البحث في...
عنوان التقرير
إسم الباحث
المصدر
التاريخ
ملخص التقرير
نص التقرير
 أسلوب البحث
البحث عن اي من هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على كل هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على هذه الجملة

July / 26 / 2020  |  867القدماء، الوعي البسيط، وشكوكية هيوم الهوية والريبية المفرطة

ماريا ماغولا أداموس المركز الاسلامي للدراسات الاستراتيجية شتاء 2020 م / 1441 هـ
القدماء، الوعي البسيط، وشكوكية هيوم الهوية والريبية المفرطة

أهمل أغلبُ الباحثين القسمَ الثالث من الفصل الرابع من كتاب هيوم "رسالة حول الطبيعة البشريَّة". لقد بدا أنّ الفلاسفة يُركِّزون على القسمين الثاني والسادس وبالكاد يمنحون أهميَّة للقسم الثالث، إلَّا أنّ هذا القسم الأخير يُقدِّمُ أفضل بيانٍ عن مدى جدِّية شكوكيَّة هيوم وكيف أنّ فلسفته -خلافاً لنواياه-  بعيدةٌ كلَّ البُعد عن “مشاعرالوعي البسيط”.

يتناول هذا البحث بحسب ترتيبه المنهجيِّ ثلاث قضايا:

أولاً: رأي هيوم بالفلسفة القديمة كما طرحه في القسم الثالث، مع تركيزٍ خاص على نقاشه حول الهويَّة وبساطة الأجسام.

ثانياً: الاحتجاج على رأيه  حول الهويَّة والبساطة.  

ثالثاً: بيان عدم إمكانيَّة أخذ نصيحته بامتلاك شكوكيَّة “مُعتدلة” على محمل الجدّْ.

المحرِّر


يُعدُّ قسم “الفلسفة القديمة” تطبيقاً آخر لمقاربة هيوم الطبيعيَّة تجاه النظريَّات الفلسفيَّة القديمة. وفقاً لهيوم، لا يعدو مفهومنا حول الأجسام اعتبارها مجموعاتٍ “يُشكِّلها العقل من خصائص عدَّة ملموسة ومتمايزة تتألَّف منها الأشياء، ونجدُ أنَّ لديها اتِّحادٌ ثابتٌ مع بعضها البعض”[2]. ولكنَّنا، في تجربتنا اليوميَّة، نُخطئ في اعتبار هذه الخصائص الملموسة والمتمايزة “شيئاً واحداً يبقى على الحالة نفسها أثناء حصول التغيُّرات الكبيرة”[3]. وعليه، فإنّنا ننسبُ (بشكلٍ خاطئ) البساطة لإلى “التشكُّل المعتَرَف به” للتصوُّرات، والهويَّة لهيئاتها المتباينة. ولكن يقولُ لنا هيوم إنَّ هذا يُعدُّ تناقضاً لأنّ حواسَّنا تُدركُ خصائص متمايزة ومُختلفة تماماً من جهة، ونعتقدُ أنَّ مجموع هذه الأجزاء المنفصلة ينطوي على اتِّحادٍ وبساطة ثابتَين عبر الزمن من جهةٍ ثانية.

يرى هيوم أنَّ هذا هو السبب الرئيسيُّ الذي دفع القدماء إلى الُّلجوء لمفاهيم المادَّة
(K Substance) أو المادَّة الأوَّليَّة (Prime Matter). وإذا كان القدماء قد أرادوا تقديمَ منظومةٍ فلسفيَّة تُنقذنا، نحن أصحاب الوعي البسيط، من تناقضاتنا فحسب، فهو يعتبرُ أنّ إسناداتهم للمادَّة والمادَّة الأوَّليَّة مُتقلِّبة وزائفة، وتنشأ هي أيضاً من المبادئ الأساسيَّة للطبيعة البشريَّة، وهي بالتالي تستحقُّ الدراسة: “إنّني مُقتنعٌ بإمكانيَّة وجود اكتشافاتٍ عدّة مُفيدة يُمكن التوصُّل إليها عبر نقد تخيّلات الفلسفة القديمة في ما يتعلَّق بالموادّْ... والتي بغضِّ النظر عن عدم مقبوليَّتها وتقلُّبها تحظى برابطٍ وثيقٍ للغاية مع مبادئ الطبيعة البشريَّة”[4].

لماذا “نقع على وجه العموم تقريباً في هذه التناقضات الواضحة؟[5]”. بهدف الإجابة عن هذا السؤال، يُناقشُ هيوم مفهومنا حول “هويَّة الأجسام”. وفقاً لهيوم، حينما تتَّحد مفاهيم الخصائص المنفصلة - ولكن المتسلسلة- للأشياء في علاقةٍ وثيقة للغاية، فإنّ العقل “يُخدَع” حينئذٍ –إن جاز التعبير- ويعتبرُ تسلسل الخصائص المختلفة والمنفصلة شيئاً واحداً “مُستمرَّاً”.

“حينما ينظرُ العقل إلى التسلسل، ينبغي أن ينتقل من جزءٍ منه إلى آخر عبر عمليَّة انتقالٍ سهلة، ولن يُلاحِظ التغيير بعد ذلك وكأنّه ينظرُ إلى شيء غير مُتغيِّر. هذا الانتقال السهل هو نتيجة العلاقة أو جوهرها، والخيال يأخذ بسهولةٍ فكرةً مكان أخرى حينما يكونُ تأثيرهما على العقل واحداً. وعليه، فإنَّ أيَّ تسلسلٍ للخصائص المرتبطة يُعتبر بسلاسةٍ شيئاً واحداً ومُستمرَّاً وموجوداً من دون تغيير”[6].

