البحث في...
عنوان التقرير
إسم الباحث
المصدر
التاريخ
ملخص التقرير
نص التقرير
 أسلوب البحث
البحث عن اي من هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على كل هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على هذه الجملة

December / 17 / 2019  |  1060ما بعد الغرب.. عودة الشرق، نحو أطروحة تسترد لحضارتنا المشرقية أصالتها المؤسسة

حسن حنفي المركز الاسلامي للدراسات الاستراتيجية خريف 2019 م / 1441 هـ
ما بعد الغرب.. عودة الشرق، نحو أطروحة تسترد لحضارتنا المشرقية أصالتها المؤسسة

للفيلسوف والأكاديمي المصري البروفسور حسن حنفي علاماته الفارقة في تفعيل وتجديد أسئلة أساسية حول موجبات وموانع الإحياء الحضاري في الفضاء العربي الإسلامي. وقد اتخذت أفكاره وطروحه مساراً سجالياً لا تزال وقائعه تتفاعل ولا سيما لجهة الاحتدامات المتجدِّدة بين الإسلام والغرب.

هذه المقالة هي امتداد لما كان بدأه حنفي قبل عقود في كتابه «مقدمة في علم الاستغراب»  وتشكِّل أحد أبرز فصوله. أما أهميتها فتعود إلى الفضاء البحثي الذي يدور مدار هذا العدد من «الاستغراب». فقد تركّزت على ضرورة إنتاج نسقٍ معرفيٍّ قوامه فرضيّة تقول بعودة مسار الحضارات من الغرب إلى الشرق من جديد، وهذه إحدى أبرز الفرضيّات التي يبتني عليها البروفسور حنفي رؤيته المعرفية لحقبة ما بعد الحضارة الغربيّـة.

في هذه المطارحة يؤكِّد حنفي على مسؤولية المفكّرين العرب والمسلمين في كتابة فلسفة جديدة للتاريخ تردّ الاعتبار إلى الشرق، إذ من غير المعقول برأيه أن يصوغ العقل الأوروبي الأقصر امتداداً فلسفات في التاريخ، ويعطي نفسه أكثر مما يستحق، وأن تتخلّى حضارات الشرق القديم الأطول امتداداً عن صياغة فلسفات جديدة، تستردّ لنفسها ما تستحق، وتنزع عن غيرها ما لا يستحق.

 المحرر


انتقل مسار الحضارة البشرية قديمًا من الشرق إلى الغرب. وبغض النظر عن التتابع الزماني فإن الحضارة المصرية القديمة هي أقدم حضارات الشرق، تليها في القدم حضارات الشام، كنعان، وحضارات بلاد ما بين النهرين، بابل وأشور وأكاد. ثم كانت حضارتا الصين والهند قبل أن تبدأ حضارة اليونان، بما هي المصدر الأول للوعي الأوروبي.

بيد أن ما يهمنا هو سريان الروح في التاريخ على مستوى الماهية من الشرق إلى الغرب، من تعدّد الآلهة إلى التوحيد، ومن الشعائر والطقوس إلى الأخلاق والسياسة. لقد حدث هذا التطوّر داخل كل حضارة شرقية مثل الانتقال من عبادة آتون إلى عبادة أمون في مصر القديمة، وتوحيد الآلهة تدريجيًا في إله أكبر في مصر، وفي حضارة بلاد ما بين النهرين، وفي الانتقال من كتاب “التغيرات” في دين الصين القديم إلى الدين الأخلاقي الاجتماعي والسياسي عند كونفوشيوس، والانتقال من تعدّد الآلهة في الهندوكية إلى الاستنارة الداخلية في البوذية. ويمكن القول بوجه عام أن روح التاريخ تسري من الشرق إلى الغرب، من الصين إلى الهند، إلى فارس، إلى بلاد ما بين النهرين، إلى الشام، ثم إلى مصر حيث يكتمل مسار الروح، ويبلغ التوحيد قمته، وتتأسّس الدولة.

