البحث في...
عنوان التقرير
إسم الباحث
المصدر
التاريخ
ملخص التقرير
نص التقرير
 أسلوب البحث
البحث عن اي من هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على كل هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على هذه الجملة

December / 15 / 2019  |  1494مجلة الاستغراب تحاور المفكر الفرنسي المسلم كريستيان بونو

حاوره : أمير عباس الصالحي المركز الاسلامي للدراسات الاستراتيجية خريف 2019 م / 1441 هـ
مجلة الاستغراب تحاور المفكر الفرنسي المسلم كريستيان بونو

جرى هذا الحوار مع المفكِّر الفرنسي البروفسور كريستيان بونو قبل شهور قليلة من رحيله إثر حادث مؤسف في ساحل العاج وهو في مهمة علمية لإلقاء سلسلة محاضرات في عدد من معاهدها وجامعاتها. يعتبر بونو من أبرز المفكِّرين الغربيين الذين اعتنقوا الإسلام في الحقبة المعاصرة. ولقد دلَّت منجزاته العلمية والمعرفية على عنايته ببعدين مركزيين:

1 - الفكر الإسلامي بأفقه الفلسفي والعرفاني.

2 - تفكيك ونقد بنية الحضارة الغربية المعاصرة بأبعادها المعرفية والفلسفية وثقافتها السياسية.

المعروف أنّ بونو أو حسب اسمه الِإسلامي يحيى العلوي حائز على شهادة الدكتوراه في حقل العرفان الإسلامي من جامعة “السوربون” الفرنسية. وهو عضو الهيئة العلمية في مركز الدراسات الدولية في جامعة المصطفى، وله بعض المؤلّفات، مثل: (التصوّف والعرفان الإسلامي)، و(الإلهيات في الآثار الفلسفية والعرفانية للإمام الخميني)، (تأليف وترجمة وتفسير القرآن الكريم باللغة الفرنسية) ولم يكتمل بعد.

الحوار الذي أجرته معه “الاستغراب” تركَّز حول هذين البعدين معاً وإن كان المنطلق هو الوقوف على رؤيته حيال غربٍ آيلٍ الى الاضمحلال والتهافت.

المحرر


ما رؤيتكم إلى البنية المعاصرة للحضارة الغربية من الناحيتين المعرفية والاجتماعية؟ وما هي المقدمات التي يجب التركيز عليها من أجل الوقوف على أهم مشكلاتها البنيوية؟

- بونو: هذا السؤال واسع جداً، ويمكن للجواب عنه أن يؤدّي بنا إلى تأليف كتاب من  مجلدات عدَّة. ولكني سأكتفي ببعض المقدمات الهامّة في هذا الشأن:

المقدمة الأولى: علينا الفصل بين الانتقاد والاقتراح. ففي الاتجاه النقدي يعمل الفرد على مراجعة الكتب والأعمال المعنية، ثم يعمل على نقدها من زاوية خاصة. وهنا لا يتمّ اقتراح طريق للحل بالضرورة، ويمكن للنقد أن يكون صائباً، ولكن لا يشار فيه إلى الحلول. يمكن لهذه الانتقادات أن تنتظم ضمن خلفيات متنوّعة، من قبيل: نقد الماركسية، ونقد البيئة، ونقد الاقتصاد وما إلى ذلك. وهي في الحقيقة  ترد من زوايا مختلفة.

المقدمة الثانية: إن أكثر وأهم الانتقادات القوية والدقيقة والنافعة يمكن العثور عليها في التحقيقات الغربية، وفي المقابل نجد الانتقادات المطروحة في الشرق ضعيفة، وأكثرها غير مستدل؛ بمعنى أن أغلبها عاطفي أو سطحي، وهذا بدوره أمر طبيعي أيضاً؛ إذ عندما يُسأل: من الذي يمكنه أن ينتقد الوضع في إيران بشكل أفضل وأدق؟ من الطبيعي أن يكون الجواب هو: إنهم الإيرانيون أنفسهم؛ وذلك لأن الانتقاد الصادر منهم في الأعم الأغلب دقيق ومستدل، فيما الانتقاد الصادر من الأجانب ـ بشكل عام ـ لن يكون دقيقاً. وعليه، فإن المواطنين في كل بلد يمكن لهم انتقاد بلدهم بشكل أفضل من المواطنين في البلدان الأخرى، شريطة أن يكونوا مؤهلين لإبداء النقد حول شؤون أوطانهم.

