البحث في...
عنوان التقرير
إسم الباحث
المصدر
التاريخ
ملخص التقرير
نص التقرير
 أسلوب البحث
البحث عن اي من هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على كل هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على هذه الجملة

May / 30 / 2020  |  1761خواء الرأسمالية الديمقراطية هل آن أوان السيطرة على عالم ما بعد الغرب؟!

تحقيق: وولفغانغ ستريك المركز الاسلامي للدراسات الاستراتيجية خريف 2019 م / 1441 هـ
خواء الرأسمالية الديمقراطية هل آن أوان السيطرة على عالم ما بعد الغرب؟!

بعد أكثر من رُبع قرنٍ على انقضاء الحرب الباردة، اجتاح الاضطرابُ نظامَ الدولة العالميّ سواء داخل البلدان نفسها أم في مقابل بعضها البعض. السبب الرئيس للفوضى المتنامية يعود في التقدُّم السريع لـ «العولمة» الاقتصادية الرأسمالية الأمر الذي فاق قدرة المجتمعات الوطنية والمنظّمات الدولية على بناء مؤسّساتٍ فعّالة للحُكم الاقتصادي والسياسي. ومع انغراسها في الأسواق وعدم حصول العكس، أصبحت هذه المجتمعات محكومةًبـ«قوى السوق» وليس بحكوماتها ومُواطنيها. أمّا الأسواق والشركات العالمية، فهي محكومة بشكلٍ ضعيف بمؤسّساتٍ ارتجالية وغير حكومية على الأغلب تنصبُّ في ما يُسمّى «الحكم العالمي».

هذه القضية كانت مدار حوارات معمّقة شهدها المؤتمر الدولي الذي انعقد في تايبه عاصمة تايوان في حزيران (يونيو) من العام الماضي 2018م. والجدير بالذكر ان المؤتمر المشار إليه تمحور حول عنوان رئيسي هو: «الانتقال من عالم عربي المحور الى عالم ما بعد الغرب»، وقد تولى الباحث الألماني البروفسور وولفغانغ ستريك عرض وتحليل النتائج الاجمالية للأبحاث والمداخلات.

المحرر


 تظهرُ المشاكل الجديدة يوماً بعد آخر على مستوى تقديم النزاعات السياسية على المصالح والقِيم والهويات، فضلاً عن بروز التعقيدات والمعضلات التكنوقراطية في السياسة الوطنية والدولية. وهذه الفوضى المنهجية أدَّت إلى انتشار الشعور بالحيرة، وقد يُخبّئ المستقبل للعالم الرأسمالي حقبةً من التقلُّب الحادّ حيث تتفكّك المنشآت المسلَّم بها ولا تحلُّ مكانها مُنشآتٌ جديدة.

نموذج التدهوُر:

اتّخذت رأسمالية ما بعد الحرب في الدول الغربية الرئيسية هيئة الرأسمالية الحكومية التي عُرفت أيضاً بـ«الرأسمالية المُدارة حكومياً»[1]. لم تعد الدولة المسؤولة عن تطبيق الرأسمالية بعد الحرب ليبراليةً كتلك التي شهدتها الحقبات السابقة من تاريخ الرأسمالية. انتصرت هذه الرأسمالية على الفاشيَّة في الولايات المتحدة وبريطانيا، ولكن ليس انطلاقاً من كونها رأسماليةً ليبرالية بل لأنّها تمكّنت من تحريك القدرات الإنتاجية للاقتصاد الرأسماليّ في سبيل هدفٍ اجتماعي شامل وهو الانتصار في الحرب، وذلك عبر قيام الدولة بالإشراف على الأنشطة الاقتصادية والتخطيط لها بشكلٍ كبير.

خلال العقود التالية التي شهدت تحوُّل الرأسمالية إلى «اقتصادٍ مُختلط» في الخمسينيات والستينيات، تَواصل التخطيط الاقتصادي الذي طُبِّق على نطاقٍ واسعٍ في الاقتصاد الحربيّ بطرقٍ مُعدَّلة. وقد تجلَّى  الدرس الصعب خلال سنوات الحرب حينما أثبتت الرأسمالية الليبرالية غير المحكومة أنّها تُشكِّلُ كارثةً اقتصادية وسياسية. ومع بروز نموذجٍ آخر في المجتمع الصناعيّ - أي الاشتراكية التي قدّمت بديلاً جذّاباً ظاهرياً عن الرأسمالية- لم يشكّ أحدٌ في ضرورة سيطرة حكومةٍ قوية وناشطة على الاقتصاد الرأسمالي لكي تمنعه من تدمير مجتمعه ونفسه في النهاية.

نُظّمت الرأسمالية المُدارة حكومياً في «العالم الحرّ» على يد الولايات المتّحدة مع انبثاق «الصفقة الجديدة» خلال الثلاثينيات. بقيادة أميركا، وانطلاقاً من تنافسها العالميّ مع الاشتراكية، سُمح بدخول «أنماطٍ رأسمالية»[2] وطنية.

ضمن حدودٍ معيّنة، ما دام ذلك يُساعدُ في تثبيت الحكومات غير الاشتراكية الموالية لأميركا والمستعدّة لدمج عناصر اليسار في الوقائع الاجتماعية الوطنية والمشاركة في إدارة المنظومات الاقتصادية الوطنية الرأسمالية الشبيهة بـ«الصفقة الجديدة».

كانت الرأسمالية المُدارة حكومياً رأسماليةً ديمقراطية، واختلفت عن سابقتها الليبرالية وكذلك عن الرأسمالية الفاشية والاشتراكية الستالينية. مع نهاية الحرب العالمية الثانية، تبنّت الدول الرأسمالية تحت القيادة الأميركية نموذجاً مُشتركاً ونمطيَّاً عن الديمقراطية اتّسم بإجراء انتخاباتٍ حرّة، واعتماد الحكومات على أغلبية نيابية، ووجود أحزابٍ سياسية ذات قاعدة عريضة تتشكّلُ من حزب اليسار الوسط وحزب اليمين الوسط، وتوفُّر وسائل إعلامية ذات تعدُّدية عموماً، وبروز نقاباتٍ تجارية قوية تملكُ حقَّ الإضراب، وعقد اتفاقياتٍ جماعية تمّ التفاوض عليها بحرية لتنظيم الأجور وظروف العمل، وممارسة قمع مُعتدل فقط للمعارضة إلَّا حينما تقتربُ الأمور من البديل السوفياتي-الاشتراكي الذي يُهدِّد بالحلول مكان الرأسمالية الديمقراطية المُدارة حكومياً[3].

والواقع أن الديمقراطية النمطية ساهمت في تصويب ناتج الأسواق الحرّة والانتشار الحرّ لحقوق الملكية الرأسمالية وذلك ضمن حدود. وحُدِّدت هذه الديمقراطية مؤسّساتياً لتكون محرّكاً للتقدُّم الاجتماعي والاقتصاديّ عبر المساومة الاجتماعية، وتعبئة الدعم الشعبيّ للرأسمالية من خلال التدخُّل عبر إعادة توزيع ناتج السوق مع الإبقاء على أُسس الاقتصاد السياسي الرأسمالي الذي يشمل الملكية الخاصة والأسواق الحرة والمنظَّمة. وقد تجلّت المساواة الديمقراطية المتحقّقة عبر إعادة التوزيع في الرواتب وحصص الأجور التي تزايدت بشكلٍ بطيء ولكن مُطّرد، والتوظيف الثابت والمضمون - بل الاعتراف بالتوظيف كحقٍّ اجتماعي وسياسي- والتأمين الاجتماعي الشامل الذي يتكيّف على الدوام مع الحاجات الاجتماعية الناشئة حديثاً، والإمكانيات الاقتصادية المتنامية التي تُفضي إلى «نزع الطابع السلعي» عن الحياة الاجتماعية، كلّ ذلك مع إزالة أسوأ أشكال الظلم الاجتماعي والاقتصادي ممّا بشّر بـ«عصر تراكم» الدَّخل المادي والثروة ومعايير العيش وفُرص الحياة.

تجدر الإشارة إلى أن المفاوضة الجماعية[4]، وانتشار الرعاية الاجتماعية، وإعادة توزيع الدَّخل من الأعلى إلى الأسفل، تناسبت مع سياسة اقتصاد كينزي[5]المبنيّة على ديمقراطية المساواة في سبيل تحويل الاقتصاد الرأسماليّ إلى آلةٍ لصناعة الثروة الجماعية عبر استغلال نزعة محدودي الدَّخل للاستهلاك كمحرّكٍ للنموّ الاقتصادي، وذلك من أجل خدمة الأهداف الديمقراطية من قبيل التوظيف التام.

لقد تفكّكت هذه التركيبة المؤلّفة من الرأسمالية المُدارة حكومياً، وديمقراطية إعادة التوزيع، والنموّ الكينزي في السبعينيات، مع انطلاقة ثورة الليبرالية الجديدة. كان أحد أبعاد هذا التفكُّك وقوعُ تغييرٍ تدريجي- ولكنّه كاد يكونُ تحوُّلياً- على مستوى العلاقة بين الرأسمالية والوطن/الدولة جاء كجزءٍ من عمليةٍ علمانية تمثّلت بـ التدويل الاقتصادي والسياسي والاجتماعي، أي «العولمة». باختصار، كانت الأسواق في السابق مغروسةً في الدول ولكنّ الدول أضحت الآن مغروسةً في الأسواق ممّا تسبّب في النهاية بتحرير المنظومات الاقتصادية السياسية المحليّة، وعملية صناعة السياسية الوطنية، وإن كان بوتيرةٍ مُختلفة وأشكالٍ مُتباينة حول العالم.