يستخدمُ هيوم هنا مقاربته المعروفة بـ”التَّداعي” (Associationism)؛ أي أنَّ التَّواصل غير المنقطع للأفكار يخدعُ العقل، وبالتالي فإنَّه ينسبُ الهويَّة إلى “تسلسل الخصائص المرتبطة” الخاضع للتبدُّل. وعليه، لدى مراقبة شيءٍ ما باستمرار عبر سلسلةٍ من التغيُّرات الصغيرة، يقع انتقالٌ سهلٌ من فكرةٍ إلى أخرى، ونعتقدُ أنَّ أمامنا الشيء نفسه (المتطابِق) الثابت عبر الزمن.

فلنسلِّم جدلاً بأنَّ هيوم مُحقُّ في رأيه حول سهولة انتقال الأفكار حينما تجمعها علاقةٌ وثيقة. ولكن ماذا يحصل حينما لا تعودُ العلاقة بين الأفكار وثيقة؟ يقول في هذه الحالة: رغم أنَّ التغيُّرات الصغيرة قد لا تتمُّ ملاحظتها عبر الزمن، إلَّا أنّنا إذا لاحظنا الشيء في مرحلتين زمنيَّتَين مُختلفتَين، تُصبح التغيُّرات واضحة ويُدركها العقل: “التغيُّرات التي كانت غير محسوسة حينما تكوَّنت بشكلٍ تدريجيّْ، تبدو الآن ذات أهميَّة ويبدو أنَّها تُدمِّر الهويَّة بشكلٍ تامّْ”[7]. هنا يبدأ التناقض: من جهة، يرى العقل التغيُّرات الطارئة على الشيء ولكنَّه يتردَّدُ في نسب هويَّةٍ له، ومن جهةٍ ثانية، يستشعرُ العقل نزعةً قويَّةً لنسب الهويَّة إلى الشيء رغم التغيُّرات التي لاحظها. من أجل حلِّ التناقض، “يختلق” الخيال (مددنا الغيبيّ) شيئاً “مجهولاً وغير مرئيٍّ يستمرُّ في الحالة نفسها أثناء هذه التغيُّرات بمجملها، ويُسمِّي هذا الشيء غير المفهوم المادَّة، أو المادَّة الأصليَّة والأوَّليَّة”[8].

وعليه، يعتبرُ هيوم أنَّ الوعي البسيط يكونُ في حالة تناقض حينما ينسبُ الهويَّة إلى الأشياء. إذا كان هذا هو الحال، لا أرى أيَّ خطأ في المنظومة الفلسفيَّة لأنَّها تُنقذ ظاهريَّاً منظومة الوعي البسيط من التناقض، وذلك عبر ابتكار مفاهيم المادَّة والمادَّة الأوَّليَّة. وهو يرى أنَّ هذا هو بالضبط ما ينبغي على المنظومة الفلسفيَّة فعلُه، أي “الاقتراب من مشاعر الوعي البسيط”[9]. فضلاً عن ذلك، إذا لم يكن هناك مهرب من ادِّعاء الهويَّة للوعي البسيط كما يبدو من طرح هيوم، يستتبعُ ذلك إمكانيَّة عدم وجود مفرٍّ أيضاً من افتراض القدماء للمادَّة الأوَّليَّة.

ولكن، لعلَّ احتجاج هيوم على الهويَّة يكتسبُ وضعاً أفضل إذا قُمنا بتبنِّي نظريَّته حول العقل (على افتراض صحَّتها). فإذا كان مُصيباً في اعتقاده بأنَّ التصوُّرات حول الخصائص المحسوسة هي وحدها الموجودة، فإنَّ الشيء الوحيد الذي يُدركه فعلاً الوعي البسيط (والفيلسوف القديم) هو تصوُّره للخصائص - وليس الشيء الذي يمتلكُ تلك الخصائص. كما رأينا، حينما لا يُلاحظ الوعي البسيط أيُّ تغيُّرات في خصائص الشيء - حينما يوجد انتقالٌ سهلٌ للعقل- فإنّه ينسبُ الهوية إليه بسهولة. ويُمكن لنظريَّة هيوم حول التصوُّر استيعاب هذه الفكرة بسلاسة.

السؤال الأهم هو: ماذا يحصل عندما يُحدِّد الوعي البسيط التغيُّرات الطارئة على خصائص الشيء؟ هل يُصرُّ على أنَّ الشيء يمتلكُ الخصائص نفسها بهدف نسب الهويَّة إليه؟ أم أنَّه يفترضُ وجودَ مادَّةٍ أو مادَّة أوليَّة للتأكيد على بقاء الخصائص على حالها؟ حينما يفهم الوعي البسيط أنَّ خصائص الشيء قد تبدَّلت، ألا يُدرك أنَّه كان قد أصدر حُكماً خاطئاً؟ هنا، يتحتَّمُ علينا أن نعرف أنَّ احتجاج هيوم بالهويَّة في قسم “الفلسفة القديمة” قُدِّم على ضوء الخصائص وليس الثبات أو الوجود المستمر. وعليه، حتى لو قُمنا بتبنّي نظرية هيوم حول التصوُّر، إلا أنّ الخصائص المختلفة التي يكتسبها الشيء عبر الزمن تُدمِّرُ الهويَّة، ويبدو أن لا شيء يستطيعُ إنقاذ ادِّعاءالوعي البسيط بوجود هويَّة. فضلاً عن ذلك، حتَّى ولو افترضنا وجودَ “مادَّة” أو “مادَّة أوليَّة” في هذه الحالة، فإنَّنا لا نزالُ نعاني من المشكلة نفسها.