عندما تبلور وعي الأنا بظهور الإسلام وارثًا مسار الروح في التاريخ من الشرق إلى الغرب، حمل الأنا التوحيد إلى الغرب. واستمر هذا المسار من الشرق الأوسط إلى الغرب الأقصى من خلال انتقال الحضارة الإسلامية في العصر الوسيط الأوروبي حتى استقر في العصور الغربية الحديثة. وقد وصف جميع فلاسفة التاريخ وفي مقدّمتهم هردر وكانط ولسنغ وهيغل هذا المسار وتصوروه حيويًا عضويًا بيولوجيًا، وشبَّهوه بمراحل أطوار الانسان، من الطفولة إلى المراهقة إلى الرجولة، من الآلهة إلى الأبطال إلى البشر، من الدين إلى الميتافيزيقا إلى العلم. ويمكن القول بتمايز مجموعتين حضاريتين في الشرق القديم: الأولى هي المجموعة الهندية الصينية الفارسية التي أعطت الهندوكية والبوذية والكونفوثيوسية والبوذية والشنتوية والمانوية في الألف الأولى قبل الميلاد، والثانية هي المجموعة السامية في مصر والشام وبلاد ما بين النهرين والتي أعطت الحضارة المصرية القديمة وحضارات بابل وأشور وأكاد وكنعان. والثانية أقدم من الأولى تاريخيًا ويتمثل فيها وعي الأنا. المجموعة الأولى تمثل جناحها الشرقي، وتنتقل الروح من شرقها إليها، وتصب في وعائها، وكأن الأحدث يصب في الأقدم. ولا يوجد تفاعل بين المجموعتين الرئيستين أو تداخل بينهما بالرغم من وجود أنصار لنظرية امتداد الحضارة المصرية شرقاً إلى الصين، وغربًا إلى المكسيك. كل مجموعة تمثل وحدة حضارية أوسع. حضارة الشرق الأدنى: الصين والهند، وحضارة الشرق الأوسط: بابل، أشور، كنعان، أكاد، مصر. وربما تربط فارس بين المجموعتين نظرًا لوجودها على حافتي التقاء محيطى الدائرتين. ومع ذلك تشترك هاتان المجموعتان في بعض الخصائص مثل الارتباط بالتراث، والأدب، والأمثال العامية، والحكم التي تعبِّر عن روح الشعوب.

ثم كانت حضارة اليونان بداية جديدة، حيث أخذت الريادة من الشرق الأقصى والشرق الأوسط، وبدأت تؤسّس الوعي الأوروبي في مرحلة المصادر. وقد نهلت من مصر القديمة أساسًا، كما ارتبطت بفارس والنحل الشرقية، واتصلت بحضارات الشام خصوصًا كنعان، وبجزر البحر الأبيض المتوسط خصوصًا كريت. وظهرت الآثار الشرقية في نحله أرفيوس، وفي فلسفة فيثاغورس، وفي فلسفة أفلاطون في المجموعة الهرمسية. وأخذ يقل شيئاً فشيئاً على مدى تحوّل الحضارة اليونانية من الأسطورة إلى العلم، ومن الخيال إلى العقل. ثم تلتها حضارة الرومان، واستمر الأثر الشرقي في الدين الروماني خصوصًا دين ميترا، نظرًا لاتساع الأمبراطورية الرومانية في أرجاء الشرق منذ فتوحات الإسكندر.

بنشأة المسيحية استمرت روح الشرق تسري في الغرب عن طريق التصوُّف الشرقي والدين الشرقي والمسيحية والأخلاق الشرقية. وساهمت المسيحية المصرية والمسيحية الأثيوبية والمسيحية الفلسطينية والمسيحية البيزنطية في تكوين المسيحية الغربية. قاوم آريوس المصري التثليث باسم التوحيد كموروث شرقي قديم. كما ثار دوناتوس في شمال أفريقيا باسم الدين الوطني ضد دين الاستعمار الروماني الغربي الجديد. وثارت المسيحية الشرقية الباطنية الصوفية ضد الأيقونات الوثنية الغربية الناتجة من صناعة التماثيل في الموروث الروماني القديم. ونشأت كنيسة مستقلة هي كنيسة الشرق الأرثوذكسية في مقابل كنيسة الغرب الكاثوليكية. واقترحت مصر التصوف والزهد والرهبنة كرد فعل على الخارجية والشعائرية والرومانية المادية الغربية. وحمل الشرق لواء الطبيعة الواحدة للسيد المسيح ضد الطبيعتين في المسيحية الغربية. وكان نسطوريا يؤكد على إنسانية المسيح وليس على الوهيته. كان الإسلام تأكيدًا لوحدانية الشرق، واكتمالًا لمسار الروح عبر التاريخ من الشرق إلى الغرب. فالمسيحية الشرقية لها شخصيتها الاعتبارية وليست انحرافًا عن المسيحية الغربية. وقد شارك العرب فيها، ونقلوا تراثها إلى الحضارة الاسلامية الناشئة أبان عصر الترجمة.