وبغض النظر عن هاتين المقدمتين، فإن الاتجاه التخصصي الذي يتعرّض إلى مسألة انهيار الغرب، يُعدّ من المسائل الهامة. يطرح أحد المفكرين الذي يتحدث عن هذا الانهيار هذا المثال القائل: “لدينا بحيرة وقد غطت الزنابق سطحها، وفي كل ليلة يزداد عدد هذه الزنابق بمقدار الضعف. واليوم قد غطت الزنابق نصف حجم البحيرة، ولم يبق أمامنا سوى ليلة واحدة حتى تغطي الزنابق جميع سطح البحيرة”. لا يبعد أن تكون مسألة انهيار الحضارة الغربية شيئاً من هذا القبيل، ولكن لا تزال بداية هذا الانهيار غير محددة. فهل سيبدأ الانهيار من مشاكل تتعلق بالبيئة، من قبيل: ارتفاع حرارة الأرض، أو شحّ أو فقدان مصادر الغاز والطاقة؟ أم بسبب المشاكل الاقتصادية والأنظمة المالية؟ هذا ما لم يتضح بعد بشكل جيّد.

خواء ميتافيزيقي

إذا أردنا أن نحلل هذه الانتقادات بشكل منهجي، وملاحظة ذلك ضمن مشروع بعنوان “الاستغراب الانتقادي”، فما هو، من وجهة نظركم، المسار الذي يجب أن نتخذه أولاً، وكيف ترون طريقة التقدّم به؟ بعبارة أخرى: كيف ندير هذا المشروع كي نطوي هذا المسار المنطقي ونصل إلى النتائج المطلوبة؟

- بونو: لقد أجبت عن السؤال الأول من الناحية المعرفية والاجتماعية؛ ولكني أرى أن أفضل طريق إلى الدخول في هذه المسألة يكمن في الناحية الأساسية والجذرية، أي من الزاوية الميتافيزيقية. في كتاب بعنوان “القرن التاسع عشر قرن الغباء”، تم وصف هذا القرن بأنه يمثل مرحلة تقوم الحضارة فيه على التقنية، والتقنية تقوم على الإبداع، والإبداع بدوره يقوم على الخواء والفراغ الميتافيزيقي. ومن هذه الناحية، فإن الأسلوب الميتافيزيقي يعتبر اتجاهاً توصيفياً / تحليلياً، وفي المقابل، تمثِّل الأساليب التوصيفية البحتة  نظيراً للنزعة التاريخية. من ذلك مثلاً أن قيام الرأسمالية على الروح البروتستانتية يُعدُّ توصيفاً. إلا أن الافتقار إلى المسألة الميتافيزيقية أدى إلى عدم تحقق هذه المسألة بشكل مبكر. إن المراد من الميتافيزيقا، هي ميتافيزيقا اللاهوت بصفة عامة وليس اللاهوت بالمعنى الأخص. إن هذا التقرير يثبت أنه غير مشروط بالرؤية اللاهوتية. من هنا، فإن هذه الرؤية أو الفرضية يمكن أن تكون بمنزلة التنمية اللامتناهية في عالم محدود. والواقع أن هذا التناقض الميتافيزيقي يقع في الأمور العامة، وهو ـ بطبيعة الحال ـ تناقض منطقي. هذا التناقض الأساسي والمنطقي لا يمكن له أن يحقق التنمية المطلقة في عالم محدود. فحتى لو كان الشخص مؤمناً بشدة، ولكنه يفتقر إلى الأساس الميتافيزيقي، فإنه سيصل لا محالة إلى مثل هذه النتيجة التي وصلت لها الحضارة الغربية. ولهذا السبب تغدو التنمية المطلقة في العالم المحدود ضرباً من المحال. وتبقى هذه الاستحالة قائمة حتى إذا كانت الحضارة حضارة إسلامية؛ وذلك بسبب غياب الأرضية الميتافيزيقية. والمراد من الميتافيزيق هنا هو الأصول والقواعد العقلية. في ضوء هذا المعنى، يمكن متابعة البحث في جميع مظاهر الحضارة الغربية أو ما وجد على المستوى البنائي في الغرب، بوصفها معرفة ميتافيزيقية، والوصول إلى أصولها. عندما يتحدث هنري كوربان[1] عن مشكلة الفكر الغربي الشائع ويقول إنها بدأت في الحد الأدنى من القرن الثاني عشر للميلاد، وأدت إلى ثنائية الذهن والعقل وتقسيم العالم إلى بعدين، فإن هذه المشكلة بدورها تعود إلى المسألة الميتافيزيقية أيضاً، وهذه المسألة بدورها تعود إلى القرون الوسطى. إذ لو لم نلاحظ أي صلة بين المادة والأمر المجرّد، ولم نأخذ بنظر الاعتبار إمكانية الأشرف والأخص، فإن الكثير من المسائل لا محالة لن تكون قابلة للإدراك. وعلى هذا الأساس، فإن التعاطي مع الطبيعة يقوم بدوره على أساس ميتافيزيقي أيضاً. من ذلك ـ مثلاً ـ هل يُسمح للإنسان بوصفه أشرف المخلوقات، أن يقوم بكل ما يحلو له؟ لماذا يتم تصوّر الإنسان بوصفه كائناً في قبال الطبيعة، في حين أنه جزء من الطبيعة؟ وعلى أيّ حال، فإن الإنسان في الكثير من الثقافات لا يتمّ تصوّره في قبال الطبيعة؛ وذلك لأنه إلى جانب سائر المخلوقات الأخرى، يعدّ واحداً من هذه المخلوقات. وعليه، فإن هذا الأصل الجوهري والأساسي يقوم بدوره على عدم الإشراف على المسائل المعنوية والحقيقية. ثم إن حصر المادة في المحسوس بمنزلة الفهم المخالف للعقل؛ لأن العقل يحكم بأن المعقولات بدورها جزء من الحقائق والواقعيات. من هنا، فإن قانون العلية جزء من المعقولات أيضاً؛ إذ لا يمكن استنباط أي محسوس من أصل العلية. وعلى هذا الأساس فإن المسألة الأصلية تكمن في المعقول والعقلانية.