على سبيل المثال، لو تمَّت ملاحظة الخصائص Q التابعة للشيء P - فلنفترض أنَّ هذا الشيء هو شجرة سنديان- خلال مرحلتين مُختلفتَين ومُتباعدَتَين، فإنَّ الخصائص Q سوف تختلف تماماً عن بعضها البعض في هذين الوقتين. في هذه الحالة، يتحتَّم على الوعي البسيط الاعترافَ بأنَّ الشيء P في الوقت الأول يُصبح P مُختلفاً في الوقت الآخر (على افتراض كون نظريَّة هيوم عن الوجود المستقلِّ للتصوُّرات صحيحةً). إذا كان مُحقَّاً في اعتقاده بأنَّ تصوُّرات الخصائص وحدها موجودة، إذاً حتَّى لو “اختلق” الوعي البسيط مفهومَ المادَّة إلا أنَّه لا يستطيع إنقاذ دعواه ببقاء الخصائص على حالها خلال المرحلتَين الزمنيَّتَين. لقد تغيَّرت خصائص P ولا يبدو أنَّ هناك شيءٌ ما يستطيعُ جعلها مُتطابقة. ولكن، بما أنَّ فرضيَّة المادَّة لا تستطيع إنقاذ الادِّعاء بتطابق P في الوقتين من حيث النوع، فإنّ نزعتنا نحو نسب الهويَّة لا يُمكن أن يُفسِّر لماذا ينبغي أن نقوم نحن (أو القدماء) باختلاق المادَّة.

يبدو أنَّنا إذا لم نملك مُسبقاً مفهوماً عن المادَّة حيث تكون جميع هذه الخصائص المختلفة مُتأصِّلة، فإنَّ ادِّعاء وجود الهويَّة فيما يتعلَّق بالخصائص المختلفة ليس فعَّالاً في الواقع. بتعبيرٍ آخر، يبدو أنَّه إذا لم نملك مُسبقاً مفهوماً عن المادَّة يُمكِّننا من القول بأنَّ الشيء يبقى على حاله رغم التغيُّر الطارئ على خصائصه، فإنَّ افتراض المادَّة بعد مُلاحظتنا أنَّ الخصائص هي مُختلفة لا يُساعد ادِّعاءنا على وجود الهويَّة. لن تجعلنا هذه الفرضيَّة نظنُّ أنَّ الخصائص التي لاحظنا كونها مُختلفة أصبحت مُتطابقة الآن. بهدف نجاح ادِّعائنا على وجود الهويَّة، نحتاجُ أولاً إلى تشكيل مفهومٍ عن بساطة المادَّة لكي نُكوِّن مفهوماً عن الشيء، ومن ثمَّ نستطيعُ نسبَ الهويَّة له. سوف يُمكِّننا هذا من الإعلان أنَّ الشيء الذي لاحظناه في الوقت الأوَّل هو مُشابهٌ للشيء الذي لاحظناه في الوقت الثاني[10].

إذا كنتُ مُحقَّاً، فإنَّ بيان هيوم للكيفيَّة التي نقومُ من خلالها - نحن أصحاب الوعي البسيط- في نسب الهويَّة للأشياء يتداعى. ذلك أنَّه حتى لو قبلنا نظريَّته حول التصوُّرات، إلَّا أنَّ تحليله غير مُرضٍ لأنَّه لا يشرح كيف تحلُّ فرضيَّتنا المتعلِّقة بالمادَّة أو المادَّة الأوَّليَّة التناقضات التي يتَّهمنا بها. يُظهر لنا هذا بدوره شيئين:

يُخطئ هيوم في نقده للنظريَّات الفلسفيَّة القديمة على ضوء افتراضها للمادَّة، وذلك لأنَّها تُقدِّمُ بياناً أفضل عن الهويَّة ممّا يُقدِّمه، وفي الوقت نفسه تتمكّن من “البقاء قريبةً من مشاعر الوعي البسيط”.

 لا يبقى الوعي البسيط مع اعتقاداتٍ مُتناقضة فحسب، بل مع الإحباط والضيق أيضاً لأنَّه إذا تبنَّى الرأي الفلسفيَّ المتعقِّل (الشبيه برأي هيوم) فلن يتمكَّن أبداً من التخلُّص - أو على الأقل من توضيح- أحكامه الخاطئة. بالفعل، فإنَّ تحليله غير المرضي يؤدِّي بنا إلى شكوكيَّةٍ مفرِطة لأنَّه يُظهر عدم وجود تبريرٍ لمعتقداتنا الطبيعيَّة وأيضاً عدم كوننا في موقعٍ يسمحُ لنا بتقديم شرحٍ لها حتى ولو قُمنا بتبنِّي موقفه الفلسفي المتعقِّل.