مع تحكُّم الرأسمالية بالدول بدلاً من تحكُّم الدول بالرأسمالية، أصبح «التنافس» واقعاً في الحياة الاقتصادية والاجتماعية، وهدفاً وطنياً ينبغي تحقُّقه عبر «الإصلاح» السياسيّ، ومعياراً مؤسّساتياً لـ»إعادة الهيكلة» من دون هوادة. استلزم هذا في الجوهر فصل الوطن/الدولة الديمقراطية عن الاقتصاد الرأسمالي الجديد المتحرِّر المحكوم بالسوق تزامناً مع الانتقال من نموذج النموّ الكينزي إلى الهايكي[6]. طرح النموذج الهايكي ضرورة ازدهار الرأسمالية عبر إعادة التوزيع، ولكن ليس من الأعلى إلى الأسفل بل العكس وذلك بهدف تعزيز دوافع العمل عند النقطة الأدنى، ودوافع الاستثمار عند النقطة الأعلى من قائمة توزيع الدَّخل[7].

التحوُّل من الديمقراطية الوطنية إلى التحكُّم العالمي:

من أين أتت «العولمة»؟ لا يوجد إجماعٌ حول الإجابة ولا يسع المجال هنا للنقاش، ولكنّني أقترحُ أنّها كانت وسيلة لإخراج رأس المال من الأنظمة الاجتماعية الديمقراطية الوطنية خلال مرحلة ما بعد الحرب، مع وضع فائدة كبيرة على رأس المال لدى استخدام تكنولوجيات جديدة في مجال النقل والمعلومات. بشكلٍ عام، يُعدُّ غزوُ الأراضي البِكر بمعناه الأعم أمراً أساسياً في عملية التكديس الرأسمالي (Landnahme)[8].

من الأهمية بمكان القول أنّ العولمة لم تكن لتتقدّم من دون تواطؤ الدول والبلدان التي نُزعت سُلطتها على يد العولمة نفسها، والتي سمحت بتجرُّدها من القوة التي لم يعد بمقدورها ممارستها بشكلٍ مسؤول وبالاستجابة للظروف. وقد برزت أسبابٌ عدّة لهذا الأمر، مروراً بمنافع التجارة الحرّة للمستهلكين، إلى منافع منظومات الإنتاج الدولية للشركات المتوخّية للربح. كان بالإمكان أيضاً الاستناد إلى «العولمة» لتبرير التخفيضات في مجال الإنفاق الاجتماعي أو الأمن الوظيفي وحقوق العمّال عموماً، وذلك بهدف إعادة الانضباط في صفوف العمّال والنقابات التجارية والمواطنين الذين «فسدوا» بعد فترةٍ طويلة من النموّ الثابت والتقدُّم الاجتماعيّ.

ومن المجدي الإشارة هنا إلى أن الأحزاب والحكومات الاجتماعية - الديمقراطية عمدت إلى تجنيد الضغوط التنافسية في الأسواق العالمية من أجل استعادة القدرة على التحكُّم بالشعوب على حساب قيام حكومةٍ شعبية. أما الدول والتحالفات السياسية المختلفة فقد امتلكت غاياتٍ مُتباينة للاعتماد على «العولمة» كأداةٍ سياسية، وتفاوتت هذه الغايات بين الاستراتيجيات الاجتماعية - الديمقراطية الرامية إلى بناء التخصُّص الوطني في الأسواق العالمية إلى التدمير الليبرالي الجديد للتوظيف الصناعي المحليّ في مسار «التوسُّع الماليّ». وتبرزُ الولايات المتّحدة كمثالٍ خاص لدولةٍ تسلُّطية تنظرُ إلى «العولمة» كوسيلةٍ لتوسِعة نظامها المحليّ وبُنيتها الشركاتية إلى سائر العالم، ونزْع السيادة الوطنية في جميع الدول والإبقاء على هيمنة دولةٍ واحدة[9].

في الواقع، قد يكون من الأنسب التحدُّث عن عودةٍ إلى ما كان يُسمّى بـ«اللاسلطة الرأسمالية» والتي لم تكن «لاسُلطة» بالمعنى الحقيقي للكلمة بل حُكماً للأسواق والتراتبيات الشركاتية التي لم تُعدَّل عبر التدخُّل السياسيّ. يُمكنُ تعريف الحكم بشكلٍ عام كنمطٍ حر من تنظيم الإنتاج الذي لا يخضع للمساءلة الديمقراطية ويفتخرُ بذلك.

لقد تفاوضت الدول والشركات والمنظّمات العالمية وجميع أنواع ممثّلي «المجتمع المدني» - المعيّنين من قبل جهاتٍ مُحدّدة أو من قِبل أنفسهم- حول موضوع الحكم. هذا الحكم يتحيّزُ لمصلحة الذين يُطبّقون حقوق الملكية الخاصة ويستطيعون أن ينزعوا من طرفٍ واحد وسائلَ الإنتاج الخاضعة لسيطرتهم من الولايات والمناطق التي ترفضُ الإذعان لمتطلّباتهم. في ظلّه، لا توجد قوةٌ شعبية تستطيعُ موازنة القوة الخاصّة لرأس المال، وإن وُجدت فإنّها تكونُ ضعيفةً.

من الناحية الفكرية، يُوصَف الحكم - وعلى وجه الخصوص الحكم العالميّ- بأنّه تفويض «الخبراء» بـ«حلّ المشكلات» واستثناء الأشخاص الذين يُعتبرون عُرضةً للغوغائية الشعبية عن عملية اتّخاذ القرار لأنّهم لا يستطيعون فهم القضايا المعقَّدة التي تنشأُ في الاقتصاد العالمي. بغضِّ النظر عمّا يستطيعُ الحكم تحقيقه، إلا أنّه يعجزُ عن تنفيذ وظيفتين أدّتهما الرأسمالية الديمقراطية عموماً: تصحيح نتائج السوق في اتّجاه المساواة، وكبح النزعات الداخلية للاقتصاد الرأسمالي نحو التسليع غير المحدود للعمل والأرض والمال، وذلك عبر التنظيم الفعّال.

في ظلّ الحكم العالمي، تعني الرأسمالية غير المحكومة مُطلقاً أو المحكومة بشكلٍ قاصر أمرين: الرأسمالية المحرَّرة من التحكُّم الديمقراطي، والرأسمالية المفتقِدة للاستقرار السياسي. وكنتيجةٍ للثورة الليبرالية الجديدة، هي اليوم أكثر رأسماليةً، وأقلّ استقراراً وعدلاً، وأكثر اتّجاهاً نحو الأزمات، ومدفوعةً أكثر بالسوق، وأقل قدرةً على الحفاظ على نظامٍ اجتماعي مُعتمد.

فبعدما استخلصت الرأسمالية المتطوِّرة نفسها من الساحة بعد الحرب، انخفضت مُعدّلات النموّ، وتنامى انعدامُ المساواة، وتزايد الدَّين العام والخاص بنسبةٍ فاقت بشكلٍ كبير النموّ الاقتصادي. وتزامناً مع النموّ المنخفض، ارتفعت معدّلات الربح، وهبطت أسهم العمل، ووصل انعدام المساواة إلى مستوياتٍ غير معهودة منذ القرن التاسع عشر. وقد ترافقت الرأسمالية المنزوعة من الطابع الاجتماعي والمتّجهة نحو نموذج النموّ الهايكي مع إعادة تشكيلٍ عميق للمجتمع الرأسمالي يخضعُ لحكم الأقلية[10].

حريٌّ القول أن الرأسمالية بعد الحكومة، كما الرأسمالية الليبرالية قبل الحكومة، هي رأسماليةٌ متأزِّمة. لقد ولّى زمن ثقة الحكومات الوطنية بسيطرتها على الاقتصاد الرأسمالي، تلك الثقة التي كانت تدفعها إلى إصدار الوعود لناخبيها بحصول نموٍّ مُستقر من دون التعرُّض للصعود والهبوط الدوري، والخلوّ من الأوهام الاقتصادية والأزمات المالية والتغيير البُنيوي غير المحكوم.

تُشكِّلُ الرأسمالية في ظلّ الحكم الدوليّ عالماً من الحيرة، للجميع أساساً، وخصوصاً لغير القادرين على نقل حيرتهم إلى الآخرين، والمحصورين في نقطة الاستقبال داخل منظومة إدارة الحيرة الآخذة بالتطوّر على أيدي الشركات الكبيرة والعائلات الحاكمة. من دون الحكومة، تعني الحيرة أموراً مُتباينة بالنسبة إلى الطبقات الاجتماعية والمناطق والدول المختلفة. يتجلّى الأمر في انهيار الأهرام المتضخِّمة من الدَّين، وطرح أسواق العمل بشكلٍ مُتنامٍ لوظائف غير ثابتة، وفي نتائج اختبارات السياسة المالية التي تُجريها المصارف المركزية «المستقلّة» التي لا تخضعُ للمساءلة الشعبية. يتجلّى أيضاً في إعادة تصدير العنف على هيئة الإرهاب من الدول الطَرَفية التي دمّرتها الأزمات والتدخُّلات العسكرية من قِبل القوى المسيطِرة على المنظومة الرأسمالية العالمية، تلك القوى التي تسعى لإملاء شروط «العولمة» الخاصّة بها على الدول الطَرَفية عبر «الحكم العالمي».