بالالتفات إلى المعرفة التي تمتلكونها عن الأعمال والآثار والمسار الفكري لهنري كوربان، ما هي النصيحة التي ترون أنه كان سيقدمها إلى المسلمين في مواجهة الفكر الغربي لو كان على قيد الحياة في مرحلتنا الراهنة؟

ـ بونو: كان هنري كوربان يؤكد دائماً في مقالاته وحواراته وكتاباته على وجوب عدم الانبهار بكل الإمكانات التقنية والفنية التي تأتي من الغرب، بحيث تحجب عنا الاهتمام بالمسائل العقلية. وأرى أن هذه هي المسألة الرئيسة والجوهرية؛ إذ إن القوة التقنية لدى الغرب قد أبهرت الثقافات الأخرى، الأمر الذي أوجد لديها حالة من الشعور بالعجز والوهن، بحيث أن الكثير من عقلاء سائر البلدان الأخرى بالنظر إلى التكنولوجيا الغربية قد غضُّوا الطرف عن المسائل العقلية، وركَّزوا كل اهتمامهم على المسائل الفنية والتقنية. إن هيمنة الغرب على سائر الثقافات بالإضافة إلى السيطرة العسكرية، تكمن في إبهارها بواسطة المسائل التقنية، في حين أن هذه القدرة التكنولوجية قد تحولت في الوقت الراهن إلى مشكلة كبرى. فلا يُستبعد أن تؤدي هذه الثقافة والحضارة إلى القضاء على نفسها، بل وقد تؤدي إلى تدمير البشرية بأسرها. هناك من يذهب حالياً إلى الاعتقاد بإمكانية التغلب على الأزمة الراهنة بواسطة التفوّق التكنولوجي والجيو ـ هندسي. من ذلك أنهم ـ على سبيل المثال ـ يعتقدون حالياً ويقولون إن الكرة الأرضية تعاني حالياً من ارتفاع درجات الحرارة، ربما أمكن القيام بتفجيرات نووية هائلة تخرجها عن مدارها، مما يوجب ابتعادها عن الشمس، الأمر الذي يساعد بالتالي على تبريدها. وعليه ربما لم يصل البعض حتى الآن إلى إدراك أن هذه التكنولوجيا نفسها من شأنها أن تكون هي المنشأ في هذه الأزمة. وعلى هذا الأساس، فإن الرؤية الأهم التي يمكن استخلاصها من تفكير هنري كوربان بالنظر إلى هذا السؤال، هي أن المشكلة الرئيسة لدى الثقافات ـ ولا سيما منها الثقافات الشرقية ـ تكمن في الانبهار بثقافة الغرب، وخصوصاً الثقافة الناظرة إلى البُعد التكنولوجي؛ إذ أنهم يتصورون أن الغرب قد امتاز في المسائل الفنية بواسطة المقدرة العقلية الكبيرة. في حين لا يوجد أي تلازم عقلي ومنطقي بين هذين الأمرين.