رأي هيوم بالبساطة

هل إنَّ نقاش هيوم حول “بساطة الموادِّ” هو أكثر إقناعاً؟ إنَّه يستخدمُ مُقاربة التَّداعي هنا أيضاً. وحينما يُلاحظُ العقل “شيئاً” تكونُ أجزاؤه مُرتبطة بشكلٍ وثيق ببعضها البعض عبر “علاقةٍ قويَّة”، فإنَّه يعتبرُ الشيء واحداً: “ترابط الأجزاء في الشيء المركَّب يملكُ التأثير نفسه تقريباً، وبالتالي فإنّه يُوحِّدُ الشيء ضمن نفسه فلا يشعرُ الوهم بالانتقال من جزءٍ إلى آخر. وعليه، يتمّ إدراك الَّلون والطَّعم والشَّكل والصَّلابة وغيرها من الخصائص المجتمِعة في خوخة أو بطّيخة على أنّها تُشكِّلُ شيئاً واحداً”[11].

ولكن هنا، على خلاف قضيَّة الهويَّة، لا يكونُ العقل مُدركاً للخطأ - الأقل من وجهة نظر الوعي البسيط:

“حينما ينظرُ (العقل) إلى الشيء من منظورٍ آخر، يجدُ أنَّ جميعَ هذه الخصائص مُختلفة وقابلة للتمييز ومُنفصلة عن بعضها البعض. إنَّ رؤية الأشياء على نحوٍ يُدمَّرمفاهيم (العقل) الأوَّليَّة والأكثر طبيعيَّة يفرضُ على الخيال اختلاق شيءٍ مجهول أو مادَّة أصليَّة كمبدأٍ مُوحِّد لهذه الخصائص، ويمنحُ الشيء المركَّب صفة الوحدة بغضِّ النَّظر عن تنوُّعه وتكوينه”.[12]

فلنفترض أنَّنا استطعنا مُلاحظة العالم “من منظورٍ مُختلف”، كما يقترحُ هيوم، ولكن مع ذلك سوف نُواجه التناقضات. وإذا قُمنا بتبنِّي وجهة نظر الوعي البسيط، سوف نرى الأشياء البسيطة التي تُشكِّلُ أجزاؤها مجموعاً مُوحَّداً. ولكن إذا تبنَّينا وجهة النَّظر الفلسفيَّة، سوف نُدرك أنَّ الشيء يتشكَّل من  أجزاء عدَّة مُتمايزة ومُفكَّكة. بهدف تحرير نفسه من التناقضات، يختلقُ الخيال (مجدَّداً) “شيئاً مجهولاً أو مادَّة أصليَّة، كمبدأٍ مُوحِّد لهذه الخصائص، ويمنحُ الشيء المركَّب صفة الوحدة بغضِّ النَّظر عن تنوُّعه وتكوينه” (كما مرّْ).[13] وعليه، وفقاً لهيوم، يفترضُ العقل مادَّة “أصليَّة” لكي يُنقذ نفسه من التناقضات الكامنة في رؤية الوجودات المنفصلة للخصائص المختلفة للشيء وبساطته في آنٍ واحد.

للأسف، سوف يتبيَّن لنا أنَّ هذه الحجَّة لا تخلو من إشكال أيضاً. فلنفترض أنَّنا نُوافق مع هيوم على كون الخصائص المحسوسة وجوداتٍ مُنفصلة في الواقع، ولنتخيَّل أنّّ لون التُّفاحة وطعمها الحلو هما وجودان مُتمايزان ومُنفصلان، بمعنى أن يبقى اللون على حالته في وقتٍ ما في المستقبل بينما يختفي الطَّعم الحلو (أو بالعكس)، فإنَّ هذا لا يعني أنَّ الَّلون الأحمر للتفاحة (في تلك اللحظة) يُمكن أن يوجد بنفسه مُنفصلاً عن الطعم أو الخصائص الأخرى للتفاحة. بالفعل، يبدو أنّ هيوم يُنكر إمكانيَّة الوجود المتميِّز والمنفصل للخصائص في القسم السابع من الفصل الأول. فهو يدَّعي كون اللون والشكل مجرَّد تمييزاتٍ عقليَّة:

حينما تُقدَّم كُرة مصنوعة من الرخام الأبيض، فإنَّنا نتلقّى فقط انطباع اللون الأبيض المكوَّن بشكلٍ مُحدَّد، ولا نستطيع فصلَه وتمييزه عن الشكل. ولكن حينما نُلاحظ بعدها كُرةً مصنوعةً من الرخام الأسود ومُكعَّباً أبيض ونُقارنهما بالشيء السابق، نجدُ تشابهَين مُنفصلَين في ما كان يبدو سابقاً، وهو كذلك فعلاً، غير قابل للانفصال تماماً. بعد المزيد من التدريب على هذا النحو، نبدأ بالتفريق بين الشكل واللون عبر التمييز العقليِّ، أي ننظر إلى الشكل واللون معاً لأنَّهما بالفعل عينُ الشيء وغيرُ قابلَين للتمييز، ولكن مع ذلك، ننظر إليهما على ضوء أبعادٍ مُختلفة ووفقاً للتشابهات التي هما عُرضةً لها. حينما ننظر إلى كرة الرُّخام الأبيض فقط، نُكوِّن في الواقع فكرةً عن الشكل واللون معاً، ولكنّنا نُوجِّه أنظارنا ضمنيَّاً إلى تشابُهها مع كرة الرخام الأسود. وبالطريقة نفسها، حينما ننظرُ إلى اللون فقط، نُوجِّه أنظارنا إلى تشابُهه مع المكعَّب الأبيض الرخاميّْ”[14].