استمرّت روح الشرق في مدرسة الاسكندرية وفي العصر الهلنستي تعطي مناهج التأويل وبعدًا باطنيًا روحيًا غائبًا في المسيحية الغربية. ونشأت الغنوصية تعبيرًا عن الشرق الصوفي في الغرب اليوناني خصوصًا في البيئة الأفلاطونية. ثم توارت في العصر المدرسي بالتحوّل من الأفلاطونية إلى الأرسطية. ولكن سرعان ما عادت روح الشرق في التصوّف المسيحي الغربي في مدرسة شارتر، والتصوّف التأمّلي ونظم الرهبنة، وفي الأخلاق والفضائل المسيحية العلمية.

لقد تجلَّت روح الشرق من جديد واكتملت في مسارها الأخير في الذاتية الأوروبية من بداية الوعي الأوروبي وحتى النهاية ممثلة في التصوف الإشراقي في عصر النهضة عند يعقوب البوهيمي، بل حتى عند جيوردانو برونو، وهامان، والتصوف الألماني، عبر الرومانسية التي كانت مولعة بروح الشرق. كما تجلى ذلك في ديوان غوته “الديوان الشرقي للشاعر الغربي”.

وقد استمرت روح الشرق في المثالية الألمانية عند هيغل، كما ألهمت الأوبانيشاد والفيدانتا شوبنهور في كتابه “العالم إرادة وامتثال”.

ولما بدأ الوعي الأوروبي يتحوّل من المثالية الترنسندنتالية، الصياغة الحديثة للمسيحية، إلى السيطرة والانتشار خارجه، بعدما تكشفت العنصرية الدفينة فيه، والمادية الرومانية القديمة، تحول الشرق من روح سار تجاه الغرب إلى صورة الشرق في وعي الغرب. ظهر ذلك في فلسفة التاريخ عندما تحول الشرق إلى بدايات للإنسانية التي اكتملت في الغرب. في هذا السياق، تكلَّست روح الشرق في الوعي الأوروبي وتحولت إلى صورة من صنعه. ثم سَهُلَ عليه بعدها تحويلُها إلى شعوب يستعمرها، ومواد أولية ينهبها، ومناطق شاسعة يحتلها، وإلى قوى بشرية يستعبدها وينقلها من أفريقيا لبناء العالم الجديد. لقد أصبح الشرق في الوعي الأوروبي في ذروة المد الاستعماري مادة بلا روح، وعلى أقصر تقدير، عالم السحر والخيال والأساطير، البساط السحري وعلاء الدين وشهرزاد، يظهر أحيانًا في الفن، في الخيال الأوروبي عند الشعراء والكتاب وفي الإيقاعات الأفريقية عند الموسيقيين، وفي المدارس الفنية، الحديثة عند الرسامين على مستوى التجريد. وبعدما فشل الغرب في توجيه الطعنة إلى الشرق عبر القلب في فلسطين إبان الحروب الصليبية ثم الالتفاف حوله أثناء ما يسمَّى بالكشوف الجغرافية عن طريق جنوب أفريقيا، وصولاً إلى جزر الهند الشرقية الهند وإندونيسيا، والملايو، والفلبين حتى الهند الصينية والصين، ثم إلى جزر الهند الغربية حتى الأميركيتين، شمالًا وجنوبًا. وما أن تحرّرت أميركا الشمالية أولًا حتى انضمت إلى النهب الاستعماري الغربي في تجارة العبيد، ثم في وراثة الاستعمار القديم. وكان عصر التحرّر من الاستعمار بداية ليقظة الشرق من جديد واستيقاظ الروح، وخروجه من أسرِ البدنِ، وانبعاثه بعد التكلُّس. وظهر وعيُ العالم الثالث كتعبيرٍ جديدٍ عن روح الشرق في أفريقيا وآسيا وأميركا اللاتينية.

عودة الحضارة من الغرب إلى الشرق

في نهاية الوعي الأوروبي وتكشُّف مظاهر العدم فيه، ومع يقظة شعوب العالم الثالث وبداية عصر التحرر من الاستعمار، كان السؤال التالي: هل يعود مسار الحضارة من الغرب إلى الشرق؟ وهل تنتقل روح التاريخ عكس ما انتهت إليه، إلى موطنها الأول الذي بدأت منه؟ هل انتهى دور الريادة للحضارة الأوروبية وبدأ دور ريادة الحضارة الشرقية كما بدأت أول مرة؟ وهل وصلت الحضارة الأوروبية إلى مرحلة الشيخوخة بعدما تعبت وهَرُمت على ما يقول هوسِّرل؟ ثم هل يمكن لحضارات الشعوب المتحرِّرة حديثًا أخذ الريادة ووضع فلسفة جديدة للتاريخ تكون الحضارة الأوروبية فيها جزءًا من الماضي، وتوضع في حجمها الطبيعي في تاريخ الانسانية العام، فتكون إحدى حلقاته وليست ممثّلاً له؟