الثورات الشعبية:

تسبّبت العولمة بوقوع اختراقٍ عميقٍ للمجتمعات المؤلَّفة وطنياً من قِبل الأسواق والشركات العالمية. وقد تمثّل إجماع اليمين واليسار الوسط خلال العقدين أو العقود الثلاثة الماضية - أي عصر الثورة الليبرالية الجديدة- في ضرورة انفتاح المنظومات الاقتصادية السياسية الوطنية على العالم واندماجها في الأسواق العالمية للرأسمالية الحديثة لكي لا تتقهقر بشكلٍ يائس في المنافسة العالمية. تطلَّب الأمر إزالة الضوابط التنظيمية للحماية الاجتماعية، أو إعادة صياغة هذه الضوابط بهدف زيادة «التنافس» الخارجي والداخلي بين المجتمعات الاقتصادية الوطنية.

من خلال هذه العملية، تنامى عدد «الخاسرين» في الميدان الاقتصادي والثقافي بشكلٍ بطيء ولكن مُتواصل حتّى بلغ الحد الذي تحوّل فيه إحباطهم إلى قوةٍ سياسية. حلّت تلك اللحظة في آنٍ واحدٍ تقريباً على طول المجتمعات الرأسمالية المتطوِّرة حينما أصبح معروفاً في النهاية أنّ التعافي السريع الموعود من الأزمة العالمية للعام 2008 كان مجرّد وهم. واتّضح أيضاً أنّ النموّ بعد «الكساد الكبير» -إلى الحدّ الذي ظهر للعيان- كان مُوزّعاً بشكلٍ غير عادل على نحوٍ يفوقُ ما سبق، وأنّ نسبة واحدٍ بالمئة فقط قد سيطرت عليه بشكلٍ تام في بعض الدول. إحدى النتائج برزت في خسارة الأحزاب السياسية - اليمين الوسط واليسار الوسط التي مثَّلت الإجماع الدوليِّ- للدعم. لطالما انخفضت المشاركة الانتخابية في عالم «منظّمة التعاون الاقتصادي والتنمية» (OECD)[11]، ولكنّها ارتفعت الآن في عددٍ كبيرٍ من الدول مع تحوُّل الناخبين نحو أحزابٍ أو تحرُّكات جديدة لم تعد وسطية وأصبحت أكثر تطرُّفاً وانتماءً بمجملها إلى اليمين، والتي أطلق عليها مُنافسوها صفة «الشعبوية».

لقد عجز حزب اليسار الوسط ذو التوجُّه الدوليّ في التعبير عن الحركة الصاعدة المضادّة للموجة الجديدة من التقدُّم الرأسمالي تجاه «مجتمع المعرفة» و«ما بعد الصناعة» العالميّ أو «الاقتصاد الخِدماتي»، وما تبقّى للخاسرين كان اللجوء إلى القومية وأحياناً العداء للمهاجرين. ولم تُحقِّق «النزعة الشعبية»، سواء كانت يمينية أم يسارية، أغلبيةً حاكمة في أيّ دولة - ربما باستثناء إيطاليا والولايات المتّحدة- ولكنّها أصبحت الآن قويّةً في كلِّ مكانٍ تقريباً من العالم الغربيّ ممّا يجعلُ تشكيل الحكومات أمراً مُعقَّداً، إن لم يكن مُستحيلاً، بالنسبة إلى الأحزاب الديمقراطية المنتمية إلى اليمين الوسط أو اليسار الوسط[12].

حتّى في الأماكن التي لا يكونُ فيها الأمر كذلك، تجدُ الحكومات نفسها مضطرّة للاستجابة بطريقةٍ ما إلى مطالب المعارضة الجديدة وعناصرها. يأتي على رأس هذه المطالب وضْع القيود على التجارة الحرّة، والسيطرة على الهجرة من أجل حماية الوضع الاقتصاديّ للسكّان المحليّين من التدهور بشكلٍ أكبر وبهدف حفظ حياتهم الاجتماعية من التفكُّك المتواصل. ومن بين الانشقاقات السياسية والاجتماعية الجديدة التي تُعبّئ سياسة الديمقراطية الرأسمالية يبرز انقسامٌ متنامٍ بين المدن الكبيرة «ذات الطابع الدولي» أغلب الأحيان من ناحية، وبين الريف المحيط بها من ناحيةٍ أخرى.

تجدر الإشارة هنا إلى أن الانقسام لا يتعلّق فقط بالدَّخل، رغم أنّ المدن قد انبثقت كأقطاب نموّ جديدة في مجتمع ما بعد الصناعة، ولكنّه يتعلّق أيضاً بالقيم الاجتماعية وأساليب الحياة الثقافية،كما يتّضحُ على وجه الخصوص في التصويت البريطانيّ على الانفصال عن الاتّحاد الأوروبيّ، بينما الحياة في المدن العالمية «ذات طابع دولي» و«ليبرالية» وتقبلُ المنافسة العالمية والهجرة، إلا أنّ الناس في المناطق الداخلية - وبعضهم اضطرّوا للانتقال من المدن لعدم قدرتهم على تحمُّل نفقات العيش هناك- يميلون للشعور بأنّ دولتهم التي لا تعتبرُ أنّ وظيفتها هي حماية مُواطنيها من المنافسة الأجنبية قد هجرتهم وتخلّت عنهم.

تمتدُّ أزمة منظومة الدولة الحديثة لتشمل أطرافَ الرأسمالية وليس فقط مراكز الرأسمالية نفسها. فدول بريكس الرئيسية (BRICS) - التي مُدحت ذات يوم كمناطق رئيسية تحتضنُ النموّ الاقتصاديّ المستقبلي- تتجه الآن نحو الفساد والركود (البرازيل، روسيا، وجنوب أفريقيا)، بينما يتنامى عدد «الدول الفاشلة» مروراً من أفريقيا الغربية، وصولاً إلى جنوب شرق آسيا. حيثما اختفت الآمال بوقوع «تقدُّم» سلمي نحو مستويات ازدهار أميركا الشمالية وأوروبا الغربية، ترك الناسُ أوطانهم ساعين للالتحاق بالعالم الرأسماليّ المتطوِّر عبر الهجرة إلى هناك.

في الوقت نفسه، يؤدّي التفكُّك المتصاعد للنظام الاجتماعي والسياسي في المجتمعات الطَرَفية- الذي يأتي غالباً كنتيجة المغامرات العسكرية الغربية نيابةً عن النخب الوطنية المتكاتِفة- إلى نشوء تحرُّكاتٍ ألفية مُنظَّمة حول الفكر الديني المتطرِّف. ينقلُ بعض هؤلاء الأفراد إحباطهم من الدول الطَرَفية إلى مراكز العالم الرأسماليّ حيث ينخرطون في أنماطٍ إرهابية من الحرب على مستوى الثقافة والطبقية الاجتماعية، ويُجنِّدون المهاجرين من الجيل الثاني أو الثالث في مناطقهم. وتتمثّلُ النتائج في وقوع المزيد من التدخُّلات العسكرية في الدول الطَرَفية، وبروز الضغوط في مُجتمعات الرأسمالية لإحلال «الأمن القوميّ» المعزَّز الذي يشملُ وضع قيودٍ أشدّ على الهجرة.

الفوضى الدولية:

على المستوى العالمي، قد يؤدّي انحدار الولايات المتّحدة إلى أن تبقى الرأسمالية العالمية من دون دولة حاملة ومُسيطِرة، وهو ما احتاجته الرأسمالية على مدى التاريخ من أجل تقدُّمها. لقد خسرت أميركا حروبها في الفترة الأخيرة من فييتنام إلى أفغانستان، تزامناً مع وقوع اضطراباتٍ سياسية واقتصادية محلية ناجمة عن تخفيض التصنيع والتوسُّع الماليّ. ولقد ساهم الفشل العسكري والانحلال المحليّ الاقتصادي والاجتماعي في انتخاب دونالد ترامب رئيساً للبلاد مع وعوده بإحلال سياسة الحماية الاقتصادية وسياسة الانعزال. ومعلوم أن سياسة الانعزال كانت قائمةً حتّى في عهد أوباما مع قراره بعدم إرسال القوّات البرّية إلى ليبيا وسوريا، ونأيه عن النزاع الدائر بين إسرائيل والفلسطينيين، وانسحابه اللَّامبالي من العراق، وإعلان انسحابه من أفغانستان.

والحال هذه، يتحتّمُ على الدول الحاملة للرأسمالية تزويدَها بنظامٍ عالميٍ ثابت، وعلى وجه الخصوص إمدادها بالأموال المعتمدة وإحلال السلام عند أطرافها. كذلك، ينبغي إبقاء الأنظمة الزبونة في موقعها الحاكم من أجل تأمين مخزونٍ مُعتمد من المواد الأولية الزهيدة ونفوذٍ مضمون في الأسواق الجديدة. لقد سيطرت الولايات المتّحدة في العام 1945 على دور الرأسمالية المتسلّطة دولياً، وهو مقامٌ كانت قد حازت عليه جينوفا وهولندا وبريطانيا على التوالي. حصل ذلك بعد وقوع نزاعٍ مُدمِّر في الثلاثينيات حول كيفية تنظيم الاقتصاد الدولي بين الديمقراطتين الإنكليزية والأميركية من جهة، والقوى الأمبريالية الجديدة المتمثِّلة بألمانيا النازية واليابان من جهةٍ أخرى، وقد تسبّب هذا الأمر بأسوأ كارثة في تاريخ البشرية.