هل يمكن الاعتقاد بالنسبة المفهومية بين الاستغراب النقدي وفلسفة العرفان الإسلامي؟ وبعبارة أخرى: إذا افترضنا وجود مثل هذه النسبة، فما هي مقدمات ولوازم وضرورات الاستغراب على أساس الفلسفة والعرفان الإسلامي؟

ـ بونو: نحن نؤكد في الغالب على الفلسفة الإسلامية لأنها تحظى بمزيد من الاعتبار بالنظر إلى اشتمالها على الميتافيزيقا. وبعبارة أخرى، وبالنظر إلى هذا السؤال: يجب علينا أن نبدأ من المسائل الميتافيزيقية. إن الفلسفة الإسلامية ـ الناظرة إلى فلسفة صدر المتألهين ـ تمثِّل نوعاً من التفكير المنبثق من القرآن الكريم. هي الفلسفة الأرسطية التي تطوّرت في العالم الإسلامي. كما أن العرفان في حقل التحليل والإثبات ـ بطبيعة الحال ـ يرتبط بدوره بالمسائل الفلسفية، نعلم أن العرفاء لم يعملوا على توظيف الأسلوب الاستدلالي، ولكن حيث يجب الاستناد في النقد إلى الاستدلال، يمكن للعرفان لا محالة أن يلهمنا بعض المسائل، ومن هنا يتبلور نقدنا بالكامل على أساس سلسلة ممن الاستدلالات الفلسفية. من ذلك مثلاً ما إذا كان يمكن للعقل الصناعي أن يكون لديه ردود فعل أو تجاوب إيماني أو عرفاني، نعتقد بأنه ليس هناك شيء مادي ـ أعم من أن يكون طبيعياً أو صناعياً، بل وحتى المخ ـ لديه تعقل من عنده أو من الآخر. وهو في الحقيقة لا يدرك شيئاً، كما أن العين لا ترى شيئاً. فالإنسان يرى بواسطة العين، وهذه النقطة تمثل جزءاً من الأسس والقواعد الميتافيزيقية التي يمكن أن تخضع للبحث والتحليل. النموذج الآخر ناظر إلى الاختلاف بين آيات القرآن والروايات. نعلم أن الوحي والرواية بمنزلة الإرشاد للعقل كي يعمل على إبداء الرأي والحكم من خلال النظر إلى تلك المفاهيم. ومن هذه الناحية تكون للروايات حيثية إرشادية. وبعبارة أخرى: إن الروايات من شأنها أن تكون إرشادية، أو تقوم بدور تمهيدي لإقامة الاستدلال العقلاني على ما إذا كان ينبغي علينا القيام بفعل ما أو عدم القيام به. وعليه، يكون لها حيثية تنظيمية وليست تقويمية؛ بمعنى أنها قد لا تكون مستدلة في نفسها، بل يجب الاستدلال لصالحها، وأخذها بوصفها تمهيداً للاستدلال. وبطبيعة الحال فإن بعضها تأسيسي، ولكن سيكون لها بالنظر إلى المسائل المعرفية حيثية إرشادية، بمعنى الإرشاد إلى مسألة يجب أن تفهم، وبمنزلة إرشاد للعقل. إن المسائل الإرشادية ـ بطبيعة الحال ـ يجب أن تقوم بدورها على المسائل المعرفية. ومن ناحية أخرى قد لا تتوفر في بعض الموارد إمكانية لفهم أسباب بعض الآيات والروايات؛ من ذلك مثلاً قد لا يمكن فهم سبب عدد ركعات الصلاة اليومية. وطبقاً للقانون نكون ملزمين برعاية هذا النوع من الموارد. وبعبارة أخرى: حيث تم وضعها على هذه الشاكلة، نكون مكلفين برعايتها. ولكننا نعلم أن كل قانون ـ أعم من أن يكون بشرياً أو إلهياً ـ قد وضع بالنظر إلى المسائل والمصالح والمنافع، وهناك دليل على مثل هذا الوضع أيضاً؛ بيد أن هذه الأدلة قد تكون، أو لا تكون، في متناول الإنسان. فهل يجب على العقل أن يلتزم الصمت بإزاء هذه القوانين؟ أجل، هذا هو الوضع حتى بالنسبة إلى مفكر قومي مثل ديكارت الذي يشكك في مجمل المسائل المعرفية.