 في هذا الوقت بالذات، ظهر مفكِّرون أوروبيون معاصرون مثل نيتشه واشبنغلر، وهوسِّرل، وشيلر، وبرغسون، وتوينبي.. إلخ، ينعون نهاية الحضارة الغربية. كما ظهر مفكِّرون آخرون من العالم الثالث يعلنون ميلاد حضارة جديدة، ومنهم فانون، وديبريه، وجيفارا، وبن بركة، ونكروما، ونيريري، وسكوتوري، وناصر، وهو شي منه، وماوتسي تونغ، وغاندي، ونهرو، وتيتو، ومانديللا، وكاوندا، وبن بللا، وهؤلاء جميعاً كانوا يبشِّرون بميلاد وعي جديد للعالم الثالث، يتجسّد في تكتّل الشعوب المتحرِّرة حديثًا في أفريقيا وآسيا وأميركا اللاتينية في مواجهة الاستعمار القديم والجديد. لقد قدَّم هذا الوعي الجديد مُثُلاً جديدة في الحرية، والعدالة الاجتماعية، والمساواة، والتقدم وحقوق الانسان. وهي المُثُل التي نادى بها الوعي الأوروبي وهو في عصر التنوير. ويكملها بمُثُلٍ جديدة في مقاومة العنصرية، والاستعمار الاستيطاني، واستغلال الشعوب ونهب ثرواتها. ويجعل الانسانية واحدة لا فرق فيها بين غرب وشرق. فحقوق الانسان واحدة، لا تتجزأ ولا تتحطم على الحدود الجغرافية، ولا تنحسر خلف أسوار الشعوب والأعراق.

 إلى جانب التحرّر الوطني لشعوب العالم الثالث، بدأت نهضة شعوب الشرق من جديد، في ظل أفول الغرب. أطلقت الصين ثورتها الوطنية ومسيرتها الكبرى. وفي خطتين خمسيتين استطاعت أن تصبح إحدى القوى العظمى بإمكاناتها البشرية. وبمُثلها الجديدة، وبالرغم من التعثر بين الحين والآخر، صارت تمثِّل أحد التحولات الرئيسية، وتغيِّر موازين القوى مع الغرب الذي صار يطرق أبوابها ويطلب صداقتها. واستقلت فييتنام، وتوحَّدت، وانتصرت على قوى الاستعمار القديم والجديد مما ألهب خيال الشعوب المناضلة من أجل الإبداع الذاتي في الفكر والسلاح، في الشعب والقيادة. واستقلت الهند بنموذج فريد، المقاومة السلمية، والعصيان المدني، بالاعتماد على التراث الروحي للشعب، وبقيادة وطنية. فهي تتمتع باكتفاء ذاتي في الغذاء، وهي ثاني دول العالم كثافة سكانية بعد الصين، وكذلك تصنِّع السلاح، وتعتبر ميزان ثقل حضاري في جنوب آسيا وشرقها. من بعد ذلك قامت الثورة الإسلامية في إيران كي تنهي عصر التعذيب والتحالف مع الغرب، وتعود إلى تراثها الروحي تأكيداً للهوية الوطنية بقيادة حاسمة لا تعرف المساومة، وبتجنيد الجماهير. وقامت حركات التحرر الوطني في العالم العربي في الجزائر واليمن الجنوبي والسودان والشام ومصر وتونس والمغرب، وما زالت قائمة في فلسطين. وقامت الثورات الوطنية في العراق ولبنان واليمن الشمالي. وتحولت إلى تغيُّرات جذرية في الهياكل الاجتماعية. وكانت ظهيرًا لحركات التحرر الوطني في أفريقيا بالرغم من بقاء جيب الاستعمار الاستيطاني والنظام العنصري في الجنوب ولكن إلى حين. والى هذا امتدت الثورات إلى أميركا اللاتينية بالرغم من قربها من مركز الاستعمار الجديدة. وانتصرت الشعوب الصغرى في مواجهة القوى الكبرى، والتحمت بباقي حركات التحرر في آسيا وأفريقيا، في مجموع القارات الثلاث.

وفي فكرنا العربي المعاصر، ظهرت جرائد جعلت مصر والعالم العربي والإسلامي جزءًا من نهضة الشرق. واتحدت حركة الجامعة الإسلامية مع الجامعة الشرقية عند الأفغاني مع نهضة شعوب الشرق بعد ذلك. وبدأ المفكِّرون العرب المعاصرون يضعون النهضة العربية المعاصرة كجزء من حركة أعم وهي “ريح الشرق”. وبدأ الاهتمام بالفكر الشرقي القديم في جامعاتنا ومعاهدنا العلمية بالإضافة إلى حضارات الشرق الأدنى القديم وليس في رسم استراتيجية سياسية وحضارية جديدة فحسب.