يبدو هنا أنَّ خصائص التفاحة، كخصائص الرُّخام، لا يُمكنها أن تُشكِّل وجوداتٍ مُتمايزة ومُنفصلة، بمعنى إمكانيَّة وجودها من دون بعضها الآخر، في النهاية. السبب هو أنَّ لون التفاحة وطعمها هما فقط تمييزاتٍ عقليَّة، وعليه، لا يُمكنهما تشكيل وجوداتٍ متمايزة مُنفصلة. ولكن، إذا كان هذا هو الحال، فإنَّ تحليل هيوم لبساطة المادَّة هو مُجدَّداً غير مُرضٍ لأنَّه إذا لم يتمكَّن من إثبات امتلاك تصوُّرات الخصائص لوجوداتٍ مُنفصلة - وبالتالي غير قابلة للتمييز- يبدو إذاً أنَّنا لا نقومُ نحن، أصحاب الوعي البسيط، بارتكاب الأخطاء حينما ننظرُ إلى الشيء كمجموعٍ موحَّد. يُمكن لهذا بدوره أن يوضح كيف ننسبُ الهوية إلى الشيء عبر الزمن: نقومُ أولاً بتكوين مفهوم بساطة المادَّة حيث تكونُ جميع الخصائص متأصِّلة، ومن ثمّ يُمكننا أن نقول بأنَّ الشيء يبقى على حاله حتى بعد تغيُّر خصائصه.

خلال مسعاه لتقديم الإجابة عن سبب وقوعنا في التناقضات حينما يتعلَّق الأمر ببساطة المواد، يُخبرنا هيوم أنَّ الإجابة تكمنُ في عادة التخيُّل. ومن المفاجئ أنّه يُساوي عادتنا المتمثِّلة بالاستدلال من الأسباب إلى النتائج بعمليَّة استنباط المادَّة أو المادَّة العرضيَّة: “العادة نفسها التي تجعلنا نستدلُّ على وجود علاقةٍ بين السبب والنتيجة تجعلنا نستدلّ هنا على اعتماد كلِّ خاصيَّة على مادَّة مجهولة”[15].

ولكن إذا كان هذا هو الحال، يُمكن لنا أن نتساءل: لماذا يُثيرُ هيوم صخباً عالياً ضدَّ الفلسفة القديمة، مُدَّعياً أنّ أولئك الفلاسفة أسوأ من الأطفال والشعراء؟ إذا كانت العادة نفسها - التي تجعلنا نستدلُّ على النتائج من الأسباب- تجعلنا ننسب “اعتماد كلِّ خاصيَّة على مادة مجهولة”، فإنَّ استنتاج القدماء يبرز بشكلٍ طبيعيٍّ، وبالتالي لا ينبغي إلقاء الَّلوم عليهم. فضلاً عن ذلك، إذا كانت العادة التي تجعلنا نستدلُّ على “اعتماد كلِّ خاصيَّة على المادَّة المجهولة” مُتشابهة مع تلك العادة التي تجعلنا ننطلق بالاستدلال من السبب إلى النتيجة، يستتبعُ ذلك إذاً أن يكون قد انبثق الاثنان من مبادئ الخيال نفسها.[16][17].

يُمكن أن يسأل أحدهم: إذا كان هيوم يعتبرُ أنَّ الخيال هو “الحاكم” الوحيد في جميع المنظومات الفلسفيَّة، كيف يُمكننا إذاً تبريرَ نظريَّته الفلسفيَّة الخاصة؟ يكمنُ جوابه في الفقرة الافتتاحيَّة من قسم “الفلسفة الحديثة”. في لحظةٍ من النقذ الذاتيِّ، يعترفُ قائلاً: “ولكن يُمكن الاعتراض هنا (على ضوء فكرتي) بأنَّ الخيال هو الحاكم الأعلى في جميع المنظومات الفلسفيَّة - وفقاً لاعترافي الشخصيِّ- بأنَّني غير مُنصف في إلقاء الَّلوم على الفلاسفة القدماء بسبب توظيفهم لهذه المقدرة والسماح لأنفسهم بالاسترشاد بها بشكلٍ تامٍّ في استدلالاتهم”[18]. وهنا نراه يُقدِّمُ جواباً على هذا الاعتراض يُفيدُ وجودَ فرقٍ بين مبدأيْ الخيال.

“لكي أُبرّر رأيي، ينبغي أن أميِّز، في الخيال، بين المبادئ الثابتة، وغير القابلة للمقاومة، والشاملة كالانتقال المعهود من الأسباب إلى النتائج ومن النتائج إلى الأسباب، وبين المبادئ القابلة للتبدُّل والضعيفة وغير المنتَظَمة كتلك التي لاحظتها للتوّْ (في ما يتعلَّق بالموادِّ، والهيئات الصلبة، والطوارئ، والخصائص التنجيميَّة). تُشكِّلُ الأولى أساس جميع أفكارنا وأفعالنا، وفي حال أُزيلت (هذه المبادئ) تهلك الطبيعة البشريَّة فوراً، وتذهب نحو الخراب. أمّا الثانية، فيُمكن للبشريَّة تفاديها ولا تُعدُّ ضروريَّة أو حتى مُفيدة في السلوك الحياتيّْ”[19].