هل يمكن الوصول إلى طريق وآليات ونصائح للاستغراب النقدي على أساس تعاليم القرآن الكريم؟

- بونو: من الممكن للتعاليم القرآنية أن تقدم لنا العون بوصفها ملهمة أو بوصفها من الفرضيات. بيد أننا للوصول إلى الهدف المنشود في هذا السؤال نحتاج إلى استدلال عقلي. إن الأرضية في هذه الغاية ليست موقفاً كلامياً. ونحن نسعى إلى بحث هذه المسألة، وهي: هل الفرضيات التي نفترضها في هذا الاتجاه صحيحة أم خاطئة؟ من ذلك مثلاً: هل تم فهم القضايا القرآنية في ضوء أسس صحيحة؟ وهل فهمنا جميع أرضيَّاتها وأبعادها أم اقتصرنا على مجرد فهم المعنى الظاهري للقضية؟ وما إلى ذلك من الأسئلة الأخرى. والنقطة الهامة هي أن المسألة المفروضة في هذا الاتجاه برمّتها لا تشمل جميع المسائل الكلامية التي نروم الدفاع عنها، وإنما نروم البحث في الفرضية الصحيحة من الخاطئة فقط، والنظر في هذا الموضع إنما يمكن بلوغ هذا الهدف من خلال الاستدلال العقلي.

راهنية الحكمة المتعالية

هل يمكن العمل على تقديم بعض المقترحات والنصائح على أساس الأفكار الفلسفية لصدر المتألهين في إطار إحياء الحضارة الإسلامية؟

- بونو: يمكن القيام بذلك قطعاً؛ لأن إحياء الثقافة أو أساس ثقافة ما، إنما يقوم على أرضية عقلية. ومن هنا فإن الدعوة إلى العقل بمنزلة المرحلة الأولى والأخيرة في مثل هذه الغاية. ومن بين جميع الروايات المأثورة بشأن ظهور إمام العصر، نجد أن الأكثر أهمية هي الرواية التي تقول إن المهمة الرئيسة التي سوف يقوم بها الإمام بعد ظهوره هي إكمال عقول الناس، وأن سائر الأمور والمهام الأخرى سوف تكون بمثابة المهام الثانوية. وإن القرآن الكريم بدوره يدعو إلى التفكير والتعقل، وأن لا نقول بأن ثقافتنا هي الأفضل لأن أسلافنا كانوا يعتقدون بهذه الثقاقة، وأن آباءنا كانوا يعتنقونها. إن منطق القرآن هو التعقل والإدراك العقلي. من هنا، فإن البداية والمتمم لجميع الأعمال بأسرها يجب أن تقوم على التعقل والتفكير. ومن هذه الناحية، يمكن لفلسفة صدر المتألهين أن تكون مفيدة ونافعة.

حريٌّ القول أنه لا يوجد لدينا إلى الآن نتيجة أقوى وأكثر استدلالاً من فلسفة صدر المتألهين، وأرى أن هناك مثل هذه الإمكانية في هذه الفلسفة. ربما لو لم يأتِ صدر المتألهين لكنا ما نزال نعيد اجترار فلسفة ابن سينا[2]. لقد مضت قرون حتى ظهر شخص مثله ليقدم لنا مسائل أساسية من قبيل: اتحاد العاقل والمعقول، ومسألة أصالة الوجود وما إلى ذلك، وأثبتها بالأدلة العقلية. من هنا، قد لا تكون فلسفة صدر المتألهين مفيدة في مسألة من المسائل، بيد أنها مفيدة في مسألة أخرى. وعلى كل حال وفي ما يتعلق بالنقل عن ابن سينا يجب علينا جميعاً أن نكون من “أبناء الدليل”.