من نافل القول أن الغرب ذاته بدأ اكتشاف الشرق من جديد في عديد من الدراسات عن حضارة الصين، والتحام الفلسفة بالعلم، والفكر والأخلاق بالسياسة، والفرد بالدولة. وفي كل مرة تبدأ أزمات العلم الغربي يتم العودة إلى اكتشاف العلم الشرقي كما هو الحال في إعادة اكتشاف الطب الصيني، والعلاج بالإبر الصناعية، والمنطق البوذي في مقابل المنطق الأوسطي، والمعمار الإسلامي الطبيعي في مقابل المعمار الأميركي وبيوت الصلب والزجاج. وأصبحت الأحياء الصينية محط أنظار في كل العواصم الأوروبية، وشاعت الثقافة الهندية، وأصبح العالم الغربي يحسب حساب إيران، ويساهم في تنمية العراق، ويفرض الأدب العربي نفسه على الجوائز العالمية كما فرض الأدبان الأفريقي والآسيوي نفسيهما من قبل. ويتحدث العالم الغربي اليوم عن مستقبل ثلاثة أرباع المعمورة.

إن ازدهار حضارات الشرق القديم بعد الثورة الاشتراكية في الصين، وحروب التحرير في الهند الصينية، والاستقلال الوطني في الهند، والثورة الإسلامية في إيران، والنهضة الحديثة في بلاد ما بين النهرين وثروات الخليج، والثورة العربية انطلاقًا من مصر، وحرب التحرير في الجزائر، والانتفاضة في فلسطين، وحركات التحرّر في العالم الثالث كله، ونشأة وعي عالمي جديد، عدم الانحياز، التضامن الآسيوي الأفريقي، أصوات الأغلبية في الأمم المتحدة بإجماع إنساني جديد على مقاومة الصهيونية والعنصرية، وحق الشعوب في تقرير مصيرها، وإنشاء نظام عالمي جديد، ونظام إعلامي جديد، ونظام ثقافي جديد، كل ذلك يوحي بميلاد عالم جديد، تتغير فيه موازين القوى بين المركز والأطراف، وتنتقل فيه الروح من الغرب إلى الشرق من جديد. وتوضع مسألة: لمن الريادة اليوم؟

التعرُّف الى عمق الشرق

إن عودة مسار الحضارات من الغرب إلى الشرق من جديد هو عود إلى العمق التاريخي في الوعي الإنساني. فشعوب الشرق خصوصاً وحضارات العالم الثالث عموماً، هي شعوب وحضارات تاريخية، يرتد إليها من جديد “فائض القيمة التاريخي” الذي تراكم في الغرب. هذه الشعوب التاريخية تعود من جديد إلى المركز، وتأخذ مكان الريادة بدلاً من الوعي الأوروبي الأقل عمقًا في التاريخ. فإذا كان الوعي التاريخي في العالم الثالث يمتد إلى سبعة آلاف عام في الصين والهند وفارس وبلاد ما بين النهرين ومصر، فإن الوعي الأوروبي لا يمتد أكثر من ألفي عام منذ ظهور المسيح حتى الآن أو الفين ونصف العام إذا أضفنا مصدره اليوناني.  وعليه فإن الوعي التاريخي في العالم الثالث أعمق جذوراً من الوعي الأوروبي بسبع مرات. وقد يكون أحد أسباب القصور الآن في الوعي السياسي لدى شعوب العالم الثالث هو أنه لم يقم على أساس وعيه التاريخي، وآثر، نظراً لقياداته النخبوية، أن يكون وعيًا سياسيًا “علمانيًا” على النمط الغربي، ليبراليًا، قوميًا أو ماركسيًا. من هنا فإن ما يسمَّى الآن بالعالم الأفريقي الآسيوي الأميركي اللاتيني هو نفسه في الحقيقة العالم القديم، وكأن التاريخ يعيد نفسه.

لا شك في أن مسؤوليتنا، نحن المفكرين في البلاد النامية، أن نعيد وصف مسار الروح في التاريخ من الشرق إلى الغرب أولًا، ثم من الغرب إلى الشرق ثانيًا، وأن نكتب فلسفة جديدة للتاريخ ترد الاعتبار إلى الشرق، وتحجِّم الغرب، وتصف مسار الروح على مدى سبعة آلاف عام في حضارات الشرق القديم ونهايتها في الألف عام الأخيرة في الوعي الأوروبي. فليس من المعقول أن يصوغ الوعي الأوروبي الأقصر امتدادًا فلسفات في التاريخ، ويعطي نفسه أكثر مما يستحق وغيره دون ما يستحق، وأن تتخلّى حضارات الشرق القديم الأطول امتدادًا عن صياغة فلسفات جديدة في التاريخ، تسترد لنفسها ما تستحق، وتنزع عن غيرها ما لا يستحق، وأن يتم ذلك بشعور محايد كباحثين غير أوروبيين.