وعليه، يعتبرُ هيوم أنَّ إيماننا بالأسباب شامل ولا يُمكن تفاديه، بينما الاعتقاد القديم بالمادَّة غير مُفيد وغير ضروريٍّ في تجربتنا اليوميَّة. هذا يعني أنَّه لن يُنشئ منظومةً فلسفيَّة وفقاً لوهمه. وعليه، يعتقدُ أنَّ المجموعة الأولى للاستدلال (أي إيماننا بالأسباب) ليست محلَّ إشكالٍ على الإطلاق ولكنَّ المجموعة الثانية هي محلَّ إشكالٍ وغير نافعة أيضاً[20].

حتى لو اعترفنا بأنَّ افتراض القدماء للمادَّة والمادَّة الأوَّليَّة هو غير ضروريٍّ ومحلَّ إشكال، يبدو غريباً ما يقوله هيوم عن الهويَّة في القسمين الثاني والرابع من كتابه، لأنّه من المستبعد جداً أن نُفكِّر - نحن أصحاب الوعي البسيط- بالطريقة التي يصفها. كما الفلاسفة القدماء، نعتقدُ نحن بوجود شيءٍ في العالم غير تصوُّراتنا عن الخصائص. ذلك أنّنا نعتقدُ بأنَّ العالم بتألَّف من أشياء مادِّيَّة ملموسة تبقى على حالها مع مرور الزمن. يترتَّب على ذلك أن لا يكون الفلاسفة القدماء وحدهم  من ينسبون المادَّة إلى عالمنا الخارجيّْ، بل أصحاب الوعي البسيط أيضاً. بالتالي، فإنَّ مفهوم المادَّة القديم “المختلَق” ينتمي إلى النوع الأول من مبادئ الخيال التي يذكرها هيوم لأنّه يبدو “ شاملاً وغيرَ قابلٍ للتفادي وللمقاومة”. مُجدداً، يمكن القول أنَّه يبتعدُ عن مشاعر الوعي البسيط أكثر من القدماء.

شكوكيَّة هيوم

الفيلسوف الحقيقيُّ، وفقاً لهيوم، يتَّصفُ بشكوكيَّةٍ مُعتدلة، وتتمثَّل نصيحته لـ”الفيلسوف الحقيقيِّ” في الفرار أولاً من الفلسفة الزائفة، والإقرار بأنّنا “لا نملك فكرةً أو قوةً أو فاعليَّة مُنفصلة عن العقل” في ما يتعلَّق بالعلاقات اللَّازمة في الطبيعة. “أيُّ شيءٍ أكثر إيلاماً من البحث بحماسةٍ عمَّا يستعصي علينا دائماً، والسعي وراءه في مكانٍ يستحيل أن يوجد فيه؟”[21] وعليه، يتحتَّم على الفيلسوف اكتسابَ “الفلسفة الحقيقيَّة” من خلال العودة إلى حالة الوعي البسيط، والنظر إلى “جميع هذه الأبحاث بالجمود واللَّامبالاة”[22].

يبدو أنَّ هيوم يمتلكُ شكوكيَّةً “مُفرطة”، لأنّه كما رأينا، يعتبرُ أنَّه حينما تخضعُ مُعتقداتنا الطبيعيَّة لتأمُّلٍ نقديٍّ فإنَّها تفقدُ أيَّ نوعٍ من التبرير. وعليه، لا يُمكن أخذ نصيحة هيوم بامتلاك “شكوكيَّة مُعتدلة” على محمل الجدّْ. بالفعل، يؤدِّي بيانه غير الوافي عن الهويَّة إلى “شكوكيَّة مُفرِطة” أشدِّ الإفراط، ولا أرى كيف يُمكن له الفرار من اتِّهامه بالتناقض. إذا كان يدَّعي أنَّه “فيلسوفٌ حقيقيٌّ”، ينبغي إذاً أن تنبثق استنتاجاته بعد التأمُّل النقديّْ. وإن كان  “الفيلسوف الحقيقيُّ”، غير قادرٍ على تقديم شرحٍ وافٍ عن اعتقادنا الطبيعيِّ بالهويَّة، يبدو إذاً أن لا شيء يستطيعُ فعلاً إرشادنا إلى الحقيقة. ولكن هذا الاستنتاج يتجاوزُ (مُجدَّداً) حدودَ “الشكوكيَّة المعتدلة”[23].

الخاتمة

بإيجاز، يُعدُّ هذا البحث محاولة لإظهار كيف أنَّ بيان هيوم للهويَّة على ضوء الخصائص هو غير وافٍ. فقد فشلت حُجَّته حول “عدم جدوى” فرضيَّة الفلسفة القديمة في ما يتعلَّق بـالمادَّة والمادَّة الأوليَّة في إقناعنا. لو كان يعتقدُ فعلاً بأنَّ الفلسفة الحقيقيَّة ينبغي أن تكون أقرب إلى “مشاعر الوعي البسيط”، لبدا أنَّ الفلسفة القديمة تتوافق بدقَّة مع هذا التوصيف لأنّها تُتيح بياناً أكثر معقوليَّةً عن الهويَّة ممَّا يُقدِّمه. أمَّا نحن أصحاب الوعي البسيط فنعتقدُ أنَّ العالم الخارجيَّ يتألَّف من الأشياء المادِّيَّة البسيطة الملموسة التي تبقى على حالها مع مرور الزمن.