ما يبدو الآن هو وجودُ فراغٍ مُتصاعد في السلطة على مُستوى منظومة الدولة العالمية، ما قد يُساهمُ في دفع الصين إلى المطالبة بحصّتها في الحكم. فبما أنّ الرأسمالية الصينية المستنِدة إلى الدولة المتسلِّطة تشهدُ نمواً في الحجم والقوّة، فإنّها تحتاجُ إلى تأمين أطرافها كما غيرها من مراكز الرأسمالية السابقة. والواقع أن النموّ الرأسمالي يستحيلُ أن يتحقّق من دون انتزاع الأراضي سياسياً، وهذا يترافقُ عادةً مع توفير عُملةٍ دولية ثابتة ونظام اقتراض مدعومٍ سُلطوياً. هذا الأمر تسبّب في السابق بوقوع نزاعاتٍ دولية حتّى مع وجود قوةٍ رأسمالية مُهيمنة واحدة. والظاهر الآن أنّ الدولة الصينية مُصمِّمة على إقامة علاقاتٍ خاصّة بها تجمعُ بين المركز الرأسمالي ودول طَرَفية، وهذا سوف يتعارضُ حتماً مع المصالح الراسخة للدولة المسيطِرة الآفلة: الولايات المتّحدة. (هناك أيضاً احتمال أن تُصبح روسيا أيضاً دولة مُتسلّطة ثالثة يعتريها الخوفُ من أن تُصبح دولةً طَرَفية تتنازعُ عليها الدولتان السابقتان).

قد يقول قائل إن الصين والولايات المتّحدة سوف تتوصّلان إلى طريقة لتقسيم العالم بينهما، ولكن لا توجد سابقة تاريخية شهدت إدارةً مُشتركة سلمية للرأسمالية العالمية، ولا حتّى بين بريطانيا والولايات المتّحدة خلال فترة الحرب. عليه، ونظراً إلى السياسة الوطنية التائهة للولايات المتّحدة في عصر أفولها، فإنّ خطر وقوع صدامٍ عنيف بينها وبين الصين قد يكونُ أمراً مُحتملاً. فمنذ بعض الوقت، جرّبت الدول الكبيرة نماذج جديدة من التعاون العالميّ ومن الأمثلة على ذلك توسعة اجتماعات قمة مجموعة الستّ خلال السبعينيات لتُصبح مجموعة العشرين بعد العام 2008. ولكن بدلاً من تطوير حكومةٍ عالمية، تحوّلت مجموعة العشرين - كما ظهر مجدّداً في هامبورغ عام 2017- إلى استعراضٍ في العلاقات العامة للقادة الوطنيين ووسائل الإعلام الجماهيرية الخاصّة بهم كلّف مئة مليون دولار.

لا يُمكن أن تتوصّل المعارضة العالمية المدّعية والمعيَّنة ذاتياً والمفتقدة للشرعية إلى قراراتٍ فعّالة، فتلك المعارضة يمنعها رجالُ الشرطة من الاقتراب من الاجتماعات. في هذه الأثناء، تملأ الشركات المالية الضخمة وغيرها من المؤسّسات الدولية الفراغ في «الحكم العالمي»، وهذا يتركُ الحكومات والشعوب تحت رحمة «الأسواق» لتحكُم بسياساتها ومجتمعاتها، خصوصاً الأسواق المالية.

القوى الطاردة:

تخضعُ منظومة الدولة الحديثة الموروثة عن فترة ما بعد الحرب لقوىً طاردة قويّة، ليس في ما بين البُلدان فحسب ولكن أيضاً داخل الدول نفسها. تتعلّقُ هذه القوى بطريقةٍ أو بأخرى بعملية اختراق الأسواق العالمية للحكومات الوطنية، وإضعاف قدرتها على حماية التلاحُم الاجتماعي. ومع توجُّه الدول بشكلٍ طوعيٍ تقريباً إلى توكيل «قوى السوق» بمهمة تحديد بُنية مجتمعاتها، تتّجهُ الاختلافات بين الرابحين والخاسرين في المنافسة العالمية نحو الازدياد، وذلك على مستوى الطبقة الاجتماعية والمنطقة أيضاً.

وبما أنّ تنظيم مصالح الطبقات الاجتماعية هو أصعب من تنظيم المصالح المناطقية - فالرأسماليون لم يعودوا على مسافةٍ قريبة من المجتمعات الوطنية بينما الدول الوطنية تبقى كذلك- لذا فإنّ فقدان الثقة بقدرة الحكومة المركزية على حماية المجتمعات من نزوات الأسواق العالمية يؤدّي إلى ارتفاع المطالب بمزيدٍ من الاستقلال المحليّ والإقليمي. بالنسبة إلى الكيانات السياسية الكبيرة التي تفرضُ العولمة وتسعى وراء الازدهار الوطنيّ عبر دمج البُعد الوطني في الأسواق العالمية، يتمثّلُ الأمل في قيام وحدات حُكم أصغر حجماً وأكثر تجانساً واستجابةً على المستوى المحليّ تحفرُ فراغاتٍ في السوق العالمية حيث تستطيعُ المجتمعات الأصغر حجماً تطويرَ قدراتها الخاصّة وقواها التنافسية.

تُواجه الضغوط الطاردة معارضةً محورية الاندفاع في الحكومات المركزية والمنظّمات الدولية الأمبريالية. فعلى المستوى الوطني، يبدو أنّ حجم الدولة والتجانس الجماعي وقوة التقاليد الديمقراطية هي عوامل مهمة تُحدِّد نتائج النزاعات الدائرة حول الهندسة السياسية. في هذا الإطار، تميلُ الدول الكبيرة إلى أن تكون أكثر تنوُّعاً داخلياً من الدول الأصغر حجماً، وبالتالي عُرضةً لمطالب التحوُّل إلى اللَّامركزية أو الانفصال إذا لم يُمنح المطلب الأول. وبما أنّ الحجم الكبير يحملُ معه ثغرةً على مستوى القوّة الدولية، فمن غير المرجَّح أن تتّخذ حكومات الدول الكبيرة الاتّجاهات الانفصالية باستخفاف، ومن الأمثلة على ذلك الحرب الأهلية الأميركية التي دارت حول وحدة الولايات المتّحدة كدولةٍ بحجم قارة. قد تُشيرُ الاتجاهات الحالية نحو أشكالٍ أكثر تسلُّطية من الحكم في دولٍ كبيرة مثل الصين والهند وروسيا إلى تنامي ضعف الدول الكبيرة مقابل الحركات المطالِبة بمزيدٍ من الاستقلال المحليّ والعرقيّ بالإضافة إلى وجود تعقيداتٍ متزايدة عموماً على مُستوى حفظ وحدة المجتمعات المتنوِّعة في وجه ضغوط السوق التي تجعلها أكثر اتّجاهاً نحو اللَّامساواة.

حينما نأخذ الولايات المتّحدة كمثال، فإنّ منظومة حُكمها فاقت في لامركزيَّتها بشكلٍ كبير الدول الثلاث المذكورة آنفاً على مدى التاريخ ممّا سمح بمساحةٍ واسعة من التعبير عن الحاجات والمصالح المحلية المحدَّدة[13]. هنا، لم تؤدِّ الضغوط الطاردة التي تسبّبت بها الاختلافات المحلية المتزايدة إلى مركزيةٍ مُتسلِّطة -على الأقلّ ليس لحدِّ الآن- بل إلى شلل الحكومة الوطنية من جرّاء المواجهة بين «الشعبوية» الاستعراضية ما بعد الديمقراطية وبقايا دولةٍ أمبريالية عميقة مبنية على تركيبة القوة العسكرية ووكالة المخابرات[14].

قد تكونُ الدول المتوسِّطة الحجم التي لا قدرة لها على تبنّي الطموحات الأمبريالية - خصوصاً إذا كانت مُتنوِّعة عرقياً وديمقراطية سياسياً، ولكنّها مُفتقدة للبُنى الفيدرالية العميقة- أكثر عُرضةً لأن تتأثّر بالاتّجاهات الطاردة[15]. خلال فترة ما بعد الحرب، سيطرت الدول المتوسِّطة الحجم والمتنوِّعة عرقياً على القوى الطاردة في أوساط مُواطنيها، وليس فقط من خلال التفويض السياسي بل أيضاً عبر ترسيخ الصراع كـنزاعٍ طبقيّ بين رأس المال والعمل[16]. ولا بد من ذكر أن المساومة الطبقية المفاوَض عليها بين أرباب العمل ونقابات العمّال وبين الأحزاب السياسية المؤيِّدة لقطاع الأعمال والمؤيّدة للنقابات العمّالية، تجاوزت الانقسامات العرقية، وبالتالي فإنّها امتصّت أغلب احتمالات نشوب الصراعات في المجتمعات. فضلاً عن ذلك، ومن خلال إدارة عملية إدخال المنظومات الاقتصادية السياسية الوطنية في الأسواق العالمية، وكبح الضغوطات التنافسية، وتقديم نوعٍ من الحماية ضدّها، أنشأتْ الدول الوطنية بعد الحرب عناصر ولائيَّة مُتطابقة معها ولو كانت أقلّ تجانساً من الناحية العِرقية.

مع إلغاء الليبرالية الجديدة لعملية تأسيس الصراع الطبقي وسحبها للحماية الاقتصادية الوطنية سعياً وراء الطابع الدوليّ - أو إحداث الدمج الأوروبي في القارة الأوروبية- كان لا بدّ من أن تستعيد الانقسامات المحلية العرقية شُهرتها من جديد. انطبق هذا الأمر خصوصاً حيثما لا تسمحُ البُنية المؤسّساتية للدولة بوقوع ردودٍ مُستقلّة أو مناطقية مُعدَّلة أو محلية.