لندرس أيضًا تطوّر الشعور غير الأوروبي، شعور البلاد النامية، الوعي الإنساني الجديد، وأن نبين بعد مرور حوالي قرن ونصف القرن من الزمان على وصف هيغل لتطوّر الحضارات، وضع هذا الشعور باعتباره الحاوي الأكبر للوعي الانساني كله. وإذا كان هيغل قد جعل نفسه ملاحظًا باسم الوعي الأوروبي وهو في الذروة لحضارات الشرق القديم، فإننا اليوم نسترد وعينا من أن يكون ملاحظًا ليصبح ملاحظًا، ويتحوّل الوعي الأوروبي كما جسده هيغل إلى وعي ملاحظ. وهذه إحدى سمات التحرُّر المعرفي، والتحول من مستوى الموضوع إلى دائرة الذات. ولا يعني ذلك أي وقوع في القومية أو الشوفينية بل يعني برنامج عمل يمكن تقديمه للباحثين عن وضع شعور العالم الثالث في التاريخ البشري الآن، وهل يمكن أن تكون له الريادة إذا طلب منه ذلك أو إذا وجد نفسه مسؤولًا عنها في يوم ما؟

لا ريب في أن ما يحرِّك مسار التاريخ هي الصور الذهنية المتبادلة التي تكوِّنها الشعوب والحضارات عن بعضها البعض حتى تتحول إلى صور نمطية توجه السلوك الفردي والجماعي، للقيادات وللجماهير، إقدامًا وإحجامًا نحو بعضها البعض. فما هي صورة الشرق في الوعي الأوروبي؟ وما هي صورة الغرب في الوعي الشرقي؟ وما هي صورة الشرق في الوعي الأوروبي؟ وما هي صورة الغرب في الوعي الشرقي؟ وما هي صورة كل من الشرق والغرب في وعي الأنا؟

إن الغرب هو الآخر بالنسبة إلى الشرق، والشرق هو الآخر بالنسبة إلى الغرب. فعلاقة كل منهما بالآخر هي علاقة الأنا بالآخر. أما بالنسبة إلينا فالآخر هو الغرب وليس الشرق. الآخر هو الند والغريم، وليس الصديق أو الحليف. وهو الغرب الذي نعيشه منذ فجر النهضة العربية الحديثة. لقد عشناه من قبل في اليونان أولًا، ثم في الحروب الصليبية ثانيًا، ثم في الاستعمار الحديث ثالثًا. أما الشرق بالنسبة إلينا فليس الآخر. نحن لا نعيش آسيا قدر ما نعيش أوروبا بالرغم من الدعوات القائمة على “ريح الشرق”، وبالرغم من انتشار الإسلام شرقًا قبل انتشاره غربًا، في آسيا قبل أوروبا. ولكن نظرًا للقرب الجغرافي بيننا وبين الغرب، عبر البحر المتوسط، ونظرًا لحضارة الغرب التي تم نقلها واستيعابها وتمثُّلها منذ اليونان قديمًا وعلاقتنا التجارية به إبان عصرنا الذهبي، ثم نقله إلينا في أواخر العصر المدرسي، الترجمة العكسية من العربية إلى اللاتينية، ثم بداية الاستعمار الحديث وصراعنا معه، ثم بداية تحديث مجتمعاتنا على النمط الغربي - كل ذلك جعل الآخر بالنسبة إلينا هو الغرب وليس الشرق -.