بناءً على ذلك، لا يُمكن لدعوى هيوم إيَّانا إلى امتلاك “شكوكيَّة معتدلة” إقناعنا لأنَّه هو نفسه يمتلكُ شكوكيَّةً “مُفرِطة” من خلال تقديم تناقضٍ أساسيٍّ بين مُعتقداتنا الطبيعيَّة من جهة، وبين مُعتقداتنا الطبيعيَّة واستدلالنا الفلسفيِّ من جهة أخرى. فضلاً عن ذلك، لا يدع شرحه غير الوافي حول هويَّة الموادِّ وبساطتها مكاناً لشكوكيَّةٍ “مُعتدلة” على الإطلاق.

---------------------------------------

[1]*ـ  أستاذة مُساعدة في الفلسفة في جامعة جورجيا الجنوبيَّة، الولايات المتَّحدة الأميركيَّة. نالت درجة الدكتوراه من كلِّيَّة الفلسفة في جامعة كاليفورنيا (سانتا باربرا) عام 2000. محور اختصاصها هو فلسفة العقل والفلسفتين اليونانيَّة والرومانيَّة القديمتَين، وتتركَّز اهتماماتها حول الأخلاق العمليّة، الأخلاق المعياريَّة، فلسفة الجندر والعِرق والجنسانيَّة، والفلسفة خلال القرنين السابع عشر والثامن عشر.

ـ العنوان الأصليُّ للمقال:The Ancients, the Vulgar, and Hume’s Skepticism

ـ المصدر: Athens Journal of Humanities & Arts, Volume 1, Issue 1, Pages 69- 78. January 2014

ـ ترجمة: هبة ناصر.

[2]- Hume, D. (1978). Treatise of Human Nature. L.A. Selby-Bigge (ed.). Oxford: Oxford University Press, p.219.

[3]- المصدر نفسه.

[4]-المصدر نفسه.

[5]-المصدر نفسه.

[6]- المصدر نفسه، ص 220. الَّلون البارز على الكلمات وضعته الكاتبة.

[7]- المصدر نفسه، ص 220. الَّلون البارز على الكلمات وضعته الكاتبة.

[8]- المصدر نفسه.

[9]- المصدرنفسه.، ص 222.

[10]- في بحثه تحت عنوان «هيوم والهويَّة الشخصية»، يحتجُّ Terence Penelhum أيضاً بأنّ بيان هيوم حول الهويَّة يفشل في إظهار كيف نقومُ نحن، أصحاب الوعي البسيط، بالتفكير. الأهم من ذلك، يدَّعي Penelhum أنّ هيوم مُخطئٌ حينما ينسب الاعتقادات المتناقضة والأخطاء إلى الوعي البسيط. يعتقدُ Penelhum أنّه إذا أخطأ أحدهم حول الهويّة، فذاك الشخص هو هيوم. مع ذلك، فإنّ Penelhum يفشل في ملاحظة إن كان خطأنا أو عدمه في وصفنا للهويَّة يعتمدُ على الأنطولوجيا التي نؤمن بها. هذا يعني أنّه فقط حينما نرفضُ نظريَّة هيوم حول التصوُّرات، لا يكون الوعي البسيط مُتورِّطاً في التناقضات. ولكن إذا قُمنا بتبنِّي رأي هيوم حول امتلاك التصوُّرات لوجوداتٍ مُنفصلة، يكون هو مُحقَّاً في نسب التناقضات والأخطاء إلى الوعي البسيط. يعودُ ذلك إلى أنّه إذا وُجدت تصوُّرات الخصائص فقط، يُواجه الوعي البسيط التناقض المتمثِّل في الاعتقاد بأنَّ خصائص الشيء قد تغيَّرت وفي الوقت نفسه بقيت على حالها. تفشلُ مناقشة Penelhum في أخذ نظريَّة هيوم حول التصوُّرات بعين الاعتبار، وبالتالي تفشلُ في إظهار كونه مُخطئاً في اعتقاده بأنَّنا مُتورِّطون في التناقضات.

Penelhum, T.(1968 [1988]). “Hume on Personal Identity”. In: V.C. Chappell (ed.) Hume. New York: Anchor Books.

[11]- مصدر سابق، هيوم، ص 221.

[12]- المصدر نفسه، اللون البارز على الكلمات وضعته الكاتبة.

[13]- إذا كان هيوم يعتقدُ أنَّ النظر إلى الشيء من منظورٍ آخر مُمكنٌ فقط ضمن الموقف الفلسفيّْ، فإنّه لا يُظهر أو يشرح كيف يُمكننا نحن - أصحاب الوعي البسيط- تكوين فكرة الشيء الواحد الكامل. من خلال ما يقوله في هذه الفقرة، يبدو أنّ ما نفهمه بشكلٍ طبيعيٍّ هو فكرة وحدة الشيء وبساطته، ومن خلال التأمُّل فحسب يُمكننا أن نُدرك أنّنا مُخطئون في الاعتقاد بأنَّ الشيء الذي نُلاحظه يُشكِّل مجموعاً موحَّداً. ولكن، قد يتوقّع المرء أن يُصرِّح هيوم بالعكس، أي أنّنا نلاحظ أولاً الخصائص المتميّزة والمنفصلة للشيء ومن ثمّ ـ لأنّ العقل يرتبك ويميل نحو نسب الوحدة والكلية إلى الشيء ـ يختلق الخيال مفهومَ المادَّة التي تكونُ فيها جميع الخصائص متأصِّلة.