كيف يمكن للجمع بين المعنوية والعقلانية أن يكون بمثابة الوجه البارز لفلسفة صدر المتألِّهين في مواجهة الحضارة الغربية؟

- بونو: إن البحث حول الجمع بين المعنويات والعقلانية بحث أساسي وهامّ للغاية، غاية ما هنالك لا ينبغي الوقوع في سوء فهم، والاعتقاد بأن المسائل العقلية على درجة واحدة من الاعتبار؛ إذ ليس هناك في الأمور النظرية من دليل ومرشد غير العقل. من الممكن أن نكون في المرتبة النظرية قد وصلنا إلى نتيجة عقلانية، ولكننا في مقام التنفيذ نفتقر إلى الناحية المعنوية. من ذلك أن أعلم ـ على سبيل المثال ـ أني لا أمتلك مقومات القيام بهذه المهنة، وأفتقر إلى القدرة اللازمة للاضطلاع بها؛ ولكني في المقابل أحتاج إلى راتبها لكي أتمكن من دفع نفقات دراسة ولدي في الجامعة. ولذا، فإني أقبل العمل فيها. إن هذا الاختيار لا يحتوي على مشكلة عقلية، ولكنه يحتوي على مشكلة عملية. والمعنوية يتمّ طرحها غالباً في مقام العمل، ولهذا السبب  ترتبط بحقل السلوك والعمل. نحن نعلم أن أكثر المسائل المطروحة في الوحي من المسائل العملية، وهي بطبيعة الحال مسائل عملية ذات أرضية نظرية. عندما يسأل الإمام الصادق عن معنى العقل، نجده يقول: “العقل ما عُبد به الرحمن واكتسب به الجنان”[3]؛ إن الجزء النظري يشتمل على معرفة الله، والجزء العملي يشتمل على اكتساب الجنة. فبحث معرفة الله مسألة نظرية، واكتساب الجنان يستلزم القيام بالكثير من الأمور. وبعبارة أخرى: في ما يتعلق بالبُعد النظري يجب أن نؤمن بوجود الله. ثم في البُعد العملي  علينا التوجّه إلى الكثير من المسائل. وينبغي القول أن المسائل العملية هي أضعاف المسائل النظرية، وهذه النقطة تشتمل على أهمية بالغة في ما يرتبط بمواجهتنا مع الغرب؛ إذ أن البحث النظري يمثل الأساس لجميع سلوكياتنا وممارساتنا العملية.

تطابق النظر والعمل

هل المواجهة الانتقائية مع الغرب صحيحة وممكنة؟ بمعنى أن نعمل من خلال التفكيك والفصل بين العقائد والتداعيات والمعطيات الغربية في حقل «الحسن» و»القبيح»، على أخذ كل ما هو من الغرب الحسن، ونجتنب كل ما هو من الغرب القبيح.