تُعدُّ المملكة المتّحدة وإسبانيا، وهما دولتان ديمقراطيتان مُتوسِّطا الحجم ومُتنوّعتان عرقياً، أوضح مثالَين عن الانفصالية المناطقية: فالأولى تظهرُ عبر سكوتلاندا وويلز وربما أيضاً شمال إيرلندا، بينما تظهرُ الثانية في كاتالونيا ومقاطعة الباسك ومناطق عدّة أخرى. كما برزت حركاتٌ انفصالية أيضاً في فرنسا (كورسيكا) وإيطاليا (وادي بو وغيرها من المناطق)، وبلجيكا التي تَحدُّ منظومةٌ سياسية فيدرالية مُعقَّدة للغاية من الحركة الانفصالية فيها. إلا أنّ المملكة المتّحدة وإسبانيا تملكان منظومتين فيدراليتين ارتجاليَّتَين ضعيفتين وتبدوان عاجزَتين عن الردّ على الضغوط الطاردة عبر تفويضٍ مُنظَّم يُتيحُ المزيد من الاستقلالية المحلية والإقليمية.

من المثير للانتباه أنّ الحكومات الفرنسية حاولت منذ بعض الوقت نزع المركزية عن الدولة الفرنسية ولكنّها لم تُحقِّق نجاحاً كبيراً في ذلك على نحو الإجمال. أمّا في ما يتعلق بألمانيا التي تبدو مُتجانسة عرقياً، فقد يكون الاستقرار النسبيّ الذي تتمتّعُ به ناجماً عن منظومةٍ حكومية فيدرالية مُفصَّلة تشغَل القوى الطاردة حيثما وُجدت بعملية إدارة مناطقها مع تفاعلٍ وثيق مع الحكومة الفيدرالية وحكومات الـLنnder (الدول) الأخرى[17].

من المفيد القول أن القومية ضمن الدولة - كما القومية الوطنية- ينبغي فهمها كردّ فعلٍ على ثورة الليبرالية الجديدة. فالانفصالية القُطرية في أوروبا اليوم تتشاركُ مع قومية الدولة الوطنية المعروفة أيضاً بـ«النزعة الشعبية اليمينية» في معارضتها لعملية فتح الأسواق («العولمة») عبر التمركز السياسي. وإذا كانت  الأولى تقاتلُ لتفادي هذا الأمر فالثانية تسعى لتفكيكه، لكنهما تطالبان معاً بنزع المركزية حيث تنادي الأولى بنقلها من «أوروبا» إلى الدول الوطنية، بينما تُطالب الثانية بنقلها من الدول الوطنية إلى المناطق والمجتمعات ضمن الدولة.

يُصرُّ القوميون الوطنيون على إمكانية استعادة الوظائف الحمائية للدولة الوطنية بعد إخفاق الوعود بإحلال الازدهار الليبرالي للجميع. أمّا القوميون ضمن الدولة، فقد تخلّوا عن الدولة الوطنية القائمة، ويُطالبون بدولٍ وطنية خاصّة بهم  تكونُ جديدة وأصغر حجماً بهدف إعادة الحماية على الصعيد الإقليمي. وتجدرُ الإشارة إلى أنّ الفريقين لا يودّان توسعة الصلاحيات السياسية، فالقوميون الانفصاليون يُريدون وحداتٍ أصغر من السيادة، بينما القوميون الوطنيون - على خلاف القوميين في الماضي- يُطالبون بحماية الحدود والسيادة الوطنية وإعادة ترسيخها بدلاً من إلغائها بهدف جعل الكيانات السياسية أكبر حجماً[18].

إن الوعود بإعادة مُساومة الطبقة الديمقراطية على المستوى الدوليّ أو ضمن الدولة - فضلاً عن المستوى العالميّ- تبدو وهمية. حينئذٍ، لن تملك حركة العمل ضمن الدولة نظيراً مُنظَّماً من جهة رأس المال، وليس هناك أيّ دولةٍ عالمية قادرة ومُستعدّة لتنظيم رأس المال العالميّ في سبيل حُكمٍ مُشترك ومُتفاوَض عليه للاقتصاد (كما كان شائعاً على المستوى الوطنيّ في عهد النقابوية الجديدة)[19]. كنتيجةٍ لذلك، يدورُ الهمّ الأساسي بين الديمقراطيات الغربية اليوم حول الحجم الصحيح لـ«السيادة»، أي بمعنى الوحدات السياسية المستقلّة التي تسعى لتأمين مكانٍ لها في الاقتصاد السياسي العالمي. تتمثّل الفكرة هنا في الاستفادة من التضامن الإنتاجي المحليّ وتطويره بحثاً عن كوة في السوق العالمية حيث يُمكن تطبيق المصلحة التنافسية المحلية بطريقةٍ مُربحة.

حريٌّ القول أن البحث عن إعادة حيازة الاستقلال المحليّ في حدودٍ مُناسبة وطنياً، أو ضمن الدولة وتحت أنظمةٍ دولية تعاقدت عليها أطراف عدّة، يختلفُ عن الوحدات السياسية الموجودة والتجارب التاريخية والهويات الاجتماعية والعلاقات الاقتصادية التي تُشكِّلها. من الأمثلة على ذلك الديمقراطيات الأوروبية الصغيرة التي ليست أعضاءً في الاتّحاد الأوروبي أو الاتّحاد المالي الأوروبي (EMU) مثل سويسرا (التي تتّسم بلامركزيةٍ عالية من الناحية السياسية) والنروج والسويد والدنمارك، وجميعها ناجحة للغاية اقتصادياً. تبرزُ أيضاً حادثة مغادرة بريطانيا للاتّحاد الأوروبي بحثاً عن مزيدٍ من الاستقلال الاقتصادي، وقد تترافقُ عملية خروج بريطانيا (Brexit) مع تفويضٍ إقليمي مُعجَّل.

يُمكن أن يتّخذ الاستقلال المحليّ ضمن الدولة الوطنية ذات الجنسيات المتعدّدة أشكالاً كثيرة ومُختلفة للغاية، والتحرّكات الإقليمية مُتباينة وتتطلّب إجاباتٍ مُختلفة. أحياناً، كما الحال مع تشيكوسلوفاكيا في العام 1992، قد تنفصل الدول بنحوٍ سلمي، ولكنّ هذه حالةٌ استثنائية فمن جهةٍ ثانية أدّى تفكيك يوغوسلافيا إلى نشوب حروبٍ أهلية ووقوع تدخُّل عسكري خارجي. من أجل تفادي الانفصال وتكاليفه الباهظة المحتملة (تخيّل الصعوبة التي ينطوي عليها التفريق بين الإسبان والكاتالونيين إذا ما حصل الانفصال الكاتالوني، أو بين البريطانيين والسكوتلانديين إذا انفصلت سكوتلاندا عن المملكة البريطانية)، قد تبرز الحاجة لتقديم حلولٍ إبداعية مُعدَّلة حسب الطلب[20].

حتّى قبل «النزعة الشعبية» القومية، لم يبرز مثالٌ على مدى تاريخ ما بعد الحرب عن مواطني دولتين وطنيتين أو أكثر سمحوا طوعاً بتسليم سيادتهم إلى دولة عُظمى تتخطّى الحدود القومية[21]. في الواقع، تنامى عدد الدول المستقلّة تحت القانون الدوليّ منذ نهاية الحرب العالمية الثانية حيث ارتفع من 90 دولة في العام 1950 (60 منها مُنخرطة في الأمم المتّحدة)، إلى 202 دولة (بينها 192 في الأمم المتّحدة عام 2010). كانت الأسباب الأساسية وراء ذلك التحرُّر من الاستعمار وتفكُّك الاتّحاد السوفياتي ويوغوسلافيا. أغلب الدول المعاصرة هي صغيرة الحجم، وكان مُتوسِّط عدد سكّانها في العام 2010 نحو 7.1 مليون. ورغم أنّ هذا يجعلها عُرضةً للاعتداءات الأمبريالية إلا أنّ الدولة السيادية كشكلٍ من التنظيم السياسي تتمتّعُ بدعمٍ كبير، ويُفترضُ أنّ ذلك يعودُ أيضاً إلى مرور السيادة الوطنية اليوم بأفضل حالاتها لأنّ القانون الدولي يحميها. بالإضافة إلى ذلك، ورغم أنّ العديد من الدول الموجودة حالياً  بعيدة عن الديمقراطية وبعضها واقعٌ في قبضة أسياد الحرب والزعماء اللصوص الذين يستغلّون مواطنيهم من دون رحمة، تبقى الدول هي المنظّمات السياسية الوحيدة التي يُمكن من حيث المبدأ تحويلها إلى الديمقراطية، وإن كان ذلك في آخر المطاف عبر الثورة المسلَّحة[22]. من الواضح أنّ الاتّجاه التاريخي -خصوصاً في عصر العولمة الاقتصادية- ينحو إلى مزيدٍ من سيطرة الدولة الوطنية ويتّجه نحو الوحدات الأصغر من الحُكم وليس الأكبر.

أوروبا والدول الوطنية:

ماذا يعني هذا الأمر بالنسبة إلى الاتّحاد الأوروبي؟ إنّه يُشيرُ إلى أرجحية سيطرة القوى الطاردة على القوى المندفعة نحو المركز - سواء كان ذلك على مستوى الدولة الوطنية أو التي تتخطّى الحدود القومية- ممّا يجعلُ السعي وراء المركزية الموَّحدة أمراً مُدمِّراً للدمج. لن تُقدِم أيّ دولة من هذا الاتّحاد على نقل سيادتها الوطنية طوعاً إلى مدينة بروكسل، وتجدرُ الإشارة إلى أنّ العديد من هذه الدول- إن لم نقل كلّها- قد انضمّت إلى الاتّحاد الأوروبي بهدف تثبيت دولها الوطنية[23].