[14]- المصدر نفسه، ص 25.

[15]- المصدر نفسه، ص 222.

[16]-ولكن في بداية القسم عن “الفلسفة الحديثة” حيث يُميِّز هيوم بين مبدأيْ الخيال، يعتبرُ أنّ هاتين العادتين (أي عادة الاستدلال من السبب إلى النتيجة واعتماد كلّ خاصية على المادَّة) مُختلفتَان تماماً، وتنبثقان من “مبدأين مُختلفين للخيال”.

[17]- تجدرُ الإشارة إلى أنّ المنظومة الفلسفيَّة بالنسبة إلى هيوم تعتمدُ دائماً على منظومة الوعي البسيط لأنّها لا تمتلكُ سُلطةً خاصةً بها. قد يتوقّع المرء أن تتخلّى هذه المنظومة عن مفهوميْ الهويَّة والبساطة بسبب عدم وجود أُسسٍ كافية للتمسُّك بهنا. ولكن هذا ليس هو الحال. بالطبع، السبب وراء ذلك وفقاً لهيوم هو أنّ الطبيعة تجعلُ مهمة التخلّي عن مفهوميْ الهويَّة والبساطة مُستحيلاً.

[18]- المصدر نفسه، ص 225.

[19]- المصدر نفسه.

[20]- هذا يتناقض بشكلٍ مباشر مع ما ادَّعاه هيوم في القسم السابق (حول انبثاق اعتقادنا بالمادَّة وإيماننا بالأسباب من مبادئ الخيال نفسها).

[21]- المصدر نفسه، ص 223.

[22]- المصدر نفسه.

[23]- عند هذه النقطة، قد يختلف معي أولئك الذين يدعمون تفسيراً طبيعيَّاً لرأي هيوم. في بحثه تحت عنوان “شكوكيَّة هيوم: الغرائز الطبيعيَّة والتأمُّل الفلسفيّ”، يعتقدُ Barry Stroud أنّه لا ينبغي فهم شكوكيَّة هيوم المخفَّفة كمجموعةٍ من العقائد أو الحقائق: “إنّه شيء نجدُ أنفسنا معه، أو حالة نجدُ أنفسنا فيها، حينما تُلطَّف أو تُخفَّف التأمُّلات التي تؤدِّي إلى الشكوكيَّة المفرطة عبر ميولنا الطبيعيَّة. وعليه، لا تكون الشكوكيَّة المخفَّفة نموذجاً مُجزأً أو مُخفَّفاً عن الشكوكيَّة الكاملة أو الشديدة التي توصَّل إليها هيوم خلال تفلسفه السلبيِّ المتصلِّب. على وجه الخصوص، إنَّها ليست فرضيَّة عدم إمكاننا التأكُّد من شيءٍ بشكلٍ مُطلق بل إمكانيَّة امتلاك المعتقدات التي هي مُمكنة فحسب”.

Stroud, B. (1977). Hume. London: Routledge & Kegan Paul. (1991).”Hume’s Scepticism: Natural Instincts and Philosophical Reflection” in Philosophical Topics. 19:1:15-40. Page 34.

حتى ولو كان Stroud مُحقَّاً في تحليله لشكوكيَّة هيوم المخفَّفة (أو المعتدلة)، هذا لا يُقوِّضُ ادِّعائي بأنَّه نظراً إلى استنتاجه لا يُمكن التمسُّك بهذه الشكوكيَّة. كيف يُمكن للفيلسوف الذي يعتبرُ جميع مُعتقداتنا خطأ صريحاً أن يعود إلى حالة الوعي البسيط ولا يقلق من ذلك؟ ربما هيوم مُحقٌ في اعتقاده بأنَّ الطبيعة تجعلُ مهمة العيش وفقاً لاستنتاجاتنا الشكوكيَّة أمراً مُمكناً. ولكن أن نعيش تماشياً مع طبيعتنا مع اعتبار عدم كون أيٍّ من مُعتقداتنا حقيقيَّاً أو مُبرَراً يؤدِّي إلى اليأس والقلق لأنّه يُظهر كيف أنه لا يُمكننا فعل شيء لتجاوز أحكامنا الخاطئة. بتعبيرٍ آخر، حتى لو كان هيوم يعني من خلال “الالتزام بالشكوكيَّة المعتدلة” أنه ينبغي علينا نحن الفلاسفة العودة إلى حالة الوعي البسيط، لا أظنُّ أنَّه من الممكن أخذ نصيحته على محمل الجدّْ. حينما نعتبرُ مُعتقداتنا خاطئة أو غير مُبرَّرة، يبدو أن لا شيء يُمكنه مُساعدتنا في الفرار من شبكة الشكوكيَّة المُفرِطة.

 
فروع المركز

فروع المركز

للمركز الإسلامي للدراسات الإستراتيجية ثلاثة فروع في ثلاثة بلدان
  • العنوان

  • البريد الإلكتروني

  • الهاتف