- بونو: ما هو المبنى الذي يمكن على أساسه التمييز بين الحسن والقبيح؟ نعيد ثانية عرض التوضيح الذي تقدّم بيانه. في الحقيقة، عندما يتمّ الحديث عن الأمور في المسائل النظرية، فإن الكثير من الأشياء سوف تكون متعلقة بها.  التقسيم الأولي بين هذه الأمور يعود إلى تقسيمها إلى مادية وغير مادية. ويمكن لنا تقسيم الأمور إلى أشياء موجودة من دون إرادة الإنسان، وأشياء موجودة بإرادته. وبعبارة أخرى: في بعض الأحيان لا تتوفر لدينا سوى إمكانية إدراك الأمور النظرية ـ الأعم من الأمور المعقولة والمحسوسة ـ ويكون تغييرها خارجاً عن إرادتنا. ولكنَّ هناك أموراً أخرى أيضاً توجد بإرادة الإنسان، من قبيل: السياسة والاقتصاد وما إلى ذلك. والإنسان في هذه المرتبة يعمل على إظهار فكره النظري، ويجعل معقوله أمراً محسوساً؛ كما يفعل المهندس على تحقيق البناء المتصوَّر في ذهنه في العالم الخارجي. إن هذه المراتب الثنائية بدورها تعبّر عن فلسفة تقسيم العقل إلى العقل النظري والعقل العملي؛ وذلك لأن عقل الإنسان يعمل من خلال النظر إلى مستويين أو نوعين من الأمور؛ بعضها يعرفه، وبعضها الآخر لا يعرفه. بعبارة أخرى: إن المعرفة تؤدي إلى السلوك، ويكون مستوجباً لتغيير سلوكنا. وهذه المعرفة لا دخل لها في إيجاد الموجود. فلو لم تكن هناك إرادة لدى الإنسان إلى طبخ الطعام، فإنه لن يوجد أي طعام مطبوخ. وعلى هذا الأساس تؤدي هذه المعارف النظرية إلى العمل، وعندما يتحقق العمل، يتجلى نوع من المعنوية. من ذلك أننا ـ على سبيل المثال ـ نقول في البداية: لا علاقة لنا بتلوّث الماء، غاية ما هنالك أننا بعد إدراكنا أننا نحن الذين يجب أن نستفيد من هذا الماء الملوّث، يتبلور لدينا نوع من المعنوية والداعي إلى المحافظة على طهارة الماء ونظافته.  وعندما يتمّ البحث عن عمل الإنسان، تتبلور المعنوية، وتبعاً لها يتم طرح فرضيات من قبيل: العدالة أو المصلحة. وعليه ـ بالنظر إلى سؤالكم ـ نعود إلى مسألة عدم الأرضية الميتافيزيقية. فحتى الافتقار إلى الأساس المعرفي بدوره يعود إلى عدم الأساس الميتافيزيقي أيضاً. وكما سبق وذكرنا، فإن التكنولوجيا تقوم على إبداع، والإبداع بدوره يقوم على الأساس الميتافيزيقي. من هنا يمكن القول أن الغرب قد حقَّق تقدماً في معرفة الموجودات، ولكنه لم يكن موفقاً إلى حدّ كبير في ربط المعرفة بـ «الواجب». والواقع أن هذا التحدي لا يعود سببه إلى فقدان المعنوية فحسب، بل هناك  سبب آخر أيضاً هو عدم وجود الأساس النظري أو الميتافيزيقي.

-------------------------

[1]- هنري كوربان (1903 ـ 1978 م): فيلسوف ومستشرق فرنسي. صبّ اهتمامه على دراسة الإسلام وبشكل خاص على الشيعة؛ فترجم أهم الكتب في هذا المجال من السهروردي إلى صدر المتألهين الشيرازي. بعد سنوات من البحث والدراسة في الدين الإسلامي أصبح له ميل إلى الإسلام ولا سيما الأئمة الأطهار، وأخذ يهتم بعلوم الحكمة والعرفان المنتشرة في إيران. وشيئاً فشيئاً أصبح بعيداً عن الأفكار الغربية، وعن أستاذه في أوروبا لوي ماسينيون؛ فاعتنق الدين الإسلامي سنة 1945 م، ثم سافر إلى إيران لإشباع رغبته من الحكمة والإشراق. المعرّب.

[2] - إبن سينا (980 ـ 1037 م): هو علي بن حسين بن عبد الله بن علي بن سينا. عالم وطبيب مسلم. اشتهر بالطب والفلسفة واشتغل بهما. لقّب بـ (الشيخ الرئيس). وسمّاه الغربيون بـ (أمير الأطباء) و(أبو الطب الحديث) في العصور الوسطى. أشهر أعماله (القانون في الطب) الذي ظل لسبعة قرون متوالية المرجع الرئيسي في علم الطب حتى منتصف القرن السابع عشر في الجامعات الأوروبية. المعرّب.

[3] - الكليني، محمد بن يعقوب، أصول الكافي، ج 1، كتاب العقل والجهل، ص 13.

 
فروع المركز

فروع المركز

للمركز الإسلامي للدراسات الإستراتيجية ثلاثة فروع في ثلاثة بلدان
  • العنوان

  • البريد الإلكتروني

  • الهاتف