إذا أصبحت «الوحدة المتنامية بين الشعوب الأوروبية» (كما في معاهدة ماستريخت) وثيقةً للغاية، من الأرجح أن تأتي النتيجة على هيئة الانسحاب، والمثال الأول على ذلك كان بريطانيا، وسوف يطردُ الامتثال المزيَّف الواقع على حافّة الانسحاب التعاونَ الصادق (كما في المجر أو غيرها من بُلدان أوروبا الشرقية). سيؤدّي الاتّحاد القسري - أي «الإصلاح» الثقافي أو الاقتصادي المفروض مركزياً- إلى استخدام السيادة الوطنية في سبيل المقاومة الوطنية ممّا سوف يُقوِّضُ أيَّ وحدةٍ أوروبية تحقّقت على نحوٍ طوعي عبر السنوات. على أيّ حال، تغفلُ أحلام تحقُّق دولة أوروبية مندمجة ومترافقة مع الديمقراطية أنّ الحجم الكبير للدولة يجلبُ معه تنوُّعاً داخلياً كبيراً، وبالتالي ينبغي لكي يكون مُستداماً أن يُدفع ثمنه في الدولة الديمقراطية بنزع المركزية، وكلَّما كانت الدولة أكبر كان الثمن أكبر.

هذا الأمر يجب أن ينطبق في أوروبا على وجه الخصوص، حيث يوجد تراثٌ أقدم من الدولة الوطنية للمساومة عليه في مسار بناء الدولة التي تتخطّى الحدود القومية. في «الولايات المتّحدة داخل أوروبا» (وهو مصطلحٌ يستخدمه أحياناً «الأوروبيون» المتحمِّسون من أمثال Martin Schulz المرشَّح المهزوم من «الحزب الديمقراطي الاجتماعي الألماني» لمنصب المستشار الألماني في العام 2017)، تندكُّ الحكومة القائمة على الأغلبية الديمقراطية بشكلٍ حتميٍ وبعمق في التراتبية المؤسّساتية للحكم - على مستوى الدول الوطنية السابقة التي تحوّلت إلى دولٍ فيدرالية أو حتّى أدنى من ذلك- بينما الديمقراطية على المستوى المتوسِّط لا تستطيعُ إلَّا أن تأتي على هيئة التوافق، وعدم الاعتماد على الأغلبية، وعدم إعادة التوزيع بشكلٍ كبير. ففرضُ قيم التسلُّط من الأعلى على مجتمعات المواطنين المختلفة لا يملكُ أيَّ شرعيةٍ دستورية في هذه الظروف، ولن يحمل قوةً كافية ما دامت التدابير العسكريّة القسرية مُستبعدة.

إن الاتّحاد الأوروبي المتمتِّع بالديمقراطية - والذي لا يُعاني من انعدام الاستقرار الناشئ عن الطموحات الأمبريالية للدول الأعضاء مثل فرنسا وألمانيا أو كلتيهما معاً- لا يُمكن أن يُشكِّل دولةً عُظمى أوروبية. فالمشاعر المعادية للتكنوقراطية والمركزية تشتدُّ في أوروبا وحتّى في بُلدان مثل ألمانيا وفرنسا فضلاً عن المملكة المتّحدة أو دول شرق أوروبا. إذن، ما سيتحوّل إليه «المشروع الأوروبي» وقد ينجو منه سيكون منصّةً للتعاون الدولي الطوعي بين البلدان التي تودُّ إنجاز الأمور معاً، أو إقامة بُنية تحتية مادية ومؤسّساتية مُشتركة مبنيّة على احترام السيادة الخارجية للدول المشاركة كشرطٍ أساس في ديمقراطيتها الداخلية.

في الواقع اليوميّ لصناعة السياسة، لن يختلف نظامٌ دولي من هذا النوع - يسمحُ بدرجةٍ عالية من استقلال الدولة الوطنية- عن النظام الفيدرالي المنزوع المركزية الذي يتحتّمُ على «الولايات المتّحدة في أوروبا» التحوُّل إليه إذا كان قابلاً للتطبيق سياسياً وديمقراطياً، وهذا بحدَّ ذاته سببٌ كافٍ لعدم الاندفاع نحو الاحتمالات الغامضة المكلفة التي تكمنُ في الجهد الجماعي لبناءٍ أوروبي مُوحَّد. يجبُ أن يسمح الاستقلال الوطني في نظامٍ عالمي تعاونيّ بحماية الدول الوطنية الديمقراطية لمجتمعاتها وسياساتها ضدّ «انعدام المساواة»، ما يعني التنافس الاقتصادي المدمِّر على المستوى الاجتماعي، وذلك بأدواتٍ خاصّة بها، بدلاً من الاعتماد على إحسان الدول القيادية أو البيروقراطيات المتخطّية للحدود القومية. تتمثّلُ إحدى هذه الأدوات في نزع القيمة عن العملات الوطنية، وهي وسيلةٌ لتصحيح الاختلافات الدولية المدفوعة بالسوق سياسياً[24]. وهذه الاختلافات تُقوِّضُ حالياً الاتّحاد الأوروبي المالي (EMU) الذي يتشكّل من مجموعةٍ من الدول الأعضاء في الاتّحاد الأوروبي التي تخلّت عن سياسةٍ مالية مُستقلّة وفضّلت العملة المشتركة ولكنّها حافظت على السيادة في سياساتها المالية والاقتصادية.

بما أنّ الدول المتفوِّقة اقتصادياً غير مُستعدّة للقبول بإعادة التوزيع الدوليّ لمصلحة الأعضاء الأضعف، وتُطالبُ بدلاً من ذلك بـ«إصلاحات» مؤسّساتية يُعارضها السّكان المحليّون بقوّة، فإنّ الاتّحاد المالي الأوروبي كان وما يزالُ على حافة التفكُّك، أولاً في مسار أزمة الدَّين اليوناني، والآن بسبب التدهور الاقتصادي المستمرّ في إيطاليا، وذلك على مقياس يُرجَّح أن يتحدّى أي «عملية إنقاذ» دولية أو مُتخطّية للحدود القومية.

عليه، يُمكن تنظيم قدرةٍ مُتجدِّدة على المساعدة الذاتية الوطنية السياسية التي تتمُّ عبر التكيُّف الماليّ، وذلك بقيادة نظامٍ دولي تعاونيّ كالنظام الاقتصادي الكينزي المنسوب إلى Bretton Woods، وينطبقُ الأمر نفسه على الحماية الوطنية في التجارة الدولية. في هذا المجال، يزدادُ الإدراك بالخرافة التي تنشرها المجموعات المهتمّة والتي تُفيدُ بأنّ «الحركة الحرّة للسلع والخدمات ورأس المال والعمل» (وهو ما يمنحه الاتّحاد الأوروبي مصطلح «السوق الداخلية») تنفعُ في النهاية جميعَ أفراد المجتمعات المنخرطة. وهذا لا ينطبقُ بين المركز الرأسمالي وأطرافه المختلفة فحسب، بل أيضاً داخل أوروبا، خصوصاً في ما يتعلّقُ بحركة رأس المال والعمل.

ينتشرُ الآن بشكلٍ واسع الاعترافُ بالتبسيط المفرط الكامن في الاعتقاد بأنّ التحرُّر العالمي للتجارة ينفعُ ما يُسمّى بـ«الدول النامية»، إذا كان - على سبيل المثال- يمنع هذه الدول من الحفاظ على المؤسّسات المالية المحليّة، أو حماية قوام القطاع الزراعي، أو تنمية التوظيف في الشركات الصغيرة والمتوسِّطة الحجم. والحال هذه، يُقدِّمُ الاقتصاديون الرياديُّون بشكلٍ مُتزايد مفاهيم مثل «العولمة الانتقائية» (Globalization à la carte)، و«القومية المسؤولة»[25]، ويجعلونها بمثابة مناراتٍ لنظامٍ دوليّ مُستقبليّ حيث تتمتّعُ الحماية الوطنية بدورٍ شرعي.

كذلك، تواجه الهجرة من خارج أوروبا كما من داخلها اعتراضاً مُتنامياً من السكّان الأوروبيّين الذين يخافون على رواتبهم ووظائفهم ومنافع الضمان الاجتماعي، وحصّتهم من البُنية التحتية الوطنية (المدارس والسكن وما إلى ذلك)، بالإضافة إلى أسلوبهم الثقافيّ في الحياة. كان التصويت على خروج بريطانيا من الاتّحاد الأوروبيّ مدفوعاً بشكلٍ كبيرٍ بهذه المخاوف، وكذلك المعارضة المتنامية في أوروبا ضدّ الوكالات التكنوقراطية الدولية كالاتّحاد الأوروبي المكرَّسة لجعل المنظومات الاقتصادية والمجتمعات «ذات طابعٍ دولي».

من باب الاستنتاج:

كان شعارُ المنسحبين في حملة خروج بريطانيا من الاتّحاد الأوروبي»استعادة السيطرة»، ويبدو اليوم أنّ هذا هو الشعار الدافع للمشاعر القويّة المتدفِّقة في الديمقراطيات الغربية، مروراً بشعار ترامب «أميركا أولاً» الذي ينزعُ تقييدات النظام العالمي المتعدِّد الأطراف (والمصنوع أميركياً)، وصولاً إلى القومية الجديدة والتوجّهات الوطنية الداخلية في أوروبا، حيث تمتدُّ الأخيرة من المطالب بنزع المركزية الفيدرالية إلى الدعوات الانفصالية والسيادية بإحلال الاستقلال الوطنيّ. إن الأعداء الجدد هم الحكومات الوطنية المعتدلة - اليمينية واليسارية- المكرَّسة لـ»عولمة» مجتمعاتها واقتصاداتها، بالإضافة إلى التكنوقراطيات الدولية كالاتّحاد الأوروبيّ التي تُصدر أوامرها للحكومات الوطنية والمنظّمات الدولية كمنظّمة التجارة العالمية (WTO)، وصندوق النقد الدولي (IMF)، والبنك الدولي.