صورة الشرق والغرب في وعي الأنا والآخر

صورة الشرق في وعي الغرب تتمثل في كونه بدايات الوعي الإنساني، فالإنسانية في مرحلة الميلاد هي بلا وعي ولا إرادة ولا عقل، بل مجرّد كائن عضوي أشبه بالكائنات الطبيعية الجامدة أو الحية على أبعد تقدير، ليس فيه فكر أو علم إنما إنسانية مجردة مثل الأحجار. إنه موطن السحر والدين، والخرافات والأوهام، وظلام المعابد وتعاويذ الكهان. كل ما فيه تخلف في الملبس والسكن والمأكل والمشرب وسائر نواحي العمران. كثافته السكانية إحدى مظاهر تخلفه، نسل وفير، وكوارث طبيعية من الفيضانات تحصد الألوف. لا يعرف حرية الأفراد بل ديكتاتورية الحكام على ما هو معروف في “الاستبداد الشرقي”. نظامه الإنتاجي خاص به، وهو “نمط الإنتاج الآسيوي”. إنه مأساة بحد ذاته كما هو معروف في “المأساة الآسيوية”. نهضته الحالية في الدول المصنعة حديثاً في كوريا، وتايوان، وهونغ كونغ، وسنغافورة، وتايلاند تمت برأس المال الغربي وبالتكنولوجيا الغربية. ونهضة اليابان الحالية قامت بعد تمثُّل الغرب وتقليد علمه وصناعته. ولم يكن عجبًا أن تم إلقاء أول قنبلة ذرية من الغرب على الشرق، من الجنس الأبيض على الجنس الأصفر.

أما صورة الغرب في وعي الشرق فتكاد تكون عكسية. إنه نموذج التقدّم والنهضة والحداثة والتغير الاجتماعي والمستقبل. وهو نمط للتحديث، وقدوة للمستقبل خصوصًا بعدما ذاع النموذج الغربي من خلال سيطرة الغرب على أجهزة الإعلام مما أنشأ في كل وعي لا أوروبي ولدى كل شعب خارج أوروبا ظاهرة “التغريب”. وهو مهد العلم والاكتشافات العلمية والنهضة العلمية وتطبيقاتها في الصناعة وما نجم عنه من تكنولوجيا متقدمة. وهو نموذج لحضارة الإنسان، وحقوق الإنسان والمواطن والنظام الديمقراطي البرلماني التعدّدي. كما أصبحت العقلانية الأوروبية نموذجًا يُحتذى بها في التفكير والترشيد والتنظيم الاجتماعي. وأصبح التخطيط العمراني الأوروبي نمطًا عامًا وشاملًا يوجد في كل المدن خارج أوروبا وتُسمَّى المدينة الأوروبية خارج أسوار المدينة القديمة تنافسه بعض بلدان الشرق مثل اليابان في مشروعه الإنتاجي وتتخذه غريمًا مضمرًا، تحول هزيمتها العسكرية أمامه إلى نصر اقتصادي.

أما بالنسبة إلينا فإن صورة الشرق في وعينا القومي هي صورة غامضة، ليس لها حدود. قلبُنا معه ولكن عقلنا مع الغرب. نُعجَب به ولكن نتحالف مع غيره. اليابان ثم كوريا أوضح بلدانه لما تمدّنا به من منتجات وصناعات إلكترونية للاستهلاك الحديث استردادًا لأموال النفط منا ومن الخليج. وقد تتراءى الصين الشعبية في أذهاننا كنموذج للثورة الاشتراكية، وكفاية حاجات المليار نسمة ويزيد. وما ينالنا منها من أقمشة شعبية وأدوات كتابية. وقد يكون مصدر التوابل للأطعمة الحريفة والحلوى الشرقية والأغاني والأفلام الهندية، أغاني الحب والمؤامرة، بنات الشعب والأمراء. وجاء كسر احتكار السلاح أخيرًا ليكشف عن جانب مجهول في حياة الشرق، الصناعة العسكرية، والمعونة الفنية لبناء السدود والطرقات العامة، والفن الرفيع، الموسيقى والأوبرا، كما تعلن عن ذلك مراكز الثقافة للبلدان الشرقية في عواصمنا. ونادرًا ما يظهر المسلمون في آسيا إلا في صورة العنف السياسي والكوارث الطبيعية حتى برزت صورة المجاهدين في أفغانستان أخيرًا كنموذج للإيمان وللاستقلال الوطني ضد الاحتلال والغزو الأجنبي. كما أثارت إعجابنا مقاومة غاندي السلمية للاستعمار، وتعاطفه مع قضايانا الوطنية، استقلال مصر، وحقوق شعب فلسطين بعدما اتحدنا معًا في يوم 22 فبراير 1944، يوم الطلاب العالمي، عندما أطلق الاستعمار البريطاني النار على تظاهرات الطلاب في مصر والهند في آن واحد. ونذكر بخارى وسمرقند وطشقند وبلخ وفرغانه كبلدان إسلامية انحسر عنها الحكم الإسلامي بعد ضعف بغداد ودمشق والقاهرة، مركزها الطبيعي، وهي في الأطراف، وشدها نحو مركز آخر أقوى في روسيا القيصرية.

