة للفكر والإبداع، ط1، بيروت، 2016م، ص 206.

[12]ـ سورة النمل، الآية 64.

[13]ـ الزمخشري أبو القاسم: تفسير الكشاف، تخريج وتعليق: خليل مأمون شيحا، دار المعرفة، ط3، بيروت، 2009م، ص 788.

[14]ـ فريد جبر، رفيق العجم وآخرون: موسوعة مصطلحات علم المنطق عند العرب، مكتبة لبنان ناشرون، ط1، بيروت، 1996م، ص 413.

[15]ـ سعد الدين التفتازاني: شرح العقائد النسفيّة، تقديم: مجلس المدينة العلميّة، مكتبة المدينة للنشر، ط2، باكستان، 2012م، ص53.

[16]ـ شبلي النعماني: علم الكلام الجديد، ترجمة وتقديم: جلال السعيد الحفناوي، مراجعة: السباعي محمد السباعي، المركز القوميّ للترجمة، ط1، القاهرة، 2012م، ص181- 182.

[17]ـ الفارابي أبو نصر: إحصاء العلوم، تحقيق وتعليق: عثمان أمين، دار الفكر العربيّ، ط2، مصر، 1949م،  ص 107 - 108.

[18]ـ ابن خلدون: المقدّمة، تحقيق: حامد أحمد الطاهر، دارالفجر للتراث، ط1، القاهرة، 2004م، ص551.

[19]ـ عبد الجبّار الرفاعي: علم الكلام الجديد وفلسفة الدين، دار الهادي، ط1، بيروت، 2002م، ص 25.

[20]ـ عبد الجبّار الرفاعي وآخرون: موسوعة فلسفة الدين3،  علم الكلام الجديد، مركز دراسات فلسفة الدين، ط1، بغداد، 2016م، ص 458.

[21]ـ المرجع نفسه، ص 459.

[22]ـ الإيجي عبد الرحمن: المواقف في علم الكلام، عالم الكتب، بيروت، د.ط، د.ت، ص 7.

[23]ـ عبد الجبّار الرفاعي وآخرون: موسوعة فلسفة الدين1: تمهيد لدراسة فلسفة الدين، مركز دراسات فلسفة الدين، ط1، بغداد، 2014م، ص 297.

[24]ـ عبد الجبّار الرفاعي وآخرون: موسوعة فلسفة الدين1: تمهيد لدراسة فلسفة الدين، مرجع سابق، ص 262.

[25]ـ ابن خلدون: مصدر سابق، ص551.

[26]ـ  حمو النقاري: التحاجج، منشورات كلّيّة الآداب والعلوم الإنسانيّة بالرباط، ط1، الدار البيضاء، 2006م، ص 56.

[27]ـ رضا برنجكار: علم الكلام الإسلاميّ، دراسة في القواعد المنهجيّة، ترجمة: حسنين الجمَّال، مركز الحضارة لتمنية الفكر الإسلاميّ، ط1، بيروت، 2016م، ص 38.

[28]ـ محمد قائمي وآخرون، معجم المصطلحات الكلاميّة، المجلّد الثاني، مجمع البحوث الإسلاميّة، إيران، مادّة: المناظرة، ص326.

[29]ـ طه عبد الرحمن: في أصول الحوار وتجديد علم الكلام، المركز الثقافيّ العربيّ، ط2، بيروت، 2000م، ص 74.

[30]ـ محمد مجتهد الشبستري: نقد القراءة الرسميّة للدين، ترجمة: أحمد القبانجي، مؤسّسة الانتشار العربيّ، ط1، بيروت، 2013م، ص 277 - 278.

[31]ـ عبد الكريم سروش: الصراطات المستقيمة، ترجمة: أحمد القبانجي، منشورات الجمل، ط1، بيروت، 2009م، ص 14.

[32]ـ أحد قراملكي: الهندسة المعرفيّة للكلام الجديد، ترجمة: حيدر نجف وحسن العمري، مراجعة: عبد الجبار الرفاعيّ، دار الهادي، ط1، بيروت، 2002م، ص 161.

[33]ـ عبد الجبّار الرفاعي وآخرون: موسوعة فلسفة الدين4،  الهيرمينوطيقا والتفسير الدينيّ للعالم، مركز دراسات فلسفة الدين، ط1، بغداد، 2017م،  ص 8.

[34]ـ العلّامة الحلّيّ: نهاية المرام في علم الكلام، تحقيق: فاضل عرفان، مؤسّسة الإمام الصادق، ط2، قم، إيران، 1430هـ.ق، ص 6 - 7.

[35]ـ الفارابي أبو نصر: إحصاء العلوم، مصدر سابق، ص 107 - 108.

[36]ـ حسن يوسفيان: دراسات في علم الكلام الجديد، ترجمة: محمد حسن زراقط، مركز الحضارة لتنمية الفكر الإسلاميّ، ط1، بيروت، 2016م، ص 35.

[37]ـ عبد الحسين خسروبناه: الكلام الإسلاميّ المعاصر، ترجمة: محمد حسين الواسطي، دار الكفيل للطباعة والنشر، ط1، المركز الإسلاميّ للدراسات الاستراتيجيّة، العراق، 2016م، ص 26.

[38]ـ العقلانيّة الإسلاميّة والكلام الجديد، مجموعة من الباحثين، مركز الحضارة لتنمية الفكر الإسلاميّ، ط1، بيروت، 2008م، ص 25-26.

[39]ـ طه عبد الرحمن: في أصول الحوار وتجديد علم الكلام، مرجع سابق، ص 20.

 
فروع المركز

فروع المركز

للمركز الإسلامي للدراسات الإستراتيجية ثلاثة فروع في ثلاثة بلدان
  • العنوان

  • البريد الإلكتروني

  • الهاتف