بالكاد تُمارَسُ ضغوطٌ في الاتّجاه المعاكس، وخصوصاً ليس من الأسفل إلى الأعلى. فحينما يُنظَر إلى المنظّمات الدولية والحكومات الوطنية المعتدِلة على أنّها غير قادرة أو غير مُستعدّة لاحتواء - فضلاً عن تصويب- الاختلافات الدولية أو ما بين المناطقية المتنامية، يزدادُ السعي وراء حيازة الحماية من الأسواق العالمية المتقلِّبة التي تطغى على التضامن الاجتماعي، وذلك على المستويات الأدنى من التنظيم السياسيّ أملاً بأن تكون سياساتها مُتجاوبة ديمقراطياً مع المخاوف الجماعية حول الأمن الاقتصاديّ والازدهار المستدام والوحدة الثقافية والاستمرارية.

السؤال الذي يُطرح هنا: هل «تؤدّي» هندسة الدولة غير المركزية مستقبلاً دوراً أفضل من الدولة المعاصرة أو الأكثر مركزية؟  

سؤالٌ تبدو الإجابة عنه مُستحيلة. عموماً، يظهرُ أنّ الثقة بالسياسة المركزية هي في أدنى مُستوياتها على الإطلاق خصوصاً أن تحوّل الناخبون -لأسبابٍ وجيهة- إلى «شعبيّين» بنحوٍ مُتزايد. وعليه، فإن اختبار الوحدات الأصغر والأكثر استقلالاً من الحكومة (الذاتية) يتطلَّب تنفيذَ سياساتٍ صناعية إبداعية تجتمعُ مع «الحماية المسؤولة» ما يسمحُ بإدخالٍ انتقائيّ لاقتصاداتٍ محلية-وطنية أصغر حجماً إلى الاقتصادي العالميّ بشكلٍ عام.

سوف تكونُ الحماية المشتركة من سياسات «إفقار الجار»، سواء كان ذلك على مستوى البيئة أم سياسة الضرائب، أمراً أساسياً (ولكن لا ينبغي نسيان أنّ التنافس الضريبي والتهرُّب الضريبي يتفشيان في ظلّ النظام الحالي حتّى ضمن الاتّحاد الأوروبيّ). لذا يتمّ التفكير حالياً بتعدُّدية دولية مُتجدِّدة ممّا يتركُ مجالاً أكبر للاستقلال والإبداع اللَّامكزيَّيْن، بالإضافة إلى آلياتٍ دولية جديدة لحلّ النزاعات في الشؤون الاقتصادية وغيرها. مع ذلك، لا يوجد حافزٌ للتفاؤل المفرط هنا.

حينما ننظرُ إلى أوروبا على وجه الخصوص، نلاحظُ أنّ التوجُّه الذي استمرّ لعقود نحو دولةٍ أوروبية عُظمى قد توقّف، وها هم أنصارُ الدمج المتبقّون الذين يعملُ أكثرهم في بروكسل يلملمون الأجزاء المتبقّية. من هنا، فإنّ مُستقبل «أوروبا» المنظّمة غير مؤكَّد حتّى مع انسحاب بريطانيا من الاتّحاد الأوروبي، وقد فشلت مشاريع عدّة ترمي إلى إحداث «الدمج». أمّا في ما يتعلّقُ بأوروبا الشرقية، فإنّ الفرض المتسلِّط لـ«القيم» الليببرالية قد أنتج ما يُسمّى اليوم بـ«الديمقراطيات غير الليبرالية» والتي تتنامى كلّما كان الضغط أكبر. وفي الدول الواقعة على البحر الأبيض المتوسِّط، كشفت الوحدة المالية اختلافاتٍ شاسعة في المؤسّسات الاقتصادية والتقاليد السياسية الاقتصادية التي تجعلُ الاقتصادات السياسية في الجنوب - ومن بينها فرنسا على الأرجح- غير متوافقة مع نظام العملة الصلبة على النسق الألمانيّ. وعليه، تتمثّلُ النتيجة في بروز فجواتٍ ضخمة على مستوى «التنافسية» تبدو مُستعصية نظراً إلى المعارضة «الشعبية» المتنامية في الجنوب ضدّ «الإصلاح» الليبرالي الجديد، وفي الشمال ضدّ إعادة التوزيع الدوليّ أو الدعم الشامل للتطوُّر الإقليمي.

ما الذي سوف يبقى من الاتّحاد الأوروبي؟ من غير المرجّح أن يبقى الاتّحاد المالي مُستداماً، وسوف يتطلّبُ الأمر وضعَ نظامٍ مالي آخر هو أقلّ مركزيةً في مكانه، وذلك بعد مُساومةٍ طويلة وعداءٍ دوليّ. كذلك، ينبغي إحلالُ تصالحٍ أكبر مع السياسات المحلية للدول الأعضاء (والاحتفاء بالتنوُّع!)، ويضمُّ ذلك السياسات حول الهجرة. قد يؤدّي هذا إلى بروز الوظائف الجغرافية الإستراتيجية للاتّحاد الأوروبيّ بشكلٍ أكبر، وذلك في دول البلقان (حيث بدأت ألمانيا بالعمل - مع الولايات المتّحدة كحليفٍ خارجي- كراعٍ للحكومات المتّجهة نحو «الغرب» والتي تُقاومُ مبدأ العصا والجزرة الروسيّ)، وفي أفريقيا، لاسيّما الجزء الغربيّ منها (حيث تملكُ فرنسا خصوصاً مصالح سياسية واقتصادية قديمة). قد يُوشك هنا على بناء طَرَفية أوروبية تنافساً مع روسيا والصين (فينتهي طريق الحرير الجديد في منطقة شرق البحر الأبيض المتوسِّط!) وبشكلٍ جزئي الولايات المتّحدة. سوف يتطلّب هذا الأمر استثماراً كبيراً في القدرات العسكرية بالإضافة إلى وقوع التطوُّر الرأسمالي- الاقتصاديّ، وذلك من أجل حفظ النخب الوطنية الموالية لأوروبا في مركز القوّة، وبالتالي ضمان النفوذ في الأسواق للحصول على المواد الأولية والسلع الجاهزة.

نقولُ مجدداً: ليس من الواضح على الإطلاق ما إذا كان هذا الأمر سيفلح، ولعل رفضَ ألمانيا مؤخّراً الانضمام إلى فرنسا والاتّحاد الأوروبي والولايات المتّحدة في قصف سوريا رداً على استخدامها المزعوم لأسلحة الدمار الشامل، خير مثال على ذلك. فهل يُمكن إقناع الشعب الألمانيّ المسالِم بدعم الدولة الفرنسية التي ما زالت مُتّسمة بالطابع العسكري والمشاركة في مغامراتها في أفريقيا؟ إلى أيّ حدٍّ سوف تأخذ أوروبا مخاوف دول شرق أوروبا تجاه روسيا على محمل الجدّ؟ هل سوف تسمح بشراء ألمانيا للغاز الروسي؟ أيّ دور سوف تلعبه المملكة المتّحدة حينما تنفصل عن الاتّحاد الأوروبي؟

من الواضح أنها بعد فشلها كمشروعٍ اجتماعي يهدفُ إلى صناعة رأسماليةٍ ذات وجه بشري - أي «النموذج الاجتماعي الأوروبي» من العام الماضي- وإخفاقها كبرنامج تعليم ثقافي يرمي إلى زرع «القيم» الليبرالية، قد تُجرِّب حظّها كنظامٍ أمبريالي مركزيّ طَرَفي بإدارةٍ فرنسية وألمانية مُشتركة.

هل سوف يكونُ هذا «المفهوم الأوروبي» أقلّ عرضةً للإخفاق كسابقاته؟ الأمرُ - مجدداً- غير مؤكَّد.

-------------------------------

[1]-Brown, Wendy, 2015: Undoing the Demos: Neoliberalism’s Stealth Revolution Cambridge, Mass.: The MIT Press.

[2]-Hall, Peter A. and David Soskice, eds., 2001: Varieties of Capitalism: The Institutional Foundations of Comparative Advantage. Oxford: Oxford University Press.

-Streeck, Wolfgang, 2011: E Pluribus Unum? Varieties and Commonalities of Capitalism. In: Granovetter, Mark and Richard Swedberg, eds., The Sociology of Economic Life. 3rd edition. Boulder, Colorado: Westview, 419-455.

[3]-Streeck, Wolfgang, 2016: How Will Capitalism End? Essays on a Failing System. London and Brooklyn: Verso Books, Introduction.

[4]- المفاوضة الجماعية هي عملية تفاوض بين أرباب العمل ومجموعة من الموظفين تهدف إلى التوصل إلى اتفاقات لتنظيم ظروف العمل.

[5]- الاقتصاد الكينزي: مجموعةٌ من النظريات الاقتصادية المنسوبة إلى عالم الاقتصاد البريطاني John Maynard Keynes.

[6]- الاقتصاد الهايكي: مجموعةُ من النظريات الاقتصادية المنسوبة إلى الفيلسوف وعالم الاقتصاد الألماني

 Friedrich August von Hayek.

[7]- Streeck, Wolfgang, 2017: Buying Time: The Delayed Crisis of Democratic Capitalism. Second Edition, With a New Preface. London and New York: Verso Books.

[8]- مُصطلح يعني «انتزاع الأراضي». جرى الاستخدام المجازي للمفهوم من قِبل Rosa Luxemburg، 2013.

[9]- Anderson, Perry, 2013: Imperium. New Left Review. No. 83, September/October 2013, 5-111.