أما صورة الغرب في وعينا القومي، فهي الأخرى بالأصالة في وعي الأنا. وعليه يسعى “علم الاستغراب” الى تحويل هذه العلاقة غير المتكافئة بين الأنا والآخر إلى علم دقيق ومنطق محكم وجدل تاريخي. فجدل الأنا والآخر واقع لا ينكره أحد. والأنا الحضاري لا يحتاج إلى إثبات، فمنه خرجت الصحوة الإسلامية والثقافات القومية، والآخر بالنسبة إلينا هو الغرب الذي نعيشه منذ بداية الاستعمار القديم منذ الحروب الصليبية، والكشوف الجغرافية حتى الاستعمار الاستيطاني الحديث. وهو نمط الاستهلاك الذي يصدر إلينا منتجاته والتي نستوردها نحن حتى نصل إلى مستوى العصر وأسلوب حياته. وهو نموذج العلم والعقل، يعطى المنهج والمنطق، ويرشد إلى الحس السليم. وهو أيضًا نموذج الحرية والديمقراطية والمجتمع المدني، والنظام الليبرالي، والتقدم والنهضة. كما كان نمطًا للتحديث في فكرنا المعاصر بتياراته الثلاثة.

خلاصة القول إن جدل الأنا والآخر واقع في كل مجتمع ولدى كل شعب. الأنا بمفرده نرجسية وغرور، والآخر بمفرده تبعية وتقليد. لا يوجد مجتمع ليس فيه أنا وإلا كان في حاجة إلى إثبات وجوده أولًا. وقد حدث ذلك في مجتمعاتنا في حركات التحرّر الوطني. “أنا اتحرّر فأنا إذن موجود”. ولا يوجد مجتمع ليس فيه آخر. فالآخر بالنسبة إلى أميركا الشمالية هي روسيا الاشتراكية. والآخر بالنسبة إلى روسيا الاشتراكية هو أميركا الرأسمالية. والآخر بالنسبة إلى اليابان هو اللّاياباني، العالم الأجنبي كله. والآخر بالنسبة إلى الأوروبي هو الآخر القريب الصديق العدو أميركا، أو العدو الصديق روسيا، والآخر البعيد والعدو الدائم، مصدر المواد الأولية والأسواق والشعوب المتحررة حديثا في أفريقيا وآسيا وأميركا اللاتينية. والآخر بالنسبة إلى الصين هو الاتحاد السوفياتي المنافس والغريم، أو أميركا العدو المذهبي أو الصديق المصلحي، أو اليابان العدو القديم أو الجار ذو القرب. والآخر بالنسبة إلى كوريا الجنوبية هو الصين الأب الروحي، أو اليابان العدو التقليدي، أو كوريا الشمالية الأخ الوطني والعدو المذهبي. ولكن يظل الآخر بالنسبة إلينا هو الغرب، وكذلك بالنسبة إلى كل شعوب القارات الثلاث: أفريقيا، وآسيا، وأميركا اللاتينية.

لا ريب في أن الأمور التي تشغل اهتمامنا اليوم هي:

أولًا: التحرّر من الآخر الأوحد وهو الغرب. فوضع الأنا في المنطقة الوسطى من العالم، في قلب الحضارات ومركزها وبموقعها الجغرافي وثقلها التاريخي، يجعل الآخر عندها آخَرَين: الآخر الغربي الذي ساد وأصبح هو الإطار المرجعي الأوحد، والآخر الشرقي الذي تمتد جذوره في التاريخ عبر سيناء وآسيا والجنوبي عبر السودان وأفريقيا.

ثانيًا: إيجاد ميزان التعادل بين الآخرين الغربي والشرقي الجنوبي حتى لا ينحاز القلب إلى الآخرين، وحتى يستطيع القلب أن يستقبل ريح الشرق التي تهب عليه. وأن يشعر بمسار الحضارة في التاريخ في طوره الجديد، من الغرب إلى الشرق. وأميركا اللاتينية هي جزء من بعدنا الجنوبي. فخط الاستواء يعبرها من آسيا وأفريقيا، وكما هو واضح في حوار الشمال والجنوب، أو على الأقل هي الغرب الجنوبي بالنسبة إلينا في حين أن الغرب التقليدي بالنسبة إلينا هو الغرب الشمالي أو الشمال. فإذا ما أمكن اتحاد الشرق والجنوب والغرب الجنوبي (أميركا اللاتينية) ضد الشمال (أوروبا) أمكن حصار الأطراف للمركز من نصف الكرة الجنوبي إلى مركزها الشمالي، وبالتالي يتحقق الهدف الأقصى من “علم الاستغراب”.

 
فروع المركز

فروع المركز

للمركز الإسلامي للدراسات الإستراتيجية ثلاثة فروع في ثلاثة بلدان
  • العنوان

  • البريد الإلكتروني

  • الهاتف