[10]-Tomaskovic-Devey, Donald and Ken-Hou Lin, 2011: Income Dynamics, Economic Rents and the Financialization of the US Economy. American Sociological Review. Vol. 76, No. 4, 538- 559.

-Alvaredo, Facundo, Anthony B. Atkinson, Thomas Piketty and Emmanuel Saez, 2013: The Top 1 Percent in International and Historical Perspective. Journal of Economic Perspectives. Vol. 27, No. 3, 3- 20.

-Piketty, Thomas, 2014: Capital in the Twenty-First Century. Cambridge, Mass.: Harvard University Press.

-Harrington, Brooke, 2016: Capital without Borders: Wealth Managers and the One Percent. Cambridge, MA: Harvard University Press.

[11]- Schنfer, Armin and Wolfgang Streeck, 2013: Introduction. In: Schنfer, Armin and Wolfgang Streeck, eds., Politics in the Age of Austerity. Cambridge: Polity Press.

[12]- ينطبقُ هذا الأمر على ألمانيا أيضاً التي عُدَّت لحدّ الآن مثالاً للاستقرار السياسي. أمّا إيطاليا، فهي مُنقسمةً الآن سياسياً بين «نزعةٍ شعبية» يسارية ويمينية مع نتائج غير مؤكَّدة. كُسح حزبا الوسط - الاشتراكيون والمحافظون- في العام 2017 في فرنسا على يد نوعٍ جديدٍ من «النزعة الشعبية الوسطية» أو البونابارتية. كذلك لم يتمكّن الجمهوريون أو الديمقراطيون من السيطرة على زمام الحكم في الولايات المتّحدة سواءً معاً أم عبر الفوز بأغلبيةٍ حاسمة حاكمة. انتُخب ترامب كنتيجةٍ لثورةٍ ضمن الحزب الجمهوري، كما حصل مع ساندرز في الحزب الديمقراطي. أمّا في النمسا، فقد تمكّن المحافظون من السيطرة على الحكومة فقط عبر إظهار أنفسهم كحزبٍ يحملُ النزعة الشعبية في قلب اهتاماته، وبقيادة فردٍ يتصرّفُ كثوريٍ بونابارتيّ، ومن خلال دعوة أنصار النزعة الشعبية من حزب اليمين للانضمام إليهم في تحالفٍ وطنيّ. أمّا في هولندا، فنال حزب الديمقراطيين الاشتراكيين Partij von de Abeid الذي كان ذا أهميةٍ يوماً ما، أقلّ من خمسة بالمئة من الأصوات.

[13]- مع عمل الولايات الفيدرالية في أفضل الأحوال كـ»مختبراتٍ للديمقراطية».

[14]- قد يعني شعار «أميركا أولاً» الذي أطلقه ترامب أمرين: أحدهما قديمٌ والآخر جديد. قد يكونُ المعنى القديم هو المعنى الأمبريالي الذي وضعه أوباما في صيغةٍ سياسية حينما أعلن أنّ الولايات المتّحدة هي «الدولة التي لا غنى عنها»، وأمّا المعنى الجديد فقد يستلزم وعداً بتحويل الحكومة الوطنية إلى «انعزالية»، بمعنى اهتمامها بالداخل أكثر من العالم عموماً والانسحاب منه بهدف إنهاء «الوظائف المنزلية» التي كانت قد لاقت الإهمال لغاية الآن.

[15]- إستُخدمُ مصطلح الفيدرالية بالعنى القاريّ-الأوروبي وليس الإنكليزي-الأميركي. تعني الفيدرالية في المملكة البريطانية والولايات المتّحدة «فيدرالية» قوية تتعلّقُ بالحكومات المحلية، أمّا في ألمانيا على وجه الخصوص فإنّها تعني وحدات قوية تتمتّعُ بقدرٍ كبيرٍ من الاستقلالية عن حكومة الدولة المركزية.

[16]- للاطلاع على النقابوية الديمقراطية ما بعد الحرب راجع: Schmitter (1974), and Schmitter and Lehmbruch (1979).

[17]- المكان الوحيد في ألمانيا حيث يُمكن أن توجد إلى الآن انفصاليةٌ على أساس العرق الملوَّن هو بافاريا مع «دولتها الحرّة» التي أصبحت أرضاً للجمهورية الفيدرالية، رغم تصويت أغلبية مجموع الناخبين ضدّ دستور ألمانيا الغربية في العام 1949. وقد حدّ الاتّحاد الاجتماعي المسيحي (CSU)، وهو حزبٌ متآخٍ مع الاتّحاد الديمقراطي المسيحي (CDU)، بشكلٍ ناجحٍ من الاتّجاهات الانفصالية، ولعب دوراً خاصاً على المستوى الوطنيّ حيث مثّل المصالح والمشاعر البافارية بنشاطٍ ونجاحٍ كبيرَين. وأتاح هذا الأمر تحوُّل الاتّحاد إلى شيءٍ يُشبه حزب الدولة في بافاريا حيث حكم منذ الخمسينيات بأغلبيةٍ تامة مع انقطاعين قصيرين للغاية فقط.

[18]- القومية الجديدة للدولة الوطنية هي دفاعية بدلاً من كونها عدوانية، إذ تُدافع عن السيادة السياسية للدول المحدودة أمام الدول الجديدة الأكبر حجماً، وذلك غالباً من أجل حماية الثقافات الوطنية ضدّ الامتزاج بالعولمة. بالمقارنة، كانت الوطنية خلال الحرب توسُّعية وتبحثُ عن Lebensraum (مجال حيوي) جديد ينبغي تطهيره ممّا كان يُعتبر ثقافاتٍ وأعراقٍ أدنى. تجدرُ الإشارة إلى أنّ إضفاء صفة «الفاشية» على اليمين «الشعبي» يُغفلُ حقيقة عدم إنتاج الأحزاب أو التحرُّكات موضع النقاش لمنظّمات شبه عسكرية أو منظومة فكرية وطنية تتمحورُ حول Führerprinzip (مبدأ القيادة). حينما تُزعزع هذه الأحزاب أو التحرُكات الوضع ضدّ الديمقراطية النيابية، فإنّها تبدو أقلّ تطرُّفاً من المؤيِّدين الليبراليين الرياديّين لما بعد الديمقراطية التكنوقراطية الذين يُعلنون أنّ الديمقراطية غير صالحة لتأمين المنافسة الوطنية في الأسواق العالمية أو حفظ المبادئ الأخلاقية العالمية. صحيحٌ أنّ القوميين الشعبيين يتحدّثون أحياناً بلغة التحركات الفاشية وشبه الفاشية قبل الحرب وذلك أملاً منهم بزيادة الدعم الذي يتلقّونه في أوساط قطاعاتٍ معيّنة من مجموع الناخبين. رُغم أنّ هذه العملية مثيرة للاشمئزاز، يُمكن أن تُعتبر ردّة فعلٍ على إزالة المواضيع المؤيِّدة للوطنية من الخطاب العام من قِبل حزب اليسار الوسط الذي تحوّل إلى العالمية «في عصر الليبرالية الجديدة».

[19]- Schmitter, Philippe C. and Wolfgang Streeck, 1991: Organized Interests and the Europe of 1992. In: Ornstein, Norman J. and Mark Perlman, eds., Political Power and Social Change: The United States Faces a United Europe. Washington D. C.: The AEI Press, 46-67.

[20]- إلا إذا أمكن تفادي الانفصال عبر الفيدرالية العميقة، وأحد الأمثلة الناجحة على ذلك هو كندا خلال السبعينيات والثمانينيات.

[21]- وعليه، فشلت إيطاليا وإسبانيا والبرتغال في الاندماج داخل «دول المتوسِّط اللاتينية»، كما أنّ النروج والسويد والدنمارك وفنلندا امتنعت عن تشكيل «إسكاندنافيا العظمى»، بينما لم تُفكِّر إستونيا وليتوانيا ولاتفيا في الانحلال داخل تركيبة «شرق البلطيق». لم يكن الاتّحاد الألماني استثناءً لأنّ النتيجة لم تكن تشكيل دولةٍ تتخطّى الحدود القومية بل استعادة الدولة-الوطنية.

[22]- وقعت محاولات عدّة لتحديد عدد الديمقراطيات في العالم، فتوصّلت أغلب هذه المحاولات إلى وجود عشرين ديمقراطية «كاملة» وما بين 80 و90 ديمقراطية «معيبة» نوعاً ما من بين المئتيّ دولة تقريباً الموجودة حالياً.

[23]- ينطبقُ هذا الأمر على إيرلندا في علاقتها مع المملكة البريطانية، والدنمارك في مقابل ألمانيا، والدول البلطيقية الثلاث التي كانت جزءاً من الاتّحاد السوفياتي، وبولندا، ولوكسمبورغ، وألمانيا الغربية خلال الخمسينيات وما إلى ذلك. للاطّلاع على الفكرة العامّة، راجع :كتاب Alan Milward: «الإنقاذ الأوروبي للدولة الوطنية» (1992).

[24]- Streeck, Wolfgang, 2015: Why the Euro Divides Europe. New Left Review. Vol. 95 September/October 2015, 5- 26.

[25]-  -Rodrik, Dani, 1997: Has Globalization Gone Too Far? Washington D.C.: Institute for International Economics.

-Summers, Lawrence H., 2016: Voters deserve responsible nationalism not reflex globalism. Financial Times, July 10, 2016.

- Rodrik, Dani, 2018: Straight Talk on Trade: Ideas for a Sane World Economy. Princeton and Oxford: Princeton University Press.

 
فروع المركز

فروع المركز

للمركز الإسلامي للدراسات الإستراتيجية ثلاثة فروع في ثلاثة بلدان
  • العنوان

  • البريد الإلكتروني

  • الهاتف